الخميس, آذار 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, آذار 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

كتاب “تحدّي تجديد العروبة”

هو عنوان لمؤتمر نظّمه «النادي الثقافي العربي». بين 4 و5 تشرين الأول أكتوبر 2019 في فندق البرستول، بيروت. شارك فيه اثنان وعشرون مفكراً ومثقفاً لبنانياً وعربيا وقُسِّمَ إلى خمس جلسات: الجلسة الأولى حملت عنوان: «العروبة من الحاضر إلى المستقبل»، والثانية الثقافة والهوية. والثالثة: «التجديد اللغوي» والرابعة: «العرب والعالم» والخامسة والأخيرة: «العرب والاقتصاد». كانت المناقشات والتحليلات التي أسهم بها المنتدون في غير زاوية من أهداف المؤتمر، ذات مستوى فكري ونقدي عاليين إزاء الواقع والمستقبل العربيين رأت غير ورقة وجوب تشييد نظرة موضوعية ونقدية إلى التجارب التي خاضتها وعاشتها العروبة على امتداد عقود من الزمن، لقد دفعت البلدان العربية أثماناً باهظة، ومع ذلك لم تتحقق الوحدة ولا حصل العالم العربي على حريته، ولم يحصل سوى إخفاق التجارب المختلفة المنهجيات، وأثبتت أن مشكلات العالم العربي واحدة، والقضايا التي تشغله واحدة، والقوى التي تناهض تحرره وتقدمه واحدة. وفي الوقت الذي تزداد الضغوط الخارجية والإخفاقات الداخلية يصبح التحدي الأكبر أمام العرب. هو كيف يصوغون فكرة عربية تعددية وديموقراطية، مبنية على مبادئ حرية الفرد في عمله ومعتقده وحقه في الكرامة والعلم والعمل.

ومع هذا تبقى في الزمن الحاضر، إشكاليات العلاقة بين العروبة والإسلام، التي يقف الإسلام السياسي والعقائدي منها عقبة كأداء أمام تحقيق القومية العربية، فجاءت الدعوة إلى «تحدي تجديد العروبة» في موقعها وأوانها على أننا ننصح ألّا يكتفي القاري العزيز بهذه الخلاصة منا بل بمطالعة الكتاب ومختلف الأفكار التي طُرحت فيه للنهوض العام من الواقع البائس الراهن، للعروبة. هل تقوى العروبة على تجديد ذاتها؟ مسألة ربما تبدو من المستحيلات، ولكن لعلّ وعسى.

إضاءاتٌ ملوّنة على فكر جورج شامي

كتاب وضعته بتمكن الإعلامية كلود أبو شقرا مجازة في الصحافة ووكالات الأنباء – كلية الإعلام والتوثيق – الجامعة اللبنانية، حاولت أن تلجَ فيه عالم جورج شامي الصحافي والروائي والمفكر الإنساني، الممتد عبر عقود من السنين، هي عمره، البالغ تسعون عاماً، وأن تدخل «رحاباً» تنبض حجارتها كما تقول: «بحياة محورها: قلم وألم»، يردّد الزمان في حناياها قصصاً وروايات ومواقف ومتاعب، تذخر بثقافة واسعة رائعة، وإبداع يتحدى ويتجدد بجمعه صنوف الحياة بحلوها ومرها، وصياغتها مشاهد ولوحات ملونة، لكل واحدة خصوصيتها الجاذبة والمؤثرة في هذا العالم الذي يصح أن نطلق عليه عالماً شمولياً، تمتزج فيه الأصالة بالحداثة، وتبرز شخصية أديب وإنسان عاش تجارب كثيرة بأبعادها المختلفة. صنع أدبه بقناعته هو، بإرادته هو، وبإيمانه المتأصّل بالحرية وبرفضه الارتهان…

إنها رحلة في حياة مفكّر كبير، شق مسار تعلّمه – من فقر مدقع – بإرادة صلبة وطموح متوثب متدرّج فبلغ أعلى المراتب العلمية، شهادة الدكتوراه في الإعلام، وكُرْسِي الأستاذية في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية… تقرأ سيرة حياته كما في هذا الكتاب، فتقع على نموذج من كفاح ونضال طويلين على المستويين الشخصي والوطني قلما تجده عند غيره من الكتاب، والصحافيين من استقلال في الرأي والثبات على المبدأ، كما نراه لاحقاً في حياته وتقلباتها العملية وما دار فيها من حوادث وأحداث وأشخاص وشخصيات عرفها وقاربها، وصحف تعامل معها وهي بالعشرات، لبنانية وعربية، ودور نشر، طبعت أعماله القصصية ومقالاته ودراساته الأدبية التي بلغت الآلاف، وفي مجمل مضمونها وتفاصيلها هي عبارة عن تأريخ غير مباشر لحقبة سبعين سنة أو يزيد ممّا مر بلبنان… الدكتور جورج شامي يرى من معين خبرته في المسألة اللبنانية، أن لبنان ليكون أفضل يجب أن تزول الطائفية منه، وحين تزول الطائفية يزول الميثاق، وحين يزول الميثاق تزول شعارات الاتحاد الوطني، عندها يقفل الكثير من دكاكين الشعوذة السياسية فيتمكن عند اللبنانيين الولاء للبنان ويصبح بالتالي ولاءً مباشراً غير مرهون بولاء الطائفة أو بولاء دول خارجية تستعمله أو تحركه. إنه كتاب مفيد ومثقِّف، يُقرأ ويُحتفظ به.

 

لبنان في مِئة عام أفكارٌ وتجارب

 

كتاب هدف إلى مراجعة التجربة اللبنانية خلال مئة سنة التي انقضت إلى الآن (1920 – 2020) التي تساوي بالمعنى السياسي عمر «لبنان الكبير»، أي الجمهورية اللبنانية الحالية، بكل إيجابياته وسلبياته، من خلال رجال اختصاص ناقشوا هذه التجربة، من أبواب التاريخ والسياسة، والاقتصاد، والعلاقات الإقليمية والدولية، وقدم هؤلاء أوراقاً بحثية، عكست تجربتهم الشخصية أو الفكرية أو العلمية، وغير ذلك من التجارب والاتجاهات المنوعة من الفكر والسياسة، وقد اختار كل باحث، كما ظهر، من الأوراق، موضوعه وأسلوبه، فاتسمت هذه المساهمات بالحيوية، والغنى والتعبير الحر.

سبعة عشر مفكّراً وباحثاً مرموقاً كانت مساهماتهم أقرب إلى الأبحاث العلمية، ولا سيما تلك التي ناقشت القانون، والاجتماع والسياسة، والفلسفة، وأخرى كانت أقرب إلى المعالجات النظرية التي بحثت في المواطنة والاجتماع اللبناني والتعايش… كان ثمة تباين في القراءات، وهو الأمر الذي أراده هذا الكتاب لإظهار التنوع في الرؤى والمقاربات بين اللبنانيين، إلّا أنّ كل المساهمين عبروا، بالنتيجة، عن إيمانهم بأن هذا البلد هو حقيقة واقعة، لم تنقص، كما يقول: الكاتب خالد زيادة، التجارب والصراعات منها شيئاً، بل لعل التجارب، سلبية أو إيجابية قد كرست لبنان حاجة لبنيه، وحاجة من محيطه إليه.

وإن يكن الكتاب قد أغفل بعض الجوانب، كالاقتصاد، أو دور لبنان الثقافي أو غيرهما اللذين يميزان لبنان وتجربته المئوية… إنّه كتاب غني كثيراً بما حوى من حقائق وما عكس من أضواء على لبنان الراهن، وسبل علاج الأزمات فيه.

مستشفيات لبنانية تتضامن أمام الأزمة الخانقة:

أعلنت مستشفيات الجامعة الأميركية في بيروت، أوتيل ديو، الرسول الأعظم، رفيق الحريري، بيروت نوفل، البرج، لبيب صيدا، القديس جاورجيوس الجامعي، بهمن، عين وزين، ولاحقاً انضمت مستشفى المقاصد الجامعي مستشفى رزق- الجامعة اللبنانية الأميركية، التضامن الشامل خارج الحسابات المالية أو الفئوية لأي فريق أو قطاع كان، وقالت، في بيان باسم اللجان الطبّية فيها، أنّه أمام الأهوال التي وصل إليها الحال في لبنان، لا بدّ من العمل بشكل فوري لتحويل المستشفيات بكلّيتها لاستقبال مرضى كورونا، وإيقاف العمل الطبي إلا للحالات الطارئة وكورونا، لتفرّغ الطاقم الطبي لهذا الغرض.

وقالت، في البيان: «امام هول الاوضاع الطبية التي وصل اليها الحال في لبنان والمشاهد المؤلمة التي تظهر انعدام المسؤولية الانسانية والوطنية حيث مرضى كورونا والصليب الاحمر تتقاذفهم الاقدار في لبنان الذي تحتوي مستشفياته على 15 ألف سرير طبي نحن اللجان الطبية الموقعة ادناه ندعو كل الجهات المعنية الى العمل بشكل فوري على تحويل مستشفيات بكُلِيَتها لاستقبال مرضى الكورونا (تحديداً تلك التي لديها البنية الهندسية والكوادر اللازمة) بحسب خطة تحمي المستشفيات التي تقدم الرعاية لمرضى الحالات السرطانية والحالات الطارئة القلبية والجراحية، وتسهيل وتيسير الاعتمادات لشراء المعدات الطبية والادوية الضرورية والمستجدة ولتامين مستلزمات الوقاية الكاملة للجسم الطبي والتمريضي».

كما طالبت المستشفيات «ايقاف العمل الطبي الا للحالات الطارئة والكورونا لتفريغ جميع الطاقات لهذا الغرض – يستثنى فقط غير اللبنانيين الذين حضروا للاستشفاء ولمدة اسبوع فقط من تاريخه. يتم تعريف الحالة الطارئة من قبل الطبيب المعالج الاساسي»، وأيضاً، «الطلب من مجلس النواب الاجتماع بشكل فوري لملاقاة الحكومة واصدار قانون يشرع اللقاحات بشكل طارئ من دون اي عقبات او ملاحقات للشركات المصنعة للقاحات، وأيضاً، الزام مصرف لبنان فتح اعتمادات فورية للقاحات والاحتياجات الطبية، وتشريع غرامات مالية باهظة جداً كما في دول أخرى على الافراد المخالفين لقرارات الاقفال وتفعيل القانون الخاص بالعقوبات في حالة نشر الوباء مع التشدد بالتطبيق دون استثناءات، إلى تشريع لتوفير الاعتمادات والمساعدات المالية الضرورية للمواطنين للصمود في بيوتهم خلال الاقفال العام».

الغلاءُ الفاحش “مقصلة” تقضُّ مضاجع أهالي الجبل

ثقيلةٌ كانت سنة 2020 على اللبنانيّين وعلى الصُّعد كافة، بدءًا من انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي، وتلاشي المنظومة المصرفية والاقتصادية، مرورًا بالتحركات الشعبية والاشتباكات في الشارع، وصولًا إلى جائحة كورونا، واشتداد حدّة الأزمة المعيشية وتدهور القطاع الصحي والاستشفائي. ولعلّ الغلاء الفاحش بأسعار السلع والمواد الغذائية والاستهلاكية، وحتّى المواد الأساسية من طحينٍ وخبزٍ وحبوبٍ وغيرها، دقّ ناقوس الخطر وأثار قلق المواطنين من بلوغ مستوياتٍ حرجة تنذر بالجوع والعوز، بعد ارتفاع معدّلات الفقر والبطالة.

فمنذ العام 2019، يستفيق الشعب اللبناني على سؤالٍ دون سواه، لا يتعدّى الكلمات الثلاث، «بِكَم الدولار اليوم؟». سؤالٌ يختصر واقع الحال في وطنٍ تحوّلت معه العملة الصعبة إلى «مقصلةٍ» تقضّ مضاجع الفقراء وتهدّد قوتهم اليومي، لا سيّما بعد رفع الدعم عن عددٍ لا يُستهان به من الأصناف، ولعلّ آخرها وليس أخيرها طحين المعجّنات، بما يحمله من احتمال أن تصبح «منقوشة الصباح»، حكرًا على الميسورين، حالها حال المأكولات والأطباق الفاخرة.

