السبت, أيار 4, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, أيار 4, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

حصاد أربع سنوات

لا شيء، على الإطلاق، يعدلُ الرضا على الذات.
لا مديح، لا ثمن، وربما، لا كلمات.
هوذا إحساسي الدقيق وأنا أرسمُ، بالأسودِ على أبيض، صورةَ مشاعري عشيةَ صدورِ العدد 36-37 من المجلة العزيزة «الضّحى»، تشرين الثاني2021.

لقد أنجزتُ طوال أربع سنوات، وعلى أفضلِ نحوٍ ممكن، المهمةَ التي أناطها بي سماحةُ شيخِ العقل، واللجنةُ الإداريةُ المصّغرة في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز وهي رئاسة تحرير «الضّحى»، التي تصدرُ عن المجلس، وتعكسُ التوجهاتِ العامة لسماحة الشيخ والمجلس، وتوجيهاتهما الوطنية والأخلاقية.

أربع سنواتٍ من التعايش، بل العيش الأسبوعي، الناجح، في كنف دار طائفة الموحدين الدروز في بيروت. أسعدني في السنوات الأربع تلك سائرُ ما شاهدتهُ من إخلاص الجميع لعمله، من أعضاء المجلس، إلى مدير الدار، فالعاملات والعاملين جميعاً دون استثناء.
لم أشعر يوماً واحداً أنهنّ، أو أنهم، مجردُ موظفاتٍ أو موظفين يؤدّون أعمالاً كلّفوا بها، ثم يطوون أغلفةِ ملفاتهم، ويقفلون أبواب مكاتبهم، فتنتهي نهاراتهم وجداولُ أعمالهم في انتظار يومٍ جديدٍ رتيبٍ آخر.
لأربع سنوات، شهدتُ نهاراتٍ لا تنتهي، وأناساً أنّى طلبتهم حاضرين، لا يعرفون لفظة «لا» – كأنما صحّ فيهم عياناً وممارسةً، ما كنت أقرأهُ على الدوام:
«ما قال لا إلاّ في تشّهُدِهِ لولا التشهّد كانت لاؤه نعما»
شاهدتُ، بل شهدتُ، ما كنتُ أخجلُ أن أقارنَ سويعاتِ حضوري القليلة بساعات حضورهم التي كانت تستعصي على العدّ، ولا تحتاجهُ أصلاً.

لولا تعاون، بل تفاني، الفريق الإداري لدار طائفة الموحدين الدروز، بتوجيهات أكيدة من سماحة الشيخ، لم يكن بالإمكان – وبخاصة في الظروف شبه المستحيلة للسنتين الأخيرتين – أن تبقى «الضّحى» واقفة على قدميها، وأن تصدر كالمعتاد، وكأنما البلاد بألف خير، وهي لم تكن كذلك في حال من الأحوال. لهؤلاء جميعاً، شكري وامتناني.

إثنا عشر عدداً في أربع سنوات – إذ كان بعضها مزدوجاً – ولأسباب متصلة مباشرة بظروف الإقفال الطويل للبلاد سحابة سنتي 2020 و2021.
إثنا عشر عدداً، وأكثر من مئة وخمسين فقرة، قرأناها، كلمة كلمة، بل «درسناها» على بيدر المعرفة والمحبة، والواجب قبل كل شيء، سنبلةً سنبلة، بل حبةً حبة، فلم نترك خارج البيدر إلا القشر والزؤام، أما حبّة الحنطة فلم نلمسها، بل احتفينا بها، وبصاحبها، فأوردها – أخي خلدون، والمخرج الفنّي- أيّما موردٍ، من العناية والحرص وجمال الصورة تنضافُ إلى قوة الفكرة وديمومة أهميتها. وحين كنّا نتعب قراءةً ومراجعةً مرة واثنتين وثلاثاً، كان حرص سماحة شيخ العقل الشخصي كفيلاً بتجنّب كل وهدة، أو هفوة، فتخرج «الضّحى» إلى قرائها -أصدقائها- في أفضل مضمونٍ وصورةٍ ممكنين. وعليه لم يردنا – صدقاً – من جمهور «الضّحى» في لبنان وجبل العرب، وربما أبعد، من مرجعيات وأصحاب مسؤوليات وطنية وديبلوماسية محترمة، إلا عبارات التقريظ، لا أقول المديح – فالمرء لا يمتدحُ على قيامه بالواجب.

إثنا عشر عدداً، كانت «الضّحى» فيها، كما ديدنها على الدوام، أمينة لرسالتها في نشر ما يحثّ على الأخلاق القويمة، والإيمان الصافي الصادق، من جهة، والثقافة الرفيعة، والمعرفة الواسعة بتراثنا التوحيدي الثقافي والتاريخي والأخلاقي والعروبي والوطني من جهة ثانية. فأمطنا اللثام – بفضل كتّابنا الأفذاذ المميّزين عن قصص بطولات معروفية تقرُبُ حدّ الأساطير، وعن أسماء معروفية في دنيا النضال والثقافة ملأوا زمانهم بما يرفعُ الرأس والجبين، وبسِيرِ مشايخ، عابدين، موحّدين، متواضعين، من حق أجيالنا الطالعة أن تتعرف إلى إرثهم المعرفي، والمسلكي المنقطع النظير، كيما يكونوا مشعلاً يهدي في زمن إمّحت فيه معظم معالم الطريق، وأطفئِت فيه على الأغلبِ سُرُجُ النور؛ زمن قال فيه أبو العلاء المعري قبل ألف ومئة وثلاثين عاماً:
قد فَسُدَ الأمرُ كلّهُ، فاتركوا الإعرابَ إن الفصاحةَ اليوم لحنُ

إثنا عشر عدداً، ما كان بالإمكان أن تخرج إلى القرّاء، وبخاصة في السنتين الأخيرتين، لولا محبة أصدقاء «الضحى» المنتظرين لها، وتفاني العاملين فيها، وبخاصة مندوبيها، يحملون العدد منها كما لو كانوا يحملون تحفة، يتمسكون بها، مدركين قيمتها الأدبية والأخلاقية، لا يرمونها كيفما كان، ولا يتحدّثون عنها وعن عملهم إلا باعتباره «واجباً» يؤدّونه، ولا ينتظرون له مقابلاً أو أجراً أو ثمناً إلا عند رب العالمين، ومن سريرتهم وضمائرهم، أولاً وأخيراً.

إثنا عشر عدداً جرى تمويل صدورها المكلف، وبخاصة في السنتين الأخيرتين، حيث غاب كل إعلان، وكل دعم خارجي، بفعل أريحية بضعة رجال صالحين صادقين مؤمنين، بل استثنائيين، في مجلس الأمناء، تكفّلوا، وحدهم تقريباً، بمعظم نفقات طباعة «الضّحى» – فيما عزّت المشاركة في الأعباء ممن لم نكن نتوقع منهم ذلك.

في السنتين الأخيرتين على وجه الخصوص كنّا ومندوبونا الأوفياء، نمرّ بطرق مقطوعة، وحواجز مقفلة، وممرات محفوفة بالمخاطر، كي نحمل «الضّحى» إلى قرائها، بل أصدقائها المنتظرين، بل العاتبين – بحق – إذا تأخر صدورها أو وصولها.
كان نجاح «الضّحى» في استمرار صدورها، في ظرف لبناني مرهقٍ للحياة حتى الاستحالة – بفعل صعوبات غير عادية ليس أقلها انهيار سعر العملة الوطنية إلى الحد الأدنى، إقفال المطابع، وانتشار الوباء الخبيث – ثم استمرار صدورها في مئة وثماني عشرة صفحة، ويزيد، في أغلى أنواع الورق وأرفع أشكال الطباعة – في حين اختفت معظم الدوريات اللبنانية الورقية أو تقلّص حجمها إلى وريقات قليلات – أقرب إلى إنجاز استثنائي، كي لا نقول أكثر من ذلك؛ أمرٌ ما كان ليتحقق لولا قوةُ دفعِ «رسالة » نفسها، أولاً وأخيراً، والإيمان الوطيد بها، الذي تحوّل تضحيات وتعاون مثاليين.

وأخيراً،
«الضّحى» أكثر من وسيلة إعلام، أو إخبار، أو إعلان – ولم تكُ يوماً كذلك.
«الضّحى»، وكما أرسى المؤسسون قبل أكثر من نصف قرن: رسالةٌ، ثم واجبٌ في القيام بأعباء الرسالة.

لقد خبرتُ من قرب العدد الكبير من الأفراد المؤهلين لأن يسهموا من خلال علمهم وخبرتهم وإخلاصهم في مسيرة «الضحى»، وأن يتقدّموا بها – ورقياً وإلكترونياً – إلى أمام، لتصل شهرياً إذا أمكن إلى جمهورٍ هو في شوقٍ، وحاجةٍ، إليها.
وبسببٍ من ذلك، يجب أن تهونُ كل التضحيات – المالية على وجه الخصوص – وأقصدُ تلقائياً أصحاب الإمكانيات المادية في بيئتنا، وهم كُثُر.

وفي المضمون، يتوجب، وبناء على مسحٍ علمي، مراكمة ما لقي من موضوعات «الضّحى» قبولاً واستحساناً من قرّائها، والتعديل في ما بات عبئاً على المجلة والمهتمين بها.

وسيكون، بالتأكيد، في طليعة ما يجبُ حفظه سياسة «» الحكيمة، في النأي بنفسها عن الصراعات السياسية، وجعلِ الجهد كلّهُ موقوفاً على التأصيل المعرفي والأخلاقي والتاريخي والثقافي الحقيقي، بعامة؛ وتجديد التزامها، كما الجماعة المعروفية أبداً، بالقضايا الوطنية والعروبية والإسلامية المنفتحة والمحقّة – وفي مقدّمها قضية الشعب الفلسطيني.

 

سماحةُ الشّيخ الدكتور سامي أبي المُنى، شيخ عقل لطائفة الموحدين الدروز

من حسن الطالع، وببركة الأخيار الأطهار، أن يُوفَّق الوطن، وبخاصة الموحدون الدروز فيه، بسماحة الشيخ الدكتور سامي أبي المنى شيخ عقل جديد لطائفة الموحدين الدروز في لبنان، في فترة عصيبة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وعلى نحو لم نشهد له مثيلاً في مئة عام.

