الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الطّلاق؛ واقعُه وأسبابه وآثاره على المرأة المُطلَّقة في المجتمع الدّرزي

يحاول هذا البحث الوصول إلى الإحاطة بالعوامل والمحدِّدات النفسيّة والاجتماعية الداخلة في انحلال الرابطة الزوجية، فالرّهان المطروح في إطار هذا العمل، هو محاولة الكشف عن الأسباب التي تهدّد استقرار وتماسك الأسرة والوصول إلى انفصال الأفراد الممثلين لكيانها وغياب الجو الأُسري وأثر الطلاق على الصحة النفسية للمرأة، حيث تتداخل الأسباب والعوامل المؤدية إلى انحلال الزواج، فمنها ما هو تابع لجوانب نفسـية واجتماعية، ومنها ما هو مرتبط بجوانب اقتصادية وثقافية. إذ تهدف هذه الدراسة إلى استنباط الأسباب وإدراك العلاقة والتداخل الموجود فيما بينها، ووضع التفسيرات السببيّة عن طريق الوصف والتحليل بالإضافة إلى السعي لوضع تفسير نفسي اجتماعي لظاهرة الطلاق والبحث عن الأسباب الحقيقية بطريقة علمية، والتطلع إلى انعكاسات هذه الظاهرة على الصحّة النفسية لدى أفراد الأسر التي تضرّرت من ظاهرة انحلال الرابطة الزوجية، وخاصة الزوجة المطلقة. ومن أجل ذلك قمنا باستخدام تقنيات التحقيق في الميدان، تمثلت في استمارة لجمع المعلومات، طُبّقت على 30 حالة طلاق تم توزيعها على عيّنة من النساء المطلقات في مختلف القرى والمناطق الدرزية وذلك باستخدام المنهج الوصفي التحليلي الذي يعتني بتمحيص الوقائع وإخضاعها لتفسيرات سببية وإلى المقارنات واختبار صحة الفروض ويركز على إيضاح مكونات الظاهرة المدروسة من حيث جوهرها وخصائصها. وتأتي أهمية هذه الدراسة في الكشف عن المُتغيرات الاجتماعية والثقافية وكذلك الاقتصادية التي عملت على رفع نسب الطلاق في المجتمع الدرزي وقد اخترنا قضاء الشوف(1) كإطار جغرافي للبحث. وفي هذا السياق لا بدّ من البحث عن الإجابة للسؤال التالي: هل من علاقة بين المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على واقع المرأة الدرزية وازدياد نِسَب الطلاق (قضاء الشوف كنموذج)؟ وعليه فإنّ هناك إمكانية كبيرة أن يكون هناك علاقة مباشرة بين (عمل المرأة ومستواها التعليمي وعدد أولادها والدخل الشهري) وازدياد نسب الطّلاق بشكل ملحوظ في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين على اعتبار أن الطلاق هو مشكلة اجتماعية تطال تأثيراتها السلبية المجتمع عموماً والمرأة المطلقة خصوصاً وهذا ما سيأتي طرحه بالتفصيل خلال هذا البحث.

أولًا: ارتفاع نسب الطلاق، ناقوس خطر يُنذر العائلات الدرزية بالتفكّك في القرن الواحد والعشرين

بدايةً، استطعنا الحصول على بعض البيانات المتعلّقة بحالات الطّلاق(2) من محكمة الأحوال الشخصية – في بعقلين (قضاء الشوف) وأجرينا بعض المقابلات مع بعض الشخصيات للحصول على معلومات عن موضوع الطلاق في الملحق رقم (4) المرفق بالبحث: وبعد الاطلاع على النتائج تبيّن أن عقود الزواج عام 2000 كانت 541 عقداً في حين كانت أحكام الطلاق 77 حكما ليسجل معدل الطلاق نسبة 14% في العام نفسه في المقابل شهد العقد الثاني من القرن الحدي والعشرين (2010 حتى 2018) انخفاضاً ملحوظاً في عقود الزواج خلال السنوات الثلاث الأخيرة لتصل إلى 437 عقداً في عام 2018 في حين ارتفعت أحكام الطلاق في العام نفسه بشكل ملحوظ وسريع لتصل إلى 132 حكماً وهو رقمٌ مرتفعٌ واستثنائيّ لم يشهد مثله القرن الحادي والعشرين لتصل معدّلات الطلاق إلى 30 %(3) وهو أعلى مستوى لها منذ 20 سنة. ولكن إذا أمعنّا النظر ودقّقنا الفحص في هذه المعادلة التي تقيس معدّل الطلاق نسبة إلى عقود الزواج نجد أن ارتفاع نسب الطلاق بين السنوات (2015 حتى 2018) لا يعود إلى ارتفاع أحكام الطلاق فقط بل إلى انخفاض عقود الزواج أيضاً التي ساهمت العديد من العوامل في انخفاضها، منه تأخّر سن زواج المرأة فضلاً عن تدهور الوضع الاقتصادي الذي يؤثر سلباً على عدد الشباب الجديد المقبل على الزواج من جهة ويزيد من حدة الخلافات بين الأزواج بسبب تدهور الوضع المعيشي للأسرة من جهة ثانية. وذلك حسب ما أفادنا به رئيس قلم محكمة بعقلين الشيخ مجدي الحسنيّة استناداً إلى ملفات عقود الزواج والطلاق المسجلة في أرشيف المحكمة. كما أضافت ريما سليم(4) المعاونة القضائية في المحكمة أنَّ عام 2014 شكل نقطة تحوُّل جذرية في سنوات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين إذ ارتفع معدل الطلاق بوتيرة سريعة وغير مسبوقة من 19% في هذا العام ليبلغ ذروته ويسجل 30% في عام 2018 أي ازدادت معدلات الطلاق بنسبة 11% ما بين عامي 2014 و2018. إذ تشير المعطيات كذلك إلى أنه من بين 10 حالات زواج تُسَجّل رسمياً في المحكمة المذهبية الدرزية في بعقلين، تُسَجَّل 3 حالات طلاق وهي نسبة عالية تثير التساؤل وتدعونا للبحث عن أسبابها وهذا ما سنأتي على تفصيله في هذا البحث.

ثانيًا: خصائص أفراد العينة (النساء المطلقات): حسب المعيار (العمر – الفترة التي استمر بها الزواج الوضع المهني – المستوى التعليمي – عدد الأولاد).

تبين من الجدول رقم (15)(5) أنّ معظم المطلقات تقع أعمارهن بين 20 وال 25 سنة بنسبة مئوية قدرها50% استناداً إلى نتائج الإحصاءات التي توصلنا لها في الاستمارة(6) التي تم توزيعها على عينة من النساء المطلقات ثم تليها الفترة العمرية التي تقع بين 25 و 35 سنة بنسبة مئوية قدرها 40% بينما تناقصت النسبة المئوية للمطلقات التي تتراوح أعمارهن أكثر من 35 سنة بنسبة مئوية قدرها 10% ويعني ذلك أن أغلب المطلقات من فئة الشابات التي تفتقر إلى النضج العاطفي ونتيجة لضعف تدريب وتحسين وتوعية المقبلين على الزواج من جانب الأسر التي لا تهتم بواجبات وأعباء الزواج. في هذه الحالة لا يقوم الزواج على أسس واضحة تسمح باستمرار العلاقة الزوجية وغالبا ما يكون الدافع للزواج مبني على أَسس هشّة وغير سليمة وتقاطع في المصالح وينتهي بانتهاء المصلحة، أو إخلال أحد الطرفين بالشروط المتفق عليها قبل الزواج وتشير أيضا هذه النتائج إلى أن الطلاق غالبا ما يحدث بعد وقت قصير من الزواج إذ إنّ 60 % من المطلقات اللواتي شملهن استطلاع الرأي حصلن على الطلاق بعد سنتين من الزواج، بينما لم تتعدَّ الفترة التي استمر خلاها الزواج مدة الخمس سنوات نسبة 20% من النساء المطلّقات في المقابل انحصرت نسبة النساء اللواتي استمر زواجهن أكثر من خمس سنوات بنسبة مقدارها 10% فقط. وذلك يرجع بالدرجة الأولى إلى تقصير الأسرة في تدريب أبنائها على الاستقلالية وتحمل المسؤولية وتقبل الاختلاف في الطرف الآخر وإلى ضرورة التعاطي العاقل والواعي مع المشاكل والصبر والتروِّي في اتخاذ القرارات وأهمها قرار الزواج أوّلاً لأن الاختيار الصائب للشريك الذي يقوم على أسس متينة وواضحة كفيل ببناء أسرة متماسكة على عكس ما يحدث في يومنا هذا من التعارف السريع على مواقع التوصل الاجتماعي وبناء علاقات وهمية تنتهي بالزواج الفاشل. خلاصة القول إنَّ معظم حالات الطلاق تحدث بسبب ضعف تأهيل الشاب والشابّة إلى مرحلة الزواج وهذا الضعف تعود أسبابه بحسب ما ذكرت لنا المعاونة القضائية في المحكمة إلى أنَّ حالة الزواج في السنوات الأولى تكون معرّضة للفشل بنسبة كبيرة لأدنى ولأتفه الأسباب، ويعود ذلك لقلة خبرة الزوجين أو أحدهما بهذه المرحلة.

يبين الجدول رقم (16)(7) أن معظم المطلقات يقع مستواهن التعليمي بين المستوى الثانوي والجامعي بنسبة 80% فيما انحصرت نسبة 20% في من هنَّ في الصفوف المتوسطة والجدير بالذكر أنه لم يكن هناك بين النساء المطلقات غير متعلمات من المستوى الابتدائي أو ممّن يقتصر مستواها المعرفي على القراءة والكتابة.

من ناحية أخرى اتضح لنا أن 60% من النساء اللواتي شملهن استطلاع الرأي ليس لديهن أولاد(8). أما 30 % منهن كان لديهن من بين ولد وثلاثة أولاد بينما لم تتعدَّ نسبة النساء اللواتي لديهن أكثر من ثلاث أولاد الـ 10%. وهذا يدل على أنّ النساء التي ليس لديها أولاد أقدر من النساء التي لديها أطفال في طلب الطلاق.

في المقابل تبين لنا أن 70 % من النساء المطلقات موظَّفات(9) أي لديهن استقلالية ماديّة ولا يقتصر عملهن على العمل المنزلي بينما لم تتعدَّ نسبة النساء اللواتي هن ربات البيوت الـ 30%. أمّا بالنسبة للدخل الشهري فقد عبّرت 60% من النساء أن دخل أسرتهن الشهري لم يتجاوز مليون ليرة لبنانية(10) بينما اعترفت 40% منهن أن المدخول تراوح بين المليون و3 مليون ليرة لبنانية في المقابل لم يكن هناك بين النساء ممن يتجاوز دخل أسرتهن الـ 3 مليون ليرة في الاستمارة التي وُزِّعت عليهن. هذا يدل أنَّ معظم النساء واجهن مشكلة انخفاض المداخيل في الأسرة.

ثالثًا: الطلاق حسب قانون الأحوال الشخصية عند الدروز:

الطلاق أو كما يسميه قانون الأحوال الشخصية (المفارقات): «هو إنهاء عقد الزواج ووضع حد فاصل له إذ بعده تترك المرأة البيت الزوجي لتعيش حياة جديدة ومنفصلة ومستقلة عن زوجها بكل ما للكلمة من معنى(11) «هذا هو مفهوم الطلاق عند الدروز، إذ بعد المفارقة لا يعود من الجائز شرعاً أن يلتقي الرجل بمطلقته أو أن يعقد معها زواجا جديداً كما نصت المادة 38 من هذا القانون: «لا تحلُّ للرجل مطلقته أبداً بعد صدور حكم القاضي». فقد أقر قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية وأناط صلاحية الحكم به بقاضي المذهب الدرزي الذي له وحده الحكم بالتفريق وفسخ عقد الزواج وإبطاله. وقد نصّت على ذلك أحكام المادة 37 من القانون المذكور.(12)

وبالرغم من صراحة النص فلا يزال البعض يعتقدون بأن الطلاق بيد الرجل وليس للمرأة حق طلب الطلاق من زوجها. غير أن قانون الأحوال الشخصية ساوى بين الرجل والمرأة في حق طلب الطلاق من القاضي وذلك عند توافر بعض الأسباب واستحالة الحياة الزوجية بين الزوجين. وأنه استناداً إلى ما ورد أعلاه وتأكيداً على أن للمرأة الدرزية كما للرجل حق في طلب الطلاق فقد نصت المادة 47 من القانون على ما يلي(13): «إذا وقع نزاع أو شقاق بين الزوجين وراجع أحدهما القاضي يعيّن القاضي حَكَماً من أهل الزوج وحكماً من أهل الزوجة. وإن لم يكن بين أهلهما من توافرت فيه أوصاف الحكم اختار القاضي حكَماً من غير أهلهما». وقد نصت أيضا المادة 48 من القانون نفسه على ما يلي(14): «على الحَكَمين أن يتعرّفا أسباب الشقاق بين الزوجين وأن يجتهدا في إصلاح ذات البين وإن لم يتمكّن من التوفيق بينهما وكان القصور والإصرار من جهة الزوج يفرِّق القاضي بينهما ويحكم للزوجة بكامل المهر المؤجل أو ببعضه. وإذا كان من جهة الزوجة يحكم القاضي بإسقاط المهر المؤجل كُلًّاً أو بعضاً وللقاضي أن يحكم في كلا الحالتين على غير المُحِق من الزوجين بما يستحق الآخر من عطل وضرر» وقد تبين لنا أن 90% من النساء المطلقات أخذن المبادرة بالطلاق استناداً إلى النتائج الإحصائية(15) التي توصلنا إليها بعد توزيعنا استمارات على 30 امرأة مطلقة من مختلف القرى والمناطق الدرزية.

وقد أكد لنا رئيس قلم محكمة بعقلين أنه بالإجراءات القانونية ليس هناك فرق بين الرجل والمرأة عند التقدم بطلب تفريق في المحكمة وطبعاً لا ينحل عقد الزواج إلّا بحكم قاضي المذهب. ممّا يثبت أن لا وجود لما يُعرف بالعصمة. إذ لا يمكن للرجل التحكّم بمصير المرأة حتى لو رفضَ دعوى الطلاق كل ما يمكنه هو المماطلة في الإمضاء على ورقة الطلاق، وعدم حضور جلسات المحكمة ولكن ضمن فترة زمنية أقصاها سنتين تُعطى كمهلة قانونية له للمثول أمام القضاء ومحاولة حل الأمور بين الطرفين عن طريق التراضي هذا في حال أخذ الطلاق منحى النزاع. أمّا في حال كان الطلاق رضائياً فالمسار القانوني للدعوى يستغرق أربعة أشهر من حين تقدم الطرفين بدعوى الطلاق بحسب ما أفادنا به رئيس القلم في المحكمة عند سؤالنا له عن الفترة الزمنية التي تستغرقها دعوى الطلاق.

وفي هذا الإطار أفادنا رئيس قلم محكمة بعقلين أن 90 % من دعاوى الطلاق في محكمة بعقلين تنحلّ رضائياً بين الأزواج والدليل أنّ عام 2018 سجّل 124 حكما للطلاق عن طريق التراضي(16) مقابل 22 حكما للطلاق عبر النزاع. ولكن المفارقة الغريبة زيادة عدد دعاوى النزاع في السنوات الثلاث الأخيرة (2016 حتى 2018) مقارنة بالأعوام الماضية فقد كانت دعاوى النزاع 4 أحكام فقط عام 2014 في المقابل ارتفعت في عام 2018 لتسجل 22 دعوى طلاق بالنزاع.

أما بالنسبة لموضوع ارتفاع عدد دعاوى النزاع في السنوات الأخيرة على الرغم من غلبة أحكام الطلاق بالتراضي فذلك يعود بحسب ما ذكر رئيس قلم المحكمة لعدد من الأسباب أبرزها رغبة كل فريق بتحصيل مكاسب مادية إضافية كالمطالبة بعطل وضرر أو اعتبار المرأة ناشزاً(17) وكذلك سعي البعض إلى تحقيق مكسب معنوي أمام الرأي العام في مجتمعة. هذا بالإضافة إلى أن هنالك عوامل أخرى كالخلاف على حضانة الأولاد ومحاولة كل فريق إثبات عدم أهلية الفريق الآخر في الاهتمام بالأطفال وتربيتهم على أسس سليمة وصحيحة. وفي هذا الإطار أكّدت 40% من النساء التي وُزِّعت عليهن الاستمارة أنهن تنازلن عن مهرهن المؤجل للتحرر من قيد الزواج(18) في المقابل أكدت 56.6% من النساء أنهن لم يتنازلن عن شيء مقابل الحصول على الطلاق بينما اضطرت امرأة واحدة فقط غير عاملة إلى التنازل عن حضانة أطفالها وذلك راجع إلى 3 أسباب إما لعدم قدرة المرأة على تحمل مسؤولية تأمين معيشة لائقة بهم من كافة النواحي الطبية والتعليمية وغيرها خصوصاً إذا كانت نفقة الزوج لا تغطي كافة متطلبات الأولاد من رفاهية الحياة بالإضافة إلى الضغط الذي تتحمله المرأة من أهلها الذين يرفضون رجوعها إلى منزلهم مع أولادها خصوصاً إذا لم يكن للمرأة منزل خاص ملكاً لها يمكنها الإقامة فيه بالإضافة إلى عامل آخر لا يمكننا إغفاله وهو رغبة بعض النساء في الزواج مرة أخرى ما يدفعها إلى التنازل عن أولادها مع الاكتفاء بحق مشاهدتهم في أوقات معينة وذلك من أجل تمكنها من البدء بحياة جديدة مع الزوج الجديد الذي لا يتقبل أن يتزوج غالباً من امرأة لديها أطفال. ولا يمكننا إغفال حقيقة أنّ هذه العوامل التي ذكرناها تنطبق حُكماً على الأحكام المستأنفة مع وجود عامل إضافي هو محاولة كسب وقت أطول والسعي إلى المماطلة في فسخ عقد الزواج. وفي هذا السياق عبرت 20% فقط من النساء عن حدوث مشاكل مع أزواجهن أثناء الإجراءات القانونية لإتمام عملية الطلاق(19) خصوصاً في موضوع خلافهن حول حقوقهن المادية في المقابل أكدت 10% من النساء أنهن واجهن مشاكل مع أزواجهن في موضوع حضانة الأطفال بينما لم تواجه أي من النساء مشاكل قانونية متعلقة برفض الزوج للطلاق. من ناحية أخرى أكدت غالبية النساء أي 70% منهنّ أنهن لم يواجهن أي من المشاكل السابق ذكرها. وهذا راجع لكون غالبية النساء أي (80%) من النساء اللواتي شملهن استطلاع الرأي تم طلاقهن بالتراضي(20) مع الزوج أي لم يحدث مشاكل قانونية بين الزوجين تعيق المسار القانوني لدعوى الطلاق بينما لم تتجاوز نسبة النساء اللواتي حصلن على الطلاق بالنزاع نسبة الـ 20%..

ولا بد لنا أن ننوّه في هذا الصدد أنّ هناك ما يقارب 80% من دعاوى النزاع التي تعود وتنحل بالتراضي والدليل أنه من بين 22 دعوى طلاق بالنزاع تم تسجيل 20 حالة مصالحة بين الأزواج عام 2018 استناداً إلى إحصاءات دعاوى الطلاق بين عامي 2014 و 2018 في محكمة بعقلين(21). وذلك راجع بحسب ما ذكرت لنا المعاونة القضائية في المحكمة إلى السعي الدائم لفضيلة قاضي المذهب الشيخ فؤاد البعيني في تقريب وجهات النظر بين الأزواج المتخاصمين بالإضافة إلى الدور الفعال للمرشدة الاجتماعية في المحكمة وأحيانا دور بعض المحامين في حال توصلهم لتسوية ترضي الطرفين بموضوع الحقوق الزوجية.

وعند سؤالنا فضيلة القاضي الشيخ فؤاد يونس عن أبرز المواضيع التي تبين إنصاف قانون الأحوال الشخصية عند الطائفة الدرزية للمرأة الدرزية في موضوع المفارقات. فإنّه أكد لنا أن هذا القانون هو الأكثر إنصافا بحق المرأة اللبنانية مقارنة بغيره من قوانين الأحوال الشخصية عند الطوائف الأخرى أولاً: من جهة إعطاء الحق للمرأة بتقديم طلب الطلاق(التفريق). وثانياً بحصر موضوع عقد الزواج بيد قاضي المذهب ممّا يعني أن الرجل لا يستطيع أن يطلّق زوجته ساعة يشاء ومتى يريد وأن يتحكّم بمصير عقد الزواج. ومن ناحية ثانية هو يعطي المرأة الحق في حضانة أولادها لحين بلوغ الصبي 12 سنة والفتاة 14 سنة مع إلزام الزوج بدفع نفقتهم ومصاريفهم كافة. وفي حال تزوجت المطلقة بغير محرم تنتقل الحضانة بداية إلى والدتها أي لجهة الأم ومن بعدها الجدة لجهة الأب ثم المحارم الأقرب بالأقرب وفي كل الأحوال لا يسقط حق المشاهدة. وحتى أنّ المحاكم المذهبية لم تحرم المرأة الزانية من حق مشاهدة أولادها ولو لبضع ساعات وهذا يُعتبر خطوة متقدمة جداً في مجال حقوق المرأة. ومن ناحية أخرى يعطي القانون المرأة أيضاً الحق في حضانة أولادها والوصاية عليهم مع جدهم أو عمهم أو منفردة في حال تنازلهم لها عند وفاة الوالد – الولي بطبيعة الحال على أولاده.

رابعًا: أسباب الطلاق عند الدروز في القرن الحادي والعشرين

الطلاق مشكلة اجتماعية تنبع من المجتمع وتنجم عن فشل الزوجين في الانسجام والتفاهم، وإمكانية التعايش تحت سقف واحد يضمها ضمن مسمّى الأسرة. ويترتب عليها أمور عدّة أهمها تحطيم الزواج والأسرة والروابط الأساسية للمجتمع وهو ثمن للزواج غير المرغوب فيه ويعدّ النقيض التعيس للزواج(22).والطلاق يتم عادة بعد فترة لا بأس بها من الزمن، أيَ بعد محاولة التعايش بطرق وأساليب متعددة، عسى أنْ يتم التوصل لحل هذه الخلافات وتجاوزها، وإلّا فالانفصال هو الحل. أمَّا اليوم في المجتمع الدرزي فقد بتنا نرى ونسمع عن حالات مستعجلة ومبكرة من الطلاق بعد زواج لم يتجاوز الأشهر أو حتى أياماً معدودة، وهذه ظاهرة جديدة ومخيفة طرأت على زيجات الدروز عموماً لأنَّها تعّبر عن خللٍ ما في نظرة الشباب من الجنسين لبعضهما، ولطبيعة العلاقة الواهية التي يقوم على أساسها هذا الارتباط المُسمى الزواج.

الطلاق لا يحدث نتيجة عامل واحد وإنّما هناك عدة عوامل متداخلة تؤدي إلـى حـدوث الطلاق فمنها النفسية والاجتماعية والاقتصادية ومنها فتور الحياة العاطفية ممّا يؤدي إلى صراع في الأسرة، عدم توفر الموارد الاقتصادية الكافية للأسرة، وعدم وجود تعاون بين الزوجين فـي النواحي الحياتية وغيرها من الأسباب سنأتي على تفصيلها في هذا البحث إلخ….

كان الشبان والشابات في المجتمع الدرزي قديماً يتريثون قبل الإقدام على الطلاق تجنباً للمشاكل السلبية التي تنبثق عنه، أمّا حديثاً، فإننا نجد تحوّل قِيَمي واجتماعي كبير من حيث تبدل للعادات والتقاليد تجاه هذه المسألة، ونجد سهولة وقوع الطلاق لأسباب مباشرة وغير مباشرة والدليل أن 80 % من النساء اللواتي وُزعت الاستمارة عليهن اعتبرن الطلاق الحل الأمثل لحل المشكلات الزوجية(23). هذا يدل أن المرأة في أيامنا هذه لا تتردّد كثيراً في اتخاذ قرار الانفصال عن زوجها خصوصاً إذا كانت تعاني من جو أسري غير مريح لها وأن معظم النساء متعلّمات ويعلمن جيداً مصلحتهن، خصوصاً بعد تطوير التشريع القانوني المتعلق بإباحة حق طلب الطلاق للزوجة طالما أنها لا تستطيع الاستمرار في حياتها الزوجية وغيرها من القوانين المعدّلة في قانون الأحوال الشخصية والتي تعطي المرأة الكثير من الحقوق والتي سبق وتطرقنا لها في مستهل بحثنا.

اسباب الطلاق في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين (2010 حتّى 2018)

وقد تبين من خلال النتائج الإحصائية التي توصّلنا إليها في الجدول الإحصائي رقم (1)(24) اختلاف اختيار العينات لأسباب الطلاق ومنهم من اختار أكثر من سبب وكانت أكثر الأسباب اختياراً مُحتَسَبة بالنسب المئوية على التوالي (استقلال المرأة المادي 40% – الاستعمال الخاطئ لوسائل التواصل الاجتماعي 20% – الدخل المنخفض للزوج 13.3%). بينما اعتبرت 6.6% من النساء أنّ تدخّل الأهل في الحياة الزوجية كان سبباً رئيسياً في طلاقهن في حين تساوت النسب المئوية بين كل من العوامل التالية: (اختلاف المستوى التعليمي والثقافي بين الزوجين – الاختيار الخاطئ للشريك – سن الزواج المبكر للمرأة – الخيانة الزوجية – تعرض الزوجة للعنف الجسدي واللفظي) بنسبة قدرها 3.3%.
عمل المرأة واستقلالها اقتصادياً السبب الرئيسي في حدوث الطلاق في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين
في أيامنا هذه لم يعد العمل مجرد مسألة حاجة مادية بل أصبح من أولويات حياة المرأة، خاصة بعد التخرج من الجامعة. وخلال زيارتنا للمحكمة وأثناء لقائنا المعاونة القضائية هناك أشارت أنه بالاستناد إلى ملفات أحكام الطلاق فإن نسبة 50 % من حالات الطلاق المدونة في أرشيف المحكمة يشكل عمل المرأة سبباً أساسياً ومباشراً في حدوثها. وذلك حين تعطي بعض الزوجات لعملهن الاهتمام الأكبر على حساب علاقتهن بأزواجهن وأبنائهن، وهذا أمرٌ يستدعي في أحيان كثيرة أنْ يلجأ الزوج لطلب الطلاق.وبغض النظر عن المستوى التعليمي أو الثقافي أو الاجتماعي للمرأة، إلّا أنَّ الاستقلال الاقتصادي يُعد العامل الحاسم في قرار الانفصال عن الزوج وتعدّ استقلالية المرأة المادية واحدة من أسباب الطلاق في مجتمعنا الدرزي بحسب الاستمارة التي تم توزيعها على عدد من النساء المطلقات في مختلف المناطق الدرزية لمعرفة الأسباب الرئيسة لطلاقهن فقد تبين لنا من خلال النتائج الإحصائية التي توصّلنا لها أن 70% من النساء هنّ موظفات بينما نسبة ربات البيوت قُدرت بنحو 30% فقط(25). بناء عليه يمكننا القول إن المرأة العاملة التي تعتمد على نفسها أقدر من غيرها على طلب الطلاق فهي لا تضطر إلى الصبر على زوج يؤذيها ويهينها. لذا فقد ازدادت ظاهرة الطلاق بعد خروج المرأة الدرزية إلى العمل خارج المنزل وأجابت 20 امرأة مطلقة في استطلاع الرأي الذي أجريناه معهن أن عملهن خارجاً واستقلالهن الاقتصادي كان عاملاً أساسيّاً في طلاقهن أي ما يعادل نسبة 40% من النساء اللواتي شملهن الاستطلاع وأضفن أن هذا يعود إلى عدم تقبل الرجل الشرقي خروج المرأة للعمل بسبب العادات والتقاليد هذا الأمر قد يصل إلى تعقد الحياة وعدم استمرارها وبالتالي حصول الطلاق. بناء عليه يمكننا أن نستدرك أن نسب الطلاق ترتفع بين المتعلمات مقارنة بغير المتعلمات والدليل أن 70% ممن شملهن استطلاع الرأي هن من حمَلة الشهادة الثانوية والجامعية بالتالي يكون لديهن القدرة على إدراك مصلحتهن بشكل أفضل.

وفي هذا الإطار عبّرت لنا المعاونة القضائية عن رأيها بالقول: «كانت المرأة المتزوجة قديماً تتحمل المنغصات، لكن كثيراً من النساء المستقلّات اقتصادياً يقرّرْن الآن الانفصال حين لا يكنَّ سعيدات، ولم يعد الطلاق من المحظورات، كما أن الزواج لم يعد أولوية لخريجات الجامعات، لأنهن قادرات على إيجاد فرص عمل، وإن تزوجن فإنَّ الطلاق سيكون أيسر إذا واجهن مشاكل في زيجاتهن كما يمكنهن الاعتماد على أنفسهن مالياً بسهولة. لذا فقد سجلت السنوات الأخيرة من القرن الحادي والعشرين (2015 حتى 2018) معدلات مرتفعة من حالات الطلاق سنوياً، بسبب وعي المرأة بحقوقها وقضاياها، وهذا شجّع المتضررات من زواج فاشل للإقدام على خطوة الطلاق».

يمكننا أن نستخلص أنّ عمل المرأة وزيادة نسبة تحصيلها العلمي سيف ذو حدين ففي حال اجتهدت المرأة على خلق توازن بين عملها ومنزلها سوف تحقق نجاحات في الجهتين وهذا سينعكس إيجاباً على عائلتها ومستقبل أولادها لأن الأولاد سيكون لديهم حافز أكبر على كسب العلم والتطلّع لتحقيق ذاتهم ومستقبلهم العلمي والمهني والاجتماعي. ولكن لضمان نجاح المرأة بهذه الطريقة لا بدّ من تفهّم ومساعدة الرجل فالمسؤولية تقع على عاتق الزوجين عندما يكون التفاهم سيد الموقف بين الزوجين يتحقق التناغم والتكافل بينهما وينتج عن كل هذا نجاح المرأة في الفصل بين حياتها المهنية وحياتها العائلية وتحقيق النجاح المطلوب. والعكس صحيح إذا حاربها الزوج لسببين العقلية الذكورية، والغَيرة فإنها بالتأكيد سوف تفشل في خلق التوازن المطلوب. بالإضافة إلى أنه في بعض الحالات يكون الرجل اتّكالياً ويتهرب من تحمل المسؤولية ويرى عمل المرأة خارجا متنفساً له ليلقي على عاتقها كافة متطلبات المنزل واحتياجات الأبناء ما يفوق قدرة المرأة على التحمل ويخلق مشاكل كثيرة مع شريكها وتكون نهايتها الحتمية الانفصال، وعليه يمكننا القول أن معيار تعليم المرأة وعملها خارج المنزل يؤثر على الحياة الزوجية سلباً أو إيجاباً حسب ذهنية الزوج وطريقة مقاربته للأمور وللحياة الزوجية ونظرته تجاه المرأة بشكل عام فإما أن يعتبرها شريكاً له في كافة الأمور وصاحبة شخصية مستقلة وقرار أو اعتبارها كائناً غير مستقل وتابع له وغير مؤهلة لأخذ القرار أو المساهمة فيه وحصر دورها في العمل المنزلي، وتلبية رغبات الزوج ومتطلباته والتفرغ دائما لخدمته. من ناحية أخرى لا يمكننا تجاهل أسلوب المرأة المنتجة في التعامل مع زوجها. هل تستمر بمعاملته كشريك أم تحاول في بعض الأحيان فرض سيطرتها عليه ومصادرة دوره؟! الوعي الاجتماعي لدى الفريقين وحده الكفيل بحسم الأمور.