أصناف أساسيّة يتمّ الاستغناء عنها

وفي جولةٍ لمجلة «الضّحى»، على عددٍ من المدن والقرى في منطقة الجبل، يتّضح حجم الركود الاقتصادي والصعوبات المعيشية. ففي بلدة قبّيع، يقول صاحب ملحمة و «ميني ماركت الشيخ»، الشيخ طلال سنجد: «تأثرنا جميعًا، كتجّار وزبائن، بارتفاع سعر صرف الدولار وما خلّفه من ارتفاعٍ في أسعار المواد والأصناف الغذائية، فنحن نبيع اللّحوم والخضار والفواكه، ولم يعد بإمكان المواطن تأمين الطعام والشراب لعائلته، كما كان سابقًا. المعاناة كبيرة والشكاوى كثيرة، حيث يضطرّ البعض أحيانًا إلى ترك أصنافٍ أساسية والاستغناء عنها، رغم حاجته لها، ما أدّى بدوره إلى تكدّس بعض الأصناف، علمًا أنّنا لا نتوانى عن الوقوف بجانب كل محتاج من خلال التساهل في دفع قيمة مشترياته لاحقًا عندما تتيسّر أموره، وذلك حرصًا منّا على أهميّة التضامن الاجتماعي».

ويشير الشيخ سنجد إلى أنّ «المواطنين لجأوا هذه الفترة إلى استهلاك الأصناف الأساسية فحسب، مثل البطاطا والبندورة والبصل والملفوف والزهرة (القرنبيط)، رغم ارتفاع أسعارها أيضًا، في حين استغنوا عن الفواكه واللّحوم وغيرها الكثير».

التكافل مع أهلنا التزامٌ أخلاقي عنها

وفي بلدة القرَيّا المتنية، يردّد صاحب «سوبرماركت ضو»، أنور ضو، قوله: «مش معروف كيف بدنا نشتغل، شي بيطلع الدولار شي بينزل»، لافتًا إلى أنّهم ملزمون بخفض الأسعار عندما يتراجع سعر صرف الدولار، في حين يشترون البضائع على السعر المرتفع، ما يلحق بهم الخسائر، «غير أنّ ضميرنا والتزامنا الأخلاقي تجاه أهلنا ومجتمعنا، يحتّم علينا التكافل والتكاتف معهم، فمَن لا يشعر مع الناس لا يكون من الناس».

ضو، الأب الذي يكافح لتأمين لقمة عيش أولاده وعائلته، يؤكّد أنّ «حركة البيع خفيفة والقدرة الشرائية معدومة في كثير من الأحيان»، ويختم بدعاءٍ يرجو عبره أن يعينه الله ويعين جميع اللبنانيّين على اجتياز هذه المرحلة العصيبة.

نقاتل من أجل الصمود

من جهته، يروي صاحب مؤسّسة عبيد، بفرعيها في عاليه وقبرشمون، الشيخ عادل عبيد، كيف ثابروا على الالتزام بنسب أرباحٍ ضئيلة على كل الأصناف الغذائية والاستهلاكية. ويقول: «حرصنا بدايةً على تحمّل الفرق في سعر صرف الدولار، ولم نغيّر الأسعار، بل قمنا ببيع كل الأصناف الموجودة لدينا وفق السعر القديم. غير أنّه، ومع الارتفاع اليومي للدولار، لم يعد بقدرتنا تكبّد الأعباء، لا سيّما أنّنا نتعامل مع نحو 22,500 نوع، ونواجه تحديّات جَمّة مع الشركات، بينها مَن يريد ثمن البضائع بالدولار، وغيرها مَن يقبل الدفع على سعر صرف 1515 ليرة لبنانية بعد أن رفع أسعاره، وشركات حدّدت الدولار بسعر صرف 5000 ليرة».
ويشير إلى أنّ «الزبائن لا ترحم أيضًا، حيث تهافت العديد منهم على الشراء بكمياتٍ كبيرة، ما أدّى إلى نفاد أصنافٍ عديدة كنّا نبيعها على السعر القديم، واضطررنا إلى شرائها بسعرٍ مرتفع. واقعٌ حتّم علينا البيع بخسارة، حيث لا يمكننا اللحاق بالدولار ولا بالشركات. فلقد زادت حركة البيع، لكنّنا ندفع ما نجنيه للتجّار».
«نقاتل من أجل الصمود»، يتابع الشيخ عبيد، مبديًا خشيته من «صعوبة استمرار المؤسّسة على المدى البعيد، غير أنّنا اتّخذنا سياسة جديدة تقوم على زيادة حجم البضائع وتفادي انقطاع أي صنف، لكن إلزاميّة الدفع بشكل نقدي للشركات، أزمة تستنزفنا لدى شرائنا كميات كبيرة على وجه الخصوص، ذلك بعد أن توقفت الشركات عن تلقّي الشيكات المصرفية بالدولار، علمًا أنّ أموالنا بالعملة الصعبة محجوزة ومجمّدة في المصارف». وإذ يكشف أنّهم يتعاملون مع الوكيل بشكلٍ مباشر، وليس من تاجرٍ إلى تاجر، يقول: «نبيع كل الأصناف المدعومة، لا نخزّن أو نحتكر كما يفعل البعض».

المعاناة كبيرة

ينسحب الواقع الأليم على أصنافٍ أخرى بينها الحلويات والمكسرات والبزورات، حيث يتحدّث صاحب محمصة «المدينة» – فرع قبّيع، أيمن شميط، عن «معاناةٍ كبيرة، لا سيّما أنّ المحمصة تُعتبر من الكماليّات. كان يشتري الزبون كيلو بزورات مثلًا، أمّا اليوم فبات يشتري «وقيّة»، كان يشتري القلوبات (فستق حلبي وكاجو ولوز وغيرها)، ولم يعد اليوم قادرًا على ذلك. كنّا نبيع أسبوعيًّا نحو 50 كيلو «قلوبات»، أمّا اليوم فلا نبيع الكيلو طيلة الأسبوع».

الأب لولدين، يأسف كون «هذه التجارة قد تضرّرت بشكلٍ كبير، إذ بين يومٍ وآخر تتغيّر الأسعار، ما دفعنا إلى بيع أصنافٍ جديدة، مثل الحبوب والأرز والسكر والخبز وكل شيء. أمّا الصنف الوحيد الذي بقي صامدًا فهو البن، كون الزبائن لم تستغنِ عن فنجان القهوة، لكن كل ما تبقّى انتهى وتلاشى».

لا طاقة لأحدٍ على التحمّل

«لم تعد للمئة ألف ليرة على سبيل المثال أيّ قيمة»، يقول المواطن مشعل زين الدين، «فأنا أعمل في مجال المقاولات، غير أنّ أعمالنا متوقفة اليوم، وإنْ عَمِلنا فلا نحصل على أتعابنا إلّا بعد فترة طويلة، كون الجميع يعاني ضائقة اقتصادية».

ويضيف: «الغلاء فاحشٌ ولا طاقة لأحدٍ على التحمّل. حالنا حال الكثيرين، حيث بادرنا إلى تغيير عاداتنا الاستهلاكية وتدبير أمورنا بالتي هي أحسن. نركّز على شراء الأساسيّات رغم ارتفاع أسعارها أيضًا، مثل الأرز والسكر وغيرهما، واستغنينا عن الكماليّات التي كانت يومًا ما جزءًا أساسيًّا من نمط غذائنا اليومي. كما بتنا نعتمد على «المونة» المنزلية، علمًا أنّني دفعتُ كل ما كان بحوزتي لشراء المواد الأولية للمونة، علّها تسدّ حاجات عائلتي».

نعيش بالذلّ والتعتير

«ما من معيلٍ لنا بعد وفاة والدنا وشقيقتنا، ونحن نعيش بالاستدانة والذلّ والتعتير»، بحسرةٍ تختزل المواطنة عواطف أبي فرّاج، حالها وشقيقتها الثانية ووالدتها، وتقول: «والدتي (87 سنة) مريضة وقد خضعت لعملية جراحية منذ فترة، وأنا بدوري بحاجة لعملية جراحية، حيث أعيش على الأدوية، أمّا شقيقتي فتعاني كذلك من فقر الدم والكوليسترول».

وتضيف: «نعيش على المساعدات، فإذا التفت أحدهم إلينا، نشتري الأدوية والأصناف الغذائية والاستهلاكية الأكثر حاجة لنا، غير أنّ الكثير من الحاجات لا يمكننا الحصول عليها، ودائمًا نبحث عن الصنف الأرخص».

التّعليم عن بعد، تحت المُجْهِر

شكّل تاريخ 21 شباط 2020 ـ أي تاريخ الإعلان عن أوّل إصابة بـ (وباء كورونا) في لبنان، حدثاً استثنائياً لمدارس العرفان، حيث عمدت مع بداية الوباء إلى بداية تحوّل من نوع آخر ، وهو التحوّل المُتقن والمتكامل نحو التعليم الرقمي، في حين كانت أكثرية المدارس في لبنان تعيش تخبطاً وضياعاً لا تُلام عليه في ظل المعوقات في البنى التحتية من كهرباء وضعف شبكة الأنترنت والاتصالات عامة، بالإضافة إلى المعوقات الاقتصادية التي تصيب لبنان جرّاء الانهيار المالي والاقتصادي.

فكيف استطاعت مدارس العرفان تخطّي هذه المعوقات؟

في الواقع إنّ مدارس العرفان وكعادتها تَخلق من الأزمات فرصة للإبداع والتميّز وتعمد إلى تشخيص أي إشكالية وتعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها. وهكذا حصل، حيث اختارت منصة الكترونية تتناسب مع كل الظروف، كونها تعمل بتقنية ال On Line والـ Off Line (حيث يمكن للطالب تنزيل الدروس على جهازه والاطلاع عليها ساعة يشاء دون الحاجة للربط مع شبكة الإنترنت)، بالإضافة إلى أنّ مدارس العرفان تخطت وكما سنرى لاحقاً كل الإشكاليات المتمثلة بالمعوقات النفسية لدى الطلاب والأهل بالإضافة إلى المعوقات التقنية وغيرها.

أمّا عن سبب اعتماد مدارس العرفان تقنية التعليم عن بعد بشكل أساسي طيلة الأزمة فتعود للأسباب التالية:
1) تَعتبر مدارس العرفان أنّ فتح المدارس بشكل كامل في ظل انتشار الوباء وعدم توفر اللقاح اللازم له، مخاطرة على سلامة الطلاب وأهاليهم وسلامة الموظفين والتربويين ومن خلالهم المجتمع ككل.
2) تعتبر مدارس العرفان أن الطالب أمانة لديها وبالتالي لا يمكنها التفريط بسلامته أو المراهنة على السيطرة على الوباء .
3) إلى ذلك والأهم؛ إنّ مدارس العرفان تعتبر أنّ التعليم عن بعد هو أسلوب تعليمي حديث، سوف يتطور ليصبح ملازماً للتعليم الحضوري من الآن فصاعداً.

وفي التعريف فإنّ التعليم عن بعد (أو التعليم من بعد، كما يُطلق عليه بعض الأكاديميين وأصحاب الاختصاص)، أسلوب حديث نوعاً ما في التربية والتعليم، يسمى باللغة الانكليزية (Distance Learning)، ويرتكز على اعتماد أسلوب نقل البرنامج التربوي أو التعليمي من موقع المدرسة، إلى أماكن جغرافية أخرى، وذلك بهدف إيصال المحتوى التعليمي للطالب الذي لا يستطيع تحت ظروف خاصة تلقّي البرامج التعليمية التقليدية.
والواقع أنه لا يوجد تعريف موّحد للتعليم أو التعلّم عن بعد، بحيث يمكن أن يطلق عليه مصطلح «التعليم عبر الأنترنت» أو «التعليم بواسطة الكمبيوتر» أو «التعليم الالكتروني»، حيث أنه تعليم يعتمد على الاستعانة بالأنترنت والمواد المقروءة و المصوّرة التي توفر المعلومات التي يحتاجها الطالب لإكمال واجباته أو لزيادة وتطوير معلوماته.

