الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

مرج بِسري:

– بين الإصرار على التنفيذ وبين المُعترضين عليه وتحويله إلى محميّة طبيعية،
– تمسُّك فريق السلطة بالمشروع، موضع تساؤل رغم المخاطر يدعو للرّيبة، ورائحة الصفقات تزكم الأنوف،
– خبراء بيئيون يحذرون عبر الضّحى: مشروع السَّد يقع على فالق زلزالي خطير قد يؤدي إلى كارثة
– يمكن الاستعاضة عن إقامة السد بـ الآبار، ومحيط العاصمة غني بالمياه الجوفية والتذرّع بتأمين المياه لها كذبة كبيرة.
– لبنان من أغنى دول العالم بالمياه الجوفية، لو أُحسن استعمالها تنتفي الحاجة للسدود التي ثبت فشلها.
– جنبلاط وكتلة اللقاء الديمقراطي، ونواب المنطقة والبلديات، وفعاليات المجتمع المدني وجهاً لوجه أمام السلطة الجائرة لمنع التنفيذ.
– عبد الله: هناك رفض مُطلق للمشروع، وندعو لتحويل مرج بسري إلى محمية طبيعية.
– أبي راشد: لن يقام سدّ في بسري والحديث عنه تجاوز الحديث عن سد النهضة.
– نمر: السد يقع على فالق خطير أدّى إلى زلزال 1956.

الدخول إلى مرج بسري للتعرّف إلى المكان الذي يتمسّك البعض بإقامة سد فيه لتجميع المياه وتحويلها إلى بيروت لإطفاء ظمأ أهلها التوّاقين اليوم إلى الحرية وإلى الحياة الهانئة التي حُرمت منها لعقود من الزمن كالداخل إلى التاريخ من بوابته الواسعة. فالمكان المُشار إليه يتحدث عن نفسه، وليس بحاجة لمن يفك رموزه. في مرج بسري مشى السيد المسيح على درب الجلجلة، ومن قلعة نيحا أطل الأمير فخر الدين الثاني الكبير، مؤسس الكيان اللبناني ليقول لمن سيأتي بعده، إمّا أن تبنوا لبنان كما بنيته بعيداً عن الطائفية والمذهبية، وإمّا وداعاً لبنان وعلى لبنانكم السلام. ومع ذلك يريدون شطب هذا التاريخ بتوقيع عقد لبناء سد من الإسمنت المسلح، يقع على فالق زلزالي مدمِّر، ويحاولون إقناع اللبنانيين أنّهم يفعلون كل هذا لأجل لبيروت وأهلها. لكن بيروت التي يتنافس الغيارى على مساعدتها، تعيش اليوم ظلم ذوي القربى، لأنّ بيروت جريحة، فهي ما زالت تلملم أشلاء انفجار مرفئها، وقد أتى على كل معالمها التاريخية والأثرية، بعد أن كانت تحاكي التاريخ بكل أفراحه وأتراحه، لقد كانت لقرون طويلة عروس المتوسط، وبوابة العروبة الصافية والنقية، المتجسّدة في قلب كل مخلص فيها. فمن يكابر لتأمين المياه لها من مسافة تطول لأكثر من أربعين كلم هو نفسه الذي أطفأ أنوارها وجعلها تعيش بالظلمة بعد أن حرمها من نور الكهرباء، وتركها تشيخ لتموت، لمآرب ليست بخافية على أحد، فهو يعمل اليوم على حرمانها من شريانها المائي الذي جرى استجراره إليها من مغارة جعيتا منذ عقود من الزمن. والسبب أنهم يريدون تحويل المياه إلى سدودهم الفاشلة، من سد جنّة إلى المسيلحة وما بينهما، لتغطية عيوبهم وصفقاتهم وسمسراتهم، والاستعاضة عنها بإقامة سد في بسري لتجميع المياه، وجرّها إلى بيروت بعد ضم مياه القرعون الملوِّثة لها والمخزّنة في بركة أنان.
فبعد إسقاط صفة العجلة عن المشروع في الجلسة التشريعية التي انعقدت استثنائيا في قصر الأونيسكو، في حزيران الماضي، وإلزام الشركة المنفذة التوقف قسراً عن العمل بضغط من الحراك الشعبي، ونواب اللقاء الديمقراطي والأهالي، والبلديات المحيطة، التي سارعت لسحب موافقتها على إنشائه، ومنح البنك الدولي الحكومة فرصة تنتهي في أيلول لتقرر الحكومة ما إذا كانت قادرة على التنفيذ أم لا.
أكّدت غالبية الأهالي والقوى السياسية في المنطقة رفضهم للمشروع، وأمِلوا تحويل مرج بسري بالكامل إلى محميّة طبيعية، وإلغاء فكرة مشروع سد بسري نهائياً. هذا السد الذي يتولّى تنفيذه مجلس الإنماء والإعمار منذ العام 2016 بهدف تجميع المياه وجرها إلى بيروت، بمعدل 500 ألف متر مكعب يومياً. وذلك ضمن أنفاق تحوي أنابيب يصل قطرها إلى ثلاثة أمتار. كانت الشركة المشغِّلة قد أنجزتها في السنوات الثلاث الماضية على عدة مراحل:
الأولى: بطول 20 كلم، وتمتد من ملتقى النهرين إلى بلدة الوردانية القريبة من دير المخلص، ومنه إلى مكان السد
الثانية: وهي بطول 10 كلم، وتمتد من دوحة المشرف، فالدامور، والناعمة، وخلدة والشويفات والحدث، وصولاً إلى الحازمية ليتم تجميعها في خزانات ضخمة ثم يُصار إلى توزيعها في بيروت الكبرى وضواحيها وانتهاء بساحل المتن الشمالي حتى نهر الموت.
الثالثة: وهي المرحلة الأخيرة المخصّصة لبناء السد وما يتفرع عنه، وقد يستغرق العمل فيه نحو سنة. وهو بعرض1 كلم وارتفاع يتراوح بين 70 إلى 100 م بطول 5 كلم.

لمحة تاريخية

يكتسب مرج بسري أهمية خاصة بالنظر إلى وجوده في أهم وأجمل بقعة جغرافية من بقاع لبنان، الكائنة على تخوم منطقتي الشوف وجزّين، على منبسط أرضي قد لا يوجد نظيره ليس في لبنان فحسب، بل في منطقة الشرق الأوسط كلّها. واللّافت أنَّ مجرى نبع الباروك الذي يتغذّى من فائض الينابيع المجاورة له في المنطقة يخترقه إلى نصفين بدءاً من تخوم الشوف إلى قرية بسري القريبة من فالق روم. أمّا الينابيع التي يتغذى منها فكثيرة ومتعدّدة أبرزها: نبع مرشد، ونبع سلمان ونبع جِبْلَيه، ونبع باتر، ونبع عزيبه، ونبع جزين، بالإضافة إلى الأنهر والسواقي الشتوية التي تصب في واديه وتُعتبر من الروافد الأساسية لنهر الأوّلي إلى الشمال من مدينة صيدا.
وأهمية مرج بسري أنه كان الممر الآمن لكلّ الجيوش التي غزت لبنان عبر التاريخ، منذ أيام الفينيقيين، مروراً بالإسكندر المقدوني والرومان، والآشوريين والبابليين والكلدانيين، والفتح العربي الإسلامي، والصليبيين والفاطميين. وصولاً إلى زمن التنوخيين، والمعنيين، والشهابيين. وقد دلّت الآثار التي اكتُشفت فيه والتي يعود تاريخها إلى تلك العصور على ذلك.
كلمة المرج، تعني المنبسط الشديد الخضرة. ومرج بسري مشهور بخصوبة أرضه وبساتينه الغنّاء، وبآثاره الرومانية، وكنيسته الصليبية القديمة. أمّا مُلكيته فتعود لمجموعة من أهالي القرى المجاورة، أبرزها عمّاطور، ومزرعة الشوف والكحلونية، وباتر وبسابا ومزرعة الظهر. بالإضافة إلى مجموعة من المستثمرين، من نيحا وصيدا، ومن أماكن أُخرى. عبره كانت تمر ما كان يسمى «طريق البلاد»، التي تربط إمارة الجبل، بولايتي صيدا وعكا. ومنه كانت تعبر قوافل المكارين والتجار المتجهة من بلاد الشام، والبقاع والشوف، إلى صيدا وبالعكس. واستمرّ اعتماد هذه الطريق حتى مطلع القرن العشرين واستقلال لبنان وبداية مرحلة شق الطرقات المعبّدة. أهميته أنّه يشكل عقدة وصل لكل سكان المناطق المجاورة، فهو يربط منطقة جزين بإقليم الخروب عبر بلدتي بسابا ومزرعة الظهر. ويربط قرى وبلدات الشوف الأعلى والأوسط، عبر بوابة باتر، والمزرعة وعمّاطور، ومن بحنين وعَرَيه. فكل هذه الدروب كانت قديماً تخضع لنقطة مراقبة من شقيف تيرون أو ما يعرف بقلعة نيحا.

كيف ولدت فكرة سَد بسري؟

المهندس إيلي موصللي الذي يتولى الإشراف على مشروع السد، من قبل مجلس الإنماء والإعمار. كشف في حديث لـ الضّحى أن فكرة إنشاء سد بسري ليست جديدة، بل قديمة، يعود تاريخها إلى العام 1952. وذلك عندما اقترحت شركة يو أس بي آر إنشاء السَّد، وأثبتت الجدوى من إنشائه في هذه المنطقة بالتحديد. بعد ذلك جرى إدخال مشروع السد في منظومة مشاريع عبد العال، التي نَفَّذت ما يُعرف بمشروع الليطاني ونهر الأوّلي، وهي الشركة التي أشرفت على بناء بركة أنان وسد القرعون. فالدراسات وُضِعت من قبل مصلحة الليطاني في الثمانينيّات، بعدها تم تحويل المشروع إلى مجلس الإنماء والإعمار في العامين 1998 و1999 وكانت الدراسات عبارة عن استقصاءات جيو تقنية. بوشر بعدها بإعداد الدراسات التقنية. وكانت هناك استحالة لتنفيذ المشروع، نظراً لوجوده على الحدود بين الشوف وجزين، التي كانت تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي. لقد كان هناك صعوبة لوصول المهندسين والخبراء إلى المنطقة، فتأخّر التنفيذ الى هذا الوقت. أمّا السبب الآخر للتأخير فكان الحاجة إلى التمويل. وفي العام 2012 ومع بداية تنفيذ مشروع الأولي بتمويل من البنك الدولي. أعطى البنك الدولي الحكومة اللبنانية وعداً بتمويل سَد بسري. وبالمقابل قامت الحكومة بتأمين الدراسات التفصيلية للمشروع وأُقرَّ التمويل في العام 2014 على أن تستغرق عملية التنفيذ مدَّة خمس سنوات.

موصللي تحدث عن رزمة من الإصلاحات التي قرر مجلس الإنماء والإعمار تنفيذها بالتزامن مع إنشاء السد، ومنها دفع التعويضات لمالكي الأراضي في مرج بسري حيث سيقام السد، التي تصل إلى حدود 570 هكتاراً مع الاستملاكات، أي بما يوازي 50 كلم مربع. وأكد على عكس ما يشاع اليوم، فالدراسات التي قاموا بها تؤكّد أن هذا هو المكان المناسب لإقامة السد من الناحية الجيولوجية، نظراً لوجود كمية من الطمي في مجرى النهر، وهي بمعظمها طبقة دلغانيّة تصلح لتجميع المياه. كما أن تصميم السد يلحظ إنشاء حائط من الباطون المسلح بسماكة وافية لمنع تسرب المياه. وهذا الحائط يجب أن يكون بسماكة تزيد عن سماكة الطمي، لمنع تسريب المياه لخارج السد، لأنّ الموقع مسطح، والطمي متراكم منذ سنوات. لكنه أقرَّ بوجود فالق كبير بقلب النهر. وأن ارتفاع الحائط الذي يصل إلى مئة متر، كفيل بمنع تسرب المياه إلى خارجه. وحول إمكانية حصول زلازل في المنطقة كما يتوقع البعض بسبب قربها من فالق روم؟ أوضح أنّ هذ الأمر تمت دراسته بعناية كبيرة، وخاصة فالق روم بشكل خاص. وإن مجلس الإنماء والإعمار كلّف استشاريّاً محليّاً وآخر أجنبياً. كما أُجريت سلسلة دراسات قام بها خبراء من الجامعة الأميركية في بيروت، تم من خلالها تحديد فالق روم. وقال: لدينا خبير تركي أيضاً يعمل ضمن لجنة خبراء مستقلين، ولقد حُدِّدت العوامل ذاتها التي اعتُمدت في الدراسات السابقة من قِبل مكاتب مختصة في فرنسا. ولذلك فإن حجم السد ونوعيته باعتباره سدَّاً رُكامياً يتكون من ردميات للحدّ من مخاطر الزلازل، لأن سدود الباطون معرّضة لمخاطر الزلازل، بينما سدود الردميات تبقى ثابتة مهما بلغت قوة الزلازل.
موصللي كان قد وعد بإعادة النظر بكل محطات التكرير القريبة من مجرى النهر، لإعادة تأهيلها، بما يكفل منع المياه المبتذلة ومياه الصرف الصحي من التسرب إلى النهر.

المجتمع المدني والخبراء البيئيّون يعارضون بشدّة إنشاء السَّد

انطلاقاً من معارضتهم لمكبّات النفايات العشوائية في العام 2015 ومنذ اليوم الأول لإعلان البدء بمشروع السد، أعلنت مجموعات شبابية تنتمي إلى المجتمع المدني معارضتها لإنشاء سد لتجميع المياه في مرج بسري، يؤازرهم في حملتهم مجموعة من الناشطين والخبراء البيئيين. لكن معارضتهم تلك لم تلقَ في حينه الدعم المطلوب من القوى السياسية في المنطقة المؤيدة لإقامة هذا السد في بادئ الأمر. وعلى الرغم من ذلك نفذ المعترضون العديد من الاعتصامات في مرج بسري انطلاقاً من قناعاتهم بالمخاطر التي قد تنجم عنه، من دون أن تصل هذه الاعتصامات إلى هدفها المطلوب. ومع توالي الأزمات التي شهدتها السنوات الماضية وخاصة بعد الانتخابات النيابية الأخيرة، وما أفرزته من تجميع طوائفي ومناطقي تعطلت بموجبه دورة الحياة السياسية، حيث استغرق تشكيل حكومة العهد الأولى إلى ما يقارب السنة، وما رافق ذلك من أحداث أليمة، وقعت في أكثر من مكان من لبنان. فكان لمنطقة الجبل النصيب الأكبر منها. ومع ذلك لم تتوانَ بعض الجهات المدعومة من قوى فاعلة في السلطة، في إبرام الصفقات وعقد السمسرات التي تفوح منها رائحة الفساد، وبالأخص بموضوع السدود التي أُنشئت في مناطق المتن الشمالي وكسروان وجبيل والبترون التي قام بتنفيذها بعض المتعهدين المحسوبين على القوى المشار إليها والتي أظهرت أنها غير صالحة لتجميع المياه، وأُدرجت في لوائح السدود الفاشلة وتملّصهم من رفع المسؤولية عنهم، وتوجيه الاتهامات بالتقصير إلى مجهولين. وهو ما استدعى من اللقاء الديمقراطي بعد انطلاق انتفاضة 17 تشرين الأول إلى اشهار معارضتهم مشروع السد في بسري، واقتراح تحويله إلى محمية طبيعية، وتحويل المبالغ المقررة للتنفيذ لدعم الأسر الأكثر فقراً. هذا الموقف لقي قبولاً من العديد من القوى السياسية الأخرى ومنها القوات اللبنانية والكتائب، والنواب المستقلون، وعدد من نواب المستقبل وكتلة التنمية والتحرير.

مقابل ذلك، كان هناك إصرار من فريق آخر على تنفيذ المشروع بالقوة، بغض النظر عن الأزمات الخانقة التي يعيشها لبنان منذ أكثر من سنة. فيكون بالتالي موضوع سد بسري قد دخل حلبة الصراع السياسي من الباب العريض. وذلك بالتزامن مع إعطاء البنك الدولي مهلة للحكومة تنتهي في الرابع من أيلول، لتقرر ما إذا كانت قادرة على تنفيذ المشروع. ومع دخول تكتل لبنان القوي تمسكه بالمشروع مدّعياً أنه سيؤمن مياه الشفة لأكثر من مليوني نسمة في بيروت وضواحيها وبيع الفائض منه إلى الأردن، ما استدعى إلى الرد عليه بتهكم وتعييره ببيع مياه السدود الفاشلة التي كان وراء تنفيذها، وبيع فائض الكهرباء التي هي في عهدة تياره السياسي منذ العام 2010 وهي التي أغرقت البلد في العتمة طوال السنوات العشر الماضية، كما أغرقت الخزينة بعجز مالي وصل إلى 50 مليار دولار.
وفي هذا السياق يؤكّد خبراء المياه الجوفية أنَّ لبنان يملك أكبر احتياطي مائي في الشرق الأوسط، تقدر بنحو عشرة مليار متر مكعب، ما يفوق حاجته بكثير. وفي العام 2010 كانت خطة وزارة الطاقة تقوم على حفر الآبار، ولو أنها استُكملت لكانت أفضل بكثير من إقامة السدود. لكن إنشاء السدود مربح أكثر، وبالأخص عندما يتدخل المسؤول مع المتعهد ويتقاسم معه الأرباح، ففي بسري أثبتت عمليات الحفر وجود تراكمات صخرية وضخمة والآبار أثبتت وجود كميات من المياه كبيرة جداً، والعملية لا تتطلب استملاكات كثيرة. وبالإمكان حفر الآبار في وادي شحرور، أو في الحازمية أو في جعيتا فكميات المياه كبيرة ومتوفرة، والمهم أن تصدق النوايا.

عبد الله: كُنَّا من مؤيدي مشروع السد لكننا عارضناه عندما أدركنا خطورته

عضو اللقاء الديمقراطي النائب بلال عبد الله الذي كانت له صولات وجولات في معارضته لمشروع السد مع نواب اللقاء الديمقراطي، وشارك لهذه الغاية بعدة ندوات لشرح مخاطر إنشائه في مرج بسري بتكليف كشف لـ الضّحى أنّ اللقاء الديمقراطي والحزب التقدمي الاشتراكي ورئيسه وليد جنبلاط كنا من المؤيدين لمشروع السد لتامين المياه لأهلنا في بيروت والضواحي، رغم معارضة شريحة واسعة من أهلنا في الشوف الأعلى والإقليم له، لما يشكله من خطر عليهم ويحرم قسماً كبيراً من أرزاقهم في مرج بسري، التي تعود ملكيتها لهم من مئات السنين، مقابل مبالغ مالية زهيدة قياساً إلى حجم الاستملاكات وخاصة المستصلحة منها. ولكن فيما بعد تبين لنا أنّ السد سيتم بناؤه من دون دراسة الأثر البيئي الحقيقي له، وبعد استماعنا لشرح مُقنع من خبراء بيئيين مشهود لهم بالكفاءة والمعرفة بعد أن قدموا لنا دراسات وافية عن مخاطر بناء السد الذي يقع على فالقين زلزاليين خطيرين، منهما فالق روم الشهير الذي تسبب بزلزال 1956 أعدنا النظر بموقفنا. وكان اقتراح رئيس الحزب وقف العمل بالسد وتحويله إلى محمية طبيعية، وتحويل المبلغ المخصّص له إلى العائلات الأكثر فقراً في لبنان. وهم إلى تزايد مستمر بسبب الأزمة المعيشية والاقتصادية وأزمة كورونا. وعن إدخال السد في البازار السياسي. قال: للأسف هذا هو واقع الحال في لبنان. لكن هناك من يصرّ على التنفيذ لضمِّه إلى مجموع السدود الفاشلة التي نفذوها، وتفوح منها رائحة الصفقات والسمسرات. وعن رأيه بموقف الرئيس الحريري المؤيد لمشروع السد، وصف عبدالله موقف الحريري بغير الواضح وقال: ربما أرادوا ابتزازه بالادّعاء أن بيروت عطشى. وعمّا سيكون الوضع عليه بعد الرابع من أيلول، أشار إلى الرفض المطلق للمشروع من قبل المجتمع المدني ومن أهالي المنطقة، والقرى والبلدات المحيطة بالسد. وهؤلاء لن يتراجعوا عن رفضهم للمشروع تحت أي ضغط.

أبي راشد: على البنك الدولي أن يفهم أن المشروع مخالف للقوانين

الناشط البيئي بول أبي راشد أشار في حديث لـ الضّحى أن الحملة على السدود انطلقت منذ العام 2014 وفي شهر آذار بالتحديد، بعد سماعنا بأعمال يتم تنفيذها لإقامة سد جنّة في وادي نهر إبراهيم، تبيّن أنها تتم من دون دراسة أثر بيئي. وكان هناك دراسات ترفض الموقع، وتؤثر على المياه الجوفية في جبل لبنان بعد ما تبين أن سد جنّة موجود على ثلاثة فوالق. فكانت قضية جنة الخطوة الأولى. لكن مع الأسف جرى تسييس الموضوع من قِبل البعض لاعتقادهم أن جماعة المستقبل وأهل السنة هم وراءها. فبعد أن تقدمنا بشكوى لوقف العمل تنحّى أربعة قضاة عن متابعة الدعوى. بعدها طلب رئيس الحكومة تمام سلام في حينه، أخذ رأي مجلس البحوث العلمية، المجلس رفض المشروع لأنه يتطلّب عشر سنوات لتنفيذه. ومع ذلك استمرينا بمعارضته، ليتبين لاحقاً أنّ مشكلة سد جنّة تشبه مشكلة باقي السدود، وهي سد بلعة، وبقعاتة كنعان، وسد المسيلحة وسد بسري. وتبين الخرائط لهذه الأمكنة الخمسة أنّ ما يجمع بينها الأرض الكلسية المشققة، ما قد يؤدي إلى الفشل في التنفيذ، كما فشل سد بريصا، الذي جرى تسليمه للدولة دون مياه. وهنا بدأت معركة سد بسري الذي لم يكن أولوية سنة 2014، لكن مجلس النواب الذي كان يومها فاقد الشرعية عقد جلسة تشريع الضرورة لتمويل سد بسري. حتى التمويل جاء من دون غطاء شرعي، وعلى الأثر تقدمت بلدية الميدان بطلب الطعن بهذا المرسوم لدى مجلس شورى الدولة، ومنذ العام 2015 أبقى مجلس الشورى الطعن في الدرج، ليتبين أن الجهة التي تهدر المال العام هي التي ضغطت على مجلس الشورى ليسكت عما يجري، واستغرب أبي راشد المباشرة في العمل بوجود الطعن. وفي العام 2017 بدأنا بزيارات ميدانية إلى مرج بسري للتعرف على المكان. وفي العام 2018 اطلعت على خارطة عمرها أكثر من 120 سنة من الأب اليسوعي «الفرد ذوران»، تبين الطريق التي سلكها السيد المسيح في طريق عودته إلى كفرناحوم. من هنا بدأنا العمل لإنقاذ المرج الذي تقع عليه طريق الحرير، وطريق الفينيقيين إلى أوروبا، واستكملنا الشكاوى. وفي تموز وجهنا كتاباً إلى وزير البيئة فادي جريصاتي حذرناه فيه من العمل، فقام جريصاتي بتحويل الكتاب إلى مجلس الإنماء والإعمار. بعد ذلك طلب منّا البنك الدولي أن نقدم له دراسة عن التعويض الإيكولوجي. وفي شهر أيلول من السنة الماضية 2019 فوجئنا بأنهم استأنفوا العمل وقاموا بقطع أكثر من عشرة آلاف شجرة.

وبعد شهرين انطلقت ثورة 17 تشرين، ذهبنا إلى المرج وقمنا بتكسير البوابات، وأخرجنا الآليات من المكان، وفتحنا الطرقات، واعتبرنا الأعمال التي نُفِّذت غير قانونية، والمشروع غير مُجدٍ بل ومخالف للقوانين، ما دفع برئيس لجنة الأشغال النيابية النائب نزيه نجم ليقول: إذا كان هناك واحد في المئة خطر لن نقبل بالمشروع. وفي اجتماع حضره الخبير الجيولوجي طوني نمر أكد أن المكان الذي سيقام السد، عليه هو من أسوأ المواقع الذي يبنى عليه سد في العالم، لوقوعه على فالقين وإذا ما تحركا سيؤدي ذلك إلى تحرك فالق روم فتقع الكارثة. وبناء عليه وجّهنا كتاباً إلى البنك الدولي نسأله إذا كان يستطيع أن يتحمل كارثة أو زلزال قد يصل مداه إلى بيروت. فالبنك الدولي سيسأل الحكومة في الرابع من أيلول إذا ما كانت قد نفذت ما هو مطلوب منها، لأن ذلك بحسب رأيه يساعد على وقف التنفيذ، وفي مُطلق الأحوال فإننا تقدمنا بكتاب إلى البنك الدولي الذي عليه أن يفهم أن هذا المشروع مرفوض، لأنّه مخالف للقوانين، وقال: لا خوف من إصرار البعض على التنفيذ بعد أن تحول مرج بسري إلى محجة لجميع اللبنانيين من عكار إلى صور والنبطية ومرجعيون وبعلبك وطرابلس وبيروت. وأصبح الحديث عن سد بسري أكثر من الحديث عن سد النهضة. والدولة لا تستطيع أن ترسل لواء من الجيش لمواجهة الأهالي الرافضين للمشروع.
أبي راشد لفت إلى وجود بدائل عن المشروع، مقترحاً أن يستخدم قسماً منها لتمويل تأمين المياه إلى بيروت، والقسم الآخر لمساعدة المتضررين من أهل بيروت بعد كارثة الزلزال.

أبي راشد رأى أيضاً أن الخطة التي أعدها الوزير باسيل حين كان وزيراً للطاقة، عن وضع المياه في لبنان، ارتكزت على معلومات مغلوطة، وهناك دراسة من إعداد منظمة أن دي بي تقول أن لدى لبنان فائضاً من المياه الجوفية يفوق حاجاته. وبالتالي لسنا بحاجة لإقامة السدود. إنّ خطة السدود مشروع فاشل مبني على معلومات خاطئة، بعد ما ثبت أن الأراضي اللبنانية غير صالحة لإقامة السدود، فلنوقف التدمير العشوائي لطبيعتنا. ختم أبي راشد

نمر لـ الضّحى مرج بسري هو أسوأ المناطق لإنشاء سد لتجميع المياه

أكّد الخبير الجيولوجي طوني نمر لـ ، أنّ مرج بسري هو أحد أسوأ المناطق لإنشاء سد لتجميع المياه، والسبب وجود فالقين أدّيا إلى زلزال 1956، وأنّ تحذيرنا ينطلق نتيجة دراسة علمية، كاشفاَ عن اجتماع عقده مع رئيس اللقاء الديمقراطي النائب تيمور جنبلاط والنائب وائل أبو فاعور لوضعهما في صورة الأمر، واستحالة إقامة السد في بسري، كما أطلع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط على الدراسة التي أعدّها بهذا الخصوص، فكان مقتنعاً بها. نمر عزا إصرار فريق السلطة على تنفيذ المشروع بالقول: يبدو أنهم يريدون دخول التاريخ من الباب الخطأ، مُحاذراً الدخول في السياسة، لكن هناك من يصرّ على المشاريع الكبيرة، والدليل خلط مياه بسري بمياه بحيرة القرعون التي يستحيل تكريرها لشدة تلوثها، وقال حتى ولو أنّ البنك الدولي قام بسحب التمويل، فإنَّ هؤلاء يصرُّون على تنفيذ هذا المشروع، حتى ولو أدى ذلك إلى الاعتصام والتظاهر شارعاً مقابل شارع، لا فرق بالنسبة لهم. نمر رأى أنّ خطورة المشروع أكبر بكثير عن منفعته. وقال: لا يجوز على الإطلاق تنفيذ هكذا مشروع في مرج بسري، وكلّ الدراسات تشير إلى مخاطر تنفيذه الذي سيكون أشبه بقنبلة موقوتة ستصيب شظاياها كلّ المنطقة لتصل إلى بيروت والضاحية. وقال: مشكلتنا في هذا البلد أنّ فريق السلطة يريد تنفيذ مشاريع غِبّ الطلب، كاشفاً أنّ أحد أعضاء ما يُسمّى باللجنة المستقلّة، وهو خبير تركي ولديه خبرة بالزلازل، لكنه مع الأسف داخل بصفقة فساد مع مجلس الإنماء والإعمار وقدم دراسة، ولكونه عضواً في اللجنة المستقلة، لا يحق له تقديم الدراسات وكتابة التقارير. ما يوحي أنّ هناك رائحة فساد كبيرة جدّاً، داعياً المعترضين على المشروع التمسك بمواقفهم ومطالبهم المُحقّة حماية لمستقبلهم ومستقبل أولادهم. لأن السّد هو بمثابة قنبلة موقوتة، والمطلوب رفض المشروع ورفض حوار الطرشان. فالحوار على ما يبدو جاء متأخّراً، ونحن أصبحنا نعرف كيف يتصرفون. لكن الموضوع برأيه أكبر من هذا التفكير بكثير، فالدمار الذي قد يخلفه انفجار السد سيكون أكبر من دمار إسرائيل للبنان في عدوانها عليه من العام 1978 حتى حرب تموز في العام 2006. فالزلزال الذي قد يحصل بلحظات سينتج عنه دمار هائل، داعياً إلى التنبّه لهذا الأمر.

نصّور: البنك الدولي يعرف الحقائق

منسّق حملة الحفاظ على مرج بسري المهندس رولاند نصّور، وصف لـ الضّحى الاعتصام الذي دعت إليه حملة الحفاظ على مرج بسري أمام البنك الدولي بالجيدة جدّاً، إنْ لجهة الحشود المشاركة، أو لجهة المواقف التي أعلنت من أمام مقر البنك الدولي. لقد أكد المعتصمون رفضهم المطلق إعطاء المهل للحكومة، وطالبوا البنك الدولي بعدم الوقوف مع السلطة ضد الأهالي، وتحميله مسؤولية ما يجري، والتأكيد على أنه ملزم بأن يخضع لإرادة الشعب اللبناني والمجتمع المحلي وضرورة إلغاء القرض المُعَد لبناء السد فوراً، وتحويله إلى أمور إنسانية تتعلق بمساعدة المواطنين المحتاجين في هذه الظروف الصعبة، كاشفاً عن انحياز واضح من قِبل البنك إلى جانب السلطة، مستغرباً كيف أنّ البنك الدولي يعرف الحقائق تماماً ويجافيها. وقال: إنّ حملة الحفاظ على مرج بسري بصدد تقديم شكوى ضد تشريع سياسات الفساد التي تضر بلبنان وتدمر البيئة بشكل عام.

أبو كروم: تقدمنا باسم اتحاد البلديات وبلديات المنطقة ومخاتيرها والمجتمع الأهلي بكتاب إلى البنك الدولي تضمَّن كل الأسباب التي دفعتنا للاعتراض على مشروع السد

رئيس اتحاد بلديات الشوف السويجاني المهندس يحيى أبو كروم كشف لـ الضّحى عن تقديم كتاب مُسهب إلى البنك الدولي يقع في 17 صفحة باسم أتحادَي بلديات الشوف السويجاني والشوف الأعلى، وكل البلديات المحيطة بمرج بسري والمخاتير والمجتمع الأهلي ويحمل تواقيع أكثر من 200 شخص، شرحوا فيه كل الأسباب التي دفعتهم للاعتراض على مشروع السد من زاوية علمية بحتة، بعيداً عن التسييس والمزايدة بعد أن تأكد لهم بالملموس خطورة إنشاء السد في مرج بسري، مستندين في تعليل الأسباب على دراسات علمية وآراء مجموعة من الخبراء الجيولوجيين المشهود لهم بالخبرة والمعرفة، وما يتميزون به من استقامة في العمل. وهذا بعض ما جاء في مقدَّمة الكتاب:
حضرة السادة البنك الدولي المحترمين
نخاطبكم اتّحاد بلديات وبلديات ومخاتير تمثل السلطة المحلّية المنتخبة، لنعرض عليكم اعتراض مئات آلاف من المواطنين القاطنين ضمن نطاق سلطتنا المحلية المنتخبة ديمقراطياً، لإنشاء سد بسري، والذي أدى بسبب مكابرة السلطة السياسية المشكوك في أدائها، لتحويل هذا الاعتراض إلى موجة عارمة ضد إنشاء هذا السد، الذي طلبت الحكومة اللبنانية من البنك الدولي وسواه من المموِّلين قروضاً بكلفة ستقارب المليار ومئتي مليون دولار أميركي.
شكل مشروع إنشاء سد بسري منذ إقرار قانون إنشائه بالمجلس النيابي، وتوقيع الحكومة اللبنانية اتفاقية القرض مع البنك الدولي وغيره من الممولين، مادة تجاذب وخلاف حاد بين اللبنانيين. وقد كان لجمعيات المجتمع المدني والناشطين والاختصاصيين دور هام لتوضيح مخاطر إنشاء هذا السد، من خلال الآراء والدراسات التي تم نشرها، فتغيرت مواقف كتل نيابية وازنة في البرلمان التي تبيّن لها أن موقفها السابق بُني على معلومات مغلوطة قُدِّمت من مؤسسات وأجهزة حكومية ورسمية. ومع ما ترافق ذلك من غموض في الإجابة على الأسئلة التي طرحتها السلطات المحليّة من بلديات على وزارة الطاقة ومجلس الإنماء والإعمار، الأمر الذي أدّى إلى إعلان رفض البلديات للمشروع وسحب موافقتهم الأولية عليه والتي كانت مشروطة أصلاً بتقديم أجوبة واضحة وصريحة على مخاطر إنشاء هذا السد ومبرّرات السير به. نضيف إلى ذلك أن التطورات الأخيرة في لبنان والضائقة الاقتصادية، وخطر انهيار لبنان مالياً واجتماعياً، من جرّاء سياسة الإنفاق غير المجدي وسياسة هدر المال العام التي عبر المواطنون عن رفضها وإدانتها، من خلال اعتراضهم السلمي في تظاهرات واعتصامات حاشدة تمثّلت بحراك الشعب اللبناني منذ 17 تشرين الأول من العام المنصرم، تحت عنوان محاربة الفساد وهدر المال العام بمشاريع غير مجدية، وفقدان الشفافية في المناقصات لمصلحة نافذين في الدولة، ومن خلفهم بعض المتعهدين. فاعتُبِر مشروع سد بسري في طليعة هذه المشاريع.