تشارك «الضّحى» الموحدين الدروز في الوطن، والمحيط العربي، والمهجر؛ وكذلك اللبنانيين من كل الفئات والمذاهب، ترحيبهم الحار بسماحة الشيخ أبي المنى شيخ عقل جديداً، بعدما عرفوا فيه، ولفترة طويلة، رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي، رجل الورع والتواضع والثقافة والحكمة والانفتاح والتواصل والحوار الذي لا ينقطع، وقد عبّروا عن ذلك بالتفاف وطني واسع منذ لحظة انتخابه بالإجماع من المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز.

لكن لـ «الضّحى» أسبابها الخاصة كيما تعتبر المناسبة تخصّها بامتياز، لأسباب عدّة معروفة، وأولها أنّ سماحة الشيخ أبي المنى كان باستمرار في موقعه في اللجنة الثقافية داعماً ونصيراً وصديقاً لـ «الضّحى»، وأكثر من ذلك كاتباً مبرزاً فيها. قدّم سماحة الشيخ أبي المنى باستمرار فقرات دينية وثقافية وأدبية عدّة متميزة في المجلة، وكان لا يبخل عليها برأي ناصح من هنا، أو باقتراح وفكرة من هناك.
وعليه، فـ«الضّحى» ستكون أكثر سعادة، حين يكون سماحة الشيخ أبي المنى على مزيد من التواصل معها فتفيد من خبرته الواسعة، وتوجيهاته، لتزداد إتقاناً لعملها وليتوسّع دورها الوطني والتوحيدي والأخلاقي والثقافي في مجتمعها التوحيدي كما في أرجاء الوطن بأسره.

وإذ ترحّب «الضّحى» بسماحة الشيخ أبي المنى، فهي ستبقى على الدوام تشعر بالعرفان للتأييد المنقطع النظير الذي محضها إياه سماحة الشيخ نعيم حسن. كان تأييد سماحة الشيخ حسن المادي والمعنوي العامل الحاسم الذي سمح باستمرار صدور «الضّحى» في السنتين الصعبتين الأخيرتين، بالمعايير الفنية والثقافية نفسها، رغم توقف الكثير من الدوريات الورقية في الفترة تلك.

ستبقى «الضّحى» أمينة لهذا التراث المعنوي والأخلاقي والتاريخي الذي تغرف منه، وهي تكتشف يومياً أنّ فيه من الصفحات ما لم يُكتشف بعد.

من «الضّحى»، شكراً سماحة القاضي الشيخ نعيم حسن، وأطيب الدعاء بالتوفيق لسماحة الشيخ الدكتور سامي أبي المنى.

العقائد غير المكتوبة عند أفلاطون:

تناولت المُحاوَراتُ الأفلاطونية التساؤلاتَ الأساسية لحقائقِ الوجودِ، والنَّفْسِ، والفضيلةِ، والمُثُلِ، والمعرفةِ، والحقِّ والخيرِ والجَمَالِ والسعادةِ والمحبّة والعَدْل، ووقفت عند تلك الحقائق بعُمقٍ فلسفي أذهلَ البشريةَ عبر التاريخِ ولا يَزال يُذهِلها. لكنّها كثيراً ما كانت تُلمِّح ولا تُصرِّح، تُشير تلويحاً بالحقائق ولا تَبُتُّ فيها بالإجابة النهائية، بل هي أحياناً تنتهي بـ «حَيْرة فلسفية» (aporia)، فيما هي في الحقيقةِ تُمهِّدُ المعرفةَ لمَنْ هم مُهَيّؤون لتلقِّيها وفَهْمِها الفهم الصحيح. فما هي هذه الحقائق؟ ولمَنْ احتفظَ أفلاطون بها؟ ولمَنْ نَقَلَها شَفَهِيّاً؟ ومَنْ حَمَل هذه الأمانةَ المعرفيّة الحِكْمَويّة ونَقَلها للأجيال التالية؟ وهل كانت هناك نظريةٌ رئيسية توحيدية في ما بينها؟ إنّ أوّلَ مَنْ تحدَّثَ عن تلك «العقائد غير المكتوبة» لدى أفلاطون هو تلميذُه أرسطو وعددٌ من التلامذة الآخرين في أكاديميّته، فضلاً عن فلاسفة أقدمين.

«العقائدُ الأفلاطونية غير المكتوبة» هي مفاهيم ميتافيزيقية لاهوتية نَقَلَها أفلاطون شَفَهِيّاً لنخبةٍ من تلامذته المُهيَّئين في أكاديميّته وعلى رأسهم أرسطو، التي أشار إليها في أكثر مِن مؤلّفٍ له، لا سيّما «في الطبيعة» (physica)، وفي مقاطع أخرى مِن مُؤلِّفه الشهير «في الماورائيات» (metaphysica)، وهي بمثابة «النظرية الرئيسية» المحورية لجميع مفاهيم أفلاطون الفلسفية.

أرسطو .. “أغرافا دوغماتا”

وقد استخدم أرسطو في إشارةٍ إلى «العقائد غير المكتوبة» لدى أفلاطون (ولأرسطو أيضاً عقائد سرّية غير مكتوبة.. وهذا بحثٌ آخر!!) العبارةَ اليونانية «أغرافا دوغماتا» (agrapha dogmata γραφα δόγματα)، موضِحاً أنّ أفلاطون علَّمها شَفَهِيّاً في أكاديميّته. وكتب أرسطو يقول إنّ أفلاطون استخدم مفهوماً ما في إحدى محاوراته على نحو مختلف ممّا كان يُعلِّمه شَفَهياً «في ما يُدعَى العقائد غير المكتوبة»، وقد اعتبر العلماء وباحثو الفلسفة هذه الشهادة من تلميذه الأول أرسطو خيرَ دليلٍ على وجود تلك الحقائق غير المكتوبة المخصّصة لنخبة من التلاميذ.

للمُهيَّئين فقط!

بل هناك إثباتاتٌ أخرى في الأدبيات الفلسفية القديمة، منها ما ورد في نصٍّ لأحد تلامذة أرسطو يُدعَى أرستوكزينوس (Aristoxenus)، الذي نقل عن معلِّمه أرسطو أنّ ثمة محاضرة لأفلاطون حول «الخير» تشتمل على براهين رياضياتية وفلكية تُثبت وجود «الواحد» كمبدأ أسمى. وكانت هذه المحاضرة مُعدَّة للمُهيَّئين، في حين أنّ «السَّامعين غير المُهيَّئين لم يفهموا شيئاً» منها! وهناك كذلك مقاطع لـ ثيوفراستوس (Theophrastus)، أحد تلامذة أرسطو أيضاً، يتحدّث فيها عن عقائد أفلاطونية سرّية.

ويعزو الباحثون إلى أفلاطون نصّاً فلسفياً يُدعَى «الرسالة السابعة» (Seventh Letter) يُسهِب فيه بالتحدُّث عن العقائد المُنتَقِلة شَفَهِيّاً لمَنْ هم أَهْلٌ لها، وهو ما نجده أيضاً في مقاطع من أعمال تلامذة نخبويين في أكاديمية أفلاطون أبرزهم هيرمودورس السرقُسطي (Hermodorus of Syracuse)، وكذلك تلميذه الآخر سبيوسيبوس (Speusippus)، وثمة إشارة واضحة إلى أُصولها الفيثاغورية. أمّا الإشارات في مُحاوَرات «بارمينيدس» (Parmenides)، «وتيماوس» (Timaeus)، و»الجمهورية» (Politeia)، التي تناولناها في أبحاثٍ سابقة، وكذلك في مُحاوَرة «فيليبوس» (Philebus)، فثمة حقائق فيها لا يمكن فهمها إلَّا تحت أضواء مفهوم «العقائد غير المكتوبة».

«العقائد الأفلاطونية غير المكتوبة هي مفاهيم ميتافيزيقية لاهوتية نَقَلَها أفلاطون شفهيّاً لنخبةٍ من تلامذته المُهيَّئين في أكاديميته وعلى رأسهم أرسطو».

تحفُّظ «على ما هو أثمن»

في مُحاوَرة «فايدروس» (Phaedrus)، على سبيل المثال، يؤكّد أفلاطون بالتفصيل تفوُّق التعليم الشَّفَهِي على ذلك المكتوب في نقل الفلسفة والحكمة لأنّه أكثر استجابة ومرونة وتفاعلاً مع المتلقِّي، وكيف أنّ الكتابة ربما تُضعِف الذهن، وهي تنفع للتذكير وليس للإضاءة على الحقائق الحِكْموية. ويؤكّد أنّ مَنْ بوسعه أن يُعلِّم بهذه الطريقة الشَّفَهِيّة هو الفيلسوف الحقيقي الذي بإمكانه أن ينقل للمُستحقِّين «ما هو أثمن» ممّا يتعذَّر الإفصاح عنه خطّياً، وهي إشارة واضحة إلى «العقائد السرّية غير المكتوبة».

كما أنّ هناك أسلوب «التحفُّظ» (Reservedness) في المُحاوَرات، حيث ينقطع النقاشُ الفلسفي فجأة عندما يبلغ ذروته، في مسائل معرفية هي في غاية الأهمية. ويشير بعض الباحثين إلى أنّ ما جرى التحفُّظ عليه إنّما «احتُفِظ به» لنقلِه شَفَهِيّاً لمُستحقِّين، إذ إنّه غير ملائم للنقاش الظاهري العام، وهذا ما أكده أرسطو أيضاً.

أسرار من أثينا إلى الإسكندرية!

وفيما سادت بعد عهد أرسطو القراءةُ الحرفيّة لمُحاوَرات أفلاطون، انتقلت عقائدُه الشَّفَهِيّة من أثينا عبر نخبةٍ من التلامذة إلى الإسكندرية وغيرها من المدن على المتوسط، حيث انتشرت بعدئذ القراءةُ الرمزية المجازية وفقاً لتلك العقائد، وتزامَن ذلك مع إعادة إحياء المبادئ الفيثاغورية، في ظلال مدرسة «الفيثاغوريين الجُدد» (Neo-Pythagoreans)، وعلى الأخص الفيلسوف نومينيوس الأفامي (Numenius) (القرن 2 بعد الميلاد) الذي ألمحَ إلى أنّ محاورات أفلاطون تنطوي رمزياً على عقائد فيثاغورس، لا سيّما في عمله الشهير «في الأسرار أو العقائد المحفوظة عند أفلاطون» (On the Secrets or Reserved Doctrines in Plato).

