الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

يوثيفرو

يوثيفرو

سقراط يحرج مدعي المعرفة بالتقوى والقداسة

يوثيفرو: كل ما يرضي الآلهة هو من أعمـــــــال التقوى
سقراط: لكنهم كما تقول يختلفون ويتقاتلون فكيف نعرف؟

سؤال محيِّر من سقراط إلى محاوره : هل عمل التقوى محبوب من الآلهة لأنه من التقوى أم أن عمل التقوى يوصف كذلك لأنه محبوب من الآلـهة؟

هناك تعريف شهير لسقراط يقول فيه إن “المعرفة الحقيقية هي أن يعرف المرء أنه لا يعرف شيئاً” وبالطبع قليلون ربما يدركون المعنى البعيد لهذا التعريف وربما استحسن البعض استخدام سقراط للكلمات واستخدامه لأسلوب المفارقة لكي يحضّ الناس على ترك ما يعتقدونه ويفكروا بطريقة جديدة. الهدف الحقيقي لسقراط هو أن يبيّن أن المعرفة الحقيقية وهي معرفة ما يتعدى الظواهر لا تحصل إلا لمن طهر باطنه من كل العلوم السابقة وكل الأفكار والتصورات والأوهام، وبات في حال من الفراغ يقول فيه فعلاً وعن قناعة راسخة أنه «لا يعرف شيئاً” فإذا بلغ هذا القدر من كمال “التخلية” فإنه يصبح عندها مثل صفحة بيضاء قابلاً لتلقي العلم اللدني وهو العلم الحقيقي غالباً من مرشد كامل إجتاز كل مراقي التحقق العرفاني.
كانت رسالة سقراط في الحياة لذلك هي تقديم البراهين على خواء العلوم الكتبية ومدارك المنطق والعلوم الظاهرة مشيراً على الدوام إلى «علم العلوم” كلها وهو إن كان لك حظ الحصول عليه فإنك ستبلغ من خلاله معرفة كافة العلوم والحقائق الظاهرة والباطنة.
في محاورة يوثيفرو يقدم أفلاطون نموذجاً بارزاً بل وساطعاً على الأسلوب السقراطي في إظهار سهولة الوقوع في وهم “المعرفة” وكيف يمكن للمرء أن يكون تحت سلطان الوهم وهو مقتنع بل واثق تماماً من أنه على العكس إنما يمتلك أعلى درجات المعارف. وكون المرء يعتقد أنه يعرف (وهو لا يعرف) هو أكبر المصائب التي يمكن أن تصيب الناس، وبما أن أكثر الناس هم مثل بطل محاورة يوثيفرو يعتقدون أنهم يعلمون وهم في الحقيقة لا يعلمون، وبما أنه لا يوجد دوماً مرجع مؤتمن (مثل الحكيم أو إمام العقل) يحكم بينهم فيجمعهم على الصواب والحقائق، فإننا سنجد الناس دوماً في صراعات والمجتمعات في تناحر دائم «كل حزب بما لديهم فرحون» حسب قول القرآن الكريم (الروم:32). وسنلاحظ أن سقراط، كما في أكثر محاورات أفلاطون لا يعطي بنفسه الجواب على السؤال الذي أحرج مدعي المعرفة يوثيفرو لأن القصد الأهم لسقراط هو التأكيد على نسبية المعارف الإنسانية وإظهار حدودها وليس تقديم الجواب العرفاني على المسائل. بذلك تنتهي محاورة يوثيفرو ليس بجواب شاف من سقراط بل بتخلص يوثيفرو من المأزق الذي أوقع نفسه فيه عبر اختلاق عذر للإنسحاب من المواجهة.

المحاورة
تعتبر محاورة «يوثيفرو» لأفلاطون بين الأعمال المبكرة التي كتبها والتي تركز بصورة خاصة على تقديم الحكيم سقراط وقد كتبت على الأرجح في العام 308 قبل الميلاد بعد موت الحكيم تنفيذ الحكم المحكمة الأثينية. والمحاورة تدور كلها حول لقاء بالصدفة بين سقراط وبين يوثيفرو على مدخل محكمة أثينا المتخصصة في الشأن الديني وقد تطور اللقاء إلى محاورة مهمة بين الحكيم سقراط وبين يوثيفرو الذي بدا للحكيم بمجرد أن بدأ الحديث مثقفاً سطحياً لكنه يعتقد في نفسه ميزات فريدة.
المفارقة الأهم اللافتة في يوثيفرو هي أن الرجلين حضرا للمثول أمام المحكمة نفسها لكن لسببين مختلفين، فسقراط استدعي بسبب إدعاء أحد مواطني أثينا ويدعى ميليتوس عليه بتهمة إفساد الشباب، وميليتوس هذا شخص مغرور لا شأن له لكن من مفارقات الديمقراطية الأثينية أن التهمة التي بدت مجرد تصرف وقح ضد حكيم أثينا الأكثر شعبية في زمانه عادت وتفاعلت لتؤدي إلى الحكم عليه بالموت بتجرع السم..