العشّي: الملف في عهدة أبو كروم وأتابع الموضوع مع بلديَّتَي عمّاطور وباتر

رئيس اتحاد بلديات الشوف الأعلى روجيه العشي كشف لـ الضّحى، أنّ ملف سد بسري هو في عهدة زميله المهندس يحيى أبو كروم، وهو على تنسيق مستمر معه، ومع رئيسَي بلديتي عماطور وليد أبوشقرا، وباتر رائف صافي، نظراً لحجم الأملاك والعقارات العائدة لبلدتيهما في مرج بسري.

أبو شقرا: عمّاطور تملك 33 بالمئة من مساحة الأرض التي كان سيقام عليها السَّد

رئيس بلدية عمّاطور وليد أبو شقرا تحدث لـ الضّحى، عن العديد من الذكريات الحلوة لأهالي عماطور في مرج بسري، تعود لمئات السنين وتُعتبر جزءاً مهمّاً من تاريخها، كاشفاً أن خراج عماطور يصل إلى بْحَنِّين في قضاء جزّين. وأنّ 33 بالمئة من مساحة الأرض التي سينشأ عليها السد تعود ملكيتها لأهالي عمّاطور. وقال: نحن في الجبل جزء من هذا المُكوَّن ومعارضتُنا لإنشاء السَّد تنطلق من دراسات علميّة.

ايضاح:
هذا التحقيق أنجز قبل اعلان البنك الدولي تخليه عن تمويل مشروع السد.

قصّة أميرة معروفيّة “مَيْثا الأطرش”

كان العثمانيون في عقد التسعينيّات من القرن التاسع عشر قد نجحوا في شق الموقف الموحّد للدروز الذي سبق له أن كان يحول دون احتلالهم للجبل. في تلك الفترة أرسل العثمانيّون سلسلة من الحملات على الجبل لبسط سيطرتهم عليه مستغلّين حالة الانقسام الاجتماعي بين عامة الدروز وإقطاعييهم، ومن بين تلك الحملات التي بدأت عام 1888كانت حملة بقيادة الجنرال ممدوح باشا، خلال سنتي 1894 و1896 احتلّت السويداء بعد مواجهات دامية عديدة.

فرض العثمانيون ضرائب باهظة على السكان منها تأمين طعام الجنود والحطب للطبخ والتدفئة وتأمين التّبن والعلف لبغال وخيول الجيش العثماني الذي يحتل الجبل، وقاموا بنفي زعيم الدروز الثائر،الشيخ شبلي الأطرش وعدد كبير من الزعماء والمشايخ ومنهم الشيخ حسن الهجري والشيخ حسن جربوع والشيخ حسين طربيه، ونفوهم إلى منافٍ متفرّقة في الأناضول وجزر بحر إيجة في شباط من عام 1896.

مقابلة الأميرة للباشا العثماني تَسْتَجِرّ حرباً!

كانت السيدة مَيثا ابنة شيخ قرية عرمان، حسين الأطرش، وهي أرملة المُتَوفّى محمّد الأطرش شيخ بلدة صلخد قد دخلت في قضية خلاف على ميراث بين ابني زوجها المُتَوفّى وابنها القاصر (نجيب)، وهو الذي لم يتجاوز العاشرة من العمر.

قابلت ميثا القائد العثماني ممدوح باشا في السويداء بخصوص الحفاظ على حقّ صغيرها، وبحسب سعيد الصغير، صاحب كتاب «بنو معروف في التاريخ» (1)، وهو ابن بلدة عرمان والقريب زمنه من زمن ميثا. طلب ممدوح باشا الزواج من ميثا فرفضت، والتجأت إلى والدها حسين الأطرش في عرمان وهناك تعهّدَ رجال قريتها بحمايتها (2).

كانت قرية عرمان آنذاك قد شكّلت ملجأً آمناً للممتنعين عن الخدمة في الجيش العثماني وللثائرين المُلاحَقين من درك (جندرمة) السُّلطة، ومنهم «فارس وقبلان الحمود الأطرش» من شيوخ قرية بكّا وغيرهم.
ولما كان ممدوح باشا مَعْنيّاً بتتبع موقع لجوء ميثا، في قرية عرمان التي أصبحت تزعجه بسبب كلّ ذلك، فقد أوعز إلى بدو من عشيرة الصّفَيَّان بالاعتداء على حِمى عُرمان ومزروعاتها، ولهذا السبب قام حُرّاس المزروعات (النواطير) بمعاقبة البدو المعتدين الذين اشتكَوْا إلى السلطة العثمانية المتواطئة معهم، والتي تستعملهم كفتيل صاعق لتفجير الأوضاع المحلية بين الدروز والبدو لتبرير تدخُّلها بحجة ضبط الأمن في الجبل…
هنا جاء دور القائد العثماني لِيُدلي بِدَلْوِه في النّزاع، فأرسل طلباً يقضي بقدوم أربعة من وجهاء عرمان إليه في السويداء، وعلى هذا فقد توجه إلى السويداء كلٌّ من: ابراهيم الجرمقاني وصالح الحلبي وهلال العطواني ومحمود صيموعة.

كانت العادة في ذلك الزمن حيث ما من وسائل نقل آلية في البلاد أن ينتقل الناس على ظهور الخيول وغيرها من الدواب. وصل الرجال على خيولهم من عرمان إلى السويداء على نِيَّة مقابلة الباشا في اليوم التالي، ولمّا كانوا لا يطمئنّون لنواياه فقد عرّجوا إلى بيت مختار السويداء محمود جربوع، الذي نصحهم بعدم مقابلة ممدوح باشا خيفة غدره، فعادوا مُسرعين إلى حيث أتَوْا، ودعَوْا وجهاء المقرن إلى اجتماع سِرِّي في خربة المجدل الأثريّة قرب عرمان.
هناك تعاهد الأعيان على نجدة كلّ قرية تتعرّض للعدوان العثماني.

عرمان تدافع عن كرامتها

وتتابعت الأحداث، مُتسارعة، إذ أرسل ممدوح باشا مَفْرَزة تركية من ثلاثة وثلاثين عسكريّاً وصلت إلى منزل المختار ابراهيم الجرمقاني يوم الخميس الثاني من تشرين الثاني 1896 (3) بقيادة ضابطين أحدهما اسمه مشرف رضوان من مواطني السويداء، بهدف اعتقال (النواطير)، وهم حرّاس المزروعات والحِمى حيث كانوا قد ضربوا الرّعاة البدو وطردوهم منه «ولأخذ ميثا بعد أن تبيّن أنّ هناك مداورة وتهرّباً من الانصياع لمشيئة ممدوح باشا بخصوصها وبعد أن اتّضح له أنّ مغادرتها إلى عرمان كانت رفضاً ضمنيّاً لطلبه (حسب بعض الروايات)» (4) ولمّا كان الضابط في الجيش العثماني مشرف رضوان يتبعه بعض الجنود يبحث عن الأشخاص المطلوبين مارّاً من أمام مضافة الوجيه محمود أبو خير وكان هذا معنيّاً بتقديم الطعام لضيوفه من آل سلّام القادمين من قرية سالة البعيدة، فقد دعاه للغداء كما هي عادة الكرماء بدعوة المارّة لطعامهم قائلاً له:
ــ تَفَضَّلْ للغداء، لاحِقْ تأخذ زُلْم. (أي لديك وقت كاف لتعتقل الرجال الذين تلاحقهم)، فأجابه مشرف بفظاظة:
ــ سآخذ زُلْم وسآخذ رأسك أيضاً.

غضب محمود أبو خير، فاستل سيفه وهجم على مشرف، لكنّ مرافقيه من الجنود عاجلوه برصاصة من خلفه فأردَوْه قتيلاً.
سريعاً ما شاع نبأ مقتل محمود أبو خير، فهبّ رجال عرمان وانتقموا له بقتل بعض الجنود العثمانيين، وقد قام علي الدبيسي بضرب مدير ناحية صلخد العثماني بالسيف فقتله، وتحصّن من بقي من الجنود ومن بينهم الضابط مُشْرِف نفسه في مضافة المختار ابراهيم الجرمقاني، وقاموا برمي بندقية أمام باب المضافة كمصيدة لإغراء كلّ من يتقدم لتناولها ومن ثم قَتْلِه، مُسْتَغلّين طمع الرجال الذين لا بنادق حديثة لديهم كالبنادق العثمانية الألمانيّة الصّنع، وبهذا فقد قتلوا عدداً من الأهالي بهذه الحيلة، لكنّ رجال عرمان لم يطيقوا صبراً على مطاولة حصار المعتدين فتسلّقوا سطح المضافة وثغروه من الأعلى ونزلوا إليهم من فوقهم وأجهزوا عليهم بالسيوف والخناجر ولم يسلم منهم سوى ثلاثة بينهم ابن الضابط مشرف (5) والضابط سليم الجاري (وهذا من دروز لبنان، من قرية مَجْدَلْبَعنا) (6) وجندي آخر اسمه موسى «كانوا قد استجاروا بالنساء فأجرنهم» وتقول بعض المصادر النقليّة أنّ موسى قد قَتَلَ مُلْحِم الحلبي (أحد أهالي عرمان الذي رشقه بالحجارة أثناء هربه على حصانه باتجاه صلخد) (7). وهكذا وصل إلى قيادة ممدوح باشا في السويداء نبأ ما حلّ بمدير النّاحية وجنوده.

تقول الباحثة الألمانية بريجيت شيبلر إنّ «للدروز الحق في الدفاع عن شرف زوجة محمّد الأطرش الجميلة التي رغب ممدوح باشا في سَبْيِها، بينما أثيرت احتمالات أخرى لأسباب الحادث تقول بأنّهم قاوموا تسجيل الأراضي (وما يترتب عليها من ضرائب لا ترحم) ولربّما كان رجال الأمن أرادوا اعتقال بعض شيوخ القرية فكانت ردّة الفعل هذه…» (8).
جُن جنون الجنرال ممدوح باشا لهذه النكسة التي أصابت مبعوثيه إلى عرمان.

هزيمة ممدوح المُدَوّية في «الخراب»

جهّز ممدوح باشا حملة من ألفي جندي بينهم أربع كتائب من المشاة وكتيبة من الخيّالة بقيادة خسرف باشا (وهو الشركسي، قائد الدرك السابق في دمشق وقائمقام السويداء حينها) (9). وأيوب باشا وغالب بك وأَمَرهم بالتوجّه لتدمير عرمان والانتقام من أهاليها.
تقصّد العثمانيون مفاجأة أهالي عرمان بضربة ساحقة، وقد قال ممدوح في أمر القتال لقادته: أريد أن أسمع وأنا في السويداء وقائع القتل والفتك والتنكيل بأهالي عرمان، وإن بدرت أية بادرة من أهل الجبل والسويداء سأقوم بتصفية هذه الطائفة نهائياً.

كان الضابط سليم الجاري حاضراً وقد سمع أمر جنراله، فأصر سرّاً على التضحية بالنفس والرّتبة والمستقبل لتجنيب أهالي عرمان ما يُخَطّط لهم من الكيد، فتطوّع أمام ممدوح باشا ليكون دليلاً للحملة، وممّا قاله ممدوح لسليم: عند نجاحكم بتنفيذ المهمّة سأرقّيك إلى رتبة أعلى.
وعلى هذا توجّه ذلك الجيش نحو عرمان على مسافة نحو 25 كيلومتراً من السويداء في يوم الأحد الخامس من تشرين الثاني 1896.

كان انطلاق الحملة من السويداء قبيل العصر، فوصلت قرية الكفر مساء، وعندما انطلقت منها في أوّل الليل وبدلاً من أن يقودها الدليل رأساً باتجاه عرمان قادها إلى مشارف قرية مياماس، وأثناء وِقفة استراحة قصيرة تمكّن سليم من إرسال أحد أهالي قرية مياماس وقد حَمّله ورقة تنطوي على إنذار إلى الشيخ أبو قاسم محمّد الجرمقاني وأبلغه أنّه سيقود بالحملة ليلاً إلى مشارف قرية طليلين شمال شرق عرمان تضييعاً للوقت، ومن ثم يعود بها باتّجاه عرمان ليكون قريباً منها عند طلوع الفجر وأنّه سينضمّ إليهم مع رفاقه من أبناء الدروز عند بدء القتال (10).

وصلت تلك القوّة فجراً إلى شمال شرق صلخد، شمال غرب عرمان، ومن ثمّ تعمّد الجاري السير بالحملة شرقاً نحو ما يسمّى (خراب عرمان / عيون) وهي عبارة عن كروم قديمة مهجورة وخَرِبَة كانت تُزرع عنباً وتيناً وأشجار فواكه تعود لعصور الأنباط والرّومان، غير أنّها وعرة المسالك وطرقاتها جبليّة صعبة وضيقة وجدرانها حجريّة عالية تحجب الرّؤية وتصلح للتّمترس والقتال.

كان هدف سليم الجاري من ذلك توفير الوقت المناسب لأهالي عرمان ليستعدُّوا من جانبهم، وعدم إتاحة الفرصة للجيش العثماني الدخول إلى القرية من جانب آخر، فضلَّل الحملة طوال ذلك الليل بين حيطان تلك المنطقة إلى أن بزغ الفجر. بينما كان من خطتهم دَهْمُ القرية ليلاً للانتقام مِمّن فيها من سكّان.

مع الفجر كان نفرٌ من الأهالي يراقبون في غرب القرية فلمّا شاهدوا طلائع الجيش أسرعوا بدعوة الرجال لمواجهة المعتدين وهناك، في كروم خراب عرمان دارت المعركة لعدّة أيام انتصر فيها الأهالي رغم التفوّق العددي للحملة العثمانية (2000 جندي مقابل 150 من أهالي عرمان قبل وصول النجدات من القرى المجاورة بالإضافة إلى تفوّق الجيش بأسلحته من مدافع ورشاشات وبنادق حديثة، ولم تتأخر النساء عن المشاركة في المعركة فكنّ ينخين الرجال ويقدمن لهم الماء والزاد واشتهرت من بينهنّ سعدى ملاعب وكان من بين المقاتلين المسيحي طحيمر الصيقلي (11) قد ركب جواده وأسرع يَنْخى أهل صلخد (تقع على مسافة نحو 4 كلم غرباً) ويستنهضهم لنجدة عرمان فكانوا أوّل من وصل من رجال القرى، ويقول سعيد الصغير في فعل رجال صلخد في تلك المعركة «وأظهروا بسالة كبيرة في القتال لأنهم شعروا بمسؤوليّتهم إزاء هذه الحرب التي كان من بين أسبابها دفاع عرمان عن أرملة شيخهم، وقد استشهد منهم اثنان وسبعون محارباً ولشجاعتهم في الحرب لُقّبوا بالزّغابة (الزّغابة هم مجموعة من أشدّاء قبيلة بني هلال التي اشتُهرت ببسالتها في الحروب حسب رواية تغريبة بني هلال التي كانت مصدراً من مصادر الثقافة الشعبية في تلك الفترة من الليل العثماني الذي ران على العرب طوال أربعة قرون ونيّف).

وتواصلت نجدات قرى الجبل (من المقرن القبلي والشرقي كملح القريبة شرقاً من عرمان وامتان إلى الجنوب منها وغيرها من قرى الجبل التي فزعت للنجدة) وقد هوجم الجيش العثماني من ثلاث جهات تاركين له الجهة الغربية فبدأ بالتراجع أمام شدة الهجوم عليه وأخذ الدروز يتسابقون إلى القتال معظمهم يقاتل بالسلاح الأبيض من سيوف ورماح وبلطات وفؤوس ومقاليع «والقليل من البنادق القديمة التي تُحشى من الفُوَّهة» وكل هذا لا يرقى إلى مستوى أسلحة الجيش العثماني الذي صمدوا في وجهه وأوقفوا تقدمه باتّجاه قريتهم إلى أن وصلت نجدات القرى إليهم ودامت المعركة سبعة أيام.

المُعْجزَة تفعل فعلها

وفي تلك المعركة وقعت حادثة غريبة أثناء تلك الاشتباكات العنيفة أثّرت تأثيراً عظيماً في سير القتال بحيث رفعت من معنويات مقاتلي الدروز؛ ذلك أنه في ظهيرةٍ من نهار آخر يوم من المعركة وقد توازنت القوى بين المتحاربين فما من قادر أن يحسم المعركة، هَبَّ ذئبٌ حاصره القتال بين المتحاربين، واعتلى رُجْماً عالية من الحجارة وأخذ يَجُوْحُ في مواجهة العسكر العثماني بصوت مُرْعِب (الجَوْح: نوع من عواء الذئاب عندما تكون جائعة: عاميّة) فاعتبر المقاتلون الدروز أن تلك الحادثة إشارة من العقل الإلهي لنجدتهم، فَكَرُّوا غير عابئين بالموت نحو العسكر العثماني الذين ولَّوْا هاربين ولم يُعْثَرْ للذّئب على أَثَرٍ بعدها.
تحوّلت المواجهة مع العثمانيين في موقعة الخراب إلى هزيمة نكراء، لأنّ الجنود الذين كانوا يرون مصارع رفاقهم أَوْهَنَ عزائمهم الخوف وأصبح همُّ كلّ جندي منهم النّجاة بنفسه. وكان ممدوح باشا قد أرسل فرقة أخرى بقيادة محمّد آغا الجيرودي لنجدة الجيش الأوّل ولما وصلت تلك الفرقة إلى تلول الأشاعر القريبة من المكان وأشرفت على موقع ساحة القتال ورأى قائدها فلول الجيش السابق تتراكض غرباً والدروز خلفهم يقتلون الجنود الهاربين الذين يرفضون الاستسلام، فما كان منه إلّا أن لوى عنان فرسه الصّفراء اللون وانضمّ مع فرقته إلى الجيش المهزوم هارباً في الوقت الذي كان المقاتلون الدروز يلاحقونهم وهم يَحْدون مُغَنِّين هازئين به:

صَفْرة جيرودي غَرَّبَت قَوْطَرْ يَحثّ رْكابـها
يا مْحمّــــد خبّــر دولتك حنّا خذينا طوابهــــا

بينما تخلّف عنه جنديّان درزيّان انضمُّوا إلى الثوار، وكانت نتيجة المعركة وبالاً على العثمانيين فقد قُتِل عددٌ كبيرٌ من أفراد تلك الحملة وأُسِر في ذلك اليوم أعداد كثيرة من الجنود، وكان تعداد من وقع من بيد مفازيع من قرية أم الرمان وحدها 31 أسيراً منهم جندي عربي من ليبيا. وغنم الأهالي عدّة مدافع ومئات من البنادق وتجهيزات الحملة.

دور المرأة في معركة الخراب

يقول المحامي متروك صيموعة وهو ابن عرمان وحفيد أحد مجاهدي تلك المعركة أنه كان للمرأة دور حاسم في تلك المعركة، سواء أكانت أُمّاً أو أُختاً أو زوجة، وأشهرهنّ سعدى ملاعب (12). نعم لقد شاركت العديدات من النساء في تلك المعركة وتحملن مآسيها…
الشاب عجاج الجرمقاني الذي كان وحيداً لأمّه كان قد استشهد على ظهر فرسه في ساحة المعركة وقد قام رفاقه بدفنه في ميدانها، وبعد انتهائها عادوا بفرسه بعد أن علقوا سيفه والبارودة العثمانية التي كان قد غنمها في سرج فرسه وعندما وصلوا مدخل البلدة أبصروا أمّه ترقب عودة وحيدها بلهفة المستريب، فبادر فندي المتني منشداً هجينيته التي لم تزل تتردد في مناسبات مجتمع الجبل إلى يومنا هذا ومنها:

يا اْمّ الوحيد إبكي عليهْ الموت ما يرحم حَــدا
لا بدّْ ما تنـعي عليــــهْ إن كان اليوم ولّا غدا

فما كان من الأم الثكلى المفجوعة إلّا أن رددت الحداء على بكائها مع الحادين…

أمّا نمر عبد الله بَحَّة من قرية سالة فقد خسر أبناءه الشبان الثلاثة في تلك المعركة ودفن أحدهما في ميدانها، بينما حمل جثمانيّ الشهيدين الآخرين على ظهر جمل متوجّهاً إلى قريته عائداً مع الفازعين، وما أن رات الوالدة المشهد حتى أُغميَ عليها وماتت بعد أيام قليلة من هول الفاجعة…

يقول حنّا أبوراشد: «وقعت معركة هائلة دامت سبعة أيّام إلى أن انكسر الجيش العثماني شر انكسار وقُتِل منه ما يزيد على ألف جندي، أمّا الدروز فقد مُنُوا بخسارة عظيمة وفقدوا معظم أبطالهم ومنهم:عقاب البربور ومحمّد أبو خير ومحمود غزالي ومنصور الشوفي وجبر الحجلي وحمد الصّغير وحسين أبو خير ويوسف ياغي وعباس المتني وسليمان طربيه و146 فارساً غيرهم…» (13)

وإلى يومنا هذا لم يزل مكان يقع غرب عرمان يطلق عليه اسم «رقَّة المدفع» حيث كان العثمانيون قد نصبوا مدفعاً هناك من بين مدافعهم الستة لتدمير عرمان.

من أصداء المعركة
الشاعر شبلي الأطرش

يقول المؤرّخ محمّد كرد علي الذي كان متعاطفاً مع العثمانيين ضد الدروز حينها «أحدق الدروز بالقوات التركيّة من كل جانب وقتلوا نحو ألفي جندي بالفؤوس والسيوف في محل يدعى «العيون» قرب عرمان وغنموا مدفعين وجميع الأسلحة والذخيرة». (14)

كتب متروك صيموعة: «انقشعت ساح المعركة عن نتائج مهولة حيث تكدست مئات الجثث في مساحة محدودة بعد أن أُبيدت الحملة إلّا بضع عشرات لاذوا بالفرار لتتعرض هذه الحملة للسحق والإبادة في أشرس المواجهات التي تعرّض لها الجيش العثماني وأكثرها فداحة ومأساوية وتناثرت جثث أكثر من ألف وتسعمائة جندي في ساحة المعركة لأشهر طويلة فجسّد الأدب الشعبي ذلك النصر لدرجة أن الضواري تداعت للولائم واحتفت هي أيضاً بالنصر وفي هذا يقول الشاعر شبلي الأطرش:

ضَبع الكويرس عازمه ضبع حبران وصار اللحم بعيون مثل التِّلالِ

ومن وحي الانتصار الباهر على هذه الحملة رغم عدم التكافؤ في العدة والعدد أن راق لأحد المؤرّخين اللبنانيين أن يشبه عرمان بـ إسبارطة في مقال نشره عام 1996 في مجلة الضحى اللبنانية بعنوان: «عرمان إسبارطة العرب».. (15)

وقد أرسل الشاعر عبدالله كمال وكان ممّن قاتل في المعركة قصيدة إلى شبلي الأطرش شيخ مشايخ الدروز الذي كان العثمانيون قد نَفَوه إلى إزمير غرب الأناضول يخبره بالذي جرى فيقول:

تـــاخبّْــرك، عُــرمان والْلّي جرى فيه تْقَدَّم دَرَكْ عَبدو أفندي، نِداويـه
يـــومٍ طَـغى قـــام ربـّــك يــــجازيــــه هُوّ ورَبْعَهْ شربْ كأس الحِمامِ
نْهار الخرابْ شَيّبْ الاْطْفال المَراضيع مثل النّحل مِنّا ومنهم مجاضيع
وســعدى تـِـنْخي بـــالعيـــال المَفاريـع مَرْحُوم اَللّي مَسْكَنَهْ بالـــرِّجــامِ
حيــن الظُّــهر رَبّــك فــرجــها علينــا هُــمَّ قَــفُوا وحِنّــا وراهم حَدِينـا
مثـــل اللّيـــوث الكاســـرة حِنَّا غَدِيـنـا مثل الجرس تسمع رنين الحسامِ

ومن منفاه في إزمير أرسل شبلي الأطرش قصيدة طويلة منها:

جانا خَبَر من يَمْ صلخد وعُرْمــان نِعْمِيْن يا وجوه الذّياب المَشالِي
عَبدو أفندي شارب الخمر سكران جــــاهُمْ يهادر مثل فَحْلِ الجِمالِ
اْجُـوْه النَّشامى وبعد الصُّبح ما بــان هَـدّوا عَليه قصور شُمَّخْ عَوالي
ألفين من حُمْرِ الــطرابيش سُـــكمان بعيون ذِبحوا من القروم العيالِ
ضَبع الكويرس عازْمَهْ ضبع حُبْران وصـار اللّحْم بِعيونْ مثل التّلالِ
ومن عقبها صارت مَعاريـك واكْوان تْشَيِّب الطّفل الرّضيع الاهْوالِ
تَضعضعت حَـوران من كُلّ الأركان عافت لِحــاها والدَّبَش والحَلالِ
من فعل ربعي ينطحوا الضدّ بطعان صِلفين يوم الهُوش، يـوم القتالِ
ببْــلاد ســوريّــة بلا شـــكّ فُــرسان مــن غيرهم إيّاك تحسب رجالِ

بعد تلك المعركة «ذُهِلَ الناس في دمشق وتخوّفوا بكل جدّية من قدرة الدروز على مهاجمة المدينة … لكنَّ العثمانيين اعتبروا الواقعة ثورة مقاومة يجب قمعها… فاستقدموا قوات جديدة من سالونيك (في البلقان) ومن إزمير (غرب الأناضول) ومن طرابلس الغرب (ليبيا) ونُقلت من بيروت مباشرة إلى حوران (16) لخضد شوكة الدروز…

أمّا «ميثا» فقد أكملت حياتها سيّدة حرّة كريمة في حمى قومها بني معروف.


المراجع:
1- سعيد الصغير، بنو معروف في التاريخ، مطابع زين الدين، القْرَيّة (لبنان)، ص 462.
2- المصدر السابق، ص 463.
3- متروك صيموعة، عرمان أسبارطة العرب، ط1، السويداء،2011، ص 74.
4- متروك صيموعة، م س، ص 75.
5- سعيد الصغير، م س، 463.
6- سليم الجاري: في مقابلة مع الصحافي والباحث حسين خويص وهو من أهالي عرمان؛ أفاد بأن البطل سليم الجاري هو ضابط في الجيش العثماني من أصل لبناني جده الأول سليمان بن شاهين نصر من مَجدلْبعنا ولُقِّب في لبنان بالجاري، وكان دليلاً للحملة العثمانية التي أرسلها ممدوح باشا لقهر عرمان فقام سرّاً بإرسال خبر مع بدوي يثق به لتحذير أهل عرمان من الهجوم العثماني الوشيك، وضلّل الحملة في الوعورالجبلية ريثما تأهب أهالي عرمان الذين استنصروا بالقرى المجاورة، ومن ثمّ انضمّ سليم الجاري أثناء القتال إلى قومه الدروز ولجأ بعدها إلى بيت الشيخ الهجري في قنوات مدة خمسة عشر يوماً ثم غادر خفية إلى اليونان دون أن تعلم به السلطات التركيّة وبعد تحرير البلاد من الأتراك عاد الجاري إلى لبنان وتوفي فيها عن ثمانين عاماً
7- متروك صيموعة، م.س، ص 76.
8- بريجيت شيبلر، انتفاضات جبل الدروز، من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال، دار النهار، ط1، 2004، ص 152.
9- Documentary Editor Emad Al Halah (فيديو).
10- بريجيت شيبلر 152 انتفاضات جبل الدروز من العهد العثماني إلى دولة الاستقلال. بيروت دار النهار 2004.
11- حسين ناصيف خويص، عرمان قصة الإنسان وقدسيّة الأرض والمكان، ص 98.
12- طحيمر الصّيقلي: في مقابلة مع الصحافي والباحث حسين خويص أفاد بأن طحيمر الصيقلي هو من مسيحيي صلخد وأحد فرسانها وكانت هناك حال من الجفاء بين قريتي عرمان وصلخد ولكن عندما وصل رسول عرمان لطلب النجدة من رجال صلخد ركب طحيمر فرسه وأخذ يصول ويجول في الشوارع وينخي رجال صلخد الذين هبّوا سراعاً وهاجموا الحملة من عن ميمنتها من جهة قرية “عيون” ممّا ساهم بتعويق تقدم الحملة باتجاه عرمان. وبعد دحر الحملة كرّم أهالي صلخد طحيمر بوضع عمامة بيضاء على رأسه …
13- متروك صيموعة، م س، ص 82.
14- جبل الدروز، حوران الدامية، ط2، بيروت 1961، ص 108، 109.
15- محمّد كرد علي، خطط الشام، ج 3 ص 111.
16- متروك صيموعة، م س، ص 84.

بيروتُ… وجعُ شعبٍ لا تندملُ جراحُه

الرّابعُ من شهر آب/أغسطس 2020، تاريخٌ أليمٌ أُضيف إلى الذاكرة اللبنانية الثّكلى بالأحداث المأساوية والكوارث الطبيعية والأزمات المتتالية، بعد انفجارٍ مشؤومٍ أطاح بمرفأ بيروت وبالقريب والبعيد منه. فالانفجار الذي أودى بحياة مئات الضحايا وأدّى إلى آلاف الجرحى والمشرّدين وعشرات المفقودين، ترك خلفه عاصمةً مجروحةً وشعبًا يئنّ تحت الأنقاض والرّكام، وهو الذي يرزح منذ زمنٍ تحت ثِقل همومٍ معيشيّة واقتصادية خانقة وتحت وطأة وباءٍ عالميّ لم تنته فصوله بعد.

ما هي إلا دقائق معدودة حتّى تحوّلت “ستّ الدنيا” إلى مدينةٍ منكوبةٍ، إلى أكوامٍ من الزجاج والحديد والركام تتعثّر بها أينما ذهبت في أرجاء العاصمة. فالدمار في كلّ زاويةٍ وبقع الدماء من كل حدبٍ وصوب وصراخ الأطفال والأهالي يملأ المكان، حتى يُخيّل إليك أنّ الحرب مرّت من هنا، وأنّ القذائف والصواريخ وطلقات الرصاص عبثت بمعالم المدينة وتاريخها وحاضرها.
وفي جولةٍ لمجلة “الضحى”، يبدي الأهالي المتضرّرون تحسّرهم على “وطنٍ لا يلبث أن ينهض من كارثةٍ حتى تحلّ به المصائب تلو الأخرى، وكأنّه قُدّر على الشعب اللبناني أن يسير على درب جلجلةٍ، تجعل أقصى أحلامه فسحة عيشٍ يسودها الأمن والأمان”، كما تقول سلمى، المواطنة التي تسمّرت أمام منزلها المدمَّر، متسائلةً: “هل هناك مَن يسمع صرخاتنا وهل هناك مَن يتلمّس آلامنا؟ هل قُدّر علينا الموت عند انبلاج كلّ فجرٍ جديد؟”.

وإذ طاولت الخسائر والأضرار معظم مباني بيروت، الأثرية والسكنية منها، لحقت الأضرار الجسيمة كذلك بالشركات والمؤسّسات والمصارف ودمّرت العديد من المستشفيات ومراكز الرعاية الصحية الأولية، طارحةً حالة طوارئ على صعيد الوطن ككلّ. أمّا الفاجعة فواحدة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، مرورًا بالبقاع والجبل ومختلف الأقضية والمحافظات. فبيروت التي طالما كانت مقصد السيّاح العرب والأجانب ومحور النهضة العربية والأدبية وعاصمة الحريّات السياسية والاجتماعية، امتدّت يد الإهمال وضروب الفساد مرةً جديدة، لتنال من قلبها النابض، من شوارعها وأزقّتها الصاخبة، من موقعها الاستراتيجي ومن إرادة حياةٍ لم يتخلَّ اللبنانيّون عنها يومًا.

وفي أحد شوارع بيروت، يتّكئ الرجل التسعيني على عصاه، مردّدًا: “نجوت من الموت بأعجوبة، وهذه ليست المرة الأولى، فمدينتنا احترقت ودُمّرت مرارًا وتكرارًا، حتّى باتت شوارعها وجدرانها وأبنيتها شاهدًا يروي آلامنا ومآسينا”، مضيفًا: “لكنّنا شعب لا يستسلم ولا يموت. ستبقى بيروت جميلة، ستعود إلى الحياة بهمّة أبنائها وبناتها، كما كانت على الدوام”.
أمّا الدموع على فراق أحبّةٍ وأطفالٍ وشبابٍ وشابّاتٍ بعمر الورد، فقد انسكبت لتروي وجعًا واحدًا، هو وجع أهالي العاصمة وسكّانها من لبنانيّين وأجانب على اختلاف جنسيّاتهم، ووجع كلّ لبناني مقيم ومغترب، امتدادًا إلى مختلف الدول العربية وشتّى أصقاع العالم، الذين بادروا بدورهم إلى مد جسور الدعم، سواء من خلال المساعدات الإنسانية الإغاثية، الغذائية والطبية أو من خلال المستشفيات الميدانية العربية والأجنبية، إلى الإمداد بالنفط وغيرها من سبل البقاء والصمود.

الحال نفسها على صعيد المجتمع المدني اللبناني والجمعيات الأهلية والمنظمات الدولية، التي نشطت منذ لحظة وقوع الانفجار، فكانت أن انطلقت فرقها ومجموعاتها في ورشةٍ يوميّةٍ، عملَ بعضُها على إزالة آثار الدمار والحطام، ولملمة جراح المتضرّرين والمُصابين وتقديم الدعم النفسي والمعنوي للصغار والكبار، كما الدعم المادي والمساعدات العينيّة والغذائية، في حين عمد البعض الآخر إلى المساندة في أعمال الكنس والتنظيف وتركيب الواجهات الزجاجيّة والحديديّة والألواح الخشبية، كما في الحراسة الليليّة للمنازل والمحال والشركات.