لمحة تاريخية

ظهر التعليم عن بعد، للمرة الأولى في القرن التاسع عشر، حيث عُرف بالتعليم بالمراسلة، وكان الهدف منه ربحيّاً بالمطلق اذ كانت تقوم المؤسسات التعليمية بتصميم المحتوى التعليمي اللازم تلبية لرغبة المتعّلم الذي لا يمكنه الانتظام في الصفوف الدراسية التي يتطلبها التعليم التقليدي، وقد انتشر هذا الاسلوب عام 1873 بين الأميركيين حيث كانت ترسل البرامج التعليمية للطلاب بواسطة البريد. استمر التعليم عن بعد على هذه الصورة حتى ستينيّات القرن الماضي، حيث ظهرت عملية مختلفة في بريطانيا استخدمت وسائل الإعلام المتوافرة (الإذاعة والتلفزيون) لايصال المحتوى التعليمي للراغبين، ثم أُنشئ «المجلس القومي للتعليم عن بعد» الذي تحوّل عام 1982 إلى «المجلس الدولي للتعليم عن بعد» والذي كان يلقى دعماً مالياً كبيراً من البنك الدولي للتنمية، واستخدمت بعضها الكتب وشرائط التسجيل والفيديوهات لتقدم شرحاً وافياً عن المناهج المطلوبة.

واستمر التعليم عن بعد في تطور مستمر، حتى تاريخنا هذا، حيث أصبح يرتكز على مبدأ أن الطالب لا بد أن يتحول من مُتَلقٍّ للمعلومة بأسلوب التلقين التقليدي إلى باحث عنها وليس هذا فقط، بل يصبح الطالب مبتكراً ومكتشفاً من خلال الأبحاث والدراسات التي تفتح له آفاقاً جديدة في التعلُّم.
وهنا لا بد من الإشارة إلى بعض الميزات التي اعتمدتها مدارس العرفان وأضفت قيمة مضافة على التعليم عن بعد :
1- من حيث تميّز التعليم عن بعد بالملاءمة كونه يناسب كافة الأفراد، ويتميز بالمرونة حيث يتيح للمتعلم المجال والمهارات وفقاً لرغبته. وكذلك يتميز بالتأثير والفعالية أكثر من النظام التقليدي بسبب وجود التقنيات.
2-قيام التعليم عن بعد بلعب دور فعال في رفع المستويات الثقافية والتعليمية والاجتماعية بين الأفراد.
3- العمل على سد النقص في الهيئات التعليمية والكوادر المؤهّلة أصحاب المهارات في مختلف المجالات.
4- التقليل من الفروقات الفردية بين المتعلمين، من خلال وضع المصادر التعليمية المتنوعة بين أيديهم ليرجعوا إليها ساعة يشاؤون.
5- العمل على فتح آفاق التطور، والارتقاء في التعليم.
6- توفير الوقت والجهد ويحفز الطالب على اكتساب مهارات إضافية.
7- التركيز على أهمية التعليم عن بعد في تطبيق الصف المعكوس في التعليم (Classe inversée).إطلالة مدارس العرفان المتطوّرة

بعد هذه الاطلالة على ماهية التعليم عن بعد، تاريخه، سلبياته وإيجابياته. كان لا بد من الحديث عن إطلالة مدارس العرفان، حيث أن إدارة مؤسسة العرفان التوحيدية كانت قد اتخذت قراراً جريئاً مع بداية الصيف الفائت بحصر التعليم أقلّه في الفصل الأول والثاني من العام الدراسي الحالي بأسلوب التعليم عن بعد، ولا شك أن الإدارة العامة للمؤسسة استطاعت استشراف المستقبل في ظل جائحة كورونا وصعوبة العودة إلى الصفوف الدراسية في ظل انتشار الوباء وازدياد أعداد الإصابات وأعداد الوفيات. وممّا لا شك فيه أن هذه التجربة رافقتها صعوبات عديدة استطاعت مدارس العرفان تخطيها ومنها:

1- من الناحية النفسية: وهي متعلقة كما ذكرنا سابقاً في عدم تقبل المجتمعات لهذا النوع من التعليم، والحالة النفسية لا تطال الطالب فقط بل تمتد لتطال الأهل والمدرسين على حد سواء. وقد استطاعت مدارس العرفان تخطي الموضوع النفسي من خلال لقاءات مع الطلاب والأهل لشرح الأسلوب الحديث في التعليم، ضمن إجراءات السلامة العامة والتباعد الاجتماعي، حيث تمكن أولياء الأمر من الاطلاع على طبيعة العطاء التربوي من خلال منصة العرفان الإلكترونية.

2- من الناحية الإدارية: فقد تمكنت مدارس العرفان من تطوير مهارات الإداريين للتعامل مع هذه الظاهرة الحديثة من خلال دورات ومحاضرات شبه دائمة.
3- من الناحية التقنية: وتمثلت بصعوبة تأمين الأجهزة الالكترونية اللازمة للتعليم عن بعد خاصة في ظل الظروف المادية الصعبة، فقد عمدت مدارس العرفان إلى اعتماد منصة الكترونية تعمل على الهاتف الذكي Application كما تعمل على الكمبيوتر Web، كما قامت العرفان بتنظيم دورات تقنية شبه دائمة للطاقم التربوي بهدف تطوير المهارات التقنية ما جعل الكوادر الإدارية والتربوية تتأقلم بسرعة قياسية مع طبيعة العمل الجديد.

4- من ناحية معوّقات البنى التحتية: وهي متمثلة في لبنان بصعوبة تأمين التيار الكهربائي وضعف شبكة الإنترنت وغيرها، وقد تمكنت العرفان من تخطّي هذه الصعوبات من خلال سهولة نقل المحتوى الرقمي للمواد والمناهج من المنصة إلى الطلاب الذين يمكنهم الاطلاع عليها دون الاتصال بشبكة الانترنت offline من خلال تنزيل المناهج على الكمبيوترات الخاصة بهم عبر ناقل البيانات التسلسلي usb بالإضافة إلى اعتماد العرفان في فروعها كافة فتح قاعات الكترونية مجهزة ومخصصة لمراجعات الأهل والطلاب (مساعدات تقنية، تأمين شبكة الإنترنت بشكل دائم ومجاني، برمجة الهواتف الذكية والحواسيب دون مقابل…) وذلك بشكل يومي ضمن دوامات العمل.

منصة العرفان الإلكترونية

اعتمدت مدارس العرفان منذ بداية الأزمة، منصة الكترونية متطورة تسمح للطلاب بالوصول إلى المحتوى الرقمي بشكل مَرِن وسهل، ولم تكتفِ بطبيعة المنصة ذاتها، بل عملت على تطويرها من خلال إضافة عدة خدمات ضمنها تسهّل العملية التربوية، لتكون العرفان قد أضفت قيمة مضافة على أنجح المنصات التربوية. أمّا بالنسبة للمحتوى الرقمي للمناهج، قد قامت الهيئة التعليمية كافة بتحضيره بشكل سمح بتحقيق الأهداف التربوية وتأمين الكفايات التي لم يتمكن الطلاب من الوصول إليها العام الفائت بسبب الاقفال العام الذي أصاب البلاد والمدارس.

وبالنسبة لتقنيات المنصة، فهي منصة متكاملة، لجهة تحميل الدروس والواجبات عليها، بالإضافة إلى اجراء الامتحانات أو التقويمات من خلالها بشكل آمن هذا فضلاً عن جوانبها اللوجستية الإدارية من تبليغات وغيرها.

في النهاية يمكننا القول، أنّ الأزمات الطارئة تنتج أحد أمرين:
الأول: الاستسلام والاعتراف بالفشل والضعف.
والثاني: إرادة المواجهة وتحقيق النجاح من خلال العمل الدؤوب والإصرار على التميّز. وهذا ما قامت به مؤسسة العرفان التي واجهت التحدي، أولاً بتحدي الذات وثانياً بتحدي الواقع، فكان النجاح حليفها، باعتماد استراتيجية مواجهة الأزمات بمعرفة الأسباب وتشخيصها، ثم العمل على إيجاد الحلول المناسبة لها.

الكاتبُ الكبير الدكتور ممدوح حمادة

مُبدع من بني معروف، من هضبة الجولان المحتل.
اشتُهر بكتابة مسلسليّ (ضيعة ضايعة) و (الخربة)

روائي وصحافي ورسّام كاريكاتير سوري مواليد عام 1959 من هضبة الجولان السورية المحتلة، نزح في طفولته حيث عاشت أسرته في #السويداء إلى حين سفره إلى الاتحاد السوفييتي للدراسة في كلية الصحافة في جامعة بيلاروسيا الحكومية في العاصمة مينسك حيث تخرّج منها في عام 1994 بدرجة دكتوراه. عاد إلى سوريا ولكنه لم يوفّق في العثور على عمل هناك حيث أمضى أكثر من عام ونصف في دمشق قرر بعدها العودة إلى بيلاروسيا التي عمل مدرّساً في إحدى جامعاتها لأكثر من عشر سنوات، وبعد ذلك درس الإخراج السينمائي في أكاديمية الفنون الحكومية البيلاروسية وتخرّج منها عام 2009، ويعيش الآن بشكل أساسي في بيلاروسيا، أخرج فيلمين أولهما هو (ضمانات للمستقبل) وهو فيلم روائي قصير مدته 30 دقيقة وكان مشروع تخرجه وهو من تأليفه وإخراجه، وأخرج فلماً آخر مُستمِدًّا موضوعه من الحرب السورية بعنوان «ما زلت على قيد الحياة» مدته 7 دقائق.

أعماله في التلفزيون: 
1- عيلة ستّ نجوم – إخراج هشام شربتجي.
2- عيلة سبع نجوم – إخراج هشام شربتجي.
3- عيلة ثماني نجوم – إخراج هشام شربتجي.
4- بطل من هذا الزمان- إخراج هشام شربتجي.
5- صراع الزمن (جلّنار) إخراج هشام شربتجي.
6- قانون ولكن – إخراج رشا شربتجي.
7- بقعة ضوء 2 إخراج الليث حجو.
8- بقعة ضوء 3 إخراج ناجي طعمة وفراس دهني.
9- بقعة ضوء 4 إخراج الليث حجو.
10- بقعة ضوء 5 إخراج سامر برقاوي.
11- بقعة ضوء 6 إخراج هشام شربتجي.
12- عَ المكشوف إخراج الليث حجو.
13 – شو ها الحكي (الأردن) إخراج ناجي طعمة.
14- مَبروك – إخراج هشام شربتجي.
15- مرزوق على جميع الجبهات – إخراج هشام شربتجي.
16- مدرسة الأستاذ بهجت (الأردن) إخراج أنور السعودي.
17- مدينة المعلومات الجزء الأول (برنامج اطفال) إخراج سلافة حجازي
18- مدينة المعلومات الجزء الثاني (برنامج أطفال) إخراج فتحي الهداوي.
19- بيتي العربي (برنامج اطفال) إخراج سلافة حجازي.
20- كليلة ودمنة (مسلسل كرتوني) إخراج رزان حجازي.
21- كليلة ودمنه (فلم) إخراج رزان حجازي.
22- ضيعة ضايعة 2008ج 1 إخراج الليث حجو.
23- ضيعة ضايعة 2010ج2 إخراج الليث حجو.
24- الخربة – إخراج الليث حجو.
25- ضبو الشّناتي – إخراج الليث حجو.
26- أهل الغرام خُماسية يا جارة الوادي – إخراج الليث حجو.
27- مشاريع صغيرة – إخراج المثنى صبح.
28- الواق واق – إخراج الليث حجو.
وشارك في كتابة عدد من البرامج الأخرى.