خامساً: الآثار الاجتماعية والنفسية للطلاق على المرأة المطلقة

-أ- الآثار الاجتماعية:
-1- الضغوطات الاجتماعية المرتبطة بالعادات والتقاليد في المجتمع
يُنظر إلى المرأة المطلقة من الناحية الاجتماعية نظرة فيها ريبٌ وشك في سلوكها وتصرفاتها مما تشعر معه بالذنب والفشل العاطفي وخيبة الأمل والإحباط، مما يزيدها تعقيداً ويؤخر تكيفها مع واقعها الحالي بحسب رأي الأخصائية الاجتماعية «رِوَى أبو الحسن»(26) التي تحدّثت عند سؤالنا إياها عن نظرة المجتمع نحو المرأة المطلقة. وأضافت: «المرأة المطلقة تعود لبيت أهلها وهي تحمل معها جراحها وآلامها ودموعها كونها الجنس الأضـعف فـي مجتمعنـا التقليدي، فهي وبحكم التنشئة الاجتماعية واقتناعها بأن الزواج لا بد منه مرتبطا بمعنى «السترة» فإنه بهذا الطلاق تفقد هذا الغطاء الواقي لها لتصـبح عرضـة لأطمـاع الناس واتهامهم لها بالانحراف الأخلاقي» والدليل أن 60% من النساء اللواتي وُزِّعت عليهن الاستمارة أجبن أنَّ الإشاعات وكثرة الأسئلة عن أسباب طلاقهن واتهامهن بالضياع الأخلاقي كانت من أكثر المشكلات الاجتماعية التي تعرضن لها بعد الطلاق(27). فالمرأة المطلقة قد تعاني العديد من الصعوبات والمشكلات الاجتماعية المرتبطة بنظرة أسرتها إليها بعد الطلاق ثم نظرة المجتمع ككل على اعتبار أنهـا هـي المسؤول الأول والرئيسي في أغلب الأحيان عن وقوع مشكلة الطلاق. فالمطلقة تعاني من الشعور بالتشاؤم والانهزامية نتيجة فقدانها للمركز الاجتماعي التي حصلت عليه من خلال الزواج، وتحوُّل دورها إلى دور هامشي وجـانبي، بمهاجمة العادات والتقاليد المجتمعية لها، والنبذ والإهانة اللتين تتعرض لهما من عائلتها أي إنّ الزواج في مجتمعنا عبارة عن حماية أو غطاء يمنع تعرّض المرأة على وجه الخصوص للكثيـر مـن الأزمـات والصراعات. والدليل الواضح على كل ما ورد ذكره أن 70% من النساء المطلقات اللواتي وُزِّعت عليهن الاستمارات أشرن أنَّ أكثر المخاوف التي كانت تمنعهن من اتخاذ قرار الطلاق هو خوفهن من عدم تقبل المجتمع الشرقي فكرة طلاقهن(28). في حين أجابت 20% من النساء أنهن ترددن في اتّخاذ قرار الطلاق خوفاً على الأولاد من الضياع والتفكك الأسري بينما لم يشكل الخوف من عدم وجود مورد مادي أو وجود معيل في حياة المرأة سوى على نسبة 10% من النساء المطلقات وهي نسبة ضئيلة جداً وذلك لأن معظم النساء اللواتي شملهن استطلاع الرأي متعلِّمات ولديهن وظيفة.

-2- قلة الفرص المتوفرة لدى المرأة في الزواج مرّة ثانية:
مرّة أخرى لاعتبارات اجتماعية متوارثة من جيل إلى آخر، حيث تكون فرصتها الوحيدة في الزواج من رجل أرمل أو مطلّق أو مسنّ، وبناءً عليه، فإن مستقبلها غير واضح. هذا ما أكدته لنا 33.3% من النساء المطلقات بعد سؤالهن في الاستمارة التي وُزعت عليهن عن أكثر المشاكل الاجتماعية التي اضطررن إلى مواجهتها بعد الطلاق ولقد احتلت هذه المشكلة من وجهة نظرهن المرتبة الثانية من حيث أهميتها بعد مشكلة الإشاعات وكثرة الأسئلة عن طلاقهن فيما لم تواجه النساء المطلقات مشكلة إيجاد فرص عمل لأنه كما ذكرنا سابقاً فإن معظمهن موظفات وقد اعترفت 83.3% منهن أنهن أمَّنَّ الاكتفاء المادي لهن ولأولادهن من خلال العمل خارج المنزل بينما لم تتعدَّ نسبة النساء اللواتي حصلن على الدعم المادي من الأهل الـ 10% في حين اقتصرت نسبة النساء اللواتي حصلن على النفقة المنتظمة من أزواجهن الـ 6.6% وهذا يدل أن عمل المرأة خارج المنزل يؤمِّن لها العيش بكرامة لها ولأولادها ويجنبها الحاجة والعوز وتحميل عبء معيشتها لأهلها خصوصا إذا كان لديها أولاد.

-ب- الآثار النفسية:
-1-الشعور بالإحباط والاكتئاب والوحدة والانطواء على الذات:
يُعدُّ الطلاق تجربة قاسية جداً على المرأة إذ يحدث تغيراً جوهرياً في حياتها نتيجة رفع الطلاق لغطاء التقدير والاحترام والمكانة الاجتماعية، هذا الأمر الذي قـد يجعلهـا عرضة للشفقة أو التشفي من طرف الآخرين إضافة إلى أنه لحظة شعورها بالفشل فإن تقديرها لذاتها ينخفض وتهتـز ثقتها بنفسها وتصبح أكثر عرضة للاكتئاب بحسب ما أكدته المعالجة النفسية الدكتورة «رودينا المهتار» أثناء المقابلة التي جريناها معها وسؤالنا عن أكثر المشاكل النفسية التي تواجهها المرأة بعد الطلاق.

واضافت قائلة: «إن المطلقة تعاني بشكل كبير من الناحية النفسية من الطلاق انطلاقاً من النظرة السلبية للمجتمـع إليها، ممّا ينتج عنه شرخ كبير في نفسيتها وما يصاحبه من مشاعر الحزن، والإحباط، والخـوف، كمـا تسـيطر علـى تفكيرها الأفكار السوداوية والأوهام، مما يُشعرها بعدم الاطمئنان والاستقرار العاطفي والاضطراب النفسـي، والفشـل وعدم القدرة على تحمُّل المسؤولية». وفي هذا الإطار عبّرت 40% من النساء المطلقات في الاستمارة التي وزعت عليهن عن شعورهن بالتعاسة والاكتئاب(29) واللافت أنّ هذه النتيجة تساوت مع نسبة النساء اللواتي شعرن بالوحدة والنبذ الاجتماعي بينما لم تتجاوز نسبة النساء اللواتي شعرن بالرضى والراحة النفسية بعد طلاقهن سوى 20%. وهذا يدل على الانعكاسات السلبية للطلاق في أغلب الأحيان على الصحة النفسية للمرأة المطلقة في مجتمعنا. واستناداً إلى ما تقدم ذكره يمكننا القول إن تجربة الطلاق هي أمر يشكل حاجزاً بين المرأة المطلقة وإحساسها وشعورها بأهميتها وقيمتها ورضـاها عن نفسها وعن كل ما تنجزه، وأن ذلك إنما يبدأ انطلاقا -كما أشير سابقا- من خوفها مما سوف يقوله الآخرون عنهـا بعد فشل تجربتها الزواجية، وأنه حتى بالرغم من التزايد الكبير في نسب الطلاق في المجتمع الدرزي، لا تزال المـرأة محـلّ الشك والريبة والنظرة السلبية من طرف أفراد المجتمع، وحتى من أسرتها أحياناً لأنها ومن وجهة نظرهم هي من عليها المحافظة على أسرتها واستمرارها وبقاء زواجها بدليل أنّ 50% من النساء اللواتي شملهن استطلاع الرأي عبَّرن عن رفض أهلهنَّ موضوع الطلاق(30) وإلقاء الملامة عليهن بينما لم تتخطَّ نسبة النساء اللواتي تعاطف أهلهن معهن عندما قررن الانفصال عن أزواجهن الـ 33.3%. في حين لم يستحوذ خيار توسط الأهل بين النساء وأزواجهن لتقريب وجهات النظر بينهم سوى على نسبة 5% وهي نسبة ضئيلة جداً تدل على غياب دور الأهل الحكيم والأساسي في حياة أبنائهم في أيامنا هذه وتقلُّص دورهم الاجتماعي الذي كان سائداً قديما في لعب دور الوساطة وحل النزاع بين الأزواج المتخاصمين.

-2- تشويه صورة الذات والجسد وانعدام الثقة بالنفس:
لقد شددت الدكتورة «رودينا» على النظرة المشوهة التي تكوّنها المرأة عن نفسها وعن صورة جسدها بعد الطلاق معبرة عن ذلك بقولها: «قلّما نجد مطلقة تنظر لنفسها نظرة قوية وتمدح نفسها فلا تعطي لنفسها فرصة للاهتمام بأنوثتها مرّة أخرى للدرجة التي قد تدفع بعض المطلقات إلى النظر لأنفسهن في المرآة وهن يشعرن بالقبح على الرغم من جمالهن». وفي هذا السياق أكدت أن المرأة المطلقة تنظر إلى نفسها نظرة قاسية جداً وكأنها امرأة ينقصها شيء أصبحت تحمل هذا اللقب مما يقلل من درجة ثقتها بنفسها.

-3- تشويه الصورة التي تأخذها المرأة المطلقة عن الرجل بشكل عام:
هذا مـا أكدتـه لنا أيضا الأخصائية في علم النفس والعلاقات الأسرية الدكتورة «رودينا» أثناء سؤالنا لها عن المعاناة النفسية التي تعيشها المرأة المطلقة فأشارت إلى أن المرأة المطلقة تُستبعد من عائلتها ومجتمعها لأنها وحسب معتقـداتهم قامـت بأمر مخالف وبالتالي فهي غير مسموح لها بالبقاء معهم وبالتالي عزلها. مما يخلق لهـا مشـاعر الكراهيـة والحرمـان والإحساس بالوحدة والاكتئاب والانطواء والعزلة وكراهية الجنس الآخر «الرجل» لأنه هو من جعلها في هذه الحالة، فتعمم تجربتها على أن كل الرجال لا يقدرون المرأة، وتحرم نفسها من أن تعيش حياتها مثل باقي النساء خوفاً من الوقوع مرّة أخرى في تجربة فاشلة. هذه المشاعر والأحاسيس التي تتولد لدى المرأة عقب الطلاق والتي تسهم بدرجة ما في إعادة تقييمهـا لحياتهـا وإدراكها بشكل عام للموقف الراهن الذي وجدت نفسها فيه، أكدته كذلك الدكتورة رودينا موضحة أن المـرأة المطلقة تعاني من عدة تأثيرات بعد الطلاق أبرزها القلق، والاكتئاب، والضغط النفسي، وعدم التوازن العـاطفي والمـزاج السَّيِّئ.

من هنا يتضح أنّ لبِّ المعاناة النفسـية التـي تتخـذ شـتى المظاهر، هي انعدام وقلة الاعتبار من الآخرين وأن هذا من أهم عوامل التمتع بالصحة النفسية. بالتالي فإنَّ ضمان تمتع المرأة في المجتمع الدرزي بالصحة النفسية بأوسع معانيها إنما يكون برد الاعتبار لها عبر تغير جـذري فـي نظرة المجتمع لها ونظرة الرجل وحتى نظرتها لنفسها. لأن تقييم المرأة لذاتها إنما ينطلق من نظرة وتقييم الآخرين لها، وربما هذا ما يزيد الأمـر تعقيـدا وتأزّمـاً بالنسبة للمرأة في حال الطلاق ممّا قد يغير الكثير في تصوراتها وإدراكها لحياتها، ومدى تحقيقها من عدمه لسـعادتها ورفاهيتها، والتي كانت ترتبط بالنسبة لها بوجود شخص تتقاسم معه تفاصيل الحياة بكل ما فيها والدليل أن 66.6% من النساء التي وزعت عليهن الاستمارة اعترفن أن الشعور بالانتماء العائلي هو بالتحديد ما تفتقده المرأة بعد الطلاق(31) بينما عبرت 33.3% فقط من النساء عن افتقادهن للأمان العاطفي والملفت أنه لم تفتقد أي من النساء الشعور بالاستقلالية بعد الطلاق وذلك راجع لكون معظمهن موظفات أي فاعلات اجتماعياً ولهن حياتهن الخاصة. وبالتـالي فـإن مشـكلة الطلاق تخلق للمرأة المطلقة أزمة حقيقية لأنها تحرمها من حاجات نفسية أساسية. وعليه فإننا نستنتج أن الطلاق تجربة قاسية جداً على المرأة بدليل أن أكثرية النساء المطلقات (66.6%) من النساء اللواتي شملهن استطلاع الرأي اعتبرن الطلاق تجربة فاشلة فيما صرحت 33.3% منهن فقط أن الطلاق درس لحياة أفضل(32). فالطلاق إذاً مشكلة اجتماعية تتحكم بها ثلاثة عوامل: قوة الشخصية، وإرادة المرأة، ومساندة المجتمع المحيط لها. وفي هذا الإطار أضافت النساء المطلقات أنهن لم يستطعن تخطي مشاكلهن النفسية بمفردهن(33) بدليل أنهن احتجن إلى مساعدة أطراف مختلفة في المجتمع وقد تباينت الآراء بين أفراد العينة ولكن معظمهن طلبن مساعدة أصدقائهن بنسبة 50% بينما اعترفت 33.3% منهن أنهن لجأن إلى أخصائي نفسي ولا بد أن ننوه هنا بجرأة النساء اللواتي اعترفن بهذا الأمر خصوصا في مجتمع تكثر فيه الأقاويل والأفكار المغلوطة حول مفهوم العلاج النفسي. في حين لم تتجاوز نسبة النساء اللواتي ساعدهن أقربائهن في تخطي مشاكلهن النفسية نسبة 16.6% وهذا أكبر دليل أن أكثرية النساء المطلقات لا تتلقّى الدعم الكافي من أقربائها وأهلها لذا فهي تلجأ إلى الأخصائي النفسي وأصدقائها لتتمكن من الخروج أزمتها النفسية.

سادسًا: التدخل الاجتماعي خطوة متقدمة لتقليص ظاهرة الطلاق:

بحسب ما أفادتنا به الأخصائية الاجتماعية في محكمة عالية «روى أبو الحسن» في المقابلة التي أجريناها معها وسؤالنا إياها عن الدور الذي يلعبه الأخصائي الاجتماعي في المحكمة، فعبّرت بقولها: «إنه المُحكَّم في أمور الطلاق أو إصلاح ذات البين.»(34) وأضافت: إنه يقوم بتقديم المساعدة لكلا الزوجين أثناء وقوع الاختلاف الأسري وذلك من خلال تقصي أسباب المشكلة وجوانبها ودفعهما إلى معالجة المشاكل بينهما، عبر رؤية العلاقات والتفاعلات الأسرية الذي يعيشها الطرفان ضمن أسرتهما، وتقصّي جذور المشكلة وتبعيتها وخلفيتها الأساسية ثم تدوين إجابتهم ورفعها إلى فضيلة القاضي في تقرير مفصل عن الحالة وبناءً على نتائج التقرير يأخذ القاضي القرار المناسب الذي يخدم مصلحة الطرفين وفي هذا الإطار أضافت رِوى بسبب دور الأخصائي الاجتماعي الفعال في هذا الميدان فقد طالبت نقابة الأخصائيين الاجتماعيين الحكومة اللبنانية في مستهل عام 2019 بوضع قانون ينص على إلزامية وجود أخصائي اجتماعي في المحاكم المذهبية ولا بد أن ننوّه بأن الطائفة الدرزية هي الطائفة الوحيدة من بين كل الطوائف في لبنان التي لبت النداء وطبقت هذا القانون وهذا يدل على وعي وتحضر وقوننة الأمور المتعلقة بقانون الأحوال الشخصية في موضوع المفارقات.

سابعًا: التوصيات

1- إدخال مُقرَّر دراسي في المدارس الثانوية يشمل موضوع أصول الحياة الأسرية للطلبة والطالبات يتضمن توضيح أسس الحياة الزوجية وتكوين الأسرة منذ اختيار شريك الحياة والخطوبة وانتهاءً بالواجبات والحقوق الزوجية حتى تكون لهما فكرة واضحة عن الزواج تساعدهم على بناء أُسر سليمة.

2- العمل على عقد الندوات والمؤتمرات من خلال المؤسسات الإعلامية والدينية واللجنة الاجتماعية للمجلس المذهبي وذلك من خلال تخصيص دورة للمُقبلين على الزواج تُعنى بالثقافة الزوجية، والحقوق والواجبات، والتأهيل الأسري وتعاليم الشرع في الأحوال الشخصية، وسُبُل الحياة الزوجية والمجتمعية، وآليات الاتصال والتواصل بين الزوجين، وكيفية مواجهة التحديات والصعوبات والمشاكل الأسرية، وكيفية مواجهتها بالصبر والحكمة والتروِّي.

3- ضرورة إقامة وحدات للإرشاد الأسري في مراكز الأحياء التي تُعنى بالشؤون الأسرية، يعمل بها اختصاصيون أكفّاء، ويكون من أهم واجباتها دراسة المشكلات الزوجية، وحالات الرغبة في الطلاق قبل وقوعها وقبل وصولها إلى المحاكم.

4- العمل على دمج المطلقات في المجتمع بتشجيعهنَّ على إكمال دراستهنَّ وممارسة حياتهنَّ بشكل طبيعي وتوفير العمل للراغبات فيه، والانخراط في المجتمع من جديد ما يساعدهن في تخطي أزمتهن النفسية.

ثامنًا: الاستنتاجات

كشفت الدراسة مُعطيات عدَّة إذ يلاحظ من خلال النتائج التي توصلنا إليها ما يلي:
– هناك ضغط نفسي أكبر بالنسبة للمرأة التي لها أولاد مقارنة بالمرأة التي طُلِّقت من دون أولاد، وهذا بسبب المسؤولية التي في غالب الأحيان تتحملها لوحدها فالمرأة التي ليس لديها أطفال لا تتردد في طلب الطلاق مقارنة بالمرأة التي لديها أطفال.
– إن معظم حالات الطلاق سُجِّلت في الخمس سنوات الأولى للزواج، بحيث يظهر عدم التوافق، ويكون الانفصال، وفي الحالات التي عرضناها، هناك 20 حالة كان الطلاق في الخمس سنوات الأولى من الزواج.
– هناك علاقة عكسية بين مستوى الدخل الأسري وازدياد نسب الطلاق فكلما انخفض الدخل ازدادت نسب الطلاق والعكس صحيح – يُلاحظ أن أعلى نسبة للنساء المطلقات مقارنة مع الدخل الشهري كانت للنساء ذوات الدخل المحدود أقل من (مليون ليرة لبنانية).
– ارتفاع نسب الطلاق في الفئات العمرية الفتية (21-25) سنة.
– إن أهم المشكلات التي تواجه المرأة الدرزية بعد الطلاق افتقادها لاحتضان وتقبل المجتمع لها، وبخاصة على صعيد إعادة اندماجها فيه مرة أخرى، فهو يرفض زواج الشباب الذين لم يسبق لهم الزواج منها، وذلك يعمق شعورها بالوحدة.
– هناك علاقة إيجابية بين المستوى التعليمي وحالات الطلاق إذ يلاحَظ من خلال التركيب التعليمي أن أغلب المطلقات من حملة الشهادة الثانوية والجامعية.
– إن استقلالية المرأة اقتصاديا وعملها خارج المنزل هو من أهم أسباب حدوث ظاهرة الطلاق في المجتمع الدرزي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. فالاستقلال الاقتصادي الذي تعيشه المرأة منحها الحصانة، حيث ما عاد يربكها الانفصال والطلاق، إذ باتت على قناعة بأنها يمكنها أن تتدبر أمورها واحتياجاتها بدون زوج وأب للأولاد. ولكن في المقابل فإنّ عملها أمّن لها الاكتفاء المادي وأبعد عنها الحاجة ومنحها الشعور بالاستقلالية.
– إن الطلاق هو مشكلة اجتماعية وليس حلَّاً صائباً للمشاكل الزوجية لما له من آثار سلبية على المرأة لأن المجتمع يحملها مسئولية أكثر من الرجل في الطلاق، كما أنّ الطلاق يحدُّ مـن تفاعلهـا الاجتمـاعي ويجعلها تميل إلى العزلة والوحدة، والخوف من تكرار تجربة الزواج مرة أُخرى. كما أنها تعـاني مـن مكانة اجتماعية أقل من غيرها ما يؤدي إلى إصابتها بالاكتئاب والحـزن والقلـق وضعف الثقة بنفسها وبالآخرين.
-إن مختلف الأسباب المؤدية إلى الطلاق متداخلة وتكمّل بعضها البعض وإنَّ حصر الأسباب بموضوع واحد وتعميم النتائج على كل حالات الطلاق في المجتمع الدرزي غير دقيق لأن دراسة ظاهرة الطلاق التي تنتمي إلى العلوم الاجتماعية تخضع معاييرها إلى ما يسمى بالعلوم الإنسانية التي لا يمكن تقييم نتائجها إلّا من خلال النسبية، وعليه فكل حالة طلاق تختلف عن حالات أُخرى في المجتمع باختلاف أسبابها.
– أن الطلاق في حد ذاته عامل كاف لإحداث القلق والاكتئاب والشعور بالوحدة والتعاسة عند المرأة بغض النظر عن أي متغيرات أخرى.
وفي الأخير يمكن القول إن فرضيات الدراسة قد تحققت، إذ تخضع ظاهرة فك الرابطة الزوجية إلى عوامل متداخلة في جوانب نفسية اجتماعية واقتصادية وثقافية، إضافة إلى التأثير السلبي للظاهرة على مستوى الصحة لنفسية لدى المرأة المطلقة.

تاسعًا: الطلاق مشكلة وليس حلّاً لمشكلة

«إنّ الشراكة الزوجية ما عادت مبنية على المرجعية والشريعة الدينية أو العادات والتقاليد التي كان من خلالها يتم احتواء المشاكل وحلّها، بل إن المرجعية الآن أضحت المنطلقات الشخصية للزوج أو الزوجة مع جهل بالحقوق والواجبات لكل طرف منهما يتمسك بمواقفه ولا يعرف أن يقدم تنازلات هذا ما قاله القاضي «فؤاد يونس» عندما سألناه عن رأيه في الأسباب المؤدية إلى ارتفاع نسب الطلاق في السنوات الأخيرة من القرن الحادي والعشربن. وختم بالقول إن قضايا الأحوال الشخصية عند الدروز تواجه الكثير من التحديات في ظل غياب التربية للقيم العائلية والمجتمعية، فإلى جانب التعاليم الدينية والشرعية التي يجب تنميتها لدى أفراد المجتمع بكل ما يتعلق بالنكاح ومكافحة الطلاق، لا بدّ أيضا من مواكبة المتغيرات والبيئة المحيطة بدمج علوم الاجتماع والسلوك لتأهيل الأزواج وتمكينهم من مواجهة الصعوبات الحياتية وتغييب خيار الطلاق عن الحياة الزوجية لأن الإسلام منع الطلاق وحرمه وفي الأحاديث النبوية الشريفة خير بينة على ذلك ومن بينها: «وما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق» – «تزوجوا ولا تطلِّقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن».(35)

وأكدت على هذا الأمر المعاونة القضائية في محكمة بعقلين بأن المجتمع الدرزي يعاني في يومنا هذا من اضطرابات وخللٍ في مكوناته البنيوية وفي العلاقات والتواصل داخله، ويعاني من غياب تقاسم الأدوار بين الأب والأم وحتى الأولاد، وعدم استعداد أي طرف للتحمل والمعاناة والصبر وتقديم التنازلات من أجل الحفاظ على استمرارية العائلة، إذ يُلاحَظ اتساع ظاهرة الطلاق حتى لدى العائلات التي تضم أولاداً.

وأضافت: «لقد بات السائد في العلاقات الأسرية تفضيل الفردانية والمصلحة الشخصية على المصلحة الأسرية العامة، كما يلاحَظ تعزيز الأنانية لدى الفرد، سواء الزوج أو الزوجة، وتفضيل تحقيق الذاتية والمصلحة الخاصة حتى لو كان ذلك على حساب مصلحة الأسرة عامة والأولاد، ويُلاحظ عدم التفاني أو الاستعداد للتضحية في سبيل الاستقرار وتجاوز الخلافات من أجل الحفاظ على إطار العائلة».

بناء عليه يمكننا اعتبار الطلاق من أخطر المشاكل التي تهدد كيان الأسرة وما يثيره من مشاكل واضطرابات عاطفية لدى أفراد الأسرة جميعا ً، ولعل تعديل الخلفية الثقافية الاجتماعية للبيئة تجاه النظرة للمطلقة هو الدور الأهم والبالغ الصعوبة؛ إلا أننا نختم هنا، بحتمية استعادة التكامل الأسري، للمجتمع الدرزي بتدخل دور الأهل في التقليل والتخفيف من وطأة هذه المعاناة القاسية، من خلال مساندة المطلّقة معنوياً ومادياً،، مع ضرورة احتوائها نفسياً وعاطفياً بالتفاهم والحنان والحب حتى تتمكن من إعادة ترتيب أوراقها، وهو الأساس الذي تحتاجه لتنهض من جديد أشد قوة وأمضى عزماً، إضافةً إلى ضرورة تفهُّم الوالدين والأسرة لابنتهم المطلقة، ومعاونتها لتعيد صياغة حياتها من خلال الدراسة أو العمل مباشرة في حياة أبنائهم عند وقوع أي خلاف أسري، يمكن أن يتسبب بحدوث الطلاق، كون مهما كان الطلاق حلاً جذرياً، فإن المشاكل تبقى هي الأصعب لكلا الطرفين، من هنا فإن التشتت والضياع يشكل حالة إنسانية يصعب تجاوزها، ولا سيما على الأبناء في حال وجودهم .وننوِّه بالاختيار الجاد القائم على العقل والقلب في آن ٍ معاً، قبل إقدام الشاب أو الشابة على الزواج، إذ إنَّ الاختيار الصحيح هو أول حجرة أساس لبناء أسرة متماسكة، لما يساهم بالتفاهم والحوار والاحترام بين الطرفين، وهذه المبادئ تشكل عوامل هامة لاستمرارية الزواج رغم الخلافات الزوجية التي لا بد من حدوثها بشتى الوسائل.


المراجع:

1- هو أحد أقضية محافظة جبل لبنان الستّة، يشكل مجرى نهر الدامور حدوده الشمالية، ومجرى نهر الأوّلي
حدوده الجنوبية.2- حنانيا المنير، الدُّر المرصوف في تاريخ الشوف، دار الرائد اللبناني، بيروت، 1984، ص
30.
2- أنظر الملحق رقم (1): تابع ملخص بعقود الزواج والطلاق منذ 7/11/ 1967لغاية 31/12/2018.
3- معدل الطلاق بالنسبة للزواج = عدد حالات الطلاق في سنة ما / عدد حالات الزواج في نفس السنة × 100.
4- موظفة في أمانة سر المحكمة في بعقلين.
5- أنظر الملحق رقم (3).
6- أنظر الملحق رقم (2) الاستمارة.
7- أنظر الملحق (3).
8- انظر الملحق (3) الجدول رقم (19).
9- نظر الملحق (3) الجدول رقم (17).
10- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (18).
11- قانون أحوال شخصية الجامعة اللبنانية، التشريعات – شوهد بتاريخ 29-6-2019. موقع مركز الأبحاث والدراسات في المعلوماتية القانونية على الرابط: http://www.legallaw.ul.edu.lb/Law.aspx?lawId=258196
12- المصدر نفسه قانون الأحوال الشخصية.
13- أنظر سجيع الأعور- الاحوال الشخصية الإسلامية والمسيحية د.ط الجزء1أيار 2016 ص 144.
14- أنظر سجيع الأعور مرجع سابق ص 144.
15- أنظر الملحق (3): الجدول رقم (2).
16- أنظر الملحق رقم (3) الجدول رقم(14).
17- النشوز: لفظ يعبَّر عنه شرعاً عن امتناع الزوجة عن القيام بحق زوجها وطاعته في غير معصية الله
كأن تخرج من بيت زوجها دون إذنه لإسقاط حقها بالمهر المؤجل…).
18- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (13).
19- أنظر الملحق (3) الجدول رقم: 12.
20- أنظر الملحق (3) الجدول رقم : 7.
21- أنظر الملحق (3) الجدول الإحصائي رقم (14) قرارات الطلاق بين 2014 و2018 في محكمة بعقلين.
22- – د. أميرة أحمد حسن قرشي / د. محمّد أمين أحمد الأمين. الطلاق وآثاره النفسية والاجتماعية على الرابط: شوهد بتاريخ 1-7-2019 على الرابط: tasil.uofq.edu.sd/wp-content/uploads/2017/…/الطلاق-وآثاره-النفسية-والاجتماعية.pdf
23- أنظر الملحق (3): الجدول رقم (10).
24- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (1).
25- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (17).
26- مرشدة إجتماعية في المحكمة المذهبية في عاليه.
27- أنظر الملحق 3 الجدول رقم( 5).
28- أنظر الملحق (3): الجدول رقم( 4).
29- أنظر الملحق (3): الجدول رقم (8).
30- أنظر الملحق (3): الجدول رقم (6).
31- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (9).
32- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (3).
33- أنظر الملحق (3) الجدول رقم (11).
34- البيِّن: شرعاً: الخطأ.
35- سجيع الأعور مرجع سابق ص 142.

الممارسات اليومية للكفاءات الوالدية

تربية الأبناء هي عملية سهلة، ولكن هي في الوقت نفسه صعبة ودقيقة، لذا فإنّ نظرتنا للأشياء تختلف، فكلّ شخص ينظر لها بطريقته، لذا من الضروري اتّباع أساليب صحيحة وإيجابية تحقق مصلحة طفلنا وتعطينا نتائج مثمرة لمدى تفهمنا لعالم طفلنا الخاص، والوقوف الدائم عند مصلحته وتحقيق ذاته وقبولة وعدم نكرانه خاصة إذا كان من ذوي الاحتياجات الخاصة.
هنا سنقوم بالتركيز على أهمية الرعاية الإيجابية لأطفالنا… وننطلق من الأمور التالية:

1-الاحترام: وهي عملية قبول طفلنا بسلبياته وإيجابياته والنظرة له بطريقة إيجابية تعزّز ثقته بنفسه وإحاطته بالحنان والعاطفة الدائمة.

2-الإعجاب: من الأفضل والمناسب أن أحرص على نظرة الإعجاب لطفلي من حيث نظراتي المُفعمة بالحب وأسلوبي الهادئ والمرن الذي يتكيّف مع قدراته وإمكانيته ولا أُشعره بأنَّه مختلف عن الأطفال الذين من عمره وبأنّه أقل درجة منهم وأؤكّد له شدة إعجابي به من خلال تصرّفاتة اليومية معه دون إحساسه بالملل والنفور والإهمال وأنه عبء خاص في حياتي بل إنّه مثل كل الأطفال.