وفي وقتٍ تداعى فيه المهندسون والفنيّون والتقنيّون إلى إجراء المسح الميداني للأضرار، تبلورت كذلك المبادرات الفردية، سواء لناحية إطلاق حملات التبرّع أو التكفّل بعلاج الجرحى والمصابين أو بإعادة ترميم وتجميل حالات التشوّه التي تعرّض لها البعض. مبادراتٌ جسّدت مشهديّةً من التضامن والتكافل بين أبناء المجتمع اللبناني وسائر المقيمين على أرض الوطن، كما رسّخت من جديد تمسّك المجتمع الدولي والأشقاء العرب بلبنان وشعبه وما يميّزه من عزيمةٍ وإرادةٍ صلبة. فهو كعاصمته يُبلسم جراحه، يلملم أحزانه وينهض من أجل الحب، من أجل الخبز، من أجل الفقراء، كزهرة لوزٍ في نيسان.

من رحم المآسي والمعاناة

اخبار مثيرة للقلق تتناقلها وسائل الاعلام والتواصل اللبنانية، طوابير طويلة من اللبنانيين، والشباب منهم خاصة ، امام ابواب السفارات سعياً للهجرة من لبنان. ارقام صادمة عن الحجم المتزايد للهجرة من لبنان سجلت: سنة 2018 حوالي 42000 مهاجر، سنة 2019 حوالي 62000 مهاجر، ومن المتوقع ان يرتفع العدد في هذا العام 2020 الى اكثر من 100000 مهاجر جديد، والاتجاه حالياً يؤشر الى استمرار نزيف الهجرة.

هذا الاندفاع غير المسبوق للهجرة من لبنان له اسبابه ومبرراته. فاللبنانيون اليوم يعانون ويكابدون من انسداد آفاق العيش امامهم : افلاس مالي ، انهيار اقتصادي، اضطراب اجتماعي، توقف الاعمال وتزايد البطالة، والعجز عن تأمين لزوميات العيش والعلم والطبابة والاستشفاء، استشراء الفساد وعجز السلطة الحاكمة عن اتخاذ التدابير الضرورية لمواجهة الازمات المتعددة التي تفاقم صعوبات العيش في لبنان، وخاصة بعد انتشار وباء الكورونا، والدمار الذي لحق البشر والحجر في بيروت بعد كارثة انفجار المرفأ.

ان تبادل التهم حول اسباب الفشل في الاصلاح بين اركان السلطة، والكلام عن النفط والغاز وكل الطاقات يبقى كلاماً، والاشادات المتواصلة بالسياحة على انها الترياق لم يعدلها معنى لا في الداخل ولا في الخارج بعد انهيار البنى التحتية في الكهرباء والماء والاتصالات والمواصلات وما تستوجبه السياحة لكي تكون قطاعاً ناجحاً. كما ان الكلام عن حقوق الطوائف فيما المردود على الجيوب لا يبدل الواقع المرير الذي يدفع الكثيرين للهجرة وعدم تصديق الكلام المعسول. يتركون الوطن، رغم تعلقهم به، ويتساءلون بحسرة اين الحوافز التي تشجعهم على البقاء ؟

ان اوائل المغادرين هم المتمولون من رجال الاعمال المرحب باستثماراتهم في مختلف البلدان، يليهم اصحاب الكفاءات العلمية والمهنية والادارية العالية الذين تستفيد الدول الاخرى من خبراتهم، وطلاب العلم الراغبون في بناء مستقبلهم خارجاً بعد انعدام الفرص في لبنان.
هذه الحقائق تعني ان لبنان اليوم بسبب فشل حكامه، اصبح مهددا بفقدان اثريائه وكفاءاته الشبابية، الامر الذي يترتب عليه خلل قاتل في تركيبته السكانية والاجتماعية ومن قدراته وهذا بالطبع سيصعب على من يبقى فيه القدرة على الخروج من المعاناة والعودة بالبلد الى الانتاج والنمو والازدهار.

في خضم هذا الواقع السوداوي الصعب، تنبعث بارقة امل حملها الى اللبنانيين مؤخراً صديق لبنان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في محاولة صادقة منه ، وسعي لاقناع المسؤولين في الطبقة السياسية اللبنانية بالتخلي عن حساباتهم الضيقة وانانياتهم وارتباطاتهم الفئوية والمحورية ، والتفاهم على اتخاذ التدابير اللازمة للانقاذ وتشكيل حكومة قادرة على مواجهة التحديات دون عراقيل تعيد للبنان عافيته وللبنانيين ثقتهم بدولتهم، فتقوم دولة المواطنة والعدالة والمساواة.
فهل سيتحقق الحلم، وتنجح المحاولة؟ الايام القليلة القادمة ستحمل الجواب الذي نأمله ايجابياً، وبالانتظار نقول: ما اصعب العيش لولا فسحة الامل!!!

وفي سياق مواكبتنا، في رابطة اصدقاء كمال جنبلاط ، لما يواجهه لبنان اليوم من معاناة، لابد لنا من التذكير بما نبّه منه المعلم كمال جنبلاط قبل اكثر من خمسين عاماً حتى لا تصل الامور الى ما وصلت اليه اليوم.

كمال جنبلاط استشعر موجات الهجرة القادمة للبنانيين وخاطب المهاجرين بهذه الكلمات «يا اخي المهاجر لك علينا حق، ولنا عليك حقوق، في هذه الفترة الحرجة والخطيرة من حياتنا السياسية في لبنان. حقك علينا ان لا نشوّه رسالة لبنان ووجه لبنان وحقيقة لبنان، فخجلن يتزايد وذلنا في اعماق نفوسنا يتصاعد، حقك ان تسألنا : هذه بلادي كما هي بلادكم ، فماذا فعلتم بها؟ هي بلاد الحرية والعنفوان، فلماذا اقمتم فيها للمظالم معالم، وللحرية قيوداً؟ هي بلاد الوفاق والوئام والتفاهم، فلماذا على انفسكم تنقسمون شيعاً وافراداً وطوائف وفرقاً؟

يا اخي المهاجر، لنا منك بعض العذر، فالازمة التي نجتازها تتعدى كل الازمات التي مرت على بلدنا، انها ازمة حكم وازمة نظام، وهي فوق كل هذا، ازمة اخلاق وكفاءة ورجال، وحتماً ستمرّ، ويتعافى لبنان. لكل هذا نأمل منك ان لا تنسى وطنك، وان تمدّ لنا يد العون والمساعدة في اخراج لبنان من ازماته.»
(من خطاب له في مهرجان المغتربين في زحلة بتاريخ 1/6/1946)

وفي مقال له في جريدة الانباء بتاريخ 30/11/1968 كتب:
«لم ار في حياتي حكماً سياسياً كالذي يمارسه لبنان الرسمي اليوم بالنسبة لأبنائه. لبنان هذا تحوّل الى دكان على شواطئ البحر المتوسط، تحول الى مقهى وملهى وملجأ، واصبح ابناؤه يعيشون في خوف دائم على مصائرهم، وفقدوا القدرة بالاعتزاز بالانتساب اليه. ومن المؤس جداً ان يعتمد الحكام سياسة ونهجاً في الحكم سيحمل الشباب اللبناني على التحول عن الولاء لقضية وطنهم لانها اصبحت تبدو لهم مجردة عن اية قيمة وطنية ولا تتمثل فيها اية قيمة انسانية معنوية. لبنان تحول مع هؤلاء الحكام الى حائط مبكى وجدار مذلّة ومهانة. هذا اللبنان لم يعد لبنان هؤلاء الشباب بل لبنان الطائفيين والخانعين الذين تتآكلهم في نفسيتهم المريضة والمنحرفة شتّى مركبات النقص.»

رحلةُ السيّد المسيح إلى فينيقية والمدن العـشر

في خطبةٍ ألقاها الأب الفـرد دوران، مُـدرّس شرح الأسفار المقـدّسة في المكتب الشرقي، نشرتها مجلّة المشرق في العـدد الثاني لشهر شباط سنة 1908، تحت عنوان: «رحلة السيد المسيح إلى فينيقية والمدن العـشر». بحضور القاصد الرسولي، ومطران بيروت للروم الكاثوليك، ورئيس أساقفة صيدا، ورئيس أساقفة قبـرص، وأسقف طرابلس للروم الكاثوليك (1).

يخبرنا الإنجيل الشريف، إنَّ السيد المسيح في أيام بشارته، «ذهـب إلى تخـوم صور وصيدا» (مرقس 7: 24). ولم تكن تلك الرحلة فقـط إلى جهات الجليل المجاورة لفينيقية، بـل دخـل فينيقية وتجـوّل فيها. كما يظهر من كلام القـديس متّى، حيث يقول: «إنه دخـل إلى جهات صور وصيدا»، (متّى 15: 21). فإنّ النص اليوناني يـدلّ على توغّله في أصقاع فينيقية وتجوّله في أنحائها. وقـد صدّر الإنجيل هـذه الآية، بلفظة تـدل على أنه لـم يـزر فقـط تلك الجهات، بـل تـردد في جنباتها مـدّة مـن الزمان معـتـزلاً فيها، لينجو مـن دسائس أعـدائه، ويبتعـد عـن البلاد الخاضعة لحكم هيرودس انتيباس، الذي كان ينتظر الفـرصة الملائمة ليلقي عليه الأيـدي، وهـذا ما حمله على أن يتجاوز حـدود الجليل، ويطلب لـه ملجأ في فينيقية، لا بسبب خـوفه من أولئك الأعـداء، بـل لكونه أراد انتظار الساعـة المحـدودة من أبيه السماوي لإنجـاز سـرّ الفـدى. وهـذا مـا دفعـه أيضاً إلى أن يجيب الهيرودسيين الذين أتـَوا بعـد ذلك ليجسّوا أعماله وينقلوها لسيّـدهم. (لوقا13: 32). «اذهبوا قولوا لهذا الثعلب: هـا أنا أُخرج الشياطين وأجـري الشفاء اليوم وغـداً، وفي اليـوم الثالث أكمّـل». كأنه يقـول لهم: ليس لأحـد من البشر أن يمـدّ لي يـداً قبـل الساعة المعيّنة في حكم أبي الذي في السـموات.

ويذكـر الأب دوران بأن السيد المسيح، جـاء إلى بلادنا وقـدّس وطننا. كما ورد في إنجيـل مرقس، (7: 24)، «ثم خرج من تخـوم صور ومـرّ في صيدا، وجاء في ما بين تخوم المـدن العشر إلى بحـر الجليل»، ونشر خارطة الطريق التي يحتمل أن يكون قـد سلكها السيـد المسيح.

كان أهـل ذلك الزمان يـَدعـون بهـذا الاسم مـدناً متحالفة مـن المدن اليونانية الرومانية الواقعة في عبـر الأردن، في شرقيه وشرقي دمشق إلى عمّـان، فكان موقع المـدن العشر، يوافق بما نـدعـوه اليوم ببـلاد الجولان وحـوران، بالإضافة إلى دمشق وقسم من شرقي الأردن. وكان تحالف هـذه المـدن ينحصر في عشر مـدن فقـط، ذكرها الكاتب الروماني بيلينيوس في كتاب النبات (18-16 .V, Pline). وهي التاليـة:
1- فيلادلفيا (عمّان المعاصرة). 2- أبيـلا أو (حـرثا). 3- جـراسا (جـرش). 4- جـدارا (أم قيـس). 5- كانثـا (أم الجمال). 6- بيـلا (طبقة فحـل). 7- دايون (إيـدون). 8- هيبوس (الحصن). سكينوبوليس (بيسان). 10- داماسكوس (دمشـق).
وقـد دخلت هـذه المـدن العشر في حكم بني حشمناي على عهـد اسكندر ياناوس، في بداية القـرن الثاني قبـل المسيح. ثـم نالت من فضل بيمبيوس (بومبيوس) سنة 64 (ق. م) أن تـدبّر أحوالها بنفسها، مُعتزلة عن حكم فلسطين، خاضعة لعاصمة المملكة الرومانية، ثـم غلب عليها العنصر اليوناني. وكان أهلها يتعصبون ليردّوا عنهـم غـزوات القبائل المقيمـة في جوارهم. وربّما تمكّنت منهم تلك القبائل حتى مـدّت سيطرتها عليهم. واختلطت الحضارة السامية بالتمـدّن اليوناني، كما حـدث في دولة النبطيين الذين قويت شوكتهم وامتدت سلطتهم إلى دمشـق. وكان المالك عليها في عهـد السيد المسيح وبـولـس الرسول، الحـارث الرابع كما يستفاد مـن رسالة بولس إلى أهـل غلاطيـة.

المناطق التي زارها المسيح في لبنان

كـم دامت رحلة السيد المسيح إلى فينيقيـة والمـدن العشـر؟

الأمـر ليس معلوماً، لكن علينا تعيين الطريق التي سلكها السيد المسيح.
المـرجّح أن السيد المسيح وتلاميذه اتّجهوا إلى صور على خـطّ مستقيم. فقطعوا بـلاد الجليل العليا، على سكة كان الرومان اصطنعوها هناك. وكان يسكن تلك الجهات اليهود والوثنيون معـاً. ولذلك كانت تدعى بـ «جليل الأمـم». وهي المعروفة اليوم ببـلاد بشاره، التي كانت في ذلك العهـد مـن أخصب بـلاد الشـام، تُجـاري بـلاد الجليل السفلى، مـن بحيـرة طبريا إلى مـرج بني عامـر في خصبها ووفـرة غـلّاتها، حتى أن المـؤرخ يوسيفوس، كان يدعـوها بجنّـة عـدن، وفيها تمّـت نبـؤة يعقـوب. وقـد سمـع كثير من أهلها تعاليم السيد المسيح مـع القوم المزدحمين عنـد بحيرة طبريا. ورأوا معجزاته وآمنوا بـه، فسارعـوا إلى دعـوته وضيافته عنـدهم، وحـلّ ضيفاً كـريماً في المـدن التي يسكنها سبطا بني إسرائيل: «أشـير» و «نفتالي»، فـزار مـن مـدنهم صفـد، حيث كان ذكـر طوبيا البـار حيّـاً مكـرّماً، ثـم جـش مـوطن بولس الرسـول على رأي القـديس أورنيمـوس، وكفـربرعـم مـدفن القاضي بارق والنبي عبـديا، وقـانا وصرفنـد. وكان الأب الفـرد دوران قـد نشر خريطة تُظهر الطريق التي يحتمل أن يكون قـد سلكها السيّد المسيح.

إنّ السيّـد المسيح بعـد زيارته إلى صيـدا، عـرّج نحـو اليمين ومـال إلى الشرق، في وجهـة بـلاد الجـولان، ومـن ثـمّ قطع جبل لبنان. وعنـد وصوله إلى البقـاع، هناك طريقان: الطريق الأولى كان قـد مـدّها الرومان حـول جبل الشيخ إلى قيسارية فيليبس، أي بانياس، وتتـفرّع من هـذه الطـريـق طريـق ثانية، تتّجـه مـن بلدة جب جنين فتصل إلى راشيا ثم تمـر بقطنا. ويُعتقـد أن السيد المسيح كان قـد سلك هـذه الطريق لقلّـة سابلتها. ولأن سـياق الرواية الإنجيلية ينطبق على هـذه الطريق التي هي طـريق دمشـق. ولـم تـذكر الأناجيل أنـه دخـل مـدينة دمشـق. وغاية ما نعلمـه، أنـه عـاد إلى الجليل عـن طـريق بحـيرة جنـاسر (بحيـرة طبريا)، مـارّاً وسـط نـواحٍ كان الشرك يمـدّ أطنابه على قسم كبير من أهلها. فقـدّس الـرّب منازلهم وشـفى عاهاتهم وزرع في قلوبهم بـذور الخلاص، التي نمت بينهم بعـد صعوده نمـوّاً عجيبـاً. وكان سكان المـدن العشر يعرفونه عـزّ وجـلّ، قبل مـروره في جهاتهم. فجاؤوا غيـر مـرّة إلى الجليل لاستماع كلامه. وقـد صرّح متى الإنجيلي بذلك، (4: 25)، عنـد ذكره خطبة السيد المسيح إلى الجموع الذين «تبعـوه مـن الجليل والمـدن العشر واورشليم واليهودية وعبر الأردن».

فـلا غَـرو أنّ أهل تلك المـدن ذكروا تلك النّعـم، فتقاطروا إلى يسوع لمـاّ عرفـوا بقـدومه إلى بلادهم، فجـدّد بينهم الخوارق والآيات. ومن نعمـه الحـديثة على أهل تلك البلاد، شفاء ذلك المجنون الذي بلي بشيطان نجـس، أو بجـوقة من الشياطين (مرقس 5: 1- 20)، فطرد السيد المسيح الأبالسة الأشرار وردّ إليه عـقله سليماً، ولمّـا سأله ذلك الرجل أن يكون معـه قال له طبيبه الإلهي: «إذهب إلى بيتك إلى ذويك، واخبرهم بما صنع الرب إليك وبرحمته لك». وكذلك المعجرة الباهرة التي اجترحها مـع أصم أخرس، نحّاه عـن الجمع وجعل أصابعه في أذنيه، ولمس لسانه قائلاً: «انفتـح» فانفتح مسمعاه وانحلّت عقـدة لسانه وتكلّم بطلاقة. وكان الرب أمر ذلك الإنسان أن لا يخبر بأمره أحـداً. لكن الشكر أطلق لسانه ولسان أهله، فبَشَّروا بشفائه في كل ناحية حتى كان الجميع يصرخون: «لقد أحسن في كل ما صنع، جعل الصُّمّ يسمعون والبكم ينطقون» (مرقس 7: 32- 37)، وقال متّى (15: 30)، «إنّ جموعاً كثيرة دنت إليه، معهم خرس وعميان وعـرج ومعوهون وآخرون كثيرون، فطرحوهم عنـد قدميه فشفاهم… وكانوا يمجّـدون الإلـه».

وكانت تلك الجموع تتراكم حول السيـد المُخلّص وتزيد يوماً بعـد يوم، حتى بلـغ عـددهم أربعة آلاف سـوى النساء والصبيان. وتبعـوه مـدة ثلاثة أيام في القفار، حتى نفذ ما اصطحبوه معهم من الزاد. فتحنن عليهم الـرب «ولم يشأ أن يصرفهم صائمين لئلا يخوروا في الطريق». فجـدّد بسببهم آية كان قـد اصطنعها سابقاً مـع غـيرهم، وقـات أولئـك القوم بسبعة أرغفة وبيسير من السمك. وقـد جـرت تلك الآية في ضفة بحر الجليل الشرقية، في مكان لم يكن اليوم تعيينه بالتدقيق. ثـم صرف الجمع وركب السفينة (2).

وفي مقالة للناشط البيئي ورئيس الحركة البيئة اللبنانية بـول أبي راشـد على صفحته على الفايسبوك، حـول مطابقة الخريطة القديمة التي كان قـد نشرها الأب دوران، وذلك بمساعدة المهندس سامر هاشم على برنامج غـوغـل. وتبيِّن أن الطريق المرسومة تمـر من صيـدا إلى وادي أشمون ومـرج بسري، وتمـر بمحاذاة ثغـرة مرستي التي كانت تعبرها القوافل، ثـم تصل إلى البقاع وعبـور نهـر الليطاني باتجاه جبـل الشيخ والمـدن العشر للعودة إلى كفرناحوم.

طـريق صيـدا البقاع دمشـق

الطـرق والمعابر هي من ضرورات الأمن والاقتصاد، لذلك كانت الدول المتعاقبة على حكم بـلاد الشام، من يونانية ورومانية، وبعـدها الدول الإسلامية كافّـه، تعمل كل منها على ربـط الساحل اللبناني بمركزها السياسي العسكري في دمشق بطـرق عـديدة. وهـذه الطرق كانت معروفة في القرون الماضية. منها طريق «صيـدا – الشوف – البقاع – دمشق. حيث يُحـدَّد مسار هـذه الطريق كما يلي: «صيـدا جسر الأولي- وادي أشمون – مرج بسري – ثغـرة مرستي – صغبين أو عين زبده – جب جنين – ميسلون – دمشق». ومن جب جنين تتفـرع منها طريق إلى راشيا وتمر بقطنة. ويُعتقد أن هـذه الطريق هي التي سلكها السيد المسيح عبر راشيا إلى فلسطين. وهـذه الطريـق كانت معروفة في نصوص مؤرّخي بـلاد الشام. وكانت تستخـدم في جميع العهود، من قبل الجيوش والقوافل والمارة والمكارين، وبقيت تستخـدم حتى بعـد الحـرب العالمية الثانية. ويشير صالح بن يحيى إلى هـذه الطريق دون أن يسميها (3).

في سنة 1400م، سلك هـذه الطريق السلطان فـرج بن برقوق، سلطان المماليك على مصر، الذي أنجـد دمشـق بحملـة عسكرية أثناء غـزوة تيمـورلنك لهـا. فقـدّم لهم الغلال والسلاح وبات ليلته في دمشـق، حتى دخـل عليه أحـد أمـرائه وحـدّثه أن تيمورلنك لا بـدّ أن يأخـذ دمشق. فخشي السلطان على مصر، وخـرج من قلعة دمشق في حكم الليل، وذهب عـن طـريق البقاع العـزيزي وجعل دربـه على الجبال، وتـوجه نحـو طريق الساحـل. وقيل إنـه بات ليلته بسفح جبل لبنان إلى جهـة الغـرب، بمكان يقال له الصفصاف بين قريتي نيحا وجباع، لئـلا يعلم بـه أحـد. وتوجـه على طـريق الساحل، ودخـل مصـر في سـفر حثيـث (4).

في سنة 1436م، سلك هـذه الطريق الأمير صالح بن يحيى التنوخي، (مؤلف كتاب تاريخ بيروت)، بعـد مشاركته بالحملة العسكرية التي جرّدها الملك الأشرف سيف الدين برسباي سلطان المماليك على جزيرة قبرص. وذلك اثناء عـودته من دمشق إلى عبيه، حيث رافقه جماعة من وادي التيم. وكان قـد كمن للأمير صالح في قرية صغبين المدعـو أمير حاج من بني الحمرا يريـد قتله، وكان التنوخيون قـد أجلوا بني الحمرا عـن بيروت. وحضر جماعة كثيـرة من الشوف إلى فـوق صغبين لملاقاة الأمير صالح، حتى خاف من في صغبين من اجتماع الناس حولها. ووصل الأمير صالح إلى عبيـه بتاريخ 25 ذي الحجّـه سنة 1436م (5).

منذ بداية العهد الشهابي، وبخاصة على أثر معركة عينداره التي حصلت بين القيسية واليمنية في العام 1711م. وهجرة أعـداد كثيرة من الأهلين إلى جبل حوران، كان الناس من الأشواف يسلكون هـذه الطريق إلى جبل حوران ذهابا وإيابا، للهجرة والاشتراك بالحروب وإحضار الحنطة وزيارة أقاربهم، وكذلك خلال الثورة التي أطلقها سلطان باشا الأطـرش ضـد حكومة الانتـداب الفرنسي، وغيـر ذلك.

في العام 1958، عنـدما قام زعماء المعارضة في لبنان، بثورة مسلحة، كان الثوار يسلكون هـذه الطريق عبر ثغـرة مرستي سيراً على الأقـدام إلى قرية دير العشائر الحـدودية.
في العام 1976م، وأثناء الحرب الأهلية التي حصلت في لبنان والتي دعيت بحـرب السنتين، وبسبب انقطاع مادة البنزين عـن قـرى الشوف حينـذاك، وتوفّـرها في منطقة البقاع. قام بعض الشبان من قـرى الشوف، بسلوك هـذه الطريق إلى البقاع، لإحضار مادة البنزين، حيث كانت تُعَبّأ بغالونات وتُنقـل على ظهور البغال والحمير وتباع في قـرى الشوف (6).

ثـغـرة مـرســتي

الثّـغـرة أو ثـغـرة مـرسـتي، هي سـهل منبسط على سطح جبل مرستي، منخفضة عمّـا حولها من قمـم. تشـرف على منطقة الشوف غـرباً وعلى سهل البقاع شـرقًا، تمـرّ وسطها طـريق المشاة التي تنطلق من صيدا إلى الشوف والبقاع ودمشـق، وتُتَّخَـذ من قبل القوافل والمـارّة والمكاريـن نقطـة اسـتراحة من عـنـاء السفـر في الذهاب والإياب.

بعـد أن استقـرّ الـوضع الأمني في الشوف، في عـهـد المتصرّفية، بـدأت الأسـر التي كانت قـد هاجرت إلى قـرى جبل حـوران بالحضور إلى الشوف والتواصل مـع الأقارب والأصدقاء، وحصول زواج فيما بينهم. فكان العـريس ومرافقـوه من الأهـل والأصدقاء، يحضرون من جبل حـوران إلى ثغـرة مرستي، وتـذهب العروس ومرافقوها حيث يلتقيان في الثغـرة، يمضون ساعات في الثغـرة يحتفلون معاً بالمناسبة، وبعـدها يـذهب كلُّ إلى بلـده. واستمـرّ هـذا التقليـد لسـنوات عـدّة، وتـوقّف مـع بـداية الحـرب العالمية الأولى (7).


المراجع:

1 – مجلة المشرق، السنة الحادية عشرة، العدد الثاني، شباط 1908. ص 81 وما بعد.
2 – يوسف ابراهيم يزبك، أوراق لبنانية، دار الرائد اللبناني، 1983، مج 3 ص 159و 249 و 296.
3 – صالح بن يحيى ، تاريخ بيروت، تحقيق فرنسيس هورس وكمال الصليبي، دار المشرق ، بيروت 1986، 246
4 – تاريخ ابن سباط، صـدق الأخبار، تحقيق عمر تدمري، جروس برس، طرابلس، 1993، ج2 ص 764.
5 – صالح بن يحيى، تاريخ بيروت، م، س، ص 249
6 – نديم الدبيسي، مرستي الشوف تاريخ وذاكرة، لا دار، ص 126و 127و 128
7 – نديم الدبيسي، م، س، ص 131

اعتدْنَ ثقافةَ الاستغناء والبحث عن بدائل

لم يكن الانفجار الكارثي الذي هزّ أرجاء العاصمة وأشعل مرفأ بيروت، مسبوقًا بظروفٍ معيشيّة طبيعيّة، فقد أرخت الأزمة الاقتصادية التي اشتدّت منذ أواخر العام الماضي، بظلالها على مختلف الشرائح الاجتماعية، في مشهديّةٍ أعادت إحياء زمن الحروب والأزمات، لا سيّما مع عودة بروز طوابير الخبز والغذاء والتهافت على مادّتَي البنزين والمازوت، وحتّى على الكاز والشّمع مع زيادة ساعات التقنين الكهربائي. فالأزمة التي ربطت مصير اللبنانيّين بالسعر اليومي لصرف الدولار الأميركي قيّدت مفاصل حياتهم كافّة، بعد أن بات قُوْتهم اليومي رَهن العملة الصعبة مع الارتفاع الجنوني في أسعار المواد والسلع الغذائية والاستهلاكية.

هي مرحلةٌ عصيبةٌ أجبرتْ المواطنين على استرجاع أساليب بدائيّة ظنّوا أنّه قد عفا عليها الزمن، وإذ بهم يسارعون إلى شراء المؤن الغذائية وتغيير أنماط حياتهم، سواءً لناحية التركيز على الأولويّات أو التخلّي عن العديد من الأصناف والماركات، واللجوء إلى بدائل أرخص بِغضّ النّظر عن الجَوْدة والنوعية.

وفي جولةٍ لمجلة «الضحى»، يتّضح حجم المعاناة التي تقاسيها العائلات في الجبل، كما السّبل العمليّة المُتَّخذة لمواجهة التحديات الراهنة، حيث تداعت النساء على وجه التحديد إلى تدارك الواقع الأليم باتّباع آلية تقشّفيّة دفعت نحو ابتكار أصنافٍ جديدة أو تعلّم طرق إنتاج وتحضير أصنافٍ أخرى باعتبارها الملاذ الوحيد للصمود بوجه الفقر والجوع، كما أرغمتْ اللّواتي اعتدْنَ بيع المنتجات البلدية، على الاحتفاظ بها لعائلاتهنّ والتوقّف عن الإنتاج.

ماجدة أبو زكي الأعور: الغلاء الفاحش يعيق منتجاتنا البلدية

ففي بلدة قرنايل، تتفنّن السيدة ماجدة أبو زكي الأعور في ابتكار منتجاتٍ جديدة من المربّيات كمربّى البطيخ والتوت الهزّاز أو في إعداد كعكتَي الشاي والكنافة وخبز البرغر واللبن واللبنة والجبنة، سعيًا منها إلى احتواء الأزمة، لا سيّما أنّها من السيّدات اللّواتي اعتدن تحضير المنتجات البلدية لعائلتها، قبل أن تحوّل وزوجها مطعمهما الصغير إلى محلٍّ لبيع هذه المنتجات من الكشك وعصير ودبس البندورة إلى دبس الفليفلة الحلوة والحَرّة، مرورًا بدبس الرّمان ومكدوس ومربّى الباذنجان وورق العنب، إلى التين المطبوخ والتين “كويزات” واليابس ومربّى الخوخ والمشمش، إلى جانب تجفيف الفليفلة الحرّة والملوخية.

ماجدة، الوالدة لشابّين والأستاذة المتعاقدة منذ 20 عامًا، باشرت التقشّف في المصروف المنزلي بشكل جدّي، خصوصًا أنّها لا تحصل على راتبها بشكل كامل وأنّ حركة البيع لدى المحلّ أصبحت خفيفة جدًا مع الارتفاع الجنوني للدولار بعد أن كانت قد انعدمت مع الحجر المنزلي، ما اضطرّهم إلى الإقفال خلال تلك الفترة. “على صعيد البيت، لقد استبعدنا اللّحوم واكتفينا بشراء الدجاج والبيض، كما أصبحنا نبحث عن أرخص النوعيّات ونفكّر مليًّا إن كنّا سنشتري أُوقية من الجبنة والمرتديلا والحبش أم لا، فالأسعار ارتفعت كثيرًا حتّى إبريق الحليب أصبح باهظًا وكذلك دواء الغسيل والنسكافيه والموزاريلا وغيرها الكثير”، تقول الأعور…
وتضيف: “على صعيد المحل طالما حلمنا بتطويره، غير أنّ ظروف البلد عاكستنا وعجزنا عن تحضير أيّ من المنتجات البلدية هذه السنة، حيث لا زلنا نبيع ما تبقّى من منتجات العام الماضي”. وتتساءل: “كيف أنتج الكشك وكيلو البرغل ارتفع أربعة إلى خمسة أضعاف لغاية شهر تموز/ يوليو 2020، وكذلك اللبن الذي ارتفع بما يقارب ثلاثة أضعاف، وهل لي أن أبيعه بأقلّ من 50 ألف ليرة لبنانية كحدّ أدنى بعد أن كان كيلو الكشك بـ 20 و 25 ألف ليرة؟! أين قيمة تعبي وجهدي، وأين كلفة المواد؟!”.

وتتابع الأعور: “الأمر ذاته بالنسبة لمربّى المشمش، حيث ارتفع الكيلو بما يقارب خمسة أضعاف وكذلك ارتفع سعر كيلو السكر، ناهيك عن كلفة الغاز وكلفة دزينة الأوعية التي قاربت 25 ألف ليرة بعد أن كانت خمسة أو ستة آلاف ليرة، حتّى أنّ الخضار والفاكهة على أنواعها من بندورة وكرز وغيرهما باتت باهظة الثمن ولا يمكن الحصول عليها لإنتاج المونة المنزلية. للأسف نحن نأكل بعضنا البعض”.
وتختم بالقول: “لا يجوز أن يشكو أهل الجبل من نقص الخبز وأن يصطفّوا أمام الأفران، بل علينا العودة إلى الخبز على الصاج كما إلى الزراعة”.

جيهان ضو عبد الخالق: عُدنا إلى أيام زمان

“كل شيء تغيّر”، تقول جيهان ضو عبد الخالق من بلدة مجدلبعنا، “فنحن نعيش فعليًّا حالة تقشّف تراعي الأزمة الحالية، وما كان بوسعنا سوى العودة إلى أيام زمان، حيث بدأنا نعتمد على الإنتاج المنزلي سواء للألبان أو الأجبان أو المكدوس أو المونة على أنواعها، ولم يعد بإمكاننا شراء هذه المنتجات جاهزة، كما كنّا سابقًا نظرًا لكوننا نساء عاملات”.

جيهان، التي تجمع بين عملها المنزلي ودوامها المدرسي كمعلّمة منذ 20 عامًا، تثابر مع أبنائها الثلاثة على سدّ حاجاتهم المعيشية منذ أن توفّي زوجها، غير أنّ الوضع اليوم بات صعبًا، لا سيّما أنّ ابنها وابنتها يعملان بنصف راتبٍ، وابنتها الصغرى لا تزال في مرحلة الجامعة. وتقول: “ربطة الخبز أصبحت بألفَي ليرة، فكيف يمكن للعائلات الكبيرة أن تشتري الخبز؟!”، مشيرةً إلى أنّ البعض ينوي إعداد الكشك في المنزل، وكذلك المخلّلات من خيار ومقتي وغيرهما، وأنا منهم، لا سيّما في ظلّ المصير المجهول”.

وتضيف: “استغنينا عن أصنافٍ كثيرة، فعلى سبيل المثال لم نعد قادرين على شراء الباب الأول والماركات المعروفة من كل صنف غذائي أو استهلاكي، وبتنا نبحث عن بدائل لهذه الأصناف بأسعارٍ مقبولة أو بأسعارٍ أرخص، بغضّ النظر عن الجَودة والنوعية”.

وترى عبد الخالق أنّ “على النساء في الجبل التأقلم مع الظروف الاقتصادية الصعبة، تمامًا كما فعلن زمن الحرب الأهلية، كون المرأة أثبتت قدرتها على الصمود، إلى جانب ريادتها في مجال العمل داخل المنزل وخارجه”، آملةً أن “يتدبّر المواطنون والمواطنات أحوالهم/نّ وأن تتحسّن أوضاع لبنان بعد أن عاثه الفساد، لدرجة أنّني أصبحتُ كغيري على استعدادٍ تام للهجرة ولو في هذه السن، حيث سأكون أوّل من يحمل حقيبة السفر في حال استمرار هذا الواقع المأزوم”.