أما يوثيفرو مدعي الحكمة والعلم بكل شيء فقد لفت سقراط أنه حضر إلى المحكمة لتقديم دعوى ضد والده بتهمة قتل أحد العمال الذين كانوا يساعدون يوثيفرو في أعمال الزراعة. حقيقة الأمر في شكوى يوثيفرو هي أن عاملاً زراعياً كان يعمل عند الأخير قام وهو في حالة سكر بذبح عامل آخر وهو أمر أغضب والد يوثيفرو فقام بتقييد القاتل بسلاسل ورماه في جب، وأرسل في طلب المحقق لكي يوثق الجريمة ويتابع أمر العقوبة لكن قبل أن يصل المحقق إلى دار والد يوثيفرو كان الرجل قد مات من البرد والجوع في حفرة التراب. المفارقة التي قصد أفلاطون التشديد عليها هي التناقض البديهي بين شخصية من يعلم وشخصية من لا يعلم ويعتقد أنه يعلم. فسقراط أتى المحكمة متَّهَماً لأنه لفرط شعبيته خصوصاً بين الأجيال الشابة جعل الكثيرين في أثينا يخافون تأثيره ويسعون لإسكاته. وقد كان هذا سبب وجوده أمام المحكمة ربما تمهيداً لاستجوابه من قاضي الشؤون الدينية في التهم الموجهة إليه من خصومه. أما يوثيفرو فقد كان سبب وجوده في المحكمة أنه جاء ليدعي على والده بتهمة القتل وهو يعتقد أنه إنما يعمل بذلك وفق مبدأ التقوى وأخذ جانب الحق والعدل. ونحن نعرف من سياق القصة أن والد يوثيفرو لم يرتكب جريمة القتل وإنما قام باعتقال القاتل الذي ذبح عاملاً آخر وألقى به في حفرة مقيداً في انتظار وصول المحقق لكي يتخذ الإجراءات اللازمة. ويبدو أن الرجل لم يستطع تحمل البرد ونقص الطعام فمات قبل وصول المحقق. وبما أن يوثيفرو يعلم كل تلك التفاصيل فإن سعيه لملاحقة والده بتهمة القتل يمثل عنواناً لمدعي العلم يفرقه بوضوح وهو أنه يعتقد فعلاً أنه على الصواب في وقت يبدو ضلاله جلياً لكل من لديه حد أدنى من التمييز.
كأن أفلاطون يريد عبر شخصية يوثيفرو أن يعطينا فكرة عن انتشار الحماقة بين الناس وندرة الحكمة والعقلاء وكأن الذين حضروا في محكمة أثينا لينتهوا بإدانته بصورة اعتباطية لا يختلفون كثيراً عن يوثيفرو فهم مثله يظهرون ثقة كبيرة في ما يعتقدونه ولا يبدون مهتمين بالأخذ ممن يتقدمهم معرفة أو خبرة، وهم مستعدون (كما هي حال العوام دوماً) لإتباع الهوى وغالباً ما ينجم عن اجتماعهم شتى أنواع الكوارث والمظالم، أما زعماؤهم فهم كالأعمى الذي يقود عمياناً. ومثل كل من يتبع الهوى فإن يوثيفرو سيبدو لنا بعد قليل من تطور الحوار شخصاً تناقض أعماله ما يدعيه من إلمام بالحكمة وبالمعارف.
تبدأ المحاورة بإظهار يوثيفرو استغرابه لوجود سقراط في المحكمة، ويداخله الشك بأن أحداً ما ربما يدعي عليه بأمر إذ إن سقراط حسبما يعلم يوثيفرو لا يمكن أن يأتي المحكمة ليدعي على أي إنسان، لذلك فهو يبدأ بسؤال الحكيم عن طبيعة التهمة الموجهة إليه.
سقراط: ما هي التهمة؟ حسناً إنها تهمة جسيمة
يبدأ سقراط الإجابة بلهجة ساخرة فهو يقول: إن ميليتوس يجب أن لا يلام لاتهامنا بإفساد الشباب، لأن الرجل يعلم من الذين يتم إفسادهم ومن هم المفسدون فهذا الرجل يجعل أول همه مصير الشباب ويسعى لإزالتنا نحن الذين نقوم بتدميرهم.
يعود يوثيفرو إلى السؤال: ولكن حسب هذا الرجل ما هي الكيفية التي تقوم أنت فيها بإفساد عقول الشباب؟
سقراط: إنه يأتي بتهمة رائعة ضدي، وهو يقول عني إنني شاعر أو إنني أخترع آلهة جدداً وأنكر وجود الآلهة السابقين (آلهة أثينا) وهذا هو جوهر التهمة.
يوثيفرو: أفهم من ذلك يا سقراط، إن هدف الرجل هو أن يلصق بك تهمة الهرطقة أو الابتداع وأنه يريد أن يأخذك إلى المحكمة بهذه التهمة لمعرفته بأن هذا النوع من التهم يلقى فوراً آذاناً صاغية، وهذا أمر إختبرته بنفسي لأنني عندما أبلغ الناس عن الأمور الإلهية وأتنبأ بالمستقبل لهم فإنهم يسخرون مني ويرمونني بالجنون، هذا مع العلم أن كل كلمة أقولها هي الحقيقة لكنهم يحسدوننا ويجب علينا لذلك أن نكون شجعاناً وأن نردّ عليهم بقوة.
هنا يجعلنا أفلاطون نقرأ المكتوب من عنوانه كما يقال، إذ إن يوثيفرو من أول الطريق يضع نفسه في مصاف سقراط (إذ يقول: «يحسدوننا») وهو يبلغ الحكيم بشيء من السذاجة عن إحاطته بالعلوم الإلهية وقدرته التنبؤ بالمستقبل. بالطبع لا يوجد شخص حكيم يتفوّه بمثل هذه الادعاءات؛ وسنرى أن سقراط يبدأ بأن يجاري يوثيفرو في دعواه كما هو أسلوب الحكيم دوماً، إذ إنه لا يناقض محدثه ولا يبين له خطأه أو يسفّه تفكيره بل يقوده، من خلال أسلوبه الفريد في الحوار، ليكتشف بنفسه خطأ مقولاته وعندما يتضح للشخص خطأه فإنه على الأرجح يصبح مستعداً أكثر لتبين الحقيقة وللإستماع بصورة أفضل لسقراط والخضوع لأسلوبه في السير بمحدثه خطوة خطوة في طريق المعرفة.