3-الحب غير المشروط: من الضرورة أن أتصرّف مع طفلي بكامل المحبة والاحترام والإعجاب وإنّي دائما أحبه، ولا أربط سلوكياته غير المرغوبة بموضوع حبّي الدائم له، بل هنا ضرورة الفصل لكي أعطي مجالاً واسعاً لطفلي للعمل على اتّباع السلوك الصحيح ودرجة استيعابة والمقارنه مع السلوك غير المرغوب الذي يجب التخلّي عنه لأنه غير مناسب ولا يتقبّله الآخرون

4-التوازن: من المناسب أن تكون عملية تربيتنا للأبناء تضمن التوازن بشكل أن لايشعر الطفل أنه هُدِر حقُّه وأنّه يوجد نوع من التردد والتراجع بالتعامل معه لذا يجب الاستقرار على رأي واحد ومشترك بين الأبوين من أجل اكتساب الطفل المهارات المميّزة من حيث:
قانون التفريق وقانون التركيز.
لذا نفرّق بين السلوك والطفل، بدل اللوم نعطيه التوجيهات والنصائح، والتوجيه ليس التوبيخ وغيرها.
أيضا قانون التركيز وهو أن ننظر إلى سلوك الطفل الذي اتبعه وليس إلى شخصه وكيانه ونقوم بالإرشادات الصحيحة حول عدم إمكانية تكرار هذا السلوك غير المرغوب الذي لا يجوز التصرف به.
لذا من الضرورة أن يتطلّب طفلنا الوقت الكافي، والتكلّم معه بمواضيع متنوعة يحبّها…. ونقدم له خيارات يحبها، ونفتخر به أمام الآخرين، ونشجعه دائما على قيامه بتصرفات جميلة ونعتزّ به ونقدم له الدعم لأن معظم تصرفات أطفالنا هي ردّات فعل على ما يحصل أمامهم وإضافة احترام خصوصيته، والمراقبة الصحيحة، خاصة إذا كان يعاني من صعوبات معيّنه، فندخل على حياته بنوع من المشاركة.
مثلا تعال نلعب سوا، أو نحضر tv.فهنا تأثير هذه التربية المتّبعة يساعد طفلنا على اكتساب القيم وآلية التصرف بمحبّة ولطف، وانظر لطفلي بأنه سيكون رجل الغد، بذلك أعزّز الثقة بنفسه.

5-التربية بالاقتداء والحب غير المشروط.
– الاهتمام والتشجيع.
– القربى توحي بالرحمة.
– لمسة الجبين توحي بالفخر والرضا.
– لمسة الجبين قبل النوم توحي بالتهدئة.
– الخَدّين: الشوق.
– كل هذه السلوكيّات من ضَمّ الطفل واحتضانه ولمسه ترفع الحب عند الطفل بشكل كبير.
– عناق الأم لطفلها تغني عن.13 جلسة تربوية.
– ضمّه 4 مرّات / المحبة.
– الضمّة 8 مرّات الوقاية من الصّدمات.
– الضمة 12 مرة الإبداع.
– الضمّة 20 مرّة عبقري.
فاحتضان الطفل عمليّة ترفع من معدلات الأوكسجين وتعمل على ارتخاء العضلات تعالج الشعور بالوحدة والقلق والتوتّر والغضب.

6-التوقّع: من المعروف أنّ توقعات الأهل تجاه أبنائهم، وتصوراتهم غير مناسبة للواقع، لذا يُفضّل أن لا نرفع سقف التوقّع، ولا أن نخفضه، لكيلا نشكل أزمات متوالية لأطفالنا، بل علينا إدراك مستوى قدارتهم وتقديرها من حيث الاهتمام والتشجيع والمدح على التميُّز والمقارنة مع غيرهم فلا نركز على الفشل، بل على مساعدتهم لإعطاء المزيد من الجهد والمحاولة، لا التحطيم والإهمال، وأن نغرس بهم أيضا التعاطف مع الناس، وتقديم المساعدة إذ يتطلب الأمر ذلك.

7-الصداقة: أنا أجد بطفلي الصديق الذي استرجع أنا وهو الذكريات الجميلة وأحترم نبله وأقوم بالتحدّث إليه بنوع من الاعتزاز والتقدير.

8-الإنجاز: طفلي كما هو، ما يستطيع إنجازه ويتناسب مع ميوله وقدراته، أُقَدِّر هذا الأمر وأتبنّاه، لا أرفض، ولا أنظر له كما أنا أرغب وأتمنى. هنا يشعر الطفل بعجز، لذا يجب التكيُّف معه كما هو، وهو طفل مميز ويستطيع أن يقوم بأعمال مهمّة وجيّدة في الحياة.
مستقبل الأمم مرتبط بمستقبل الأبناء.

علِّم طفلك باللعب والتوجيه فالحب يصنع المعجزات.

التّعليم عن بعد، تحت المُجْهِر

ما نكتبه اليوم له وقعٌ خاص ومُمَيَّز مع تبوُّءِ أمين عام مؤسسة العرفان التوحيدية الدكتور الشيخ سامي أبي المُنى منصب شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، وهو الذي رافق مسيرة العرفان لأكثر من أربعة عقود من الزمن تميزت بالعطاء والتضحية والوفاء والإخلاص ستظلُّ في ذاكرتنا جميعاً، فتهانينا القلبية لسماحته والدّعاء له بالتوفيق الدائم لما فيه مصلحة الطائفة والوطن.

وإنها لَمناسبة أيضاً لنضيء على مسيرة سماحة الشيخ نعيم حسن المليئة بالحكمة والتعقّل، والغنية بالإنجازات، وهو شيخ التواضع والتسامح والإنسانية، ويا لها من مفارقة أن يكون صاحبا السماحة من بيئة تربوية تعليمية تذكرها الأجيال المتعاقبة وتعتز بها.

أمّا مقالتنا اليوم فتأتي تتويجاً لأهداف العرفان ورؤيتها تجاه أبناء مجتمعها أينما كانوا.

فانسجاماً مع رؤيتها ورسالتها، واستكمالًا لدورها التربوي، الاجتماعي والديني في خدمة المجتمع التوحيدي داخل لبنان وخارجه في بلاد الاغتراب كافة، وإيمانًا منها بأن مدَّ جسور التواصل الهادف والفعَّال بين أبناء الطائفة المعروفية أينما كانوا، واجبٌ ديني وضرورة إنسانية؛ تفخر إدارة مؤسّسة العرفان التوحيدية بأنْ تُطلق برنامجها الجديد: «التربية التوحيدية لشـباب الطائفة المعروفية في بلاد الاغتراب» والذي يتضمّن:

أ‌- دروسًا رقَمية تفاعلية، صُمِّمَت وحُضِّرت بعناية لتحقيق الأهداف المرجوَّة.
ب‌- لقاءات وندوات دورية تتناول قصصًا ومواضيع ثقافية ودينية من التراث المعروفي.
ج‌- أنشطة تربوية وترفيهية هادفة تُسهم في توطيد العلاقات، بين أبناء الطائفة المغتربين وإخوانهم الذين يعيشون في قرى لبنان ومدنه.

أهدافه:

1) نشر الوعي وتعزيز الثقافة الأخلاقيّة والتوحيديّة بين أبناء المجتمع المعروفي كافة.
2) تثبيت القيم والأعراف والعادات التوحيدية في نفوس الناشئة.
3) تعزيز التواصل وبناء العلاقات بين أبناء الطائفة المعروفية الموزعين في بلاد الاغتراب كافة، والمساهمة في تعميق جذورهم بقراهم وبيئتهم الأصل وضمان انصهارهم في مجتمعاتهم التوحيدية رغم بعد المسافات.

الفئات المستهدَفة:

الفتيان والفتيات في الطائفة المعروفية من عمر 6 سنوات حتى 18 سنة، وفق مناهج وبرامج تلائم كل فئة عمرية.

آلية تقديم المحتوى التعليمي الرقمي عن بُعد:
1) التعليم – التعلّم غير التزامني، حيث يستطيع المتعلّم الاطِّلاع على الدروس التفاعلية والفيديوهات الإيضاحية عبْر منصة العرفان الإلكترونية، وتحميلها على جهازه ساعة يشاء.
2) التعليم-التعلم التزامني، عبْر تطبيق زوم أو غيره من التطبيقات التي تسمح بالتواصل والشرح المباشر، وذلك وفق مواعيد تَضمن تمكُّن جميع المتعلمين من المشاركة.

إن إدارة مؤسسة العرفان التوحيدية تؤكّد على الوقوف دائمًا إلى جانب أبناء الطائفة المغتربين، وتُقدِّم لأطفالهم ما يساهم في بناء شخصيتهم وتكاملها من النواحي الفكرية، والجسدية، والنفسية والاجتماعية كافة، إضافة إلى احتضانهم أثناء وجودهم في وطنهم خلال فترة الصيف، وإشراكهم في برنامج خاص يحتوي على العديد من الأنشطة التربوية والرياضية والترفيهية الهادفة، التي تقوِّي معارفهم وتعزِّز مهاراتهم، وتحفزهم على بناء صداقات جديدة وتوطيدها في مجتمعهم الأصلي.

المناهجُ التربوية نظرَة تقويمية

التربية هي عملية شاملة لكل مُندرَجات المجتمع ومعظم قطاعاته الاقتصادية، والاجتماعية، وكما التربية يكون المجتمع. فالمناهج تهدف في الجوهر والأساس، تهيئة الشخصية الإنسانية لمواجهة الحياة.

على أن تكون قابلة للتطبيق وأن تهيئ الجهاز التعليمي القادر على إيصالها وتطبيقها، وأن تخضع باستمرار للتقويم والتعديل.

كانت لي ملاحظات أساسية على المناهج التربوية أثناء وبعد وضعها حيّز التطبيق، بصفتي عضواً في لجنة المناهج، فهي تختلف عن مناهج العالم في تعاملها مع اللغة العربية، انطلاقا من أنها لغة الأم والتاريخ والثقافة وصانع وحدة الشعب وكيانهم بل استمرارهم، فهي تحلّ ضيفاً غير مرغوب فيه على المناهج بحيث تحتل نسبة ضئيلة فيها، بينما تحتل اللغة الأجنبية الحيّز الأكبر والأرفع والأجمل. والأجنبية لغة أساسية وبها تُدَرَّس مُعظم المواد الأخرى في بعض المدارس كلها، حيث تسود حرية التعليم، وهكذا تنشأ أمَّة متناقضة لا متعددة، كما أضيفت لغة ثانية على المناهج، اعتماداً على نظرية بأن معرفة الأجنبي يجب أن تتمَّ بلغته. ولكن نرى أنه ليس بالضرورة أن يفرض على الجميع معرفتها، إنما يدرسها من يحتاج إليها في معهد خاص.

١- يشكّل هذا الكم الكبير من مواد المناهج عبئاً على الطلاب، ويبقَون عاجزين عن إنهاء البرنامج، ممّا يُضطر المسؤولون إلى إهمال مواد وحذف أُخرى لا صفية هي الأجمل، تنمّي ذوق الطلاب ورغباتهم لاختيار اختصاصات نخبويّة .

عندما نتناول تثقيل المناهج بالأجنبي فإننا لا نقلل من أهمية اللغة الأجنبية، التي يجب أن تُدرّس كلغة أجنبية وحسب، بينما الواقع أنّ اللغة العربية الأم أضحت لغة بدون أم.

يَدرُس الطالب في لبنان لغة أجنبية وتوابعها ما يزيد على ١٢ سنة، لكنه عامة، بالكاد يحصل على علامة نجاح في امتحان الدخول، لا في العربيّة ولا في اللغة الأجنبية، عدا نخبة ضئيلة تُوفَّر لها ظروف استثنائية للنجاح.

من حيث توقيت المناهج أي ساعات التدريس فهي لا تنسجم مع المناهج ولا أوقات العمل، مما ينعكس سلباً على وتيرة الحياة وصعوبة التطبيق. وساعات العمل في القطاع العام هي ٨ _ ١٥ بينما في القطاع الخاص حتى الرابعة أو السادسة، بينما الدوام في المدارس ينتهي عند الثانية والنصف عامة، ماذا يفعل الأهل العاملون. لقد اقترحنا آنذاك أن يبقى الطلاب في المدارس إلى ما بعد الدوام وأن ينهوا الواجبات المدرسية بإشراف الأساتذة، ممّا يُريح الأهل من شر مساعدة أبنائهم بعد ساعات عمل طويلة، تكون مُضنية للطرفين، بخاصة وأنّ الأهل غير مُعَدِّين بيداغوجياً للتدريس،( طرق التدريس) من معايير فشل المناهج، إنّ المادة لا تصل إلى التلميذ دون مساعدة طرف ثالث، دروس خصوصية، الأهل تقوم على الدروس الخصوصية، عمارات شاهقة من المعاهد الخاصة، الليليّة أو النهارية، بالإضافة إلى مدرّسين يأتون إلى المنازل أو يذهب الطلاب إليهم يعتاشون على طحالب المناهج. وكثير من المدارس الفاشلة تُلزم الأهل الاستعانة بمساعدة خارجية لعجزها عن إيضاح المواد وتفهيمها لطلابها. حيث يواجه الطلّاب معضلة جديدة. مُعظم الأهل ومعاهد الدروس الخصوصية والمدرسين الخصوصيين غير معدين منهجيّاً للتدريس. والمدرّس يجب أن يكون خرِّيجاً من كليّات التربية أو معاهد إعداد المعلمين كشرط أساسي للتدريس، وهذا ما تشترطه المناهج أيضاً. إنّ مناهج مناسبة وهيئة تعليمية مُعَدّة للتدريس كفيلة في إيصال المناهج للطلاب بدون أيّة مساعدة خارجية. كما أن المناهج في وضعها الراهن تتسبب في تسرب إعداد كبيرة من الطلاب المحرومين من إمكانات المساعدة الخصوصية. وهكذا تتمظهر المناهج وكأنها مُعَدّة لفئة محددة تتمكن من إنهاء تعليمها والانتقال إلى التحصيل العالي، وهذا هو الواقع، فالمناهج الشاملة لمنهج عربي وأجنبي ومواد أخرى لاصفية تحتاج إلى إمكانات وأجواء خاصة لترجمتها يمكن أن توفرها فئة معينة فقط،.ومن هنا نكتشف الأيديولوجية التي تقف وراء المناهج، وتضخيمها بالأجنبية وتقليل العربية، لغة الناس. لنأخذ مادة ما يسمى بيولوجيا، وفي العربية دروس أشياء والرياضيات وكان اسمها مادة الحساب، وكانت موجودة في المناهج القديمة، تم إلغاؤها والآن تُدرَّس بالأجنبية، الفرنسية أو إنكليزية. يُدرَس جسم الإنسان فقط بلغة أجنبية، فالرأس هو بالإنكليزية:Head والعين Eye لنفترض أنَّ مدرِّس المادة هو إنكليزي، كيف ستُعرِّف الطالب على جسمه بالعربية، وفي الرياضيات، المعروف أنّ معظم الطلّاب لا يعرفون الأرقام العربية، على الدكنجي أن يتعلم الإنكليزية أو الفرنسية كي يبيع ويشتري. وعلى هذا المنوال ينسى المواطن ،مع الزمن لغته، وثقافته، ينسى ماضيه وحضارته، ربّما من أجل شرق أوسط جديد.

المدرسة الداوديّة / اعبَيْه

هي إحدى أقدم المدارس «الحديثة» في لبنان، سُمّيت بـ «الداودية» نسبة إلى المُتصرِّف العثماني الأوّل على جبل لبنان، وكان تأسيسها استجابة لطلب الوجهاء من الدروز، وفي مُقدّمهم الشيخ سعيد تلحوق (الذي كان وكيلاً للدروز لدى المتصرفية) عرضوا فيه افتقار بني معروف إلى صرح تربوي، فجَرت الاستجابة للطلب بعدما قدّم الشيخ أحمد أمين الدين الأرض للمشروع ذلك. صدر الترخيص بتاريخ 17 رجب 1387ه، الموافق 14 كانون ثان 1862، تحت رقم 134، وتضمّن محضر خاص قوله: «مما يضاعف رغبتي في نصوبها وتقدّمها هو أنها سميّت باسمي». ومع الحصول على الترخيص رقم 134 فتحت المدرسة أبوابها في 14 نيسان 1862، وجرى احتفال تكريمي تضمن إظهار مراحل التأسيس ونظامها الأساسي. وفي 16 نيسان 1863 حضر المتصرف داوود باشا برفقة حاكم المقاطعة الذي أصبح فيما بعد القائمقام الأمير ملحم أرسلان ومشايخ العقل وأعضاء المجلس، وألقى كلمة قال فيها: «إنني أهنّئ النفس باجتماعي وأرى الوقت الذي أصرفه كان مفيداً جداً من أجل زرع راية المشعل التربوي. كنت أسمع وكثيراً ما طرق مسامعي أن الدروز لا يقبلون التعلّم والتعليم فكتبت ضد هذا الكلام جملة وتفصيلاً ولسان هذا الحفل يبرهن صدق كلامي، ولي أمل أنّ هذا الصرح سيكون وسيلة كبرى برفعه اسم الموحدين الدروز». وأردف قائلاً: كما أن الماء ضروري للحياة، أرى أنّ الداودية بالنسبة لطائفة الموحدين كالماء للحياة. إنّ جميع أوقاف المدرسة تحت نظارة مأمورية مخصوصة مؤلفة من مدير الدروز أو قائمقام – وكيل الدروز – شيخ العقل. وبناء عليه أوجب تشكيل النظارة الأولى لمدرسة الداودية وكانت على النحو الآتي:

ملحم حيدر أرسلان – مدير طائفة الموحدين أو القائمقام – رئيساً، سعيد بيك تلحوق – وكيل الدروز – الشيخ حسين طليع، الشيخ حسن عبد الصمد شيخا عقل طائفة الموحدين.

واختير حسن أفندي سليم ناظراً للمدرسة. وبقي من العام 1863 إلى العام 1873. وفي العام 1880 في عهد رستم باشا جرى تعديل القانون لتغيير اسم الداودية إلى المدرسة الدرزية، أو الكليّة الدرزية اللبنانية. وفي تلك الحقبة 1873-1883 تم تشكيل النظارة على النحو الآتي:

الأمير مصطفى أرسلان مدير الدروز قائمقام رئيساً، الشيخ محمّد حمادة، الشيخ محمّد طليع شيخا عقل طائفة الموحدين الدروز، وعيّن بدلاً من الشيخ حسن أفندي سليم الشيخ أمين الدين سنة 1890 ناظراً للمدرسة؛ ولقد أُجريت بعض التعديلات على نظام المدرسة وأصبحت عمدة المدرسة 12 عضواً، وتألّفت على النحو التالي:
الأمير مصطفى أرسلان قائمقام الشوف رئيساً – نجيب بيك جنبلاط – قاسم بيك العماد – سليم بيك نكد – الشيخ حسين محمّد تلحوق – ناصر الدين عبد الملك – الشيخ فارس العيد – الشيخ سعيد تقي الدين – حسن بيك حمادة – حسن بيك شقير – نعمان فندي بوغنّام.

أما الذين توالَوْا على نظارة المدرسة الداودية فهم:
حسن أفندي سليم، الشيخ مجيد تلحوق، الشيخ حسين عبد الصمد، الشيخ مصطفى دويك، الشيخ أحمد أمين الدين، الشيخ ملحم تقي الدين، الشيخ حمد المصفي، أمين بيك خضر.

أما في عهد المتصرف نعوم باشا 1892-1902، كان الأمير مصطفى أرسلان قد كُلّف ثانية قائمقاماً للشوف، فلم يَعِر المتصرفون بين 1902 و1910 اهتمامهم للصرح التربوي، فأقفلت الداودية أبوابها وكانت الحرب العالمية الأولى، فتحوّلت المدرسة إلى ثُكنة عسكرية أيام العثمانيين ثم أيام الفرنسيين.

بعد نهاية الحرب، بدأت سنة 1921 المساعي لإحياء الصرح العلمي، وضبط أوقاف الدروز، وقد بدأ الأمير فؤاد أرسلان وعلي بيك جنبلاط مساعيهما لإعادة العمل بهذا الصرح، لكن دون جدوى. ثم قام المناضل سامي سليم، المفكر والمجاهد، وأحد روّاد الفكر القومي العربي، وصاحب الرؤى في أهمية الإصلاح الاجتماعي ودور التربية للخروج من الجهل والانحطاط إلى التقدم والرقي، فكان صوته مدوياً لإحياء الداودية وقام بمحاولات بين 1922 و1925 لم يُكتب لها النجاح. وفي العام 1928 دعا أحد مؤسسي جمعية المعارف الدرزية سليمان بيك بو عزالدين لإعادة إحياء الصرح، لكنّ مساعيه فشلت فاضطُرّ للتخلّي عن مهمته مختاراً في 19 آيار 1928، وفي هذا اليوم صدر مرسوم يحمل الرقم 3307 عن رئيس الجمهورية شارل دباس، ورئيس مجلس الوزراء بشارة خليل الخوري، عُدِّلت فيه المادة الأولى بموجب القرار رقم 3323 تاريخ 4 تشرين أول 1925 وتألَّفت لجنة إدارية برئاسة وزير التربية والفنون الجميلة.

في العام 1929 تسلّم المناضل العروبي الأستاذ عارف بيك النكدي الداودية فرمّمها وبدأ التدريس بها سنة 1930 وأضاف غُرفاً جديدة إلى الصرح.
وفي العام 1932 كُلِّف عارف النكدي بإدارة الأوقاف العامة وأعاد فتح الداودية بصورة منتظمة، وأعتُبرت هذه الفترة الذهبية للداودية بين 1932 و 1992. تميّزت الحقبة هذه بانجازات إدارية وعمرانية تعليمية عربية، وذلك بالتعاون مع جمهورية مصر العربية التي أوفدت لجنة علمية للمساعدة في رفع مستوى التعليم والمساعدة في سدّ النفقات المترتبة على الإدارة… كذلك لم يقصّر المغتربون الدروز في دعم الداودية وتطويرها، فأمكنها تحقيقق نجاحات بارزة وارتفع عدد طلابها من اللبنانيين والعرب.

في الحقبة تلك تم إنشاء 30 مدرسة ابتدائية ومتوسطة فروعاً للمدرسة الأم في مختلف القرى اللبنانية، وكان للمغفور له الأستاذ شكيب النكدي اليد الطولى في متابعة إنشاء هذا المركز، وهو المشرف والمربي المتفاني في عمله، وقد تسلّمها بعده الأستاذ فندي الشعّار المفتش التربوي للداودية وفروعها.

في العام 1992 انتقلت جميع الصلاحيات والإشراف للأوقاف بموجب القانون الذي أقرّه المجلس النيابي، وتعاقب على إدارتها العديد من المديرين والمدرسين والتربويين.

في العام 1996، عَيّن المجلس المذهبي مديراً عاماً للأوقاف المقدم المتقاعد محمود أبو خزام الذي استقال بعد 3 سنوات، وكُلّف مديراً عاماً جديداً المقدّم الأستاذ محمود صعب ثم استقال، فتسلّمها المجلس المذهبي وتم تعيين خالد بك جنبلاط مديراً عاماً للأوقاف وفي عهده تشكل مجلس أمناء للمؤسسات الدرزية لإعادة الصرح إلى سابق عهده، صرحاً لبنانياً عربياً وليس لطائفة الموحدين الدروز فحسب. فالداودية كانت إلى جانب رسالتها التربوية مقرّاً وطنياً عروبياً خرّجت فيه المناضلين والأبطال الذين انضموا إلى معارك البطولة والتحرير على امتداد الوطن العربي بدءاً من الثورة العربية الكبرى، إلى الثورة السوريّة الكبرى سنة 1925، إلى معارك التحرير في فلسطين، وكان للجبل فيها صولات وجولات في تقديم الأبطال والاستشهاد في سبيل عروبة فلسطين.

وبعد توقف لسنوات بسبب من أحداث لبنان والجبل والشحّار الغربي على وجه الخصوص، نشأت الجمعية التي أخذت على عاتقها إحياء الداودية وتطويرها تحت علم وخبر رقم 390/ أ د /20/9/1999، مركزها اعْبَيْه، وتشكّلت هيئتها الإدارية في 21 كانون أول 2003 على النحو الآتي، عادل الشعار رئيساً، رياض اللحام نائباً للرئيس، ذوقان مطر أميناً للصندوق، نديم حمزة أميناً للسر محاسب، حافظ الصايغ ممثلاً لدى الحكومة، د. عصام الجوهري وأحمد غيث مستشاران، فانطلقت مسيرة الداوودية من جديد في زمن بالغ الصعوبة.

ثم جرى انتخاب هيئة إدارية جديدة، بناء لنصوص النظام الداخلي، بتاريخ 11/3/2007، وتشكّلت على النحو الآتي:
غازي صعب رئيساً، د. عصام الجوهري نائباً للرئيس، سمير شمس الدين أميناً للسر عاطف حمزة أميناً للصندوق، رجا جابر ونزيه خداج مستشاران، فاستمرّ العمل وكانت الأنشطة والندوات واللقاءات. تابعت الهيئة الجديدة عملها وتقدمت من المجلس المذهبي بمجموعة من التصورات. في إثر ذلك، عقد المجلس المذهبي اجتماعه بتاريخ 14/11/2007، بحضور: الشيخ علي زين الدين رئيس اللجنة الدينية، القاضي عباس الحلبي رئيس لجنة الأوقاف، الشيخ سامي أبي المُنى رئيس اللجنة الثقافية، الأستاذ منير حمزة مقرِّراً وأمينا للسر. وفي جلسة 27/11/2007 أقرّ المجلس المذهبي في جلسته العامة اعتبار الداوودية صرحاً معروفياً واتخذ الخطوات التالية:
– ترميم البناء وإعداده.
– الاتفاق مع الجامعة اللبنانية على جعله مقرّاً لفرع من المعهد الجامعي للتكنولوجيا.
-إقامة مركز للدراسات التوحيدية.
فعادت الداودية منارة معروفية وباتت منذ العام الجامعي 2009/2010 تستقبل الطلاب الجامعيين من الجبل ولبنان قاطبة.

حَوْلَ مُعتقَد أبي العلاء المعرّي

تمهيد

قليلةٌ جدّاً الشخصيات الفكريّة والأدبيّة التي شغلت الناس والنقَّاد في دنيا العربية وهي على قيد الحياة، ثم ظلَّت تشغلهم، بالمقدار نفسه، بعد نحو ألف سنة من رحيلها. هوَ ذا حال أبي العلاء المعرّي، التَّنوخي المَحْتِد، بين أواخر القرن الرابع وأواسط القرن الخامس للهجرة.

لقد قيل في المتنبي، كعبةُ إعجابِ المعرّي ومثاله في الشعر، «مالئ الدنيا وشاغل الناس». وكان ذلك حقّاً، لتفتُّق عبقريته الفكرية والفنية عن صور وأفكارٍ لم يسبق لها مثيل، باقية إلى اليوم، لا يزولُ وقعُها، ولا ينقضي ما احتوته من أفكار وصورٍ، بل ومعايير للفن الشعري الرفيع المستوى (الإغريقي المُناخ والسُّمو).

مع ذلك، فإنَّ ما عُرِضَ لشعر المتنبي من مديح ونقد، ولمعتقده من تفكّرٍ وظنّ، يبقى قليلاً قياساً بما حَظي به المعرِّي «العظيم»، في شعره، ونثره، وفي معتقداته، على وجه الخصوص، التي حيّرت كبار النقّاد من معاصريه، فتناقضوا واختلفوا في تفسيرها أيّما اختلاف. ثم تحوّلت بعد رحيله عن هذا الدنيا مصدراً لم ينضب لآراء ودراسات وكتب وأطاريح علمية بالغة الأهمية لمّا تزال تخرجُ إلى النور سنوياً، واستمرت، كما حالُ أحكامِ معاصريه، على تباينٍ شديد يصل حد التناقض الصريح – كما سنرى.
فمن هو المعرّي ذاك، «عبقري كلِّ الأزمنة»! بشهادة غير أديب
ومفكّر، قديمٍ وحديث، ووفق اعتقادي الثابت – وقد تعرّفتُ إلى أعماله الشعرية والنثرية منذ خمسين سنة، فدرستها مطوّلاً، ودرّستها مطولاً في قسمي الفلسفة واللغة العربية في كليَّات دراسية، 39 سنة جامعية عدّة.

حياة الرجل

شهدت مدينة «المعرّة»، القريبة من حلب،(شمال سوريا اليوم) ولادة المعري الطفل أحمد نهار الجمعة في الثالث من ربيع الأول 363هـ / كانون أوّل 973 م.

يعود أبو العلاء في نسبهِ لـ «تنوخ»، قبيلة عربية يمنيّة قدمت مع جيش أبي عبيدة بن الجرّاح في فتح بلاد الشام. نزلت القبيلة في معرّة النعمان، وكان فيها القضاة والشعراء والعلماء. وقد ورث أبو العلاء منهم من دون شك الكثير من ثقافته ونبوغه. وورث، كذلك، عن أخواله «بنو سبيكة»، عشيرة قدمت من حلب ونزلت المعرّة، الكثير أيضاً. وكان لكرَم أخواله وجُودِهم الفضل في اكتفاء أبي العلاء المادي، وهو يذكر فضلهم ذاك في غير مناسبة.

فقد أبو العلاء بصره في الرابعة من عمره لإصابته بمرض الجُدَري. لكن ذلك لم يحُلّ دون دراسته وتحصيله العلمي إلى أقصى حدّ في كنف أسرة اشتُهرت بالعلم وتسلُّم القضاء. كذلك لم يحُل عَماه دون تَرحاله طلباً لمزيد من العلم في المدن المجاورة، أو لِلِقاء علماء أخذ عنهم وذكرَ فضلَهم. إلّا أنّ أشهر رحلاته كانت تلك التي قصد بها بغداد، مركز الخلافة العبّاسية ومدينة العلم والعلماء والأدباء، وذلك سنة 398 أو 399 للهجرة وعاد منها سنة 400 للهجرة. لقيَ أبو العلاء في بغداد حُسن وِفادة وكثيرَ تكريم، وكان قد بات معروفاً – وهو في الخامسة والثلاثين. حضر في بغداد مجالس العلم والحكمة والمناظرات. وأشهر ما جرى له في بغداد كان في مجلس «الشريف المُرتضى»، إذ جعل هذا يهاجم المُتنبي؛ وأبو العلاء شديد الإعجاب به. فما كان من المعرّي إلّا أنْ علّق قائلا: «لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلّا قولُه: لكِ يا منازل في القلوب منازلُ، لكفاه فضلاً». فغضب المرتضى وأمرَ بإخراجه من مجلسه، وأكمل: أتدرون ماذا أراد الأعمى من القصيدة؟ يريد قول المتنبي:

وإذا أتتكَ مذمّتي من ناقصٍ
فهي الشهادةُ لي بأنِّي كاملُ

عاد المعرّي إلى المعرة بعد سنة ونصف، فاختار العُزلة نهائيّاً (في سجن عماه، ومنزله، وجسده، ثلاثاً ذكرها المعري في شعره). لم يغادر المعري محبسه إلّا في النادر (كما حدث حين دفعَ عن المعرة غضب صالح بن مرداس صاحب حلب بعد حصاره لها «إكراماً للشيخ). وكان في محبسه زاهداً، متقشّفاً، لا يأكل لحم الحيوان، ولا مشتقاتها، وحتى بعض النبات؛ مكتفياً بلبدة صوف فراشاً في قرِّ الشتاء وحصيرة قشر في حرّ الصيف. لمنامه، في روايات معاصريه. ومع ذلك فهو لم يكن معتزلاً متنسِّكاً، بل كانت داره كعبةً للقاصدين، زواراً وطلاب معرفة، إلى أن توفّاه الله سنة 449 للهجرة بعد مرض لأيّام عدّة.

أمّا ميزته الثابتة فكانت ترفّعه عن مِتَع الدنيا، فلم يكن ساعياً لمجد، أو منصب، أو مال أو حتى هديَّة؛ وقد ظهر ذلك في بغداد التي كانت تعيش زمن تكسّب الشعراء ووقوفهم أمام بلاط الخلفاء والوزراء والولاة. بخلاف سمة العصر في التكسّب من خلال فن المديح، أو التقرّب من السلاطين. كان المعري نزيل منزله، بل محبسه، يتقرّب إليه الولاة، ويحجُّ إليه العلماء، ويسعى جمهوره الواسع إلى طلب النصيحة، وردّ غائلة الزمن، كما حدث غير مرّة مع أهالي معرّة النعمان، إذ منع عنهم غدر الوُلاة أكثر من مرّة «إكراماً للشيخ»، كما لو كان «حِرزاً» عليهم؛ فبات الذين يقفون على بابه، كما قيل، أكثر من الواقفين بأبواب الولاة.