صدرت له تسعة كتب هي:

1- فنّ الكاريكاتير من جدران الكهوف إلى عمدة الصحافة – دار عشتروت دمشق 1999.
2- الكاريكاتير في الصحافة الدورية – دار عشتروت دمشق 1999.
3- صانع الفراء – مسرحية للأطفال – دار عشتروت دمشق 1999.
4- المحطّة الأخيرة- قصة – دار علاء الدين دمشق 2000.
5- جلَّنار – قصة – دار علاء الدين دمشق 2001.
6- أم الطنافس – مجموعة قصصية دار أبعاد دمشق 2014.
7- دفتر الأباطرة – مجموعة قصصية – دار ممدوح عدوان 2016.
8- دفتر الحرب – مجموعة قصصية – دار ممدوح عدوان 2016.
9- دفتر القرية – مجموعة قصصية – دار ممدوح عدوان 2017.

“قيم ما بعد كورونا: التَّضامن وروح ركّاب السفينة”

تابعنا باهتمام، وكالعادة، حضور الملتقى السابع لمنتدى تعزيز السَّلم الذي عُقد لهذه السنة افتراضيَّاً عبر تقنية الاتصال المرئي عن بعد، في الفترة الممتدة من 7 إلى 9 كانون الأول 2020، تحت عنوان «قيم ما بعد كورونا: التضامن وروح ركاب السفينة»، برعاية من سموّ الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي، وبمتابعة من معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح، وبرئاسة معالي العلامة الشيخ عبد الله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السَّلم في المجتمعات المسلمة ورئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي (2).

وقد حظي الملتقى بمشاركة وزراء وممثلي حكومات ومنظمات دولية وسفراء وقادة دينيين وشخصيات رفيعة المستوى ومئات المفكرين والأكاديميين والباحثين ورجال الدين وممثلي منظمات المجتمع المدني والشباب، وبمتابعة الآلاف من المشاهدين لجلساته وأعماله عبر منصته الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.

ناقشنا على مدى ثلاثة أيام العديد من الموضوعات التي تشغل الوعي الكوني في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البشرية، والتي تتسبب بالقلق الكبير على كل المستويات النفسية والمعنوية والمادية للأفراد والمجتمعات والدول، ودعا المشاركون إلى العمل على صياغة مشروع اتفاقية تحت مسمى «الميثاق العالمي للتضامن الإنساني» مع العمل على عرضه على هيئة الأمم المتحدة لضمان تحقيق قيم عالم ما بعد «كورونا» ودرءاً لعودة المجتمع الإنساني إلى ما كان عليه قبل «كوفيد – 19»، وأوصوا بإنشاء صندوق دولي موحد للطوارئ والكوارث والأزمات، كما دَعَوْا المجتمع الدولي والدول الغنية إلى التضامن مع الدول الفقيرة وإشراكها في ثمرات البحوث العلمية، وإلى توزيع اللقاحات على الجميع بلا احتكار ولا استغلال، وتشجيع المبادرة والابتكار في مجال تكنولوجيا الصحة العامة والتطبيب في الدول الفقيرة والنامية التي أظهر بعضها مؤهلات غير متوقعة في تدارك نقص الوسائل والمعدات.

وأشاد البيان الختامي للملتقى بتضحيات الطواقم الطبية وتفانيها في إنقاذ الأرواح وعلاج مرضى هذا الوباء والعناية بهم، وبجهود كل العاملين أفراداً ومؤسسات في مكافحة هذه الآفة، كما أشاد بجهود منتدى تعزيز السلم في مد الجسور مع العقلاء والحكماء من كل الأديان والمذاهب والمشارب، وثمَّن مساعي القائمين عليه العلمية والعملية لتوحيد الجهود وتصحيح الوجهة على أرضية القيم الإنسانية المشتركة لما فيه خير الناس جميعاً، كما أشاد بما تضمنته «وثيقة مكة المكرَّمة» من مضامين سامية تهدف إلى بناء جسور المحبة والوئام الإنساني، ونشر ثقافة التعايش والتسامح والتصدي لخطابات التحريض والعنف والكراهية، ودعا إلى عقد شراكات بين صناع القرار ورجال الفكر والدين لإشاعة خطاب السلم والمحبة والأخوَّة الإنسانية، والوقوف في وجه خطاب التطرف والتحريض.
وحثَّ المجتمع المدني على مواصلة جهود التعبير عن الشكر والامتنان والوفاء لمن هم في الصفوف الأمامية في مواجهة الوباء وابتكار المزيد من المواقف الاجتماعية والتعبيرات الرمزية المستوحاة من ثقافة المجتمع، وتأكيد أهمية مواصلة كافة الإجراءات الاحترازية والتدابير الوقائية حتى تنجلي الغمة وتنكشف الأزمة.

وتدارس المشاركون بالملتقى طبيعة وأبعاد الأزمة العالمية المترتبة على وباء «كوفيد – 19» المستجد ومساءلَتها للتوجهات القيمية للإنسانية ودورَ قيم التراحم والتضامن والتعاون وإشاعة السكينة في مواجهة هذا الوضع والتخفيف من آثاره وتداعياته، مسلطين الضوءَ على النقلة النوعية والقوة الاقتراحية التي يمثلها «حلف الفضول الجديد» الذي أُطلق في الملتقى السادس (السابق) في أبو ظبي، لكونه يؤسّس لنموذج متوازن من التسامح والحرية المسؤولة والمواطنة الإيجابية والاقتصاد المتضامن، بحيث يمكن أن يكون هو نموذج العقد الاجتماعي الجديد الذي ترنو إليه البشرية وتتطلع إليه.

كما تطرق المشاركون إلى القضايا الفقهية المستجدة التي أثارتها هذه الأزمة على جميع الصعد من منظور «فِقْه الطوارئ» المركَّب من الدليل الشرعي والواقع، بحثاً عن التيسير والرخص الشرعية لقيام موجبها، وإلى الحاجة لتعزيز دور الدولة الوطنية وتقوية التعاون الدولي لتجاوز مفارقات العولمة. وتدارس المشاركون نماذج إيجابية في التعامل مع الجائحة بروح التضامن والتعاون في مجالات مختلفة كتطوير اللقاح، وممارسة الشعائر الدينية مع الحفاظ على سلامة المصلِّين، ومساعدة الاقتصادات الضعيفة. وخصصت الجلسة العلمية الأخيرة لآفاق عالم ما بعد «كورونا»، الذي يستلهم «روح ركاب السفينة» في وعيهم بالمسؤولية المشتركة التي تمليها وحدة المصير.

وقد خلص المشاركون، بعد تبادل وجهات النظر في القضايا المدروسة، مستحضرين خصوصية الظرفية العالمية وانفتاح مآلات المجتمع الإنساني على كل الاحتمالات المرجوة والمخوفة، إلى نتائج تم تضمينها وتفصيلها بالبيان الختامي، وقد شملت «طبيعة الأزمة المتولدة عن وباء كوفيد 19 المستجد، دروس هذه الأزمة والعبر المستخلصة منها، مبادئ وقيم روح ركاب السفينة، المقتضيات العملية لـ«روح ركاب السفينة»، إذ تقتضي روح «ركاب السفينة» الدعوة إلى هبّة ضمير عالمية تعيد لقيم التعاون والتضامن والتراحم فاعليتها، وتقدّم مفهوماً جديداً للإنسانية يتجاوز المفهوم المحايد لحقوق الإنسان المتمثل في المساواة ليرتقي إلى إيجابية قيم الفضيلة التي تُشعر الآخر بدفء المحبة والأخوة، إذ إنّ هذه الأزمة أذكت جذوة التضامن بين البشر، ولدول تسامت عن حسابات السياسة والعلاقات الدولية لترقى في استراتيجياتها إلى سقف التعاطف والترابط الإنساني.


المراجع:

1- رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي، أمين عام مؤسسة العرفان التوحيدية.

2- المرجع: صحيفة الاتحاد الإماراتية، 10 كانون الأوَّل 2020.

الشاعر الفارس ورجل المجتمع جاد الله سلاَّم

 

كنا قد قدَّمنا دراسةً خاصة بالقصيد النبطيّ في جبل العرب لمجلّة الغرّاء، وذلك في الأعداد 16 و 17 و 18 من عام 2016، وأوضحنا من خلالها جذورَ استخدام شعراء الجبل (للهجة البدوية) وسنعرضُ هنا لأعتى رموز هذا الشعر (النبطيّ / البدويّ) من شعراء جبل العرب الذين حُفظت قصائدهم في الذاكرة الشعبية، وما زالت تُستخدم إلى الآن في جُلّ المناسبات كالأعراس، ومآتم الشهداء والأبطال، والأمسيات الشعبية، لما فيها من معانٍ خالدة حاكت المجتمع وأصبحت جزءاً من وجوده، مثَلُها مثَلُ الأرض والغيث، وشأنها شأنُ السلاح الذي يحققَ النصر.

نعرضُ لها اليوم ونحنُ ندرك أنّ دورَ الشعر قد تضاءَل جدّاً أمام معطيات الحضارة، وقد وصلَ في بعض محطاته إلى دَرَكِ اللامبالاة ، حيث حُمِّلَ إثمَ الرَّجعية وتُهمَةَ الرِّدّة إلى البداوة من قِبلِ حُماة اللغة الأمّ ومَن في صَفّهِم من دُعاة التَّحضُّر، ولستُ بصددِ تفصيل الدفاع عن هذا الموروث وبيانِ ماهيته ودوره التاريخي، ولكن لابدّ من الإضاءة على أمثلةٍ بارزة في سجلاّته العريقة؛ بغيةَ التوثيق والإيضاح.. وستكون وقفتنا الأولى مع الشاعر الكبير جاد الله بك سلام:
ــ يعود أصل آل سلاّم إلى منطقة راشيا في لبنان، حيث هاجروا منه إلى جبل حوران بعيد أواسط القرن التاسع عشر، ومن ثم استقروا في المقرن الشرقي من الجبل…

وُلدَ شاعرنا الفارس جاد الله بن حسن سلاّم عام 1896 م، في قرية طربا الواقعة في (المَقْرَنِ الشَّرقيّ) من جبل العرب، وهو أحدُ فرسانها ورجالها المعروفين، الذين كان لهم دورٌ فعالٌ في الثورة العربية وفي الثورة السورية الكبرى، كما أنّه كان قاضياً عشائرياً يفصل في خلافات الناس، وقد توفاه الله في قريته طربا بتاريخ 22/2/1982.