هل-تعتقد-حقا-يا-يوثيفرو-أن-الألهة-الذين-جاء-ذكرهم-في-قصص-الرواة-والشعراء-كائنات-حقيقية؟؟
هل-تعتقد-حقا-يا-يوثيفرو-أن-الألهة-الذين-جاء-ذكرهم-في-قصص-الرواة-والشعراء-كائنات-حقيقية؟؟

“سقراط تعجّب لقيام يوثيفرو بملاحقة والده بتهمة القتل فسأله: هل تعتقد أن معرفتك بأحكام الدين وبالفرق بين ما هو تقوى وما هو إثم معرفة دقيقة؟”

سقراط: إن سخريتهم يا صديقي يوثيفرو لن تنال منك في شيء لأن الناس قد ترى في رجل ما حكيماً لكنهم لن يتعرضوا له بشيء إلى أن يبدأ بعرض حكمته على الآخرين، يحصل ذلك لسبب أم لآخر لكنه قد يكون شعور الحسد هو الذي يجعلهم ينقمون.
يوثيفرو: بالتأكيد، لذلك فإنني أسعى جهدي كي لا أستفزّهم بتلك الطريقة.
سقراط: أنت رجل رصين ومتحفظ في عرض حكمتك على الآخرين، لكن على العكس فإن لدي تلك العادة وهي أنني أقدم نفسي لكل الناس، حتى إنني قد أدفع المال لمن يرغب في الاستماع إليّ، وأخشى نتيجة ذلك أن ينظر الأثينيون إليّ باعتباري ثرثاراً. مع ذلك فإنهم لو اكتفوا بالهزء مني كما يهزأون منك لهان الأمر، لأنهم على الأرجح ينوون أمراً أكبر وهذا الأمر حتى قارئو المستقبل قد لا يفلحون في توقعه.
يوثيفرو: إنني لأجرؤ على القول إن هذه القضية ستنتهي بسلام وإنك يا سقراط ستربح الدعوى.
يظهر أفلاطون هنا أن يوثيفرو رجل مدع فعلاً فهو يتنبأ بأن سقراط سيربح القضية وهو عكس الذي سيحصل فعلاً. لكن الحكيم المشهور بحلمه وأناته يتابع الحوار مستفسراً عن سبب مجيء يوثيفرو إلى المحكمة وهل هو مدعٍ أم مدعى عليه.
يوثيفرو: ربما تظنني مجنوناً إن أخبرتك.
سقراط: لماذا هل للمتهم الفار أجنحة؟
يوثيفرو: إنه والدي.
سقراط : وما هي التهمة؟
يوثيفرو: القتل.
يحاول سقراط كبت شعور الدهشة الذي يعتريه وهو يرى هذا الشاب يلاحق والده بتهمة خطيرة وهو أمر مستهجن في الأعراف الأثينية لأن للوالد كرامة كبيرة وشبه قداسة في هرم الأسرة وفي المجتمع وهو يستحق الخضوع والاحترام التامين. لكن سقراط يغتنم الفرصة للبدء بالمحاورة وهو يستدرج يوثيفرو إلى الموضوع بإظهار العجب من عمل يوثيفرو الذي لا بدّ أن تكون لديه معرفة كبيرة بما هو حق وما هو باطل من الناحية الدينية لكي يقوم بهذا العمل غير المسبوق وهو ملاحقة والده أمام القضاء.
سقراط: لا بدّ لمن يقوم بمثل هذا العمل الجريء أن يكون رجلاً استثنائياً سار أشواطاً طويلة في طريق الحكمة !
يوافق يوثيفرو سقراط على فرضيته مؤكداً له أنه “ضليع جداً بمختلف شؤون الدين” فيتابع سقراط السؤال عن “الضحية” إذ لا بدّ أن تكون من أفراد أسرة يوثيفرو أو أقربائه لكي يكون غاضباً إلى حدّ ملاحقة والده، لكن يوثيفرو ينفي الأمر وشعور الغرور لديه على حاله فيقول:
يوثيفرو: عجباً يا سقراط، هل تريد أن تميز فعلاً في شأن الضحية بين من هو قريب ومن هو غريب؟ لأن شر القتل لا يتبدل وجوهر الموضوع هو هل أن الضحية قتلت لسبب وجيه أو ظلماً؟
بناء على سؤال من سقراط يشرح يوثيفرو تفاصيل الحادثة وكيف قام أحد عماله وكان تحت تأثير السكر الشديد بقتل زميل له، وقد نجم عن ذلك أن قام والد يوثيفرو الغاضب بتقييد القاتل بالسلاسل ورميه في حفرة ليومين أو ثلاثة ريثما يأتي المحقق لاستجوابه، وما حدث بعد ذلك من موت الرجل في الحفرة بتأثير البرد والجوع . واضح بالطبع أن والد يوثيفرو لم يقصد القتل وإن كان تصرف بغلظة بتأثير الجريمة التي ارتكبها العامل، لكن يوثيفرو يصرّ على ملاحقة والده والادعاء عليه لأنه بذلك (حسب ادعائه) يأخذ جانب التقوى والحق الإلهي، وهو يعترف لسقراط بأن والده وأسرته غاضبون عليه بسبب موقفه الشاذ، لأن من أكبر الآثام في أثينا أن يقوم ولد بملاحقة والده لكن يوثيفرو يؤكد لسقراط أنه لن يعبأ بكل هذا في سبيل سعيه لإحقاق الحق.
هنا يدخل سقراط في الموضوع بسؤال مهم:
سقراط: لكن هل تعتقد أن معرفتك بأحكام الدين وبالفرق بين ما هو تقوى وبين ما هو إثم معرفة دقيقة، وبناء على الظروف التي شرحتها لي ألست قلقاً من أن يكون أيضاً في ما تفعله من ادعاء على والدك إثم كبير؟
يوثيفرو: أفضل ما في يوثيفرو يا سقراط وما يميزه عن الآخرين هو أن علمه دقيق وصحيح في كل هذه الأمور وأي قيمة لي من دون هذا العلم؟
كل جملة جديدة يتفوه بها يوثيفرو تزيد المتابع اطلاعاً على شخصية مدعي العلم وهي الثقة التامة بعلمه وعدم قبوله للنصيحة أو استعداده لمناقشة ما يقوم به. وقد بلغ اعتداد يوثيفرو حداً لم يدع لسقراط تعليقاً سوى الطلب منه أن يكون مُعَلِّمه. وفي هذا الطلب بالطبع سخرية مبطنة من الحكيم ولكنه الطريق الذي سيأخذه ليكشف لمحاوره أنه لا يعلم شيئاً في الوقت الذي يظن نفسه أعلم العلماء.
سقراط: أيها الصديق النادر الوجود أعتقد أن أفضل شيء يحصل لي هو أن تقبلني مريداً!
هنا يتوسع سقراط في سبب سؤاله يوثيفرو أن يكون مرشداً له بالقول إن ذلك سيمثل دفاعاً جيداً له ضد تهمة ميليتوس لأنه سيتحدى الأخير عندئذ بالقول إنه مريد ليوثيفرو المفكر العظيم وإنه إذا كان يوثيفرو على صواب فإنه لا بدّ أن يكون هو على صواب أيضاً وإن كان ميليتوس والمحكمة يرون في أفكاره ما يستوجب الاتهام والعقوبة فإن يوثيفرو باعتباره «معلمه» أجدر بأن يلاحق ويتهم لأن سقراط لا يفعل سوى التعبير عن أفكار مرشده يوثيفرو!!
اللافت أن يوثيفرو يسارع إلى قبول سقراط تلميذاً له في بادرة تدل على أن جهله يقارب حدود الحماقة. لكن سقراط يمضي في خطة الحوار ويبدأ بصورة مواربة الدخول في جوهر الموضوع.
سقراط: إنني أرجوك أن تبين لي أولاً طبيعة التقوى وطبيعة نقيضها وهو الإثم أو الفساد وهي أمور قلت إنك تعرفها جيداً كما تعرف عن غيرها من أشكال الزلل في العلاقة مع الآلهة. أليست التقوى هي نفسها التي نجدها في كل عمل من الأعمال؟ وكذلك الإثم أو الضلالة أليس ذلك هو نفسه في كل الأعمال التي يمكن وصفها بأنها تناقض التقوى؟
يوثيفرو: التقوى هي أن تعمل كما أعمل، أي الإدعاء على الشخص المتهم بالقتل أو بأي إفساد في الأرض سواء كان المتهم والدك أو والدتك أو أي كان، فذلك يجب أن لا يحمل أي اختلاف في الحكم وبالتالي فإن عكس التقوى هي أن لا تلاحق هؤلاء الناس أمام المحكمة.
يتابع يوثيفرو فيعطي أمثلة من الأساطير اليونانية القديمة يعرض فيها لحالات قام فيها الولد بتقييد أبيه (الإله زويس ووالده (كرونوس) لأنه التهم أولاده، كذلك فعل كرونوس نفسه بوالده أورانوس.إذ قام بخصيه وهذا من الأفعال الفظيعة لولد بوالده، وهنا يبدي يوثيفرو وجهة نظر طريفة، إذ يقول: إذا كان يجوز للإله زويس تقييد والده وإذا جاز لكرونوس فعل أمر شنيع بوالده الواجب أن يعلن الناس تأييدهم له عندما يقوم بعمل مماثل لعمل الآلهة وهو ملاحقة والده أمام قضاء أثينا.
سقراط: أعترف لك بأنني لا أعرف شيئاً عن تلك الآلهة لكنني أسألك: هل تعتقد أنها كائنات حقيقية؟
يوثيفرو: بالتأكيد أنهم حقيقة ولدي علم بأشياء رائعة كثيرة الناس جاهلون بها تماماً.
سقراط: لكن هل تعتقد حقاً أن الآلهة يصارع بعضهم بعضاً وأنهم خاضوا معارك ضروساً في ما بينهم وما شابه كما يقول الشعراء أو كما جاء في أعمال بعض كبار القصاصين والرواة أو كما تراها مشخصة في مختلف المعابد، فهل كل هذه الروايات في نظرك يا يوثيفرو حقيقية؟
يوثيفرو: نعم يا سقراط، وفي إمكاني أن أقصّ عليك إضافة إلى ذلك قصصاً عن الآلهة سوف تذهلك !
يبدو واضحاً من سؤال سقراط أنه يتعجب من أن يوثيفرو يعتقد فعلاً بوجود الآلهة الأسطورية التي جاءت في قصص هوميروس مثلاً أو هيسيود Hesiod أو غيرهما وهذا التصديق لأدب خرافي والاعتقاد بشخصياته يظهر محدودية في التفكير ونوعاً من الاعتقاد الجامد الشبيه بما يشار إليه في أيامنا بالـ «أصولية» الدينية فهذه الأصولية مخلصة في اعتقادها لكنها تبني حجتها على إيمان متطرف بأمور وتقاليد وأشخاص دون تمحيص. لكن سقراط ليس مهتماً بهذا الجانب من “علم” يوثيفرو بل بالجانب المتعلق بادعائه العلم، لذلك