ثقافته وأعماله

لا جدوى من مقارنة ثقافة المعري بأيٍّ ممّن نعرف من ثقافات سواه من العلماء والأدباء. وبسبب من اتساع معرفته وثقافته غير العاديتين، في كل باب تقريباً، فقد اختلطت الحقائق بالأساطير.
وُهِبَ الرجل، بإجماع الباحثين، عقلاً، وذكاء، وذاكرة، تظنّ أنها ليست للبشر، بل لآلهة الإغريق، على سبيل المثال.

كيف لعقل إنسان فقد بصره وهو دون الرابعة من عمره أن يتقن حتى الكمال (الممكن) ما أُتيح أو عُرض له، بل لعصره، من ثقافة في أبواب: اللغة، والأدب، (من شعر ونثر وبيان وبديع وبلاغة وفنون أُخرى)؟ أضف إلى ذلك التاريخ بمراحله السابقة كافة، والأنساب، والديانات، والفلسفة، والفكر بعامة؟ وغير بعيد عن الصحة قولة من قال، إن اللغة لتأخذ بعد القرآن الكريم من المعرّي. أو قول آخر: لا أظن العرب نطقت لفظة لا يعرفها المعرّي.

وكيف لذكاء أيٍّ كان أن يُضارع ذكاء من يعرف ضيفه إذا تحدّث، أو حاله إذا تكلّم، أو ما قصد إليه ولم يظهره من ثنايا خطابه؟ أو أن يستشعر الفروقات البسيطة بين هذه وتلك، بمجرد إحساسه بها: فيدرك أنّ ورقة كانت تحت الفراش الذي يجلس عليه فأزيلت! وكذا في ما أوردناه من مجلس الشريف المُرتضى.

كيف لذاكرة بشريٍّ أن تضاهي ذاكرة المعري الأُسطورية، ولطالما نسج المؤرخون حولها الأساطير: يزور مكتبة المدينة الفلانية أو الحاكم الفلاني، فيطلب لمرافقه أن يقرأ له ما وسعه من كتب، فتصبح في ذاكرته وعقله وكأنه رآها وقرأها غير مرّة؟ أو تمرّ القافلة في طريقه إلى بغداد سنة 399 للهجرة بشجرة تعوق العبور على الطريق، فيُطلب من العابرين، في العادة، خفض الرؤوس، فإذا به في أثناء عودته بعد سنة كاملة (400 للهجرة)، يخفض رأسه في المكان عينه وسط استغراب من معه، فالشجرة المعنية كانت قد قُطعت ولم يعد لها من وجود.

أو خذ حافظة ذاكرته أيضاً، أنّ المعري الصبي سمع شجاراً بين فلاحَيْن بالسِّريانية، (وهي شائعة في قرى شمال سورية آنذاك)، وحين ذهب الرجلان إلى القاضي ليفصل في خلافهما، طلب شهوداً، قالا له لم يكن هناك غير صبي أعمى؛ وإذ طُلِب ليشهد ردّد ما قالاه حرفيّاً وهو لا يفقه شيئاً من معناه؟

توفرّت للمعري ثقافة وعلوم عصره جميعها، وما أتيح له ممّا سبقه: اللّغوية، والأدبية، والفقهية، والفلسفية. قال فيه بعض أهل عصره: كانت معرفته باللغة معرفة تامة. (إبن الجوزي) وقال آخر: ما أظن نطقت العرب بكلمة لم يعرفها الشيخ. (البديعي) وبدا تأثير ذلك جليّاً في أعماله شعرِه، ونثرِه، كما في أعماله المبتكَرة والرائدة. بلغت أعمال المعري، حسب مؤرِّخ عصره، القفطي، خمسة وخمسين كتاباً، عدا الرسائل، وهي بالمئات. أهمُّ أعماله التي وصلتنا: «اللزوميات» في مجلدين، جعلها المعري في أبواب الحكمة والوعظ والرأي. «سِقط الزند»، هي شعر المعري، غير الفلسفي كحال اللزوميات. فيه بعض أرقّ شعره، كما قيل. «رسالة الغفران»، فيها ظاهراً شروح لمسائل لغوية وفقهية، وأعمق من ذلك نقده في غير اتجاه. اهتم المستشرقون برسالة الغفران أيّما اهتمام، فتُرجمت باكراً، بل عدّوها رائدة في بابها، نسج على منوالها بعد ذاك بعدة قرون «دانتي» وآخرون. إلى أعمال لغوية وأدبية أُخرى، حيّرت معاصريه، لغرابة بعضها، وغُنوض الكثير منها، فذهبوا في تفسير مُعتقد المعري انطلاقاً من الغموض ذاك.

معتقده

إذا كان للمؤرخين والباحثين، من زمن أبي العلاء أو في أزمنة لاحقة، أن يتنازعوا في نقطة وحيدة أيّما نزاع، فهي من دون شك تلك المتصلة بمعتقديه، الفكري والديني. والنزاع في الثاني أبعد غَوْراً وأشدّ خطراً ممّا هو في الأول. يقول أدوار البستاني في كتابه «أبو العلاء المعري، متأمّل في الظُّلمات»: «لم يختلف الرأي في عقيدة رجل كما اختُلِف في عقيدة المعري. فقد أجمع قوم على تكفيره… من أمثال أبي الوفاء بن عقيل (القرن الخامس للهجرة)… وابن الصابئ… والقاضي أبو جعفر الزوزني… وعبد السلام القزويني… (وآخرون)»ص 44-45.

في مقابل هؤلاء، نهض تلامذته، ومُريدوه، يردّون تهمة الكفر تلك، ويوضحون ما ومن قصد شيخ المعرة في نقده؛ وأنه إنما تناول مظاهر الخروج على الدين، لا الدين؛ وأن نقده اتجه للمنافقين، لا للدين، ولا للمتدينين الورعين المخلصين. وسيرى القارئ، التفسير الحقيقي، كما اعتقد، لأفكاره، وكيف رأى إليها كبار باحثي العصر الراهن، من أمثال طه حسين، والعلايلي، ومارون عبود.

نبدأ بمعتقده الفكري، غير المُنفصل كما سنرى عن معتقده الديني، وإن كان في الغالب إلماحاً لا صُراحاً، ويحتاج إلى ربط ومقايسة واستخلاص نتائج.

في معتقده الفكري (وربطاً بالديني أيضاً)، لا أظنّ أنّ مفكراً سبق أبي العلاء إلى بناء معيار في اليقين يقوم على اللايقين:

غدوتُ مريضَ العقلِ والدينِ فالقني
لتعلمَ أنباءَ الأمورِ الصحائحِ

أمّا من سبقه، أو عاصره على نحو دقيق، في بيان عجز العقل عن بيان الحقيقة، أو «الأمور الصحائح»، فهم جماعة «العِرفان»، في كل معتقد ودين ومسلك. هل قصد المعري «غدوتَ» بالفتح؟ إذا كان الأمر كذلك، لا جديد رئيسي أو حاسم. إلّا أن الأمر ليس كذلك، بل هو جزء من تورية المعري، و«باطنيّته» ومَجازاته التي استخدمها غير مرة ليدفع سامعه أو قارئه إلى حيث يكتشف معتقده الفكري والديني. ومنها مثلاً:

وليس على الحقيقة كلُّ قولي
ولكنْ فيه أصنافُ المجاز

والمجاز metaphor في قواميس اللغة هو «صرف النظر عن معناه الظاهر»، و «تجاوز ما وُضع له»، و»المعنى المجازي، هو المعنى المستعمَل في غير ما وضع له أصلاً».

هوَ ذا المجاز الذي احتاجه المعري في عصره – القرن الخامس للهجرة حيث أحكم المتشددون القبضة على الدين والسياسة. المجاز هنا هو الأداة البليغة في إيصال المعنى المقصود، غير ظاهر الكلام. وقد لجأ المعري إلى الأداة تلك المرّة تلو المرّة لإيصال أفكاره.

نعود إلى «مريض العقل والدين»، فإذا هي تعني وفق التحليل السابق (صحيح العقل والدين). ما من أحد، في ما أعرف، قبل أبي العلاء رسم هذه المعادلة غير العادية أو المألوفة، ومُختَصرُها: يجب أن تكون مريض العقل والدين «لتعلمَ أنباء الأمورِ الصحائحِ». هي تشبه منهج سقراط في ادّعاء الجهل والضعف (أي مريض العقل) كي يستخرج من خصمه في النقاش أفضل ما عنده، فيخرج من متاهات الضلال إلى نور اليقين (الصحائح). حرصتُ على استخدام تعبير أبي العلاء دقيقاً كما ورد في النص، لأنّه من الجدةِ والخطورةِ إلى أقصى الحدود، وكما لم يحدث من قبل – إلّا ربما بعض إشارات الشُّكاك الإغريق – أو من بعد، خلا ما نجده، أيضاً، عند «نيتشه»، الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر، في ملاحظات تبدو متشابهة.

لا يختلف اثنان، كما أَعتقد، أن تفرّد أبي العلاء قد بلغ في بيت الشعر الأخير كل حد، ولفظ «العبقرية» لا يقدّم أو يؤخّر كثيراً، بل لعلَّه لا يفي «ثقافة» أبي العلاء حقّها.

في معتقد أبي العلاء، وفي خط البيت الأخير، ربما نجد بيتاً ثانياً يبدو قريباً إلى الأول في معناه، دون أن يكون في قوته، وهو:

إذا قلت المحال رفعتُ صوتي
وإن قلتُ اليقين أطلتُ همسي

ما يجمع بين البيتين، في المقام الأول، أن لا تغترّ بظاهر ما تقرأ، حتى للمعري. هذا المعري الظاهر؛ أما المعري الحقيقي ففي مكان آخر، لا سبيل لإدراكه إلّا إذا كنت «مريض العقل والدين». والمعنى الحقيقي لـ «مريض» في بيت المعري هو على عكس ما يوحي به ظاهر القول: أي «صحيح العقل والدينِ». هذا هو المعنى الضمني لمريض العقل والدين. إنه تفرّد المعري وإعجازه فلا يقدّم لنا معتقده بسهولة وعلى طبق من فضّة، وإنما عليك أن تتعرّى من الظاهر، خطوة أولى، لتلتقط الحقيقة. وإن لم تسعفكَ قدراتك في أولّ الطريق، فكيف الحال في مراحل الطريق المتقدمة، الأعلى، والأكثر تطلّباً. المبتدئون لا حظَّ لهم في الدخول إلى عالم المعرّي الغامض المليء بالإشارات والتلميحات، لا التصريحات والإيضاحات السهلة. وسبق للمعري أن نبّهَنا – منهجيّاً – في أكثر من موضع، كي لا نخطئ أو نتسرّع في أحكامنا.

لقد مدّ المعري لنا يد المساعدة حين قال بوضوح: لا تظنّوا أن كل ما أقوله ظاهراً هو الحقيقة (وليس على الحقيقة كل قولي)، وإنّما فيه ما يجب أن يؤخذ مجازاً- على اتساع ما يتضمنّه مفهوم المجاز في اللغة، كما شرحنا أعلاه.

ذهب المؤرخون والمدققون المعنيون بمعتقد المعري الفكري والديني وكلّها نظريات، في حقيقة الأمر، وتختصر في أربعة:
أوَّلُها، رأي المتشددين الذين أخذوا المعري بظاهر قوله، لإعلان فساد معتقداته.
ثانيها، نظرية التحفُّظ، بل العجز، عن إثبات معتقد نهائي ثابت للمعري.
وثالثها، أخذ المعري بقعر أفكاره القائم تحت ظاهر القول، لإعلان حقيقة معتقده. وهي أقرب إلى فلسفة اللّغة،
والنظرية الرابعة، تجزم استناداً إلى الكثير من شعره، وما رُوي عنه، أنه من «أهل التوحيد»، بل احد شيوخ مسلك التوحيد، أو فرقة التوحيد الإسلامية.
وسنفصّل يعض الشيء في الاتجاهات أو النظريات الأربعة أعلاه.

الاتجاه الأول، ولا يرقى إلى مستوى النظرية، يمثّله بعض المتشددين الذي اكتفوا بظاهر قول المعري، فتسرّعوا بالحكم عليه يمنة ويسرة. ساء هؤلاء نقد المعري لمظاهر وسلوكيات كانت قد طغت في القرن الخامس الهجري، فباتت هي الدين في حرفيته وظاهره وشكلانيته، وهو ما انتقده المعري بقسوة. ساء المعري أن تجد شارب خمرة في أثناء إداء فريضة الحج، أو منافقاً يبيع ويشتري ويقرض بالربا وهو يزعم التديّن، أو «واعظ نساء» يوغل في الحثِّ على الفضائل وهو أوّل من يهملها بل ويمارس الرذائل؛ وساءَه أن يجد مسلماً لا يطيق نصرانياً، أو العكس، بينما الدين عند الله واحد. في نقد المعري ذاك نقرأ له، (في اللزوميات) على سبيل المثال:

وما حجّي إلى أحجار بيتٍ
كؤوسُ الخمر تشرب في ذراها

بل قال أكثر محذِّراً من مكر الماكرين المخادعين:

أقيمي لا أعدّ الحجّ فرضـــاً
على عجزِ النساء ولا العذارى
ففي بطحاء مكّة بعض قوم
وليســـوا بالحُمــاة ولا الغيـــارى
قيامٌ يدفعون الوفـــد شفعــاً
إلى البيت الحـرامِ وهو سكارى

أو آخر «صاحب حيلة»، سِكّيرٌ، مُخادعٌ، يعظ النساء:

رويدكَ قد غُرِرْتَ وأنت حرٌّ
بصاحب حيلة يعظُ النساءَ
يحرّم فيهمُ الصهباء صبحـاً
ويشربها على عمدٍ مساءَ

أو نقده مجرّد أخذ الدين بالتقليد والوراثة، دونما تبصّر أو إيمان شخصي حقيقي:

وينشأ ناشىءُ الفتيان منّــــا
على ما كان عوّده أبوه
وما دينُ الفتى بحجىً ولكن
يعلّمه التـديّن أقربــــوه

أو قوله في المنافقين، يرجون عمل الخير، بينما يردّون الفقير؛ ويدعون للزهد في الدنيا، فيما لو قدروا على إيوان كسرى لما ترددوا:

رَجَوْا أن لا يخيب لهم دعـــاءُ
وكم سأل الفقيرُ وخيّبوهُ
ولو قدروا على إيوان كسرى
لساموه الــردى وتعقّبــوهُ

هذا بعض من نقد المعري الصريح، القاسي، للمنافقين، المخادعين، المستغلين موقعهم الديني لنشر الفساد، فيما هم من الدين الحقيقي براء.
جلبت مواقف المعري المبدئية تلك عليه حملة إمّا هي ممن قصدهم المعري في نقده، أو ممّن أخذوا المعري في ظاهر قوله لا أكثر ولم يسبروا أغوار نقده وما قصده بحق.

بين أهم أولئك الذين انتقدوا، بل كفّروا المعري، بسبب من نقده القاسي ذاك، دونما كبير بحث أو تنقيب في عمق الألفاظ وعدم الاكتفاء بظاهرها، فشككوا بصحة إيمانه من المعاصرين له أو بعده بقليل، القاضي أبو يوسف القزويني، وأبو الوفاء بن عقيل، وابن الصافي،والقاضي أبو جعفر الزوزني، وأحمد بن محمّد الأخشيتكيي (لعلَّه الأخشيدي) وآخرون…

في الاتجاه الثاني، المتحفظ ، نجد طه حسين، وآخرين، ممّن أمسكوا عن جعل المعري في معتقد محدد. وحجتهم في ذلك التباين، بل «التناقض» أحياناً، بين أقوال المعري المتضمنة آراءه في غير موضوع ومكان: في الموقف من الأنبياء، والمَعاد، والجنة والنار الماديتين، والعقل، والقياس في الدين، والإمامة، وعناوين أخرى أساسية.

ويتسلّح هؤلاء بشكوك أبداها المعري في أكثر من مكان، أمسك فيها عن إثبات أي شيء حقيقي أو نهائي. بل هو اعتبر غير مرّة أن بلوغ الحقيقة من باب المحال. فلنتأمل قولَه:
أمَّا اليقينُ فلا يقينَ وإنّما
أقصى اجتهادي أن أظنّ وأحدسا

وفي هذا الباب أيضاً، تردُّد المعري وحذرُه، وهو منتهى الأمانة، في إثبات رأي أخير في أيّة مسألة حاسمة، بل تحتمل جميعها النفي والإيجاب، يقول (في اللزوميات أيضاً):

ويعتري النفسَ إنكارٌ ومعرفةٌ
وكلّ معنى له نفيٌ وإيجابُ
وقولهُ في إطارٍ أوسع بكثير:
دينٌ وكُفرٌ وأنباءٌ تُقَصّ وفــر
قانٌ يُنَصّ وتـــوراةٌ وإنجيل
في كل جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها
فهل تفــرّد يوماً بالهدى جيلُ

سؤال المعري برسمِ تاريخ الأفكار والديانات بأسره: «هلّ تفرّد بالهدى جيلُ؟»
لا يعنينا الجواب الآن، وإنما فقط الإشارة إلى تردد المعري في إثبات أو نفي «حقائق» الدين والفكر. ويلفت هنا أنّ نقد المعري لم يقتصر على هذا الجانب دون ذاك؛ وإذا كان البعض لم يرَ إلّا نقده للتجارب الدينية، فاللزوميات تتضمن عشرات حالات النقد للقياس العقلي أيضاً، كما للفلسفة، وللتصوف، وللتفسيرات الباطنية، وللإمامة، وسواها. فلا تكاد تجد له موقفاً محدداً من مسألة معينة، حتى تجد له في المسألة نفسهاً رأياً مخالفاً. وعليه، يصعب جعل المعري في موقف أو رأي محدد، بل هو ناقد لكل شيء تقريباً، لا يجد الحقيقة الأخيرة في شيء – خلا الموت، الذي رأى فيه المعري حقيقة تعلو كل شكّ:

سألت عن الحقائقِ كلّ يومٍ
فمــا ألفيتُ إلّا حــرفَ جَحدِ
سوى أنّي أموتُ بغير شَكٍ
ففي أيِّ البلادِ يكون لحدي؟

ولكن، كي لا يُساء تفسير شكوك المعري، فهو قد أثبت في كل الأمكنة وجود إلهٍ خالقٍ حكيم؛ وتسقط بذلك دعاوى من اتهمه بالإلحاد – وفي اللزوميات عشرات أبيات الشعر المُثبِتة لإيمان المعرّي ذاك، ومنها:

أثبتُ لي خالقاً حكيماً
ولستُ من معشر النُّفاةِ

أو قوله:

يثبتنَ ربّاً قديراً لا كفاء له
وما عمدتُ لغير الله إثباتا

بل هو يدعو لتركع وتسجد وتتهجّد لإله كهذا:

إركع لربّك في نهارك واسجُدِ
ومتى أطلت تهجّداً فتهجّدِ

وقولٌ أخير له في الموضوع يُظهر إيمانه بالله حقيقة تامة تشمل الأرض والسماء، يقول:

قضى الله فينا بالــــذي هو كائنٌ
فتمّ وضاعت حكمة الحكمـاء
وهل يأبقُ الإنسانُ من ملكِ ربّهِ
ويخرجُ من أرضٍ له وسماءِ

بل يذهب طه حسين في كتابه «مع أبي العلاء في سجنه» أبعد من ذلك في نفي أي معتقد، أو رأي نهائي، للمعري؛ فيعتبر أنّ شيخ المعرة إنّما كان يستعرض مهاراته التي لا حد لها، كنوع من «اللعب» اللغوي.

لا يذهب الكثيرون مذهب طه حسين، لا في شكّه، ولا في نظرية «اللعب اللغوي». وقد ردّ كثيرون على عميد الأدب العربي طه حسين في نظرية اللعب تلك. أكتفي بردّ الشاعر العراقي معروف الرصافي الذي أصدر بعد وقت قصير من صدور كتاب طه حسين عن المعري (1946) كتاباً ردّ فيه على طه حسين مفنِّداً نظريته في أن المعري ملأ فراغ وقته بالألاعيب اللغوية. يسمي الرصّافي المعري (الإمام الأوحد فيها (علوم اللغة) بين أهل زمانه) ص 38، ويردّ بعد ذلك مباشرة على رأي طه حسين السابق مفنّداً إياه، يقول:»…إنّ أبا العلاء الذي عرفنا أخلاقه في اللزوميات أجلّ وأعلى من أن يريد من الناس إكباره والإعجاب به» (الرصافي «على باب سجن أبي العلاء» ص45). ويردّ عليه في نقطة أُخرى، فيقول: «كل من كتب عن أبي العلاء في هذا العصر عَزاه إلى التشاؤم، وعزا تشاؤمه إلى فقد بصره الذي جعله ساخطاً على الحياة لا يرى فيها خيراً ولا يوجس منها إلّا شرّاً. ونحن لا نوافقهم على ذلك، بل نقول: إنْ كان المُراد بالتشاؤم الذي يتهمون به أبا العلاء السخط على الحياة….فإن سخطه هذا لا يُعدُّ تشاؤماً…فسخطه يؤيده العقل الصريح، والفكر النافذ والاختبار الطويل والتجربة الصادقة، ومتى كان السخط كذلك كان سخطاً علميّاً فلسفياً لا ظنّياً ولا وهمياً؛ فليس هو إذن من التشاؤم في شيء…. وأقواله في اللزوميات (تدلّ) على أنه لا يُماشي إلّا الحق ولا ينفر إلّا من الباطل ولا يتحرّى إلّا الحقيقة ولا يستنكر إلا القبيح»(51-52)

إلى ذلك، نقول أن شكّ أبي العلاء لم يكن لغواً، ولا شكاً في سبيل الشك، بل شك في سبيل الوصول إلى اليقين على قاعدة صلبة ثابتة. كذلك كان شك سقراط، والغزالي، ثم ديكارت حديثاً: الشك هو الطريق الموثوق إلى اليقين.

الشيخ عبد الله العلايلي

أما التناقضات التي نجدها في آراء فيلسوف المعرّة، وقد أخذها عليه طه حسين، فتنجلي بسهولة إذا تجاوزنا ظاهرها وبلغنا عمقها وأدركنا جوهرها. إنَّ فَهم ما قاله المعري في ستين سنة لا يمكن فصله عن سياق ما قيل، أي تاريخه وموقعه، واللزوميات لا تسعفنا إلى ذلك. وقد أشرت إلى الصعوبة تلك في بحثي الذي أسميته «المعري شاعر الفلاسفة، وفيلسوف الشعراء» ضمن كتابي «في الأدب الفلسفي» قبل ثلاثين سنة؛ وقد أوضحت في سياق البحث أن ترتيب القصائد أو النُّتف الشعرية في اللزوميات وفق ترتيب أبجدي يأخذ بآخر حرفين في القافية (وهذه صعوبة لغوية لم يسبق المعري إليها إلا القليل)، تشهد على مدى إبداع المعري اللغوي والشعري، لكنها لا تفيد في ترتيب أفكاره: فالمطلوب، كما قلت في بحثي عن المعري، «تحقيب» شعره، أي مُراعاة الترتيب الزمني للقصائد، لنكتشف إذ ذاك الأفكار التي انتهى إليها شيخ المعرّة.
والاتجاه الثالث، للعلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي، وفيه رأي بل نظرية متكاملة، جديدة تماماً على الباحثين في المعري جميعاً،
يذهب العلايلي إلى أن للمعري فلسفة متكاملة، فلسفة الكون – اللغوي، إذا صحّ التعبير، وهي نظرية جديدة متفرّدة للعلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي في فهم معتقد المعري بسَطها في كتابه: «المعرِّي ذلك المجهول» الصادر سنة 1981.

يقدّم العلاّمة العلايلي في كتابه أعلاه تصوره الخاص لملامح نظرية فلسفية متكاملة تسكن نتاج المعري الشعري. فالمعري، حسب العلايلي، هو أوَّلاً وآخراً اللُّغوي الذي لا يُبارى، وعليه فقد استخدم المنهج اللغوي «لا قصد التعبير فقط، بل قصد التعليل والإدراك الكلي أيضاً… وطريقته إلى التصور الفلسفي تُحْسَبُ أشدّ طرافة وأكثر غرابة واستهواء.» (ص 36)

وانطلاقاً من قاعدة أن اللغة العربية «التي هي اللغة التامة»، رأى العلايلي أن المعري ذهب بهذه اللغة لتعبّر عن ظاهرات الطبيعة والوجود نفسه، وعن كل مظاهر التغيير في عالم الكون والفساد، وأنّ في اللغة أشياء الحياة كلها، وفي اللغة إعلال وتصحيح وفعل وانفعال وتفاعل، وفي اللغة تضعيف وإدغام واشتراك، ويضيف: «أليس في اللغة جسم وروح كاللفظ والمعنى؟ أليس في اللغة عالم غيب وعالم شهادة في المُضمَر والمضمِر، قال:
ما زال مُلكُ الله يظهرُ دائباً
إذ آدمٌ وبنوهُ، في الإضمار

….إذاً، ففي اللغة طبيعة وحياة ومجهول، أو هي عالم كامل عن عالمنا وهي أكثر تعبيراً عن كل هذا، من عالمنا المُحجب. فلماذا لا تكون اللغة هي الجانب الناطق عن ذلك الجانب الصامت، لا سيّما وهناك من لا يشكّ في أنها توقيف أي وحي، ومن لا يشك في دلالة العدد بينما اللغة تبطنه» (37-38).

ويخلص العلايلي إلى ما يلي: «هذا شيء لم يصرّح به أبو العلاء ونحن لا ننتظر منه تصريحاً، وهو الذي يبعثر بالقصد إشارات الطرق آخذاً على الآخرين سبيل الوصول إليه، وإنما ذلك شيء نحن نستنتجه استنتاجاً من إيماءاته، وبمعاناة غير يسيرة…. كما لا يستقيمُ تفسيره بالعبث تحلية وتوشية وبالتصنّع براعة وتفوقاً، قال:

من يبغِ، عنديَ، نحواً أو يُرِد لغةً
فما يساعفُ من هذا ولا هـــذي
يكفيكَ شرّاً، من الدنيا، ومنقصـةً
أم لا يبين لك الهادي من الهاذي

كان العلايلي يَرُدّ، من دون تسمية، على طه حسين الذي اعتبر أن إبداعات المعري في اللغة كانت نحواً من العبث وإظهار البراعة والتفوق.

العلاّمة العلايلي، ومن دون أدنى شك، هو من اقترب إلى حد المضاهاة والتطابق من منهج المعري اللغوي، ولعله في التميّز والتفرّد والتبحّر الأكثر قرباً من الجميع إلى المعري. إلّا أن مجال البحث الضيّق لا يسمح الآن بأكثر من مجرد الإلماح إلى نظرية العلايلي، على أن نعود إليها في عمل أوسع قريباً.

يبقى الاتجاه الرابع، والأخير، وخيرُ من عبّر عنه هو الأديب مارون عبّود في كتابه «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور». نظرية الأديب الكبير مارون عبود في تفسير مُعتقَد المعري تذهب في اتجاه مختلف تماماً عمّا رأيناه حتى الآن. باختصار، هي تجعل المعري أحد أتباع، بل أسياد، «مذهب التوحيد»، على طريقة الحاكم بأمر الله الفاطمي. وسنشرح النظرية الأخيرة هذه، نظرية مارون عبّود، مع بعض التوسّع نظراً لفرادتها، وريادتها، وأهميتها.

الأديب مارون عبود

بذل الأديب المبدع مارون عبّود في كتابه («أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور»، 1946)، جهداً استثنائياً للدفاع عن نظريته في معتقد أبي العلاء المعرّي، ومؤدّاها باختصار، وبمفردات مارون عبّود: «فاطمية أبي العلاء» (ص 72). ويوغل مارون عبّود في المزيد من التعيين والتحديد لعقيدة أبي العلاء فيقول على نحو لم يسبقه إليه كاتب آخر: «وليس كتاب لزوم ما لا يلزم غير كتاب الإخوان، فلينعم إخواننا الدروز بالاً وليطمئنوا في خلواتهم، فإن إمام الدعوة الفاطمية الخالد لم يشكَّ لحظة «بالمذهب» وما ارتدّ قط.» (ص 68) ويضيف:
«لستُ أقول أن أبا العلاء درزيٌ اسماً، فقد سمّوهم هكذا بعد. ولكني أقول أن مذهبهم مذهبه، وأنّ ما نراه اليوم عند الطبقة «المُتَنَزِّهة» من تقشفٍ وزهدٍ في الدنيا مأخوذٌ من اثنين: الحاكم بأمر الله، وحواريِّه، أبو العلاء المعري» (ص 68)

ويمضي مارون عبّود قُدُماً في تفسير حياة المعري، وبخاصة بعد عودته من بغداد (400 للهجرة)، وفي تفسير اللزوميات على وجه الخصوص وفق منهج مقارن دقيق يقود بجلاء إلى مطابقة أفكار المعري، ومعتقده، مع الأفكار الفاطمية، وبخاصة مع الأفكار المتفردة التي دعا إليها الخليفة الفاطمي السادس (أفكار التوحيد) باعتبارها أعلى درجات العرفان، بل الإحسان، التي أوردها القرآن الكريم في غير صورة وموضع.
ينطلق مارون عبّود من مُقَدَّمات منطقية وتاريخية في آنٍ معاً، لإثبات فكرته في أن معتقد المعري هو في خط يقين أهل التوحيد. أُولى مقدَّماته، إيمان المعري المُطلق بالعقل، يقول:
«أمّا العقل العلائي فهو العقل اليوناني الفيثاغوري بعينه، وكذلك العقل الفاطمي، والنفس والجسد العلائيان فيثاغوريان أيضاً؛ فهو يرى كما يرى الفيثاغورويون أن الطهارة في خلاص النفس من البدن، لأن الجسد قبرٌ للنفس وهو عدوها اللدود، وفي هذا قال المعري:

أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عـن الخبــر النـبيثِ
لفَقدي ناظري، ولـزومِ بيــتي
وكونِ النفس في الجسد الخبيثِ

…والفيثاعورية كالمُنظَّمات الدينيّة اليوم، عاش أعضاؤها في عفَّةٍ وبساطةِ لبسٍ ومأكل، وقد حَرّمت أكل لحم الحيوان وبعض النبات – كما حرّم الحاكم أكل الملوخية مثلاً» (106-107).

بانتساب المعري إلى المنهج العقلي الصارم، بات مفهوماً تبرّمه مما يخالف العقل من أفكار جارية لم يجرِ التدقيق فيها. ومنها مثلاً نقده فكرة الإمامة واعتباره العقل وحده إماماً، حين قال:

يــرتجي النـاسُ أن يقــوم»إمامٌ
ناطقٌ» في الكتيبة الخرساء
كذبَ الظنّ لا إمام سوى العقلِ
مشيـراً في صبحه والمساءِ

وإذا قال قائلٌ أنّ المعري بنفيه الإمامة إلّا عن العقل إنما يخرج عن المذهب الفاطمي، يردّ مارون عبّود: «وهذا الظنّ منتهى الشطط لأن «الإمام» يتوارى في قمّة الدعوة الفاطمية – الدعوة التاسعة – ويحلّ محله العقل. يصير الإمام رمزاً لمعنى ليس أكثر» (106).
ويخلصُ مارون عبّود في نهاية الفصل المتعلّق بمعتقد أبي العلاء المعري إلى ما يلي:
«وإن تتبعني أيها القارئ الكريم بعد أن تتجردَ من ذاتك التقليدية فستعود من رحلتنا هذه وأنت واثقٌ مثلي أن شيخ المعرّة هو إمام المذهب الفاطمي، وكتاب «لزومياته» هو كتاب المذهب، وإنما عليك أن تقرأ ما كتبتهُ بإمعان، وتتبحَّر في عبارات «الدعوات التسع» فتدرك مثلي وتبصر» (ص 74).