وجاد الله سلام كشاعر يُعتبر من الرَّعيل الذي تأثر بكبار الشعراء الشّعبيين في جبل العرب أمثال شبلي بك الأطرش واسماعيل العبد الله، وقد تأثرَ كغيره من شعراء الجبل باللهجة البدوية ومعطياتها، حيث نظمَ بها كلَّ قصائده، وهذه نتيجة حتمية، حيث إنه عايَشَ البدوَ وجاورَهُم في فترةٍ حسّاسةٍ من عمره، وذلك في طفولته ورَيعان شبابه، إضافةً إلى أنَّ البدوَ كانوا يشكّلون مساحةً غير قليلة من محيط الشاعر، إلا أنهُ أضفى على شِعره صِبغةَ الاختصار وحاكى واقعَه بطريقةٍ تميّزَت بالسلاسة والجزالة، حيث نجد كلماته تتردد في الأفراح والمناسبات الوطنية بشكلٍ منقطع النظير، ومنها أبياته المشهورة:
هِيهِ يا الِّلي راكبين على السلايل
فوق ضُمّر يمّ طربا ناحرينا
سَلّموا عَ ربوعنا وقولوا لهايل
بالسويدا ثارنا حِنّا خذينا

ــ لقد أرَّخَ شاعرُنا لأحداثٍ مهمّةٍ في تاريخ جبل العرب، ومنها أحداث الثورة السورية الكبرى التي شاركَ في جُلّ معاركها الجسام، مثل (المزرعة والمسيفرة ومعارك الغوطة وغيرها)، ومن أبياته الخالدة في الذاكرة الشعبية هذا الحُداء الشهير في معركة المزرعة التي جَرَت في غُرّة شهر آب 1925 م:

يا الله نَطْلُبْك السِّتر يوم ان فَتَل دولابها
شَرَّابة الدَمّ الحَمَر والذلّ ما نرضى بها
جرَّد علينا مْنَ البحر عسـاكراً وِطْوَابها (1)
عينيك ياللي ما حَضَر حنّا كَفينا غيابها
يا بنت يا عين الصّقر ريح النَّفَل بِجْيابها (2)
لا تاخذين الما صَبَر يوم الخَوِي ينخى بها
وآخذِين خيّال السِّكَر المـــرجـَـــلة عَيـــّا بها (3)

وفي ثلاثينيات القرن الماضي أرسلَ هذه القصيدة إلى الثوار الذين نزحوا إلى وادي السرحان في الأراضي السعودية ــ حيث لجأوا إليها من عام 1927 حتى عام 1932 وعادوا آنذاك إلى الأراضي الأردنية إلى أن عادوا نهائياً إلى سورية سنة 1936 بعد اعتراف فرنسا باستقلال سورة ولبنان ــ وفي قصيدته يُذكّر بالنصر ويتأمل الفرج القريب ، ومن أبياتها:

يا رُسل يالِّلي تمِدّ مْنَ آرض طَرْبا
فوق حُرَّه كنَّها ظبْيَ الحَمَادي
سلّم على اللي ساكنين ديار غُرْبه
النشاما مْخضِّبة سْيوف الهَنادي
ديرتي قامت تِبَسَّم عُقب حَرْبه
يوم تلفوا تَخْلع ثياب الحْدادي
العَفُو ما هُوْ بَعيدٍ يوم قُرْبه
يوم يلفي الوفد ياتيكم بجادي (4)
يا طويل الباع هَدّ الحيل ضَرْبه
لا نوى ربَّك قضى كل المْرادي (5)

وفي خِضَمِّ الثورة والنصر يسجّل لنا الشّعرُ ما في نفوس المجاهدين من أنََفةٍ وشهامة، فهم يريدون الحرية والعزة ولا يرضخون للمحتل؛ وهم إن نشدوا حاجةًً فهي حاجة الحر لسلاح الحرية، لقد أرسل المجاهد صالح عْمار أبو الحسن قصيدة إلى جاد الله سلام عام 1928 وفيها يطلبُ بارودة ، ومن أبياتها:

ملفاك طربا خُشّ دار اَبو سلام
الضَّيغَمي ما هي غبيّة فعاله (6)
من مصر لبغداد لنجد للشام
لوّ الرجال بعَدّ حَبّ الرماله
ما مثلكم رَجلٍ على الحق مقدام
وللمثلنا دايم تِفقّد حواله
أريد موزر ترعب الضدّ وخصام
مَعْمَل بْرِنْد وْمِن مْعَدَّل طواله
وِمْخُومَسات بْصَفَّها عَشْرة آدْوام
أريدها يوم الوغى يا حَلاله
أدري بكم بين المخاليق فهّام
وَدّي جواباً مثل عَدّ الرِّساله

يجيب ابو سلام وقد أُعطيت البارودة لصالح عمار فوراً :

يا عْمار لا جانا من الربع منضام
حنّا بعون الله نْعَدِّل آحماله
بوجوه ربعٍ من مواريث سلاّم
عُقّالهم وآن ثار الاشْهَب جَهَاله (7)
لك طُلْبةٍ مَوْزَر تِشيله مع آحزام
تستاهله والاَّ الرَّدي ما يناله
خُوذه وَلاني مْدَوَّر الرِّبح سَوَّام
والرِّزق عند اللي يدبّر احواله (8)
تَضْرُب عَدوَّك بالعظم ضَرْب قصَّام
يوم الحرايب ما يريعَك آهواله
الطَّيْب ما بين المخاليق حَوَّام
كِلْ ديرةٍ يا عْمار بيها رجاله

ولقد اهتمَّ هذا الشاعر الفارس بقضايا وهمومِ وطنِه، وأرسلَ زَفَراتِ صدرِه مع أبيات قصائده، ووظّف رؤيتَه ونصيحتَه مترجماً الحلَّ في أكثر من نداء، ومن أجمل ما يقال في هذا السياق؛ تلك المجموعة من القصائد التي تبادلها مع الشاعر أحمد الغباغبي والشاعر حمد المُصفي وهي بعنوان (تل الفرس).. القصائد التي يتحدّى أصحابُها العدوّ الصهيوني الغاشم ومن يشدّون على يده. ومن قصيدة جاد الله سلام التي يشيرُ من خلالها إلى حرب حزيران 1967:

مَبْداي باللهْ والذي هُوْ رَجانا
هُوْ خالق الدِّنيا وْعَليه التَّدابير
يَدْمَح لنا الزَّله وْيغفر خَطانا
وِيْفكََّنا مِن لايذات العَواثير
مِن عُقب ما كِنّا بعزٍّ، دَهانا
حربٍ بْسِتَّ آيام ما عَقّبَتْ خير
أمْرٍ مْن الله مار ماهِيْ جَبانه
وْهذي آسعرات الحرب وِرْدٍ وتصدير(9)
حِنّا هَلَ الرَّدَّات عاللِّي بَغَانا
لابُدّ يومٍ يزحَفُون الطوابير (10)
ونَمْطِر على الغاصب صَواعق سمانا
والله على الباغي تدور الدواوير
عشرين عامٍ يا عَرَبنا كفانا
ما فادنا كثر الخُطَب والمشاوير
تلّ الفَرَس وِتْلول مِثْله تَرانا
وْحِنّا نراعيها بشَوف النواظير
مِن شَرْقنَا وْمِن غَرْبنا وِش بلانا
ما عاد نقبل يا عَرَبنا معاذير
القدس تنخاكم، عليها مهانه
حَنَّت على الفَرقه حنين النواعير
امشوا عليها واحفظون الأمانه
وعلى بَعَضْكُم لا تصيروا دبابير
وان ما خذينا حقَّنا باليَمانه
عيبٍ علينا الهرج عند الغنادير
شبُّون نار الحرب باربَع آركانه
والرِّبــح ما ياتي بَليَّا مخاسير (11)

وتميَّزَ شِعرُه بكثافة المفردات التي أنتجَت تركيباً جَزْلاً يخدِمُ مضمونَ القصيدة ومنحاها العام، ونحن نتكلم هنا عن لهجةٍ بدويّةٍ صِرفة لا يُخِلُّ الشاعرُ في استخدامها ولا يخلط بينها وبين العامّية القروية المتعارف عليها (والتي هي لهجتُهُ في الأصل)، ومثال هذا؛ أبياتٌ من قصيدته التي عُرفت باسم (قصيدة الدَّهر)، وهي القصيدة التي بكى من خلالها أهلَه الذين فقدَهم إثرَ أحداثٍ داخلية مؤلمة، وفيها يذهبُ مذاهبَ الحكمة والنصيحة وقد اعتملَت تقلُّباتُ الدهر في أُسْرَةٍ أجلََّتْ يدُ الجماعةِ من شأنها عبر المواقف البطولية والاجتماعية المشهودة:

الدَّهر دولابٍ على النَّاس دَوّار
واليوم دَور آرحاه داير علينا(12)
خمسَة سنينٍ نَجْرَع الصَّبر وِمْرار
مع سِتّْ هَدّنَّ القصور الحَصينا
أبكي على اللي بْميلة الدَّهر صَبّار
فَصَّال وان دارَت عليه السنينا
وابكي على اللي بَدَّل الدَّار بديار
هيهات مِن عقب المْفَارَق يجينا(13)
ياما رَكبنا فوق طوعات المْهَار
وياما على قَبّ السَّبايا حَدينا(14)
وياما مَشينا بْدِيرَة الخوف بِنْهار
وياما بْعَتمات الليالي سَرينا
أيام بِيضٍ كنّها زَهر نَوَّار
أبْيَض مِن المَقصُور هُوّ واللُّجينا(15)
وايام أسْوَد من صَدى الجاز وِشْحار
وِتْقُول عتمات الدُّجى آلمِظلمينا(16)
وايام تَدْعي واسع الفكر محتار
يَخْطي وْلوّ انّه فَرِيزٍ فَطَينا
وايّام تَدْعي عَادِمَ الشَّور شَوَّار
واليا هَرَج تلقى المَلا تابعينا
وياما هَفَت دنياك حُكَّام وِكْبار
ياما ملوكٍ قوطَرُوا ذاهبينا(17)
انظر بني عثمان يوم الدَّهر دار
جارَت عليهم مِغِبْرات السِّنينا
خَلّوا قصور العِزّ تنعي وآلاسوار
هُم بالحياة وْغيرهم وارثينا
والدَّهر خَطّ بْصَفْحَة القلب تذكار
من شُوم فِعْلَه يا آلاجاويد فينا

هي القصائد الذَّاتيَّة الموسومة بآثار الحزن التي تطغى على جسد القصيدة بشكلٍ مكثّف؛ وأقول (ذاتية) لأميّزها عن القصائد العامّة التي حاكت المجتمع من خلال الصيغة الوطنية والصيغة الاجتماعية المتمثّلة بشعر الحِكمة وشعر المدح من رثاءٍ أو ترسيخٍ للعادات والقيم. ومن قصائده الذاتية؛ قصيدته المشهورة في رثاء الأهل الراحلين عام 1917 على أثر الأحداث الداخلية المؤلمة التي أشرنا إليها، ومنها:

ما لُوم عيني وان بكت دمعها دَمّ
ما لومها وان طَوّلَت في سَهَرها
تبكي على اللي فارقوا الدَّار يا عَمّ
وِمْنَ البكا كَن زاغ منها نَظَرها(18)
صَبَرت انا وْعَيّا الصبر يَفْرِج الهَمّ
صبري على بلواي مَحْدٍ صَبَرها(19)
صَبْرَ الحديد اللي تِلوَّى على الحَمّ
ما جَضّ وان زادَ المعَلِّم شَطَرها(20)

عارف النكدي

ومن القصائد الإنسانية التي تنمُّ عن الشاعرية الحقيقية؛ هذه القصيدة التي عُرفت بــ (نشيد بيت اليتيم في السويداء) ، نظمها الشاعر عام 1948 عند افتتاح بيت اليتيم والذي يعود الفضل في تأسيسه ورعايته إلى المرحوم الأستاذ العلاّمة اللبناني (عارف النكدي) محافظ السويداء آنذاك، وقد تبارى الشعراء الشعبيون وقتها في تخليد ذلك الحدث من خلال قصائد عُرفت كُلّها باسم (نشيد بيت اليتيم)، وشاعرنا جاد الله سلام تكلَّمَ ــ وهو في الخمسين من عمره ــ بلسان الطفل اليتيم، وفي ثنايا القول ؛ نجدُه قد استغنى عن المفردات والجُمل المُغرقة في (البدويّة)، إذ هَلهَلَ القصيدة وبسَّطها في سياق كلامه بلسان الأطفال، وهذا ما يُلفِتُ النظرَ ويعبّرُ عن إحساسٍ رقيقٍ ووعيٍ مُدركٍ، فنحنُ في حضرِةِ شيخٍ وفارسٍ مجاهد فاضَت قصائدَهُ عن ساحات الوغى ومعتركِ المجتمع القَبَليّ فجاءت عاتيةً في مجال اللفظِ والصوَر، أمّا هنا، فللقول منحىً آخرَ تماماً؛ منحى السهل الممتنع ، ومن قصيدته:

 

 

لا نِذِلّ وْلا نقول اِنّا يتامى
والقَدَر من قبلنا يتّم نبينا
ما نِذِلّ ومدرستنا بانتظاما
والعيون العاطفة تسهر علينا
اليُتم ما ضرّ لَرْجالٍ عِظاما
قَـبْلنا ياما رجالْ مْيتّمينا
وان دعا داعي الوطن يوم الخصاما
وْقِيل وين اللي يرُدّ المعتدينا
مَن نشَد عنّا يجدنا بالأماما
مع طلايع جيشنا بالأوّلينا
ومَن غَرَس طيبٍ جنى عزّ وكرامه
ومَن عطت يسراه ياخذ باليمينا
والشكر لازم علينا بالختاما
للذي يرعى اليتامى القاصرينا

… عارف النكدي وجاد الله سلام، جمعتهما الإنسانية وذاكرةُ اليتمُ في حومة ما وَرَد، ومنها جاء هذا النسيجُ الماديّ والمعنويّ..