كبير-آلهة-الإغريق-زويس-في-صورة-إنسان
كبير-آلهة-الإغريق-زويس-في-صورة-إنسان

فإنه يعيد محاوره إلى الموضوع فيسأله مجدداً عن تعريف دقيق
لـ «التقوى» ونقيضها.
سقراط: ما أودّ الحصول عليه منك هو جواب أكثر دقة (لم أحصل عليه منك حتى الآن) على السؤال: ما هي التقوى؟
وهنا يعيب سقراط على يوثيفرو تعريفه التقوى بأنها أن يعمل المرء مثله أي أن يدعي على إنسان حتى ولو كان والداً أو والدة! لأن ما هو في صدده ليس إعطاء مثل أو مثلين على فعل التقوى بل الحصول على تعريف لـ «التقوى».
سقراط: قل لي ما هي طبيعة هذه الفكرة (التقوى) وعندها سيكون لديّ معيار أقيس به الأعمال سواء أعمالك أم أعمال أي إنسان آخر وعندها سيكون في إمكاني أن أقول إن عمل هذا أو ذاك هو من التقوى أو عمل آثم أو فساد.
يوثيفرو: التقوى هي أن تقوم بأعمال تحبها الآلهة والإثم أما الفساد هو كل عمل تكرهه الآلهة.
هذه بالطبع أول محاولة من يوثيفرو لتعريف التقوى، وهو أعطى الحكيم سقراط بذلك أول مستند لمواجهته بتناقضات منطقه.
أول ما سيفعله سقراط هو أن يستخدم قناعات يوثيفرو نفسها ليظهر له كم يعتريها من التناقض وكيف أنها لا تصلح لتعريف التقوى أو الفضيلة. إذا كانت التقوى هي كل عمل محبب للآلهة فإن كل الآلهة التي يؤمن بها يوثيفرو يجب أن يجتمع على رأي واحد وأن تكون لهم نفس الصفات الإلهية أو العصمة من الخطأ. وهنا يستدرج سقراط يوثيفرو للإقرار بأن آلهة الإغريق (على فرض كونهم حقيقيين وهو ما لا يؤمن به سقراط) لديهم أطباع وأمزجة وهم يتصارعون ويقاتل بعضهم بعضاً حال اختلافهم شبيهة باختلاف البشر، وبالتالي العمل الذي قد يروق لإله ما قد لا يروق لإله آخر مما يعني أن محبة الآلهة لعمل ما كمعيار لاعتباره من أعمال التقوى لا تستقيم كمعيار شامل، لأن ما قد يروق للإله زويس قد لا يروق للإله كرونوس وما قد يروق لكرونوس قد لا يروق للإله ترايدنت أو أورانوس.
يتابع سقراط لأن مقياس يوثيفرو للتمييز بين التقوى ونقيضها مقياس واه وهو يذكره أن الاختلاف حول الأرقام يحل بعلم الحساب والاختلاف حول مقاييس الأشياء يحلها الكيل، والاختلاف حول الأوزان يحلها الميزان لكن يقول سقراط: ما هي الاختلافات التي لا يمكن حسمها بهذا القدر من الموضوعية؟ ما هي الاختلافات التي قد تثير فينا شعور الغضب وتخلق العداوة بيننا؟ ويجيب سقراط على السؤال بالقول إن هذا النوع من الاختلافات يظهر عندما يتعلق الأمر بالعدل أو الظلم أو يتعلق بالخير ونقيضه الشر، أو يتعلق بما هو شريف وما هو غير شريف. أليست هذه الأمور التي يختلف حولها الناس؟
يوثيفرو: حقاً يا سقراط تلك هي الأمور التي نتنازع بشأنها كما تصف.
سقراط: وصراعات الآلهة، ايها الرجل النبيل يوثيفرو، عندما تحصل، أليست من طبيعة مشابهة؟
يوثيفرو: بالتأكيد
سقراط: أي إن بينهم اختلافاً في الرأي حول ما هو خير وما هو شرّ، ما هو عادل وما هو ظلم، ما هو شريف وما هو غير شريف، ولولا تلك الاختلافات لم نكن لنرى قيام النزاعات والصراعات بينهم أليس كذلك؟
يوثيفرو: يبدو الأمر كذلك.
سقراط: هذه الاختلافات سواء بين الآلهة أو بين البشر تعني أن الأمر نفسه قد يكون من التقوى وعكسها في آن معاً.
التعليق: إلى هنا يكون سقراط قد أطاح بالفكرة الأساسية ليوثيفرو في تعريف التقوى على أنها كل عمل يروق للآلهة. وبالطبع فإن سقراط لا يؤمن بتلك الآلة أصلاً أو بوجودها لكنه استخدم حجة يوثيفرو نفسها من أجل هدم نظريته. الخطوة التالية لسقراط ستكون اقتراح بديل فوري للفكرة السابقة وهو لذلك يسأل يوثيفرو:
سقراط: عند الحديث عن الناس (كبديل لموضوع الآلهة) هل سمعت في حياتك إنساناً يجادل في أن القاتل أو الشرير يجب تركهما وشأنهما؟ وهل يمكن لأي مجرم أن يعترف بذنبه ثم يحاول إقناع الناس أن عليهم أن يتركوه وشأنه دون عقاب؟
يوثيفرو: كلا بالتأكيد
سقراط: وأن مرتكب الذنب لا يناقش لإقناع الناس بأن الذنب ليس عملاً شائناً بل يحاول فقط تبرئة نفسه بأنه ليس الفاعل، أليس كذلك؟
يستنتج سقراط بأن الآلهة مثل البشر لا يمكن أن يختلفوا في حقيقة أن المجرم -أي مجرم- يجب أن ينال العقاب العادل، أي إنهم لا يمكن أن يختلفوا حول مبدأ العدل، لكن يمكن أن يختلفوا حول تقدير الوقائع أي إنهم -مثل ما قد يحصل داخل هيئة محلفين- قد يختلفون في تقييم فعل معين وهل تتوافر فيه مواصفات الجرم المستحق للعقوبة أم لا.
يوثيفرو: هذا صحيح.
هنا وقع يوثيفرو في فخ سقراط لأن الحكيم سيتحداه أن يثبت له أن جميع الآلهة (الذين يؤمن بهم وبعدلهم) موافقون على فعلته أي أن يقوم ولد بملاحقة والده بجريمة قتل حصلت وفق الظروف التي شرحها يوثيفرو بنفسه.
سقراط: كيف تثبت أن جميع الآلهة دون استثناء يوافقون على عملك؟ أثبت لي ذلك وسأثمن عالياً حكمتك ما حييت!
يوثيفرو: هذه مهمة صعبة
هنا يقترح سقراط تعديل التعريف الأولي للتقوى كما جاء به يوثيفرو (كل ما هو محبب للآلهة) إلى صيغة جديدة أقوى مفادها أن كل ما تجمع عليه الآلهة على أنه تقوى فهو تقوى وكل ما تجمع على اعتباره إثماً أو فساداً فإنه إثم وفساد.

سؤال سقراط المحيِّر لمدعِّي العلم يوثيفرو أصبح مسألة أساسية في فلسفة الدين والأخلاق
سؤال سقراط المحيِّر لمدعِّي العلم يوثيفرو أصبح مسألة أساسية في فلسفة الدين والأخلاق

مفارقة “يوثيفرو” الأساسية
عند هذه النقطة يعود سقراط ليشرح ليوثيفرو أنه حتى على فرض أنه أثبت له أن جميع الآلهة يوافقون على عمله وهو ملاحقة والده بتهمة القتل (وهو بالطبع أمر مستحيل) فإنه لم يجب حتى الآن على السؤال الأساسي المتعلق بطبيعة «التقوى» وهنا يرمي سقراط بالمفارقة الأساسية التي حيرت يوثيفرو وباتت المسألة المحورية في محاورة أفلاطون هذه.
ما هي تلك المفارقة؟ إنها في السؤال التالي الذي وجهه سقراط ليوثيفرو:
سقراط: إن النقطة التي أودّ أن أفهمها هي: هل عمل التقوى محبوب من الآلهة لأنه من أعمال التقوى أم أن عمل التقوى يوصف كذلك لأنه محبّب إلى الآلهة؟
يريد سقراط هنا أن يشرح ما هو الأسبق وما هو مصدر عمل التقوى. هل محبة الآلهة لعمل التقوى سابقة له أي إنها السبب في تعريفه كذلك أم أنها لاحقة بمعنى أن العمل يأتي من الإنسان فتحبه الآلهة فيصبح من أعمال التقوى؟
يوثيفرو: لم أفهم ماذا تعني يا سقراط؟
يشرح سقراط بأن هناك دوماً فارق بين أن تَرى أو أن تُرى بين أن تَحمُل أو أن تكون محمولاً بين أن تُقود وأن تكون مُقاداً..
يوثيفرو: أعتقد أنني أفهم ما تعنيه
سقراط: بنفس المعنى السابق أن تكون محبوباً هي حالة تابعة لفعل الحب وليس فعل الحب تابعاً لها.
يوثيفرو: بالتأكيد
سقراط : وماذا تقول في التقوى يا يوثيفرو أليست التقوى حسب تعريفك محبوبة من جميع الآلهة.
يوثيفرو: نعم
سقراط: هل هي محبوبة بسبب قدسية التقوى أم لأي سبب آخر؟
يوثيفرو: كلا هذا هو السبب
سقراط: أي إن التقوى محبوبة من الآلهة لأن لها قدسيتها وليست للتقوى قدسية لأنها محبوبة من الآلهة.
يوثيفرو: بالتأكيد
يقدم سقراط بعد ذلك سلسلة من الأدلة تؤكد ليوثيفرو أن كل هذا السعي لتعريف التقوى بأنها ما يجمع الآلهة على محبته مازالت قاصرة عن تعريف كنه أو جوهر التقوى نفسها لأننا ما زلنا نعرف التقوى بشيء آخر خارجها مثل محبة الآلهة لها لكن يوثيفرو فشل حتى الآن في إعطاء تعريف حقيقي للتقوى كمفهوم أو كحقيقة سماوية (قدسية).بعد موضوع التقوى ينتقل سقراط في محاورته إلى موضوع القداسة Holiness .

البانثيون-في-أثينا-أحد-أبرز-معالم-الحضارة-الإغريقية
البانثيون-في-أثينا-أحد-أبرز-معالم-الحضارة-الإغريقية

“سقراط يتحدى يوثيفرو أن يثبت له أن جميع الآلهة (الذين يؤمن بهم وبعدلهم) موافقون على فعلته أي أن يقوم ولد بملاحقة والده بجريمة قتل!”