هو ذا مضمون رأي مارون عبّود في معتقد أبي العلاء. ومارون عبّود ليس بالكاتب المبتدئ ليبغي شهرة من نظريته، ولا بالحدث المتهوِّر الذي يلقي برأيه جزافاً من دون تقصٍّ وبحث وأسانيد. وهو ما فعله مارون عبود في كتابه «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور». فقد وقف الكتاب بأكمله ليثبت بالقرينة والدليل والسند والمقارنة أنَّ ما اقترحه من نظرية أو رأي مطابق كليّاً للوقائع التي أحاطت بحياة أبي العلاء، وللأفكار التي بثّها في شعره، تصريحاً في القليل القليل منه، وإلماحاً وتضميناً في عشرات القصائد أو أبيات الشعر المتناثرة – عمداً – والتي عرض لها مارون عبّود في كتابه.

حاشية أخيرة

حدود المقالة الضيّقة، كما كل مقالة، لم تسمح بالمزيد من التفاصيل والاقتباسات، في ما خصّ مُعتقد المعري تحديداً – ناهيك عن حياته، وثقافته، وأعماله، وكلٌ منها تتطلَّب مبحثاً مستقلاً. لذلك أنصح قارئي أن يعود إلى أعمال المعري نفسه وبخاصة ديواناه: سقط الزند واللزوميات؛ وأن يعود إلى كتاب الشيخ العلايلي «المعرّي ذلك المجهول»، وكتاب شيخ الأدباء مارون عبّود «أبو العلاء المعري، زوبعة الدهور»، ففيهما من التفاصيل والقرائن ما يدفع بالبحث في معتقد شيخ المعرّة، كما أعماله، أشواطاً عدة إلى أمام.

الحِوار عندَ المُوَحِّدين الدروز

المُقدَّمة

حين يَعتبر بابا رومه الأسبق القديس يوحنا بولس الثاني سنة 1997 أنّ لبنان «رسالة سلام للعالم»، وعندما يصفه الرئيس الإيراني محمّد خاتمي سنة 2003 أنه «أرض الحرية والحوار»، تشعر كلبناني بمسؤولية عميقة نحو مفهوم الحوار، ودوره في تكريس الحرية والسلام، وليس فقط على صعيده الداخلي، بل كأنموذج يُحتذى به في العالم.

إنّ المؤسسات العاملة في مجال الحوار في لبنان متنوعة، والشخصيات التي تعاطت الحوار أيضاً متعدّدة. ولكنّ اختيار شخصية الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، أتى كأنموذج لبناني للحوار، من طائفة الموحّدين الدروز، وذلك للتركيز بعمق على دوره في هذا المجال، وخاصة في الحوار الديني بين المذاهب والطوائف اللبنانية، بهدف الاستفادة من مفاعيله الإيجابية، على صعيد الامتثال بصفات هذه الشخصية ومسلكها في ممارسة هذا المفهوم.

المبادئ الأساسية للشخصية لتحديد سقف الحوار وأهدافه

وُلد الشيخ د. سامي أبي المنى سنة 1957، في قرية شانيه من قضاء عاليه في محافظة جبل لبنان، في عائلة تعود بجذورها إلى التنوخيين؛ عائلة ملتزمة مذهبيّاً، ورثت من أحد الأجداد (الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى، ت 1272 ه)، وهو شيخ تقوى، المنزلَ والرسالة. لم يمنع التزام العائلة المذهبي الشيخ الفتى وأخاه من إتمام دراستهما في المدرسة الداوودية في عبيه ومن ثم في ثانوية بعقلين الرسمية في المرحلة الثانوية، ليكونا من أول مجموعة من الشباب المشايخ الذين يلتحقون بصرحها.

بدأ التدريس في مؤسسة العرفان التوحيدية، مساهماً بإدخال ثقافة المواطنة إلى برامجها، وكذلك «التربية التوحيدية» التي جعلت شعارها «تهذيب أخلاق الناشئة وصقل حسّها الإنساني»، مركّزةَ على القيم المشتركة بين جميع الأديان، ومنها التقوى وتوحيد الخالق وتعداد مكارم الأخلاق من كرم وشجاعة وصدق… مستشهدة بذلك بآيات قرآنية وأقوالٍ إنجيلية وعِبر من سير الأنبياء والصالحين.

انطلاقاً من صفات مسلك التوحيد «كمسلك ارتقاء ومسافرة في عالم المعرفة لبلوغ الحكمة»، عمل الشيخ على معرفة ذاته أولاً، ومسلكه التوحيدي تالياً، قبل الولوج في عملية معرفة الآخر من خلال الحوار.

معرفة الذات أصبحت لديه ثقافة ذات «سلوك ومسلك». رسم مسلكه التوحيدي من خلال ما تعلّمه من فكر إخوانه «الشيوخ الموحدين وتجاربهم»، ليحيا التزامه الروحي «مقتنعاً بأن العمل يجب أن يكون مجرّداً وهادفاً إلى إيصال الحقيقة وتقديم المعرفة الأمينة»، وعندما أنارت المعرفة طريقه، اختار تسطير كتابه «المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز الخصوصية والاندماج». وضع القاضي الشيخ محمّد النُّقَّري هذا الكتاب في «قائمة المراجع الأساسية التي ستفتح لأبناء المذاهب الإسلامية ولأتباع الديانات الأخرى آفاق المعرفة الصادقة والأمينة لطائفة الموحدين الدروز». أثار هذا المؤلَّف د. نايلا طبَّارة التي اعتبرت أن «هذا الكتاب يدعو إلى الحوار على قاعدة التوازن بين الخصوصية والاندماج من خلال الحفاظ لكل طرف على حقّه بمساحته الخاصة حين يذهب بموازاة ذلك إلى المساحة العامة بصدق النيَّة وبإيمان بأهمية الشراكة والأخوّة في الوطن» مطالبة «اعتبار هذا الكتاب جزءاً من الإرث الثقافي اللبناني المشترك والجامع ليس فقط لإكمال المعرفة بطائفة الموحدين الدروز بل بالهوية اللبنانية الجامعة».

أصرّ الشيخ د. سامي على معرفة الآخر والحوار معه، فكان كتابه «الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان: رؤية الموحدين الدروز» خير معبِّرٍ عن ذلك، وقد قال فيه د.سليم دكاش «جعل من معرفة الذات من الوجهة السقراطية سبيلاً لمعرفة الآخر واحترامه لأن الصدق مع الذات يقود حكماً للصدق مع الآخر». أمّا د. أحمد حطيط فاعتبر أن الشيخ تصدّى في كتابه «لمسائل شائكة، قضّت مضاجع الحوار، فدرس ماهية هذه المسائل وعلّل أسبابها، متوقفاً عند ظروفها التاريخية وخلفياتها السياسية الداخلية والخارجية، وقارب حقائقها». أكّد د. عباس الحلبي، وهو أحد أركان الحوار الإسلامي المسيحي وأوّل من سلك هذا الطريق بجدارة، أن الكاتب كان جريئاً حين ذكر «الفتن الطائفية كمحطات مأساوية موضحاً أن لبنان لا يقوم ولا ينهض إلّا بوحدة أبنائه وبنسج علاقات راقية قائمة على الود واحترام الآخر»، ليفيد د. سهيل مطر أن الشيخ يكمل بذلك «مسيرة المصالحة بتنقية الذاكرة وبدونها تبقى حزازات الصدور كما هي»، حين عمل على إزالة المفاهيم الخاطئة عن الموحدين الدروز، وأبرز هويتهم الحوارية، وبيّن خياراتهم حول الدولة والوطن والسلام وقضية العيش المشترك والمواطنة.

ورث الشيخ موهبة الشعر عن والده، ولُقّب بـ «شاعر الجبل وخطيب الموحّدين». استغل الشيخ هذه الموهبة في تثمير منهج الحوار، والانفتاح على الآخر وقبوله، مسمياً إياه بـ «الأخ» في كل قصائده، مظهراً القيم الأرقى في الديانتين الإسلامية والمسيحية، ناشداً السلام، نابذاً التخوين والتعصّب، معتزّاً بهويته اللبنانية وبتاريخها العريق.

لم يقتصر النشاط الحواري للشيخ سامي على صعيد لبنان، بل تعداه إلى المحيط العربي والإسلامي، حين وُجّهت له دعوة شخصية لحضور مؤتمر تحت عنوان «الحرية والمواطنة،…التنوع والتكامل» بتاريخ 28 شباط والأوّل من آذار سنة 2017، في الأزهر الشريف في القاهرة بدعوة من مجلس حكماء المسلمين، إلى جانب 55 شخصية لبنانية من بين 200 شخصية عالمية تمّت دعوتها إلى هذا المؤتمر.

السعي إلى المعرفة من خلال كليّة العلوم الدينية في جامعة القديس يوسف

تابع الشيخ د. سامي دراسته الجامعية في الجامعة اللبنانية؛ الإجازة والدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها، خلال فترة حرب لبنان، وبعد انتهاء تلك «الحرب المشؤومة»، وانسجاماً مع شخصيته الداعية إلى «الحوار والمصالحة»، وسعياً إلى «العلم كهدف دائم الذي لا تحدّه حدود»، وجد غايته أي «التقريب بين المسلمين والمسيحيين» في جامعة القديس يوسف وتحديداً في كلية العلوم الدينية – معهد الدراسات الإسلامية المسيحية، ليتخرج منها بشهادة دكتوراة في العلاقات الإسلامية-المسيحية، انسجاماً مع «سمات حقيقة الجبل ورسالته» مندفعاً بفرح «في مجالات الحوار والعلاقات والمصالحة مع أخيه الذي تصادم معه»، ليكون المتخرج الأول من طائفة الموحدين الدروز من هذه الكلية، مشجعاً وداعماً للعديد من إخوانه الموحدين لمتابعة هذا الاختصاص.
كتب في نشرة «في رحاب الحوار» في الجامعة ما يؤكد سعيه إلى معرفة الذات والتعريف عنها في سبيل الانطلاق إلى معرفة الآخر والحوار معه، وشارك في صياغة مقالات نُشرت في سلسلة «دراسات ووثائق إسلامية مسيحية»، ومنها على سبيل المثال، في النشرة الصادرة تحت عنوان «وجوه حوارية إشكالية ورواد كبار وتوقعات مقارنة».

قرّر «مكتب اليونسكو الإقليمي- بيروت» سنة 2008، بالتعاون مع «كرسي اليونسكو للدراسات المقارنة وللحوار بين الأديان، جامعة القديس يوسف- بيروت»، إصدار كتاب «المظاهر الثقافية في الديانتين المسيحية والإسلامية». أشرفت على إعداد هذا الكتاب لجنة استشارية ضمّت الشيخ د. سامي أبي المنى الذي شارك ايضاً بالكتابة والصياغة.

دور الشخصية في الحوار من خلال مؤسسة العرفان التوحيدية

شكّلت مؤسسة العرفان التوحيدية، بصفتها المؤسسة التربوية الأولى عند الموحدين الدروز ذات الطابع الديني، والتي كما ذكرنا أن الشيخ سامي انتسب إلى عائلتها التربوية، نقطة الوصل له مع المؤسسات التربوية الأخرى، والتي فتحت له باب التعارف معها. إنّ تجربة الحرب الأهلية (1975-1989) دفعت الموحّدين الدروز إلى تبنّي فكرة الحوار، وحمّلت المؤسسة التربوية المسؤولية بمساعدة هذا التوجه العام، فكان التكامل بين شخصية الشيخ سامي والمؤسسة.

ساهم، بصفته الأمين العام لهذه المؤسسة، بتشجيع طلاب العرفان على المشاركة في نشاطات طلابية، تلاقي فكرتي الحوار والعيش المشترك، في حرم المؤسسة أو تلبية لدعوات من مؤسسات تربوية أخرى، تتبع إلى مرجعيات دينية مختلفة. وشارك الشيخ سامي، بمختلف النشاطات التي رعتها مؤسسة أديان وجمعية تصالح، عبر طلاب العرفان، تثميراً لفكرة معرفة الآخر والحوار معه لترسيخ العيش المشترك.

دور الشخصية في الحوار من خلال المجلس المذهبي للموحدين الدروز

ترأس الشيخ د. سامي أبي المنى اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي للموحدين الدروز، لثلاث دورات انتخابية. عملت هذه اللجنة على إقامة النشاطات الثقافية وساهم الشيخ سامي كرئيس لها في قِمم ولقاءات روحية، كما قامت اللجنة بتحضير لقاءات حول مواضيع حوارية متنوعة.

كلّ ذلك ساهم ببروز شخصيات عدة من الموحدين الدروز تتابع عمليات الحوار إلى جانبه. وبما أنّ «الثقافة أوسع من الدين»، عمل الشيخ على تكريم أوجه ثقافية متعددة، ساهمت في نقل المعرفة، وتوسيع ميدان الثقافة.

السعي إلى تحقيق الحوار من خلال مؤسسة أديان

بدأت علاقة الشيخ د. سامي أبي المنى مع مؤسسة أديان، من خلال تمثيله لمؤسسة العرفان التوحيدية خلال المشاركة بأنشطتها المتنوعة، والتي تنطلق من مفاهيم حوارية، ليصبح عضو شرف فيها، وأتت مشاركته في العديد من نشاطاتها، ومنها؛ مشاركته كممثل لمؤسسة العرفان التوحيدية في وثائقي «عكس السير» سنة 2011، ومواكبته مشروع «التربية على المواطنة الحاضنة للتنوع الديني»، بمراحله المتعددة.

أثمرت الشراكة بين مؤسسة أديان، ومنتدى ويلتون بارك البريطاني للحوار الاستراتيجي، ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، ومقرّه في الإمارات العربية المتحدة، «انطلاق سلسلة مؤتمرات تهدف إلى الحوار بين القيادات الدينية والسياسية، حول المواطنة الحاضنة للتنوع، وكيفية تأصيل هذا المفهوم دينياً وتطبيقه عملياً، خاصة في الدول العربية». انعقد المؤتمر الأول في أبو ظبي من 12 إلى 14 تشرين الثاني/ نوفمبر2018، باجتماع 50 شخصاً من القيادات الدينية وصانعي السياسات، من 18 مؤسسة إقليمية ودولية و11 بلداً مختلفاً، ومن بينهم الشيخ سامي، ليتمّ استكمال الحوار في مؤتمرات متتالية، بهدف التوصل إلى إطلاق «الشرعة العربية للمواطنة الحاضنة للتنوع»، والمتوقع التوقيع عليها في صيغتها النهائية سنة 2021.

بعد توقيع قداسة البابا فرنسيس- بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الدكتور أحمد الطيب – الإمام الأكبر للأزهر الشريف، بتاريخ 4/2/2019، على وثيقة «الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» في عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة أبو ظبي، وتعزيزاً لهذه «الحركة الإنسانية الحوارية» في لبنان، عملت اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز بشخص رئيسها الشيخ د. سامي أبي المنى، بالاشتراك مع مؤسسة أديان، وبالتنسيق مع السفارتين البابوية والإمارتية، على تنظيم «ندوة حوارية» حول هذه الوثيقة في مكتبة بعقلين الوطنية بتاريخ 23/3/2019.

الدور في ترسيخ مصالحة الجبل

منذ العام 2007، تحتفل مؤسسة أديان بيوم التضامن الروحي «في السبت الأخير من تشرين الأول/أكتوبر من كل سنة»، بلقاء شعبي بين الأديان للاحتفاء بالقيم المشتركة فيما بينها. من بين هذه اللقاءات، تبنّى الشيخ سامي إقامة لقائين لـ«أديان» بإشرافه، أولهما جرى سنة 2012 في قرية عبيه، إحدى قرى العودة في قضاء عاليه، الذي حضر في جزء منه سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن مستقبِلاً، في ما شارك الشيخ سامي في هذا اللقاء حضوراً وتحضيراً له، بصفته رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز، والثاني في قرية بريح الشوفية سنة 2016، حيث تمّ في نهاية الاحتفال تسمية الشيخ سامي عضو شرف في مؤسسة أديان تحت لقب «شاعر التضامن الروحي» لشهادته المميزة في «خدمة التنوع الديني الذي يبني الوحدة».

شارك الشيخ سامي في متابعة مصالحة الجبل في قلب المجتمع بالتعاون مع جمعيات أهلية وشبابية، من خلال مشاركته في المؤتمرات التمهيدية الأولى في بيت الدين ودير القمر، ومن خلال دعوة «لقاء أبناء الجبل» في عبيه سنة 2017، حين أُطلق على هذا اللقاء لقب «العامية» الذي انعقد تحت شعار «سوا ما منترك جبلنا…»، بمشاركة جمع من أبناء الجبل مسيحيين وموحّدين في دار مقام الأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي في عبيه، والذي انبثق عنه وثيقة تضامن تاريخية لأبناء عبيه والجوار. بدعوة من لقاء أبناء الجبل أيضاً، وبمشاركة الشيخ سامي، تمّ عقد ندوة في جامعة سيدة اللويزة (NDU) تحت عنوان «دور المدرسة والجامعة في ترسيخ العيش المشترك»، وندوة أخرى في الجامعة الحديثة للإدارة والعلوم (MUBS) في عاليه بتاريخ 5/8/2018 بعنوان «مصالحة الجبل في قلب المجتمع».

المساهمة في تأسيس كلية العلوم التوحيدية ودورها في عملية الحوار

باحتاج الموحدون الدروز إلى مؤسسة جامعية تنظّم تلقي العلوم التوحيدية لديهم، وقد كان ذلك حلماً قديماً لكمال جنبلاط كان يراه على مثال «دار الحكمة» القائم في القاهرة في زمن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله. عمل الشيخ سامي مع القيّمين في العرفان على تنظيم مخطط تربوي لكلية جامعية بالتعاون مع الدكتور سامي مكارم والشيخ غسان الحلبي، لكنه بقي بين طيات الورق حتى نقله الشيخ سامي كعضو مجلس إدارة في المجلس المذهبي إلى مشيخة عقل الطائفة، التي تبنته في ما بعد وتابعت اللجنة الدينية تفاصيله، بتوجيه من سماحة شيخ العقل، مع الإدارات الرسمية حتى تأسيس «كلية الأمير السيد عبد الله التنوخي الجامعية للعلوم التوحيدية» سنة 2018. ينتسب إلى هذه الكلية طلاب موحدّون يسعون؛ إلى معرفة الذات من خلال اكتساب المعرفة ونقلها كأساتذة فيما بعد إلى تلاميذ المدارس التي تحتاجهم، وإلى معرفة الآخر وحمل راية الحوار حين اللقاء معه، مزوّدين بعلوم دينية وتاريخية واجتماعية وثقافية متنوعة.

الحوار مع الآخر من خلال علاقته بالجنس الآخر
د. نايلة طبّارة

تميّزت شخصية الشيخ سامي، بالتوازن بين موجبات الالتزام الديني الذي يحمله، ومتطلبات الحياة المهنية والاجتماعية التي يمارسها. لم يمنع هذا الالتزام الشيخ المتديّن من التعاطي مع السيدات باحترام ووقار ونِدِّيَّة تحكمها معايير العلم والمعرفة. تراه يشارك في نشاطات ثقافية لتقييم أعمال سيدات ارتقين في المجال الأدبي، أو داعياً لأساتذته ومن بينهم النساء لنقد كتابٍ أنتجه. لم يتجنب يوماً الجلوس على منبر واحد مع سيدات يقدّمن حفلاً ثقافياً، أو يناقشن عملاً تربوياً، ولكن وفق ما تفرضه عليه ظروف وضعه الديني. تراه يشجع مدرّسات مؤسسة العرفان التوحيدية على إكمال تحصيلهنّ العلمي، ويكرمهنّ في المؤسسة حين ينلن أرقى الشهادات. تجده ينصح ويوجه ويرشد سيدات طلبن المشورة في أمور استعصت عليهنّ، دون تمييز لهنّ عن الرجال.

الخاتمـة

إنّ مسلك الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، في موضوع الحوار، جعلني أصيغ الخاتمة بما أفاد عنه عارفوه، حين تقول د. نايلة طبَّارة إنّ «الشيخ د. سامي لعب دورًا أساسيا ومِحْوَريا في الحوار، إذ كان أهم من أطلق الحوار من جانب الموحّدين الدروز مع الفئات كافة. فكان بشخصه الواضح وقيمه الثابتة ودقّته في الحوار والمفاهيم، ما ساعد إلى اطمئنان جميع الأفرقاء، مسلمين ومسيحيين من كافة الطوائف إليه. كما أن منهجيته التي تقول بوضوح ما يمكن مشاركته عن تاريخ وقيم وإيمان الموحّدين الدروز وما لا يمكن مشاركته، أيضًا ساهمت في ارتياح الجميع إليه وإلى الطائفة من خلاله. فعمل الشيخ على توضيح وإظهار صورة الموحدين الدروز، المبهمة عند الكثير من المسلمين والمسيحيين، وكان من رجال الدين الموحّدين الذي أكدوا أن الطائفة هي بالفعل مذهبٌ من مذاهب الإسلام. أراحت هذه الخطوة التعامل بين الجميع وأسهمت في تقارب إسلامي – إسلامي كما إسلامي- مسيحي من جهة الموحدين الدروز».
كما اعتبر د. أنطوان مسرَّة، أن ما يميز الشيخ د. سامي أبي المنى، هو ارتقاؤه في الحوار، لأن الحوار لديه هو «حوار إيماني أي يرتقي إلى ما فوق العقائد»، استناداً إلى مقولة إن «كل ما يرتقي يلتقي». كما التميُّز لديه في غَوْصِه في الجوانب الثقافية من خلال فكره وسلوكه، كما أنك في الحوار ترتاح إليه لأنه «لبناني أصيل، عربي أصيل، مؤمن أصيل، ومتجذِّر في التراث الوطني اللبناني».


المراجع:

  1. هذا البحث هو ملخص لدراسة أكاديمية نُشرت في مجلة «تحولات مشرقية» تحت عنوان «من رحاب الحوار إلى فلك الدولة»، في عددها الصادر في كانون الثاني 2021، بعدد من الصفحات بلغ 29 صفحة، تضمّ المصادر والمراجع التي استندت إليها الدراسة.
  2. أستاذة محاضرة في الجامعة اللبنانية.

شكيب أَحمَد تَقِيِّ الدّين

شاعرٌ مِهجريٌّ، تألَّقَ في النَّظم باكراً، واستقامت له القريحةُ الشعريّة، فأعطى من نفسه وفكره ما طابت له موهبته، على غرار كبار الشعراء في بلاد الاغتراب. هو ابن قاضي الشعراء، وشاعر القضاة، الشيخ أحمد عبد الغفار تقي الدين، من رعيل بناة عصر النهضة اللبنانية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، وابن عمٍّ لأبيه أمين تقي الدين، المُتَميز، والخالد في الشعر والأدب، إلى كوكبةٍ أُخرى بارزة، دخلت بدورها، وبعبقريتها وعلائقها صميم الإبداع الأدبي.

شكيب أحمد تقي الدين

وليس بغريبٍ على شكيب.. أن يترسَّمَ خُطى آبائه وأجداده، فالإنسان غالباً، ابنُ بَجْدَتِهِ، وصورةٌ عن تراثِهِ، وثقافتِهِ التي اكتسبها متأثراً بمحيطه، وتجاربه الاجتماعيةِ، والإنسانية، ولا سيما إذا اقتضت الظروف أن يبتعد عن وطنه، وأماكن عيشه الأولى، ومرابع طفولته، فتطغى عليه، وتغيّر من خط حياته، بشؤون وشجون، عُرِف بالصبر والحكمة، والانكباب على تثقيف نفسه، وكيف يجعل منها حافزاً لذات إنسانية حضارية، ما لبثت أن تفجَّرتْ شعراً أخّاذاً جميلاً أدّى إلى علاقات متينة مع كتَّابِ وشعراءِ المهجر، ما خلَّف إرثاً شعرياً ضخماً في البرازيل. وكما يقول الأديب الراحل نجيب البعيني: «كان شعره بين أدباء المهجر، وأمام العرب المغتربين، نبراساً ينير الطريق أمام الأجيال الصاعدة، ويبعث فيهم النّخوة العربية، والوعي القومي» وهل رسالة الأديب، في مجتمعه أينما كان وأينما حلَّ إلّا إيقاظ أبناء قومه وحثّهم على الرّقي؟

لم يَحَرْ شكيب بشعره ونثره، في أن يكون أصيلاً على خُطى الكبار من آل تقي الدين أسلافه، وهم كثرٌ في العَدِّ، أصحاب إبداعٍ وعطاء وعلم، وشهرة. فكان له كما جاء في المواثيق والمأثورات آنذاك يدٌ طولى في تأسيس غير جمعية أدبية، وإقامة الندوات الثقافية، وعقد الاجتماعات التي عززت من دور الشعر والأدب، وقد آل ذلك إلى إنشائه مع عدد من شعراء البرازيل رابطة أدبيةً أطلق عليها اسم «جامعة القلم» بعد أفول «العصبة الأندلُسية» الذائعة الصيت، ثم أسّس في سنة 1979 مع شعراء وأدباء «عصبة الأدب العربي» أربى عددهم على الأربعين. وما عَتَّمَ أن ترأس هذه العصبة، سنوات بحكم تميُّزه الأدبي ونشاطه الفكري، ويضم هذا الكتاب الذي نسلّط الضّوء عليه اليوم عدداً من القصائد، وبعض المقطوعات التي تميَّزت بالصدق في النظم، وبالإيمان، والحس والوجدان، إذ كان يرى في أمة العرب المُرتجى والمجد والتاريخ العريق، والأمل والطموح فقال مفتخراً:

لنا فيك يا قلب العروبة شافعُ
ومجدٌ وتاريخٌ وحُلْمٌ وواقعُ
وتحضرني نُعمى من الأمس بالذي
أُحسُّ، وتحدوني إليها دوافعُ
لنا فيك إيمانٌ كبيرٌ نُقيمُهُ
صَلاةً قد ارتاحتْ إليه الشرائعُ
حروف معانيها إذا ما تناحرت
لها شَبَواتُ في الزمان قواطعُ

ومن شيم الإيمان أنَّ حُماتَهُ
جبالٌ على قلب العدوِّ ضواجعُ

هكذا وبهذا السبك الشعري المتين راح ينثر حروف معانيه قوافي، تتلبس روحه السمحة، وإيمانه القوي الراسخ بقومه ومِنْعَة بلاده، قلب العروبة، معتزاً بماضيها وبجبالها التي كانت على قلب الأعداء موانَعُ وضواجعُ…

أدبٌ رفيع المستوى، جديرٌ بالدراسة بعمق، فهو على الصعيد الفني، يحفل بالصور، والأخيلة، والومضات الإنسانية، علاوة على ما به من طلاوة، ورؤىً تشد عقل القارئ ونفسه معاً، ففي قصيدةٍ يستحضر الحب بأوصاف وصور مختلفة:

واستحكمَ الحبُّ في حقلي، وأحصدُهُ
وأشتري بالحَصَادِ السمنَ والعَسَلا
وأُحرزُ البعضَ من صَدفٍ ومن حَطَبٍ
وأُصلح السَقْفَ والجدرانَ والخَلَلا
وأُحكمُ البابَ في فصلِ الشتاء لكي
أباعدَ الشَرَّ والأهواءَ والعِللا
واستقرُّ على رأي وقد هَجَمتْ
هُوجُ العواصفِ أَلَّا أفقِدَ الأملا

فهل تدق عليَّ البابَ عاصفةٌ
تنام ملء ضلوعي الآن والأزلا

وما أكثر النوازع والآفاق في شعر شكيب تقي الدين، في العناوين وفي التفاصيل التي يترجم بها عن أحاسيسه التي يحولها إلى مادةٍ أو فكرة سائغة تستبق الزمن الحاضر إلى آفاق من الضوء أو الطيب الرافلَين في المبدعات، إلى المستقبل الآتي:

ومالتْ جراحي إلى حقلةٍ
يرود مداها صدى المِعْوَلِ
لها حُلُمُ الزَهْرِ في تُربةٍ
وغنوةُ أُحدوثةِ الجَدْوَلِ
فمن ثَمَرٍ طابَ في غفلةٍ
شهيٍّ وأعذب من سَلْسَلِ
تساقَطَ ليلاً على نِيَّةٍ
تقول لعين الحسود كُلي

الشعر ليس نظماً وجَرْساً وقوافيَ وحَسْب، بل معانٍ جديدة، لم يُسْبَقُ صاحبها إليها، عشرات السنين من الهجرة لم تنسه بيته في الجبل، فظلَّ يحِنُّ إليه، وإلى جلساتِهِ وغفواتِهِ في ظلال سنديانةٍ عتيقة بين وردٍ وفلٍّ، وحيث هنالك بيت جدوده الأُوَل:

الشيخ أحمد عبد الغفار تقي الدين

أتعرِفُ بيتي بلحف الجبلْ
على جهة الشْرقِ من سنديانة
وسافرتُ في صبوتي للعملْ
ولم تُنسني الغفواتُ زمانَهْ
فزرتُ بلاداً، ولم ينتقلْ
ولمَّا يَزَلْ، رَغْمَ هَجْري مكانهْ
وأَعْرِف أين يَهُفُّ الأملْ
إذا ما جلَسْتُ إلى بيلسانه
هنالِك بيت جدودي الأُوَلْ
وَانَّى أَمَمْتُ أُرَجِّي حَنَانَهْ
ولا شيءَ يمتدُّ من هِجْرتي
إلى هجرةٍ في بياضِ الكَفَنْ
سوى من تخلَّف من أُمتي
فأَضْرَمَ في كل صَوْبٍ فِتَنْ

للشاعر شكيب تقي الدين غير كتابه هذا «خاتمة شعري» ديوان بعنوان: «ظلال العُمر» جُمِعَ وطُبع بعد وفاته.

شاعرٌ مُجدّد، كما قلنا، في إطار الموضوعات، وطريقة معالجتها، ورؤيتها بشكل فني جديد، مُتمكِّن العبارة، مشرقُها.

قرية وَلغا

لم تُبحث قرية «ولغا» بحثاً آثارياً جدّيّاً بعد، ويذكرها الباحث الآثاري الدكتور علي أبو عساف في كتابه الآثار في جبل حوران ص (170) على أنّها قرية قديمة حولها ينابيع ماء غزيرة تتجمع بيوتها القديمة فوق تلّة صغيرة وحولها عدّة خرب قديمة..

تبعد ولغا عن السويداء مسافة 5 كلم، إلى الشمال الغربي منها، ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 886 م، ويشير اسماعيل متعب نصر في كتابه «السويداء بين الزمان والمكان» إلى أنها تتضمن آثاراً تعود إلى عهود الأنباط والرومان والبيزنطيين بقيت منها في القرية الأثرية القديمة مجموعة مبان متهدمة مُكوّمة فوق بعضها البعض ومحاطة بسور لاتزال آثاره ماثلة في الجهة الجنوبية الغربية من القرية، أمّا العمران الحديث فقد انتشر بكافة الجهات وخاصة على جانبي الطريق العام الذي يصل بين السويداء وإزرع في محافظة درعا، وتكاد ولغا أن تتصل بعمرانها الحديث بمدينة السويداء الأمر الذي يتسبب بارتفاع أسعار أراضيها بشكل كبير.

أمّا فيما يتعلق باسم القرية «ولغا» فالأرجح أن الاسم عربي، ومعناه الدَّلو الصغيرة، كناية عن كونها قرية صغيرة جوار السويداء (المنجد في اللغة والأعلام، ط 17، ص 918). وهناك من يؤسطر في الرواية، فينسب الاسم إلى أولغا، ملكة سيع في العهد الهلليني أو الروماني (الهيلّيني بين 333 و 64 قبل الميلاد، والروماني بين 64 ق. م، وحتى636 ميلادية)…

ويحد القرية من جهة الغرب أراضي بلدة المزرعة (السَّجن سابقاً) والثّعلة، ومن الشرق السويداء وعتيل وريمة حازم ومن الشمال ريمة حازم والمجدل ومن الجنوب السويداء
وأول من توطن ولغا من العائلات الدرزية كان آل الحمدان في طريق توسعهم من نجران إلى السويداء في فترة القرن الثامن عشر..