ليلى أبو نجم مطر: لن نفرّط بمونة العام الماضي

من جهتها، تكشف الشيخة ليلى أبو نجم مطر أنّ “نمط الحياة قد تغيّر كثيرًا خلال هذه الأزمة، غير أنّ المرأة في الجبل قادرة على التأقلم وتدبير أمورها وأسرتها، سواءً لناحية لجوئها إلى المونة المنزلية أو الخبز على الصاج أو إلى جمع “السّليقة” البريّة، أو حتّى إعداد الطعام باستخدام موقدة الحطب في حال ارتفع سعر الغاز أو انقطع”.

ليلى التي تتّخذ من المونة المنزليّة سبيلًا لسدّ حاجات عائلتها ووسيلةً لبيع ما تيسّر منها، علّها تسند زوجها المزارع الذي يعاني بدوره ارتفاعًا في أسعار المبيدات والأدوية الزراعية، تقول: “على صعيد المنزل، تقشّفنا في كل شيء فقد استغنينا عن اللّحوم والمعلّبات والمرتديلا وغيرها، ولم يبقَ سوى الدجاج “بفشّلنا خلقنا” وفي حال ارتفع سعره نستغني عنه”.

وتضيف: “عدنا إلى العدس والحِمَّص والبرغل والمعكرونة والزعتر الذي أقوم وزوجي بجمعه، كما أنّنا نعتمد على المونة القديمة من زيت الزيتون وورق العنب والبازيلاء الخضراء المجمّدة والجزر المجمّد، إلى دبس البندورة والخلّ وكبيس الخيار والمقتي وغيرهما من المخلّلات، وكذلك الكشك وعصير التوت. وسنبدأ بإنتاج الطحينة للاستهلاك المنزلي فحسب. وأواظب كذلك على تأمين الخبز لأولادي من خلال الخبز على الصاج رغم ارتفاع سعر الطحين والخميرة والغاز، عوض الوقوع تحت رحمة الأفران وغلاء سعر ربطة الخبز”.
أمّا على مستوى منتجاتها البلدية، فتشرح مطر “كيف توقّفت حركة البيع كلّيًّا بسبب الأزمة، غير أنّ الارتفاع الجنوني للأسعار أعاق قدرتنا على إعداد أيّة مونة جديدة، كما أرغمنا على الاحتفاظ بما تبقّى من مونة العام الماضي والتي كانت مُخصّصة للبيع، وعدم التفريط بها سعيًا إلى سدّ حاجات العائلة”، وتتساءل: “كيف لي أن أعدّ مكدوس الباذنجان على سبيل المثال وكلّ مواده الأساسية باهظة الثمن؟! كيف سأعدّ الكبيس الذي يحتاج إلى زيت الزيتون؟!”.

ليلى التي يبقى مدخولها وزوجها هو الأساسي لإعالة عائلتهما المؤلّفة من 5 أفراد، تسرد كيف أنّها اعتادت قبل الأزمة ألّا تغفل عن صنفٍ يمكن إنتاجه للبيع من نعنعٍ ومردكوشٍ وحبقٍ يابسٍ، ولوبياء، وورق عنب، وفليفلة حرّة، وكبيس مقتي وخيار وكبيس مشكّل، ومكدوس، وصلصة بندورة، ودبس البندورة، ودبس الرمان، وكشك، وزيتون، ومربّى الباذنجان، وكبيس الجزر والدرّاق، والتين المطبوخ، ومربّى ليمون البوصفير وغيرها من المنتجات التي تحرص على تدوين تاريخ إنتاجها.

فيفيان هلال حريز: مُرغمون على التقشّف

“صحن البيت”، مشروعٌ منزليّ أرادت من خلاله السيّدة فيفيان هلال حريز أن تقدّم لزبائنها من معلّمات المدارس والموظّفات وحتّى ربّات المنازل، وجبة غذاءٍ بيتيّة يوميّة تلبّي أذواقهنّ وعائلاتهنّ، غير أنّ الظروف التي عصفت بالبلد أجبرتها على تعليق المشروع في شهر آذار/ مارس الفائت.
حريز، التي ما لبثت أن أسّست مشروعها العام الماضي دعمًا لزوجها، تواجه اليوم كغيرها من المواطنين والمواطنات أزمةً حقيقيّةً بعد أن خفّ الطلب على الصحن اليومي بشكلٍ كبيرٍ وتوقّف عمل زوجها الذي كان يسعى إلى تأمين مدخول بسيطٍ من خلال بعض أعمال التجارة الحرّة، إلى جانب ابنهما الكبير الذي يعمل في الخارج. وتقول: “تغيّر نمط حياتنا بأكمله ولم نعد قادرين على شراء كل ما نرغب به، فالأولويّة للطعام والدواء والطبيب والحالات الطارئة. تخلّينا عن العديد من الكماليّات والثياب والأواني المنزلية وغيرها، لكنّنا سنواصل الدعاء بأن تتحسّن أوضاع البلد”.

لم تكن تدرك فيفيان من بلدة رأس المتن، أنّ طموحها بتطوير مشروعها سيصطدم بالغلاء الفاحش الذي أرغمها على رفع سعر الوجبة بدايةً من 10 آلاف ليرة لبنانية إلى 12 ألف ليرة بحلول السنة الحالية 2020، قبل أن توقف مؤخّرًا العمل نهائيًّا تفاديًا للبيع بخسارة.

وتوضح أنّها كانت تُعدّ كلّ يوم وجبتين أساسيّتين (وجبة لحمة ووجبة زيت أو خضار) ليتمّ الاختيار بينهما، بالإضافة إلى صحن سلطة أو شوربة وقطعة حلويات، وتضيف: “كان ابني الأصغر يساعدني بعد دوام جامعته في توصيل الطلبيّات (الدليفري)، بدءًا من رأس المتن وصولًا إلى حمّانا، مرورًا بقرنايل، ففالوغا، وبتخنيه، والقلعة، وبزبدين وأرصون. كما أنّني استقدمتُ عاملةً أجنبيّةً لتساعدني في أعمال التنظيف والجلي، وحاليًّا مع أزمة الدولار لم يعد أمامي أيّ خيار سوى إعادتها إلى بلدها الأم”.

وتتابع حريز: “على الصعيد المنزلي، استغنينا عن المعلّبات واللّحوم ولجأنا إلى كلّ ما يعتمد على الخضار والإنتاج الزراعي ولا تترتّب عنه كلفة باهظة. كما أنّنا أصبحنا نكتفي بالمونة المنزلية التي تشمل الخضار القابلة للتجفيف مثل الملوخية وغيرها، حيث يتعذّر علينا حاليًّا الاعتماد على تقنية التجميد في ظلّ الانقطاع المستمر للتيّار الكهربائي، كما نركّز على المونة التي يمكن حفظها خارج البرّاد مثل الكشك، علمًا أنّ سعر الحليب الطازج قد ارتفع وكذلك سعر البرغل”.

وإذ تؤكّد أنّها لن تكون قادرة على إعداد مونةٍ منزليّة متنوّعة كما الأعوام السابقة نتيجة ارتفاع الأسعار، تشير إلى أنّها ستعتمد على “المونة القديمة من فاصولياء عريضة ولوبياء وملوخية ومكدوس ودبس البندورة والمخلّلات والمربّيات، حيث إنّه من الصعب إنتاج مربّيات جديدة مع غلاء السكر والمشمش على سبيل المثال، وسنكتفي فقط بمربّى التين، كون شجرة التين موجودة في أرضنا. فنحن مرغمون اليوم على التقنين وتخفيف المصروف”.

غنى الجردي: استرجعنا المأكولات القديمة

غنى الجردي، الشابّة الجامعية التي بادرت وشقيقتها وزوجة أخيها إلى شراء الأصناف الغذائية القابلة للتخزين، خوفاً من انقطاعها، وإلى الاستغناء عن الأصناف الباهظة الثمن وشراء الأرخص أو حتّى الاستغناء نهائيًّا عن البعض منها، تقول: “عدنا إلى المأكولات القديمة التي تعتمد على الطحين ودبس البندورة والحبوب كالمجدَّرة وغيرها، وابتعدنا عن اللّحوم التي كنّا نعتمد عليها بكثرة لدى إعدادنا الطعام، أو بتنا نضع القليل منها”.

وتضيف: “نركّز اليوم على إعداد المخلّلات وورق العنب، حتّى أنّنا قمنا بإعداد كبيس الذرة، وبتخزين كميات من الجزر واللوبياء والبازيلاء، وبتجفيف الملوخية. كما بادرنا إلى إنتاج جبنة الموزاريلا والجبنة البلدية واللَّبنة والمربّيات، ونحن بصدد إعداد الكشك”.

وتتابع الجردي: “استغنينا عن الزبدة والشوكولا وعن أصناف الباب الأول والنوعية ذات الجودة العالية، وتقشّفنا حتّى في المواد الاستهلاكية من صابون وشامبو ومحارم ورقية وغيرها. كما أنّنا أصبحنا نحرص على إعداد الكمية اللازمة من الطعام اليومي، عوض إعداد كميّات كبيرة ومن ثمّ رميها”، لافتةً إلى أنّهنّ بادرن كذلك إلى القيام بأعمال طرش جدران المنزل، تفاديًا لدفع تكاليف إضافية.

وتقول: “حتّى الأولاد باتوا يسألون ما علاقة الغلاء بفيروس كورونا؟ حيث كانوا معتادين على شراء أصناف متنوّعة من دون أن نرفض لهم أيّ طلب، لكنّنا أصبحنا مضطرّين اليوم أن نحتسب الأسعار ونمتنع عن شراء بعض الأصناف، لا سيّما أنّ مبلغ العشرين ألف ليرة لبنانية على سبيل المثال، كان يمكّننا من أن نطبخ وجبة يومية، لكن اليوم ما هي قيمة هذا المبلغ؟”.

أدال المصري: تغيّر نمط حياتنا بأكمله

«كنّا نقيم كل نهار أحد عزيمة على المشاوي من لحوم ودجاج وسمك، لكن اليوم أين اللّحوم وأين السمك، كلّه لاحق الدولار، وربّما الدجاج أيضًا سيرتفع سعره أكثر»، بهذه الكلمات تختزل السيّدة أدال المصري من بلدة المريجات الواقع العصيب، وهي التي تعيش مع ابنها وعائلته منذ أن توفي زوجها، وتقول: «ابني سائق سيارة أجرة «تاكسي» لا يعمل منذ نحو 6 أشهر، نظرًا للظروف المستجدّة».

وتتابع: «تغيّر نمط حياتنا بأكمله، لكنّنا نحاول قدر المستطاع تدبير أمورنا اليومية، سعيًا للصمود والبقاء، حيث استغنينا عن اللّحوم في الطبخ واعتمدنا الزيت النباتي رغم ارتفاع سعره أيضًا. كما أنّ إنتاج الكشك والألبان والأجبان وكذلك الزبدة ودبس البندورة بات من اختصاصنا مع الغلاء الفاحش»، لافتةً إلى أنّهم تخلّوا أو خفّفوا من استهلاك الكثير من الأصناف والمنتجات، مثل المايونيز والكاتشب والخردل والقشطة والكريما والحلويات والشوكولا والكاكاو وغيرها الكثير».

المصري التي أصبحت تبحث كغيرها عن أرخص الأسعار، تتحدّث عن آلية التقشف المتّبعة في منزلهم تفاديًا للعوز والجوع، واعتمادهم على مونة العام الماضي من مربّيات المشمش والسفرجل والكرز وغيرها، لا سيّما أنّ كيلو الفاصولياء على سبيل المثال ارتفع بشكلٍ كبيرٍ، بعد أن كان سعره بمتناول الجميع».

إيمان سعيد: حُرِمنا الكثير

وتشرح السيّدة إيمان سعيد من البلدة نفسها (المريجات) كيف أنّ «المُعاناة واحدة لدى مختلف شرائح المجتمع اللبناني، كلّنا نعيش هذه الأزمة وكلّنا حُرمنا من أمورٍ كثيرة أجبرتنا على العودة إلى البيت، وإلى الاعتماد على ما تبقّى من مونة منزلية من العام الماضي، حيث إنّ الأوضاع اليوم لن تسمح لنا بشراء المواد الأولية المطلوبة للمونة. حُرمنا اللّحوم وحتّى مونة الشتاء من مربّيات وغيرها، فالأسعار نار».

وتضيف إيمان، الأم لولدين: «نكتفي فقط بالأساسيّات، فزوجي موظّف يتقاضى نصف راتب حاليًّا، وكل همّنا تأمين إيجار المنزل والأدوية وأجرة الطبيب في حال اضطررنا لذلك».

كلّما رَقّ النّسيمُ كلَّما غَلُظ الطّبع

 

أدقّ ما أصاب السّهمُ هدفَه، القول الفلسفي الاجتماعي للفيلسوف الشهير ابن خلدون «كلّما رقّ النّسيم كلّما غلظ الطّبع» وذلك في مقدَّمته الشهيرة «ديوان العِبَر حول طبائع البشر» من حيث تأثير المناخ الجغرافي في الأماكن المرتفعة كالجبال والهضاب، كون النّسيم يرقّ ولا يسترق إلاّ في تلك المرتفعات وانعكاسها الكلّي على قاطنيها تصرّفاً وتفاعلاً وتخاطُباً وفي شتى ضروب الحياة وعبر التاريخ… وما جعلنا نؤمن كليّاً بهذا القول الفلسفي إذ بتنا نجد العديد من سكان القرى الجبلية، وبعد انتقالهم في العصر الحالي للسّكن في المدن الساحلية وتآلفهم مع بيئتها، قد تخلّصوا من تلك العادات والتصرّفات المستهجنة والتي كانوا يعيشونها لأزمنة طويلة.

أما الأمثال والعبر لفحوى هذا القول فهي متعددة وإن اختلفت مواقعها الجغرافية والقروية ومنها على سبيل المثال لا الحصر، وخصوصاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وما وصل إلينا منها إذا ما استعرضنا تاريخهم وعبرهم نجد العديد من المناكفات والانفعالات والمشاحنات وصولاً إلى المنازعات الكبرى والتي تؤدي للقتل والدمار والتشريد واليتم والفقر المدقع وما مردّها سوى قصر النظر وضيق العقل وعدم الرّويّة والمخالطة مع سكان الحواضر والمدن الأقرب إلى التمدُّن والتعليم وسلوك طريق المعرفة والخلاص من خلالهما.

فمثلاً بعد معركة عين دارة المشؤومة عام 1711 بين الدروز أنفسهم والتي كشفت كليّاً عن عقول متحجّرة بين الغرضِيّات والجماعات القبلية والمحلّية دون التفكير في الخسارة الكبرى التي ألمّت بسكان الجبل جميعهم إذ أفقدتهم قوّتهم العسكرية وعزّتهم الكيانيّة وكرامتهم الذّاتية وحتى حكمهم للشوف وتوابعه ليصبح الجميع أتباعاً وليسوا متبوعين. هذا بالنسبة للوجهاء والزعماء والشيوخ فكيف حال الفلاحين والفقراء والمحتاجين الضعفاء والذين اسودّت الدنيا في وجوههم فيمّموا إلى جبل حوران حيث سبقهم إلى هنالك أهلهم وأقاربهم.
شوفانيّ ما، بعد أن ضاقت به سبل العيش قرّر الانتقال إلى تلك الديار، أثناء سيره في سهل حوران ترافق مع بدوي وعند وصولهم إلى أحد مضارب البدو في السهل المذكور تقدّم البدوي من أحدى الخيم وطلب شُربة ماء، فخرجت فتاة حسناء بقدّها ووجهها الجميل وناولته قربة الماء… شرب البدوي وقال: التي لا نعرف اسمها لا نرمي السلام عليها..

أجابته الفتاة الحسناء: «في قبضة سيفك يا أخوي». وكان يتدرّع سيفه في وسطه. أجابها البدوي: السلام عليك يا فِتنة، كون السيف في أغلب الأحيان فتنة للقتال والشّر. غير أن البدوية أرادت أن تردّ السؤال بالمثل فقالت: ونحن أيضاً لا نقول هنيئاً للذي لا نعرف اسمه. أجابها البدوي من جديد: في وجهكِ يا مزيونة. قالت الفتاة والانشراح بادٍ عليها: هنيئاً يا جميل. أجابها الشوفانيّ وبعصبيّته المعهودة: « أنا عمّك بو قاسِم عالدّغري وعلاك بدّاوي بدّاش». ثم أكمل طريقه فيما بعد إلى أن وصل إلى مشارف بلدة عتيل قرب السويداء حيث التقى براعٍ يرعى غنمه فما كان منه إلاّ أنْ بادره بما يشغل باله ويدقر عنده عقله فخاطبه سائلاً: هل أنت قيسي أم يمني..؟ ضحك الرّاعي مطولاً وبعد فراغه من ضحكه واستهتاره بسؤال صاحبه أجابه: «والله يا خوي أنا سارحٌ مع غْنِمي»..

أما العِبَر التي عاصرتها في منطقتنا المحاذية لجبل الشيخ فمنها: أنّ رجل دين مسالم قُتل عام 1950 وهو في طريقه إلى بلدة «عُرنة» في المقلب الآخر من الجبل ودون أيّ ذنب، والذي أقدم على قتله راعي ماعز متحجّر العقل والفكر وكان يُلقب «أبو الحِن»، وحيال مثوله أمام القضاء استدرجه المُستنطق للاعتراف بجريمته النكراء قائلاً: «حقاً وصدقاً قد تأكد لنا أن القتيل كان يهودياً كونه أشقر اللون والشعر ويستحق العذاب والموت، لكن استحلفك بالله كم عصاً ضربته حتى مات؟» الرّاعي وبغفلة منه أجاب على الفور: «والله يا سيدنا مئة عصا وعصا ثم (دركبته) من رأس الجبل حتى أسفله وعند تفقّده وجدته قد مات».

في هذا الصدد كان يردد ويقول النائب والمحامي الأستاذ نسيب غبريل والذي كان يتوكل في العديد من الدعاوى المقامة بين السكان من رعاة وفلاحين وسواهما قاطني تلك النواحي أنّ سبب قساوة التعامل وسوء التصرف والكلام الفجّ في التعبير بين الفرقاء والنتائج والعواقب الحمقاء مردّه إلى طبيعة أرضهم ووعورة مسالكهم، وارتفاع جبالهم وانخفاض وديانهم، مما ينعكس ذلك على طبع وتصرفات أبنائها، كما وأن حياة هؤلاء بأكملها في البراري التي يسرحون فيها مع طروشهم، فمن أين تأتي المعرفة واللّياقة ومن أين يتلقَّوْنها، فلا مدارس ولا تواصل بينهم وبين أبناء المدن في وطنهم لهذا كانت عقولهم وآفاقها لا تتعدى سوى مراعي حيواناتهم.

أمّا في العصر الحالي، فالجهل هو الجهل قديماً أم حديثاً، وحيث إنّ العلم والمعرفة قد أصابا الجميع ومنهم سكان الحواضر والمدن عند السواحل أو في السهول الشاسعة، يبقى الجهل عند البعض مسيطراً وملازماً وسببه أن الجهل هو الجهل، وأسبابه متعددة ومتشابكة لأنّ الذين يتضلعون به أناس إمّا لم يدخلوا المدارس أو المعاهد مطلقاً، أوهم فقراء ومحتاجون ممّا يشجع البعض من رجال السياسة على استغبائهم والسيطرة على عقولهم لحاجتهم المادية إليها، فيحملونهم على الإقدام لارتكاب أعمال مُشينة وخطرة تجاه أخصامهم كالاغتيال والتصفية والقيام بأمور مُستَغرَبة حيث تسيء لسيرتهم وتعرقل مسيرتهم الاجتماعية. كذلك مثل البعض يرَون كلّ من لم يتّبعهم ولا يأتمر بأمرهم هو عدوٌّ لهم، ومثال على هذا فإنّه عقب اغتيال أحد الرؤساء العرب؛ سأل القاضي القاتل: لماذا أقدمت على ذلك؟ فأجابه: لأنّه علماني.. قال القاضي ويعني أيه علماني؟ أجاب القاتل: إنه يكره الدين، قال القاضي غير أن الرئيس كان يؤم الجوامع ويصلّي نهار الجمعة مع الجماعة؟ أجاب القاتل: هذا لا يكفي فعليه محاربة كلّ من هو غير مسلم.

الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ

وفي حادثة محاولة اغتيال الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ سأل القاضي المجرمَ الذي طعنه: لماذا طعنته؟ فقال الإرهابي: بسبب رواية أولاد حارتنا. قال القاضي: هل قرأت روايته أولاد حارتنا وما هو تعليقك عليها؟ أجاب القاتل: لا ولا أحسن القراءة..

وسأل قاضٍ آخر الإرهابي الذي قتل الكاتب المصري فرج فوده: لماذ اغتلت فرج فوده؟ أجاب القاتل: لأنه كافر. قال القاضي: وكيف عرفت أنه كافر؟ أجاب القاتل: من كتبه. قال القاضي: أيّاً من كُتبه عرفت أنه كافر؟ أجاب القاتل: أنا أميّ ولا أحسن القراءة.

العقل الضّيّق وحدوده

إنّه الجهل؛ وما أكثر أصحابه بين أبناء البشر قديماً وحديثاً وحيث إنّ العديد من أولئك البشر إنّما يكون إدراك عقولهم عند حدود أماكنهم البيئية، أو مساكنهم الريفية، لهذا فلا تجد مجالاً للمناقشة بل تقف أمام حائط مسدود، لا حول ولا قوّة ازاء ذلك. وما العبرة التي قدمها أبو علماء الاجتماع، ابن خلدون، عن هكذا حالات إلّا أصدق تعبير وأفضل تقدير:
قيل: «كانت ضفدعة تعيش في بئر صغيرة وُلدت فيها وبقيت تعيش فيها، وذات يوم سقطت في البئر ضفدعة أخرى كانت تعيش على شاطىء البحر، فدار بينهما الحديث التالي:
ـ من أين أتيت؟
– من شاطئ البحر؟
ـ هل هو كبير؟
– أوّاه طبعاً إنّه كبير جداً..
ـ وهل هو أكبر من هذه المسافة؟، بعد أن فتحت رجليها عن بعضهما..
– إنه أكبر بكثير..
فَغَرت ضفدعة البئر فاها من فرط الدهشة، ثم التفتت إلى رفيقتها سائلة: أتعنين أنّه بحجم البئر التي أعيش فيها؟ – أجابتها ضفدعة البحر: كيف يمكنك يا صديقتي تشبيه البحر ببئرك هذه..؟
عندها استغرقت ضفدعة البئر في تأمل عميق ثم قالت بينها وبين ذاتها: كلاّ لا يمكن أن يوجد مكان أكبر من هذه البئر، إنَّ هذه الضفدعة تكذب عليّ وتريد أن تتلاعب بعقلي وعليّ إمّا طردُها أو قتلُها فوراً…

عارفٌ الرَّيِّس (1928 – 2005)

تعودُ معرفتي الشخصيّة بالرسّام والنَّحّات اللبنانيِّ المُبدع المرحوم عارف الريّس، ابن مدينة عاليه اللبنانيّة الجَبليّة، إلى مطلع سبعينيّات القرن الماضي. كنت أسكن المدينة، غير بعيد عن مُحْتَرَفِه (أو القبو) كما كان يسمّيه. وكنّا شلّة صغيرة من المُتخرّجين الجامعييِّن الجُدُد، نخطف أقدامنا نحو أيّة تظاهرة ثقافية مُتاحة، في بيروت أو صيدا أو طرابلس، فكيف إذا كانت على مبعدة أمتار منّا. كانت عاليه في ذلك الزّمن مدينة الاصطياف والسّياحة الأولى في لبنان، وبخاصّة في أيام الصّيف، حيث تغدو المدينة بمنازلها وفنادقها الوجهة الدّائمة للزوّار العرب: من سوريا والعراق والخليج العربيّ على وجه الخصوص. وكان هؤلاء يحملون إلى مقاهي المدينة وأرصفتها ونواديها هموم جيل عربيّ جديد طموح يجدّ في البحث عمّا يؤمّن للأمّة وشعوبها فُرَص اللّحاق بركب المتقدّمين في ميادين العلم والمعرفة والثّقافة وكذلك الفنّ.

زرتُ شخصيّاً، وشلّة رفاق الثّقافة والسّياسة، الفنّان الريّس في محترفه غير مرّة، ويندر أن وجدناه مرّة واحدة وحيداً: كان في ضيافة مُحْتَرَفه باستمرار مثقّفون وفنّانون وصحافيّون وآخرون من مُقدّري فنّه من لبنان، كما من أقطار عربيّة شقيقة أخرى. وأذكر جيداً أنَّني التقيت في مُحْتَرَفِه في واحدة من الزّيارات تلك؛ الأميرة مَيّ، ابنة الأمير شكيب أرسلان وعقيلة الزّعيم والمفكّر اللبنانيّ الرّاحل كمال جنبلاط. وأذكر من اللّقاء ذاك مقدار المعرفة الفنيّة والثقافيّة التي كانت تُبديها الأميرة الرّاحلة في حديثها وتدخّلها مع الحضور أو مع عارف إذ كانت تمحضُه الإعجاب والتّقدير – وليس في الأمر ما يدعو للعجب فهي ابنة شكيب أرسلان ذات المنشأ الثّقافيّ في جنيف ثم رفيقة أحد أبرز المثّقّفين اللبنانييِّن قبل أن تنتزعه يوميّات السياسة بعيداً عن ساحته الأحبّ والأقرب؛ الثّقافة.

أمّا مُلاحظتي الثانية من زياراتي المعدودة تلك، أواسط السبعينيّات، فهي التحوُّل الواضح الذي بدا على عمل الفنان عارف الريّس آنذاك، أواسط السبعينيّات، واهتمامه المتزايد، أو ربما تحوُّله على ما قال نقّاده بعد ذلك، نحو فنّ «الكولاج»، أي التّركيب الحُرّ لقُصاصات ورقيّة صحافيّة أو لقطع قماشيّة أو خشبيّة في تشكيلات لها معان (أيديولوجيّة في الغالب) أشدّ قوّة وصُراخاً ممّا تقدّمه أو توحي به اللَّوحة أو المنحوتة. كانت تلك مرحلة جديدة في التطوّر الفني لمسيرة المبدع عارف الريّس التي بدأت أواخر الأربعينيّات، ولعلّها بلغت في أواسط السبعينيّات بعض الجفاف، أو «عصيان الألوان» وفق تعبيره الشّخصيّ في ندوة لاحقة له.

وُلِد عارف نجيب الريّس في مدينة عاليه، ونشأ فيها، بين كتب مكتبة والده حيناً ومُناخ المدينة المُزدهرة حيناً آخر. لكنّ طموح والده دفعه للسّفر إلى بلاد السّنغال يبحث عن ثروة له على طريقة معظم اللبنانييِّن الذين اتّجهوا إلى بلدان إفريقيا في ذلك الوقت. وبعد مشاكل صحيّة خطيرة لم تبرح عارف الصّبي، التحق عارف الشابّ وقد ظهرت بوضوح مهاراته الغزيرة في الرّسم، بوالده في السّنغال. لكنّه لم يستهدف الالتحاق بمهنة والده في التّجارة وإنّما لاستكشاف سحر إفريقيا الذي بدأ يتعرّف عليه في دراساته الفنيَّة.

قضى عارف الشابّ فترة مُثيرة من شبابه في مناطق نائية من البلاد تلك. فقضى الكثير من وقته على ضفاف نهر «الكورمونز»، غير بعيد عن التماسيح فيه، أو عن الجماعات البدائيّة في محيطه التي تحتفل بكلّ حدث في حياتها بإشعال النار والغناء والرّقص في حياة بريَّة عفويّة حرّة تامّة لم تبرح مُخيّلة عارف إلى زمن بعيد. رسم عارف ذلك الفنّ الإفريقيّ الصّافي وحمل لوحاتِهِ إلى باريسَ مطلعَ الخمسينيّات بهدف إقامة معارض له هناك. لكنه فوجئ، على ما يروي زميله في باريس نقولا النمّار، أنّ باريس الفنيّة مُتطلِّبة جدّاً وأكثر بكثير من عفويّة «الفنّ الإفريقيّ»، وأنّها في حراك مُجرّد مُعقّد وأكاديمي. وعليه فقد التحق عارف في باريس بمُحترَف الفنّان فرنان ليجيه للرّسم، ثم مُحترَف أندريه لوت وهنري غنيز للحفر، وربّما مُحترَفات عدّة أخرى أيضاً.

عاد بعد ذلك إلى بيروت، وبسبب من مُشاركتِه في معرض فنّي في السّفارة الإيطاليّة نال منحة دراسيّة من الحكومة الإيطاليّة لدراسة الفنّ في بلاد الفنّ، وهناك تنقّل عارف في إيطاليا بين روما وفلورنس وميلان والبندقيّة فتعرّف على آيات الإنتاج الفنّي الإيطاليّ الذي هَيمن أعظم فنانيه طوال القرن السّابعَ عشَرَ على الفنّ الأوروبي، وعاد من تجربته تلك بمزيد من التّشكيل والغنى والتّعقيد لروحه الفنّي المُبدع والخلاّق.

ومن بيروتَ إلى نيويوركَ، هذه المرّة، إذ شارك في مسابقة لمعرض نيويورك الدَّوْليّ بمنحوتة «الفينيقيّ»، فحازت على جائزة المعرض، وكانت سبباً لإقامةٍ في بلاد العمّ سام استمرّت خمسَ سنواتٍ، كان فيها دارساً، طالباً، مُنتجاً، زادت من معرفته باتّجاهات الفنّ الحديث، ومسرحها نيويورك، فكان أن اشترك في أكثر من معرض جماعي فيها، بل وأقام معرضاً مُنفرداً. انتقل عارف بعد ذلك إلى المكسيك للتعرّف على فنون أمريكا اللّاتينية، لجهة موضوعاتها النّضاليّة الغنيّة، كما لجهة أدواتها وأشكال التّعبير فيها، فكانت مرحلة جديدة ستجد تعبيراً صارخاً لها في السّلسلة النضاليّة (التشكيليّة/الكتابيّة) التي بدأ عارف بعد عودته إلى لبنان بإصدارها، (رؤى من العالم الثالث)؛ فكانت بعض موضوعاتها: باتريس لومومبا، وكاسترو وغيفارا والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة والمقاومة الفلسطينيّة، والحركة الوطنيّة اللبنانيّة وسواها، والتي بلغت ذروتها في إصداره «البيان التّشكيليّ»، كما لو كان بديلاً /أو فرعاً/ تشكيليّاً للبيان السياسيّ الذي لم يهتمَّ به كثيراً.

بعد عودته النهائيّة إلى لبنانَ، استقرَّ في مدينة عاليه، فحوّل (القبو) الحجريَّ في منزله إلى مُحترَف واسع تملأه الفوضى من الدّاخل، ولكن تحفُّ به من الخارج أحواضُ ورد وزهور وأقاحين. وفي الفترة تلك كان عارف شريكاً رئيساً في تأسيس «جمعية الفنانين اللبنانييِّن»، وفي تحويل الألباب إلى أكاديمية الفنون الجميلة، أو معهد الفنون الجميلة لاحقاً، ثم في اقتراح مناهجه، وأخيراُ مدرّسّاً فيه لأكثر من عشرين سنة.
لعشرين سنة لاحقة استقرّ عارف أستاذاً مُمَيَّزاً في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة، وكانت فترة استقرار له وقد بدأ الاتّكاء على عصا، فكان زملاؤه أهمّ الفنانين التشكيلييِّن اللبنانييِّن، كما ترك تدريسه وإشرافه بصمات خلاّقة حرّة (وأحياناً فوضويّة) في الكثير من طلّابه.

في فترة نُضج عارف الأخيرة، حدث ما يشبه (الهزيمة) للفنّان المُتمرّد، الثائر، الحرّ، الفوضويّ، وبعض أسباب ذلك ما خَبِرَه في الحرب الأهليّة اللبنانيّة، أو ما رافقها، من نتائج وتناقضات وتداعيات لبنانيّة وعربيّة قتلت في عارف الكثير من الأحلام والطّموحات والمبادئ الصّافية التي نشأ عليها، «وهو ما دفع بالمرحوم كمال جنبلاط؛ القائد السّياسي الكبير»، على ما يروي الفنّان التشكيليّ اللبنانيُّ عُمران القيسيّ، «لأن يطلب مني بالذّات جمع رسوم عارف الريّس عن الحرب اللبنانيّة في كتاب مُستقلّ مع دراستها دراسة فنيّة وسياسيّة، كان ذلك في العام 1977» («ملحق الخليج الثقافي»، 29/4/2013)

تحوّل عارف في أثناء ذلك إلى إنتاج الجداريّات والمنحوتات الضّخمة، فشارك منذ الثمانينيّات (التي قضى معظمها خارج لبنان بفعل ظروفه الأمنيّة يومذاك) في نحت بعض مُجَسّمات ساحة مدينة جدّة، كما في تشكيل وتزيين بعض معالم جدّة وتَبوك. كذلك رست عليه مهمّة تقديم المنحوتة الأماميّة الرئيسة لجامعة الملك عبد العزيز في الرّياض. كانت فترة إقامته الطويلة في العربيّة السعوديّة فرصة له للتعرّف على أشكال الإنتاج الفنّي الصّحراويّ، وكانت تلك أولى محاولات تحديد هُوِّيَّة الفنّ الصّحراويّ ومِيزاته.
أنتج عارف في الفترة تلك أيضاً جداريّة «الأوبيسون» لصالح مبنى مُنظَّمة الأونيسكو في باريس، وأعمالاً مُماثلة أخرى لغير جهة.