سقراط: يبدو يا يوثيفرو أنه في كل مرة أسألك عن طبيعة القداسة فإنك تقدم لي صفة من صفاتها وليس جوهرها أو ماهيتها الحقيقية.(والتي تجعل من عمل قدسي محبوب من الآلهة جميعاً)، لكنك مازلت ترفض أن تشرح لي حقيقة القداسة. وإنني لأسألك أن لا تخفي كنوز معرفتك عنا وأن تخبرني ما هي حقيقة القداسة وما هي حقيقة التقوى .
يوثيفرو: في الحقيقة لا أعلم يا سقراط كيف أعبّر لك عمّا أعنيه إذ لسبب ما فإن حجتنا في أي موضوع نتحاور فيه تدور في مكانها ثم تجدها تذهب بعيداً عنا.
سقراط: يبدو لي يا يوثيفرو أنك كسول فعلاً، لذلك سأحاول بنفسي أن أظهر لك كيف يمكن أن ترشدني في ما خص موضوع التقوى، وأنا أودّ أن أسألك : أليس كل تصرف يتميز بالتقوى هو أيضاً تصرف عادل.
يوثيفرو: نعم
سقراط: فهل كل ما هو عادل أيضاً من التقوى أو أن كل ما هو تقوى يتصف بالعدل بينما فقط بعض ما يتصف بالعدل هو من التقوى؟
يوثيفرو: إنني لا أفهم ما تقوله يا سقراط
سقراط: مع ذلك فإنني أعلم أنك أعقل وأكثر حكمة مني، لكن يبدو أن غزارة حكمتك تجعلك كسولاً فأرجو يا صديقي أن تتملك نفسك وتجتهد أكثر. السؤال الذي أودّ أن أسأله هو : هل ما هو عدل دوماً من التقوى أم أن كل عمل تقوى يتصف دوماً بالعدل؟ وهل لا يوجد هناك عدل حيث لا توجد التقوى -إذ إن العدل مفهوم موسع حيث تشكل التقوى جزءاً منه- هل تخالف هذا القول؟
يوثيفرو: لا بل أعتقد أنك على حق في ما تقول.
سقراط: والحال، إذا كانت التقوى جزءاً من العدل فإن علينا أن نسأل أي جزء؟ أي أنني أودّ منك أن تقول لي ما هو الجزء من العدالة الذي يمثل التقوى أو القداسة، لعلني بذلك أقنع ميليتوس أن لا يوقع بي الظلم ويتهمني بالإفساد.
يوثيفرو: التقوى أو القداسة تبدو لي يا سقراط ذلك الجزء الذي يهتم بالآلهة بينما نقيض التقوى والقداسة يهتم بالإنسان.
هنا يتساءل الحكيم سقراط عن معنى كلمة «اهتمام» التي أوردها يوثيفرو. ما معنى أن يهتم الأتقياء أو الأولياء بالآلهة؟ وماذا يمكن للإنسان أن يقدم للآلهة. وهو يعطي أمثلة اهتمام السائس بالأحصنة واهتمام الصياد بكلاب الصيد واهتمام صاحب الثيران بثيرانه، وهو يسأل يوثيفرو: هل هذا النوع من الاهتمام هو ما قصدته؟ يسارع يوثيفرو إلى النفي مؤكداً أنه لم يقصد عقد مقارنة بين الاهتمام بالآلهة وبين الاهتمام بالأحصنة أو الثيران !!
سقراط: وأنا أيضاً يا يوثيفرو لم أقصد ذلك، لكنني أسألك عن طبيعة الاهتمام بالآلهة الذي اعتبرته تعريفاً للتقوى ، فأنت لم توضح ذلك.
يوثيفرو: إنه نفس الاهتمام الذي يظهره الخادم أو العبد لسيده.
سقراط: أي أنه نوع من خدمة الآلهة.
يوثيفرو: تماماً
يتساءل سقراط هنا عن الفوائد التي تقدمها الآلهة بفضل اهتمام أهل التقوى بخدمتها؟
يوثيفرو: هناك الكثير من الأعمال المفيدة التي تقدمها الآلهة منها على سبيل المثال تمكيننا من النصر في الحرب.
سقراط: لكن بين تلك الفوائد ما هي الفائدة الأساسية والأهم التي تقدمها الآلهة؟
يوثيفرو: قلت لك سابقاً يا سقراط بأن تعلم كل هذه الأمور بدقة أمر مرهق، لكن دعني أقول إن التقوى أو القداسة هي تعلم كيف ترضي الآلهة بالأعمال والأقوال، بالأدعية والابتهالات والأضاحي، وبفضل أعمال التقوى هذه يتحقق الخلاص للعائلات وللدولة كما إن الفساد (أو غياب التقوى) يتسبب بإغضاب الآلهة ودمار العائلات والدول.
سقراط: هل تعني أن التقوى هي نوع من علم الدعاء للآلهة والتضحية لها؟
يوثيفرو: نعم هذا ما أقصده.
سقراط: وهذا يعني أن التضحية هي العطاء للآلهة وأن الدعاء هو الطلب منهم.
يوثيفرو: نعم يا سقراط.
سقراط: بناء على تلك النظرة فإن التقوى هي علم الأخذ والعطاء!
يوثيفرو: أنت تفهمني تماماً يا سقراط.
سقراط: لكن ما طبيعة تلك الخدمة لهم هل تعني أننا نسألهم عن أشياء ونقدم لهم هدايا في المقابل؟
يوثيفرو: نعم هذا ما قصدته.
لكن سقراط لا يبدو راضياً بهذا التعريف لأنه يبدو وكأن الناس تقوم بصفقات أو تجارة مع الآلهة، لكنها صفقات غير متكافئة، لأن الآلهة تعطينا نحن البشر عند سؤالها، وهذا متفق عليه، لكن ما الذي نعطيه نحن لها وإذا كنا نعطيهم فمن قال إنهم يريدون عطيتنا أو إنهم في حاجة إليها؟ وهل تعطي أياً كان شيئاً لا يريده وتعتبر ذلك هدية؟

محاكمة-أوديسوس---لوحة-تظهر-تصميم-المحكمة-الأثينية
محاكمة-أوديسوس—لوحة-تظهر-تصميم-المحكمة-الأثينيةمحاكمة-أوديسوس—لوحة-تظهر-تصميم-المحكمة-الأثينية

سقراط: ليس لدي أي شك في أن الآلهة تعطينا وليس هناك خير أو إنعام إلا وهم يقدمونه، لكن كيف يمكننا أن نعطيهم أشياء حسنة قيمة في المقابل؟ فهذا الأمر الأخير غير واضح البتّة لي!.
يوثيفرو: أو تعتقد حقاً يا سقراط أن هناك أي فائدة تنجم من أضحياتنا للآلهة؟
سقراط: لكن إذا لم تكن هناك فائدة للآلهة مما نقدمه فما هو معنى الهدية وما الذي تناله من هديتنا؟
يوثيفرو: لا شيء سوى أننا نكرِّمُهُم ونقوم بما يرضيهم.
سقراط: إذاً التقوى ليس فيها أي فائدة للآلهة لكنها تسرهم
يوثيفرو: هذا صحيح
سقراط: أي إن التقوى تسرّ الآلهة لكن ليس فيها فائدة لهم كما إنها لا ترضيهم بشيء.
يوثيفرو: بل يمكنني القول ليس هناك أعز على الألهة وأقرب إلى قلوبهم من التقوى.
سقراط: لكن ألم نتفق قبل قليل على أن ما هو من التقوى أو القداسة ليس بالضرورة هو نفسه ما هو محبب للآلهة؟ هل نسيت؟
يوثيفرو: لا بل أذكر ذلك.
سقراط: ألست من تقول إن ما تحبه الآلهة له قداسة لكنه أليس كل ما تحبه الآلهة قريب إلى قلوبها؟
يوثيفرو: صحيح
سقراط: إذاً إن ما اتفقنا عليه من قبل كان خطأ وإما أن نكون على صواب الآن.
يوثيفرو: أحد الأمرين لا بدّ أن يكون صحيحاً.
سقراط: إذاً علينا أن نبدأ من جديد بالسؤال: ما هي التقوى، وإن كنت لم تستطع بشيء من الثقة تعريف ما هي التقوى وما هو نقيضها فكيف يمكنني أن أثق بأنك تعلم ما أنت فاعله عندما تقوم بالنيابة عن أحد الخدم بملاحقة والدك بتهمة القتل، لو أنك تعرف فإنك لم تكن لتأخذ مثل هذه المخاطرة بارتكاب ما هو إثم في نظر الآلهة بملاحقتك والدك وكنت ستظهر احتراماً أكبر لرأي الناس، مع ذلك فإنني ما زلت موقناً انك تعرف طبيعة التقوى ونقيضها أي الفساد في الأرض، فلتقل لي يا عزيزي يوثيفرو ولا تُخفِ عني علمك !!!
يوثيفرو: ربما في وقت آخر يا سقراط لأنني على عجلة من أمري وعلي أن أذهب.