ومما كتبه الرحالة السويسري المكلَّف من قبل بريطانيا، بركهاردت، الذي زار المنطقة بتكليف من بريطانيا نستنتج أنّ ولغا كانت مسكونة عام 1810 إذ يقول في ص 7 من «جبل حوران في القرن التاسع عشر»، ترجمة سلامة عبيد، «قبل أن نصل إلى إزرع التقينا بجماعة من فرسان الباشا (أي: الوالي العثماني في دمشق) يبلغ عددها حوالي ثمانين خيّالاً لقد فاجأوا في الليلة الماضية جماعة من عرب السردية وكانوا في قرية ولغا فقتلوا قائدهم عَرار وستة غيره وحملوا رؤوسهم جميعاً في كيس معهم…» ويذكر بركهاردت أن «الجنود كانوا يسرعون الخطى في عودتهم إلى دمشق خوفاً من أن يطاردهم رفاق المقتولين» وهذا يدل على أن القرية لم تكن آمنة من الغزوات البدوية قبل أن يتخذها الدروز سكناً لهم… وقد أفاد المحامي حسين الزعر (من مواطني ولغا)،أنّ عائلات من الحوارنة السنّة سبق لهم أن سكنوا القرية قبل الدروز منهم آل الخليل وآل الخطيب (منهم أحمد الخطيب الذي صار رئيساً مؤقتاً للجمهورية العربية السورية تمهيداً لرئاسة الرئيس حافظ الأسد) وآل الشُّوحة، بالإضافة إلى عائلات مسيحية منهم آل شليويط… ولكن العائلات السنية انتقلت فيما بعد إلى سهل حوران والمسيحيون انتقلوا إلى قرية الدارة القريبة من ولغا، وكان انتقالهم طوعيّاً بدون أسباب خلافية.

وتتابع قدوم العائلات الدرزية إليها بتأثير ما يدعوه المؤرخ محمّد كرد علي من انسيال الدروز إلى جبل حوران (خطط الشام جزء3 ص 101ـ102)، وذلك بسبب التمييز الديني بين المواطنين، وفساد الإدارة العثمانية، وإهمالها للنزاعات الداخلية والسياسية في جبل لبنان، بالإضافة إلى القادمين من ديار حلب وصفد من شمال فلسطين، ومن دروز غوطة دمشق للأسباب ذاتها….
ومن العائلات التي قطنت ولغا إلى جانب آل أبو عسّاف آل الزّعر وآل عامر وآل المحيثاوي والكفيري وزهر الدين ومزهر وبريك والجردي ودرغم والغضبان وأبو سرحان والريشة وكنج والعاقل وقطيني والحكيم وتقي وعائلات أخرى وافدة…

الأزمة السورية كادت أن تضاعف عدد سكان ولغا

مع نشوب الأزمة السورية لجأتْ إلى ولغا 450 أسرة وافدة من درعا في الجوار وريف دمشق وغيره من المحافظات السورية، وكان ذلك في الفترة بين عامي 2011 و 2014 أما الآن فقد غادرت تلك الأُسر إلى أماكن متفرقة، وقد رتّب هذا في حينه ضغطاً على الخدمات والمساعدات في حينه، غير أن بعض الأسر لم تزل باقية في القرية.
ويبلغ عدد سكان ولغا 2400 نسمة حالياً يعملون بالزراعة ووظائف الدولة التي لم تعد تفي بحاجات الأسر لذا فإنّ الكثيرين من أرباب الأسر والشبان يعملون في أكثر من عمل ومهنة لتوفير الحاجات الدنيا لأسرهم…

آل أبو عساف القادمون من نيحا الشوف في لبنان ومشقة التنقلات عبر قرى الجبل

يذكر يحيى حسين عمار صاحب كتاب «الأصول والأنساب» ج1 ص 20، أن أصل هذه الأسرة يعود إلى قبيلة بني تميم العربية وعلى أثر الفتح العربي ارتحلوا إلى العراق وفيما بعد استقر أجدادهم في كفتين من جبل السماق شمال غرب سورية، وفي حدود العام 1550 انتقلوا إلى جبل لبنان ليستقر بهم المقام في نيحا الشوف، ويؤكد الدكتور رياض غنّام في ص 50 من كتابه «نيحا الشوف» ما ذكره الباحث يحيى حسين عمار..

وفي كتاب الدكتور علي أبو عساف «من أوراق الشيخين فهد وسلمان أبو عساف» ص 13 ما يشير إلى أن نابليون بونابرت عندما قدم لحصار عكا عام 1799 «وجّه نداءات إلى الجبليين وإلى الأمير بشير للانضمام إليه مع وعد بتحرير سورية من طاغيتها العثماني «أحمد باشا الجزار» وكان في عهدة الشيخ حمد شاهين أبو عساف (المتوفّى عام 1915) رسالة من بونابرت كانت قد أرسلت إلى الشيخ حسين أبو عساف …» وهذا جد الأسرة التي انتقلت إلى جبل حوران فيما بعد، وكان يعمل رئيس جباة في صفد، وأن تلك الرسالة عُرضت على المربّي بولص هاشم في السويداء للاطلاع عليها غير أنها فُقدت بين أوراق كتب بولص هاشم، ويذكر آخرون أنها اختفت على يد شخص ما من الأسرة ذاتها.

أمّا الجزار فإنّه بعد نجاحه في كسر حصار بونابرت لعكا بمساعدة الأسطول البريطاني فقد «قسا على الشهابيين والزعماء الذين تلقَّوا رسائل من بونابرت وطاردهم ففرّ زعماء آل أبي عساف إلى بلدة الكفير في منطقة حاصبيّا وقرية شويّا ومنها انتقلوا إلى بيت جن حيث كانت مزرعة بيت جن من أملاكهم، وبعدها انتقلوا إلى جبل حوران تاركين بعضاً من أقاربهم في بيت جن» (وقد تحول هؤلاء فيما بعد بتأثير الضغط العثماني على الأقليات غير السنية من سكان السهول والمناطق القريبة من العواصم إلى مذهب السنة) ولم تزل علاقاتهم الوديّة متواصلة معهم لتاريخه.في زمننا هذا.

من المرجَّح أن انتقال أسرة الشيخ حسين بن يوسف أبو عساف مع والده وأقاربه إلى جبل حوران كان في مطلع القرن التاسع عشر، نحو عام 1810 .على حد تعبير الدكتور الباحث علي أبو عساف، وقد تنقّلوا بين عدة قرى في شمال الجبل آنذاك إذ سكنوا بالتتابع في قُرى خلخلة ونمرة والهيت، وعندما كان الشيخ حسين في الهيت قصده سكان قرية شقا القلائل يشكون من تعديات القبائل البدوية على محاصيلهم أثناء عبورهم من البادية غرباً باتجاه سهل حوران في موسم الحصاد، وطلبوا منه الانتقال إلى شقّا لدعمهم، فوافق، وحين حلّ موعد قدوم البدو اتّفق الشيخ حسين مع قاطني القرية القلائل أن يرفعوا المحادل الحجرية على سطوح المنازل ويغطوها بملابس رجال وينشروا المفروشات والأمتعة فوق الحيطان لإيهام البدو بكثرة ساكني القرية، وأرسل أحد رجاله ليبلغ شيخ البدو أن شيخ القرية حسين أبو عساف يناشدكم بالله أن تغادروا ولا تؤذوا مزروعاتنا، وإلاّ فالعَتب مرفوع، والقتال بيننا وبينكم، وتكونوا أنتم جنيتم على أنفسكم. وبنتيجة ذلك، عمل شيخ القبيلة على تجنب الشر مع سكان شقا، مستجيباً لطلب الشيخ أبو عساف.

ولكن الأمور لم تجرِ على ما يرام في كل المناسبات، إذ إنّ زوجة الشيخ أبو عساف التي كانت ترضع طفلها سمعت ذات ليلة صوت محاولة غرباء يحركون مزلاج البوابة الخارجية لدارتهم، وصريراً يرافق ذلك، فأيقظت زوجها الذي هبّ من نومه مستلّاً سيفه الذي كان يوسّده إلى جانبه، وانطلق باتجاه بوابة الدار فأهوى بسيفه على حافة البوبة عند موقع المزلاج الذي انفتح قليلاً مع رؤوس أصابع يد لص خلف الباب تمتد من جهة الخارج فقطع رؤوس بعض الأصابع الممسكة بحافة الباب، وعند بزوغ الفجر أعلم الشيخ عشرة من رجاله فاقتفوا آثار الدم النازف إلى أن وصلوا إلى مغارة في تل «فارة» بأرض قرية الجنينة شمال شقا، فقام الشيخ حسين بمناورة ذكيّة إذ أمر رفاقه بصوت عال منادياً كلّاً باسمه أن يأخذ مكانه إلى اليسار أو اليمين مع رجاله فظنّ المختبئون في المغارة أنهم محاصرون من قبل عدد كبير من الرجال، وحينها نادى مَن في داخل المغارة أن يخرجوا مُكَتّفين ومن يخرج غير مكتوف الأيدي يقطع رأسه، فخرج أربعة عشر رجلاً كان آخرهم أسود البشرة قوي البنية وقد ظهرت الإصابة على كفه التي نالتها ضربة السيف عند البوابة فقطع الشيخ رأسه في الحال…

وتذكر الباحثة الألمانية بريجيت شيبلر ص 49 من كتابها «انتفاضات جبل الدروز..» أن حسين أبو عساف شيخ شقا حينها استغل انتقال الحمدان «إلى العاصمة السويداء اقتحم القصر (قصر مقري الوحش في نجران) وأعلن نفسه زعيماً مكانهم واستعان في ذلك بجماعة من نجران فوقف قاسم ونصر الدين أبو فخر في وجه أبو عساف بمعارضة عنيفة»، وكانت للشيخ حسين أبو عساف علاقة طيبة مع مشايخ سهل حوران إذ كان قد تمكن بقوة شخصيته ومركزه الاجتماعي ونفوذه من حماية آل الشيخ محمود الرفاعي المحكوم بالإعدام مع طائفة من شيوخ حوران وتخليصهم من سطوة دولة محمّد علي باشا وابنه إبراهيم. والشيخ الرفاعي من قرية أم ولد الحورانية إذ حماهم عنده أثناء وجوده في نجران عام 1255هـ ـ 1839م ، يشير إلى هذا الدكتور علي أبو عساف ص 30 من تاريخ آل أبي عساف، وفي هذا مثال على تعاون مجتمع جبل حوران والسهل عندما يتم الوعي للمصلحة المشتركة بين سكان الجبل وسهل حوران بهدف منع وقوع الفتنة بينهما من قبل قوى الخارج.التي تعمل بمبدأ «فرّقْ تَسُدْ».

ويذكر الدكتور الآثاري علي أبو عساف أنه بعد وفاة حسين أبو عساف في نجران انتقل آل أبو عساف إلى قرية السَّجَن (المزرعة) ذات الينابيع العديدة، ولم يلبثوا أن انتقلوا إلى قرية كفر اللحف شمال غرب السويداء، ومنها توزعوا بين قرى سليم وعتيل وولغا بتفويض من واكد الحمدان على أثر وساطة من جانب صهرهم الشيخ هزيمة هنيدي.

الشيخ سلمان أبوعساف رجل المجتمع المحنّك

وفي قرية ولغا حيث تمركز الشيخ سلمان أبو عساف، وبنتيجة العلاقة الطيبة بين آل أبي عساف مع أهالي سهل حوران تذكر بريجيت شيبلر ص 117 في كتابها «انتفاضات جبل الدروز» أنه «غالباً ما استغاثت قرى السهل الحدودية وطلبت من جيرانها الدروز حمايتها من البدو ورَفْعِ «الخُوّة» عنهم أو ضم القرية إلى حمى نفوذه وأنّه في نهاية سنة 1878 لبى الشيخ سليم محمّد أبو عساف (بل هو سلمان داود أبو عساف بشهادة العارفين من معمري أهالي ولغا) نداء قرية اِزرع على الحدود الغربية لِلّجاة وذهب مع رجاله من فرسان ولغا إلى ازرع (ومنهم سليم الزعر الذي استشهد في موقعة الدّلِي (قرية على طرف اللجاة الشمالي) أثناء ملاحقة غُزاة من البدو وقد أقام سلمان في ازرع فترة نحو أربع أو خمس سنوات ارتاح له أهالي ازرع لضبط الأمن فيها وفي جوارها، إذ اتخذها مقرّاً له واعتُرف به كمتصرف لحوران بمرتبة «شيخ اِزرع» القريبة من شيخ سعد مقر المتصرفية آنذاك»، ولكن مدحت باشا والي الشام أمر أبو عساف فيما بعد بالعودة إلى الجبل حيث قريته ولغا»، ولعلّ السياسة العثمانية تقصدت من ذلك عدم السماح بتشكيل علاقات وروابط ذات شأن بين سكان الجبل والسهل الحوراني، بل طالما هي عمدت إلى إثارة النزاعات بينهما…
وكان للشيخ سلمان فداوي مسيحي (رجل تابع له ومحل ثقته) اسمه نصار شليويط كان يرسله ليمثله في الاجتماعات العامة خارج ولغا، وذلك بعد أن كبر وتقدم به العمر.

وفي فترة من حياته الحافلة بالأحداث تعرض الشيخ سلمان لملاحقة العثمانيين، غير أن رئيس المخفر المكلف بملاحقته زوّر كتاباً ينص على منحه الأمان، ودعوته للمثول أمام الوالي في دمشق، وهناك أعلن سلمان ولاءه للسلطان عبد الحميد، فقال له الوالي «شيخ ويكذب؟»، فأخرج كتاب الأمان وقدمه للوالي الذي اكتشف أن الكتاب مزوّر، فأكبرَ رجولته وعفا عنه واستضافه مُكرّماً عند أحد رجال ديوانه من الشوام….

وذات سنة جفاف ماحلة كانت الدولة قد قررت ضرائب لم يتمكن الأهالي من دفعها، فما كان من أحد آل جمال وكان هذا شريكاً للأمير شكيب أرسلان في علاقات مالية وتجارية قرّر شراء الأرض من الدولة على أن يبقى مواطنو القرية خمّاسة لدى مالكها الجديد، فما كان من الشيخ سلمان أبو عساف إلّا أن تصدى لإفشال عملية بيع القرية واقترض المبالغ المقررة من أصدقائه بوايكية دمشق الذين يثقون به…

بقايا السور القديم الذي كان يحيط بالبلدة الأثرية

ومن طرائف مواقفه أنه نزل في إحدى زياراته لدمشق عند أصدقاء له من الشوام النافذين، فقالوا له لدينا زيارة تهنئة للوالي بمناسبة أن وُلِد طفلٌ له، فرافقهم، وعندما قدموا نقود التهنئة انتظر ليكون هو الأخير، فوضع صرّة من الليرات الذهبيّة كانت مثار إعجاب الوالي وزوجته حيث تم اعتباره شخصاً مقرّباً من الأسرة وذا كلمة مُستجابة.

ويروي الشاب جميل أبو عساف أن جده سلمان أخذ حصاناً مُعْلَماً له يلقَّب بـ «الزرنوقي» هدية للسلطان عبد الحميد في إسطنبول وعبَر به برفقة وفد من وجهاء الدروز في باخرة من لبنان إلى إسطنبول، وقد استضافهم السلطان آنذاك وكرّمهم، وفي عودتهم استضافهم في دمشق أحد أبناء الأمير عبد القادر الجزائري.

كما يذكر أنّه على أثر الحملة العثمانية التي قادها سامي باشا الفاروقي على الجبل في عام 1910 سَرْكَلَ العثمانيون ابن الشيخ سلمان، الشاب فندي، مع مجموعة من شبان الدروز للخدمة العسكرية لقمع الثورات في البلقان، ومن هناك هرب فندي مع رفاق له بباخرة يونانية إلى طرابلس الغرب وبينهم شاب من آل الحناوي، ومنها انتقلوا إلى القاهرة. هناك شاهدوا حفلاً تكريمياً لخديوي مصر وكان أحد ضباط حرس الخديوي درزيّاً من لبنان تعرّف عليهم، واستضافهم عنده شهراً وساعدهم بتوجيهاته على العبور إلى سيناء وتجاوزها إلى فلسطين غير أنه استبقى فندي لكونه كان يعرف والده ويكنّ له تقديراً، كما استبقى الشاب الحناوي بسبب مرضه، وبعث برسالة لذوي فندي يطمئنهم، وهؤلاء بدورهم أرسلوا شاعراً مسيحياً من آل البدين إلى فلسطين فالعريش استقبل فندي وعبر به من العريش إلى فلسطين فشرق الأردن، وأثناء عبورهم رتّبوا علاقات بنعمة مع عدة عشائر سينائية طبقاً لتقاليد ذلك الزمن.

وعلى أطراف الجبل جنوب قرية ذيبين استَقبل آل أبو عساف فندي العائد من رحلة مريرة.

الزراعة في ولغا

صُنّفت أراضي ولغا ،وهي أراضٍ خصبة مُتحَلّلة من البازلت، ضمن منطقة الاستقرار الأولى لوفرة أمطارها وتوفّر الينابيع في أراضيها ففي القرية ستة عشر ينبوعاً منتشرة في وسط وغرب القرية ومنها عين الرَّقَب وعين السّجَن وعين المَسْلق وعين الباطي وعين أبو حسن وعين البصّة… الأمر الذي يجعل من العمل في الزِّراعة يعطي مردوداً جيداً، وتتميز الأراضي شرق القرية بوعورتها بينما تميل في الغرب منها إلى السهولة لذا يدعوها سكانها بـ: ضلع جبل.

الثّروة الحيوانية

يقوم بعض المزارعين في القرية بتربية الأبقار الحلوبة ويبلغ عددها في القرية مئة رأس متوسط إنتاج الواحدة منها في فترة الحليب نحو 22 كلغ يوميّاً، وإذا اعتبرنا أن فترة إنتاج الحليب للبقرة الواحدة مدة عشرة أشهر فإن إنتاجها في السنة يكون نحو ستة أطنان في العام يضاف إلى هذا ثمن مولودها الذي يحتفظ به للتكثير إنْ كان من الإناث أو يباع للحم بسعر مُجزٍ إن كان من الذكور.

الماعز والأغنام: ويبلغ عددها في القرية 600 رأس، ويستفاد منها للحليب ومن مواليدها الإناث للتكثير ومن الذكور للتسمين والبيع للحم.

الدجاج: ويبلغ عددها في القرية نحو2000 طير وتتم تربيتها بشكل إفرادي في أقنان تابعة للمنازل.

سهيل عامر مربّي الخيول العربية الأصيلة

هو شاب من ولغا، وعضو جمعية الـ «واهو» العالمية التي أُسّست عام 1984 لدعم سلالات الخيول العربية وهي مؤسسة بريطانية ألمانية معنيّة بهذا الأمر، ويتم تلقيح الفرس بأخذ شهادة من مالك الفحل وعندما يولد المهر تأتي لجنة من المنظمة تصور المهر وتأخذ عيّنة من الـ dna إلى ألمانيا لعَمل مطابقة فرس لها إضبارة بألمانيا ويأخذ الحصان على أثرها جواز سفر عالمي.

ويقوم السيد سهيل بتربية عدد من الخيول العربية الأصيلة في القرية، ليتاجر بها ويبيع مواليدها بأسعار مُجزية وخاصة الإناث منها، ومن أنواعها لديه:
1 ـ اَلْعبيّا الشرّاكية، وهي من أفضل أنواع الخيول ولها بطاقة تعريف (هويّة) تعود بأصلها إلى خيول الشيخ دهام الهادي شيخ مشايخ قبيلة شمَّر في منطقة القامشلي من في محافظة الحسكة في الجزيرة السورية، وثمنها يعادل خمسين ألف دولار تقريباً من الليرات السورية.
2 ـ كحيلا أم عرقوب، وسُمِّيت كذلك لوجود التواء خَلقي طبيعي بعظم عرقوب الرُّكبة، وثمنها يعادل عشرين ألف دولار، وقد تم شراؤها من الشيخ رياض سعد سويدان شيخ عرب طي في منطقة شرق غوطة دمشق، …
3 ـ كحيلا نوَّاكية: وثمنها يتراوح بين خمسة آلاف إلى ستة آلاف دولار،

ولسُهيل خبرة مميَّزة في تمييز الخيل بفطرته السليمة يقول «يتميز فحل الخيل بالسليقة، كتف وكَفل (قفا) عريضان، وظهر قصير ورقبة طويلة ورأس صغير، ومنخَران واسعان وعينان متباعدتان جاحظتان فيهما لمعان ورُبع المهر من مفصل الركبة لمنبت الشعر على الحافر خشن وطويل، والعَظمة من مفصل الركبة لمفصل بيت الشّْكال (بين الحافر ونهاية الساق تكون بطول 5 إلى 7 سنتمتر وكلَّما قصُرت تلك العظمة كلما كانت الفرس مرغوبة أكثر، وأفضل الأحصنة لتلقيح إناث الخيل يكون بين عمر 8 إلى 12 سنة، هو الحصان السبّاق في المباريات، ويضيف سهيل: أنا ألقِّح فرسي منه، ولا ألقّح من فرع بل من أساس (أي أصل) وهناك 53 فرعاً من أصول أرسان الخيول الخمسة وهي العبيّا والصقلاوية والشّويما وكحيلة العجوز أمّا الرسن الخامس فموضع خلاف بين رسن دَهْمات عامر والمعناقيات والحمدانيات أيُّها الفرع وأيّها الرسن…؟!.

ولغا: القرية الأثرية القديمة
الخدمات البلدية في ولغا

توجد في ولغا بلدية مشتركة تُخَدّم قريتي ولغا وريمة حازم معاً، وتبلغ مساحة البناء الطابقي للبلدية المؤلف من طابقين 440م2 وهو بناء حديث يعمل فيه عدد من الموظفين.

تبلغ مساحة المخطط التنظيمي لقرية ولغا 107 هكتار، كما تبلغ أطوال الشوارع المعبّدة 14 كيلومتراً بالإضافة إلى 18 كلم شوارع غير معبدة ويعود هذا لتوسع المخطط التنظيمي… أمّا طول شبكة الطرف الصحي المقررة في القرية فيبلغ 30 كلم المُنفّذ منها، 8 كلم وتخدّم 90 بالمئة من مساكن القرية.

شبكة مياه الشرب يبلغ طولها 14 كلم وتخدِّم كافة منازل القرية باستثناء البيوت غير المرخّصة بعد.

وتمتلك البلدية جراراً زراعياً وتريلَلا، يعمل عليه سائق و2 من العمال لترحيل النفايات يومياً.

المحلات التجارية: ويبلغ عددها مئة منشأة بين محلّات تجارية ومحلات حِرَف، منها 7 محلات حدادة أفرنجية و ثلاثة محلات نجارة موبيليا و5 صالونات حلاقة رجالية وصالونان للحلاقة النسائية ومحلّان لبيع الكهربائيات و3 محلات جزارة لحم غنم و5 محلات بيع فرّوج مذبوح ومنظّف.

المدارس: في القرية مدرسة ابتدائية واحدة بينما توجد مدرسة إعدادية مشتركة في قرية ريمة حازم المجاورة على مسافة 2 كلم من قرية ولغا.

شعبة الهلال الأحمر في ولغا: كما يوجد في القرية شعبة تابعة للهلال الأحمر تقدم مساعدات طبية مجانية للمستحقين مرة في الشهر يرافقها طبيب أطفال، وفي كل أبوع تحضر إلى القرية طبيبة نسائية مع فريق توعية نسائية ونفسية وصحيّة وتقدم 80 إلى 100 سلة غذائية للمتاجين مرة واحدة كل شهرين.

أماكن العبادة: يوجد مجلس واحد للعبادة خاص بالموحدين الدروز في ولغا، ويتميز ببساطة بنائه ومفروشاته، وهذه سمة عامة في أماكن عبادة الموحدين الدروز في سائر مناطق تواجدهم وذلك دلالة على زهد مُتديِّنيهم بمظاهر الدّنيا الزائلة.

جسر القاضي

جسر القاضي أقدم الجسور اللّبنانية وأكثرها شهرةً.
القاضي عماد الدين التّنوخي أوّل من بناه والأمير زين الدين التنوخي أعاد ترميمه.
المتصرف واصا باشا شيّد الجسر القديم والوزير وليد جنبلاط بنى الجسر الجديد.
أهميته التاريخية والاسترتيجية، أنّه نقطة وصل بين الساحل والجبل وملتقى لأقضية الشوف وعاليه وبعبدا.
أهميته السياحية أنّه محطة جذب سياحي فريد من نوعه في لبنان
أهميته الاجتماعية أنّه عنوان للتعايش الدرزي – المسيحي
تحوّل الجسر إلى قرية صغيرة في العام 1966 بقانون صادر عن مجلس النواب يحمل الرقم 25 على 66
كادت حكومة فيشي أن تفجّره إبان الحرب العالمية الثانية سنة 1943 ولكن الهدنة أنقذته.

جسر القاضي هو بين الجسور اللّبنانية المهمة والتاريخية الواقعة فوق مجاري الأنهر، وفي الأودية السحيقة – وما أكثرها في لبنان نظراً لطبيعة تكوينه الجغرافي. وفوق ذلك، هو الجسر الوحيد الذي يحمل اسم الأمير الذي شيده في بداية القرن الرابع عشر الميلادي.

شكل جسر القاضي على مدى العصور والأزمنة نقطة وصل بين منطقتي الشوف وعاليه، أو بما كان مُتعارف عليه في ذلك الوقت منطقتي المناصف والشحار الغربي، لوقوعه في نقطة تلاقي الأنهر التي تنساب إليه من نبعَي الصفا والغابون المشهورَين ومن الينابيع الأخرى التي تُشكل بعد أن تلتقي فيه نهرَ الدامور.

يكتسب جسر القاضي أهميتين:

الأولى جماليّة، لوجوده في أجمل بقعة جغرافية في محافظة جبل لبنان الجنوبي، لتكتمل جماليته الطبيعية، وسحرها الآسر، عند مُلتقى النهرين الشهير أسفل الوادي القريب من الدامور، مشكلاً محميّة طبيعية فريدة من نوعها.

والثانية، تاريخية وجغرافية معاً، إذ إنّه يربط الساحل والشحار الغربي بالجبل والبقاع ووادي التيم منذ زمن الإمارة التنوخية والمعنية ومن ثم الشهابية وصولاً إلى المتصرفية، إلى ما بعد إنشاء دولة لبنان الكبير في العام 1920. فالقوافل كانت تأتي إليه قديماً محمّلة بالغلال من وادي التيم عبر سهل البقاع مروراً بثغرة مرستي إلى ما كان يُعرف بطريق البلاد المتدرّجة من المختارة وسهل بقعاتا وبيت الدين، ودير القمر وصولاً إلى جسر القاضي حيث كانت تقوم مطاحن مائية وخانات للاستراحة؛ ومن هناك عَبر قبر شمون ودرَج عيناب فعين عنوب، فإلى بعبدا مركز المتصرفية وبيروت. ولا تزال معالم تلك الطريق ماثلة للعيان وخاصة في مناطق عين السمقانية، وادي بيت الدين، المنشية في دير القمر، ودرج عيناب وادي شحرور بعبدا.

يتفرع من جسر القاضي عدة طرق رئيسة هي: جسر القاضي، دير كوشة، الكنَيْسة، عمِّيق كفر قطرة، دير القمر. كذلك، جسر القاضي، بشتفين، كفرفاقود، دير بابا، بيدر الرمل، كفرحيم، بعقلين، وكفرحيم دير القمر. وإلى ناحية الشمال الشرقي، جسر القاضي، سلفايا، عين تراز، رشميّا، الغابون، عاليه.
جسر القاضي، رمحالا، مجدليا، بيصور.
جسر القاضي، قبر شمون، عيناب، شملان، سوق الغرب عاليه.
جسر القاضي، قبر شمون، كفرمتى، عبيه.
جسر القاضي، قبر شمون، البساتين، عرمون، الشويفات، خلدة.
جسر القاضي، عين كسور، عبيه، بعورته، الدامور.

تاريخ بناء الجسر

باني جسر القاضي هو الأمير عماد الدين حسن بن القاضي جمال الدين أبي الجيش البيصوري، بن القاضي عز الدين أبي العز أبي اليقضان خطّاب من قرية كفر زبد الواقعة بين البنيّه وقبر شمون. فلما قلَ الناس فيها انتقلوا إلى بيصور وعمّروا فيها عمايرهم المعروفة. قال ابن سْباط: كان عماد الدين حسن التنوخي جليل القدر فاق سلفه بالسيادة، ولم ينشأ بينهم مثله، ولم يسلك أحد منهم طريقه، مع أنّ سلفه كانوا أجواداً أمجاداً. جنح إلى عمل الخير، وكان كثير الصّدقة، وكان يفصّل كل سنة قماشاً ويوزّعه على فقهاء بلاده وأعيانها، ممّا يفوق على ألف ذراع، واثنتي عشرة غرارة قمح خارجاً عن الخبز. كان آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر. وافر الحُرمة صغير النَّفس ذا كرم ومروءة وهو الذي عمّر الجسر بين الغرب والشوف الذي بات يعرف باسم «جسر القاضي». والسبب المباشر لبنائه الجسر المذكور، كما يُروى، هو أنَّ بعض النسوة كن يجتزن النهر في تلك المحلّة فرفعن أثوابهن قليلاَ كي لا تتبلل بالماء فتوجهت أنظار العمال الذين يعملون عنده نحوهن فأمر القاضي بالتوقّف عن بناء المطاحن وأصر على بناء الجسر المذكور أوَّلاً. وكانت وفاته رحمه الله سنة ثماني وستون وسبعماية للهجرة، ثم أعاد ترميمه القاضي جمال الدين يوسف بن القاضي زين الدين عبد الوهاب؛ وكان ربّاه جدّه الأميرجمال الدين عبد الله بن سليمان خال والدته، فأصلح الجسر الذي بناه جد أبيه القاضي عماد الدين حسن بعدما كانت المياه قد اقتلعت مدماكين من ظهره وخشي عليه، فأصلحه من ماله الخاص للأجر، وهو شقيق الست نفيسة. ويذكر ابن سباط أنه في سنة 909 للهجرة جاء سيل عظيم ومطر غزير عمّ الأقطار واستمر نحو 27 يوماً وذكر أنّ المياه ارتفعت فوق الجسر المنسوب إلى القاضي ما ينوف على القامة.