هذه بعض كرونولوجيا الفنّان التشكيليّ المبدع المرحوم عارف الريّس.
لكنّ عارف الريّس لا يُختزل البتَّةَ في سنوات، أو في أعمال ملموسة، مهما بلغت من الانتشار. كان للتَّنوُّع المُدهش في ثقافته واهتماماته ومضامين أعماله، كما لأُسلوبه المُتميّز،الأكاديميّ/الحرّ في آن معاً، من التأثير العميق في زملائه وطلاّبه، وفي جيل كامل من الفنَّانين، ما غدا موضع إجماع من معاصريه كما من دارسيّ تطور الفنّ التشكيليّ اللبنانيّ. وبسبب من محدوديّة المساحة المقرّرة لهذه المادّة، أكتفي ببعض شهادات معاصريه أو الذين كتبوا أو بحثوا فيه بعد رحيله الهادئ سنة 2005.

بين عدد كبير من شهادات فنّانين لبنانييِّن وعرب، نكتفي بشهادتين، لعُمران القيسيّ ومحمود شاهين. كتب الفنّان التشكيليّ اللبنانيّ عمران القيسي في عارف الريّس بعد سنوات من رحيله يقول:
«هل يترك موت الفنّان فراغاً كبيراً؟ وهل يؤثّر هذا الفراغ في صورة وتكوين حركة فنّه في حِقبة زمانيّة قلقة؟ بالنسبة إلى الفنان اللبنانيّ الراحل عارف الريّس، نستطيع أن نلمس بكل حواسّنا، ونشعر بكل مُدْرَكاتنا العقليّة، أنّ رحيله ترك فراغاً خطراً على صعيد الحركة الفنيّة التشكيليّة التعبيريّة في لبنان بل إنّ جيلاً من الرّاحلين أثَّروا بما لا يقبل الجدل في المسار الاختباريّ للحركة الفنيّة اللبنانيَّة….عارف الريّس (كان) العمود الثاني لحركة الفنّ اللبنانيّ المعاصر، مقابل العمود الأوّل المتمثّل في الفنّان اللبنانيّ بول غراغوسيان.»

وبمناسبة رحيله أيضاً، كتب الفنّان التشكيليّ السوريّ محمود شاهين ما يلي:
«عارف الريّس غادر (قبوه) أخيراً… ما عادت تهرب الألوان منه… ولا تأتي إليه، لكنّه ترك ما سيبقى يشير إليه ويدلّ على الفعل الخلاّق، الجميل والمُبدع، الذي أضافه للحياة، مُكَرِّساً وجهها المُشْرِق وسحرها المُفْعَم، وسعادتها الحقيقيّة التي لا تتكشف سوى على المبدعين الحقيقييِّن… وعارف الريّس كان واحداً منهم بكلّ تأكيد.»

الفنّان التّشكيلي اللبنانيّ عارف الريّس، وباختصار، مَعْلمٌ بارز في تاريخ الفنّ التشكيليّ اللبنانيّ، وصاحب بَصمات حفرت عميقاً في اتّجاهاته، لجهة المضامين والأساليب في آن معاً. وما تأثيره العميق ذاك غير الخلاصة المنطقيّة لمواهبه الإبداعيّة التي ظهرت باكراً، ثم لإصراره ومثابرته على الدراسة الأكاديميّة في أهمِّ المُحْترَفات، ولإصراره العجيب ثالثاً على اختباره الشخصيّ، جسديّاً وفكريّاً وروحيّاً، للموضوعات التي اشتغل عليها، وسيبقى مُحْتَرَفُه الفنِّيُّ علامة مضيئة أخرى في تطوّر الحركة الفنيّة اللبنانيّة، أو مرّة أخرى وبتعبير الفنان عمران القيسي: «سيبقى (عارف الريّس) القطب الذي طَبع حركة التّشكيل اللبنانيّ بطابَعِهِ الذاتي العميق». (مُلحق الخليج الثقافي، 29/2/2016).

عارفٌ الريّسُ، بنتاجه الفنِّيِّ وفي كلّ مجال تشكيليّ، وصولاً إلى الكولاج والحروفيّة، وحتى الشّعر، بمروحة موضوعات اختبر شخصيّاً معظمها، وبأكاديميّة رفيعة لجهة الأساليب وأدوات التّشكيل والتّعبير، وبسُخْرِيته السّوداء المُرّة، بعينين لا تتوقّفان عن التّحديق، بلحية كانت لا تستقرّ بين سواد تمرُّدِه وبياض نضوجه، وبعصاه أخيراً يتكئ عليها وكأنّه يُقفل على زمن بأكمله: عارف الفنان المُبدع الخلّاق عَصِيٌّ على الموت، بل لعلّه رحل، كما قال فيه زميلُه في باريس الفنّانُ والمُهندس المُبدِع نقولا النّمّار، «إلى عالم أفضل وأجمل من عالمِنا هذا.»

لا لكلِّ تفكيرٍ طائفيّ،

لم أكن في تاريخي الثّقافي والسياسي يوماً غير وطنيّ عروبيّ إنسانيّ، عقلانيّ التفكير، بعيداً عن كل مرض طائفي أو عنصري؛ وعليه فما أخطُّه في هذه الكلمة ليس دفاعاً عن الدروز كطائفة – هذه ليست مهمّة رئيس التحرير – وإنَّما دفع بالكلمة لظلم فادح وقع عليهم منذ حين؛ دفاع عن الحقوق الإنسانية والوطنية ومطلب العدالة لكل جماعة إنسانية، وهو واجب أخلاقي قبل أن يكون حقّاً من حقوق الإنسان.

لم يخطئ شوقي أمير الشعراء حين دافع عن الدروز سنة 1925 في ما أصابهم من عَسفِ الفرنسيين المحتلِّين لسوريا آنذاك وعنفهم، إذ فقدوا بين سنتي 1925-1927 ما يقارب ربع رجالهم في جبل العرب جَرّاء الغارات التدميرية لطيران الجيش الفرنسي ودباباته ومشاته، وكان يومذاك جيش البرّ الأوّل في أوروبا، في ذلك يقول شوقي:

وما كان الدروزُ قَبِيلَ شَرٍّ            وإنْ أُخِذوا بما لم يستحقُّوا

تلك عَيِّنَةٌ فقط من تضحيات العشيرة المعروفيّة في المشرق، وبخاصة في لبنان وسوريا، طوال تاريخها اللّافت الذي أمتدّ لألف سنة، منها 800 سنة في إمارة جبل لبنان، لم تعرف البلاد فيها فتنة طائفية أو مذهبية واحدة، بفعل الحكم الرَّشيد لأمراء جبل لبنان من الموحِّدين الدروز – والذي ما إن آل الحكم فيه إلى بشير الشهابي الثاني حتى غرقت البلاد سريعاً في كل أنواع الفتن، من الطائفي والمذهبي والعشائري المَحلِّي، إلى اصطفافات إقليميّة متقلّبة، جَرَّت الويل على البلاد فأدخلتها سياساتُه الرعناء في فتن لم تنتهِ إلّا بمغادرته على بارجة بريطانية إلى منفاه في مالطة. لكنَّ فساد سياسته استمرَّ مع خليفته الضعيف، بشير الشهابي الثالث، فدخلت البلاد – وسط عالم متغيّر عنواناه: ضعفٌ عثمانيٌّ متمادٍ مقابل هجوم أوروبيٍّ سياسيٍّ واقتصاديٍّ بالغ القوَّة، بل غير مسبوق منذ الغزوات الفرنجيَّة في القرن الحادي عشر ميلادي. وكانت النتيجة الطبيعيَّة لفقدان التوازن ّ وقوّة التدخّلات الخارجية أن اندلعت أحداث 1841، 1842، 1845، وذروتها أحداث 1860 المشؤومة: أحداثٌ أُسميت طائفية وهي ليست كذلك إلّا شكلاً، فيما هي في حقيقتها حروب سياسيَّة واقتصادية واجتماعية مُعَقّدة متداخلة، برداء طائفي خادع. لقد أُدخل اللبنانيون، دون استشارتهم في حروب وفِتَن لا يدَ لهم فيها، ولم تكن لهم القدرة على منعها، فحدَث ما حدَث. ومع ذلك جرى تحميل الدُّروز ظلماً، وكانوا قلَّة قليلة، خسائر تلك الحروب التي فقدوا فيها أكثر من 4000 رجل، وسيق المئات منهم إلى المنافي في الأناضول وطرابلس الغرب والبلقان، عدا النَّهب الواسع الذي جرى لممتلكاتهم وأرزاقهم وأوقافهم.

كما أنّ تضحيات العشيرة المعروفية في جبل العرب لم تكن أقلّ من ذلك، بل أكثر فداحة بكثير. إذ أشبع الولاة العثمانيون الجشعون الجبل غزوات وغارات طمعاً بمحاصيله الزراعية، أو لكسر شوكة وكرامة أبنائه، وهي أغلى لدى المعروفيين من الرزق والمال وحتى الأرواح. ولمعرفة فداحة ما تحمّله جبل الدروز من عسف أولئك الولاة وغزواتهم.

وشكّلت ثورة جبل الدروز لثلاث سنوات 1925-27 ذروة مواقف العشيرة المعروفية في السياسة والوطنية والقومية. فقد عوقب جبل الدروز أشد العقاب لأنَّه رفض القبول بدويلة درزية على حساب وحدة أراضي الدولة السورية المُرْتجاة وكيانها الإداري، وكانت عاقبة رفضهم ذلك حرباً عسكريّة ثقيلة شعواء على جبل العرب، ردّ عليها المعروفيون بثورة وطنية قومية من الدرجة الأولى، بقيادة سلطان باشا الأطرش، وتحملوا في سبيلها ما لم تتحمله جماعة من عَسف وظلم وقصف وتهجير ومنفى. فقد هُزمت الثورة عسكريّاً نتيجة تواطؤ فرنسي-بريطاني، وأُجبر قائد الثورة سلطان الأطرش، ومعه المئات من مقاتليه – ونسائهم وأطفالهم – أن يغادروا إلى الأزرق في الأردن، ثم أَبعدَ من ذلك إلى صحراء وادي السّرحان شمال العربية السعودية حيث عاشوا لسنوات ظروفاً معيشية ومناخية قاسية أسطورية، صارت روايات على كل لسان، لما احتوته من جوع وعطش، ومن موت أطفال في هجير صحراء لا ترحم، وبعدما شاع خبر مجاعتهم، أرسل مفتي القدس الحاج أمين الحسيني ممثّله السيد أكرم زعيتر ليستقصي أحوالهم، فهاله ما رأى من شظف العيش وشاهد سلطان قائد الثورة لثلاث سنوات خلت؛ يحتطب من أمكنة بعيدة ليؤمن لعائلته الموقد والنار والدفء وسط قَرِّ الصحراء وقريرها. ولعل أكثر ما هال أكرم زعيتر أن يرى الثوار المنفيين لا يملكون إلا «ملاعق خشبية» صنعوها ليأكلوا هم ونساؤهم وأطفالهم بها. ولم يتردَّد الحاج الحسيني أن يضع الملاعق تلك، بعدما جاءه بها أكرم زعيتر، في رُكنٍ مميّز من المسجد الأقصى، وجعل فوقها عبارة: تلك هي عدّة كلِّ مناضلٍ حقيقي صاحب قضية مُحِقَّة.

أكرم زعيتر

أمّا جريمة المعروفيين الدروز، ثوّار 1925-27، فهو تصدِّيهم للاستعمار الفرنسي ورفضهم تقسيم سوريا إلى عدّة دويلات طائفية، بل رفضهم دولةً درزيَّةً عُرِضَت عليهم، لها علَمُها وكيانُها وحدودُها، ورئاستُها لآل الأطرش.

ذلك هو تاريخ المُوحّدين الدروز الحديث، من إسقاط مشروع الدولة الطائفية التقسيمية في سوريا، بقيادة سلطان باشا الأطرش، إلى إسقاط كل مشروع إسرائيلي في لبنان طوال حربهم الطويلة 1975-1990، وذروتها إسقاطهم حصراً وبفعل صمودهم في حرب الجبل لاتفاقية 17أيّار المُذلّة التي فُرضت على لبنان بُعَيْد الغزو الاسرائيلي سنة 1982.
ومقابل ذلك، وبكل صراحة: لا شيء تقريباً ممّا كان يجب تقديمه لِتُوفى العشيرة العربية المعروفية حقها، لاحتفاظها المُكلِف بشعلة الكرامة، وإشعالها لأوَّل حرب تحريرية في الشرق ضد الانتداب الأجنبي على سوريا ولبنان، وإسقاطها من ثمة كل مؤامرة تمس وحدة البلدين أو عروبتهما.
وبسببٍ من محدودية ما نال جبل العرب وجبل لبنان الجنوبي من خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، بدا التعليم هو الميدان الأكثر اتساعاً وديمقراطية أمام أبنائه، إلاّ أنّ العجز عن استيعاب مُخرَجات التعليم المتوسع ذاك أحال العملية إلى تخريج عاطلين عن العمل، أو موظفين إداريين هامشيين، وإلى مشروع هجرة ونزف في البلدين نحو الخارج. ولطالما جرى التحذير أن الفقر والبطالة والتهميش والإقصاء هي قنابل اجتماعية وسياسية موقوته، لا ينزع فتيلها غير التنمية المتوازنة والاندماج الوطني المواطني، والديمقراطية – صمّام الأمان لكل المجتمعات المركّبة.

ومع ذلك، وعلى المستوى الاستراتيجي، لا حلول طائفية حقيقية لأيّة طائفة، لا في لبنان، ولا في أي قطر عربي. الحل الطائفي وإن بدا مُغْرياً ليوم أو يومين فهو قاصر عن أن يؤمِّن الاستقرار والتنمية والديمقراطية على المدى البعيد.

كل الحلول الطائفية مآلها الإخفاق وكل حلّ طائفي لأيّة مشكلة هو مشروع مشكلة أكثر خطورة وأدهى نتائج وتداعيات. وعليه يجب إزالة هذا الوهم من الأذهان: لا حلول طائفية، ولا عدالة طائفية، كلُّها ألغام وأفخاخ أَدرك فشلَها وخطرها وحذّر منها روّاد العروبة الأوائل في نظريّاتهم القومية منذ ما يقرب من مئة سنة.
ومن لم تقنعه النظرية، فليقرأ وقائع السنوات الثلاثين الأخيرة في العالم العربي، حيث تراجع المشروع القومي الجامع لمصلحة الحساسيّات المحلية الطائفية والثقافية والعشائرية، فإلامَ قادت الحلول الطائفية المُرتجاة أو المزعومة في العالم العربي؟ لقد أوصلت المجتمعات العربية إلى الخراب، بكل أشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لا مشروع حلٍّ طائفي يؤتمن لأيّة مشكلة تتعلّق بالمكوّنات الطائفية والإثنية…
المشروع الحقيقي الذي يمكن الوثوق به، والرّهان عليه، هو المشروع الديمقراطي، الوطني، العروبي الجامع.

العدد 32 – 33

هذا العددُ هو حاصل جمع عددين، 32 و33. القاعدةُ المعمولُ بها هي أن تصدر الضّحى أربعة أعداد في السنة الواحدة: كلّ عدد في موعده، أي مطلع الشهر الأول من كل فصل. تلك هي القاعدة التي التزمت بها الضّحى دائماً، إلّا أنّ ما جرى في لبنان منذ تشرين أوّل 2019 وإلى يومنا هذا كان خارج القاعدة، كل قاعدة، وإلى أقصى الحدود. فما اجتمع في أقل من سنة واحدة في لبنان لا يجتمع غالباً إلّا في سنوات، أو ربما عقود. في أقل من تسعة أشهر انهارت قيمة العملة الوطنية أمام الدولار ناقص خمسة أضعاف، ومعها انهارت مداخيل اللبنانيين على نحو لم يحدث من ثلاثين سنة على الأقل. بات 300 ألف لبناني خارج أعمالهم. انهارت حكومة وتشكل غيرها ثم انهارت هي الأخرى، تاركة السواد الأعظم من اللبنانيين دونما أية مظلّة اجتماعية أو اقتصادية أو حتى أمنية. وكان حجب المصارف لودائع الناس، فتفجّر غضب الشارع. سُدّت الساحات والطرق، وعمّت الفوضى، وانقطع الانتظام العام في كل باب. ثم ثالثة الأثافي، موجة متصاعدة من جائحة الكورونا شلّت البلاد وعطّلت الأعمال بل وفرضت منع التجوال لأيام وأحيانا لأسابيع، على تقطّع. أما رابعة المصائب فكانت كارثة، بل جريمة، انفجار مخزون العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت في 4 آب، 2020، الذي دمّر ثلث العاصمة اللبنانية، كلّياً أو جزئياً. وعليه، لم يكن في وسع الضّحى إلّا أن تكون في الحجر الصحي والاجتماعي والاقتصادي والأمني، والنفسي، كما سائر اللبنانيين، وتعطّلت بالتالي إمكانية الطباعة والتوزيع إلى أقصى حد. هذه هي الظروف التي ألزمتنا جمع العددين 32 و33 في عدد واحد. لكننا عوّضنا إرباك المواعيد بزيادة عدد الصفحات، وبتحقيقات مهمّة جداً من جبل العرب ولبنان (معركة حماية وادي بسري من جشع السماسرة)، واستكمال حلقات الشيخ الجليل العارف بالله أبو حسين محمود فرج ورفاقه، إلى الفقرات التربوية الاستثنائية من اللجنة العلمية في «العرفان»، وأخيراً الفقرات الاجتماعية والثقافية، والإبداعية والصحية والزراعية. نأمل أن ينال التنوع الواسع أعلاه رضا قرّاء الضّحى ، وهم غايتنا، أوّلاً وأخيراً.

أفلاطون والبُعْد الهَندسي الرُّوحاني للكون في مُحاورة “تيماوس”

 

لطالما أَسَرَت صورةُ الكونِ المَخلوق بإرادةٍ إِلَهيّة، وبحكمةٍ عقلية عُلْوية، خيالَ أجيالٍ عديدة من الفلاسفة والمُفكِّرين واللّاهوتيين عبر العصور، لا سيّما كما تتراءى في مُحاوَرة «تيماوس» (Timaeus – Τίμαιος)، التي سعَى أفلاطون من خلالها إلى الردّ على الأسئلة الفلسفية التي سادَت قبل عصر سقراط، حول نشأة الكون وأصل العالم المادي المحسوس، بحقائق ميتافيزيقية متناغمة وموحَّدة، آلفت ما بين العناصرَ التقليدية الأربعة، الماء والهواء والأرض والنار، كما تصوّرها الفلاسفة طاليس (Thales) وأنكسيمندر (Anaximander)، وأنكسمينيس (Anaximenes)، وهراقليطس (Heraclitus) وجمعها معاً إمبيدوقليس (Empedocles)، لكنّها بحد ذاتها مؤلّفة مِن أشكالٍ رياضيّاتية هندسية تُحدّد كينوناتها مُثّلثات متشابهاتٍ وغير متشابهات، وهذا بالطبع تأثُّراً بالفكر الفيثاغوري. ولذلك شكَّلت مُحاوَرة «تيماوس» مُنطلقاً أساسياً لعِلْم «الكونيات» و»نشوء الكون» وحتى عِلْم الذرّة!.

الـ «ديميورج» والبُعد الأخلاقي الديني

يُوضِح أفلاطون في هذه المُحاوَرة سرَّ النظامَ والجَمال والتناغُم والتناسُب في الكون، فهو بالنسبة إليه تُحفةُ «صانعٍ» إِلَهي، و»أبٍ» عَقلانيّ، يسمّيه الـ «ديميورج» (Demiurge – dēmiurgós – δημιουργός)، الذي أَوجدَ الكون (Cosmos) «الحي» صورةً عن نموذج أزلي لا متغيِّر (منطوٍ فيه كما تشير محاورات أخرى ووفق تفسير الأفلاطونيين الجدد لاحقاً)، وعمّم فيه نظاماً رياضياتيّاً ونفْساً كونية وأوجد «الزمن» بحركة الكون الوليد. وهذا «الديميورج» عاقلٌ للمُثُل الأُوَل ومحرِّكٌ لكلّ قِوَى الكون دونَه وفق مبدأ «غائي» (teleological) عقلاني. وهو بالتالي «خيرٌ أسمى» عُلْوي لا مثالبَ فيه (في انتقادٍ واضح لمفهوم الآلهة الإغريق الوثنيين، وعلى رأسهم زيوس، الذين تملأهم الغيرة والحسد والكراهية والشّر والتنافس). ولأنّه خيرٌ سعَى إلى أن يكون الكون الذي أوجدَه «بديعاً وجميلاً بقدر ما أمكنه»، متَّخذاً نموذجاً له عالَم المعقولات، المُثُل الأزلية، لا المحسوسات، ظلالها المادية على الأرض.

تنطوي مُحاورة «تيماوس» بالتالي على بُعدٍ أخلاقي وديني. وقد اعتبر الباحثون أنّ هذه المُحاورة هي ذروة الإنجازات الفكرية والفلسفية لأفلاطون (ولذلك حرَصَ الرسّامُ الإيطالي رافاييل على رسم أفلاطون في لوحته الشهيرة «مدرسة أثينا» مُمسِكاً بكتابه «تيماوس») بل نقطة مِفصَليّة في تاريخ الفلسفة، وهي تُثبِت أنّ الغاية القصوى لجميع أعمال أفلاطون دينية!

لوحة «مدرسة أثينا»

تبدأ مُحاورة «تيماوس» مع أربع شخصيات: سقراط وتيماوس وكريتياس (Critias) وهيرموكراتيس (Hermocrates)، حيث يسعى الثلاثة إلى الردّ على خطابٍ لسقراط ألقاه قبل يومٍ من وحي «الجمهورية». فوصل الدور إلى تيماوس فاستهلّ خطابَه مستَعرِضاً المبادئ الميتافيزيقية التي سيستند إليها في سَرْدِه عن نشوء الكون المُفضِي إلى خلق الإنسان. فبدأ بالحديث عن شخصية «الصَّانِع» ذلك الوسيط الإِلَهي العاقل «نوس» (العقل الكوني وهو المبدأ الذي تحدَّث عنه الفيلسوف أنكساغوراس Anaxagoras) وكذلك عن النموذج الأزلي (المُثُل). وقد وجد شارحِو نصوص أفلاطون صعوبةً في استجلاء حقيقة موقفه من «الديميورج» وهو فوق المُثُل وصورها في مُحاورة «تيماوس» حيث يقول: «إنّ صانِع وأب الكون يصعُب اكتشافه وحتى عند التمكُّن مِن ذلك مِن المُتعذِّر توضيحه لجميع البشر». وعندئذ أكّد أنّه فقط يطرح سرداً مُرجَّحاً أو مُحتملاً (eikos) عن طبيعة الكون «فأنا السَّارِد فَانٍ وأنتُم المُستَمِعون فَانون». وهنا يشدِّد الباحثون على وجوب ألَّا تُقرأ مُحاوَرة «تيماوس» حرفياً بل مَجازياً، إذ ثمة إشارات في مُحاوَراته الأخرى (ومنها «بارمينيدس» Parmenides) إلى أنّ «الديميورج» هو أيضاً مخلوق و»وسيط للواحد» للمباشرة بهذه المهمة، وهو ما سادَ لدى الأفلاطونيين منذ تلامذة أكاديميته وصولاً إلى فلاسفة «الأفلاطونية المُحدَّثة» وعلى الأخص أفلوطين (Plotinus).
وتنتظم المُحاورة في ثلاث مراحل: الأولى تتحدَّث عن إنجازات «الديميورج»، ومن ثم عن تأثيرات «الضرورة»، وأخيراً عن الحقيقة السيكولوجية للإنسان.

ويتحدّث تيماوس بعدها عن الحكمة الغائية من وراء خَلْق الكون، فالكونُ خيّرٌ لأنّ مصدره «الخير الأسمى»، أي «الصَّانِع»، وهو كائنٌ حَي «لأنّه مهيَّأ للعقل»، وهو فريدٌ لأنّه على مِثَال نموذجٍ أعلى. وجسدُ الكون كروي مؤلّف من نار (للرؤية)، وأرض (للّمس) (لكن في ما بين هذَين العنصرَين هناك واسطة عُنصرَي الهواء والماء بالتناسُب لتدمُج في ما بينهما في كُلٍّ مُوحَّدٍ ومتناغِم). والأجرام السماوية مقدَّسة، وتتحرّك في أفلاكٍ مختلفة كعلاماتٍ للوقت، وكذلك النجوم الثابتة كدلالةٍ على الليل النهار، وحركة القمر مقدّرة للشهر القمري وحركة الشمس للسنة. وقد وُجِدَ الزمنُ بحدّ ذاته بفضل هذه الحركة السماوية بصفتها «صورة للأزلية».

ويقول «أوجدَ «الصَّانِعُ» الشمسَ، والقمرَ، والكواكبَ لكي يستحدث الزمن. وهذه الكواكب تُدعَى «سيَّارة» وتحرس الزمن… والناسُ يجهلون واقع أنّ الزمن هو حقّاً حركة تلك الأجسام السَّيّارة».
وبالتالي تؤكّد مُحاورة «تيماوس» بداية الكون في زمنٍ، وكذلك بداية الزمن بحدّ ذاته ببداية الكون وحركته (ويبدو الكون صورة متحرِّكة عن عالم المُثُل وكذلك الزمن هو صورة متحرِّكة عنه أيضاً أشبه بساعةٍ سماوية).

«إنّ هذا الكونَ البديع المُتناغِم بتناظُرٍ هندسي هو تحفةٌ لعقلٍ كوني لولاه لَمَا كان ثمة وجودٌ ولا نظام»
«مُحاورة تيماوس ببُعدها الهندسي الرُّوحاني هي مُنطَلقٌ لعِلم الكونيّات وعِلم الذرّة».

ومن ثم ينتقل إلى خَلْق «نَفْس الكون» بتناسُبٍ متناغِم، وقواها الإدراكية بالنسبة إلى «ما هو كائن» أو عالَم المُثُل العقلية، وما هو سيكون أو عالَم «الصيرورة» الفاني. والأَنفُس الفردية جزءٌ من هذه النفس الكونية تستوطن أجساداً مادية. ويقول أفلاطون إنّه بالتربية والتعليم المناسبَين تسترجع النَفْسُ ذكرى مصدرها العُلْوي، وإنّ الجسدَ وأعضاءه قد صُمِّموا لدعم هذا الهدف الأرقى، ويأخذ تيماوس مِثالاً على ذلك تصميم العينَين وآلية الرؤية. ليُلمِح إلى أنّه في ذلك التناغُم بين النفس الفرديّة ونفس الكون تكمن الفضيلة والسعادة.
ويُؤكّد تيماوس أنّ هناك فارقاً بين «ما هو كائنٌ دائماً ولا صيرورة له وما يكون أو يصير ولم يكن أبداً». ويُوضِح برابطٍ إبستمولوجي أنّ الأول يتم استيعابه بـ «الفَهم» (noèsis) و»التفكير العقلاني» (logos)، أمّا الثاني فعبر «الرأي والقياس» (doxa) الذي يعتمد على «الإدراك الحِسِّي»، وهو ما أشار إليه أفلاطون في «الجمهورية» بتمييزه بين الصور أو المُثُل العليا وعالم المحسوسات أي عالم الصيرورة بعد وجود الكون. ولم يُشِر تيماوس إلى الصور أو المُثُل إلَّا في وقتٍ لاحق من المُحاورة في إجابةٍ على ما سَبَق وجود المحسوسات.
وهذا البسط الميتافيزيقي وبُعده الإبستمولوجي يُمهِّدان لنظريّته في نشوء الكون المادي على أيدي «الصَّانِع»، «الخير الأسمى» لغايةٍ علوية.

الذرّات الهندسية

 

في الجزء الثاني الرئيسي من مُحاوَرة «تيماوس»، ينتقل أفلاطون إلى السؤال الفلسفي القديم: ممّ صُنِعَ الكون؟ وقد جاءت إجابته بمثابة تآلُفْ بين مختلف الأفكار الفلسفية التي سَبَقته.. بل تعلوها وترتقي فوقها لتُحلِّلها بأشكالٍ رياضياتيّة هندسية. يتحدَّث أفلاطون كيف بدأ «الصَّانِعُ» بإنشاء العناصر الأربعة للوجود المادي (النار الهواء الماء الأرض) لتكون لَبِنات البناء الرئيسية للكون. وكلٌّ من هذه العناصر يتألّف من جُزيئات أوّلية هي أشكالٌ هندسية منتظمة تملك أوجهاً تتألّف بدورها من نوعَين فحسب من المثلّثات ذوات الزوايا القائمة – وهما «المثلث المتساوي الأضلاع» (equilateral)، ويتألّف بدوره من مثلّثات «مختلفة الأضلاع» (scalene)، و«المثلث المتساوي السَّاقَيْن» (isosceles)، وإنّما هذان النوعان من المثلّثات هي بمثابة ذرّات الكون أو الجواهر البسيطة للوجود المادي. ونظراً إلى تشابُه هذه المثلّثات في عناصر النار والهواء والماء فيمكن أن تتحوَّل إلى بعضها البعض في حين أنّ الأرض التي تتألّف عناصرها من مثلّثات «متساوية السَّاقَيْن» فحسب لا تخضع لهذا التحويل. والتبايُن والتفاعُل ما بين هذه العناصر هو الذي يُسبِّب الحركة في هذا العالَم المادي الكروي الإحاطة.

إذاً، وبشكلٍ أكثر تفصيلاً، تتألّف الأجسامُ جميعاً من جزيئات هي أشكالٌ هندسية ذات عُمقٍ ثلاثي الأبعاد وبالتالي لها أسطح. وكُلُّ سطحٍ محدَّد بخطوطٍ مستقيمة مقسَّمة إلى مثلّثات، كلُّ مثلّثٍ منها ينقسم إلى مثلّثات قائمة الزاوية، هي إمّا مثلّثات «متساوية السَّاقَيْن» مع زاويتَين قائمتَين 45 درجة، أو مثلثات «متساوية الأضلاع» ترتسم من مثلّثات «مختلفة الأضلاع». وهناك نوعٌ واحد فقط من المثلّث «المتساوي السَّاقَيْن» القائم الزاوية (isosceles right triangle) وهو مثلّث بزاويا º45-º45-º90 درجة، في حين أنّ هناك أنواعاً لامتناهية من أشكال مثلّثات «مختلفة الأضلاع» لعلّ أتمّها هو الذي يبلغ طول وتره (hypotenuse) ضعف طول الضلع الأقصر، وزوايا هذا المثلّث هي º30-º60-º90 درجة. أمّا المربّع فيتألّف من مثلّثات «متساوية السَّاقَيْن» فحسب.

وبذلك تتكوّن جُزيئياتُ العناصر الأربعة الذرّية من تلك الأوجه. فعلى سبيل المثال جُزَيء عنصر النار هو ذو شكلٌ هندسي هَرَمِي «رُباعِي السُّطوح أو الأوجه» tetrahedron، وجُزيء عنصر الهواء هو ذو شكلٌ «ثُماني الأوجه» octahedron، وجُزيء عنصر الماء هو ذو شكلٌ «عشريني الأوجه» icosahedron (أي له 20 وجهاً)، أمّا الأرضُ فشكلُ جُزيء عنصرها هو «مكعّب» cube (ذو ستة أوجه مربّعة متساوية). وهناك شكلٌ هندسيٌّ أفلاطوني خامس هو «ذو اثنا عشر وجهاً» (dodecahedron)، وأوجهه ليست مثلّثات بل أشكال خُماسية الأضلع، ويُمثِّل شكلَ الكون لأنّه أقرب ما يكون إلى شكل الدائرة، أكمل وأقدس الأشكال في الفكر الأفلاطوني. وهنا كما سبق القول فإنّ التحوُّل بين العناصر لا يحصل إلَّا على مستوى المثلّثات «المتساوية الأضلاع» وهي عناصر النار والهواء والماء، أمّا الأرض التي شكلُ عنصرها «مكعّب» فلا تحوُّل فيها إلى العناصر الأخرى.

وبذلك تختلف «النظريةُ الذرّية» عند أفلاطون، التي تستوحي الأُسسَ الرياضيّاتية الفيثاغورية للكون في ذرّاتها الهندسية، عن نظرية ديموقريطس (Democritus) المستَنِدة إلى ذرّاتٍ مادية مختلفة الأشكال والأحجام.

الهندسة الفيثاغورية المقدَّسة

لقد جاء أفلاطون ليضع على خطى فيثاغورس أُسساً رياضيّاتية هندسية تُوازِي أرقامه كأساسٍ لوجود الكون المحسوس. ولذلك نفهم عبارتَه الشهيرة فوق باب أكاديميته: «لا يدخل أكاديميتي مَنْ لا يعرف الهندسة» (γεωμέτρητος μηδεὶς ε ἰσίτω) باعتبار الهندسة والرياضيات من العلوم المقدَّسة التي تُفضِي إلى معرفة حقائق الوجود ولا سيّما من ناحية ما يُسمَّى «الأشكال الهندسية الأفلاطونية» (Plato Solids) التي تُشكِّل لَبِنات العناصر الأربعة الرئيسية التي يتكوَّن منها العالم المادي. وذَكَرَت بعض المصادر ومنها الفيلسوف الأفلاطوني المُحدّث بروكلوس (Proclus) أنّ الأشكال الهندسية الأفلاطونية إنّما تعود في الأساس إلى مُكتَشِفها فيثاغورس. وفي هذا السياق تذكُر بعض المصادر الكلاسيكية أنّ ثمة كتاباً تأثَّر به أفلاطون في تأليف «تيماوس» وَضَعه الفيلسوفُ فيلولاوس (Philolaus) وهو حول فيثاغورس، وقد حصل عليه أفلاطون من حاكم سيراكوزا في صقلية، الذي كان قد اشتراه من فيلولاوس.