ويبدو بذلك أنّ «المدرسة الأفلاطونية المُحدّثة» (Neo-Platonism)، ولا سيّما في القرن الميلادي الثالث، مع مؤسِّسها الفيلسوف أفلوطين (Plotinus) الذي يعتبر نفسه مُفسِّراً مُخلِصاً لعقائد أفلاطون لا سيّما في الماورائيات، قد استندت في فلسفتها المثالية الروحية إلى تلك العقائد غير المكتوبة المُشار إليها.
أمّا الأفلاطوني المُحدَّث ماكروبيوس (Macrobius) (القرن 5 بعد الميلاد) فسلّط الضوء على التفسير الرمزي الماورائي غير الحرفي لأعمال أفلاطون، لا سيّما حينما يتطرّق في مُحاوَراته إلى مِثال «الخير»، وهو ما أكّده الفيلسوف بروكلوس (Proclus) (القرن 5 بعد الميلاد)، في إطار شرحه لمُحاوَرة «بارمينيدس»، حيث يشير إلى «أسرار» المُحاوَرة أو «معانيها العميقة» الماورائية والدينية.

جامعة توبينغن

«مدرسة توبينغن» .. إثباتات

في مقابل تلك المصادر التاريخية العريقة، هناك إثباتاتٌ علميّة حديثة حققتها «مدرسة توبينغن» (Tubingen School) الفلسفية، والباحثون الرئيسيون فيها مقرّهم «جامعة توبينغن» في جنوب ألمانيا، وقد سعوا إلى إجراء تقصٍّ في المقاطع الفلسفية الكلاسيكية والتاريخية لاستبيان تلك العقائد الأفلاطونية السرّية.

جيوفاني ريالي.. «عقيدة الواحد» شفهيّاً!

أبرز المُدافِعين في المدرسة المذكورة عن وجود العقائد الأفلاطونية غير المكتوبة هو الباحث الإيطالي جيوفاني ريالي (Giovanni Reale)، ويُعرَف نَهْجُه بـ «المدرسة الميلانوية» نسبة إلى مدينته ميلانو، وقد أشار إلى أنّ تلك العقائد تتمحور حول أصل الوجود وعقيدة «الواحد»، المبدأ الأفلاطوني الأرقى. وتؤكّد هذه المدرسة أنّ العقائد التي احتفظ بها أفلاطون للنقل الشَّفَهِي إنّما تتعدَّى بشكلٍ كبير المفاهيمَ الفلسفية التي عَبَّرَ عنها في محاضراته العلنية في أكاديميّته أو في مُحاوَراته المكتوبة، وتعتبر أنّ تلك «العقائد غير المكتوبة» هي ثمرة منطقية لفلسفة أفلاطون نحو تفسير التعدُّدية أو الكثرة التي يتسم بها الكون في «وحدة»، وهو في نظرية «المُثُل» يُحاول أن يُخفِّض تلك التعدُّدية إلى عددٍ أقل نسبياً من المُثُل الأساسية ذات التراتبية العليا، وأنّ طَرْح نظرية المُثُل إنّما كان خطوة تمهيدية لوحدةٍ أرقى، لم يُعبِّر عنها أفلاطون كتابياً للعامّة بل تركها للخاصّة من تلامذته في إطار «مهمّته» الأخلاقية والمعرفيّة السَّامية.

تُوضِح هذه المدرسة أنّه ربّما لم يُفرَض على النخبويين «المُهيَّئين» ضمن الحلقة المُختارة أن يلتزموا السرية والصمت إزاء تلك الحقائق، لكنّ هؤلاء التلامذة المُخلِصين لم يكتبوا أي شيء عن تلك العقائد ولم يستخدموها في أعمالهم، بل ألمحَ بعضهم إليها تلميحاً، فيما تحدَّث بعض المؤلِّفين القدامى عن عقائد نقلها تلامذة أفلاطون المُختارين شَفَهِيّاً فحسب. وقد سَعَت «مدرسة توبينغن» إلى تحرِّي تلك الإثباتات والأدلّة المتناثرة في بطون الأدبيات القديمة لإعادة ربط تلك المبادئ، المتصلة بوشائجٍ منطقية وثيقة، بالعقائد الأفلاطونية المكتوبة، والخروج بمفهومٍ واضح يُجلي غوامضَ الماورائيات التي تكمن في المُحاوَرات الأفلاطونية كمصدرِ «المُثُل»، و»الكائن المتعالي»، و»الواحد الفيثاغوري» الذي تنطوي فيه هذه المُثُل الكونية، كما أشرنا في تناولنا لمُحاوَرة «بارمينيدس» (يُميِّز أفلاطون ما بين أرقام الرياضيات في عالمنا الأرضي، والمُثُل الماورائية للأرقام، وهذا ينطبق على «الواحد»)، ومفهوم «الأُصول العُلْوية» (aitia – ατια) للوجود، والمبدأ «الفعّال» (poietikos) والمبدأ «المُنفعل» (pathetikos). كلُّ هذا يَفرض قراءةً جديدة لمُحاوَرات أفلاطون على ضوءٍ فلسفي جديد، إنّما يُفضِي إلى نظريةٍ توحيدية مُوحَّدة.

قراءة مُوحَّدة وفلسفة توحيدية

على سبيل المثال، تشرح مُحاوَراتُ أفلاطون المكتوبة نظريةَ «المُثُل» والوجودَ وعالَمَ الظواهر، لكن في عقائده غير المكتوبة إنّما هناك حقائق حول أصل عالَم «المُثُل» والمبدأ المُتَحكِّم به، الـ «ديميورج» (Demiurge)، الذي أشار إليه أفلاطون في مُحاوَرة «تيماوس»، و»الواحد المُتَعالي» (Transcendent One) عن كلّ الوجود.

نعم، تشير «مدرسة توبينغن» إلى تفسيرٍ توحيدي بديل في العقائد غير المكتوبة للواحد الماورائي المتعال فوق كلّ العِلل والمبادئ المُتَحكِّمَة بالكون، في فلسفةٍ توحيدية تتراءى أطيافُها بشكلٍ خاص في محاورات «بارمينيدس» و»تيماوس» و»الجمهورية» و»فايدروس». ونحن نعلم كيف أنّ أفلاطون مَنَحَ «مِثالَ الخير» في نظريّته في «المُثُل» مكانةَ المبدأ الأول في ما يتعدَّى الوجود المادي، بل هو أصله والمُتَحكِّم به كما في «الجمهورية». ونتذكر ما يقوله في «الجمهورية» إنّ فكرة «الخير» هي كالشمس، مصدر الحقيقة والمعرفة وأنّ «الخير» يقع في ما يتعدّى الوجود الكائن علواً وقوةً.

فندلاي وتشيفر .. تجربة دينية

هذه الخلاصة هي تماماً ما أشار إليه الباحثان جون نيميير فندلاي (John Niemeyer Findlay) وكريستينا تشيفر (Christina Schefer)، اللذان اعتبرا أفلاطون في نهجه الفلسفي بالتالي «مُوحِّداً» (monist). وتُلمِح كريستينا تشيفر إلى أنّه كما في عقائد أفلاطون المكتوبة كذلك في تلك غير المكتوبة لا مجال للإدراك الفلسفي لـ «الكائن المُتَعال»، إنّما أفلاطون يشير إلى تلك الإمكانية فقط في تجربةٍ دينية «لظهورٍ» أو «تراءٍ إِلَهي» (theophany) أشبه بتجربة وحدة الشُّهود الصوفيّة، وهذه تكمن في صميم عقائده غير المكتوبة، ولو أنّه ترك إلماعاتٍ وإلماحاتٍ وإشارات إلى ذلك في مُحاوَراته الرئيسية.

أفلاطون .. رسالة للبشرية

كم مِن باحثٍ في محاولته لتفسير أفلاطون شددّ على أنّ هذا التفسير لا بُدَّ أن يتعدَّى الحرفيّ المكتوب، فأفلاطون هو كاتبٌ عبقري، وعُمق وبُعد وشمول كتابته وعبقريّته أدهشت العلماء عبر العصور. ولا ريب أنّ أفلاطون كان يستشعر عظمة وأهميّة رسالته المعرفيّة، ولطالما أكّد أنّه يكتب «للعصور الآتية»، وهو على لسان سقراط في مُحاوَرة «الدفاع» (Apology) يقول إنّه يستشعر أنّ «الإِلَه قد خصَّهُ بمهمّة أخلاقية» للبشرية. وهذا ما دفع الباحثين إلى التأكيد بأنّ تفسير مُحاوَرات أفلاطون ينبغي أن يتم معاً على الصُّعُد الفلسفية والسيكولوجية والدينية بشكلٍ خاص.
لكن هل هناك تفاصيل أكثر عن عقائد أفلاطون السرّية التوحيدية المحفوظة دون نشر؟ نعم، لكنّنا سنُحافِظ على نَهْجِه ونُبقيها غير مكتوبة، وإذا ما نُقِلَت شَفَهِيّاً.. فللخاصةَ!.


المراجع

– Apology, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– The Republic, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Parmenides, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Timaeus, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Phaedrus, by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
– Majid Fakhry, Philosophy and Theology: from the Eighth Century CE to the Present, Oxford University Press 2000, pp. 271-273.
– W. T. Jones, The Classical Mind: a History of Western Philosophy (Second Edition) -Harcourt Brace Jovanovich, Publishers, New York, 1970.

المرضُ ونعمة الصحّة والعافية

بسم الله والحمد لله مولى النّعم وباعث الخيرات وقاسم الأرزاق، نعبده ونستعين به في السّرّاء والضّرّاء وقضاء الحاجات، والحمد والشكر لصفيّه في كلّ الأوقات حمداً لا نفاذ له وشكراً على كلّ الحالات.