شروحات:

1. طوابها: الطُّوب: المدفع
2. ريح النَّفَل: يريد رائحة العطر، والنَّفَل: نبات برّي طيّب الرائحة، بجيابها: في ثوبها الذي يكسو صدرها
3. السِّكَر : صفة للخيل مصدرها نشوة الفارس الذي يعتز بفرسه وفروسيته, عيّا بها: أي رفض المساومة عليها.
4. الوفد: إشارة إلى الوفد السوري الذي سافر إلى باريس عام 1936م برئاسة هاشم الأتاسي بشأن التفاوض من أجل حرية البلاد واستقلالها
5. لا نوى: (لا) أصلها لو وهي من اللهجة البدوية ويكثر استخدامها عند الشعراء العاميين.
6. غبيّة: خفيَّة
7. الأشهب: كناية عن البارود، وفي البيت يصف تحوّل العقلاء (عقّالهم) إلى حالة الجنون (جهاله) عند احتدام وطيس المعارك
8. خوذه : خُذها
9. مار: من استخدامات البدو وتعني (ماغير) وتفيد أيضاً معنى (ولكن), اسعرات الحرب: سعيرها
10. هَل الرَّدات: أي أهل الثأر والنخوة
11. بليّا مخاسير: من غير خسائر.
12. دَوْر رحاه: رحاه تقرأ بتسكين أوّلها ليستقيم الوزن وهي بلفظها هذا من استخدامات العامة والرحى هي آلة حجرية قديمة تستخدم لطحن الحبوب
13. المفَارَق : بتسكين الميم و فتح الراء وتعني الفراق
14. قبّ السَّبايا: الخيل الضامرة, حَدينا: أي أنشدنا الحُداء وهو لون من الشعر الذي يخص الحروب
15. المقصور: الثوب الأبيض، اللجينا: اللجين: الفضة
16. صدى الجاز وشحار: يريد بصدى الجاز عتمةَ القبر، وشحار: أثر الدُّخان الأسود
17. قوطروا : وَلّوْا إلى غير عودة.
18. كَن زاغ منها نظرها: أي كأن نظرها مالَ وذهب
19. عَيّا: عَجِزَ, محَْدٍ : أصلها (ما أحد) ولكن تُسقط الهمزة وتُسكّن الحاء على حسب اللفظة البدوية
20. جَضّ: هي تصحيف لمفردة ضجّ والعامة تستخدمها بمعنى تضايقَ وأصدرَ أنيناً, زاد المعلّم شطرها: أي أمعنَ الحدّادُ في عمليّة طرق الحديد.

من الماضي الجميل

كان شعراء جبل العرب يلتقون كل اسبوعين يحيون التراث وكان عميد الاجتماع المغفور له المهندس ابو رياض جادالله عز الدين المحترم الرزين والمثقف المميز صاحب مكتبة على رفوفها احدى عشرة ألف كتاب تحت تصرف الجميع.

تم تداول فكرة هي ان نكرم الافذاذ بعد رحيلهم ولم يبق من سيوف المجد صانعي الاستقلال المشاهير غير اللواء ابو غالب زيد الاطرش الأخ الشقيق لسلطان ويده اليمنى في كل المواقف التاريخية فلماذا لا نُسمعه وهو على قيد الحياة رأي الشعراء به واتفقنا ان نزوره في عرين سلطان باشا الاطرش وفي مضافته فنقول رأينا به وحددنا يوم الثلاثاء في١٣-٣- ١٩٩٦ وقبيل الظهر زرت ابا رياض جادالله عز الدين وهناك التقيت الاخ العقيد الشاعر ابو نزار محمد شجاع عنده، وبحثنا الخطوات اللازمة للمناسبة؛ فاقترح ابو رياض ان نبحث في السوق عن هدية رمزية نقدمها للواء ابي غالب زيد؛ فوجدنا هدية ترمز الى الفتوّة والنضال فاشترينا سيفا كهدية رمزية ..

وفي المساء كانت مضافة سلطان باشا تغص بالشعراء وأنصار التراث، بدأت السهرة بكلمة ألقاها عميد السهرة جاد الله عز الدين باسمه الكبير وقدم الهدية (لابو غالب) باسم الجميع ونيابة عنهم ففاجأته الهدية ووقف بطوله المهيب ليقبّل السيف ويقول: وصيتي ان يوضع تحت راسي في قبري!!

ابتدأت السهرة التي كانت حفلة منضبطة ومنظمة وبرنامجها محترم من الجميع …وجاء دوري فقدمت قصيدتي هذه:

ما المجد غير تجشّم الأخطار
والذِكر غير حصيلة المشوار
الليل يغتال الوضوح تغلّساً
والصبح خير هديّة للساري
والبدر في كبد السماء مميّز
والشمس تمحو لألأ الأقمار
يا زيد مَن للخيل في يوم الوغى؟؟
حين ارتخاص الروح للأقدار؟؟
يوم العجاج امتدَّ يسحب ذيله
ليلاً يحدّ خوارق الأبصار؟
حين استجار الشرق من أغلاله
هذا العزيز الصعبُ بالثوّار؟
تالله كُنتَ الليث ينثر لبدةً
والثائرون منائرُ الأكوار
والسيف منصلتٌ تعندم راعفاً
يهوي بوهج نيزكيٍّ عاري
إن هُجتَ هاجوا دمدماً وصواعقاً
سيلَ السيولِ وجذوة الإعصارِ
مزّقت أجناد العدوّ بفتيةٍ
في كلّ موقعةٍ كسهم النار
وهززت راشيّا بجمعٍ ثائرٍ
حين اقتحمتم شاهق الأسوار
يا فارساً بالحرب يزجي مهره
مستهزئاً بالنار والأخطار
يا زيدُ أغنيت الجهاد ولم تزل
تُعطي عطاء الديمة المدرار
صلبٌ إذا اعتبكت وطار شرارها
تغشى الوطيس بهمّة المغوار
يا زيد شاخ الدهر إلّا أنكم
كبشٌ عليه غُلالة من غار
يا شاعراً أغنى القريض بشعره
يا قائداً يا أحصف السمّار
أنجزت صرحاً للتراث مشيّداً
بالسيف والتنظيم والأشعار
يا زيد ليت الدهر في امكاننا
إرجاعه قرناً بدون ضرار
فأراك في النبك البعيدة بادياً
شاكي السلاح مهلهل الأطمار
ترنو الى صوب الشمال وأهلهِ
والروح تهدي ذاتها للشاري
إنّي أحيي الآن شيخاً فارساً
في أعظم الأيام، في آذار
في دار سلطان العظيم وحصنه
نسقي أصول المجد بالتذكار
يا ربُّ هَبْ زيداً شموخاً دائماً
هذا بقيّة نخبة الأبرار

أبو حيَّان التّوحيديّ

إن خير تعريف به وأقربه إلى حقيقته الشخصية، والأدبية ما ذكره مؤلف كتاب: «أبو حيان التوحيديّ»: سيرته – آثاره. الدكتور عبد الرزاق محي الدين، في زحمة عشرات، لا بل، مئات المقالات والدراسات الكبيرة الأثر التي تناولت أعماله القلميّة المختلفة في مَدْحٍ أو نقدٍ حفلت بها مجامع الأدب، والفلسفة، والتأريخ في عصره، وقد كان اختلاف المؤرّخين فيه وفي تقديره من أقوى الحوافز على تبيّن وجه الحق في أدبه، وسيرته. وقديماً قيل: «من عظمة الرجل أن يختلف الرأي فيه» إنّه في ما صَوّر المؤرخون من ناحية العنصر، فارسيٌّ أو عربيّ، ومن حيث الموطن، بغداديّ، أو شيرازي، ومن حيث العقيدة، مؤمن مصدِّق، أو زنديقٌ مُلحد، ومن حيث الرواية، وضّاعٌ مُختلق، ومن حيث الطريقة، صوفيّ عارف ومن حيث معارفه، فيلسوف، ومتكلّم، وفقيه، ومُحدّثٌ، ونحويّ، وشاعرٌ، وناثرٌ، وبمثل ذلك جرى الخلاف في عام مولده ووفاته. ويرجح أنه وُلِدَ عام 310 للهجرة، وتوفي عام 410 للهجرة، وهو تاريخ غير مثبت.

أصله ووطنه

يقول الدكتور «زكي مبارك» في النثر الفنّي: إنّ «أبا حيّان» كان فارسيّ الأصل، وقال «السندوبي»: ما من شك في أنه فارسيُّ الأصل. وقال «محمّد كرد علي»: هو عربيٌّ، وما كان يعرف الفارسية. ووردت عبارةٌ في «معجم الأدباء» «لياقوت الحموي» يُشْتَمُّ منها أنه كان فارسي الأصل، فقد قال ياقوت: «فهو شيخ الصوفية، وفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقّق الكلام، ومتكلّم المحققين، وإمام البلغاء، وعُمدةٌ لبني ساسان» ولكن أبا حيّان نفسه لم يُشر فيما عُثِرَ عليه من مؤلفاته أنّه كان فارسي الأصل، وفي هذه الحالة ليس بإمكاننا إلَّا أن نستعين بالقرائن، ونستنطق السّمات، فربما باستطاعتنا منها أن نستنتج أنه عربيٌّ أو فارسي، فاسمه، وكُنيته ولقبُهُ واسمُ أبيه، وجَدِّه توحي بعروبته، فهو ما يُشبه الإجماع، وكما قال «كرد علي»: عدم معرفته للغة الفارسية على طول إقامته في فارس، وتردده عليها، يرجح أنّه عربي».

معالم سيرته

طفولة أبي حيّان كانت عجباً في حياة الأطفال، وإحساسَه المُرهَف الرقيق، وأعصابَهُ المتوفزة المتوترة، وغريزة التطلّع فيه إلى كل شيءٍ حوله، وحبُّ المشاركة في كلِّ ما يرى، ويسمع، وتسجيلهُ كل ما يقول أو يقال تنامت معه حَدَّ بلوغ الشباب والنضوج الفكري، عاماً بعد عام، مُعَيِّناً أساتذته الذين درس عليهم، وشيوخه الذين روى عنهم، والكتب التي قرأها، والمؤلفات التي ألفها، والأعمال التي شغلها، في هذه الفترة من حياته. اتصل بقادة الرأي من رجال القرن الرابع، فقابس، وجادل، وناقش، وروى، وسجّل، ونقد، وعَقَّبَ، وهجا، ومَدَح، وطلع على الناس بـ «البصائر والذخائر»، و«مثالب الوزيرين»، و«الصداقة والصديق» و«الإمتاع والمؤانسة» وأخريات من مؤلفاته.

تكوينه وهيئته

كان في ما يبدو من مظاهر نشاطه العلمي، وتنقلاته الكثيرة، وامتداد عمره حتى بلغ المائة أو يزيد، أنه عاش صحيح البنية قويَّ المزاج، فقد حجّ في غير استطاعةٍ، ماشياً من العراق إلى الحجاز، مع مجموعة من المتصوّفة. أمّا سِمتُهُ وهيئته، فقد كان في ما يوصف، صوفي السمْت والهيئة، رثّ اللباس نابي المظهر، ما سبَّب حرمانَهُ من بلوغ حقّه، وزُهْدِ الأعاظم فيه وإيثارهم سواه عليه.