كيمياء وفيزياء ومعادلات رؤيوية

ما لفتَ العلماءَ المعاصرين حقاً هو تحدُّثُ أفلاطون عن إمكانية تحوُّل الجُزيئات المكوِّنة للعناصر الأربعة (عناصر إمبيدوقليس) فيما بينها وتلاقي زوايا المثلّثات في أوجهها الهندسية واتحادها بما يشبه الروابط الكيميائية بين الذرّات والجُزيئات، وهو ما اعتبروه أولَ نظرية للتفاعُل الكيميائي في التاريخ، لا سيّما وأنّ هذه الهندسة الذرّية هي على المستوى الجُزيئي والذرّي وما دون الذرّي. وقد كُتِبَت هذه المعادلات الأفلاطونية برمزيةٍ كيميائية تتماثل مع علم الكيمياء المُعاصر، بل أيضاً مع علم الفيزياء النظرية. فعلى سبيل المثال جاء الاكتشافُ الحديث (في العام 2014) لجُزيء الـ «بوروسفيرين» (Borospherene) السُّباعي الأوجه شبه الكروي وتركيبته الجُزيئية البديعة المؤلّفة من 48 مُثلّثاً تُشكِّلها 40 ذرّة «بورون» (Boron) مُتَحابِكة في تناظُرٍ مُثلّثاتي ليُعيد الذاكرة إلى الهندسة الذرّية «الرؤيوية» لأفلاطون في «تيماوس».

بل إنّ عِلم «الديناميكيا» الحديث يؤكد مصداقية هذه النظرية الأفلاطونية، فالشكلُ الهَرَمِي في «تيماوس» نُسِبَ إلى النار بسبب صغره وزواياه الحادّة وبالتالي حركيّته العالية، أمّا المكعّب فنُسِبَ إلى الأرض لأنّه مناسب للسطح المستقرّ وثقله. ونُسِبَ الشكل الهندسي الثلاثي الأبعاد «الثُماني السُّطوح» (octahedron) إلى الهواء بسبب حركيّته الأكثر خفّة، في حين بَقِيَ للماء الشكل «العشريني الأوجه» الأكثر انسياباً في لغةٍ تُشابِهُ، فيزيائياً وكيميائياً، علومَ الفيزياء النظرية الحديثة، من حيث عالَم ما دون الذرّة القابل للتجزئة والتحوُّل.

البُعد الرُّوحاني للتنظير الهندسي الأفلاطوني

اغتنمَ أفلاطون «التحليل الهندسي» لتوضيح الفَرَضِية الفلسفية والإثبات الجَدَلي المنطقي، فالفَرَضية الهندسية تبدأ بافتراض ما يتعيّن برهانه ومن ثم الإثبات أنّ الافتراض يؤدِّي إلى حقيقة راسخة لا خاطئة، وأفضل ما يتجلَّى ذلك في استجواب سقراط للعَبْد في اختبار المربّع الشهير في مُحاوَرة «مينون» (Meno) في محاكاةٍ للأبعاد الهندسية لعالَم المُثُل.

ولماذا اعتمد أفلاطون التنظيرَ الهندسي الرياضياتي للحقائق فلأنّ الرياضيات تستمدّ موضوعاتها من التصوُّرات الذهنية لقضايا مجرّدة مجالها فحسب التصوُّر العقلي المُبدع المحض، في حين أنّ العلوم التجريبية ترتكز على وصف الأشياء الحسيّة. والعقلانية الأفلاطونية ترى في استنادها إلى الحقائق الهندسية الرياضياتية والمجرّدة أنّ مبادئ المعرفة فطرية. فها هي مبادئ الرياضيات قائمة في العقل أي متأصِّلة في النفس، قَبْليّاً أو بَدْهيّاً (a priori) من غير تعليم ولا استدلال تجريبي (a posteriori). فالخط المستقيم والمثلث والمستطيل والدائرة والمربّع هي تصوُّرات رياضياتيّة هندسية بَدْهيّة، والنفسُ في تصوُّراتها الهندسية تُحلِّق في عالم التجريد إلى مَراقٍ فيثاغورية عُليا حيث تلوح لها هناك ظِلالُ المُثُل الأفلاطونية.

وبذلك بَدَت الرياضيات الأفلاطونية «أشرف العلوم» لأنّها علم عقلي محض مستقلّ عن الأمور الحِسّية، وبناء فكري تجريدي يرتكز إلى فَرَضيات لا تحتاج في إثبات صدقيّتها سوى إلى الخلو من أي تناقض داخلي. إنّه ذلك البُعد الهندسي الذي ينتقل بالحقائق إلى عالم المُثُل الرُّوحاني الأفلاطوني.
وفي القرن السابع عشر، سعى الفيلسوف هنري مور (Henry More)، زميل العالم التجريبي الشهير إسحق نيوتن (Isaac Newton) في جامعة كامبريدج، إلى أن يُضفي بُعداً هندسياً على العالم الأفلاطوني المثالي الرُّوحاني، بل أن يُضفي على العالم الهندسي الرياضياتي بُعداً روحانياً أفلاطونياً. فهو اعتبر من وحي أفلاطون أنّ «العالم الرُّوحاني» (Spiritual Realm) يتمدّد هندسياً في «بُعدٍ رابع» (4 dimension) أطلق عليه تسمية Spissitude.

ومن وحي هذه المُحاوَرة، قال العالِمُ الفيزيائي ألبرت أينشتاين (Albert Einstein): «إنّ قناعتي الوجدانية العميقة هي بوجود قوة عقلانية متعالية ومتفوِّقة تتبدَّى في هذا الكون البديع بأدقّ تفاصيله ونظامه والغاية من وجوده». وهذا ما أشار إليه الكاتب والعالِم الأميركي لنكولن بارنيت (Lincoln Barnett) حينما أكّد أنّ هذه الدقّة الرياضيّاتية لحركات الكون ونظامه هي التي تتيح للعلماء وضع معادلاتهم ونظرياتهم. ويقول إنّ النظريات العلمية المعاصرة أخذت تنحو منحى أفلاطون في هذه التصوُّرات الحسابية للكون، وأنّ مفاهيم مثل الجاذبية والكهرومغناطيسية والطاقة وعالَم الذرّة وحتى النيوترون والإلكترون إنّما هي أيضاً بُنَى نظرية، وابتكارات فكرية ومجازات اضطرَّ العقلُ البشري لتصوُّرها كي تساعده على رسم صورة للحقيقة خلف مظاهر الأشياء.

خاتمة

 

إنّ الأصلَ الخيِّر الغائي للوجود واضِحٌ في مُحاوَرة «تيماوس» ميتافيزيقياً وإبستمولوجياً، لا سيّما حينما يُحَثُّ أفلاطون الإنسانَ في عبارةٍ، ربّما تُشكِّل زُبْدَة المُحاوَرة، لكي يُكرِّس كلّ اهتمامه وتفكيره للحفاظ على ذلك الخير في نَفْسه الخالدة والعقلانية تناغُماً مع «الخير الأسمى»، وبذلك يُحقِّق «الحياة الأرقى التي يُتيحها الإلهُ للبشر».

ونستخلص من المُحاوَرة أنّ هذا الكونَ البديع المتناغِم والمتوازِن بدقّةٍ رياضيّاتية وتناظُرٍ هندسي إنّما هو تحفةٌ لعقلٍ كوني لولاه لَمَا كان ثمة وجودٌ للكون وللنظام فيه ولاستَحالَ إلى فوضى وتلاشَى. وقد أكّدَ أفلاطون على لسان تيماوس أنّه من خلال فَهْم هذا التناغُم في الكون يمكن للإنسان أن يصل إلى تناغُمه الفردي داخل نفسه، ويعكس الحقائق العُلْوية في مرآة نفسه، وهذا هو الخير بعينه. وأشار أفلاطون في هذا السياق إلى سرّ رؤية العين الشّحمانية: «لقد خَلَقَ الإِلَهُ لنا العينَ والبصرَ لغاية أنْ نُشاهِد جَمال إبداعِه في السموات ونعكسه في ذواتنا…» ونتيَقَّن من الصورة التي «تعكس تمامَها» في بُعدِه الميتافيزيقي أشبه بانعكاسٍ على مرآة!


المراجع

  1. Timaeus, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  2. Broadie, S., 2012, Nature & Divinity in Plato’s Timaeus, Cambridge: Cambridge University Press.
  3. “On the Metaphysics of the Image in Plato’s Timaeus,” Monist, 50: 341–368 – 1966.
  4. Patterson, R., 1985, Image & Reaility in Plato’s Metaphysics, Indianapolis: Hackett Publishing Co., 1985.
  5. Carone, G. R., 2005, Plato’s Cosmology and its Ethical Dimensions, Cambridge: Cambridge University Press.
  6. Gill, C., 1979, “Plato’s Atlantis Story and the Birth of Fiction,” Philosophy and Literature, 3: 64–78.
  7. Hackforth, R., 1965, “Plato’s Theism,” in Studies in Plato’s Metaphysics, R. E. Allen (ed.), London and New York: Routledge and Kegan Paul.
  8. Lee, E. N., 1976, “Reason and Rotation: Circular Movement as the Model of Mind (Noûs) in the Later Plato,” in Facets of Plato’s Philosophy, W. H. Werkmeister (ed.), Assen: Van Gorcum.
  9. Barnett, Lincoln. The Universe & Doctor Einstein. New York, Bantam Books 1975: pp. 109-115.
    .

الذكرى الحادية والثلاثون لتوقيع وثيقة الطائف

الإصلاحاتُ والمؤسسات الدستورية في وثيقة الطائف”، حسب (المرحوم) البروفسور محمّد المجذوب

البروفسور محمّد المجذوب

نائب رئيس المجلس الدستوري (سابقاً) – رئيس الجامعة اللبنانية (سابقاً)

مراجعة م.ش

يرى المرحوم الدكتور المجذوب أن مُصطلح «دستور» حديث في الأنظمة السياسية، ففي القرنين الماضيين كانت تستعمل مصطلحات أخرى مثل الميثاق الدستوري، أو القانون الدستوري، أو القانون الأساسي، إلّا أنّ مصطلح الدستور أو القانون الدستوري هو الغالب اليوم.

وكلمة دستورالمستعملة في اللغة العربية هي من أصل فارسي، يقول د. المجذوب، وهي مكوّنة من «دست» ومعناها القاعدة، و»ور» ومعناها الصاحب. استعملها العرب أولاً بمعنى «سجل الجند»، ثم بمعنى «مجموعة قوانين الملك أو الحاكم»، وأخيراً أطلقها العثمانيون على دستورهم الأول الذي صدر ستة 1876.
والحديث عن الدستور، يضيف د. المجذوب، يتطلّب كلمة مبسّطة في النظام السياسي الذي يستمد أسسه ومعالمه من الدستور.

للنظام السياسي معنيان: ضيّق وواسع. النظام السياسي بالمعنى التقليدي الضيّق يعني «نظام الحكم في الدولة» أمّا النظام السياسي بالمعنى الواسع والحديث، فيعني «نظام الحكم وما يقوم عليه من مبادئ فلسفية وسياسية واجتماعية» والمعنى الواسع هو السائد اليوم.
وهناك اتفاق بين الباحثين، حسب د. المجذوب، على تصنيف الأنظمة السياسية في نوعين: الأنظمة الديمقراطية، والأنظمة الديكتاتورية. والفرق الجوهري بين النوعين يكمن في أن الأنظمة الديمقراطية، بخلاف الديكتاتورية، تقوم على أساس تطبيق مبدأ فصل السلطات الذي يكفل الحقوق والواجبات – رغم الاختلافات الواسعة في تفسير هذا المبدأ وما اتصل منها خصوصاً بتعريف السلطتين التنفيذية والتشريعية، وحدود سلطات كل منهما. فكلما زادت صلاحيات السلطة التشريعية اقتربنا من «النظام المجلسي»، وكلما زادت، بالعكس، صلاحيات السلطة التنفيذية اقتربنا من النظام الرئاسي، أو «نظام الحكومة الرئاسية» وقد أخذ الدستور اللبناني منذ صدوره في صيغته الأولى سنة 1926 بـ «نظام وسطي بين الفصل المطلق أو الاندماج المطلق، محققاً توازناً وتعاوناً بين السلطتين، يقوم على الفصل المعتدل بين السلطات والرقابة المتبادلة، ويطلق عليه اسم النظام البرلماني،» إلّا أن د. المجذوب يضيف، «ولكن التطبيق لم يكن على المستوى المطلوب».
بعد جولة دستورية على النظام البرلماني وخصائصه، وما فيه من ثنائية السلطة التنفيذية، وعدم مسؤولية رئيس الدولة، مقابل حكومة هي المسؤولة أمام البرلمان، ومن تعاون ورقابة متبادلة، يخلص المؤلف إلى أن الدستور اللبناني هو «دستور مدوّن (بخلاف الدساتير العرفية)، جامد، يتطلّب تعديله شروطاً أكثر تعقيداً أو صعوبة من شروط تعديل القوانين العادية».
أمّا نظام الحكم الذي انبثق عن الدستور في لبنان، إلى ما قبل الطائف، فهو حسب د. المجذوب «نظام جمهوري ديمقراطي، ونيابي، وبرلماني، وليبرالي، ومذهبي، وبولييارشي (أي وجود مراكز قوى متعددة ومتوازنة داخل النظام الواحد)» والبولييارشية، وفق توصيف الدكتور المجذوب، «في هذا النظام لا نعثر على فرد ولا على مجتمع، لأن الجماعات وحدها (أي المذاهب في لبنان) هي التي تتحرك وتغطّي الساحة. ولهذا يبقى الفرد والمواطن خارج المسرح السياسي أو الاجتماعي، ويغيب المجتمع الوطني المتلاحم، لأن كل مذهب يعتبر نفسه مجتمعاً قائماً بذاته لا تربطه بالمجتمعات المذهبية الأخرى إلاّ روابط واهية تفرضها فكرة الاستمرار في التعايش وصون المصالح الخاصة المتقلبة. وبنتيجة هذا الوضع تتحول الحياة السياسية إلى عمليات ضغط وتجاذب تمارسها الجماعات المذهبية لتحقيق بعض المكاسب، ولو أدّى ذلك في بعض الأحيان إلى الدخول في معارك دامية. ويتحوّل الفرد إلى أداة لخدمة مآرب جماعته، فتغيب مواقفه وتتلاشى شخصيته، وتتحول الدولة إلى آلة تعمل لحساب زعماء الجماعات أو إلى مزرعة يتقاسم هؤلاء خيراتها، فتحلّ الجماعات في النهاية محل الدولة ومؤسساتها ويصبح الزعماء المذهبيون المرجع الوحيد لكل طالب خدمة أو وظيفة».

بهذا التوصيف الدقيق، سوسيولوجياً وسياسياً، يقارب المرحوم د. المجذوب الثغرة الأساسية في النظام اللبناني، وربما في الدستور اللبناني، والتي فخّخت (والتعبير لكاتب هذه السطور) كل ملمح من ملامح النظام السياسي اللبناني «الرسمي» فجوّفته من كل مضمون ديمقراطي، وأحالته بالتالي ساحة مفضّلة لاستمرارحراك الطوائف أو المذاهب، بل عربة تنقل هذه الطائفة أو تلك، وبين الحين والحين، إلى موقع الطائفة الأكثر سلطة بين الطوائف، وتحديداً كلما تلاقى الهوى الإقليمي مع الطموحات الداخلية.

لذلك لم يخرج النظام اللبناني في تاريخه، وبخاصة بعد الاستقلال، من أزمة إلا ليدخل في أزمة أخرى، مع الميل أحياناً، وفق د. المجذوب، «إلى المناورة أو الخصومة الحادة التي قد تنتهي باستخدام القوة المسلحة» وفي محاولتهم سدّ الثغرات التي فجّرت النظام اللبناني من الداخل، أوسهّلت عملية الهجوم عليه من الخارج، كانت فكرة تلاقي ممثلين للبنانيين للتداول والتفكير في أفضل السبُل نحو الغاية أعلاه. وكان إعلان وثيقة الطائف في 30 أيلول 1989، ذروة المحاولات، وربما النجاحات تلك. الوثيقة في تصوّر المرحوم الدكتور المجذوب هي:
«لقد أراد النوّاب المجتمعون في الطائف إصدار وثيقة على صورة ميثاق وطني، تم تكريس مبادئها دستورياً. ولهذا فإن القيمة القانونية والفعلية للوثيقة تكمن في إمكان تحويل مبادئها إلى نصوص دستورية. وهذا ما حصل في 12/9/1990. أمّا قيمتها السياسية فتتجلى في الدعم العربي والدولي التي حظيت به….والمهم أن الوثيقة أصبحت، عبر التعديلات الدستورية، ميثاقاً وطنياً جديداً يمكن إلحاقه بالركيزتين التي يقوم عليهما النظام اللبناني: دستور 1926 وميثاق العام 1943».
لم يُغفل د. المجذوب بعض الغموض الذي اكتنف بعض نصوص وثيقة الطائف، كما لم يغفل أسئلة كثيرة ستصل إليها الوثيقة. فيختم مقالته الطويلة المهمة بالقول:
«وفي الختام تستوقفنا أسئلة وتساؤلات متعددة: هل ساعدت وثيقة الطائف التي أسكتت المدافع والمجازر على حلّ الأزمة الدستورية؟ وهل احتُرمت بنودها لدى تحويلها إلى مواد دستورية؟ وهل الأزمة السياسية التي عصفت بلبنان كانت، في الأصل والجوهر، أزمة دستورية….؟».

.


لقاء الضّحى مع معالي الوزير السابق د. خالد قباني في الذكرى الحادية والثلاثين لوثيقة الطائف

معالي الدكتور خالد قباني

1 – كنتم حاضرين بقوة في اجتماعات الطائف الطويلة، وكذلك في النتائج، وبخاصة في صياغة بنود الوثيقة التي صدرت عن الاجتماعات.
كيف تنظرون اليوم إلى تجربتكم تلك، هل كانت تستحق ذلك العناء؟ هل كنتم راضين عن الوثيقة الختامية، أم مجرد تسوية أنهت سنوات الحرب الطويلة بما تيسّر من تسويات وتنازلات.

كانت فعلاً تجربة تستحق العناء، لأنها أدت إلى:
أوّلاً إيقاف حرب عبثية، دامت أكثر من خمس عشرة سنة، دمرت لبنان وهجّرت أهله وأنهت اقتصاده، وشكلت خطراً على وحدة لبنان وكادت تنتهي إلى تجزئته وتقسيمه لولا اتفاق الطائف الذي وضع حدّاً لهذه الحرب وأعاد اللبنانيين إلى بعضهم البعض.

وثانياً إحياء المؤسسات الدستورية من خلال إعادة تكوين السلطات الدستورية. والتئام مجلس النواب سريعاً، بعد إعلان وثيقة الوفاق الوطني، التي صوّت عليها اللقاء النيابي اللبناني في الطائف، في بلدة القليعات، في لبنان، في 5 تشرين الثاني وصادق على هذه الاتفاقية، وفي الجلسة نفسها تم انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية، ثم بعد ذلك تم تشكيل حكومة جديدة ترأَّسها الرئيس الحص، واختصرت ولاية مجلس النواب، بعد أن استمر في ممارسة أعماله لمدة أكثر من عشرين سنة، أي منذ سنة 1972، لكي يتسنى للشعب انتخاب مجلس نواب جديد، اكتمل بانتخابه عقد المؤسسات الدستورية، وذلك سنة 1992.

وثالثاً البدء بعملية البناء والإعمار التي أعادت إعمار لبنان الذي هدمته الحرب، وأعادت هذه العملية لبنان إلى خارطة العالم، واستعاد دوره الاقتصادي والثقافي والسياسي والانساني.
لم تكن الوثيقة الختامية مجرد تسوية، أنهت سنوات الحرب، ولكنها أدخلت تعديلات أساسية وجوهرية على النظام السياسي في لبنان، وعالجت بل حلّت مشاكل ونزاعات رافقت إعلان دولة لبنان الكبير، واستمرت طيلة العهود التي تلت، وإن كان الميثاق الوطني سنة 1943 قد شكل محطة مفصلية، وأساسية في بناء دولة الاستقلال، ولكنه لم ينهِ أزمات لبنان، فجاء اتفاق الطائف محاولاً من خلال التعديلات الدستورية وضع حد للأزمات السياسية، كمسألة الهوية العربية أي عروبة لبنان، والهوية الوطنية، أي المسألة الطائفية، ومسألة المشاركة في الحكم، أي ما كان يعرف بمعادلة الخوف والغبن، ومسألة العدالة الاجتماعية، أي مسألة الإنماء المتوازن واللامركزية الإدارية الموسعة. أما السؤال عمّا إذا كان الطائف قد نجح في حل هذه المشاكل التاريخية وأزمة الثقة بين اللبنانيين التي أثّرت في بناء الدولة واستقرار البلاد، فهذا شأن آخر.

أقرّ الطائف مجموعة من القواعد والمبادئ الأساسية في الحكم وانتظام عمل السلطات، تؤمن فرصاً لبناء الوطن والدولة وتشكل نموذجاً للعيش المشترك. وأهمية هذه القواعد والمبادئ أنها باتت جزءاً من الدستور، ومن مقدمته، بحيث إذا ما طُبِّقت بحسن نية، وهذا هو المطلوب، لكانت كفيلة برأينا، بتحويل لبنان إلى نموذج حضاري للعيش المشترك الاسلامي- المسيحي ومقتضياته.

لم يتم تطبيق اتفاق الطائف بصورة كاملة، وما نفِّذ منه كان مجتزءاً وبصورة تخالف مضمونه وروحه. اختُصرت المؤسسات وغاب دورها، ودخلت البلاد في صراع من نوع آخر، صراع على النفوذ واقتسام الحصص والمغانم، وتوزعت الطوائف في ما بينها السلطات والمؤسسات، وزادت حدّة المشاعر الطائفية والمذهبية، ووصلت إلى أوجّها، وادعت الكتل والأحزاب السياسية تمثيل الطوائف في الحكم، والدفاع عن حقوقها، خلافاً لأحكام الدستور، بما يؤمن غطاءً سياسياً لها، ويحصّنها من كل مسؤولية أو محاسبة في ممارسة شؤون الحكم، وبما يخرج نظامنا السياسي الديمقراطي البرلماني عن طبيعته وجوهره، وتحكمت موازين القوى الداخلية بإدارة الحكم، نتيجة الصراعات الاقليمية والدولية الضاغطة، وما تفرضه هذه الموازين من قواعد في التعامل وفي ممارسة السلطة، بعيداً عن أحكام الدستور، بل وخروجاً عليها.

لم تكن الحياة السياسية والدستورية في لبنان، بدءاً من إقرار اتفاق الطائف، وتحويل الاصلاحات السياسية التي تضمنها إلى مواد في الدستور، ترجمة صادقة لأحكام الدستور، ولما احتواه من أسس ومبادئ وقواعد، كما يقتضي أن تكون، وباعتبار هذا الدستور، وخاصة ما جاء في مقدمته، معبراً عن أماني وطموحات وتوجّهات الشعب اللبناني وخياراته الأساسية وتطلعاته إلى حياة آمنة ومستقرة، وبناء دولة ديمقراطية، قوامها الحرية والمساواة والعدالة، بل اتجهت الحياة السياسية والدستورية، اتجاهات ومسارات أخرجت الدستور، بما هو نظام حياة وخارطة طريق، عن مساره الطبيعي الصحيح، ونقضت أحكامه، وابتعدت عن كل ما يجعل الدولة دولة قانون ومؤسسات، سواء في ما يتعلق بتشكيل الحكومات، أو في ماخص المسألة الطائفية أو المشاركة في الحكم أو قانون الانتخاب الذي يعتبر حجر الزاوية في كل إصلاح سياسي، أو في ما يرتبط بصلاحيات رئيس الجمهورية، بما كان له الأثر الكبير على عدم استقرار الحياة السياسية والدستورية في البلاد.

2 – من جهة دستورية، هل بدّلت وثيقة الطائف من طبيعة النظام السياسي اللبناني، أم مجرّد إصلاحات من داخل النظام؟

لم تبدّل وثيقة الطائف من طبيعة النظام السياسي اللبناني، وهي ليست مجرد إصلاحات من داخل النظام، بل هي إصلاحات في صلب النظام. بقي النظام السياسي نظاماً في جوهره وطبيعته نظاماً برلمانياً في مبادئه وأركانه الأساسية والجوهرية، ولكن الاصلاحات نصّت بصورة صريحة وواضحة عن طبيعة النظام السياسي، فجاء في مقدمة الدستور أن لبنان هو جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمُعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل، أي إنّها حسمت بنص واضح وصريح طبيعة النظام السياسي، بعد أن كان مزيجاً من النظام الرئاسي والبرلماني، نظراً إلى الصلاحيات الواسعة التي كان يتمتع بها رئيس الجمهورية قبل التعديلات الدستورية التي أدخلها اتفاق الطائف في صلب الدستور، وجعل رئيس الجمهورية في موقع سامٍ بالنسبة للسلطات الدستورية، وصمام أمان للنظام والحكم في النزاعات والصراعات السياسية الداخلية، بحيث لا يكون فريقاً في هذا الصراع، في ظل نظام برلماني، بالغ التعقيد والصعوبة، يقوم على المنافسة الحادة بين قوى سياسية تتنافس ديموقراطياً لبلوغ السلطة، ممّا جعله يلعب دور المرجع والحكم في هذا الصراع، الحافظ للكيان والساهر على احترام الدستور والملتزم بأحكامه وعلى أمن البلاد ووحدتها وسيادتها واستقلالها.

لم يعد رئيس الجمهورية جزءاً من السلطة التنفيذية، يشارك في اتخاذ القرارات، أسوة بأعضاء الحكومة، شأنه شأن أي وزير في الحكومة، بل بات يلعب دور الرقيب والموجه والمصوب لعمل مجلس الوزراء، قبل اتخاذ القرار، والسلطة المضادة، Contre pouvoir، بعد اتخاذ القرار، ليعيده إلى مصدره، في حال مخالفته القانون أو الدستور، أو عدم توافقه مع المصلحة العامة، بحكم دوره الوازن والحافظ للدستور، والساهر على المصالح العامة وحقوق اللبنانيين وحرياتهم، وهو يلعب الدور نفسه، وبقوة أكبر في ما يخص القوانين التي يقرها مجلس النواب، بحيث يعيد القوانين المخالفة للدستور، دون أن تمهر بتوقيعه، ويرفض تنفيذها، ولذلك فقد ربط الدستور كل أعمال الدولة، التشريعية والتنفيذية بموافقة رئيس الجمهورية، بحيث لا تكون نافذة إلّا بعد صدورها بمرسوم من رئيس الدولة، مما يعطي رئيس الجمهورية اشرافاً كاملاً على كل أعمال الدولة بل سلطة فاعلة وموجهة تدحض كل قول بفخرية أو شرفية هذا المنصب.

للأسف لم يفهم موقع ودور رئيس الجمهورية وأهميته على حقيقته، أردنا تراكم كمٍّ من الصلاحيات وأغفلنا المضمون.
لا تكمن مشكلة الحكم في لبنان في النصوص، سواء نتيجة نقص فيها أو سوء توزيع للصلاحيات، بل تكمن في طريقة أداء الحكم وممارسة السلطة وفهم طبيعة النظام السياسي المعتمد في الدستور.
ليست المسألة مسألة صلاحيات، سواء زيادة أو نقصاناً. فصلاحيات رئيس الجمهورية، على اتساعها، في دستور ماقبل الطائف، لم تسعفه ولم تمكنه من تجنب الأزمات أو احتوائها أو الحؤول دون تفجّر الأوضاع في لبنان. ولا يعني ذلك أنّ صلاحيات رئيس الجمهورية لا تحتاج إلى تفعيل أو تعديل من أجل فاعلية دوره المطلوب، وربما من أولويات التعديل، إعطاء رئيس الجمهورية حق حل مجلس النواب، لكي يلعب دور الحكم بين أكثرية حاكمة وأقلية معارضة، إذا ما احتدم الصراع بين الفريقين إلى حد شل عمل المؤسسات الدستورية والمرافق العامة، أو شكل خطراً على الوئام الوطني والعيش المشترك، كما حصل مراراً في لبنان، ولا يزال يحصل، وإذا فَقد مبدأ التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية فعاليته، فيحتكم رئيس الجمهورية إلى صاحب السيادة، إلى الشعب، وهو الحكم الأخير، ليحكم في الخلاف ويحدد خياراته. المقصود أنّ المعالجة تتجاوز مسألة الصلاحيات ، كمَّاً أو حجماً، وإن المسألة لا تعالَج من خلال عنوان استعادة صلاحيات مفقودة أو منزوعة، لأن ذلك يجعلنا ندور في حلقة مُفرغة. المسألة بجوهرها أعمق بكثير. المسألة هي كيف نجعل رئاسة الجمهورية صمام أمان للنظام وللاستقرار، وكيف نُعلي شأن موقع رئيس الجمهورية ونجعله فعلاً لا قولاً حكماً فاعلاً في الصراع السياسي. ليست المسألة مسألة كم ولكنها مسألة نوع وكيفية. في كل مرة تصرَّف فيها رئيس الجمهورية كفريق في الصراع، أو وضعته الظروف أو الأحداث، أو أُريد له أن يكون في هذا الموقع، كانت النتيجة تفجير الأوضاع في لبنان وإغراقه في الفتنة وفي حمأة صراعات طائفية ونزاعات وحروب أهلية مدمّرة. كما يستمر عليه الوضع في لبنان الآن.

3 – هل توزُّع السلطة الذي شهدناه منذ سنة 1991، وما فيه من فوضى وبوليغارشية، حسب تعبير المرحوم د. المجذوب، هو نتيجة دقيقة لوثيقة الطائف، أو نتاج ممارسة معيّنة فرضت نفسها؟

ليس في اتفاق الطائف، أو في الدستور اللبناني، ما يمكن تسميته «توزّع للسلطة» أنتج فوضى عارمة، لأن ما جاء في اتفاق الطائف وما في الدستور، يرسي نظاماً سياسياً معروفاً واضح المعالم والمبادئ، ومعتمداً في الأنظمة السياسية التقليدية، مع خصوصيات تميز كل نظام عن مثيله، تعود إلى التركيبة الاجتماعية، دون أن تخل بجوهره أو بأركانه، هو النظام البرلماني القائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتعاونها وتوازنها، والذي يُعتبر فيه البرلمان السلطة الأم والذي يمثل الإرادة الشعبية، وهو يتولى السلطة التشريعية، والذي يُبنى على انتخابات حرة ونزيهة وديموقراطية، وحكومة تتولّى السلطة التنفيذية، وتكون مسؤولة أمام البرلمان، وتستمر باستمرار ثقة البرلمان بها، ورئيس جمهورية، يكون رئيساً للدولة ورمزاً لوحدة الوطن، وتميز عن النظام البرلماني الأم، لخصوصية البنية الاجتماعية الطائفية في لبنان، بحيث لا يكون رئيس دولة يتولى ولا يحكم كملكة بريطانيا، بل أناط به صلاحيات دستورية فعلية تجعله رئيس دولة ومرجعاً وحكماً في الصراع السياسي الداخلي وممسكاً بقيادة الدولة وليس مجرد رمز على غرار الأنظمة البرلمانية التقليدية.

أمّا الفوضى في الحكم التي يلفت إليها السؤال، فهي نتيجة عدم احترام الدستور، والخروج على أحكامه، ومحاولة كل فريق الهيمنة على السلطة، واحتكارها ووضع يده على مقدرات الدولة ومرافقها ومحاولة استتباعها، والممارسة السياسية التي تخرج عن أصول النظام الديموقراطي البرلماني، وعدم الاحتكام في الصراع السياسي إلى أحكام الدستور، واللجوء إلى موازين القوى في حسم الخلافات والنزاعات السياسية، بل الاستعانة بالخارج، وهذا أسوأ ما خرجت به ممارسة الحكم، منذ إعلان دولة لبنان الكبير، والذي حاول الطائف أن يولي صلاحية حماية النظام السياسي إلى رئيس الجمهورية، بكونه المرجع والحكم في هذا الصراع، وليس الاستقواء بالخارج، كما درج عليه اللبنانيون في ممارسة الحكم في لبنان، وفي فض نزاعاتهم.

العيش المشترك في لبنان هو الحافظ للنظام والحامي لقيم الحرية والاستقلال والسيادة، لم يعد العيش المشترك مجرّد فكرة أو قدراً محتوماً فرضته الجغرافيا ونسج خيوطه التاريخ، ولكنه بات خياراً حرَّاً للبنانيين، بحيث تحوَّل إلى صيغة مؤسساتية ودستورية. فالتداخل الجغرافي بين المناطق والبلدات، والاختلاط السكاني، والتشابك الاقتصادي ونمو المصالح المشتركة، بل الحياة المشتركة، والترابط العائلي والأسري، والغنى والتنوع في الثقافات والعادات والتقاليد وأنماط العيش المشترك، جعل صيغة العيش المشترك أكثر تجذّراً وأصالة وعمقاً بحيث باتت صيغة أمانٍ وأمن وضمانة حقيقية للحرية والسيادة والاستقلال، وحمت لبنان من التجزئة ومحاولة الهروب إلى الفدرالية، طلباً للأمان والاستقرار، ونتيجتها الوقوع تحت الوصاية والحماية الخارجية، وبالتالي، فقدان الاستقلال والسيادة والقرار الوطني الحر، والدخول في حروب أهلية لا نهاية لها.