يقال «إنّ الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراه الّا المرضى»، وهي نعمة مغبون فيها الكثير من الناس والمقصود بالغبن «الخسارة»، فمن استعمل هذه النعمة في معصية الله فهو المغبون الخاسر.

للصحة جانبان: صحة البدن وصحة النفس
ومن حكمة الله تعالى أن ركّب في المرء من مقومات الصحة ما يجعله سليم النفس قوي البدن وشرّع له من الأحكام ما يحفظ له ذلك ويحول بينه وبين الأسقام والعلل ونهى عن الإضرار بالنفس وما يؤدي إلى تلفها بأي وجه كان ولعلّ أهم أمراض النفوس الابتعاد أو الانسلاخ عن الأمور الدينية حيث تنمو وتعشعش فيها الذنوب المؤدية إلى هلاكها.

في موضوعنا هذا نلقي الضوء على:

أولاً: صحة البدن
ثانياً: صحة النفس

أولاً: صحة البدن

ورد في بعض النّصوص الدينية «ألا وإنّ من البلاء الفاقة وأشدّ من الفاقة مرض البدن وأشد من مرض البدن مرض القلب، ألا وإنَّ من النعم سِعة المال وأفضل من سعة المال صحة البدن وسلامة الدين وصحة البدن خير من المال».

من هنا نستنتج أن لبدننا علينا حقاً في المحافظة عليه وصيانته وإلّا فمسؤولية التقصير والإهمال ترتد علينا، وخاصة عندما نعي أن بدننا «جسمنا» يحمل في داخله أمانة وهبها الله تعالى لنا وهي «الروح»، فيصبح لزاماً علينا رعايته وفق ما شرعه الله عز وجل. فمسؤولية كل عاقل أن يمتلك ثقافة صحية تمكّنه من التعرف إلى ما يؤدي إلى الإضرار بصحته، فيصونها ممّا يسيء إليها، بالوقاية أولاً بأن يقيها كل ما يتسبّب لها بالضرر فيعتدل في طعامه وشرابه، فيتجنّب أكل المواد المشبوهة والعناصر غير المرغوب فيها، ويعمل على ترويض جسمه على الاكتفاء بالقليل، وتقبّل الموجود والمتوفّر، فبالاكتفاء بالضروري من المأكل والمشرب فائدة للفرد ولأسرته ومجتمعه وللبنية التي يعيش فيها.

فالشبع يورث البلادة، ويعوّق الذهن عن التفكير الصحيح، ويدعو إلى الكسل والنوم، لذا من الضروري الاعتياد على المقدار المناسب من الطعام، وهو ما يقيم الحياة ويحفظ الصحة ويبعد عن الأضرار والأمراض.

كما عليه أن يعتني بنظافته الشخصية والبيئية وأن يبتعد عن كل ما يهدد صحته، بل ولا يهملها ويتفقدها من حين الى آخر، ويعوّدها النشاط وممارسة الرياضة أو أي عمل بدني يساعد في تطهير بدنه من السّموم.

فالله سبحانه جعل هذه الأجساد التي تحملنا أمانة في أعناقنا لتعيننا على القيام بمسؤولياتنا وواجباتنا تجاه أنفسنا وتجاه الله وتجاه الآخرين، وأي تقصير في هذه المسؤوليات سوف نُسأل عنه ونتحمل تبعاته.

فالأمراض والأسقام والبلايا وإن صعبت مرارتها، إلّا أنّ الله تعالى جعل فيها حكما وفوائد كثيرة إذ إنّ أحدهم أحصى فوائدها فزادت على مائة فائدة، حيث قال: انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض أمر لا يحس به إلّا من فيه حياة. فالوقاية خير من العلاج والعافية مع الشكر خير من المرض مع الصبر.

ثانياً: صحة النفس

من وجهة نظر علماء النفس، فأمراض النفوس تحصل نتيجة الصراع بين الضوابط والقواعد والقيم الدينية والاجتماعية والاخلاقية التي تحكم بيئة ما ومجموعة أفراد معينة، وبين حاجات النفس الأمارة بالسوء أي رغباتها ومخاوف الإنسان التي تتعارض مع هذه الضوابط ممّا يؤدي إلى إضعاف إرادته فيقع فريسة الاضطراب النفسي.
إلّا أن من مبادئ العلاج النفسي أن يترافق مع مساعدة الفرد للتوافق مع بيئته ضمن الإطار الديني والإيماني الذي يحكمه، وهذا إن دلّ على شيء فعلى أهمية الدين في علاج أمراض النفوس بل هو في صلبه، فالصلاة والمناجاة والدعاء بما في ذلك من سمو ورقي، تقتلع من النفس الأفكار السلبية وتغرس فيها الطمأنينة والأمان وتُذهب السيئات وتبدلُها حسنات، فبذلك يكون للدين قدرة شفائية عظيمة، وعلاج فاعل لأعراض الخوف والاضطراب والقلق، حيث يملأ الفراغ الذي منه تتأتّى الاضطرابات، فيسيطر التفكير الإيجابي والقناعات المحمودة، وهنا نتوقف عند قوله تعالى:
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِّ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين (هود 114)

وثمة قواعد دينية تحفظ صحة الإنسان النفسية ليبقى سليم الفطرة، موفور العطاء، متوازن الشخصية، ومن ذلك تلك القاعدة المثلى وهي تبديل السيّئات إلى حسنات، فتتبدل ظلمتها نوراً في القلب، ولا يبقى لها أثر أو خبر ويقول الله تعالى: «إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا» (الفرقان 70).

ولا بد من الإشارة إلى مدى تأثير الحالة النفسيّة للفرد على جهاز مناعته بشكل كبير، فإنّ الشعور بالحزن والاكتئاب ومشاعر الياس والإحباط تسبب إضعافه وقلة مقاومته للأمراض، وهذا ما شاهدناه في الآونة الأخيرة، فإنّ حالة الهلع والخوف من الإصابة بفيروس كورونا Covidf19 قد تضعف جهاز المناعة لدى الأفراد وبالتالي قد تزيد من احتمال الإصابة بوقت أسرع. إذ إنّ جهاز المناعة خط الدفاع الأوّل والرئيسي عن جسم الإنسان، يقي الجسم من الإصابة بالأمراض المعدية والخطيرة. إلّا أنّ مشاعر القلق والخوف والإرهاق الشديد قد تؤدي إلى إضعاف جهاز المناعة، وبالتالي تزيد من خطر الإصابة بالأمراض، بعكس الحالة النّفسيّة المستقرة التي تساعد في نشاط خلايا الجسم الدفاعية وزيادة كفاءتها.
ومن ذلك أيضا الأمل وعدم اليأس وحسن الظنّ بالله تعالى، وهذه مشاعر يفيضها الإيمان على القلب فيسري فيه النور، اذ لا يأس من رحمة الله تعالى ولا قنوط من مغفرته وعفوه. وقيل في الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، فليظنّ بي عبدي ما يشاء. فمن ظن بالله ظنّاً حسنا ناله الخير بحسب ما ظن، فعلينا التنبّه للظنون وما تكتنفه السّرائر فالله تعالى لا ينظر إلى وجوهنا بل إلى قلوبنا.

وحسن الظن جليل القدر إذ تهبُّ نسماته على القلب فتحميه من الأمراض، ثمّ تسكب عليه بَرْدَ الرضا والقناعة، الرضا بما منح الله تعالى وأعطى والقناعة بما لديه، وعدم مقارنته بما لدى الآخرين من مال وعلم وجاه وغير ذلك، حتى لا يدخل في القلب الحسد ويتولّد منه عدم الرضا، وهذا مدخل إلى القلق والاضطراب النفسي، فيكون على المرء بذلك ألا يشغل نفسه بما لا يعنيه، ويرضى بقضاء الله عز وجل ويعمل على إصلاح نفسه وتقويمها، ويحرص على جعل ساعته في طاعة الله تعالى فيبقى سليماً معافى من الاضطرابات والوساوس، ومع ذلك فالعلاج ضرورة يجب أن يطلبها المريض، بما لا يتنافى مع الشّرع وهناك خطوات قد تساعد الصَّابر(مَن يعاني اضطراباً نفسياً أو حالة نفسية) أن يلتزم بها ليحقق تكيّفاً سليماً، ثمّ صحة نفسية، ومنها:
– تقبّل الواقع، فبالقبول اعتراف بالمشكلة وهذا مدخل إلى إيجاد حلّ لها
– البحث عن الأسباب التي أدّت إلى ظهور الحالة التي يعاني منها، بدلاً من معالجة الأعراض (بالأدوية مثلاً).
– ممارسة الرياضة، وتحسين نوعية الحياة (كالأكل والنوم والعلاقات الاجتماعية… (
– البحث عن الموارد التي تسمح له بالتصدّي لصعوبات الحياة، (كالمطالعة، الصّلاة، العمل التّطوّعي..)

وعلى المريض أن يوقن بأنّ الشّفاء كلّه بإذنه تعالى، وأنّ الأطباء والمعالجين والأدوية، ولو اجتمعوا كلّهم ما استطاعوا أن يحدثوا ذرة شفاء وعافية إلّا أن يشاء الله.
اللهمّ أسبغ علينا لباس الصّحّة والعافية، واجعلها عوناً على طاعتك ومرضاتك.

.

تكريم المهندس مروان الزهيري في بيلاروسيا

تم منح المهندس مروان الزهيري رئيس نادي خريجي بيلاروسيا في لبنان شهادة تقدير واحترام لعمله ونشاطه في تقوية العلاقات بين لبنان و بيلاروسيا من قبل وزير التربية والتعليم العالي في بيلاروسيا وذلك في ٦ تشرين الأول ٢٠٢١ خلال مؤتمر خريجي بيلاروسيا الدولي في مدينة مينسك وقد القى كلمة شكر فيها الوزير والمسؤولين والاساتذة على هذا التكريم وتمنى لهم التقدم والنجاح في كافة المجالات والتقدير والاحترام لكل الجامعات والعاملين فيها حيث تخرج المئات من الأطباء والمهندسين و الاختصاصات الأخرى من لبنان وأنهى خطابه بتوجيه تحية للدولة والشعب البيلاروسي.