ملا نصرالدين

حكايات وعِبَر الحكيم الساخر

مُلّا نَصْرُ الدِّينْ

شخصية ألهبت مخيلة الناس وأثْرَت المكتبة العالمية
بألوف الحكايات الساخرة الغنية بالحكم وعبر الحياة

هناك الكثيرُ من الحمير المقيدين بوهم المعرفة

يعتبر نصر الدين خجا (ملّا نصر الدين) شخصية بالغة الأهمية في الإرث الشعبي لبلدان وسط آسيا، والصور الموروثة عنه أنه “حكيم” واسع المعرفة سريع الفطنة حاد الذكاء إلا أنه يلبس حكمته والعبر التي يأتي بها طابع السخرية واللامعقول، وهذا الأسلوب تميّز به نصر الدين وبات طابعه الشخصي في إيصال تعليمه وحكمته لعامة الناس بأسلوب الفكاهة والمفارقة والمفاجأة، ولم يكن لدى نصر الدين أي مشكلة في أن يظهر للبعض باعتباره غريب الأطوار، وربما كان أسلوبه وأسلوب بعض الوعاظ من أمثاله وراء القول الشائع في العربية “خذوا الحكمة من أفواه المجانين” وهذا القول الهدف منه تنبيه العامة إلى أن أهل العقول قد يستترون أحياناً في قناع الغرابة أو السخرية كجزء من أسلوبهم أو رسالتهم في الحياة. وقد جعل نصر الدين رسالته في الحياة أن يجعل الناس يضحكون على أنفسهم ويضحكون من كثرة ما هو غريب ومتناقض في المجتمع، بل إن هدف نصر الدين أن يبرهن للعامة الذين يعتقدون انهم على جانب الإدراك والفهم أنهم هم الحمقى لكنهم ربما لا يدركون ذلك ، وأن الحكمة قد تأتي إليهم متنكرة بثوب الغرابة، وعليهم بالتالي أن لا يهملوها كما لو أنها كلام حمقى أو بهاليل. والحكيم أو الفيلسوف الشعبي حرّ في الأسلوب الذي يبلغ فيه مواعظه وتعليمه، وهناك من الأساليب في توصيل التعليم والتربية على عدد ما وجد من حكماء ومرشدين وممثلين لثقافة العقل والإتزان. وها هو أبو يزيد البسطامي وقد كان، من أجل أن يضرب مثلاً في قهر النفس، يختار بعض أماكن الحي التي يكثر فيها الأولاد ويلبس من غريب الأسمال والثياب ما يجعله على الفور عرضة لمداعبات الأولاد وتحرشاتهم وقد كان بعضهم يرميه بالحجارة، فيقول إن طريق الله هي في احتمال المشقات وما يخالف النفس.
إذاً أسلوب نصر الدين خجا في إيصال الأمثال يستعير من حكماء الأزمان وقيمة الغرابة في الصدم وتنبيه الناس من غفلتهم وتعريفهم بتناقضاتهم ونواحي الضعف في مسلكهم، لكن على الرغم من أهمية نصر الدين في الأدب الشعبي فإنه لا يوجد اتفاق واضح على تصنيفه بإستثناء بعض الصوفية الذين اعتبروه “صاحب سرّ” أي اعترفوا له بالولاية وإن كانوا اتفقوا على أن حياته بقيت محاطة بالأسرار والغموض.
تكريماً لهذه الشخصية المثيرة أعلنت منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (اليونسكو)عام 1996-1997 السنة العالمية لنصر الدين، وكرست دولاً عديدة ذلك العام للتعريف بشخصيته وحكاياته وحكمه وعقدت الندوات الثقافية والأمسيات والاحتفالات الشعبية وأنتجت أفلاماً ووثائق عن ملا نصر الدين. أما بلدة آق شهر التي يقال إنه ولد فيها حسب المصادر التركية فإنها تنظم سنوياً مهرجاناً الملا نصر الدين ما بين 5 و10 تموز/يوليو من كل عام.
وبالنظر الى أهمية هذه الشخصية الشعبية وأثرها الذي امتد مع الوقت ليطاول مختلف البلدان والحضارات تبدأ مجلة “الضحى” مع هذا العدد نشر سلسلة من الحلقات تتناول شخصية هذا الدرويش الساخر وأهش حكاياته مع التعليق على مغزاها، ونبدأ في هذه الحلقة بالتعريف بشخصية ملا نصر الدين نفسه وتقديم بعض الأمثلة على فلسفته في الحياة والتعليم الذي تمكّن من أن يوصله الى مختلف فئات العامة عبر روح الطرفة والغرابة التي اشتهر بها.

“الضحى”

الفلسفةُ الساخرة هي أدبٌ هادف في تراث الشعوب منذ عهود قديمة، وقد استخدم سقراط السخرية الفلسفية لفضح زيف السوفسطائيين، وقد استُحضِرَت السخرية في السياق الفلسفي لإيصال المغزى والعِبرَة الحكميّة بشكلٍ سلس وقابل للفهم. وفي إحدى محاورات أفلاطون، يقول سقراط بعبارة ظريفة ذات مغزى عميق إنَّ أُمَّه “كانت قابلة تستولد النساء وهو غدا يستولد العقول!”. وتظهر الفلسفةُ الساخرة التناقضَ والمفارقة لدى المتشكّكين بأسلوبٍ حكمي يدفع إلى البحث في الذات واستكشاف الحق والخير والجمال، أي إنّها تحفّز يقظة ذاتية من خلال العِبْرَة المستخلصة من الحكمة الساخرة.
في التراث الإسلامي، هناك شخصية ألهبت مخيّلة الشعوب وأصبحت مثالاً للحكمة والفطنة والموعظة والعِبرة الكامنة وراء قصص ونوادر ساخرة، إنّها شخصية ملّا نَصْر الدِّين الذي يختلف عن جُحا العربي، الشخصية المماثلة التي اشتهرت في أدب الطُرفة من التراث العربي منذ القرن التاسع وربّما السابع ميلادي. وعلى الرغم من الخلط بين الشخصيتين. فإننا نرى أنّ ملّا نَصْر الدِّين أكثر تميُّزاً بحكمته وعمق تفكيره وأسلوبه اللاذع في إظهار الحقائق للناس بطريقة “تعليمية” (Pedagogical).

مَنْ هو ملّا نَصْر الدِّين؟
بحسب التقليد التركي هو درويش صوفي عاش ومات خلال القرن الثالث عشر ميلادي في بلدة “آق شهر” بالقرب من مدينة قونية التركية، عاصمة الدولة السلجوقية في بلاد الروم آنذاك، ويدّعي أهل البلدة أنّ قبره موجودٌ فيها. وبينما يتشابه مع جُحا بقصصه الفكاهية وحكاياه الساخرة، فإنّ ملّا نَصْر الدِّين يُعتبر من خلال هذا التراث العالمي فيلسوفاً وحكيماً وصاحب فطنة ومعلِّماً مُرشِداً ولو بأسلوبٍ ساخر، قد يبدو حماقةً للبعض لكنّه في حقيقته أشبه بإلهامٍ روحي وحكمةٍ تنويرية جارية على لسان صوفي عارف إلا أنه يخفي علمه وراء قناع الرجل الأحمق أو الغريب الأطوار.
التراث الفارسي بدوره ينسب ملّا نَصْر الدِّين إلى مدينة خوي في منطقة أذربيجان الغربية. وتقول الرواية الفارسية:تدّعي شعوب الأوزبك في أوزبكستان أنّ ملّا نَصْر الدِّين وُلِدَ وعاش في مدينة بُخارى، وهم في الأمسيات والاجتماعات العائلية يتسامرون بقصصه الحكميّة التي يُطلِقون عليها “لطيفة الأفندي”.
ولا يقف الأمر عند الأتراك والفرس والعرب في ادّعاء انتماء مُلّا نَصْر الدِّين إليهم، فنجده عند الأفغان، ومُسلمي مقاطعة سكيانغ الصينية، وكذلك في ألبانيا، والبوسنة، وبلغاريا، وروسيا، ورومانيا، وفي ثقافة الأوردو، وذلك بتسمياتٍ مختلفة مقرونة بلقب “خُجا”، وخواجة”، و”خودجا”، و”أفندي”، وغيرها، وأحياناً يُختصَر فقط بلقبه “مُلّا”.
ودخلت قصصُه ضمن التراث الشعبي البلغاري الذي ازدهر خلال الفترة العثمانية كرجلٍ قروي حكيم. أمّا في صقلية، التي سادَ فيها الحُكم العربي لقرون، فعُرِفَ بإسم “جيوفا” (Giufà)، وعُرفت هذه القصص أيضاً في رومانيا عبر حِكَم شعرية من تأليف الشاعر واللغوي الكبير أنطون بان العام 1853.