ملكاتُهُ وأخلاقُهُ

كان الرجل مزّوداً بكفايات يكفي أهونُها لبلوغ حَظٍّ من حياة كريمةٍ، رافهةٍ، وكان مَنْ دونَهُ منزلةً، ينعم بالجاه والمال والسلطان على حين عاش هو في فَقرٍ وتسكّعٍ واستجداء. فقد كان كاتباً أدنى ما يُقال فيه إنّه من طبقة «ابن العميد» و«ابن عَبَّاد»، و«أبي إسحاق الصابئ»، و«ابن سعدان»، و«عبد العزيز بن يوسف» وقد بلغ أكثرُ هؤلاء رُتبة الوزارة ولمّا يبلغ هو منزلة كاتب في ديوان.

حرفته

كان «أبو حيَّان» حسن الخط، عارفاً بفنونِه، وأنواعه. أَلَّفَ فيه رسالةً قَيِّمةً، ربما عُدَّتْ من أقدمِ ما أُلِّف في العربية، وزاد على جَودَةِ الخط وتزيينه وزخرفته، ضبطُ النسخ وسلامتُهُ مما يُدخلُهُ الورّاقون من تصحيف وتحريف.
عقيدته

قال أبو فرج الجوزي: زنادقةُ الإسلام ثلاثة: «ابن الراوندي»، و«أبو حيَّان التوحيديّ»، و«أبو العلاء المعري «وأشدهم على الإسلام «أبو حيّان» لأنه جْمَجم ولم يُصرِّح» وقد جاء في مراجع ومصنفات معروفة، الكتاب «لسان الميزان» «لابن حَجر العسقلاني» قال «ابن النجار» له أي «لأبي حيّان» المصنفاتُ الحسنة «كالبصائر» وغيرها، و «كان فقيراً، صابراً متديّناً، صحيح العقيدة» وجاء في كتاب «شيرازنامه» «لأحمد بن أبي الخير، وهو من رجال القرن السابع: هو الإمام المُوَحِّد العالم المتفرد، الجامع للمعارف والعلوم، لا نظير له في المكاشفات الإلهية، والبحث في التوحيد.

واقع عقيدته

كان «أبو حيّان» حنيفاً مسلماً، ما ندَّ عن شيء من أصول الإسلام العامة، وتهمتُهُ بالإلحاد فَنَحْنُ في غنىً عن التدليل على ذلك، مُحيلين القارئ إلى ما انطوت عليه مؤلفاته من روحٍ إسلاميٍّ قويّ.

مروياته ومقتبساته

أكثر «أبو حيان» في مؤلفاتِهِ الرواية عن غيره، وأغلب ما ورد من آراءٍ في اللغة، والأدب، والفلسفةِ، والفِقْهِ، عزاهُ إلى أساتذتِهِ ومعاصريه. شهدَ الناقدون، ومؤرّخو الأدب، هذا الإكثار في الرواية، مع وحدة الأسلوب وطريقة العرض على الأغلب، فاتهموا الرجل باصطناع الآراء ونسبتها إلى غيره، إمّا تخفُّفاً من أوزارها، وإمّا رفعاً لشأنها، بنسبتها إلى مُحدِّثٍ أو فيلسوف ذي شأن، أمّا عن أسلوبه فقد شبَّهه أقاي ميرزا محمَّد خان القزويني بأسلوب الجاحظ بقوله: أنْ لا كبير فرق بين أسلوبَيّ الرجلين، فأسلوب أبي حيَّان عينُ أسلوب الجاحظ، في سلاسة الإنشاء، والسهولة وعدم التكلُّف والميل إلى البَسْط والإطناب، فهو خطيبُ المسلمين، وشيخ المتكلمين، ومُدْرَهُ المتقدمين والمتأخرين.

ثقافته

كان النسخ عُدَّتَهُ في التحصيل، فهو منبع ثروةٍ لغويةٍ وإخباريةٍ ضخمة، جَمَعَ منها مؤلفهُ «البصائر والذخائر»، وسواه من المؤلفات. وُهِبَ الرجلُ حافظةً قويةً، وذاكرةً مدهشةً، إلى صبر وجَلَد على تسجيل ما يحفظ، كان عصرُه أحفل العصور الإسلامية برجال العلم، وكان أساتذتُهُ خير هؤلاء الرجال في كل فنٍ من فنون الثقافة، إذا عرفنا ذلك أدركنا السرّ الذي جعل من «أبي حيَّان» دائرة معارف جيله وكتّاب عصره. وعلَّلَ «ابن حجر» تلقيبه «بالتوحيدي» إلى أن «المعتزلة» يسمون أنفسهم بأهل التوحيد، على اعتبار أن أبا حيّان لدى بعض الدارسين في عصره كان ضمناً على غرار الجاحظ من المعتزلة بما يعني أنه من أهل التوحيد، المعتزلة.

الفلسفة

وصفه «ياقوت» بأنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، تعاقب على نعته بذلك جلُّ مؤرخيه، ومع ذلك فلم يترجم له في ما وقفنا عليه من تلك الكتب التي تجرَّدَت لتاريخ الفلاسفة أمثال «تاريخ الحكماء» و»منتخب صِوان الحكمة» و»تتمة صوان الحكمة» «وتتمة التتمة» و»عيون الأنباء» على حين ترجمت هذه الكتب لمن هو دونه آثاراً في هذا الفن فتجاهُلهم له لا يعني حتماً عدم انتظامِهِ في مسلكهم في ما يقدرون بل في ما نقدِّر، إلى تناسي التاريخ الفلسفي له، كما تناساه وتجاهله جُلُّ التاريخ الأدبي. ولن ندخل في تفصيل آرائه الكثيرة في الفلسفة، وتضاعيف مفاهيمها العميقة في هذا البحث، بل سَنُلمعُ باختصار إلى نظره في الفلسفة، كما في نظر أستاذه «أبي سليمان المنطقي» بقوله: هي صناعةٌ لا بُدَّ أن تنتهي بصاحبها إلى «التوحيد» فإن انتهت بأحدٍ إلى غير هذا فمرجعُهُ إلى فساد في طريق الدراسة الفلسفية، ولذلك كان كثير الشكّ في سلامة ما ترجم عن اليونانية من نصوص تدعو إلى الجحود أو الوثنية. موضوع الفلسفة هو العالم بأسره، عدا هذا الذي يتصل بأمور الدين. فعلى من يريد الفلسفة أن يُعرض بنظره عن الديانات، ومن يُريد الدين فعليه أن يُعرض بعنايته عن الفلسفة، وليتحلَّ بهما متفرقين في مكانين مختلفين.

الحج العقلي إذا ضاق القضاء عن الحج الشرعي

لم يُشهَد في تصوف «أبي حيان» ما يُشعر بعدم المبالاة، بأصول الإسلام، ولا الفكرة التي تتلخص بالقول: إنّ من عَرَف الحقيقة سقطت عنه الشريعة، أما الاستهانة بالحج خاصة، وهي الفكرة التي شاعت بين بعض متصوفة جيله، فيبعدها عنه، فالرجل حجَّ ماشياً على قدميه عام 350ه كما أسلفنا.

أبو حيان الأديب

الآن وقد ظهرت لنا معالم من سيرة الرجل، ومنابعُ ثقافتِهِ ومصادرُها، وأثر هذه المنابع، وما كان لها من أثر فيه وتأثر به، يصحُّ أن نتجِهَ إلى أسلوبه الأدبي، وعملِهِ الفَنّيّ وما أدخله على هذه المادةِ من ضروبِ الصَقل والتزيين والتظليل والتلوين حتى تستوي على لسانه أو قلمهِ مقالةً فنيةً، وأسلوباً رفيعاً للأداء.

رأي المحدثين من الدارسين

رأي آدم متز
وأوّل من تنبَّه منهم إلى خطر «أبي حيَّان» في عالم البلاغة، المستشرق «آدم متز» في كتابه «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع عشر» فشهد وهو يرصد آثار التطور في النثر العربي مكانة «أبي حيان» منه، فاستصدر حكماَ جريئاً بإبلاغه مرتبة الأستاذية لكتَّاب ذلك العصر جميعاً، ولم يخش أن يعدّه أعظم كتَّاب النثر العربي على الإطلاق.

دراسة الدكتور زكي مبارك
وعقد مؤلفُ «النثر الفني» دراسةً مستقلّةً «لأبي حيان». في كتابه فوضعه في طليعة كتَّاب الآراء والمذاهب في القرن الرابع الهجري، وحين تكلم عن الأساليب رأى فيه كاتباً يُؤثر الازدواج، ويسجع من حين إلى آخر، كما كان يفعل «الجاحظ» الذي ارتضاه إماماً في حياته الأدبية، والعقلية، ذاهباً إلى أن نثر «أبي حيان» من أبلغ النماذج في اللغة العربية ومن أروع آيات البيان.

كما عدّهُ «محمّد كرد علي» من أمراء البيان العربي. نظر إلى فنِّه الأدبيّ فَعَدَّهُ من أعاظمِ المُنشئين والمؤلّفين في الأدب، ورأى أن رسالة «الصداقة والصديق» تمثلت فيها أفكار أربعة قرون، ورأى في تصويره الإبداعي ما تقف عنده العقول حائرةً، وإذ آضت اللغة على يديه مرِنةً مرونة العجين في يد المصور الحاذق.

رأي أحمد أمين
قال أحمد أمين، وهو يفحص أساليب النثر في القرن الرابع الهجري مستعرضاً أعلامه، أمثال «الصابئ» و»ابن العميد»، و»ابن عبَّاد»، و»عبد العزيز يوسف»، وكان يرى «أبا حيان» من نوع آخر، فكتابته يُعنى فيها بالموضوع كما يُعنى بالشكل، هو غزير العقل، واسع العلم، حسن الصياغة، جيد السبك، وبحق لقبوه بـ «الجاحظ» الثاني. وكانت كتب الجاحظ أغزر مصادر كتابه «البصائر والذخائر» فيما صرّح به في مقدمته، وتجاوز إعجابه به حدّ أن ألَّف كتاباً خاصاً به أسماه «تقريض الجاحظ» وهي خطوة لم يحدثنا التاريخ أن أحداً ألّف في الجاحظ كتاباً قبله، ولقد أطراه في مؤلفاته جميعاً ولكن الذي ينبغي أن يقال إنصافاً للرجل إنه لم يقف بمدرسة «الجاحظ» حيث تركها مؤسسها، وإنما أمدها بمعين من عبقريته وفنِّه بما رفع من قواعدها.

قال إسعاف النشاشيبي: «لو أقام كل عربي تمثالاً في بيته «لأبي حيّان» كفاءً على جميل ما أسدى للأمة العربية في مؤلفاته الأدبية» لما كان هناك إسراف في التقدير، ورعاية الفضل لأهله.

«الحق لا يصير حقاً بكثرة معتقديه، ولا يصير باطلاً بقلة منتحليه» على ما هو معروف، احتُفِلَ بألفية «أبي حيّان التوحيدي» في القاهرة في شهر آب 1994، واقتصر على ندوات وإعادة طبع ثلاثةٍ من كتبه، إلى تكريس مجلة «أدب ونقد» المصرية عدداً من أعدادها للمناسبة، مع عدد من الكتاب الكبار بينهم عبد الرحمن البدوي، فهل يستحق الرجل الدعوة إلى «سنة التوحيدي» هذا الرجل الذي اسمه اليوم على كل شفة ولسان مات مغموراً، وبقي قرابة نصف قرن لا ترجمة شخصية له في أي من المصنّفات، وهو الذي تضج كتبه بالحياة. وكلماتُهُ بالوخزات، وشكاواه بالصرخات التي هي زبدة علمه، لا بل زبدةُ عصر بأكمله… هذه بعض إضاءات منَّا على شخصيته الفريدة، وأعماله العبقرية، ما يصح أن يدرج في قائمة الأدباء الخالدين، مع الجاحظ خصوصاً أنهما كانا معاً قطبي فصاحةٍ وبلاغةٍ على مدى العصور.