الشّيخ أحمد أمين الدين

نشأ في بيت تقوى وجاه وديانة؛ اختطَّ لنفسه نهج سَلفه الطَّهَرة فسلك مسلك التوحيد والإيمان، وبذل النفس والنفيس في سبيل الخير، واستطاع بحكمته السديدة وبصيرته النَّيِّرة الذّبّ عن إخوانه وأبناء بلده، فكان شيخاً جليلاً حكيماً… تحلَّى بسجايا حميدة أهّلته لتولِّي منصب مشيخة العقل – إذ عُدَّ أبرز أهل زمانه علماً وعملاً وأشدَّهم حرصاً على وحدة الكلمة ولمِّ الشمل.. عرفه معاصروه شجاعاً وقوراً معطاءً ذا أنفة وإباء وتقوى وذكاء وقَّاد؛ تُوِّج بالعمامة المدوَّرة دلالة على فضله وعلوِّ درجته…إنه الشيخ أحمد أمين الدين(1) خَيِّرٌ فاضلٌ من بلدة عبيه من سلالةٍ كريمةٍ تعود إلى الشَّيخ بدر الدِّين العِنداري(ر)(2)؛ وتُنسب عائلة أمين الدين إلى آل القاضي التنوخيين الأعراق..

الثريُّ الزاهد

إنّ الخيرات التي يجريها الله على عباده ليست إلّا امتحاناتٍ يمتحن بها الباري خلقه، ليبلوهم أيهم أكثر صبراً وشكراً.. وقد ابتُلي الشيخ أحمد بهذا الامتحان إذ اشتُهر بالغنى واليَسار وسعة الأملاك التي انتقلت إليه إرثًا عن آبائه وأجداده التنوخيين الأمراء، فنشأ ثريًّا ولم يذق طعم الفاقة والعوز ولا عرف الحرمان والحاجة.. إلّا أنه أدرك بعقله المميِّز أنّ المال وديعة أودعه إياها الواحد الرَّزَّاق وأنه مُستخلف فيه، لقوله تعالى: «وانفقوا مما جعلكم مُستخلفين فيه».. فسعى شيخنا الجليل إلى إنفاق ماله بما يرضي الله سبحانه منصفًا الفقراء والمساكين، زاهدًا بالدنيا وقصورها وحَشَمها، بعيدًا عن كل ألوان البذخ والجاه.. فكان فيما ائتُمن خير أمين.(3)

اعتمد الشيخ مبدأ الدّقة في محاسبة النفس، وأجرى على ماله هذا المبدأ مستخدماً إياه لسدِّ الحاجة وستر الحال؛ أمّا الفائض فكلُّه للإخوان، ولا حظَّ منه لشهوات النفس وأهوائها.. ومما يُذكَر عنه رحمه الله أنه بعد جني الغلال وتوزيع المحاصيل والأموال على مصاريف المجلس والخلوة والحقول، كان يومي بقفا يده إلى كومة المال المتبقية على الأرض ويقول لتلميذه الشيخ أبو علي ناصر الدين قرضاب(4): «وهذا المال الباقي قد انتقل من ذمتي إلى ذمتك تصرَّف به كما تشاء». فلا يلبث المال تحت إمرته ليلة واحدة بل ينفقه على الفور بعد أخْذ ما يلزم لستر الحال وسدِّ النفقات؛ وبالطبع فالشيخ قرضاب رحمه الله موضع ثقة الشيخ، ونعم التلميذ المسؤول الذي يحسن تفريق الأموال على من يستحق.. فيستظلُّ الشيخ أحمد بظلِّه ليبقى بعيداً عن الأنظار والشهرة.(5)

كما زاده ورعه تعلُّقا بالخالق دون الخلق، فلم يتّخذ لنفسه زوجًا وبالتالي لم يكن له أولاد يشغلونه عمّا هو أسمى وأبقى..
استمرَّ الشيخ أحمد على هذا النهج القويم طيلة حياته، صابرًا على النعمة، مستغلاً خيرات الدنيا كسبًا للآخرة، مُسَلّمًا روحه وماله وكل أملاكه لمولاه وفاءً لعهده..

جامع الخصوم

عاصر الشيخ أحمد حكم الشهابيين وما شهدته تلك المرحلة من شَدِّ الخناق والتضييق على الموحّدين الدروز ومحاولة شق صفوفهم، ولعلَّها من أصعب الحقبات التي مرت على الموحدين الدروز، خاصة بعد أن استتبَّ الحكم للأمير بشير الشهابي الثاني الذي عمل على «إضعاف شوكة الدروز» وانتهج سياسة القتل والتنكيل بمن حوله من أصحاب النفوذ وذوي الإقطاع «وزرع بذور الطائفية والتعصب المذهبي وجرَّ البلاد إلى أتون حرب الطوائف».(6)
ولم يكن تولِّي منصب مشيخة العقل بالأمر المستهان في تلك الظروف؛ فالمسؤوليات التي تقع على صاحب هذا الموقع جمَّة -خاصة عند الأحداث المفصلية حين يتعلق الأمر بمصلحة الطائفة وحمايتها، فاتخاذ القرارات عندئذ يتطلب الكثير من الشجاعة والحكمة. وهو ما كان عليه الشيخ أحمد الذي تولى مشيخة العقل بعد وفاة الشيخ حسين ماضي (ر) 1216هـ/1801مـ، فكان خير خلف لخير سلف، إذ امتلك مقوّمات تليق بصاحب هذا المنصب. وحين ناداه الواجب بذل أقصى جهده للذود عن طائفته -شأنه شأن مشايخ العقل على مر الزمن الذين جاهدوا في سبيل العزة والكرامة ولهم الفضل الأكبر في الحفاظ على كيان الطائفة ووجودها حتى يومنا هذا…

اتخذ الأمير بشير سياسة «تحطيم الرؤوس قاعدةً لحكمه ونهجاً سار عليه طوال وجوده على رأس الإمارة» (7) ، لينفرد بالحكم والطغيان، ولقد استطاع تحقيق مُبتغاه -إذ قضى على غالبيتهم، ولم يبقَ أمامه سوى الشيخ بشير جنبلاط.. ومن هنا بدأ النزاع بين البشيرين، فحاول المشايخ العقّال -كعادتهم- إصلاح الحال بينهما؛ إلا أنهم هذه المرة لم ينجحوا.. واحتدم الصراع حيث ذهب ضحيته الكثير من القتلى والجرحى.

ولم يكن الشيخ أحمد ليقف مكتوف اليدين إزاء الأحداث من حوله. فقد كان رحمه الله ذا نخوة وحميَّة، محبًّا للخير والصلاح، فسارع إلى المختارة وحتم على الشيخ بشير ومن حوله من حزبيين ومشايخ مصالحة الأمير الشهابي حقنا للدماء واتِّقاءً لشرٍ أكبر. وتمَّت بفضله المصالحة، فكرَّمه الأمير الشهابي على الاثر وقرَّبه إليه ولقبه بـ»الشيخ الرّضي» وأصبح يستشيره في أموره.(8)

لم يذكر التاريخ الكثير عن حياة الشيخ أحمد، إلّا أن هذه الحادثة كشفت عن مزايا عديدة اكتسبها شيخنا الجليل. فقد دلَّت على صدق طويَّته، لقوله تعالى «من صدقني في سريرته صدقته عند المخلوقين في علانيته» فصِدقُه وإخلاصه أوصلاه إلى مُراده.. كما دلّت على حسن تدبيره وسياسته فمثل هذه المواقف لا يوفَّق إليها إلا صاحب الحنكة والعقل الراجح – إذ سبقه الكثيرون إلى هذه المهمة ولم يُفلحوا.

ومن الواضح أن الشيخ أحمد كان يحظى بعلوِّ المكانة والمهابة والقول المطاع عند اكابر القوم من أمراء ومشايخ، فحين رأى أنَّ المصالحة حاجة ملحّة سارع إلى الشيخ بشير جنبلاط والعقال وطلب منهم مصالحة الأمير الشهابي فقبلوا خاطره واتبعوا رأيه الصائب؛ وما توفيقه في مسعاه إلّا ثمرة ديانته وورعه وتقواه، لأن من أطاع الله اطاعته العباد ومن زاد ورعه زادت هيبته، وهذا ما حدا بالشيخ أبي أحمد زين الفقيه إلى اصطحاب الشيخ أحمد معه إلى اسطنبول للحصول على بعض المطالب حيث قابلا السلطان مصطفى آغا خان وخرجا منه بفرمان يقر بمطالبه.(9)

ولعل القارئ للتاريخ يقدِّر أهمية المصالحة بين البشيرين وكيف استقرت أحوال الموحدين الدروز بعد المصالحة من وحدة الصف واجتماع الكلمة، وما آلت إليه أمورهم من تشتت وضعف بعد الخلاف الثاني الذي نشأ بعد وفاة الشيخ أحمد وعُرف بحرب البشيرين حين لم ينجح أي مسعى للصلح والوفاق وانتهى بمقتل الشيخ بشير جنبلاط عام 1825م.(10)

وصيته… كنزٌ مدَّخرٌ

قصد رحمه الله الأجرَ الذي لا ينضب، والحسنة الجارية التي لا تنقطع، لقول الرسول الكريم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفَع به، أو ولد صالح يدعو له».. فَقبْل وفاته بست سنوات كتب وصيته – أرادها صدقة جارية إلى يوم الدين على يده- فعيَّن المجلس الخاص به وخلوته التي يملكها في عبيه ليكونا مجمعًا لأهل الخير ومنهلاً يرد إليهما الأجاويد من جميع المناطق، وأوقف لهما الوقوفات الكثيرة؛ وقسَّم بقيَّة أرزاقه على المستحقين الخيِّرين وشيوخ البلاد، وخصَّ الخلوات والمجالس المنتشرة في لبنان وسوريا بحصص معينة من أموال ومحاصيل وغلال.. وحرَّم أشد التحريم أن يرث الجُهَّال شيئا من رزقه أقرباء كانوا أم غرباء. وأوكل خمسة مشايخ ثقات لرعاية هذه الأوقاف وصرْف رَيعها على مستحقيها وأوصاهم بالتعاون وعدم الإهمال أو التقصير في تنفيذ الوصية كما هي. وكلّف الشيخ بشير جنبلاط حماية الوقف والقيمين عليه، «..ذكر حضرته بأن يكون نظر جناب الشيخ بشير جنبلاط المحترم على الوكلاء المذكورين في الذَّب عنهم وعن الوقف المذكور عند الاحتياج..» (11)

اقتفى الشيخ أحمد في وصيته أثر الأمير السَّيِّد(ق) الذي أوقف أملاكه لأهل الدين والمساكين وطلاب العلم، فكان للأمير السيد(ق) وللشيخ أحمد من بعده الفضل الأبرز في تكوين الوقف الدرزي- وهما المعروفان بالوقف التنوخي والأحمدي-ولعلَّ وقف الشيخ أحمد هو الأكبر بين جميع الأوقاف من حيث المساحة؛ إذ يُقدَّر بمئات آلاف الأمتار، ومنه أُنشئت المدرسة الداودية.