وفي حقيقة الأمر وبحسب ما جاء في كتاب «الأُسر في جبل لبنان» للمحامي سليمان تقي الدين ومشاركة الباحث نائل أبو شقرا: «أنه وبعد مئتين وخمس سنوات على إنشائه أي في العام 963هجري الموافق 1556 ميلادي قدّر فيه السميع العليم والمولى الكريم والرب الغفور الرحيم أنْ أجرى سحاباً عظيماً وسيلاً جزيلاً، ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا خبّر المخبّرون على سيل جارف مثله ولا ما يشبهه في كل ما فعل، حتى أن الأنهار الشتوية التي هي عبارة عن مجاري وسواقي وجداول غمرتها جميعها مياه السيول الجارفة؛ منها نهر الحوايب المتصل بنهر الصفا فأتى على أملاك مثمرة وغيرها ما لا أحد يحصيه، وأخذ طاحون الشيخ زين الدين القاضي بن الشيخ بدر الدين القاضي العنداري، وبعد مسيره إلى نهر الصفا جرف طاحون الشيخ بدر الدين العنداري التنوخي من بيصور، وكان يسكن عين دارا، والطاحون التي فوقا بيت الواحد والبيت الآخر حتى كادت الطاحون تخرب. كما جرف أيضاً طاحون الشيخ أمين الدين، وطاحون حرفيش جرفها من أساسها حتى وصلت إلى فوق الجسر الذي كان على بعد مسافة أمامها سالمة كما هي، ولدى ارتطامها انفلشت وبقيت كل حجرة لوحدها. أما طاحون الشيخ بدر الدين التحتا فامتلأت بالتراب والحصى وكادت تخرب واحدة أخرى في أرض القسيس المسيحي المغروسة توت وعريش وجوز وشجر جوي وبري. ولم وصل تحت البصيّه المعروف اليوم بالبصَّيْل قور تحت الشقيف الأزلي حتى تفسّخ وتفسخت معه الحارات التي على جنب الشقيف حتى أخليت من ساكنيها ومن هناك إلى ملتقى الأنهر في جسر القاضي وأخذ من البساتين والأشجار والحجارة الثقيلة والعظيمة ما لا أحد يقدر عليه. وأما نهر شمليخ فقد أخذ أشجاراً لا تحصى، حتى قيل أن بعضهم أخذ من التوت ماية رطل، وبعضهم أكثر من ذلك، وبعضهم أقل، وجرف الجسر القائم على درب شمليخ، وأحدث النهر فوق الجسر زلزلة في أرض جلاب، ومرج وشُقفان شيلة قوس عرض وطول، حتى تقطعت الشقفان العظام كما تقطع بالبولاد، وأخذ هذا النهر من الحجارة الكبيرة شيء كثير من بينها صخرة لو دار حولها مئة رجل لم يديروها إلّا بالحيلة أخذها من أرض شمليخ الواقعة تحت العزّونية. وأما الحجارة العظيمة التي لا سبيل لقلعها من الأرض، بل إلى ديرانها، قلعها ودارها رأساً على عقب. ولدى مروره بأرض العزونية وأرض شارون وأرض المشرفة اتصل بنهر بتاريح فخرّب بأرض هذه القرايا خراباً لا يُحصى ونزل بعض جماعة من شارون يتفرجون على الطوفان فوقفوا على الطريق عند عين المسن، وأخذ رجل منهم تحت العين وبدأ يغرف بيده من ماء النهر، ومثل ذلك الموضع كثيراً، وأما الطواحين فتعطلت جميعها. وأما نهر بتاريح الذي أصله من عين صوفر، ما كان أحد من المخلوقين يخطر بباله أن يفعل كما فعل هذه المرة، لأنه عبارة عن ساقية لا عبرة لها، وكان على هذا النهر جسر ما أحد يعلم مدته فجرفه وجرف طاحون مجدل بعنا، وكان رجل يحدل على سطح الطاحون ساعة الطوفان ولما ارتطمت المياه بالطاحون قفز عن سطحها وتاه ولما التفت وراءه كانت المياه اقتلعت الطاحون لدرجة أنّ بعضهم شكك بوجودها في هذا المكان. ولدى مروره بأرض مجدل بعنا وأرض بدغان والمشرفة فعل ما فعله نهر شمليخ بل أكثر، لأن على جانبيه أملاك كثيرة ولما التقيا في معصريتي شكلا نهراً واحداً وبقيا عبرة للمعتبرين وفرجة للمتفرجين ورزيَّة للمتملِّكين، حتى أن بعضهم لم يبقَ له شيء يزيد عن درهمين بزر قز وفعل هذان النهران ما لا فعلاه في مبداهم إلى أن التقيا بنهر الصفا المذكور وبقيا كالبحر الطامي، وأخذ بساتين المغيثا، وقيل أنهم لما اصطدموا ببعضهم البعض انحسرت المياه حتى وصلت إلى حائط طاحون عمِّيق فخربت معظم الأراضي من حوله، وكان على هذا النهر جسر يدعى جسر نزهة من النزهات وطرفة من الطّرفات وفرحة من الفرحات، وقيل إن الذي عمَّره عزم عليه أكثر من مئتي سلطاني فجرفه أيضاً، وقيل أنّ الذي هدمه هو النهر الكبير فرماه إلى فوق لأن بعض الناس كان يراه وفعل هذا النهر ما فعلته الأنهر التي تقدم ذكرها. وكان عند هذا النهر الكبير شجرة خروب كبيرة غمرتها المياه، ما بقي منها فوق بسط الغربال وكان بقربها طا حون كبيرة فجرفها ووصلت ماء هذا النهر إلى تحت جسر القاضي فوصل أرتفاع المياه عنده إلى ستة وثمانين شبراً، أربعون شبراً تحت الجسر وستة أربعين فوقه، وأمّا عمق المياه فيزيد عن ألفي شبر. وأخذت المياه من تحت هذا الجسركل المطاحن الواقعة على جانبي النهر ومنها طاحونة الغوارسنة التي يعود تاريخها الى أكثر من الف ومئتي سنة وقيل إن المياه جرفت إلى مكانها صخرة طولها بقياس ثلاث بيوت وعرضها أربعين شبراً. وقيل إن برّاكها وجدوه في الدامور على شاطىء البحر سليما معافى من أية خدوج كما وجدوا هناك بعض حجارة الطواحين سالمات ووُجدت في الدامور من الأشجار والأخشاب المقطعة بما يوازي حمل خمسة آلاف جمل ولا يستطيع الجمل أن يحمل منها أكثر من عود واحد نظراً لضخامتها وطولها. وما حصل في الدامور حصل شبيهاً له في بيروت بسبب فيضانات أنهار المتن وبلاد الغرب حيث ضاق ميناء بيروت بالأشجار والتقوضات مع ما تفرق على شاطىء البحر يميناً وشمالاً وأمّا نهر الباروك فقد فعل مثل هذه الأنهر بل أعظم حتى إنّه ما ترك غير اليسير من الطواحين والجسور عمّا أخذ من الأشجار المعظمة الكثيرة حتى قيل إنه ملأ مرج بسري أتربة وحجارة».

أهمية جسر القاضي والدافع الأساس لبنائه

يربط الأستاذ عدنان أمين الدبيسي مختار جسر القاضي مؤلف كتاب «جسر القاضي تاريخ ورجال»، تاريخ الجسر بتاريخ وجود المطاحن المائية في تلك المنطقة وهي قديمة العهد. فالجسر القديم بُني في الممر الوحيد الذي كان يعبر عليه سكان الشحّار ومنطقة الغرب والساحل إلى منطقة المناصف ومنها إلى الشوف والجُرد والبقاع. ولقد بنى هذا الجسر الأمير عماد الدين حسن التنوخي الملقب بالقاضي المتوفي سنة 786 هجرية الموافق سنة 1357 ميلادية، منذ مطلع القرن الرابع عشر الميلادي. وعُرف هذا الجسر باسم القاضي وسمِّيت القرية باسمه. لم يكن لقرية جسر القاضي خراج عقاري خاص بها، فأراضيها كانت تابعة عقاريًّا لبلدة البنيَّه من الجهة الغربية للنهر، وبلدة دير كوشة من الجهة الشرقية. كما أنّه لم يكن لها سجل نفوس خاص بها. فسكانها كانوا مسجّلين في القرى التي قدموا منها حتى كانت سنة 1966 حين تقدم آل الدبيسي وبقية العائلات المقيمة في الجسر بطلب إلى الحكومة اللبنانية لإنشاء قرية جديدة باسم جسر القاضي، حيث صدر قانون بذلك يحمل الرقم 66 على 25 بتاريخ 31 أيار 1966.

اشتُهرت قرية جسر القاضي بصناعة الفخار التي بدأت بعد الحرب العالمية الأولى. هذه الصناعة التي يعود تاريخها لأيام الفينيقيين. إلى ذلك فقد عُرفت القرية بإنشاء معمل لصناعة الحرير حيث كان يعمل فيه عدد كبير من أبناء المنطقة. أمّا بشأن الزراعة ونظراً لموقعها الجغرافي على ضفتي النهر فقد نشطت زراعة الفواكه على اختلاف أنواعها، وهي التي تزينها غابات من الأشجار الحرجية، ومن الصنوبر وغيرها. أمّا طريق جسر القاضي فقد شُقَّت أيام العثمانيين في عهد المتصرف واصا باشا لتكون صلة وصل بين بعبدا مركز المتصرفية وبيت الدين وبعقلين مركز القائمقامية. عُرفت هذه الطريق بتعرجاتها الخطيرة التي شقّت بالأصل لتسهيل سير العربات التي كانت تجرها الخيول صعوداً باتجاه قبرشمون غرباً ودير القمر شرقاً. وأقيمت في جسر القاضي خانات مؤلفة من عدة أبنية عقد لاستراحة الخيول وغُرف لاستراحة المارّة. أمّا سكان القرية فهم من الدروز والمسيحيين، كانوا ولا يزالون يحافظون على التقاليد والعادات التي تجمع فيما بينهم كسائر أبناء الجبل. عدد سكان جسر القاضي اليوم لايتجاوز 120 نسمة معظمهم مقيم خارج البلدة؛ أمّا عائلة الشيخ الجليل أبو أمين سليم الدبيسي الذي توفي عن عمر 106 سنوات، كان رحمه الله من وجهاء المنطقة، فهو في الأصل من مواليد المختارة ومن السكان الأوائل في جسر القاضي منذ أكثر من مئة سنة، وهو من الرجال القلائل في طائفة الموحدين الدروز الذي يجمع في شخصه الدين والأمور الزمنية كما يؤكد عارفوه. كان حلاّل مشاكل من الطراز الرفيع وكان منزله في جسر القاضي محطة لكل الزوار من الشرق والغرب.

الموقع والتسمية

تقع قرية جسر القاضي على مجرى نهر الصفا المعروف بنهر الدامور الذي يفصل بين قضائي عاليه والشوف، القسم الأكبر من القرية يقع في الجهة الغربية التابعة لقضاء عاليه يحيط بها من جهة الشرق قرى المناصف، ومن الغرب قرى الشحَّار الغربي، ومن الشمال سلفايا وعين تراز، ومن الجنوب مجرى النهرالذي يفصل بين المناصف والشحار باتجاه الدامور. ترتفع عن سطح البحر 300 م.

جسر القاضي قرية هادئة في واد فسيح حفرته الطبيعة عبر ملايين السنين فاتخذ النهر منه مجرى ذوَّب الصخور وصقلها مرايا فإذا وقفت على الجسر ليلاً وتأملت النجوم في السماء المتمازجة بين نور الكهرباء في القرى وعلى التلال المجاورة، خلت نفسك تعانق السماء. أما النهر الذي ينبعث منه خرير ناعم يشكل مع حفيف أوراق الأشجار على ضفتيه والمياه المنسابة بينهما فيشكّل أروع سمفونية طبيعية. في هذا الوادي البديع يتجلَّى سحر الطبيعة وتروق الجلسة على ضفافه كصفاء مائه، وقد غمرته أحلام التاريخ، حتى كأنك تقرأ على صفحاته وحواشيه تقلب الأزمان ومسار الأيام ما يدل على أن الوادي من عمر الزمان.

وكثيراً ما كان هذا الجسر عرضة سنوياً لأن تغمره المياه أبتداء من منتصف فصل الخريف ولغاية الشهر الأول من فصل الربيع نظراً لقلة ارتفاعه وغزارة المياه الهاطلة ما يؤدي إلى إلحاق الضرر به. وفي أواخر القرن السابع عشر الميلادي قام الأمير زين الدين التنوخي بترميمه بعد أن خربت قسماً منه مياه النهر. ما يعني أن تاريخ بناء الجسر مرتبط بوجود المطاحن المائية وهي قديمة العهد ولم يُعرف بالضبط تاريخ إنشائها لأنّ الجسر الذي بُني بالقرب منها كان يعبر عليه سكان الشحار الغربي والساحل إلى منطقة المناصف والشوف والبقاع وكان الجسر لأكثر من ستين سنة خلت تقريباَ مطروقاً من أهالي المنطقة لطحن الحبوب، لا سيما القمح، والطاحونة الوحيدة التي استمرت لفترة قريبة، هي طاحونة القناطر الشهيرة التي كانت تعمل على خمسة أحجار للطحن دفعة واحدة ولكن بعد إنشاء المطاحن التي تعمل على الكهرباء تراجع زمن المطاحن على الماء فأصبح غابراً.

بناء الجسور

شهدت منطقة جسر القاضي بناء ثلاثة جسور
– الجسر الأول: هو الذي بناه القاضي عماد الدين التنوخي سنة 786 هجرية الموافق سنة 1357 ميلادية. وقد بنى هذا الجسر في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، وعُرِف باسم جسر القاضي وهو بطول 25 متراً وعرض مترين ونصف المتر، وارتفاع أربعة أمتار وقد بُني من الحجارة المغموسة بالزَّيت والكلس.

– الجسر الثاني: بُني سنة 1885 ميلاديّة في عهد المتصرف واصا باشا، ويقع شمالي الجسر الأول وكان أوسع منه وأكثر طولاً وارتفاعاَ. كان ذلك بعد أن شُقَّت الطريق بين بعبدا وبيت الدين. يقوم الجسر على ثلاث قناطر واحدة كبيرة في الوسط واثنتان على الجانبين أصغر من الأولى. يبلغ ارتفاع القنطرة الكبيرة ثمانية أمتار وعرض الجسر خمسة أمتار وطوله 25 متراً وقد بُني من الحجر المقصوب. وقد أقيم بالقرب منه عدد من الخانات لاستراحة العابرين بين المنطقتين واستراحة خيولهم ودوابهم. وما زالت بقايا هذه الخانات قائمة.
وقال فيه إبراهيم بك الأسود، تكريماً لـ واصا باشا وإشادة بعمله:

وجعلت ذا الجسرَ الجديدَ يقول في
تاريخه إني بفضلك أشهد
وقال فيه شعراء الزجل الأبيات التالية:
يا جسر من بين الجسور بتنعرَف
بفضل قاضي العُمرك الدهر اعترَف
من أجل حُرْمي النهر بلّل ثوبها
عمَّرو حتى يحافظ عا لشرف
شحرور الوادي
ياجسر كم لكْ عَ الجسورَة سيطرة
نشَّقتني نسمة هواك معطّرة
لو كان بالإمكان يوم العمروك
لوضعت قلبي بدل قفل القنطرة
علي الحاج
ياجسر قلبي للتلاقي ناطرك
دوّبت جسمي عند كلمة بخاطرك
مهما على الشلال بتقب الصفا
بمر حاني الراس تحت قْناطرك
وديع الشرتوني
جسر القاضي وآثارو
من عُمْر بعلبك صارو
حَرْدَب تيخلِّي الأجيال
تُمرق من فوق حجارو
خليل روكز
خمسة من العهد الماضي
أمضى من السيف الماضي
بعلبك وجعيتا والأرز
وصنِّين وجسر القاضي
زين شعيب

– الجسر الثالث: بُني هذا الجسر إبّان الحرب الأهلية عام 1984، قام بتشييده معالي الأستاذ وليد بك جنبلاط حيث كان يتولّى وزارة الأشغال العامة في حينه، شمال الجسر الثاني؛ وتم بناؤه بتصميم حديث: واسعاً ومتيناً يتحمل مرور الآليات الثقيلة وهو بطول 48 متراً وعرض 12 متر وارتفاعه حوالي عشرة أمتار.

المطاحن

في جسر القاضي ثلاث مطاحن مائية:

  • مطحنة الجسر: وهي من أقدم المطاحن، تعود لأيام التنوخيين، وقد بُنيت في أواخر القرن الرابع عشر للميلاد، أي بعد بناء الجسر ببضع سنين لأنها تحمل اسمه وهي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، ويظهر فيها حجران لطحن الحبوب، ومطروف لعصر الزيتون.
  • مطحنة القناطر: وهي أكبر المطاحن المائية في جسر القاضي، يوجد فيها خمسة أحجار للطحن، أربعة منها للطحن ومطروف واحد لعصر الزيتون. وقد جُرَّت المياه إلى هذه المطحنة من النهر على مسافة كيلو متر، تتميّز مطحنة القناطر بارتفاع مصبات مياهها وهي تقع في الضفة الشرقية للنهر لناحية الشوف في ملك آل حمدان، ويعود بناؤها إلى أواسط الحكم العثماني. وقد توقفت عن العمل بحدود سنة 1950 بعد أن خف الإقبال عليها بسبب انتشار المطاحن التي تعمل على الكهرباء.
  • المطحنة الجديدة: وتقع شمال شرق مطحنة القناطر، واسمها يدل على أن بناءها حديث وليست قديمة العهد.
مصانع الفخار

مصانع الفخار في المنطقة قديمة العهد ويمكن أن تكون منتشرة منذ أيام الفينيقيين حيث يستدلُّ من ذلك تسمية قرية دير وكوشة. فكلمة كوشة تعني (ياتون الفخار). أمّا في جسر القاضي فكان يوجد خمسة مصانع فخّار، بقيت تعمل حتى اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975 تعود ملكيتها إلى كل من الشيخ أمين الدبيسي وكامل أندراوس وأمين القادر، ولم يبق في جسر القاضي بعد انتهاء الحرب الأهلية إلّا واحدة، وهي فاخورة الشيخ أمين الدبيسي التي أُنشئت في العام 1924 وكانت في البداية تنتج الفخار التقليدي، أي القدور والصحون على أنواعها، بالإضافة الى أحواض الزهور ومقالي البيض وغيرها وقد راجت هذه الصناعة في بداية الحرب العالمية الثانية وكانت تصدر إلى سورية وفلسطين والأردن.

في العام 1962 عَرفت هذه الصناعة نقلة نوعية لافتة لجهة إدخال الألوان إليها وتحسين الأشكال وصناعة أواني الطبخ على أنواعها وبشكل مُتقَن، الأمر الذي اجتذب الزوار والسواح على اختلاف مشاربهم، وخصوصاً الأجانب المقيمين في لبنان على مدار السنة، حيث يشاهدون بأم العين كيف تتم صناعة الفخار على الدولاب وباليد (الصناعة اليدوية) وليس بواسطة القوالب.

وبالإضافة إلى السيّاح والأجانب كانت طبقة من اللبنانيين تأتي لشراء هذه الأواني إلى بيوتهم في الجبل أو للشاليهات على البحر. وقد استمر الإقبال على شراء هذه الأواني إلى ما بعد الحرب الأهلية عام 1975 إلى أن توقفت نهائياً بسبب الاجتياح الإسرائيلي والحصار الذي كان مفروضاً على الجبل.

في تسعينيّات القرن الماضي وبعد توقف الحرب الأهلية وحفاظاً على التراث أعيد تشغيل فاخورة الدبيسي ولو بشكل جزئي ومحدود في ظل أوضاع ليست مستقرة في غالب الأحيان.

طريقة صناعة الفخار

بداية يُستخرج الطين من التربة الدلغانية الموجودة داخل طبقات الأرض، ويوضع في بركة خاصة حيث تُضاف إليها المياه. يقوم العمال بتحريكها بواسطة مجرفة خاصة لتصبح لزجة كـ اللبن، بعدها تُنقل الى بركة أخرى بواسطة قناة صغيرة، وتترك لفترة إلى حين ركود الطين في أسفل البركة، ثم يتم سحب الماء منه. وأخيراً يُنقل الطين إلى الفاخورة حيث يتم دمجه بالرمل وعجنه جيداً، وبعدها يُقطّع كُتلاً بحسب الحجم المطلوب. يضع الفاخوري الكتل على دولاب يدعى «سِندان» ليصنع منها الأشكال المناسبة. كان « السندان» قديماً يدار بواسطة الأرجل، ثم أصبح يُدار بواسطة «زند» خاص من قبل الفاخوري، ومع تطور الأيام أصبح يدار بمحرّك كهربائي.

بعد الانتهاء من صنع الأواني على اختلاف أشكالها، توضع على ألواح خشبية مستطيلة مُعدّة لهذه الغاية حتى تجف، ثم تُطلى بالدهان وتوضع في فرن خاص يسمى « ياتون» يُصار بعدها لشي الفخار بواسطة الحطب أو المازوت بحرارة إلى 800 درجة مئوية، وبعد ثلاثة أيام يتم استخراج الفخار منه ويصبح جاهزاً للبيع.

طريق جسر القاضي

شُقَّت الطريق إلى جسر القاضي منذ عهد المتصرفية، وبالتحديد في أيام المتصرف واصا باشا لتكون صلة وصل بين بعبدا ومركز المصرفية شتاء وبيت الدين المركز الصيفي. في البداية كانت الطريق بين بعبدا وبيت الدين مخصصة للمشاة والدواب والخيول ثم تحولت في عهد المتصرفية إلى طريق للعربات. وكانت تتميز بكثرة تعرّجاتها ومنعطفاتها الممتدة من قبر شمون الى جسر القاضي، بما يزيد عن 32 كوع وذلك لتسهيل سير العربات عليها التي كانت تُجَر بواسطة الخيول تحاشياً قدر الإمكان من الصعود الحاد. ولم تختلف هذه الطريق حتى الآن صعوداً باتجاه قرى المناصف وصولاً إلى دير القمر. وبفضل وجود الخانات في جسر القاضي المُخصّصة لاستراحة الخيول الآتية من الغرب والساحل قبل صعودها إلى دير القمر وبيت الدين، كانت تجري عملية تبديل الخيول على الجسر لتتمكن من الاندفاع صعوداً، كما أقيم في المكان عدد من الحوانيت الصغيرة والمطاعم البدائية لسد حاجات العابرين، وخصوصاً أنّ حركة المرور في تلك المرحلة شهدت نشاطاً ملحوظاً، باعتبار أنّ الجسر كان المعبر الوحيد بين عاليه وبعبدا إلى الشوف باستثناء معبر عين زحلتا.

بعد الاستقلال وبحكم العلاقة التي كانت تربط الشيخ أبو أمين سليم الدبيسي بالرئيس بشارة الخوري، وبعد المراجعات الحثيثة التي قام بها الشيخ أبو أمين جرى شق الطريق من قبر شمون باتجاه جسر القاضي وتأهيلها والحد من المنعطفات والتعرجات التي كانت قائمة عليها. لكن لسوء الحظ لم يُستكمل المشروع فقد أُنجز حتى مستديرة رمحالا، لأن الرئيس بشارة الخوري لم يكمل ولايته، وبعد استقالته في العام 1952 توقف العمل بشق الطريق. ولم يُستكمل طيلة عهد الرئيس كميل شمعون رغم المراجعات المتكررة بهذا الشأن. ويروي المعمرون نقلاً عن الذين عاصروا تلك الحقبة إنّ هذا الطريق إبان الحكم العثماني والانتداب الفرنسي كان مرتعاً لقطاع الطرق. وقد كانت المنطقة التي تسمَّى دكان الشحار، في مستديرة رمحالا مخبأ للصوص وقطاع الطرق حيث يتم سلب وتشليح المارّة ما جعل جماعة المكارية الذين يسلكون هذه الطريق لطحن الحبوب في مطاحن الجسر يضطرون لسلوكها جماعات معاً خوفاً من تعرضهم للسلب.

تجدر الإشارة أنّ أول سيارة كبيرة «بوسطة» لنقل الركاب سلكت طريق جسر القاضي من المناصف إلى بيروت كان يملكها ويقودها نسيب فياض من بلدة بشتفين. كما اشترى الشيخ أمين الدبيسي من جسر القاضي أول سيارة فورد بودعسة.
لقد تم تعبيد طريق جسر القاضي لأوّل مرة سنة 1964 ثم جرى توسيعها وتعبيدها سنة 1985 أيام تولي وليد بك جنبلاط وزارة الأشغال العامة. وفي العام نفسه تم إنشاء الجسر الجديد.

وبسبب من أحداث الحرب الأهلية بدءاً من سنة 1975 أصبحت طريق جسر القاضي الشريان الوحيد الرابط بين بيروت والشوف، والجنوب والبقاع، بخاصة بعد الاجتياح الإسرائيلي للجبل ولبنان سنة 1983، إلى أن أعيد فتحها سنة 1985 بعد انكفاء الاحتلال الإسرائيلي عن الجبل وعودة أهالي الشحار الغربي إلى قراهم.

جسر القاضي قرية صغيرة بمرسوم جمهوري

لم تكن قرية جسر القاضي ذات كيان خاص بل كانت ضمن خراج البنيّه، وكانت هذه المحلّة تقتصر في البداية على المطاحن فقط. وبعد أن بنى العثمانيون الجسر الثاني وأقاموا الخانات وبسبب هذا التطور الذي حصل، رأى بعض الذين قدموا إلى هذا المكان واعتبروه مكسباً للعيش لا يُستهان به فأقاموا فيه بعض الدكاكين والمطاعم البسيطة تأميناً لحاجة المارين والمكارية وعربات الخيل الذين كانوا يبيتون ليلتهم هناك قبل أنتقالهم شرقاً أو غرباً. اشترى بعض أصحاب هذه المتاجر والخانات أراضي في جسر القاضي من آل أمان الدين، وآل حمدان دون أن يبنوا منازل لهم. وفي نهاية القرن التاسع عشر بدأ الشيخ سليم الدبيسي بشراء الأراضي في تلك المحلّة وأنشأ دكاناً للحدادة العربية قرب الجسر، وفي بداية القرن العشرين أقام أول مسكن له في جسر القاضي فكان بذلك أول السكان الفعليين في المحلة، وكان بعض الأخوة المسيحيين من قرى الجوار قد تملكوا أراض أيضاً زرعوها بمختلف أنواع الأشجار المثمرة كـ الزيتون والكرمة معتمدين على مياه النهر التي تغذي الأراضي بواسطة أقنية متفرعة من أقنية المطاحن المائية.

جسر القاضي اليوم قرية صغيرة أُنشئت بموجب قانون في مجلس النواب تحت رقم 25 على 66 بتاريخ 31 – 5 – 1966 وأصبح لها كيان خاص يتولّى المختار عدنان الدبيسي إدارة شؤونها المحلية خلفاً لشيقيقه الأستاذ كمال الدبيسي ووالده الشيخ أمين الدبيسي.

عدد سكان جسر القاضي ما يقارب 120 نسمة يعيش معظمهم خارج البلدة، وتقتصر إقامتهم على أيام الأعياد وعطلة نهاية الأسبوع وقضاء فصل الصيف.
تعلو قرية جسر القاضي عن سطح البحر حوالي 300 م، وتبعد عن بيروت 32 كلم عن طريق خلدة – عرمون، و36 كلم عن طريق عاليه – بيروت

الطرق التي ترتبط بجسر القاضي هي:
جسر القاضي – قبر شمون.
جسر القاضي – المناصف – كفرحيم.
جسر القاضي – بخشتيه – عاليه.
جسر القاضي – كفرمتى – عبيه وهذه الطريق شُقّت من قبل المرحوم كمال بك جنبلاط سنة 1975.
في العام 1943 إبّان الحرب العالمية الثانية حيث كانت قوّات حكومة فيشي تحتل لبنان، قام الأسطول الإنكليزي بمهاجمة تلك القوات وقصفها من البحر، فعمد الفرنسيون إلى تلغيم الجسر ووضْع أكثر من طنّين من الديناميت بجانب ركائزه الأربع لتفجيره عند قدوم القوات البريطانية من جهة الدامور ولحسن الحظ نجا الجسر من التهديم بحلول الهدنة عام 1944.

فيضان النهر

باستثناء الطوفان الكبير الذي جرى سنة 1556 ميلادية، لم تشر المراجع التاريخية إلى طوفان غيره، إلّا طوفان 1942. حيث غمرت المياه قنطرة الجسر الكبيرة بالكامل فتعرضت المطاحن المجاورة لمجرى النهر لأضرار جسيمة.

جسر القاضي نقطة أمنية

بالنظر إلى موقع جسر القاضي الجغرافي كنقطة وصل بين منطقتي الغرب والشوف فقد أقيمت عليه في فترات متباعدة ومتقاربة عدة حواجز ومخافر أمنية نذكر منها:
في أيام الحكم العثماني والانتداب الفرنسي أقيم مخفر ثابت للدرك على الجسر.
في العام 1975 مع بداية الحرب الأهلية أقيم حاجز لقوى الأمن الداخلي، ومن ثم حاجز للجيش اللبناني.
حاجز الجيش اللبناني من العام 1991 حتى العام 2006.

نهر الدامور

إنّ النهر الذي يمر بقرية جسر القاضي المعروف بنهر الدامور ينبع من نبع الصفا شمالي عين زحلتا وينحدر من هناك إلى وادي معصريتي رشميّا حيث أقام الفرنسيون عليه في عهد الانتداب معملاً صغيراً لتوليد الكهرباء في وادي رشميا لا يزال سليماً إلى اليوم، ومن نبع الغابون فيلتقيان في جسر القاضي ويشكلان نهر الدامور.

لم تقتصر أهمية النهر الاقتصادية على إقامة المطاحن المائية كما ذكرنا بل أتاح للأهالي أن يستثمروا الأراضي على جانبيه بالزراعات المختلفة كالسفرجل والحمضيات والدراق والتفاح والليمون. وذلك من خلال أقنية الري التي تتفرع من المطاحن. أما زراعة التوت فقد كانت من الزراعات الأساسية الرائجة في مطلع القرن التاسع عشر في لبنان وفي جسر القاضي بالذات، حيث أنشأ معملاً لصناعة الحرير يعرف بالكرخانة، وكان يعمل فيها عشرات العمال كانوا يفدون إليها من القرى المجاورة وقد نتج عن ذلك حركة كبيرة على الجسر، أحيت المنطقة وأنعشتها. أما زراعة الزيتون فهي قليلة لكون الأراضي في محيط الجسر «شحّارية» لذلك زُرعت كل الأراضي غرب النهر بالصنوبر، وأكثرها اليوم يندرج في ملكية الوقف الدرزي الذي كانت نواته في الأصل الأملاك التي وهبها الشيخ أحمد أمان الدين من عبيه إلى وقف الدروز.

مقاهي النهر

في جسر القاضي عدد من المقاهي أبرزها:
– مقهى الجسر الكائن بالقرب من الجسر العثماني.
– مقهى القناطر وهو موجود في مطحنة القناطر.
– مقهى الجسر الجديد وهوبين الجسرين القديم والجديد.
– مقهى ملتقى النهرين وهو بالقرب من جسر نهر الغابون.

المحيط الحيوي

– يكتسب جسر القاضي أهمية جمالية كبيرة قد لا يضاهيها أي مكان في لبنان، ليس فقط لأنَّه صلة الوصل بين مناطق الشوف وعاليه وبعبدا، بل لأنه يقع كذلك على امتداد جغرافي فريد من نوعه بالنظر لتعرجاته وللطبيعة الخلّابة المحيطة به، والقرى المشرفة على واديه الساحرالمنتشرة على جانيه، حيث تشكل من حوله حزامأ عمرانياً من القرى الفائقة الجمال قلّ نظيرها.

– وأنّى أتجهت من النبع إلى المصب في وادي جسر القاضي يأسرك سحر الطبيعة وجمالية المكان، فمن عين زحلتا والصفا شرقاً إلى قرى الحرف والكنيسة ودير كوشة وبشتفين وكفرفاقود ودير بابا وكفرحيم ودميت فملتقى النهرين بالقرب من الدامور. يقابلك من الغرب قرى وبلدات كفرمتى والبنيه وقبر شمون ورمحالا والغابون وسلفايا وبوزريدة وصولاً إلى رشميّا ومعصريتي والرملية ووادي بدغان، حيث تنتشر قرى عامرة تضج فيها الحياة وتشكل المدى الأخضر لجسر القاضي، فتخالها جنائن معلقة أو قناديل مشعة بين السماء والأرض فيأخذك سحر المكان، كما لو كنت في جنة الله على أرضه……

.