الخلط بين مُلّا نَصْر الدِّين وجُحا
أمّا في الثقافة العربية فقد جرى الخلط بين شخصيتَي مُلّا نَصْر الدِّين وجُحا في القرن التاسع عشر بعد أن تمّت ترجمة مجموعات من نوادر جُحا من العربية إلى التركية والفارسية. ففي التاريخ العربي الإسلامي، تعود شخصية جُحا بدايةً إلى القرن السابع الميلادي حيث يتحدّث التراث العربي عن شخصية فكاهية في العصر الأموي تُدعَى أبو الغصن دُجين الفزاري، وشخصية أخرى في القرن التاسع ميلادي هو أبو نواس البغدادي، نديم الخليفة هارون الرشيد، وقد شاعت نوادره في أرجاء العالم العربي خلال القرن الحادي عشر ميلادي.

تراثٌ عالمي
في ما تتوالى الأجيال، تُضاف قصصٌ جديدة إلى إرث ملّا نَصْر الدِّين، مع بعض التعديل، وأصبحت مواضيع هذه القصص جزءاً من التراث الشعبي لعددٍ من الدول لتعكس الخيال الخصب لمجموعة متنوّعة من الثقافات وكلّها تنطوي على حكمة شعبية تنتصر على كلّ التجارب والمحن. وجدير بالقول إنّ أقدم مخطوطات متبقّية لقصص ملّا نَصْر الدِّين، هي تركية، تعود إلى العام 1571 ميلادي.
واليوم، تتناقل قصصُ ملّا نَصْر الدِّين في أرجاء العالم الإسلامي، وحتى دول أخرى من العالم، بعد أن تمّت ترجمتها إلى العديد من اللغات، وحيث كلّ شعب طوَّر شخصية مماثلة للمُلّا الذي أصبحت قصصه جزءاً من الأرث الشعبي.
حتى في الصين تنتشر جميع قصص ملّا المعروف هناك بتسمية “أفنتي” بحسب لسان شعوب “اليوغور” الإسلامية. وتدّعي شعوب “اليوغور” في منطقة تركستان الشرقية الصينية أنّ الـ “أفنتي” (الأفندي) هو من مقاطعة سكيانغ.
وفي العام 1979، أنتج أستوديو صناعة الأفلام في شنغهاي Shanghai Animation Studio مسلسل رسوم متحرّكة من 13 حلقة تتمحور حول شخصية مُلّا نَصْر الدِّين تحت عنوان “قصة الأفنتي” وأصبح أحد الأفلام الرسومية الأكثر تأثيراً في تاريخ الصين. وكذلك فعل الروس، في الحقبة السوفياتية، حيث أنتجوا العام 1943 فيلماً بعنوان “نَصْر الدِّين بُخارى”، مستنداً إلى رواية للكاتب ليونيد سولوفيوف في العام 1947، كما أنتج فيلمٌ آخر بعنوان “مغامرات نَصْر الدِّين”. أمّا الموسيقار الروسي الشهير شوستاكوفيتش فقد كرّم نَصْرَ الدِّين بمقطع من سمفونيته الـ 13 يصوّر الفكاهة “العميقة” كسلاح ضد الديكتاتورية والطغيان.
ونشر الفيلسوف الصوفي إدريس شاه مجموعات من قصص ملّا نَصْر الدِّين باللغة الإنكليزية، وشدّد على قيمتها التعليمية.
وكان ملّا نَصْر الدِّين الشخصية الرئيسية لمجلة دورية ساخرة تحمل إسمه نُشرِت في أذربيجان وكانت “مقروءة عبر أرجاء العالم الإسلامي من المغرب إلى إيران”. نُشرت بداية في تفليس (ما بين العامين 1906 و 1917)، ومن ثم في تبريز (العام 1921)، وباكو (ما بين 1922 و1931) باللغتين الآذرية والروسية، وكانت تُحارِب عبر هذه الشخصية عدمَ المساواة والتعصُّب الثقافي والديني والفساد.
ومقارنة بنوادر جُحا، تبدو قصص ملّا نَصْر الدِّين الساخرة أكثر حكمةً وإرشاداً وتُفهَماً على مستوياتٍ عديدة، أو كما يُفسِّرها بعض الباحثين: نكتة، يعقبها عِبرة، ومن ثم نفحة تدفع الباحث عن الحقيقة للتأمل في تناقضات النفس وقصور الإنسان.
في ما يلي وعلى سبيل المزيد من التعريف بـ “ملّا نصرالدين” نعرض لباقة من حكاياته وقصصه الساخرة ونُترجمها للقارئ العربي عن اللغة الإنكليزية1 كما صاغها الفيلسوفُ الصوفي إدريس شاه، نقلاً عن اللغتين الفارسية والتركية، وذلك لفائدتها التعليمية، أدبياً وأخلاقياً وفلسفياً:

لا وعْظَ لمَنْ لا يَعْلَم
دُعِيَ ملّا نَصْرُ الدِّين يوماً ليعظَ القوم. وما إنْ صعِدَ إلى المنبر حتى سألَ الحاضرين:
“هل تعلمون ما سأقوله”؟
فأجابوا: “لا”.
فبادر إلى القول: “لا رغبةَ لي في التحدُّث إلى قوم لا يعلم عمّا سأتحدّث عنه!”، وغادر المكان.
وشَعَرَ القومُ بالإحراج واستدعوه مجدداً في اليوم التالي. وهذه المرّة، حينما طرحَ السؤالَ ذاتَه، أجابَ القومُ بـ “نعم”.
عندها قال نَصْرُ الدِّين: “حسناً، بما أنّكم تعلمون مسبقاً عمّا سأقوله فلن أهدرَ مزيداً من وقتكم!”، وانصرف.
وهنا وقعَ القومُ في الحيرة تماماً. وقرّروا المحاولة مرّة أخرى، ودعوا ملّا مجدداً ليعظهم في الأسبوع التالي. وسألهم مرّة أخرى:
“هل تعلمون ما سأقوله؟”
وكان القومُ عندئذ مستعدّاً فأجابَ نصفُهم بـ “نعم”، فيما أجابَ النصفُ الآخر بـ “لا”.
عندها قال ملّا نَصْرُ الدِّين: “دعوا النصفَ الذي يعلم ما سأقوله يُخبِر النصفَ الآخرَ الذي لا يعلم”.
وأخلى المكان.

نصر الدين خجا في تصوير أذربجياني بعد احتلال السوفييت للبلاد وقد تم تصويره كداعية للتقدم في وجه الجمود الديني
نصر الدين خجا في تصوير أذربجياني بعد احتلال السوفييت للبلاد وقد تم تصويره كداعية للتقدم في وجه الجمود الديني

نصرالدين مرشداً صوفياً
كان ملّا نَصْرُ الدِّين يسير في السوق مع مجموعة كبيرة من أتباعه. وكلُّ ما كان نَصْرُ الدِّين يقوم به، يفعلُ الأتباعُ مثلَه على الفور، فما أنْ يخطو نَصْرُ الدِّين بضعَ خطواتٍ حتى يُلوّح بيديه عالياً، ومن ثم يلمس قدمَيه ويقفز في الهواء صائحاً: “هو هو هو!” وكان الأتباعُ يتوقّفون ويقومون بالأمر ذاته.
وتقدّم أحدُ التجّار الذي يعرف ملّا نَصْرَ الدِّين وسأله:
“ماذا تفعل يا صديقي القديم؟ ولماذا يُقلِّدُك هؤلاء القوم على هذا النحو الغريب؟”
أجابه نَصْرُ الدِّين: “لقد أصبحتُ شيخاً صوفياً، وهؤلاء هم المُريدون؛ وأنا أُساعدهم على تحقيق الكشف العرفاني!”.
فسأله التاجر: “كيف تعلم متى يبلغون مرحلة الكشف العرفاني؟”
فقال: “هذا أمرٌ سهل! أُعِدِّهم كلَّ صباح، فأولئك الذين غادروا المجموعة هم الذين بلغوا مرحلة الكشف!”.