كما أنّ في وصية الشيخ أحمد التزام جَليّ بشرط الأمير السَّيِّد الذي أوجب على المسلم الموحد أن لا يبذل ماله لمن لا يستحقه، ولا يدّخره عمن يستحقه، ويخصُّ بوصيته الصالحين والصالحات، فلا يذهب رزقه للأشرار ينفقونه في غير رضى الله سبحانه فيستوجب وإياهم عقاب الخالق الجبار؛ بل جعل جميع ما يملكه في عهدة الخيِّرين يحسنون نفقته فيلحقه من إحسانهم إحسانٌ إلى يوم الدين.

فبوصيته هذه أدى أمانته، وتمَّم فضله.. وسيجني ثمار الفوز عند لقاء ربه يوم تُجزى كل نفس بما كسبت.
وما زال الموحدون اليوم – وبعد مضي قرنين من الزمن على وفاة الشيخ أحمد-يتنعَّمون من فضل جوده وبذله؛ خاصة في مجلسه الزاهر في عبيه الذي أُطلق عليه مجلس البلاد – إذ كان قبل الحرب الأهلية ملقًى لكبار الشيوخ وأهل الدين وبعد ترميمه عام 1988م عادت حلقات الذكر والعلم إلى أرجائه.. أمّا خلوته في عين الشاوي فهي حتى هذا التاريخ عامرة بالموحدين يؤمّونها من كافة أنحاء البلاد لنهل العلم والمعرفة.

الوداع المهيب

أتمَّ واجباته، وأنجز أعماله، وتهيأ للقاء ربه..
عاش كريماً مكرَّماً في حياته وخصَّه خالقه بالكرامة في مماته.. توفي في حزيران سنة 1809م الموافق 1224هـ، فشيَّعه جمع غفير من المشايخ والأعيان.. وترافق البشيران لحضور المأتم، وفور وصولهما إلى البلدة حُملت الجثة على الأيدي لملاقاتهما -وفق العادة الجارية ذلك الحين- وما أن شاهدا النعش المحمول حتى ترجَّلا وحملاه مع المشيّعين، ولم يتركاه إلّا بعد أن توسّل إليهما أعيان البلد؛ وقد بدا عليهما الحزن والتأسف لفقده.

وتجدر الإشارة أنّ حمل البشيرين للنعش كان حدثاً فريداً، دلّ على علوّ قدره وتفرُّده بخصال دينية ودنيوية قلَّ نظيرها..

دُفن الشيخ أحمد في عبيه بجانب مجلسه، وأمر الأمير بشير الشهابي ببناء قبة فوق الضريح وحُجرة مؤرِّخة لتاريخ وفاته وهي مزار يقصده المؤمنون للتبرُّك، كما أمر شاعره المعلِّم بطرس كرامة بنظم الأبيات التي نُقشت على الحجرة المباركة، وهذا نصُّها:

من زار تربةَ أحـمـدٍ نال المـُنى
وحَظى بطالع كوكب الأنـوار
يا سعـدَ قصَّادٍ أتـت واستنشـقـت
ريـحَ الشذا مـن ذلك المِعطار
هذا أميـنُ الديـنِ أحمدُ من وفـى
حــقَّ الـعـبـادةِ لـلإلـه البـاري
فاهدوا إليه البشرى بالتاريخ بل
هـنُّوه في فردوسِ تـلك الدّارِ (12)

وبوداع الشيخ أحمد أمين الدين ودَّع الموحدون الدروز آخر شيخ عقل أوحد للطائفة – إذ بدأت سياسة التفريق تغرس أنيابها في جسد الطائفة، وبدأت معها ازدواجية المشيخة التي سعى إليها بشير الشهابي لتحقيق مآربه في شق الصف الدرزي وإضعاف موقع مشيخة العقل وبلغ الانقسام ذروته عندما قام الأمير بشير بإضافة شيخ ثالث إلى مشيخة العقل وهو الشيخ شبلي أبي المنى، واستمرّ الانقسام قائما إلى أوَّل السبعينيات مع وفاة أحد شيوخ العقل الشيخ رشيد حمادة، وبقي الشيخ محمّد أبو شقرا (13) الذي انتُخب عام 1949م وحيداً في هذا الموقع (14). وفي عام 2006 صدر عن مجلس النواب قانون ينظم شؤون طائفة الموحدين الدروز ويوحِّد مشيخة العقل قانونياً بحيث يتم اختيار شيخ العقل عن طريق الانتخاب.(15).


المراجع:

1- هو الشيخ أحمد بن الشيخ سيِّد أحمد بن الشيخ أحمد ابن الشيخ حسين بن الشيخ علم الدين أمين الدين بن الشيخ بدر الدين العنداري رضي الله عنه.
2- الشيخ بدر الدين العنداري كان من كبار مشايخ عصره، تولّى مشيخة العقل في القرن السادس عشر للميلاد وقت ولاية الامير فخر الدين المعني، توفي سنة 1020هـ ودفن في عبيه.
3- حافظ أبو مصلح، أضرحة العبَّاد الموحدين، معرض الشوف الدائم، ص،ص:47،48.
4- ولد رحمه الله في الجاهلية نشأ على الزهد والتقوى، انتقل إلى عبيه لملازمة الشيخ أحمد وتتلمذ على يده وكان خير معين له في حياته وموضع سره وثقته، توفي سنة 1052هـ ودفن في خلوة عين الشاوي في عبيه.
5- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، عاليه: منشورات مدرسة الإشراق، ج3، ط1، 2011، ص: 61.
6- د.صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين “الدروز”، بيروت:المركز العربي للأبحاث والتوثيق، ط2، 1994، ص: 205،206.
7- د.صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين “الدروز”، المرجع السابق، ص: 177.
8- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، مرجع سابق، ص:12.
9- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، مرجع سابق، ص:11.
10- د.صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين “الدروز”، مرجع سابق، ص-ص: 174-205.
11- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، مرجع سابق ص-ص:307-348.
12- محمَّد خليل الباشا، معجم أعلام الدروز في لبنان، المختارة – الشوف – لبنان: الدار التقدمية، ط2، 2010، ص:158.
13- الشيخ محمّد أبو شقرا، ولد عام 1910 في عماطور شارك في الثورة العربية الكبرى تولى منصب مشيخة العقل عام 1949 إلى حين وفاته عام .1991.
14- د. صالح زهر الدين، تاريخ المسلمين الموحدين الدروز، مرجع سابق، ص:248.
15- حافظ أبو مصلح، أضرحة العبَّاد الموحدين، مرجع سابق، ص،ص: 47،48
www.lp.gov.lb/Resources/Files/09ac950f-7840-486b-b082-597881b20175.doc

سماحة شَيخ العقل الشيّخ اسماعيل أبو حمزة

مشيخة العـقـل هي رأس الهرم الرّوحي والزعامة الروحيّة لطائفة الموحدين الدروز. هـذه الزعامة الروحيّة الأصيلة، هي اشتقاقٌ معنويٌ وامتدادٌ تاريخيّ لفكرة الإمامة، أيّ الرشادُ والحكمة ُوسلطة التوجيه والتقويم، والـولاء والاستئناس بالعـرفان والاسترشاد بالمثُل العُليا، وبالتوجيه الأصفى والأمثل.

فالعقل هـو مصدر التـدبير وأساس المعرفة. وذَكر الدكتور خليل أحمـد خليل في كتابه «العقل في الإسلام»، أنّ الشراكة بين العقل العلمي والعقل الديني، تبرهن أن العقل السياسي هو جـزء من العقل العلمي العملي. فيما العقل الديني هو عقـل توحيدي. وهـو العقل الذي تُعرف به المُفتَرضات الدينية والمعارف الحقيقية.

كان شيخ العقـل يلقّـب في السابق بــ «شيخ العقّال وشيخ العصر وشيخ المشايخ» حتى استقرّت التسمية أخيراً على لقـب « شيخ العقـل». وكان مقـرّ شيخ العقل محصوراً في لبنان وهو واحـد لجميع الدروز، وتشمل صلاحياته جميع الدروز حيثما كانوا، في لبنان أم في سوريا أم في فلسطين، حتى الربع الأول من القرن التاسع عشر. وبسبب الخلاف بين الحاكم الأمير بشير الشهابي الثاني والشيخ بشير جنبلاط، انقسمت مشيخة العقل بين الحزبين الدرزيين. فكان شيخ عقل للجنبلاطيين وشيخ عقل آخر لليزبكيين. وبعـد الحرب العالمية الأولى وعند تقسيم الدول العربية، انقسمت أيضاً مشيخة العقل. فكان لسوريا ثلاثة شيوخ عقل، ولفلسطين شيخ واحد، وفي لبنان كان يتراوح عددهم بين شيخين وثلاثة. أما اليوم فقـد اجتمعت المشيخة في لبنان بشيخ واحد، ينتخب بموجب قانون تنظيم شؤون طائفة الموحدين الدروز الصادر بتاريخ 9/6/2006. غـير أنَّ سلطة مشيخة العـقـل الروحيّة والزمنيّة كانت تتأثّرُ دائماً بشخص متوليها. (1)

الشيخ اسماعيل أبو حمزة

الشيخ اسماعيل صعب أبو حمزة «أبو سليمان» كانَ شيخاً جليلاً حكيماً عاقلاً، عالي الهمّة حسن التدبير. من مآثرهِ بناء مجلس في قريتهِ الخريبة ما زال موجوداً إلى الآن. وهـو أول مـن تلقّـب بلقـب «شـيخ العقـل»(2) ولم تذكر المصادر التاريخيّة تاريخ ولادتهِ أو تاريخ تولِّيهِ مشيخة العقل. وتوفّي سنـة (1212هـ/ 1798م). والدهُ الشيخ أبو حسين صعب أبوحمـزة من كبار رجال الدين، كان يقـيمُ في قرية السمقانية(3).