مراجع البحث:

– ياقوت الحموي، معجم الأدباء.
– الدكتور “زكي مبارك” النثر الفني.
– “محمّد كرد علي” أمراء البيان.
– شيرازنامة “أحمد بن أبي الخير زركوب”.
– تاريخ الحكماء للقفطي.
– طبقات الشافعية للسبكي
– لسان الميزان ج6.

– وفيات الأعيان ج1.
– البصائر والذخائر.
– دائرة المعارف الإسلامية – مرجيليوث.
– آدم متز “حضارة الإسلام”.
– الملل والنحل للشهرستاني.
– كشف الظنون.
– أحمد أمين “ظهر الإسلام.

دورُ التّعليم العالي في تعزيز فرص التّنمية المُستدامة

هذا العنوان هو موضع موافقة، بل موضع إجماع عالمي اليوم وذلك لسببين: أوّلاً، التنمية البشرية المُستدامة (أي التنمية الشاملة المسؤولة والمتجددة) هي في رأس أولويات وأهداف كل بلد وكل مجتمع حريص على مستقبل أجياله وعلى إيجاد مكان محترم له في عالم معاصر يعجّ بالأقوياء وبالتنافس الشديد في كل مجال. والثاني، لأن هناك تسليماً كلِّياً وعلى مستوى العالم ألّا تنمية مستدامة، ولا تنمية حقيقية في الأساس، من دون دراسات دقيقة وأبحاث متخصصة ومعمّقة، أي لا تنمية من دون تعليم عالٍ كفوء وأبحاث علمية موثوقة ورفيعة المستوى. يقول تقرير حديث لليونسكو بعنوان: «Policy Paper for Change and Development in Higher Education…»

نحن نعيش في زمن لا يستطيع أي بلد بدون التدريب الجيد والبحوث رفيعة المستوى أن يكفل لنفسه أي درجة من التقدم المتوافق مع احتياجات وتوقعات مجتمع يسعى إلى التنمية الاقتصادية». لكن التنمية الاقتصادية في زمننا لم تعد مكاسب مالية وأرقاماً اقتصادية فحسب. يضيف التقرير محدداً نوع هذه التنمية فيقول بشكل دقيق: «مع المراعاة الواجبة للبيئة، والعمل في الوقت نفسه على بناء ثقافة للسلام قوامها الديمقراطية والتسامح والاحترام المتبادل، أي بالاستناد على تنمية بشرية مُستدامة».

مطلب البشرية بأسرها إذاً هو الرفاه والبحبوحة والتنمية الاقتصادية. ولكن ليست أيّة تنمية، بل التنمية المتوافقة مع البيئة والديمقراطية والتسامح والاحترام المتبادل، أي بكلمة واحدة: التنمية البشرية المستدامة. أما الشرط الضروري في كل سعي إلى هذه التنمية فهي: الدراسات والبحوث رفيعة المستوى والتدريب الجيد، أي لا تنمية حقيقية من دون تعليم عال رفيع المستوى.

فكيف نتمكن من توفير هذا التعليم العالي الرفيع المستوى؟
هذا السؤال العام المركزي ينقسم في الواقع إلى سؤالين فرعيين وهما:
السؤال الأول، كيف ننجح في تأمين تعليم عال لأوسع الشرائح في بلدنا؟.
والسؤال الثاني، كيف نجعل هذا التعليم العالي في بلدنا تعليماً رفيع المستوى، وبحسب أعلى معايير الجَودة في العالم؟.
من جهة السؤال الأول، حدث توسّع هائل لأعداد الطلاب المنتسبين إلى التعليم العالي منذ سنة 1980 إلى اليوم، وازداد عدد طلاب التعليم العالي نحو ثلاثة أضعاف وفي معظم دول العالم. فمع مطلع القرن الحادي والعشرين بلغ عدد طلاب التعليم العالي في العالم حوالي 85 مليون طالب، 47% منهم إناث.

المناطق الأضخم للتعليم العالي في العالم من حيث العدد، هي أمريكا الشمالية، حوالي 17 مليوناً ونسبة الإناث فيها تبلغ 55%، حوالي 5500 طالب لكل 100000 من السكان. تليها منطقة شرق آسيا وأوقيانيا، التي تجاوزت أوروبا مع نهاية القرن العشرين حيث بلغ عدد طلاب التعليم العالي فيها حوالي 15 مليوناً، نسبة الإناث بينهم 41%.

البلدان العربية هي في أسفل القائمة لا يقع دونها إلّا الدول الإفريقية جنوب الصحراء. يبلغ عدد طلاب التعليم العالي في بلداننا العربية حوالي200 جامعة حكومية، تضمّ 3 ملايين طالب جامعي، حوالي نصفهم في مصر وحدها (بمعدل طالب جامعي واحد لكل مائة من السكان).

في لبنان لدينا أكثر من 43 جامعة خاصة، بالإضافة إلى الجامعة اللبنانية، الجامعة الرسمية الوحيدة. يبلغ عدد طلاب هذه الجامعات حوالي 120ألف طالب، أكثر من نصفهم في الجامعة اللبنانية.
اذا أخذنا هذه الأرقام نجد أننا عربياً ولبنانياً لا نشكو من قلة عدد الجامعات، ولا من قلة عدد الطلاب المنتسبين إليها رغم أن مناطق وبلداناً أخرى في العالم متقدمة علينا.

المشكلة عندنا إذاً ليست في السؤال الأول، أي كيف نؤمن تعليماً عالياً للشباب والشابات المتخرجين من التعليم الثانوي. هذا مؤمَّن نسبياً رغم بعض التقصير هنا أو هناك. المشكلة في الواقع هي في السؤال الثاني، أي غياب التعليم العالي رفيع المستوى عندنا، وغياب الأبحاث العلمية ذات القيمة العلمية العالية، والقادرة أن تسهم على نحو إيجابي في خطط ومهام التنمية المستدامة في بلداننا العربية، وفي لبنان على وجه الخصوص – إذا كنّا نفكّر في ذلك!

النوعية إذاً هي السؤال الحقيقي عندنا. نوعية التعليم العالي المتوفر، لا كميته، وهل هو مراقَب أم غير مراقب، تلك هي المشكلة عندنا والتي تستحق الفحص والبحث، والنتائج غير مشجعة ولأسباب كثيرة.
باختصار شديد، المشكلات المعيقة لقيام تعليم عال رفيع المستوى، المعيقة بالتالي للتنمية والتنمية المستدامة عندنا هي التالية:
1. تمركز جميع مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي – الرصينة وذات المستوى- في العاصمة بيروت، مما يجعل الإقامة في العاصمة، أو التوجه إلى العاصمة يومياً شرطاً لتحصيل التعليم العالي، وهو واقع مخالف لتوصيات منظمة الأونيسكو التي تنصح الجامعات بالتوجه إلى الأرياف بدل إفراغ الأرياف من سكانها لصالح العاصمة والمدن الكبرى، مع ما في ذلك من نزوح من الريف، وأكلاف ونفقات وأعباء لا قبل لمعظم اللبنانيين بها.

2. غلبة التعليم النظري والأكاديمي على التعليم التقني والمهني والفني في مدارسنا كما في جامعاتنا. طلاب الكليات النظرية في الجامعة اللبنانية يشكلون وحدهم 75% من طلاب الجامعة. والوضع في مراحل التعليم ما قبل الجامعي أكثر سوءاً. مع أن الصحيح هو أن التعليم التقني والمهني هو الأكثر قدرة على خدمة مطالب التنمية وخططها، على المستوى المحلّي كما على مستوى البلاد عموماً. التعليم التقني والمهني لا ينال ما يستحقه من اهتمام وإنفاق، وأحياناً شهاداته لا تعادل إلاّ بشق النفس: على سبيل المثال الإجازة الفنية LT لا تعادل حتى الآن بالإجازة الجامعية!.

3. غياب التوجيه الفني الفعلي Vocational Orientation، فلا المدارس ولا مجالس الأهل ولا الدولة تقدّم في نهاية المرحلة المتوسطة، أو في نهاية المرحلة الثانوية، توجيهاً حقيقياً للطالب مستنداً لا إلى رغبات أمه أو أبيه، وإنما إلى ميوله وقدراته الفعلية وما هو أفضل لمستقبله المهني والوظيفي.

4. فوضى التعليم المهني والتقني بحيث بات صعباً التمييز بين من يتاجر بالتعليم المهني ومن يقدّم تعليماً مهنياً كفوءاً ومفيداً لمحيطه ولتنمية هذا المحيط. أنا مع إعطاء الترخيص لمن يرغب ولكن شرط الالتزام بالعلانية والشفافية والمراقبة من السلطات المحلية ودوائر وزارة التربية الوطنية. وأشدد على دورالسلطات المحلية التي يحب أن تُعطى دوراً أساسياً، فهي أقرب إلى المدرسة المهنية وفي وسعها أن ترى وتراقب وتستنتج: أنّ هذا خطأ وذاك صواب، وهذا ما تحتاجه البيئة المحلية وذاك لا تحتاجه، وهلمّ جرّاً.

5. «غرق» البلاد في السياسة، ولا شيء غير السياسة. ومع احترامي للسياسة بمعناها الحقيقي، ومع قناعتي أن السياسة هي أمر جيد، ودليل ديمقراطية البلد وحيويته، ولكن هناك أموراً أخرى مهمة أيضاً مثل: مستقبل أولادنا المرتبط مباشرة بنوعية التعليم الذي يتلقَّوْنه في المدرسة والجامعة، ومثل فرص العمل غير المتوفرة، وكذلك الجو غير الصحي وأحيانا غير الآمن الذي يتعلم فيه أبناؤنا وبناتنا في المدارس والجامعات، وعلى الطريق إلى المدارس والجامعات. هل هناك من يسأل عن الجو النفسي لأبنائنا وبناتنا وهم يعيشون لبعض الوقت ويتعلمون ويدرسون ويبحثون عن نتيجة علمية فيما هم في غابة من الأعلام والصورالحزبية والأناشيد الحماسية والثياب المرقّطة وعرض عضلات الشبّان المفتولة، وعلى مرأى من مسؤولي المدارس والجامعات وموظفيها وحرّاسها، ولا من يرى أو يسمع، بل كأن ذلك هو آخر ما يعنيهم، هذا مُناخ غير صحِّي وغير معقول في الأساس ولا يحدث حتى في أفغانستان! ولكن من يسأل أو يهتم، وعلى من تقرأ مزاميرك يا داود!

هذه فقط بعض المشكلات لا أكثر، مشكلات رغبت الإضاءة عليها لأن لها علاقة مباشرة بتحفيز التنمية المحلية والوطنية الشاملة والمستدامة. ويجب أن تنال عناية، ومتابعة، الأطراف الرسمية والسياسية والثقافية لأنها ببساطة تمسّ مستقبل أهم رأسمال في كل مجتمع وكل زمان وهو: الإنسان، وبخاصة الأجيال الشابة. فالمجتمع الذي يربح معركة الإنسان ومعركة إيجاد تعليم أساسي وجامعي ملائم، وإيجاد فرص عمل لأجياله الشابة، هو الذي يربح المستقبل. ومن يفشل أو يُهزم في المعركتين يخسرالمستقبل، ويستمر تابعاً ولاحقاً لمن هو أكثر تقدُّماً منه، ويبقى مجرد سوق لأسوأ ما لدى المتقدمين من بضاعة رديئة، وثقافة رديئة، وفنون رديئة، وسياسات رديئة كذلك، وشكراً.

العدد 34-35