النّبي أيّـوب “عليه السلام”

النبي أيّـوب(ع)، هـو من أنبياء اللـه الذين ذكرهم القرآن الكريم في سورة النساء وذكر نبوّتهم بقوله: (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق والأسباط وعيسى وأيوب…). فقـد كان تقيّاً ورعاً رحيماً بالمساكين، يدعو قومه إلى عبادة اللـه الواحد الأحد. فقـد ارتبطت سيرة النبي أيوب بالصبر على البـلاء، وضُربت به الأمثال في كل الأديان، لمـا لحـق بـه مـن ابتلاء وصبره على هـذا الابتلاء. فقد اختبره الله سبحانه وتعالى في صحّتـه وفي أهله وفي رزقه. ولم يكن نبي الله أيّـوب إلاّ أن يصبـر على كل تلك الابتلاءات، حتى رزقـه اللـه بعـد ذلك الفـرج في كل أمـر قـد ابتلي به. والنبي أيّـوب هو الشخصية الرئيسة في كتاب التوراة (الكتاب المقدّس – العهد القديم- سِفر أيوب). ويُعتبر أيـوب أحـد أنبياء الأديان الإبراهيمية الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام.

قصّـة النبي أيّـوب(ع)

كان أيوب رجلاً كاملاً ومستقيماً، يتّقـي اللـه ويحيـد عن الشـرّ. وُلِـد له سبعة بنيـن وثلاث بنـات. كان غنيّاً وكانت مواشيه سبعة آلاف مـن الغنـم وثلاثة آلاف جمـل، وخمسمئة فـدّان بقـر. وخمسمئة أُتـن، وعبيـد وخـدم، والأراضي المتسعة من أرض البثنيّة المجاورة لحوران والجولان من بلاد الشام. وكان هـذا الرجل أعظم بني المشـرق. وبعـد أن عاش سبعين عاما بالعـزّ والجـاه. حسـده إبليس اللعين، فسلّطه اللـه على بنيه ومواشيه فسُلِـبَ منـه جميـع ما يملك، وابتُلي بأمـراض في جسـده، ولـم يبـقَ منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكـر اللـه بهما. والبلاء الذي أصيب به والصبر الذي أبداه يفوق طاقة البشر. فسجـد على الأرض وقال: «عـرياناً خرجت من بطن أمّي وعرياناً أعـود إلى هناك، الرّب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركاً».

وطال مـرض النبي أيّـوب، حتى عافـه الجليس وأُوحش منه الأنيـس، وانقطع عنـه الناس وأُخـرج من بلـده، وابتعـد عنه قومـه لأنهم اعتبروا أن الأنبياء يجب أن لا يصابوا بتلك الأمراض. ولم يبـقَ أحـد يحنو عليه سـوى زوجته «رحمـه» التي كانت تخـدم الناس بالأجر لتقوم بأوْده، وهي صابرة معـه على ما حـلّ بهمـا من فـراق المال والولـد.

فلمّا علم أصحاب أيوب الثلاثة بكل الشـّر الذي أتى عليه. حضر كل واحد من مكانه. اليفاز التيماني وبلـدد الشوحي وصوفر النعماني، وتواعـدوا على أن يأتوا إليه ليرْثوا لـه ويعـزّوه. وعندما نظروا إليه من بعيد لم يعرفوه، فرفعوا أصواتهم ومـزّق كل واحد جبّته، وقعـدوا معه على الأرض سبعة أيام وسبع ليالٍ. ولـم يكلمه أحـد بكلمة، لأنهم رأوْا أن كآبته كانت عظيمة جـدّاً.(1)
عانى نبي اللـه أيّـوب كثيرا من الأمراض التي أصيب بها، ومكث في بلـواه مـدّة سبع سنوات، وقيل أكثر من ذلك. وكان أيـوب يستحيي أن يطلب من اللـه ما قـد يكون خلاف إرادته واختياره. ويستحيي من الدعاء لتفـريج الكَـرب. لأنه كان يعلم أن اللـة سبحانه وتعالى يبتلي عبـده، ليس جزاء وعقاباً، بل اختباراً لصبره وإيمانـه. فقالت لـه زوجته: «أنت متمسكٌ بعـدُ بكمالك، بارك الله، ومـتّ». فقـال لها: «تتكلمين كلاماً كإحـدى الجاهلات، أألخيرَ نقبلُ من عنـد اللـه والشّرَّ لا نقبـل؟». وقـد اشتـد عليه المـرض. فـدعا النبي أيّـوب ربّـه أن يـزيل عنه الضُـرّ وتسلّط الشيطان. وقـد جـاء في القرآن الكريم، في سورة الأنبياء: «وأيّوب إذ نادى ربّه، إني مسّني الضُرّ وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا لـه، فكشفنا ما به من ضُرّ، وأتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين».

وجـاء في القرآن الكريم أيضاً وفي سورة (ص): «وأذكرْ عبدنا أيوب إذ نادى ربّه إني مسّني الشيطان بنُصُبٍ وعـذاب، اركضْ برجلك هـذا مُغْتَسل باردٌ وشراب، ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منّا وذكرى لأولي الألباب، وخـذ بيدك ضِغثاً فاضرب بـه ولا تحنث، إنّا وجـدناه صابراً، نعـم العبدُ إنه أوّاب».

فقـد استجاب الله سبحانه وتعالى لعبـده الصبور أيوب، وأوحى إليه بالعلاج من الأمراض التي ابتُلي بها. فأمره «أركض برجلك»، أي أضرب الأرض برجلك، فامتثل ما أُمِـر به. فأنبع اللـه له عيناً باردة من الماء، وأمره أن يشرب من مائها ويغتسل. فأَذهب الله عنـه ما كان بـه من الألـم والسّقم والمرض والأذى. فتـمّ شفاؤه وعاد إلى كامل صحته، ومنحه اللـه بعـد ذلك صحّة ظاهرة وباطنة وجمالاً ومالاً كثيراً ورزقاً مضاعفاً. وكانت زوجته من الصابرين. وقـد غابت عنـه فترة، وعندما عادت رأته نَضِراً كما لم يكن سقيماً من قبل. فحمـدت اللـه على ما أنعم عليهما.

عاش النبي أيّـوب في أرض عَوْص وهي أرض البثنيّة المجاورة لبلاد حوران والجولان ما وراء الأردن. وقيل أنه عاش أيضا في أرض آدوم، التي هي الاسم القديم للبلاد الواقعة بين جنوب فلسطين وخليج العقبة. وجاء في بعض المراجع أن النبي أيوب عنـدما توفّي كان عمره ثلاثا وتسعين سنة. لكن جاء في كتاب التوراة في سفر أيوب: «عاش أيوب بعد هـذا مئة وأربعين سنة ورأى بنيه وبني بنيه إلى أربعة أجيال».(2)

النبي أيّوب(ع) عاش التحدّي للمحن والبلايا في كل أشكالها وصورها، وما وهنت عزيمته، فكانت لديه قوة العقيدة والإيمان وعزيمة الثبات. فقـد اختبره اللـه سبحانه وتعالى اختبارات قاسية، فنجح وفاز فوزاً عظيماً جليلاً. فهنيئاً له بهذا الفوز وهنيئاً بشهادة اللـه بقوله تعالى: «إنّا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوّاب». فهي شهادة في الصبر والرجوع إلى اللـه سبحانه في الشدة والرخاء والرضى والتسليم والتسبيح والتمجيد. وكانت عقيدته حاضرة ولم يضعف، لأنه كان قويّاً في إيمانه ويقينه. وبقيت نفسه صافية نقيّـة، لا تحمل ضغينة أو كراهية على أحـد. فاستحق بجدارة أن يكون مثلاً أعلى وقـدوة صالحة في عنوان الصبر.(3)

سـِفـر أيّــوب

سـِفـر أيّـوب هـو أحـد أسفار العهد القديم من كتاب التوراة حـول ( سنة 400 ق.م). يحتوي على 42 إصحاحاً في خمسة فصول. يذكر الفصل الأول تقوى أيوب وصفاته وأقاربه وأملاكه. ويتضمن الفصل الثاني ما جرى بينه وبين أصحابه الثلاثة من جدال. ويشير الفصل الثالث إلى ما نطق به أصحابه من حكمة. ويبين الفصل الرابع مخاطبة اللـه له. فيما ينص الفصل الخامس على الخضوع لإرادة اللـه وتعويض ما فاته من الأهل والمال. قصة النبي أيوب تعرض مشكلة الشر في العالم، ولا يجـد لها حـلاّ إلاّ في الخضوع للـه سبحانه وتعالى. والكتاب من آيـات الأدب الشرقي وأغناها شاعـرية، وأعمقها معرفـة بالإنسان(4).

وعن سفر أيّوب قال كارليل ما يلي: «وأنا أقول عنه إنّه أعظم ما خُطّ بالقلم. فهو كتاب نبيل وكتاب الناس أجمعين. وهو أول وأقدم شرح لتلك المشكلة التي لا آخر لها – مشكلة مصير الإنسان وتصرّف الإنسان معه على هذه الأرض. وأن لا شيء في التوراة أو في غير التوراة يضارعه في قيمته الأدبية. وقامت هذه المشكلة بسبب اهتمام العبرانيين بأمور هـذه الدنيا. لأن الجنّة لا وجود لها في الديانة اليهودية القديمة. فقد كان من الواجب أن تنال الفضيلة ثوابها في هذا العالم. وإلاّ لم يكن لها ثواب على الإطلاق. وكثيراً ما يبدو لهم أن الأشرار ينجحون ويفوزون، وأنّ أشـدّ الآلام قد اختُصّ بها خيار الناس»(5).

بـلاد عـوص وحوران

ينتسب الآراميون إلى آرام بن سام بن نوح، وكان لآرام من الولد (عـوص وحُـول وجاثر وماش وأدمت)، وقـد أقاموا في دمشق وأنحائها ولا سيّما سوريا المجوّفة. سكن عـوص بلاد اللجا في حوران، وهي التي ذكرها الكتاب أنها أرض أيّوب الصدّيق. وهي المسمّاة «أرجوب وتراخوتينس» وذكرت الآثار المصرية اسم شعب (عوصو) في حوران واللّجا. ويقال أنّ عوص هـذا بنى مدينـة دمشـق(6).

مقام النبي أيّـوب

يقع مقام النبي أيّوب(ع) على تلّة مشرفة فوق بلدة نيحا الشوف، في مكان رائع الجمال وغني بالمناظر الطبيعية وكثافة الأشجار الحرجيّة وبخاصة أشجار السنديان المعمّـرة. يعلـو عـن سطح البحر 1400 متر، وعن بلـدة نيحا 300 متر. يقوم البناء على قناطر حجرية عالية بنيت بالحجر الأبيض المنحوت. يتألّف من ساحة رئيسة مُحاطة بعشرين غرفة من جميع جهاتها، وفي أعلاها غرفة المقام، عالية السقف ومكسوة أرضها وجدرانها بالسجاد. يدخلها الزائر بعد خلع الحذاء في الخارج. والنبي أيّوب هو من الأنبياء المكرّمين لدى طائفة الموحدين الدروز، يزورون مقامه هـذا للتبرّك. ويُقال أنّ النبي أيوب، عندما ابتلاه اللـه بأمراضه وفقره تجربة وامتحاناً لصبره وإيمـانه، نقلته زوجته «رحمـه» إلى هـذا الموقع، ثم نزلت إلى بلدة نيحا تطلب خبزاً. ربما كان ذلك حقيقة لأنّ النبي أيوب عاش في أرض عوص المجاورة لبلاد حوران والجولان. وتبعد عن بلدة نيحا الشوف مسافة 12 ساعة سيراً على الأقدام(7).

ليس لدينا ما يشير إلى تاريخ بناء المقام فوق بلدة نيحا، والذي يزيد في غموض تاريخ بنائه، خلو الوصايا التي تعود إلى نحو مئتي سنة من ذكر المقام. ففي وصيّة الشيخ أسد بن زين الدين يقظان من قرية بعذران، المؤرخة سنة 1220هـ/ 1805م، فقـد أوصى بما يزيد على خمسين حسنة نقدية لمقامات ومزارات وخلوات ومجالس وأشخاص، بحسب العادة التي كانت متبعة آنـذاك في تحرير الوصايا. ولم يرد ذكر لمقام النبي أيوب. ووصية الشيخ حسون الدبيسي من قرية مرستي المؤرخة سنة 1226هـ/ 1811م. فقد أوصى أيضاً بما يزيد على ثلاثين حسنة نقدية، لمقامات ومزارات وخلوات ومجالس وأشخاص. ولم يرد ذكر لمقام النبي أيوب. لكن الدكتور شاكر الخوري يُعتبر أول كاتب يشير إلى مقام النبي أيوب، والذي زار المقام في العام 1858 برفقـة سعيد بك جنبلاط. والدكتور شاكر كان طالبا يتابع دراسته في مدرسة المختارة التي أنشأها سعيد بـك. ويذكر الدكتور شاكر أنه في سنة 1858م، توجه مع البيك (سعيد بك جنبلاط) وأولاده وباقي حاشيته إلى نيحا ومكثوا مـدّة شهرين، وكان البيك يسكن الصواوين ويتوجه كل يوم صباحا مع الصيادين لصيد الحجال. وفي أحد الأيام أراد البيك أن يزور مقام النبي أيوب، فتوجه الدكتور شاكر وسعيد بك وأولاده وجميع أفراد الحاشية للزيارة، وبعد تناول طعام الغداء عادوا جميعهم إلى بلدة نيحا(8). وهـذا ما يشير إلى أن بناء المقام ربّـما قـد تم خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.

وللنبي أيوب(ع) مقام أيضا في بلدة قنوات في سوريا، محافظة السويداء. ويوجد أيضا مقام وضريح للنبي أيوب في بلدة صلالة من بلاد عُمـان، فـوق قمّـة جبل أتين العالي(9).

زيارة مقام النبي ايّوب السنويّة

مـن أجل إحياء ذكرى النبي أيوب «ع»، تتـم زيارة سنوية للمقام في يوم محدد من بداية شهر أيلول من كل عام، من قبل عدد غفيـر من الشيوخ الموحدين وبالتنسيق مع مقام مشيخة العقل. للصلاة والمذاكرة الدينية والتباحث بأمور عامة تتعلّق بشؤون الطائفة الدرزية. وكانت الزيارة تتـم عادة في المساء، ويطلق عليها «سهرة النبي أيّوب». لكن مع بداية الحرب الأهلية في لبنان في العام 1975، أصبحت الزيارة تتم في وضح النهار. ومنـذ سنوات عـدّة عمـل الشيخ محمّد أبو شقرا (1910- 1991)، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، على تكريس يوم الواحد والثلاثين من شهر آب من كل عام عيداً سنويّاً للنبي أيوب، حيث يُقام احتفال في مبنى المقام فوق بلدة نيحا، بحضور ممثل عن كل من رئيس الجمهورية ورئيسي مجلسي النواب والوزراء، ووزراء ونواب وسفراء وسياسيين وشخصيات مختلفة. وتُلقى الخطب بهـذه المناسبة تؤكّد على الرّمز الذي يجسّـده النبي أيوب وفضائله(10).

عندما تولى سماحة الشيخ نعيم حسن مسؤولية مشيخة العقل كان رئيس الجمهورية العماد اميل لحود مقاطعاً لقانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز وبالتالي حصل الشغور الرئاسي ونتيجة للظروف السياسية التي كانت سائدة توقفت تلك الاجتماعات واكتفى مشايخ الشوف الاعلى بإقامة سهرات دينية شهرية خلال فترتي الربيع والصيف.

أربعـاء أيّــوب

يوم الأربعاء الأخير من شهر نيسان من كل عام يطلق على هـذا اليوم «أربعاء أيّوب»، وفي اللغة العامّية «أربعة أيّوب». هـذه المناسبة هي طقس شعبي عربي للإستشفاء بمياه البحر. ومن العادات والتقاليد الشعبية والأعياد المتصلة بفصل الربيع. كأعياد الفصح والنيروز وشم النسيم. والتي يُحتَفل بها في بداية شهر نيسان من كل سنة مع قـدوم فصل الربيع. وتردد العامّة «في نيسان بتصير الدني عروس وبيخف الغطا والملبوس». ويحتفل عدد كبير من المسلمين والمسيحيين في هذا اليوم في لبنان وسوريا ومصر. وذلك بالنزول إلى البحر والاغتسال بمائه. وفي الماثورات الشعبية أنّ النبي أيوب عثـر في بلواه على عشـبة يطلقون عليها «حشيشة أيّوب»، وهي عشبة العرعر المعروفة بفوائدها الطبية. فقد بلّها بالماء زمنا ثم استحمّ بنقيعها، فشُفي من الأمراض السبعة التي ابتُلي بها.

في هـذه المناسبة «أربعاء أيّوب» أو «أربعة أيوب»، كما يسمّونها. يحيي البيارتة «أهالي مدينة بيروت»، هـذا اليوم كتجسيد يؤكـد التصاقهم بتراث يقـدّم نموذجا عن قيم ترتكز على المحبّة والتلاقي في سبيل الخيـر. فقد اعتاد البيارتة الاحتفال بتلك الـذكرى على شاطئ البحر، في محلّـة تلال وشاطئ الرملة البيضاء وصخور الروشة وميناء الداليه في محلة شوران. تكريما للنبي أيوب لاحتماله وصبره على المصاعب والأمراض التي ابتُلي بها. كانت التحضيرات تبدأ قبل أسبوعين، فيقوم الشباب بتنظيف رمال الشاطئ ونصب الخيام والعرازيل وتوزيعها وفق المناطق والعائلات. وفي اليوم المحـدد تنطلق عند الفجر مواكب النساء والأولاد من كل الأحياء، وعند وصولهم تُمَـد الحُصُر والبُسط وتُصَف الكراسي والطبليات الخشبية، ويُحضرون معهم مأكولاتهم المتنوعة، وفي طليعتها حلوى «المفتّقـة»، وهي حلوى بيروتية تصنع من الأرز الناعم والسكر وطحينة السمسم ومسحوق الكُركم «العقدة الصفراء» ويحتاج طهيها إلى صبر وتقنيّـة. ويتساعدون في تحريكها، وتُهدى أطباق منها إلى الأهل والأقارب والجيران. ولا تعتبر الطبخة ناجحة إلا إذا بان «السـيرج» زيت السمسم على سطحها. وذلك للمشاركة وفقا لعادات وتقاليد توارثوها عن السلف، ويسعَون لنقلها إلى أبنائهم وأحفادهم، كبادرة تعيـد إلى الأذهان تقليـداً عايشـه الكبار ويحاولون نقله إلى الأجيال الشابّـة. ويتخـلّل المناسبة معـرض تراثي للأشغال الحرفية واليدويــة. حيث يقـدّم البعض أغاني ورقصات شعبية فولكلورية، ويطيّر الفتيان والصبية في الجـو طائرات ورقية تُصنع من الورق الملوّن وترتفع عالية في الفضاء وتُحرّك من الأرض بواسطة بكرة من الخيطان. ويمارس الشبان لعبة شـد الحبال. وينتشر بائعو الكعك واللوز والترمس وغزل البنات والتفاح المغلف بالمعلل، والنمورة والصفوف والسمسمية وغزل البنات. وعندما يحين موعد الاغتسال، تتجمع العائلات ويضرب الشبان طوقاً بشريّاً لمنع مرور الغرباء، وتنزل بعض النساء والفتيات بفساتينهن إلى الماء وتغطس كل واحدة سبع غطسات للتبارك، أو وفاء لنذر أو رجاءً أو طلباً للشفاء اقتداء بما فعله النبي أيوب. والبعض يغسل عيونه بماء البحر. ومنهم من يجمع زهوراً (حشيشة أيوب)، وهي حشيشة العرعر المعروفة، يبلّها في الماء ليلة الأربعاء المعهودة تحت الندى، وفي صباح يوم الأربعاء تُغسل وجوه الأولاد بمائها، وتُرش بهذا الماء لفك عقـدة إبليس من بين العيون. والبعض يمارس عادات وتقاليد، مثل: (أوّل قصّة شعر للمولود تتم في مياه البحر لنوال البركة – شرب سبع غبّات من ماء البحر أو الاغتسال بسبع موجات متتابعة تزيل مفعول السحر والربط – وتلجأ العاقر إلى البحر بأن تملأ فمها زيتا وتدخل البحر ثم تلفظ الزيت في مائه. ثـمّ تبدأ جلسات تدخين النرجيلة ولعب الورق والدومينو. وتُقَدَّم أقداح الشاي وفناجين القهوة والفواكه والمرطبات(11).

وفي بعض القرى اللبنانية، يطلقون على يوم (أربعاء أيوب) تسمية «أربعاء البراقطة» أو «أربعة البراقطة»، حيث تمشّط المرأة شعرها في الظلام فيكسبه لمعاناً وبريقاً. ويستعملون الاكتحال اعتقادا منهم أنّ وضع الكحل على العيون في هذا اليوم يقوّي النظر ويزيـد من صفاء العين وبريقها. ويستعمل بعض الرجال والنساء الكحل أيضاً على العيون، اعتقاداً أنّ ذلك يمنعهم من مشاهدة الأفاعي أثناء العمل في الحقول في فصل الصيف، على أن يتـم الاكتحال في الصباح وقبل شروق الشمس(12).

الكنيسة المارونيّة وأربعاء أيوب

في يوم أربعاء أيوب، تتأمّل الكنيسة المارونية «بأيّـوب» الرازح تحت الأوجاع والآلام والصابر عليها. نسمعه يقول: «عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أعود، الرب أعطى والرب أخذ فليكن اسم الرب مباركاً». في هذا اليوم تقيم الكنيسة رتبة القنديل، وتبارك الزيت وتمسح بـه جباه المرضى والمؤمنين. هـذه الرتبة في الأساس كانت سرّ مسحة المرض. يُمسح المؤمنون بالزيت الذي يرمز إلى الشفاء. والمسح بالزيت هو علامة حبّ الربّ للمتألّم والمعذَّب والخاطئ. نصلّي لنعرف كيف نسكب من المسيح النور، أنواراً في قلوب الحزانى وفي جلجلة كل مريض(13).
وذكر البطريرك الماروني في تأمّل قداس أربعاء أيوب ورتبة القنديل، أنّ الكنيسة تذكر في هـذا اليوم من أسبوع الآلام أيوب البار الرازح تحت الأوجاع والآلام والصابر عليها. فكل عطية صالحة هي من جودة اللـه. أمّا الألم فله معناه التكفيري عن الخطيئة الموجودة في العالم، في الفرد وفي الجماعة(14).

مقـامات ومزارات عـديدة

ليس مقام النبي أيّوب وحيداً على المرتفعات الجنوبية من بـلاد الشام. بل هناك مقامات ومزارات دينيّـة عـديدة، منها:
– مقام النبي صافي فوق بلدة جباع الحلاوي، على جبل صافي.
– مقام سجـد قرب بلـدة سجـد في منطقة جبل الريحان. وهذا المقام عليه قبّة، يـؤمه اليهود للزيارة.
– مقام النبي يعقوب في بلدة روم قضاء جزين، وهو المسمّى «مشهـد محيبيـب»، ويقال أنّ فيه قبـر بنيامين بن يعقوب.
– مقام النبي عازر قرب بلدة عازور في قضاء جزين.
– مشهد هارون في بلدة الخرطوم الواقعة في بلاد الشومر في ساحل صيدا، ينسب إلى هارون أخي موسى، كان يزوره اليهود.
– مقام النبي ميشا قرب قرية بنواتي في قضاء جزين.
– مقام النبي حنانيا فوق قرية بحنّين أيضاً(15).


المراجع:

1- الكتاب المقدس- العهد القديم- سفر أيوب -الإصحاح الأول ، ص 543
2- الكتاب المقدس- العهد القديم – سفر أيوب_ الإصحاح الثاني والأربعون
3- تأملات في سيرة النبي أيوب (ع)، المصلحة الدينية والتربوية في المجلس المذهبي، بيروت، 2012
4- المُنجـد في الأعلام، طبعة ثامنة ص 103
5- ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة زكي نجيب محمود، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، ط 3 – 1965 ص391.
6- عيسى اسكندر المعلوف، تاريخ البقاع وسوريا المجوفة، دار الفارابين بيروت، ج1 ص 233
7- رياض غنام، نيحا الشوف في التاريخ الأرض والسكان، طبع المجلس البلدي في نيحا ط 2 سنة 2018 ص 189
8- شاكر الخوري، مجمع المسرّات، تقديم الياس القطار، دار لحد خاطر، ط 2 – 1985 ص 30
9- رياض غنام، نيحا الشوف في التاريخ، م س ، ص 192
10- صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين الدروز، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، بيروت، 1994ص 244
11- عبد اللطيف فاخوري، مقال في مجلة الأفكار، العدد 407 تاريخ 7/5/1990 – زياد سامي عيتاني، مقال في جريدة الأنباء، 24/4/2019
12- أنيس فريحة، القرية اللبنانية حضارة في طريق الزوال، دار المكتبة الأهلية، ص 274
13- موقع القديسة رفقا على الإنترنت
14- جريدة النهار بتاريخ 8/4/2020
15- رياض غنام، م،س، ص 193

النَّبيُّ حزقيال

وَرَدَ في التاريخ القديم ذكرُ نَبِيّين يحملان هذا الاسم الكريم وهما حزقيال الأوّل وحزقيال الثاني. أمّا حزقيال الأوّل فمدفنه بلدة بثينة كرَك نوح، كما يشير إلى ذلك صاحب كتاب عمدة العارفين.

أمّا حزقيال الثاني، والذي نحن بصدد تاريخه، فمدفنه ومزاره بلدة بلاط قضاء مرجعيون وهي من قرى وادي التيم جغرافياً وقداسة. وهو صاحب السِّفر الثالث والذي يذكرُ فيه حِكَماً طبيعيّة وفلكيّة مرموزة، وكذلك شكل البيت المقدس وأخبار ياجوج وماجوج. وحزقيال هذا كان في جملة سبايا بني إسرائيل أيام الملك نبوخذ نصر وعددهم، كما يُقال، نحو 70 ألفاً، إذ أقام بينهم وتنبّأ فيهم نحو عشرين سنة بأمر الله تعالى حيث أمرَهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر فأجاب البعض وصدّقه الأقلّ وصدّ عنه وكذّبه الأكثر، فلما ألحّ عليهم بالإنذار وبالغ في النّصح ردّوا كلمته وخالفوه واقتحموا عليه، فقتلوه، ولم يتعظوا بما صار عليهم ولا خافوا الله لفعلتهم.

ومن الأقوال المنسوبة للنّبيّ حزقيال: «مَن أهانَ وليّاً فقد بارزني بالمحاربة وأنا أسرعُ إلى نصرة عبيدي وأوليائي. وإنّ من عبادي من لا يصلحُ إيمانه إلاّ بالغنى ولو أفقرتُهُ لأفسدتُ عليه دينه. وإن من عبادي المؤمنين من لو سألني الجنة لأعطيته ولو سألني الدّنيا غلافة سوطٍ لم أعطه. وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أفضل ممّا افترضت عليه ولم يزل يتقرّب إليّ بالنّوافل حتى أحبّهُ، فإذا أحببتهُ كنتُ سمعه الذي يسمعُ به وبصرهُ الذي يُبصرُ به، ولسانه الذي ينطقُ به، وقلبهُ الذي يعقلُ به، ويدهُ التي يبطشُ بها، وإن دعاني أجبتهُ وأن سألني أعطيته».

أمّا مزاره ومدفنه في بلدة بلاط فقد تداعت الدولة العثمانية إلى ترميمه أواسط القرن الثامن عشر وكان المتعهد لبنائه من آل ملاعب (جبّ حسيكة) من بلدة بيصور. وهنا ما يدعو إلى الاستغراب والاستهجان أنّه ما كان يبنيه في النّهار يُهدم في الليل إلى أن احتار من أمرهِ وفِكرهِ، وما العمل، ومن الذي يُقدم على ذلك! ممّا حمله على النّوم قرب المقام ليلاً وإذ به يسمع صوت ريحٍ قويّة ترتدّ على الحائط فترميه أرضاً.

في اليوم التالي بعد أن استشار العديد من المقيمين كانت إجاباتهم: ما لكَ سوى الأتقياء من المشايخ وخصوصاً مشايخ الأزهر الشّريف (خلوات البيّاضة). لهذا ذهب إليهم واستشارهم بعدما أبلغهم بما حدث معه وما العمل لإنجاز البناء.

المشايخ الثقات كانت إجابتهم: من أين تأخذ إيجارك لقاء البناء؟ أجاب من أموال الدولة العَليّة أي الدولة العثمانية الحاكمة آنذاك.
هنا افترّ ثغر أحد كبار المشايخ قائلاً: يا بُني ألا تعلم أن أموال السلطان ودار ضرب العملة محرّمة عند أبناء التوحيد، فكيف يكون لقاء بدل ثمن لبناء مكان مقدس لنبيّ مكرّم فذاك لا يجوز مطلقاً.

ألا تعلم كم من ظُلمٍ وتعسّفٍ وإرهاقٍ لأبناء الشّعب عند تحصيل هذه الأموال؟
ألا تعلم أنه لا يدوم ولا يصحّ سوى الأموال الحلال وأنه منها يكون ترميم وبناء دور العبادة والمقامات وحتى بيوت الصالحين والمؤمنين؟

استغفر معلّم البناء من حضرات المشايخ ثم وعدهم أنه سيبنيه دون أي مقابل، غير أنه في النهاية لربما أغوته إحدى نساء تلك القرية فتزوّج منها ثم اعتنق المذهب الشيعي وذريَّته لتاريخ اليوم لم تزل في بلدة بلاط وهم يتبادلون الزيارات مع أقاربهم في البلدة الأم بيصور. وهذا المقام يُزار حالياً من جميع المذاهب، وأنا شخصيّاً وقد أصبحت في أواخر العقد الثامن من العمر أتذكّر كيف كان أهلنا فيما مضى من بلدة الفرديس وكيف كانوا يوفون النذور إلى المقام الشريف والسعي المبرور حيث يذهب جميع أبناء البلدة سيراً على الأقدام أو ركوباً على المطايا من الدواب والخيول وينامون هناك. وكانت تُقام حلقات الذّكر أوّلاً ثم الطعام والموائد العامرة من أصحاب النذور، ثم يُعْمَدُ إلى المنذور فيعتلي فرساً ويدور الجميع معه حول المقام ثلاث دورات والرجال يرفعون عقيرتهم بالحداء وكذلك النسوة، وممّا أتذكره من الحداء :
جينا نزورك يا حزقيل بين بلاط وبين دبّين
يا ربّي تحرس مَزْيـــَــد وثبّتنا عَ المحبة واليقين

بحلول منتصف القرن الماضي تولّى إدارة المقام المرحوم الشيخ سليمان ذياب من قِبَل خلوات البياضة المشرفة عليه صيانةً وتجهيزاً وبناءً، إذ أصبح المقام المذكور وما يحيط به من باحاتٍ وحدائق ومطابخ وقاعات تليق وتتسع لأكبر عدد من الزوّار حضوراً وإقامة.

يتوسّط ذلك المقام سنديانة مُعمّرة لربما عمرها من عمر المعبد التاريخي. وممّا يلفت النظر أنّه عام 1982 عندما احتَلّت بلادنا دولة إسرائيل عمد خبراءُ الآثار والحاخامون منهم إلى نبش النواويس التي حوله ومنها ناووس لم يزل ظاهراً للجميع وهو محفور في الصخر بشكل دائري ويحتوي على ثمانِية مدافن في الصخر ذاته ولا نعلم ماذا وجدوا وكيف اهتدوا إلى ذلك، وهذا ما يرويه أبناء تلك القرية..!

(من كتاب وادي التيم أرض القداسة، قيد التأليف لمؤلّفه غالب سليقه).


المراجع:

1- كتاب عمدة العارفين.
2- كتاب تاريخ حاصبيا وما إليها.
3- كتاب مع الأنبياء.
4- أقوال بالتواتر من بعض المعمرين.

العدد 36-37