كان الشيخ اسماعيل أبو حمزه معاصراً للشيخ علي جنبلاط (ت 1778م)، الذي كان يلقّب بـ «الشيخ الكبير، أو شيخ مشايخ الشوف»، تمييـزاً لـه عن المشيخات العائلية، التي كانت تتعهّـد الجباية الضريبية في نـواحي وقـرى الجبل. ولكن ذلك لا يعني أنَّ الشيخ علي كان شيخاً لعقّال الموحدين الدروز. إذ إنّ لقـب «شـيخ» كان يجمع بيـن وظيفتين: دينيـة وينـدرج تحت مسمّاها مشايخ الدين الـدروز. وإدارية ويندرج تحت توصيفها كل متعهدي الرّيع العقاري في مقاطعات جبل لبنان. لأنّ شيخ المقاطعة سواء أكان درزياً أو مسيحياً، هـو من أوكلت إليه الشؤون الإدارية والسياسية في مقاطعته.(4)

في سنة (1763م)، وقع الخلاف بين الشيخ علي جنبلاط والحاكم الأمير منصور الشهابي. فبـدأ الشيخ علي وبالاتفاق مع الشيخ كليب النكـدي الذي كان من الفئة الجنبلاطية بالعمل على إزاحة الأمير منصور عـن كرسي الحكم، والإتيان بابن أخيه الأمير يوسف الشهابي حاكماً على إمارة جبل الدروز بـدلاً منـه. فعمـل الشيخ علي جنبلاط على تكليف شيخ العقل الشيخ اسماعيل أبو حمـزه بحضّ الأهلين على تأييـد الأمير يوسف. وذلك لمـا لموقع مشيخة العقـل من تأثير على السكان. وبحجّـة تفقّـد الخلوات الدينية للطائفة الـدرزية والنظر بأمورها، جال الشيخ اسماعيل على العـديد من القرى والبلدات في الشوف والغـرب حيث لبّى معظم الأهلين دعوته. الأمر الذي مكّن الأمير يوسف الشهابي من الوصول إلى حكم بلاد جبيل، عن طريق التزامها من والي طرابلس لأن بلاد جبيل كانت في ذلك الحيـن تابعة لولاية طرابلس. وكان الشيخ علي جنبلاط والشيخ كليب النكدي، يرسلان رجالاً من الشوف والمناصف إلى جبيل سـرّاً، لتقوية الأمير يوسف. وبعـد ذلك تمكّـن الأمير يوسف من الوصول إلى حكـم إمـارة الجبـل.(5)

عائلة أبو حمـزه

عائلة أبو حمزه هي من العائلات النافـذة، أو ما كان يُعـرف بالمشايخ الصّغار، وقـد حافظت على موقعها الاجتماعي خـلال عهـد المتصرّفية وحتى اليـوم. يقال أنَّ بداياتها كانت مـن قرية السمقانية، وهي أحـد فـروع عائلة أبو هرموش. وبسبب خلاف مـع أقاربهم، نـزحوا عن قرية السمقانية وأقام قسم منهم في قرية مرستي، والقسم الآخر في قرية معاصر الشوف. إن اختيار هاتين القريتين لسكناهم يعود إلى امتلاك بعضهم أراضٍ فيهما.
كانت قـرية الخريبة المجاورة في ذلك الزمن، ملكاً للشيخ خطار بن يونس جنبلاط. والتي انتقلت اليه بالإرث من والده يونس، ومن جـدّه الشيخ علي الكبير إلى والده. وبناء لطلب الشيخ خطار، انتقل أفـراد عائلة أبو حمزة من مرستي والمعاصر وأقاموا في قرية الخريبة(6). وقـد أنجب الشيخ خطار ابنتين، اقترنت الأولى بالشيخ بشير قاسم جنبلاط واقترنت الثانية بشـقيقه حسـن.

لـم تـذكر المراجع التاريخية تاريخ انتقال عائلة أبو حمزه من قريتي مرستي والمعاصر للإقامة في قرية الخريبة. لكن هناك وثيقة مؤرّخة سنة (1298هـ/ 1880م)، تبيّـن بيع عائلة أبو حمـزه حصّتهم في الخشخاشي (المـدفن) في قرية مرستي إلى أمين زيدان من نفس القرية. والحصّة هي اثنا عشر قيراطاً من أصل أربعة وعشرين قيراطاً. والبائع (كاتبه على نفسه قاسم شاهين بو حمزة).(7)

ومن الرجوع إلى إحصاء قرية مرستي الذي أجري سنة (1329هـ/ 1910م)، في عهـد المتصرّفية، تبين أن شخصاً واحداً من عائلة أبو حمزة كان لـم يـزل يقـيم في قرية مرستي، وهـو: رشـيد بن ملحم حميدان أبو حمزه، وكان يستثمـر دكاناً فيهـا.(8)

نشر يوسف ابراهيم يزبك في أوراق لبنانية (9) تحت عنوان «أوّل اتفاق يزبكي جنبلاطي سنة 1793»، معرّفاً عن هـذه الوثيقة بما يلي:

هي وثيقة اتفاق تمّ في ربيع سنة 1793، بين الشيخ اسماعيل أبوحمزه شيخ عـقل الدروز رئيس الحزب اليزبكي، وبين الشيخين أحمـد نجم جنبلاط وخطار أبو يونس جنبلاط، ابني عمَّي الشيخ بشير قاسم جنبلاط. وكان الزمان الذي تمّ فيه هذا الاتفاق – على أثر مقتل الأمير يوسف الشهابي في عكّا – مليئا بالأحقاد والتشاحن والتطاحن بين الإقطاعيين في الشوف. وكان الحاكم الشاب بشير الشهابي قـد أُقصي عن الحكم وتولاه نسيباه الأميران حيدر وقعدان شهاب. فلماذا اتّفق زعيم اليزبكيين وزعيمان من الأسرة الجنبلاطية هـذا الاتفاق الموثـّق بالأيمـان ؟ إننا سنحاول درس ذلك الحادث التاريخي في جـزء مقبل، ونكتفي اليوم بنشر وثيقته، بعـد فرنجـة تسطيرها، وهـذا نصّها:

«بسم اللّـه الرحمن الرحيم وهو حسبي وبـه استعين.
جـرا الوفق، وباللـه التوفيق، ما بيننا المدوّنه أسامينا أدناه: باننا يد واحدة، وصالح واحد، وراي واحد. وأوثقنا على أنفسنا الوثق التام، بالقول التام والعهد التام، بالإيمان على حكمته. ووكلنا على ذلك حدودا بان لا بيننا لا مفرق ولا فرق. واشرطنا أنفسنا بان ليس عندنا صالح ابدا (اهم) من صالح بعضنا البعض، لا غريب ولا قريب. ولا ينقص (الأصح يُنغّص) عهدنا وايماننا أحد، والراي مشترك. ولا نطابق على (ساج ؟) بعضنا البعض. والمسرى واحد والطريقة واحدة، ومحفوظ السر ما بيننا لا ينذاع لاحد من الأنام. وان الصديق واحد على طريقة الكمال والمروّه وعمار الصالح، ولا نطابق على بعضنا في وحيش. ولا معزه مع احد من الخلق، لا غريب ولا قريب، ولو كان الاخ او ابن العم، او حاكم الوقت، او كاين من كان من ساير الانام. وذلك لازمنا مد (ى) الشهور والاعوام، مدة حياتنا بايماننا الذي اوثقنا النية والطويه برضانا واختيارنا، لا مغصوبين ولا مجبورين، وكل من غيّر منّا نيّته، ان كان في سر او في جهر، بالشي الذي يخصنا، كما هو محرر في باطن هذه الحجه، يكون اللـه وانبياه خصمه، والحكمه قررنا عهدنا عليها في قصمه ومحقه في عاجل الدنيا واجل الاخرة، والباري يجازيه في حاله وماله، وما تنقلب يمينه مع شماله، من غير او بدل عن الشيء الذي محـرر.

حرر ذلك وجرا في شهر شوال من شهور سنة سبعة بعد المايتين وألف، والحمد للـه ختام.
(الخاتم) قابله على نفسه
احمد ابن نجم جنبلاط

(الخاتم) قابله على نفسه
خطار ابو يونس جنبلاط

حرره (وشهد …… ) الحقير سمعيل بو حمزه

وذكـر الشيخ أبو صالح فرحان العريضي في كتابه «مناقب الأعيان» ما يلي: (تولّى الشيخ اسمعيل مشيخة العقل، إلى جانب زعامة اليزبكيين «روحاني جسماني»، بسعي الأمير يوسف الشهابي ومبايعة الشيخ علي جنبلاط والشيخ عبد السلام عماد بوثيقة موقّعة. وذكر الأستاذ أمين طليع أنها ما تزال محفوظة لدى المشايخ آل أبي حمزه. ومن مآثر الشيخ أنه رعى الاتفاق بين الحزب الجنبلاطي والحزب اليزبكي وكتب بخطّـه وثيقه بهذا الإتفاق(10)). مع العلم بأن الشيخ علي جنبلاط كان قـد توفّى سنة 1778م، وتوفّى الشيخ عبد السلام العماد سنة 1788. أمّا الأمير يوسف الشهابي فقـد أعدم شنقاً في مدينة عـكّا من قبل الوالي العثماني في شهر أيار سنـة 1791).

ونشر هـذه الوثيقة أيضاً الدكتور سليم الهشي في كتابه «المراسلات الاجتماعية والاقتصادية لزعماء جبل لبنان خلال ثلاثة قرون»، مطبعة نمنم، بيروت، 1980، ج2 ص 20- 21 تحت عنوان: «اتفاق ودّي بين آل جنبلاط وآل أبو حمزه على أن يكونوا جميعاً يـداً واحـدة في السرّاء والضرّاء».