هذا الثابت، العيش المشترك الإسلامي المسيحي، هو ما كرسته وثيقة الوفاق الوطني، بعد حرب مدمّرة، دامت أكثر من خمسة عشر عاماً، دمّرت كل شيء، باستثناء هذه الصيغة الراسخة، صيغة العيش المشترك.
وقد جاءت الإصلاحات لتعيد النظر في تنظيم السلطات العامة وصلاحياتها، بما يحقق التوازن فيما بينها، دون أن تمس صيغة العيش المشترك، أو تمس حقوق الطوائف في حرياتها وممارسة شعائرها وعقائدها الدينية، وحقوقها في المشاركة في الحكم. وقد بنيت هذه الإصلاحات على أساس ثلاثة مبادئ أو مرتكزات لبناء الدولة:
– مبدأ وحدة الدولة وصون العيش المشترك
– مبدأ المشاركة في الحكم، حيث لا تسلّط ولا تفرد في الحكم ولاهيمنة ولا غلبة.
– مبدأ إلغاء الطائفية السياسية بصورة تدريجية وإنشاء مجلس الشيوخ

4 – ما من أحد يملك، أو يقول الحقيقة كاملة، بخصوص المداولات التي تناولت مسألة استحداث مجلس للشيوخ، وهل كان هناك قرارات في الموضوع، أو مجرد مداولات؟

كان وما يزال استحداث مجلس للشيوخ أمراً يحظى بتوافق اللبنانيين، وهو أحد الاصلاحات الأساسية التي نص عليها اتفاق الطائف، مقابل المبدأ الذي أقره هذا الاتفاق وهو مبدأ إلغاء الطائفية السياسية الذي أصبح جزءاً من مقدمة الدستور، ولم يكن موضع خلاف ولا جدال، بل جاء تحصيناً لمبدأ إلغاء الطائفية السياسية. ولذلك جاء مبدأ إلغاء الطائفية السياسية مقترناً حكماً بإنشاء مجلس للشيوخ، بحيث يشكل صمام أمان للعيش المشترك، وطمأنة حقيقية للمخاوف والهواجس التي يمكن أن يثيرها الشروع في إلغاء الطائفية السياسية، وسياجاً للوفاق الوطني، وضماناً لمشاركة الطوائف في تقرير مصير البلاد ومستقبلها، فنصت المادة 22 من الدستور: «مع انتخاب أوّل مجلس نواب على أساس وطني يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».

وليس المقصود أو المطلوب أن يتحول مجلس الشيوخ إلى مجلس تشريعي، بل المطلوب أن يشكل صمام أمان بالنسبة لأية جهة تتردد في السير في طريق إلغاء الطائفية السياسية وتخشى على نفسها من الإلغاء أو التهميش أو فقدان الموقع والدور، فيشكل هذا المجلس دائرة أمان، إلى أن يحين الوقت الذي تهدأ فيه النفوس وتطمئن فيه القلوب وتحل فيه أجواء الثقة بين اللبنانيين محل أجواء الشك والريبة والخوف، ويشعر فيه المواطن بالانتماء فعلاً إلى وطن ودولة.

إن المؤمل من إنشاء هذا المجلس هو تعزيز الوحدة الوطنية، وهو قادر ومؤهل للقيام بهذا الدور، إذا تأمّنت المُناخات الملائمة، لأنه ينقل الحوار حول قضايانا الوطنية إلى مؤسسة دستورية رصينة وحكيمة، تستطيع أن تتحول إلى مؤسسة حوار وطني، ترقى بالمناقشات إلى المستوى الفكري والحضاري، والتي تساهم في طمأنة النفوس وإغناء الحياة السياسية والوطنية بالأفكار والقيم التي تعزز الوحدة الوطنية وتصونها، بعيداً عن المزايدات وروح المنافسة السلبية حول المصالح والمنافع الفئوية، والنزاعات السياسية والعقائدية التي تضع الأحزاب والقوى السياسية في مواجهة بعضها البعض وتهدد الاستقرار في البلاد، فضلاً عن أنه بوسع هذا المجلس أن يضع حداً للتجاذبات السياسية حول قضايا المصير ويحد من التطرف أو التوجه بالبلاد إلى تبني مواقف بعيدة عن روح التضامن والتكافل الوطني، ولكي تشعر الطوائف بالاطمئنان إلى وجودها وحضورها الفاعل في الحياة السياسية ومشاركتها في القرار السياسي والقرارات المستقبلية والمصيرية، والحؤول دون جر البلاد إلى مواقف قد تهدد أسس العيش المشترك والوفاق الوطني ووحدة الدولة، وبحيث يشكل مجلس الشيوخ صمام أمان للنظام وللحياة المشتركة بين اللبنانيين.

5 – ما الثغرات التي أبرزتها ممارسة الطائف في ثلاثين سنة، وهل بالإمكان حصول طائف 2 جديد من دون تهديد مرتكزات طائف 1؟

لاشك أن الممارسة السيئة للإصلاحات التي جاء بها اتفاق الطائف قد انتجت ثغرات كثيرة وسلبية في الحياة السياسية، فاتفاق الطائف لم يطبق، وما طُبِّق منه كان مجتزءاً ومغايراً لنصه وروحه، والسّمة البارزة في هذه الثغرات هو نزوع السلطة السياسية إلى التحكم بالسلطة وعدم احترام أحكام الدستور ومحاولة الهيمنة على الحكم ووضع اليد على مؤسسات الدولة ومرافقها، وتقاسم السلطة وضرب مبدأ الفصل بين السلطات، وبالتالي، مبدأ المساءلة والمحاسبة، والإصرار على تشكيل حكومات تجمع بين الأكثرية والأقلية تقضي على دور مجلس النواب التشريعي والرقابي، بما أساء إلى مفهوم الديموقراطية، من جهة، وأسقط مقومات النظام البرلماني والمبادئ التي يقوم عليها، من جهة ثانية.

وممّا هو متفق عليه، أنّ كل دستور جديد، يمرّ بمرحلة تجربة يتم خلالها الحكم على مدى صلاحية هذا الدستور وآثاره على النظام السياسي، أو الثغرات التي تتضمنها الاصلاحات السياسية التي اعتُمدت فيه، وهذا أمر طبيعي، ولكن مشكلتنا في تطبيق الاصلاحات التي نتجت عن الطائف. أن تطبيقها كان مجتزءاً وما طبق منه لم يكن سليماً، ولم تتوفر في تطبيقه، الإرادة الطيبة، إرادة الاصلاح، ولا حسن النية، ولا الرغبة في بناء دولة قانون ومؤسسات، فساد مبدأ التعطيل والعرقلة في التعاطي السياسي والتقاتل على المصالح والمغانم وعقلية الهيمنة ومنطق الغلبة واحتكار السلطة، واللجوء إلى الخارج والاستقواء به في حل مشاكل وأزمات الداخل، واستغلال الدين في السياسة، فكيف نلجأ إلى طائف جديد، والطائف هو على الحال الذي وصفناه وتجربته لم تكتمل، وكيف نعرّض البلاد إلى تجربة جديدة لا تُعرف نتائجها، وطريقها محفوف بالمخاطر ولا رؤية لها؟ وهل نغامر بحرب أهلية لا أفق لها ولبنان لم يخرج بعد من آثار الحرب الأهلية الماضية التي دمرت النفوس، أم نسعى إلى استكمال تطبيق دستور الطائف، والبحث في تصحيح الثغرات التي نتجت عن تطبيقه وهو أمر مطلوب ومرغوب، بالحوار البنّاء، وبالطرق الديموقراطية ووفقاً للأصول الدستورية، وفي مناخ من الثقة والرغبة الحقيقية في بناء الدولة، دولة الحق والمواطنة.

بذلك، نؤسس للدولة الدستورية، التي تخضع في كل جوانب عملها، التشريعية منها والتنفيذية والقضائية، للدستور، وبحيث يصبح العمل السياسي ليس عملاً يخضع للإستنساب والأهواء، أوتحكمه المصالح والتحالفات والصراعات الفئوية والحزبية والسياسية، بل تغنيه وتهذبه وتنقيه الجوانب والاعتبارات القانونية والدستورية، التي تشكل دائرة أمان ووقاية لهذا العمل، وهذا ما يحصّن العمل السياسي ويصونه ويبقيه في دائرة الدستور.

6-هل خيّب الطائف توقّعات الشباب اللبناني على وجه التحديد، إذ انتج نظاماً يصعب محاكمته، أو تغييره، ولا مكان للشباب فيه؟
من خيب آمال وتوقُّعات الشباب اللبناني، هل هي الطبقة السياسية التي أطاحت باتفاق الطائف وأعاقت تطبيقه وخالفت أحكام الدستور، ولم يكن لها لا رغبة ولا إرادة في بناء دولة؟

إن المشكلة لا تكمن في الطائف، ولكن في من طبق الطائف، وخرج على أحكام الدستور، والمشكلة في ممارسة الحكم وفي من أمعن في مخالفة القوانين ومن حاول الهيمنة على مقدرات البلاد وضرب اقتصادها والثقة بها، وخيب آمال اللبنانيين جميعاً والشباب منهم بصورة خاصة في بناء وطن ودولة تلبي طموحاتهم وأمانيهم وتؤمن لهم كرامة الحياة وتطمئنهم إلى مستقبلهم ومصيرهم.

أختم فأقول، لا بديل للمواطن عن الدولة، ولا يمكن لسلطة مهما أوتيت من القوة أو القدرة أن تحل محل الدولة، أو تؤمن الحماية للمواطن، ولا يجوز للطوائف أو للأحزاب أو للقوى السياسية أن تقاسم الدولة سلطتها أو تنازع الدولة على سلطتها، أو تشاركها في السيادة على إقليمها أو على مواطنيها، لأن ذلك لا يضعف سلطة الدولة فقط ويذهب بهيبتها ويلغي دورها، بل إنّ ذلك يؤثر على الكيان ويشكل خطراً على وحدة الدولة ويضرب الوفاق الوطني وصيغة العيش المشترك في الصميم.

لم يعد من المقبول أن تستقوي الطوائف أو الأحزاب أو القوى السياسية، على الدولة وأن تتحدى سلطة الدولة، أو أن تصادر الحقوق والحريات، أو أن تستقطع لنفسها الإدارات والمرافق العامة، وأن تتوزع منافعها وخيراتها، وتتبادلها من وقت لآخر، لأن ذلك كلّه يقوّض أركان الدولة، ويهدم مقوماتها وركائزها، ويلغي مفهوم الحرية والديموقراطية، ويجعل الدولة ومؤسساتها حقلاً للتجاذب والمنافع، ويجعل الطوائف في مواجهة بعضها البعض، ممّا يسيء إلى علاقات الود والتفاهم والتعاون والثقة التي يجب أن تسود في ما بينها، بحيث يصبح اللبنانيون في خدمة طوائفهم لا في خدمة مواطنيهم، وهو ما أدى إلى تعميق الحساسيات الطائفية والمذهبية، وحوّل الساحة اللبنانية إلى ساحة صراع وتنافس داخلي بين هذه الطوائف والمذاهب، تتسرب إليها الصراعات الإقليمية والدولية كما يتسرب المطر من سقوف وجدران البيوت، فتغرق هذه البيوت بالمياه وتفقد صلاحيتها للسكن، كما يقول الرئيس الدكتور سليم الحص.
لم يعد مقبولاً أن نختبئ وراء طوائفنا أو نحتمي بمذاهبنا، بادعاء تمثيلنا لهذه الطوائف والمذاهب، أو الدفاع عن حقوقها، ونحن لا ندافع إلّا عن مصالحنا الشخصية ومكاسبنا المادية، ونسعى إلى تأمين بقائنا واستمرارنا في السلطة وإحكام القبضة على مؤسسات الدولة ومرافقها، بحسباننا نملك حق تمثيل الشعب، ونحن قد أفقدنا الناس، بسياساتنا وتصرفاتنا الثقة بالدولة ومؤسساتها.

يريد أهل السياسة وضع أيديهم على كل شيء حتى إيمان الناس، فيدّعون تمثيلهم للطوائف والدفاع عن حقوق الطوائف، فيلبسون رداء الطوائف والمذاهب، ليحتموا به، ويعفون أنفسهم من المساءلة والمحاسبة، لا تقحموا الدين بالسياسة، دعوا الناس يعيشون إيمانهم، إيمانهم يجمعهم ولا يفرقهم، وسياساتكم الطائفية والمذهبية تمزق جموعهم وتدمر حياتهم.
يجب أن نعتاد العيش في كنف الدولة، أن نتقبل فكرة الدولة وأن نحترم قوانينها ودستورها، أن نخضع لسلطانها، لأننا خارجها نكون جماعات وطوائف وقبائل متناحرة لا رابط فيما بيننا ولا كيان لنا.

لم تكن المشكلة في الطائف، فسَّرنا الطائف بحسب أهوائنا، أردنا حكم تراكم صلاحيات، هيمنة وتسلط، لا مسؤولية فيه ولا مسؤول، وأردنا حكومات تحت عناوين وطنية جامعة، حيث لا وطنية، حيث نتهرب من المسؤولية والمحاسبة، لا تغيير فيها ولا إصلاح، مجرد استنساخ وجوه وأشخاص، تبادل مصالح ومنافع، وتوارث مواقع، فقدنا الأصل والجوهر، الحرية والديموقراطية وأخلاقيات الحكم والضمير، نعيش في سراب يظنه الظمآن ماءً، حيث لا ماء ولا هواء نظيف… فساد وظلام.


معالي الوزير بارود الدخول الى الجمهورية الثالثة مطلوب من وجهة نظر اصلاحية

معالي الدكتور زياد بارود

وثيقة الطائف سمحت بوقف الحرب الأهلية الطويلة، إلى ذلك، ما أهميتها الدستورية والسياسية برأيكم؟

لقد شكّلت وثيقة الوفاق الوطني مفصلا بين جمهوريتين، ولكنها لم تحُل دون استمرار ما أعاق قيام الدولة في الأولى، بحيث استمرت الثانية مأزومة، حتى بلغ الأمر اليوم إلى نقاش في ضرورة البحث عن أسس جديدة لجمهورية ثالثة. في السياسة، ثمة قراءات مختلفة وغالبا متناقضة. البعض يقرأ في الطائف تأسيسا لمسار جديد قد يسمح، فيما لو طُبّق فعلا، بممارسة سياسية أسلم وأكثر عدالة، فيما البعض الآخر يرى فيه تسوية غير مكتملة لا يمكنها أن تنتقل بلبنان من حالة مأزومة إلى استقرار. أما دستوريا، فلا بد من التمييز بين الأحكام التي وردت في اتفاق الطائف وتُرجمت بعده بتعديلات دستورية (21/9/1990)، من جهة، وبين الأحكام التي بقيت منصوص عليها في الاتفاق المذكور فقط، من جهة أخرى. وأعطي مثلا عن كل من هاتين الفئتين من الأحكام: إستحداث مجلس شيوخ، مثلا، ورد في الطائف ومن ثم أصبح منصوصا عليه في المادة 22 من الدستور في تعديلات 1990. أما اللامركزية الإدارية، فوردت في نص اتفاق الطائف تحت عنوان الإصلاحات لكنها لم ترد في الدستور. وعلى ذلك، فإن كل ما ورد من تلك الأحكام في نص دستوري بات له قيمة دستورية كاملة، بما في ذلك مقدمة الدستور التي أضيفت إليه عام 1990 والتي تضمّنت مبادئ عامة على قدر كبير من الأهمية والتي أفتى المجلس الدستوري عام 1997 بأنها ذات قيمة دستورية كاملة. أما الأحكام في الطائف التي لم تُترجَم نصوصا دستوريا، فيبقى لها قيمة معنوية وسياسية وتحفيزية ومرجعية ولكن طبعا دون القيمة الدستورية. هكذا، مثلا، تشكّل الفقرة المتعلقة باللامركزية إطارا مرجعيا لأي قانون ينظّم هذه الأخيرة ولكن دون أن ترتقي إلى القيمة الدستورية.

هناك من يقول ان الطائف عمًق أزمة النظام السياسي اللبناني الطائفي بدل الاسهام في حلها؟

النظام السياسي الطائفي لم يبدأ عام 1989/1990. هو يضرب عميقا في تاريخ البلد وفي آليات حكمه المستعصي وفي مؤسساته منذ قرون. ألم يكن مجلس الإدارة في المتصرفية طائفيا؟ ألم يعترف المفوض السامي المنتدب في القرار 60/ل.ر. الشهير بالطوائف «المعترف بها تاريخيا»؟ ربما كان من المأمول في الطائف الخروج من الحالة الطائفية في اتجاه تعزيز الدولة المدنية دون إلغاء الطوائف بما هي مصدر تنوع وغنى، لكن النصوص التي ترجمت هذه الفكرة جاءت معقدة، غير واقعية ولم تواكبها أية ظروف داعمة، بل على العكس. فالمادة 95 لا تزال حتى 2020 تطرح إشكاليات في التطبيق، ناهيكم عن عدم تشكيل الهيئة الوطنية. والمادة 22 من الدستور التي قالت باستحداث مجلس للشيوخ «تتمثل فيه العائلات الروحية» (لاحظوا تلطيف التعبير المستعمل للدلالة على الطوائف) ربطت هذا الاستحداث بانتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، فتعطّلت الآلية. والمادة 24 من الدستور التي أشارت إلى توزيع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين لم تلحظ تمثيل اللاطائفيين المنتمين إلى «طائفة القانون العادي» ولا اليهود اللبنانيين (وهؤلاء ليسوا صهاينة) فمنع النص الدستوري تمثيل هاتين الفئتين. وبعد 30 سنة على اتفاق الطائف وتعثّر وتعذّر تطبيقه، يمكن القول إن الاتفاق، بما نصّ عليه كما وبالطريقة التي طبّق أو لم يطبّق فيها، قد أدى عمليا إلى تعميق أزمة النظام السياسي بدل حلّها. يكفي النظر إلى تعطيل آليات الحكم السليم وتعاظم الفساد السياسي وفترات الفراغ الطويلة للتأكد من أن الأمور تحتاج إلى إصلاح بنيوي لتأمين انتظام الحياة السياسية.

هل عدم تطبيق كامل بنود الطائف، وخصوصا تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس الشيوخ، هي الوقود المستمر في إشعال الخلافات اللبنانية، ام ان الامر سيان؟

هذه إحدى العناوين ولكنها لا تختصر الأزمة الدستورية. في اعتقادي أن ثمة ثغرات في الدستور لا بد من مقاربتها وهي تتعلق بالمؤسسات الدستورية وانتظام العمل فيها، كغياب بعض المهل، مثلا، كأن يبقى تشكيل الحكومة مفتوحا في الزمن. في كل دول العالم تطرأ أزمات حكم وإدارة ولكن الدستور، أي القانون الأساسي وهو الأسمى، يبقى المرجع والحل. للأسف، تحوّل الدستور في لبنان إلى وجهة نظر يختبئ وراءه البعض في تفسيرات غريبة عجيبة دعما لمواقف سياسية يتخذونها. وللأسف أيضا، لم يعطَ المجلس الدستوري عندما أنشئ عام 1990 صلاحية تفسير الدستور، بل حُجبت عنه قصدا.

ما الثغرات الكبرى التي افرزتها ممارسة الطائف حتى الآن؟

الثغرة الأبرز كانت ولا تزال عدم تطبيقه وأحيانا سوء تطبيقه. بعض ما ورد فيه لم يطبّق إطلاقا حتى الآن، أي بعد ثلاثة عقود على إقراره، كاللامركزية الإدارية، وهي إصلاح أساسي وجوهري وتغييري وكذلك مقاربة الطائفية السياسية بجرأة وصراحة. وبعض ما ورد طبّق متأخرا. وفي التطبيق، تبيّن أن بعضا مما أقرّ في الطائف لا يؤدّي فعلا الغاية المرجوة منه.

وأسوق مثلا على ذلك: أكثرية الثلثين في مجلس الوزراء بالنسبة لبعض المواضيع المسمّاة أساسية. الغاية منها كانت ضمانة حصول القرار في إحدى هذه المواضيع على أكثرية موصوفة في التصويت، فإذا بضمانة الثلثين تُقابَل بالثلث المعطّل! اللائحة تطول في موضوع الثغرات الدستورية التي لا بد من فتح ورشة إصلاحية بشأنها لا تعيد النظر بالضرورة بالأساسيات وإنما تقارب الثغرات التي منعت ولا تزال تمنع انتظام الحياة السياسية على الوجه الصحيح الذي يؤمن الاستقرار المطلوب ومشاركة الجميع في الساحة العامة. الديمقراطية لم تعد مفهوما عدديا. الديمقراطية هي حماية الأقليات وإشراكها في القرار، أكانت أقليات سياسية أو فكرية أو ثقافية… الأقليات ليست فقط طائفية.

أخيراً، هل يمكن فتح باب تعديل الطائف الان، ام انها خطوة متهورة غير محسوبة النتائج؟

بعد ثلاثين عاما على إقراره، المطلوب الحدّ الأدنى تقييم اتفاق الطائف بجرأة وصراحة ودون عقد أو أفكار مسبقة. وهذا أمر صحي ويجب أن يحصل. أما التعديل الدستوري، بمعنى الدخول إلى الجمهورية الثالثة، فهو مطلوب أيضا من وجهة نظر إصلاحية تنقل لبنان إلى حال أفضل، لكن هكذا تعديل يحتاج إلى مجلس نيابي غير مشكوك بصحة تمثيله يستطيع أن يتخذ قرارات تحمي لبنان الرسالة ومعنى لبنان لعقود قادمة، وإلاّ، فمؤتمر تأسيسي أخشى من أن يكون على قاعدة غالب يفرض فيه رأيه على مغلوب. لذلك أرى أن قانون الانتخاب جوهري لإنتاج حالة تمثيلية حقيقية تأخذ على عاتقها مناقشة ما يلزم من أمور بذهنية منفتحة، جامعة، وعلى قاعدة أن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك، على ما ورد في مقدمة الدستور.


معالي الوزير د. عدنان السيد حسين: ثمة ايجابية كبيرة طرحها اتفاق الطائف وهي الغاء الطائفية

1- الشائعُ أنّ اتّفاق الطائف سمح بإنهاء الحرب الأهلية الطويلة 75 -90 ، ولكن أبعد من ذلك ما الثغرات برأيكم في الدّستور والنظام اللبناني السياسي التي استدركتها إصلاحات وثيقة الطائف كما باتت تُسَمّى ؟

معالي الوزير د. عدنان السيد حسين

اتّفاق الطائف، أو وثيقة الوفاق الوطني، عقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين جاء تتويجاً لمجمل الأوراق والمشاريع الإصلاحية خلال الحرب الأهلية. من الإصلاحات التي طرحها الرئيس سليمان فرنجية، إلى المبادئ الوفاقية للرئيس الياس سركيس، إلى أفكار متراكمة طرحها قادة لبنانيون ومراجع عربية ودولية…
اللافت في هذا المسار الطويل موافقة مجلس الأمن الدولي على اتفاق الطائف في بيان جماعي، أي ثمة غطاء دولي فضلاً عن المواكبة العربية من خلال لجان المتابعة المتواترة. ويمكن القول إنّ التفاهم الأميركي – السوري- السعودي على هذا الاتفاق كان مُحِقّاً، فضلاً عن الموافقات الأوروبية وغيرها من القوى الدولية.
صحيح، إنّ الاتفاق أنهى الحرب الأهلية في لبنان، بيد أنه تضمّن مبادئ وأفكاراً إصلاحية تحوّلت إلى مواد دستورية، وشتّان ما بين النصوص المكتوبة والتطبيقات الفعلية على أرض الواقع!.
أهم الإصلاحات التي تضمّنها الاتفاق: المبادئ العامة التي أجابت عن سؤال مركزي هو: أي لبنان نريد؟

لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه، أم لبنان عربي الهوية والانتماء أم لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريّات العامة، والعدالة الاجتماعية، والمساواة في الحقوق والواجبات بين «جميع المواطنين» دون تمييز. والشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة، وفصل السلطات وتوازنها وتعاونها. والنظام الاقتصادي الحر. والإنماء المتوازن للمناطق. وأرض لبنان واحدة لكل اللبنانيين، ولا شرعية لأيّة سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك؟.
لا نعتقد بوجود أيّة حاجة، أو ضرورة ، لتعديل أو تغيير هذه المبادئ الأساسية. بيد أن المعضلة تكمن في التطبيق، ولذلك أسبابه الداخلية والخارجية.

في مُجمل الأحوال لا يصح طرح السؤال مجدّداً: أيَّ لبنان نريد؟
إلى ذلك، ثمة إيجابية كبيرة طرحها اتفاق الطائف هي: إلغاء الطائفية. حسبنا هنا مراجعة المادة 95 من الدستور التي دعت لتشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية، وألغت فوراً طائفية الوظائف العامة في الدولة باستثناء وظيفة الفئة الأولى التي ظلّت موزعة مناصفة بين المسلمين والمسيحيين «دون تخصيص أيّة وظيفة لأيّة طائفة». إنها العبارة اليتيمة التي يتناساها جميع أهل الحكم.
هناك إصلاحات عدّة تضمنها الاتفاق: إجراء انتخابات عامّة نيابية خارج القيد الطائفي، وتشكيل مجلس شيوخ طائفي للبتّ بالقضايا المصيريّة فقط، مع إعادة النظر بالتقسيم الإداري، وإناطة السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء مجتمعاً.
واعتماد خطّة إنمائية موحَّدة شاملة للبلاد.
وإنشاء مجلس دستوري لتفسير الدستور ومراقبة دستورية القوانين…
وتدعيم استقلال القضاء بانتخاب عدد مُعيّن من أعضاء مجلس القضاء الأعلى من قبل الجسم القضائي.
وتوفير العلم للجميع وجعله إلزامياً في المرحلة الابتدائية على الأقل. وإصلاح التعليم الرسمي والمهني والتقني، وإصلاح اوضاع الجامعة اللبنانية، وإعادة النظر في المناهج التربوية والتعليمية بما يعزّز الانتماء والانصهار الوطنيين…
وإعادة، تنظيم الإعلام في ظل القانون وفي إطار الحريّة المسؤولة بما يخدم التوجّهات الوفاقية وإنهاء حالة الحرب.
وإقرار حق كل مُهجَّر بالعودة إلى المكان الذي هُجِّر منه.
كل ذلك، وغيره، جاء في النصوص. بيد أن التطبيقات لم تحصل، وإن حصل بعضها فإنّه جاء بصورة مشوّهة!

2- من وجهة سياسية ودستورية، هل بدلت إصلاحات وثيقة الطائف من الطبيعة الجوهرية للنظام السياسي اللبناني، أم اكتفت بتعديلات وتصحيحات خارجية وحزبية؟

لأنّ اتفاق الطائف لم يُنَفَّذ؛ لا نستطيع قياس أهمّيَّته التغييرية إلّا مع التطبيق بلا هروب وبلا مواربة .
ثمّة إصلاحات مهمَّة تضمّنها الاتفاق كما أشرنا، بيد أنَّ القيِّمين على لبنان الوطن ولبنان الدولة بعد الطائف لم ينجحوا في تحويل الاتِّفاق إلى ممارسات تطبيقية. بل اتّخذوه مظلّة للاستئثار بالحكم والسلطة، مرّة باسم الطائفة، ومرّة بالاستقواء بالوصاية السورية وغيرها من الوصايات القريبة والبعيدة.

ولأنّ الإصلاح السياسي هو أساس الإصلاح في الدستور والقانون، أخفقنا في بناء الدولة عندما أخفقنا في تحقيق الإصلاح السياسي، وعليه فإنَّ المعضلة لا تكون في غياب النصوص، وإنّما في غياب الإرادة السياسية الوطنية والظروف الخارجية المساعدة على الإصلاح.
لذلك، بقي النظام السياسي اللبناني يدور في الفلك الطائفي والمذهبي بل والاقطاعي، وظل الدستور مجرّد مواد مكتوبة.

3- بعد 30 سنة من توقيع اتفاق الطائف، وتحوّل الوثيقة الى جزء من الدستور، هل في الوثيقة بنود لم تُنفَّذ؟

نجيب بكل صراحة؛ اتفاق الطائف لم ينفّذ، وما جرى تنفيذه جزئياً تحت هذا العنوان الكبير حصل بما يخالف جوهر الاتفاق، أو جوهر العقد الاجتماعي بين اللبنانيين.

ظلَّ بعض اللبنانيين يسألون: أيَّ لبنان نريد؟ علماً بأن الجواب كامن في مقدَّمة الاتفاق التي صارت حرفيّاً مقدَّمة للدستور.
اتفاق الطائف جاء ليلغي الطائفية على مراحل، لكن ما حصل هو تعميق للطائفية، ثم للمذهبية، فضلاً عن إثارة العصبيات بما يناقض القانون الجزائي اللبناني الموجود قبل الحرب الأهلية!
اتفاق الطائف لم يلغِ صلاحيات رئيس الجمهورية، وإنما نقل جزءاً منها لمجلس الوزراء مجتمعاً، وليس لرئيس مجلس الوزراء! نشير هنا إلى أنّ أهم صلاحية لرئيس الجمهورية بقيت في عهدته هي: «لا تبعة على رئيس الجمهورية حال قيامه بوظيفته إلّا عند خرقة الدستور أو في حال الخيانة العظمى». إنها صلاحية عظيمة لرئيس الجمهورية في الفقه السياسي والدستوري.
إلى ذلك، جميع الانتخابات النيابية التي حصلت بين عامي 1992 و 2018 خالفت اتفاق الطائف، الدائرة الانتخابية هي المحافظة، ذلك لم ينفّذ. وصار إجراء الانتخابات «خارج القيد الطائفي» حلماً من الأحلام!…
وانتزع مجلس النواب صلاحية تفسير الدستور من المجلس الدستوري. تلك هرطقة دستورية.
وفوق كل ذلك، انتشرت عبارة «الرئاسات الثلاث»، علماً بأنّ رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة أي إنّه رئيس مُجمل المؤسّسات التي تتضمنها الدولة، في حين أنّ رئيس مجلس النواب هو رئيس السلطة التشريعية حصراً، ورئيس الحكومة هو رئيس مجلس الوزراء حصراً، وتالياً، يمكن القول إنَّ تشكيل «ترويكا الحكم» من الرؤساء، الثلاثة منذ العام 1992 هو مخالف لجوهر الاتفاق والدستور، بل هو هرطقة دستورية.

أين تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة؟، عِلماً بأن هذه اللامركزية لا تعني في حال من الأحوال اللامركزية السياسية أو الفيديرالية التي يطرحها بعض الفئويين الذين لا يفقهون قواعدها ولا يعرفون نتائجها!.
أمّا إستقلال القضاء فقد طُعِن غيرَ مرة. وهل نصدّق أن لبنان الذي عرف قضاءً فاعلاً ونزيهاً قبل العام 1975 يتعرّض للإحتواء من السياسيين حتى صار مطلب استقلال القضاء مطلباً عاماً للبنانيين منذ انتفاضة تشرين الأول 2019؟.
وماذا بقي من التعليم الرسمي الذي سجّل أهم الإنجازات الأكاديمية بين الدول العربية؟
ولماذا محاصرة الجامعة اللبنانية، ونحن الذين نعلم كيف تُحاصَر وتُصادَر استقلاليّتها كمؤسّسة عامة مستقلّة؟

4 – بعد 30 سنة من ممارسة الطائف، ما الثغرات أو النواقص التي برزت، وبخاصة في ما يسمى تنازع الصلاحيات بين الرِّئاسات الثلاث؟ وما هي التعديلات التي تبدو ملحَّة لتُضاف الآن؟

أشرنا إلى بدعة ترويكا الحكم، واستنادها إلى الطوائف الثلاث الكبرى (الموارنة والسنّة والشيعة)، بما يقود إلى إدارة الدولة بالتوافق الثلاثي وهذا مخالف للمادة السابعة من الدستور ولمفهوم الشعب الذي هو مصدر السلطات والسيادة الوطنية.
راحت كل سلطة من السلطات الثلاث تستقوي بطائفتها في مواجهة الطائفتين المقابلتين. هذا ما قاد إلى تعطيل عمل مؤسّسات الدولة أو وقوعها في التعثّر الوظيفي.
يبقى السؤال: ماذا عن صلاحيات الطوائف الثلاث الأخرى، والمعيار هنا القوة العددية كما درج المسؤولون في هذا النظام السياسي؟ ونقصد هنا طوائف الموحِّدين الدروز والأرثوذكس والكاثوليك. وإذا ما تم إرضاء هؤلاء بالمحاصصة – وبما يناقض مبدأَيِّ المساواة والعدالة – ماذا عن بقية الطوائف، وكيف ستشارك في الشأن العام مثل طوائف: العلويين والسريان والبروتستانت واللاتين وغيرها؟.
كل ذلك يكشف هشاشة النظام السياسي الطائفي الذي عطّل ويعطّل الحياة الدستورية. ولا بدّ والحال هذه من تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، واعتماد الانتقال التدريجي إلى المداورة في تولِّي رئاسة السلطات تمهيداً لإلغاء طائفيّتها نهائياً.
ولنتذكر جيداً بأن أوّل رئيس للجمهورية في عهد الإنتداب الفرنسي كان شارل دباس الأرثوذكسي، ثم تولّى لاحقاً رئاسة الجمهوية أيّوب ثابت البروتستانتي، فهل تراجعت حقوق البلاد والعباد في هذه الحال؟

5 ـ هل بالإمكان الزعم أنّ وثيقة توزيع الصلاحيات على عدد من المواقع هو نموذج يمكن النّصح به في المجتمعات ذات المكوّنات الاجتماعية والثقافية والدينية المتعددة والتي تعاني الاضطراب؟

من المستحيل توزيع الصلاحيات على 18 طائفة في لبنان، أمّا المعيار العددي فهو مناقض لمقدمة اتفاق الطائف والدستور من حيث هو مجافٍ لحقوق الانسان ولمفهوم الشعب، الذي يجب أن يكون مجموع المواطنين لا مجموع الجماعات.
ثمّة مبالغة مقصودة بإظهار التعدّدية الطائفية، وأحياناً الثقافية، بين اللبنانيين، علماً بان دولة الهند – على سبيل المثال – تضم أكثر من 120 لغة وقومية، وأنشأت أكبر ديمقراطية في هذا العالم. كما أن الولايات المتحدة الأميركية تتكوّن من خليط عالمي في الدين والشكل واللون والثقافة، ومعضلتها تكمن في التمييز العنصري الذي تمارسه الأكثرية البيضاء ذات الأصول الأوروبية!.
أخطر ما في لبنان، أن يطرح بعض المراهقين في الفكر السياسي والدستوري الحل الفيديرالي؛ فالفيدرالية تقوم على وحدة السياسة الخارجية ووحدة السياسة الدفاعية إلى وحدة النقد الوطني . والفيدرالية تقوم بين ولايات منفصلة، وفي مساحة كبرى من الأرض، ولا تنشأ ضمن دولة واحدة ذات الشكل الدستوري البسيط كما هي الحال في لبنان الصغير المساحة.
ما يمكن النّصح به في الحالة اللبنانية، إطلاق فكرة المواطنة في الفكر والثقافة، ثم في السياسة، بالتزامن مع إرساء حكم القانون في ظل استقلال السلطة القضائية، ونشير هنا إلى أنّ ما يجمع اللبنانيين في الثقافة والعادات الاجتماعية أكثر ممّا يفّرقهم، هكذا كان الرّيف اللبناني أساس الاجتماع في إطار اللغة العربية، وهذا ما لا يُضير الانفتاح على العالم.