لا شـك أن يوسف ابراهيم يـزبك هـو كاتب قـدير، لكنّه لـم يبيّـن لماذا اعتبر أن الشيخ اسماعيل أبو حمزة رئيس للحـزب اليزبكي، ولـم يذكـر سـنداً لذلك. مع العلم بأن الوثيقة لا تتضمّن أي كلمة تشير إلى الحزب اليزبكي أو إلى الغرضية اليزبكية. وكـذلك الدكتور سليم الهشـي الذي اعتبر أن هـذا الاتفاق اتفاقٌ ودّيٌّ بين آل جنبلاط وآل أبو حمزه. لذلك نوضح ما يلي:

لا يعقل أن يكون الشيخ اسماعيل أبو حمزه رئيسا للحزب اليزبكي، ولم يحصل على مـدى تاريخ الطائفة الدرزيه أن يكون أحـداً من شيوخ العقل قـد تسلّم منصباً حزبياً أو سياسياً. لأن مهام شيخ العقل تنحصر في رعاية شؤون الموحدين الدروز الدينية والروحية، ولا علاقة له بالطوائف والمذاهب غير الدرزية. لأن هناك أناس من طوائف أخرى إسلامية ومسيحيّة ينتمون إلى الحزبية اليزبكية، مـثل آل حبيش وآل الدحداح وغيرهم.(11)

إن مقـرّ مشيخة العقل، وقبل إنشاء دار الطائفة الدرزية في بيروت في العقد السادس من القرن العشرين، كانت في منزل شيخ العقل حيث يقيـم وإذا كان الشيخ اسماعيل يقيم حيث تقيم عائلة أبو حمزه، في مرستي أو في معاصر الشوف أو في الخريبة، وهـذه القرى الثلاث القريبة من قرية بعذران مقـرّ الشيخ علي جنبلاط. وتقع جميعها ضمن منطقة الشوف الحيطي وإقطاع آل جنبلاط. والشيخ اسماعيل كانت تربطه بالشيخ علي علاقة وثيقـة، ويزوره في منزله في بعذران من حين لآخـر. من أجل ذلك، ومن غير المعقول أن يكون الشيخ اسماعيل رأس الغرضية اليزبكيّة أو ينتمي إليها، في ظل النفوذ السياسي لآل جنبلاط.(12)

لقـد عاصر الشيخ علي جنبلاط، أربعة مشايخ عقـل وهم: الشيخ ناصيف علي أبو شقرا، ومن بعـده الشيخ فخـر الدين ورد، والشيخ يوسف عـربيد أبو شقرا، والشيخ اسماعيل أبو حمـزة. جميعهم كانوا يقيمون في قراهم الواقعة في منطقة الشوف الحيطي وضمن إقطاع آل جنبلاط. وعند وفاة شيخ العقل، كان يتم الاتفاق على تعيين البديل من بين الشيوخ أصحاب الكفاءة. فمن المُستبعد أن يكون أي منهم ينتمي إلى غرضية أو حزبية سياسية، يزبكية كانت أو جنبلاطية.

يظهر من الوثيقة الموقّعة من قبل الشيخ خطار بن يونس جنبلاط، والشيخ أحمـد بن نجم جنبلاط، والمحـرّرة من قبل شيخ العقل الشيخ اسماعيل أبو حمزه وتوقيعه عليها بصفة شاهـد، أن لا علاقة لهــا بالحزبية أو بالغرضية اليزبكية – الجنبلاطية. بل هي عـقـد مصالحة بين فرعي عائلة جنبلاط، فرع الشيخ بشير قاسم جنبلاط وشقيقه حسن في بعذران، وفرع الشيخ سـيـّد أحمـد وأبي قاسم ولدي الشيخ نجم جنبلاط في المختارة. للخلاف والعداوة التي استحكمت بينهما بسبب ممارسة السلطة وفـرض النفـوذ. وقـد تجاهر الفريقان بالخصومة والبغضاء. حيث يرغب كل فـريق منهما بامتلاك التركة الجنبلاطية والتفرّد بالقرار الجنبلاطي. لذلك عمل الشيخ خطار جنبلاط صاحب قرية الخريبة، بمساعـدة شـيخ العقل الشيخ اسماعيل أبو حمزة، على عـقـد هـذه المصالحة لإجراء الوفاق بين فرعي العائلة. لكن هـذه المصالحة لم تصمـد طويلاً. وكان الوالي العثماني آنـذاك أحمـد باشا الجزار، قـد عيّـن الأميرين حيـدر وقعـدان الشهابيين حاكمين على جبـل الـدروز، والمؤيدين من قبل الشيخ سـيّد أحمد جنبلاط وشقيقه ابي قاسم. بينما الشيخ بشير جنبلاط وشقيقه حسن كانا من مؤيـدي الأمير بشير الشهابي الثاني، العـدو اللدود للأميرين حيدر وقعدان. لذلك بـدأ ابنا الشيخ نجـم جنبلاط سيد أحمد وأبو قاسم، يتدبران مكيـدة للإيقاع بابني عمّهما بشير وحسن. وذات يوم استدعيا وجوه عائلة بني عبد الصمد ووجوه بعض العائلات الشوفية الأخرى المؤيدة لهما إلى المختارة. وتم الاتفاق بينهم على الفتك بالشيخ بشير جنبلاط وشقيقه حسن في مكان إقامتهما في بعـذران. لكن الأمير ملّا الأرسلاني من قرية غريفه والذي كان حاضراً مع الذين اتخذوا قرار الفتك بالشيخين بشير وحسن، قـد عـزّ عليه أن يصل العداء بين البيتين الجنبلاطيين إلى درجة سفك الدماء. فخرج من المختارة متظاهرا بالمجيء إلى عين قني للمبيت في منزل صهره. وعندما وصل إلى عين قني، خـفّ مسرعاً إلى قرية بعذران وأعلم الشيخ بشير جنبلاط بذلك. عندها عمـل الشيخ بشير على الفور مع شقيقه حسن على تأليب نحو خمسين رجلاً مـن مؤيديهما، وهاجموا منازل آل جنبلاط في المختارة ليلاً وقتلوا ابني الشيخ نجـم، سيد أحمـد وأبا قاسم. فانطلقت عساكر الدولة على الفـور للقبض عليهما. لكن الشيخ حسن فـرّ واختبأ في قرية عرنه في إقليم البلاّن، وتوجه الشيخ بشير إلى قبيلة عـرب بني صخر في جبل حوران. فداهمت العساكر قريتي بعذران والخريبة، وهدمت منازل آل جنبلاط في بعذران وضبطت أرزاقهم وغلالهم. وقـد حصل ذلك في شهر نيسان سنة (1208هـ/ 1793م).

وفي شهر أيلول من نفس السنة، عـزل الوالي العثماني الأميرين حيدر وقعدان الشهابيين عن حكم جبـل الدروز، وعيّن مكانهما الأمير بشير الشهابي الثاني حاكماً، وهو صديق الشيخ بشير جنبلاط. عندها عـاد الشيخ بشير من جبل حوران واتّحـد مع الأمير بشير الشهابي الثاني، واتّخـذ من المختارة مركزاً له، متخلّياً عن نصيبه في دار بعذران لشقيقه حسن، الذي عاد إليها وعمل على ترميمها والإقامة فيها.(13)

ومـع اقتراب نهاية القـرن الثامن عشر بـدأ اختلال التوازن بين الطوائف، وبسـبب ازدياد النزاع اليزبكي – الجنبلاطي بين العائلات الدرزية، وضعف نفـوذ الدروز السياسي الذين أصبحوا أقلّية في مناطقهم. أمّـا الموارنة فكانوا يزدادون قـوّة. وبخاصّة بعـد تنصّر الأمراء الشهابيين واقتـداء الأمراء اللمعيين بهـم. ومـع بـداية حكم الأمير يوسف الشهابي الماروني المذهب سنة 1770، بـدأ عهـد الشهابيين النصارى.(14).

باختصار الشيخ اسماعيل أبو حمزة هو أول من تسمى «شيخ عقل»، وقد أمكنه إدارة حقبة المشيخة تلك بكثير من الحكمة والاعتدال، وفي ظروف متغيّرة تاريخية صعبة.


المراجع:

1-أمين طليع، مشيخة العقل والقضاء المذهبي الدرزي، المطبعة الأنطونية، بيروت، 1971، ص 74 و 75. كمال جنبلاط، من مقدّمة كتاب “أضواء على مسلك التوحيد للدكتور سامي مكارم”.
2- حنانيا المنير، الدُّر المرصوف في تاريخ الشوف، دار الرائد اللبناني، بيروت، 1984، ص 30.
3- معجم أعلام الدروز ص 91.
4- نائل أبو شقرا، مدارك العقلاء، لا دار نشر، 2018، ص 20.
5- طنوس الشدياق، كتاب أخبار الأعيان، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1970، ص 326.
6- مقابلة مع الشيخ رشيد محمّد أبو حمزه. والشيخ محمّد سعيد أبو حمزه، كما هو مذكور آنفا.
7- نديم الدبيسي، مرستي الشوف تاريخ وذاكرة، لا دار، 2012 ص 228.
8- لائحة إحصاء سكان قرية مرستي لسنة 1910، نسخة مصورة في مكتبتي.
9- يوسف ابراهيم يزبك، أوراق لبنانية، دار الرائد اللبناني، بيروت، 1983، مج 3 ص 86 و 87.
10- الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مناقب الأعيان، منشورات مدرسة الإشراق، عاليه، 2000، مج 2 ص 250.
11- كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، دار النهار للنشر، 1978، ط 4 ص 40.
12- نايل أبو شقرا، مدارك العقلاء، ن ، م ، ص 36.
13- يوسف خطار أبو شقرا، الحركات في لبنان إلى عهد المتصرفية، لادار، لاتاريخ، ص 88 و 89 حيدر الشهابي، لبنان في عهد الأمراء الشهابيين، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1969، ج 1 ، ص 173و 174
14- كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، دار النهار للنشر، بيروت، ط 4 سنة 1978، ص 40

العدد 36-37