6 ـ وأخيراً، خارج المجال السياسي والدستوري، هل لحظت وثيقة الطائف، أم قصّرت في لحظ الاختلالات البنيوية المتّصلة بالتنمية غير المتكافئة في قطاعات الاقتصاد كما بين جهات الوطن… وهي الثغرة التي دخلت منها كل الاضطرابات التي عانت منها البلاد منذ الاستقلال ؟

ينطوي هذا السؤال على الرّصانة، ومقاربة الحياة الاجتماعية وتالياً السياسية بكل مسؤولية.
صحيح أنّ إتفاق الطائف تحدث على الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً، واعتبره ركناً أساسياً من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام. هذا صحيح، ولكنه بقي بلا تنفيذ، لا بل يمكن القول بوجود فوضى عارمة في أيّة مقاربة – ولا نقول خطّة – تنموية، حسبنا الاعتراف بأننا الدولة الوحيدة في هذا العالم التي تفتقر إلى النقل المشترك !
نحن من الدول الفاشلة في إيجاد حل سريع لمشكلة الكهرباء، وما لذلك من نتائج سلبية في الاقتصاد والاجتماع والمالية العامة.
ونحن مُصنّفون في خانة الدُّول الأكثر فساداً في العالم ، فماذا يبقى من دور لوطن الرسالة؟
أهدرنا ونهدر اليوم أربع قدرات إنتاجية للبنان على الرّغم من الحروب والمآسي التي تعاني هذه القدرات الوطنية إنّها: المياه العذبة، والصناعة السياحية، والتعليم العالي، والطب والاستشفاء!
في الإنماء المتوازن، ونفضّل عبارة الإنماء الشامل، نقترح اعتبار لبنان وحدة اجتماعية وجغرافية واحدة Unit) ) ذلك في توفير المياه والكهرباء والنقل المشترك والصحة العامة وحماية البيئة الطبيعية والتعليم العام .

7 – ملاحظاتكم الأخيرة…

إذ نشكر مجلة الضّحى التي تصدّت لهذا الموضوع الحيوي والمصيري، نقترح الأولويات الآتية :
أ – الانطلاق من استقلال القضاء أوّلاً، من خلال إقرار قانون جديد يتيح بناء السلطة القضائية بالانتخاب من جانب القضاة، و يمنحها الحصانة المطلوبة للقيام بواجبها الوطني.
ب – التربية على المواطنة في مناهج التربية والتعليم من مرحلة التعليم الأساسي إلى التعليم العالي.
ج – اعتماد لبنان وحدة جغرافية واحدة في الإنماء الشامل، بالتزامن مع تمكين القضاء من مكافحة الفساد.
د – اعتماد قانون مدني موحّد للأحوال الشخصيّة، بما لا يتناقض مع جوهر الشريعة الاسلامية الهادف للخير العام، وبما لا يتعارض مع البعد الانساني الذي تحمله المسيحية.
هـ – اعتماد المحافظة مع النظام النسبي في الانتخابات النيابية العامة، تمهيداً لاعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة في مرحلة لاحقة.
و – التمسك بالإصلاحات التي تضمنها اتفاق الطائف شريطة وضع برنامج زمني للتنفيذ.


 

عن “الطائف” والحاجة له: لا تلعبوا بالنار!

أ. رامي الريس

أ. رامي الريس (كاتب سياسي)

كُتِبَ الكثير عن اتفاق الطائف، عن ظروف ولادته واستمراره، عن دوره في إعادة توزيع الصلاحيات السياسيّة بين المؤسسات الدستوريّة، وعن المعاني «الطائفيّة والمذهبيّة» لعمليّة إعادة التوزيع هذه، وعن عدم تنفيذ العديد من بنوده لا سيّما الإصلاحيّة منها، وعن مدى الحاجة إليه بعد نحو ثلاثين سنة من ولادته.

وكُتب الكثير أيضاً عن تعديله: «بالممارسة»، وهو ما يعني عملياً انتهاك الدستور ومخالفة أحكامه، لأن بنود الاتفاق تم إدخالها في نصوص الدستور سنة 1990 وأصبحت نافذة منذ ذلك التاريخ ويفترض احترامها من كل القوى السياسيّة. فغريب كيف يمكن لأطراف معيّنة أن تفاخر بانتهاكها الدستور ومخالفته بهدف تحقيق غاياتها السياسيّة ومصالحها الفئويّة الخاصة.

وإذا كان هذا السلوك يدّل على شيء، فإنه يدّل على أن الثقافة الدستوريّة معدومة لدى البعض، ومفهوم الدستور الذي يسمو فوق كل القوانين ويظلّلها هو مفهوم مجتزأ بالنسبة لها ومشوّه بما يخالف أبسط أصول الأداء المؤسساتي والسياسي في الديمقراطيّات العريقة التي لا تقبل أن تحيد عن تطبيق الدستور بل تؤكد احترامها له عند كل محطّة ومنعطف.
إذن، المشكلة في لبنان تكمن في جانب أساسي منها في احترام الدستور وتطبيقه. فالتطبيق هنا مرتبط بتفاهم القوى السياسية! إذا لم تتفق الأطراف السياسيّة على تطبيق الدستور تعلّق بنوده، بكل بساطة! هذا يعني أن اللاعبين السياسيين هم فوق الدستور، وفوق القانون بينما المفروض أن الدستور هو الذي يحدّد أدوارهم وصلاحياتهم!
السير على درب تكريس الثقافة الدستوريّة واحترامها يتطلّب مسافة زمنية من الوقت، ولكن الأهم أن يتطلَّب ترفّعاً وسموّاً في السلوك السياسي لدى مختلف مكوّنات المجتمع اللبناني.

ثمة قوى سياسيّة لبنانيّة شوّهت فكرة حق المشاركة في السلطة وحوّلتها إلى حقٍ في التعطيل، بدل أن تتيح «الديمقراطيّة اللبنانيّة» مجالات المشاركة لمختلف القوى إنطلاقاً من طبيعة التركيبة السياسيّة المحليّة القائمة على التعدديّة والتنّوع بما يحول دون شعور أي من المكونات بالغبن والإجحاف والتهميش، وبذلك تحوّلت العمليّة السياسيّة اللبنانيّة إلى ما يشبه التفاهمات القبَلية التي تستطيع من خلالها «القبائل المتصارعة» أن تمارس حق النقض ضد بعضها البعض.

لقد نصّ إتفاق الطائف على عددٍ من البنود الاصلاحيّة التي لو أتيح المجال لتطبيقها، لكانت ساهمت في إرساء أسس الدولة المدنيّة القائمة على المساواة بين اللبنانيين وعدم التمييز بينهم وفق انتماءاتهم الطائفية والمذهبية التي تقف حائلاً ووسيطاً ثقيلاً بينهم وبين دولتهم.

فوثيقة الوفاق الوطني اللبناني تضمنت بنداً يدعو إلى تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية السياسيّة برئاسة رئيس الجمهوريّة ومشاركة رئيسَيّ مجلسي النواب والوزراء وشخصيّات وطنيّة من اتجاهات مختلفة ولها صفاتها التمثيليّة لدراسة الخطوات السياسيّة والتنفيذيّة الآيلة لإلغاء الطائفية السياسيّة. ومن المنطقي أن تسعى الهيئة المذكورة، التي لم تُشكّل بعد، إلى مراعاة كل الهواجس والمخاوف التي يمكن أن تتولد لدى الطوائف والمذاهب التي توّلت إدارة الحكم في لبنان منذ ما قبل الاستقلال بشكل أو بآخر. فليس المتوقع أو المطلوب أن تُتَّخَذ خطوات فورية جذرية دون الإعداد لخطة انتقالية مرحليّة تلحظ سبل توفير مقومات الانتقال السلس والهادىء والتدريجي نحو إلغاء الطائفيّة السياسيّة. ومع كل ذلك، يشكل مجرد طرح إنشاء الهيئة (وليس الإلغاء الفوري للطائفيّة السياسيّة) موجة هائلة من الاعتراضات السياسيّة المختلفة التي خنقت الاقتراح في مهده.

إنَّ الإجهاض المتتالي لكل المحاولات الإصلاحيّة وإجهاضها قبل ولادتها يؤكّد أن حالة الاحتباس السياسي مرشَّحة للاستمرار إلى فترةٍ زمنيّةٍ طويلة، ويؤكد أيضاً أن النفاذ نحو دولة مدنيّة تراعي مرتكزات احترام المؤسسات والقانون والعدالة الاجتماعيّة والمساواة والإنماء المتوازن وكل عناصر الدولة الحديثة التي يطمح إليها المواطنون، دونه عقبات جمّة.

كما أنّ الإصرار على إفشال تطبيق الخطوات الموازية لإنشاء الهيئة الوطنيّة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة مثل تشكيل مجلس الشيوخ لضمان حسن التمثيل الطوائفي وتحرير الحياة البرلمانيّة واليوميات السياسيّة من الاعتبارات الطائفيّة يؤكّد مرة أخرى الإصرار على إبقاء نظام المحاصصة التقليديّة هو السائد.

أمّا ما هو أكثر خطورة ويستهدف ليس اتفاق الطائف فحسب، بل الوحدة الوطنيّة اللبنانيّة برمّتها، فهو ما يُطرح من مشاريع تقسيميّة وفدراليّة تذكّر ببعض ما سبق أن طُرِح في حقبة الحرب الأهليّة وتم تجاوزه بكثير من التضحيات والدماء، فإذا به يطلُّ برأسه مُجدداً ناسفاً صيغة العيش المشترك التي كرسّها اتفاق الطائف وسعى لتحصينها.
هل لا تزال الحاجة لاتفاق الطائف قائمة؟ بكل تأكيد، ليس لأن هذا الاتفاق «مقدَّس»، فليس ثمّة مقدّسات في السياسة؛ بل لأن التفاهم على صيغة سياسيّة بديلة أو عقد اجتماعي جديد في الظروف الراهنة يبدو مستحيلاً بسبب اختلال موازين القوى الداخليّة بشكلٍ كبير، من جهة؛ وبسبب احتدام الصراعات الإقليميّة الكبرى من جهة أُخرى، ما يجعل مجرّد التفكير باستيلاد ميثاق وطني جديد مسألة في غاية الصعوبة والتعقيد.

من هنا، هل يمكن رمي البلاد في المجهول؟ وهل يمكن الترويج لمؤتمر تأسيسي جديد في الوقت الذي يعجز فيه اللبنانيون عن معالجة أبسط الملفات كالكهرباء والنفايات والبيئة والطبابة وسواها؟ هل يمكن الاستمرار بخرق الدستور كلما أتاحت الفرصة ذلك ومواصلة السياسات الشعبويّة ولو كان على حساب المصلحة الوطنية والاستقرار والسلم الأهلي؟

كل هذه الأسئلة المشروعة تعكس صعوبة الوضع اللبناني الذي اتّجه نحو الانهيار بفعل غياب المعالجات الاقتصاديّة والماليّة والنقديّة ما فاقم الأزمات المعيشيّة وزاد من تعقيداتها ومشاكلها، وأسقط آمال اللبنانيين وأحلامهم وطموحاتهم بدولةٍ توفّر لهم مقومات العيش الكريم الذي يليق بهم.

لبنان يعيش أقسى الأزمات في تاريخه المعاصر، وبداية الحل تكون في تطبيق الدستور والتمسك باتفاق الطائف وإطلاق أوسع عملية إصلاح سياسي وإداري، وليس بنقض هذه المرتكزات الميثاقية التي أصبحت ضرورية أكثر من أي وقتٍ مضى.
هل «الطائف» ضرورة؟ نعم، بالتأكيد. لا تلعبوا بالنار!


لقاء مع سعادة القاضي عبّاس الحلبي: يجب الإسراع في انشاء مجلس الشيوخ

سعادة القاضي عبّاس الحلبي

1. رافقتم المُداولات التي قادت إلى عقد مؤتمر الطائف سنة 1989، هل كان من حل ممكن لإنهاء الحرب الأهلية الطويلة 1975-1989؛ بغير اتفاق الطائف أو ما يشبهه؟

تشابُك الأزمات أدّى إلى الحرب الأهلية في لبنان ابتداءً مِن سنة 1975 أو «حروب الآخرين على لبنان» وفق توصيف الراحل الكبير غسان تويني وهذا لَم يكن ليؤدّي إلى وقف الحرب لَو لَم تتوفر للبنان فرصةَ تحقيق الحد الأدنى من الوفاق الداخلي اللبناني – اللبناني بين أفرقاء الصراع والوفاق العربي – العربي والوفاق الدّوْلي-الدولي وهذه ميزة اتفاق الطائف بأنه استطاع جمع كل الأفرقاء على مشروع حل. ذلك أنّ الحروب في لبنان انطلَقَت بِشرارتِها بين بعض الفلسطينيين وبعض اللبنانيين إلاَّ أنها سرعان ما فجَّرَت التناقضات العميقة في الداخل اللبناني وكادَت أن تطيح بتسوية سنة 1943 بين المسلمين (السنّة بالأساس) والمسيحيين (الموارنة بالأساس). ثم دخلت التيارات والمخابرات والأموال للعديد من الدول العربية وإسرائيل وكذلك بعض البلدان الأخرى. من هنا أهمية هذه الوثيقة بأن توفرت لها ظروف لا نراها هذه الأيام ممّا يقتضي العودة إليها والتمسُك بها ووقف التشاطر للالتفاف عليها من قبل السلطة الحاكمة وبالمحصّلة فإنه لا بديل لها.

2. يقال إنّ نصوص اتفاق الطائف عزّزت روح الميثاق الوطني للعام 1943 من حيث قبول الجماعات اللبنانية إعادة تعريف الكيان كصيغة تعدّدية ديمقراطية؛ ويقول آخرون إنّها بدّلت في معادلات الصيغة اللبنانية القائمة لجهة توزيع السلطة؛ كيف تَرَوْن الأمر؟

ليس من قبيل التكرار القول إنّ هذه الوثيقة قد أمَّنت للطوائف الرئيسية في لبنان أجوبة على هواجس تاريخية هي الخوف عند المسيحيين والغُبن عند المسلمين والحرمان لبعض شرائح المجتمع، فجاءت هذه الوثيقة تعطي الاطمئنان للمسيحيين بالقول إنّه مهما كان العدد عدد المسيحيين أو عدد المسلمين فإنَّ الوثيقة أخذت بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين. كما أمّنت للمسلمين رفع الشعور بالغبن وذلك بإعادة صياغة صلاحيات رئيس الجمهورية ومنح مجلس الوزراء مجتمعاً صلاحية السلطة التنفيذية كما أعطت هذا المجلس المُشكّل من ممثلين لجميع الطوائف اللبنانية الإمرة على القوات المسلحة التي أصبحت خاضعة لسلطة هذا المجلس وحصنت موقع رئاسة الحكومة كما حصنت موقع رئيس المجلس النيابي بجعل مدة ولايته أربع سنوات وهي مدة ولاية المجلس مع إمكان نزع الثقة عنه بعد مرور سنتين. وأقرت الوثيقة مبدأ الإنماء المتوازن لجميع المناطق حتى لا تشعر منطقة أنها محرومة وأخرى غير محرومة وأعطت ضماناً لهاجس يتشارك فيه جميع الطوائف بحفظ الجماعات بما يطمئن الدروز عن طريق إقرار قيام مجلس الشيوخ ولضمان حقوق هذه الطوائف بعد انتقال التمثيل النيابي إلى خارج القيد الطائفي. هذا عدا إقرار نهائية الكيان اللبناني وأن لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك.

إلّا أنّ هذه المبادئ جرى الانقلاب عليها بعد تبدل الظروف الإقليمية المحيطة بإقرار الوثيقة فجرت محاولات عديدة بواسطة قوانين الانتخاب وممارسة السلطة وابتداع الترويكا وحصر المؤسسات بالمذاهب وتوثُّب العديد من المسؤولين حصر التمثيل بأشخاصهم عن طريق المحادل الانتخابية وسوء التبذير والهدر والفساد في إقامة المشاريع حتى تحمَّلت الدولة أعباء مالية لا قبل لها على تحمُّلها. كما هُمِّشت شرائح واسعة من المجتمع اللبناني وتعاظمَ شعور الإحباط الذي لم يكن وقفاً على فئة دون أخرى.
إذاً فإنّ اتفاق الطائف أعطى مضموناً لميثاق 1943 دون أن يلغيه وهو ما عُرِفَ بمقدمة الدستور أو وثيقة الوفاق الوطني التي حددت المبادئ العشر التي تعتبر آية في الأدبيات السياسية في العالم.

3. و 4 هل أسهم اتفاق الطائف في تكريس طائفية النظام السياسي اللبناني واعتبار هويته الطائفية أبدية وهو أمرٌ لم يتضمّنه الدستور اللبناني؟ وما هي برأيكم أهم الايجابيات التي جاء بها اتفاق الطائف، أو نشأت عنه، وماهي السلبيات التي لم يكن بالإمكان تجنبها، أو التي برزت لاحقا بالممارسة؟

لا شك أن اتفاق الطائف انطلق من الواقع الطائفي ولكنه رامَ إلى الانتقال مِن دولة الطوائف إلى دولة المواطنة. وقد لحظ الدستور في المادة 95 منه آلية ولأول مرة للانتقال مِن مرحلة الطوائف إلى مرحلة المواطنة. ولكن هذه المادة كانت تقتضي مساراً يبدأ بقوانين الانتخاب وصولاً إلى التربية الوطنية وإسهام الإعلام في تهيئة النفوس لهذه المرحلة. ورأينا عكس ذلك في الممارسات فلجأ السياسيون إلى شد العصب الطائفي وصولاً أحياناً إلى إثارة الفتنة المذهبية والدولة عاجزة عن وقف ذلك نتيجة الوهن الذي أصابها والضعف في الحياة السياسية. فعوض عدم تخصيص أي مركز لأي مذهب أو طائفة، عمدَت السلطة إلى تكريس المذاهب في المراكز حتى باتت الإدارات مقاطعات مذهبية تُحشر فيها الأزلام والزبائنية على حساب تحقيق المصلحة العامة وهذا ما أدى إلى عقم الإدارة التي حُشر فيها المحسوبون على السياسيين وأرهقوا الخزينة وأفلسوها وأفشلوا عيش اللبنانيين.

ومن نتائج تطبيق المرحلة الانتقالية هو موضوع مجلس الشيوخ بعد إجراء انتخابات نيابية خارج القيد الطائفي. وعندما كنا في الطائف كنا نعتقد أنه بعد مضي ثلاث إلى أربع دورات انتخابية سنصل إلى مرحلة الانتخابات النيابية خارج القيد الطائفي ولكننا اليوم نعاني أكثر من تقهقر هذه المسيرة بحيث حُشِرَ اللبنانيون مجدّداً في المربعات المذهبية حتى وكأن انتفاضة 17 تشرين لم تَجرِ وهذا دهاء تجار الطائفية الذين يفقدون مبرّر وجودهم في حال إزالة العصب الطائفي أو التخفيف منه.
أنظر مثلاً في الفوضى السياسية والدستورية بأن مبدأ لا شرعية لأي سلطة تناقض مبدأ العيش المشترك تعني من ضمن ما تعني مفهوم المشاركة في السلطة دون إعطاء أي فريق مهما كانت أهميته حق النقض وذلك على قاعدة ضمان المشاركة وليس على قاعدة التعطيل فكما أن الديموقراطية التوافقية تقتضي أكثرية نوعية لاتخاذ القرارات فإنها أيضاً ومن باب أوْلى يجب أن تكون الأقلية نوعية لمعارضة هذا القرارات. من هنا أهمية الإسراع في إنشاء مجلس الشيوخ. إلّا أن هذه الأزمة على ما فيها من فوضى دستورية وأدبيات سياسية وطروحات إيديولوجية تخفي أزمة أعمق وأدق هي أزمة تحديد دور لبنان في المنطقة وفي الصراع العربي الإسرائيلي وارتباط لبنان بمحاور إقليمية داخلة في صراعات كبرى لا علاقة للمصلحة اللبنانية فيها، وإعادة تركيب السلطة بمشاركة الطوائف وأحجامها داخل لعبة السلطة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ وثيقة الوفاق الوطني قد حددت الأمرين المختلف عليهما وان لبنان بموجب هذه الوثيقة محدَّد الدور في الصراع العربي الإسرائيلي مما يقتضي تطبيق وتنفيذ القرار 1701 وأن يبقى نطاق حركة لبنان في هذا الصراع في وجهاته السياسية والثقافية والاقتصادية بما يمكنه من استعادة بناء قدراته وإقامة الدولة الجامعة.

لقد لحظت وثيقة الوفاق الوطني أنّ لبنان عند تحرير أرضه من الاحتلال الإسرائيلي يستطيع أن ينعم بالاستقرار على حدوده الجنوبية بنشر الجيش اللبناني على كامل ترابه الوطني وهذا الأمر قد حصل من جهة ومن جهة ثانية بوجود الآلاف من القوات الدولية أصبح أكثر مناعة ضد الاعتداءات الإسرائيلية. هذا فضلاً عن أنّ هذه الوثيقة قد أقرت منع التوطين للفلسطينيين وعلى الدولة بمعاونة المجتمع الدولي أن تجد حلّاً للوجود الفلسطيني بتكريس حقهم في العودة إلى أرضهم ووطنهم.

أمّا عن تركيب السلطة وتحديد الأحجام فإنّ هذه الوثيقة قد لحظت وجوب مشاركة الطوائف جميعها في السلطة وفق مبدأي المناصفة والمثالثة ضمن المناصفة. ولا أعتقد أنّ السعي الحثيث من قبل بعض الأطراف حالياً إلى الانقلاب على هذه الصيغة مستفيدة من نتائج حرب قامت بها أو من شعورها بأن الظرف الإقليمي يسمح لها بالانقضاض على هذه الصيغة أو من الديموغرافيا التي تُشكل لدى بعض الطوائف نقطة ضعف مركزية، أو فائض القوة، كل هذه الحالات لا يمكن الارتكاز عليها لقلب المعادلة التي أرستها هذه الوثيقة لأن للبنان خصوصية في هذا المجال.

5. هل طُبّق الطائف كليًّا أم أن بنوداً معينة لا تزال تنتظر التطبيق؟

أشرنا أعلاه إلى تغيّر الظروف المحيطة بلبنان والتي أدَّت إلى تعطيل بعض ما جاء في هذه الوثيقة ولكن أهم النقاط التي بقيت دون تطبيق هي مسألة اللامركزية الإدارية وإقرار قوانين انتخاب منسجمة مع أحكام الوثيقة وإعطاء دور أكبر للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في رسم السياسات وتحقيق استقلالية القضاء وإعادة سلطة تفسير الدستور إلى المجلس الدستوري وإعمال المادة 95 من الدستور وإقرار الانتخابات النيابية خارج القيد الطائفي وإنشاء مجلس الشيوخ.

لقد كرّس الدستور اللبناني بعد تعديلات 1990 آلية للحكم لم تحترمها غالبية الفئات السياسية التي تولت السلطة منذ إقرار التعديلات فعُطِّل الدستور وأطيح بالقوانين حتى بتنا نعيش في فوضى دستورية لغياب المرجعية الدستورية التي تفسر أحكامه وهذا ما أحبطته مساعي النواب في إبقاء هذه المرجعية لدى مجلس النواب عوض أن تكون لدى المجلس الدستوري كما كان المشروع الأساسي، لذلك دخلت السياسات في الدستور بحيث أضحى وجهة نظر، وهذا ما يفسّر «العصفورية» التي نعيش في ظلها اليوم. فلا مبدأ التوافق المنصوص عليه في المادة 65 من الدستور والذي بموجبه يتخذ مجلس الوزراء قراراته الأساسية فُعِّل، ولا مفهوم الديمقراطية التوافقية كُرِّس، من حيث الرغبة في مشاركة الطوائف في القرارات الأساسية، ففُهِم أنها حق النقض، الفيتو، يُعطى لهذه الطائفة، أو تلك الفئة السياسية، ولا مفهوم السياسة الدفاعية في حصر دور لبنان إقليمياً في مشاركته في الصراع ضد العدو الإسرائيلي، فكانت ذريعة مزارع شبعا وسيلة لإعاقة استكمال تنفيذ بنود الطائف، وكانت المدخل الى تعطيل الحلول الوطنيّة والسياسية الناجزة التي اقترحتها وثيقة الطائف، وما تلا ذلك من تعطيل للسياسة الدفاعية التي أقرها لقاء بعبدا ودخول لبنان في المحاور بخلاف ما تم التفاهم عليه في إعلان بعبدا ولا حتى القناعة بالحصّة التي أعطتها الوثيقة في عملية توزيع الحصص التي أنتجت تركيبة السلطة بما ينذر بتغيير المعادلات والتوازنات القائمة، ولا إقرار قانون اللامركزية بحيث أبقى فئة ضاغطة على فئات ومنطقة مهيمنة على مناطق، ولا قانون الانتخاب الذي لم ينتج إلّا محادل انتخابية حصرت التمثيل السياسي بإرادة خمسة أو ستة زعماء يسيطرون على تمثيل الطوائف عن طريق اختصارها بتمثيل هذه الزعامات والسلسلة لا تنتهي ولا أزيد.6. بعد عشرين سنة على اتفاق الطائف، كيف تُقيِّمون تجربة الطائف؟ وإذا كان من ثغرات هل من آليّة عملية سهلة لتعديله؟

يحتاج اتفاق الطائف إلى رعاية لِصِيانته من التعدّيات التي تقَع على بنودِه خصوصاً «أنَّ المُولَجين بالتطبيق يتجاوزونه باستمرار ويعملون على إهمالِه والحكم من خارج نصوصه التي تكرَّسَت بالدستور وأصبحَت جزءاً لا يتجزّأ منه والتساؤل بعد كل الذي جرى هل يبقى هذا الاتفاق صالحاً» أم أنَّ المعطيات والممارسات تجاوَزَته وأصبح غير ذي فائدة بالرغمِ مِن كثرةِ الضجيج حوله والادعاء أنَّ الممارسة السياسية هي تحت سقفه!!.
التشكيكُ بالنصوصِ الدستورية بَلَغَ حدًّا « فَلَم يعد المواطن يعرف هل فعلاً» هناك دستور في لبنان تعملُ مِن ضمنِه المؤسسات إزاء الفوضى العارمة في التفسير وفي الممارسة أو التطبيق.
والسؤال الأهم كيف يحافظ اللبنانيون على الدولة ويُؤَمِّنون حمايتها من التحريف ومِن سوء الممارسة. وهل هناك فعلاً مَن هو مقتنع بالطائف، بعدَ أنْ تمَّ تطييف حتى النفايات والتعيينات والإنماء والأمن وسائر مناحي الحياة. أَوَليس هو الميثاق الوطني الذي يجمع اللبنانيين. فإعادة النظر بالطائف لا بدَّ وأن تؤدي إلى فك الميثاق على اعتبارِ أنه يشكِّل جزءاً منه وأن العبث بأحكام الدستور هو العبث بالميثاق؟.
كيف يمكن حماية الطائف وقد أظهر هذا الاتفاق يُتما» لا أحد يحميه من العابثين خصوصاً وأن أمر تنفيذه بِيَد المعارضين أساساً لَه».
والسؤال الأهم أنَّ الظروف المحلية والإقليمية والدولية التي أملت على اللبنانيين الاتفاق سنة 1989 هل هي لا تزال متوافرة على أَيٍ مِنَ الصُّعد الثلاث؟.

فكيفَ للبنانيين أن يجتمعوا على رأي وهم الآن أكثر ما يكونون منقسمين حِيال أبسط القضايا فكيف على الأساسيات؟.
الطائف جاءَ بِهدَفِ وقف الحرب وبناءِ دولةٍ عصرية وَحدَّدَ موقع لبنان في الصراع في الإقليم والأهم أنَّه وزَّعَ دور كل الطوائف وأدخَلَها في تركيبةِ السلطة. فلماذا إذاً التشكيك به في وقتٍ يعجز اللبنانيون على التفاهم على قضايا أبسط من تلك؟.

إنَّ حماية الطائف هي مسؤولية جماعية فهلاَّ عمدَ المخلصون إلى توفير شبكة الأمان حتى لا نغدو يوماً بِلا ميثاق ولا دستور ولا دولة ولا بلد! من هذا المنطلق تجتمع نخبة من المثقفين والسياسيين والعاملين في الشأن العام لإنشاء مرصد الطائف وإصدار نشرة الطائف وكلاهما يهدفان لِرصد الممارسات والمخالفات وتقديم الشروحات بغية تصويب البوصلة التي يجب إتباعها لكي يبقى الحكم ضمن النصوص وليس خارجها.
المهمة الجليلة هي أولا وأخيرا برسمِ اللبنانيين لِضمانها.

7. أخيراً، كيف ترون مستقبل النظام السياسي اللبناني في ضوء مطالب الانتفاضة الأخيرة وبخاصة الشباب والتي بدا أنه لا يستجيب للتطورات المستجدة؟

مستقبل النظام السياسي مرتبط بمدى قدرة اللبنانيين على احترام المواثيق فيما بينهم وإلى إعادة الاعتبار إلى هذه الوثيقة وإعمال النص الدستوري وإقامة المؤسسات على النحو الذي كان مؤمّلاً وتفعيل ما تم إنجازه كي تعود الحياة السياسية أولاً إلى سَلميتها وثانياً إلى إقامة الدولة التي نصت عليها وثيقة الوفاق الوطني.

دعونا لا ننسى أن وثيقة الوفاق هي التي أنتجت دستور 1990 الذي وإن كانت تنقصه دقّة في بعض تعابيره وتعبيراته أو مِهَل من هنا وهناك أو ضوابط ناظمة، إلّا أنّه بالتأكيد نتاج حروب وأزمات وتسويات لو طُبّقت لكان جدير إذ ذاك، وفقط إذ ذاك، الحديث عن تعديلها بمعنى تطويرها. أمَّا وأنها لم تُطبَّق فالحديث عن تعديلها ضربٌ من المقامرة السياسية. وإنْ كان بالتشخيص الطبي العلاجي يدعونا دوماً أنطوان مسرّة إلى التفكير، نسأل: هل يُعقل في الطبيب أن يغيّر في وصفته الطبية طالما لم يجترعها المريض؟
مواثيقنا بل دساتيرنا قلّما تُقرأ. وإن قُرئت قلّما تُطبّق. وإن طُبّقت قلما يأتي التطبيق على الوجه الصحيح. والأهم أنها غالباً ما تفسّر وفق الأهواء السياسية وعلى طريقة رِمية الرامي غير المحترف.
ثم ولذلك فإن قراءة وثيقة الوفاق ومعها الدستور وتفسيرهما عند الاقتضاء لا يمكن أن يكون كمثل قراءة حرفٍ جامد. إن الوثيقة والدستور لهما أولاً وأخيراً روحٌ تنبثق من نزاعات ومخاضات وتسويات.

إننا مدعوون للتفكير بجدّ للإعلان بأنَّ أيّة محاولة لضرب وثيقة الوفاق الوطني أو الاستمرار في تعطيلها واسقاطها هو مشروع حرب جديدة بين اللبنانيين. ولا يظن أحد أن باستطاعته الاستفادة من القوة مهما بلغت على حساب التوازن الذي أرسته، وإنني بصدق أعتقد أن أيَّة محاولة لتجاوز الوثيقة وإسقاطها سيؤدي حتماً إلى فدرلة لبنان وأزيد إنّ هذه الوثيقة هي آخر المشاريع لإبقاء لبنان موحّداً كما أراده الآباء المؤسسون وكما نحن نرغب بالعيش فيه. أمّا مخاطر إسقاط الوثيقة فلا يمكن التنبؤ بتداعياتها ولن تستكين قوى كثيرة وطوائف بمحاولة تكريس هيمنة طائفة أو تيار سياسي على البلد خارج إطار الوفاق الوطني.

فلنستعجل العودة إليها حتى لا نشهد تقسيما للبلد الذي هو أصغر من أن يُقَسَّم وأكبر من أن يُبتَلع.
دعونا نعطي نموذجاً ناجحاً للبلاد من حولنا التي تتحضّر لاستيعاب التحولات التي شهدتها وليس أن نقدم نموذجاً سيّئاً إذا ما اتبعته دول في الجوار أكبر بكثير من لبنان فإنّ هذه المنطقة ستشهد مزيداً من عدم الاستقرار ممَّا سيؤدي إلى تقسيمها وإعادة النظر بحدودها وتركيبتها. إنَّ لبنان رسالة ولكن ليست هذه الرسالة ملكاً للبنانين، إنهم مؤتمنون عليها فعلينا المحافظة عليها بالمهج والأرواح والسلام.

أما من ناحية المخاطر المحيطة بلبنان فهو شعور الغلبة لدى حزب الله والمحور التابع له لربما يُخشى مع هذا الشعور وضرب وثيقة الوفاق الوطني واتفاق الطائف ووقف خطف الدولة والسعي لتعديل الدستور عن طريق الممارسة. وأولى الأخطار هو موجود من لا يؤمن باتفاق الطائف في سدة الرئاسة وكذلك دعم حزب الله له الذي يعتبر لبنان تفصيلاً في معركته الكبرى في الإقليم. كما أن انكفاء العرب عن لبنان يضعف الدولة واللبنانيين فينزلق النظام في لبنان من المشاركة إلى المساكنة بين الطوائف بما يُضيّع رسالة لبنان كمجتمع تعددي ليبرالي حر ويدحض مقولة البابا القديس الراحل يوحنا بولس الثاني أن لبنان أكثر من وطن، هو رسالة للمجتمعات التعددية.

.

العدد 32-33