بُورِكتَ خجا أفندي
طلب نَصْرُ الدِّين خجا من مُريدِيه أنه بمجرد أن يعطسَ فإن عليهم أن يُصفقوا بأيديهم ويصيحون: “بُورِكتَ خجا أفندي!”.
وصودِفَ يوماً أن وقع دلوٌ في البئر […] فنزلَ نَصْرُ الدِّين إلى قعره، والتقط الدلو، وأخذ الفتيةُ يسحبونه إلى الأعلى، وإذْ به قبل أنْ يصل إلى حافة البئر أنْ عطسَ صدفةً. عندئذ بادر تلاميذه التزاماً بأمر معلِّمهم إلى إفلات الحبل، مصفقين في الهواء، مُهلِّلين صادحين بحناجرهم: “بُورِكتَ خجا أفندي”، فسقط نَصْرُ الدِّين إلى قعر البئر بعنف مرتطماً بجدرانه […]،
وقال: “حسنٌ أيُّها الفتية، هذا ليس ذنبكم، بل ذنبي: الكثير من التعظيم ليس صالحاً للمرء”.

بين المعرفة والجزرة
قال ملّا نَصْرُ الدِّين: “المعرفةُ هي كالجزرة (النابتة في التربة)، قلَّ مَنْ يُدرِك وهو ينظر إلى الجزء الأخضر الظاهر منها، أنّ ما يتوارى منها هو الجزءُ الأفضل فيها. وكشأن الجزرة، إذا لم نعمل لأجل ذلك الجزء (المتواري من المعرفة)، فسيذبل ويذوي. وأخيراً، تماماً كما هو الأمر مع الجزرة، هناك الكثيرُ الكثير من الحمير المقيدين بوهم المعرفة!”.

زوجُ زوجةِ نَصْرِ الدِّين
قالت زوجةُ نَصْرِ الدِّين خجا: إنّهم يُعاملون المرأة في مجتمعنا وكأنَّ لا إسمَ لها، فيُقال دائماً إنّها زوجةُ فُلانٍ ابن فُلان. لقد ذَكَرْتُ ذلك أمام زوجي مرّة – وصدِّقوني، لم يكن ذلك لإلقاء اللوم على أيٍّ كان أو لتوبيخه، فتأثَّر زوجي أيما تأثُّر وانتابهُ الحزنُ وقال لي: “أنتِ على حق، يا زوجتي العزيزة، ومن الآن فصاعداً متى سُئلت عن إسمي، فإنني سأجيب: أنا زوجُ زوجةِ نَصْرِ الدِّين خُجا”.

شمعةٌ في الليل
قال مُلّا نَصْرُ الدِّين: “يمكنني أنْ أرى في الظلام”.
فسأله أحدُهم: “قد يكون الأمرُ كذلك مُلّا. لكن لو كان صحيحاً كما تقول، لماذا تحمل أحياناً شمعةً في الليل؟”.
فأجاب: “كي أمنعَ الآخرين مِنَ الاصطدام بي”.

تهريبُ الحمير!
إعتاد ملّا نَصْرُ الدِّين أنْ يَعْبُرَ فوق حماره الحدودَ كلّ يوم، والسلّتان على جانبَي الحمار مملؤتان بالقش. وفيما كان يبدو كمهرِّبٍ وهو عائدٌ أدراجه إلى البيت مُتعباً كلَّ مساء، دأبَ حُرّاسُ الحدود على تفتيشه مراراً وتكراراً، يُدقّقون في ثيابَه، ويُنقّبون في القش وينقعونه في الماء، ويحرقونه بين الحين والآخر عبثاً […]. وصُودِفَ أنْ التقاه أحدُ آمِري الحرّاس بعد ذلك بسنين.
وسأله: “يمكنك الآن أنْ تُخبرني يا نَصْرُ الدِّين ما الذي كُنتَ تُهرِّبه، وما استطعنا أبداً الإيقاع بكَ؟”.
فأجابه ملّا نَصْرُ الدِّين: “الأمر سهل كنت أهرِّب الحمير!”.

الحمّالُ المحتال
ذات يوم، ابتاعَ نَصْرُ الدِّين خجا الكثيرَ من سوق بلدة “آق شهر” وعثرَ على حمّالٍ لينقل له كلَّ ما اشتراه، وكانت للحمّال سلّةٌ كبيرةٌ على ظهره أثقلها الخجا بكلِّ مشترياته، واتّجها معاً نحو منزل نصر الدين. وكان نَصْرُ الدِّين يسير في المقدّمة ليدل الحمال على بيته والحمال يسير خلفه، لكنّ الحمّالَ المحتال قرّر الفرار بمشتريات الخجا بدلاً من تلقِّي أجره.
وسرعان ما لاحظ الخجا أنّ الحمّالَ المخادع لم يعد يتّبعه، وقد توارى عن الأنظار. وشكا نصرالدين ذلك لصحبه وجيرانه، لكنّ لا أثرَ للحمّال.
وبعد ذلك بعشرة أيام، وفيما كان نصرالدين وصحبُه جُلوساً في مقهى، لمحَ أحدُهم الحمّالَ اللص. وقال وهو يُشير باتّجاه الرجل: “انظرْ نصر الدين أفندي! أليسَ ذلك هو الحمّال الذي أضعته؟”.
لكنّ ملّا نَصْرَ الدِّين بدلَ أنْ يهبَّ نحو الرجل ويتصدّى له، حاول الاختباء. فقال الجميعُ في المقهى ذهولاً: “خجا أفندي، لماذا لا تذهب وتُواجه الرجل؟”.
فقال: “ماذا لو سألني أنْ أدفعَ له أجرَ حمّالٍ لعشرة أيام؟”.

غالبا ما ظهر ملا نصر الدين في الفن الشعبي راكبا حماره بالمقلوب دلالة على أسلوبه الساخر
غالبا ما ظهر ملا نصر الدين في الفن الشعبي راكبا حماره بالمقلوب دلالة على أسلوبه الساخر

الرجلُ على الشجرة
حدثَ ذات يوم أنْ تسلَّقَ رجلٌ شجرة،
وفيما كان يتسلّقها، لم يُدرِك مدى طولها بالفعل، وواصلَ الصعود، وما إن وصلَ إلى أعلاها، نظرَ إلى الأسفل، فأيقنَ أنّ النزولَ عن الشجرة لن يَكون سهلاً كتسلُّقِها، ولم يجد وسيلةً للنزول من دون أنْ يؤذي نفسَه.
سألَ القومَ الذين صُودِف مرورهم في المكان المساعدة. لكنّ أحداً لم يسعه التفكير بطريقةٍ لإنزاله بشكلٍ آمن. وما هي إلا هُنيهة حتى تجمّعَ حشدٌ من الناس حول الشجرة لمساعدة الرجل، لكن أُسْقِطَ في أيديهم. وبقيَ الرجلُ عالقاً أعلى الشجرة.
وصودف مرور ملّا نَصْرِ الدِّين، فرأى ما يحدث وتساءل ما الخطْب؟ أطلعَه الجمع المحتشد في المكان عمّا ورطة الرجل العالق في الشجرة. فقال نَصْرُ الدِّين: “حسناً، سأُنزله سريعاً”. فأخذ حبلاً ورمى طرفَه عالياً نحو الرجل، وأخبره أنْ يربط الحبلَ حول خصره. وتساءل الجميعُ عمّا يُخطِّط له نَصْرُ الدِّين. وعندما استوضحه أحدُهم، أجاب: “دع الأمرَ لي فحسب. إنّها خطةٌ مُحْكَمَة.
وما إنْ ربطَ الرجلُ الحبلَ بإحكامٍ حول خصره، حتى جذبَه نَصْرُ الدِّين بكلِّ قوته. فوقعَ الرجلُ من أعلى الشجرة وتأذَّى بشدّة. وصُدِمَ الحاضرون والتفتوا نحو نَصْرِ الدِّين سائلين: “ما هذا الذي فعلته ؟ أيُّ خطةٍ سخيفة هي تلك؟”.
فأجاب نَصْرُ الدِّين: “حسناً، لقد فعلتُ الأمرَ ذاتَه مرةً وأنقذتُ حياةَ رجل”.
فسأله أحدُهم: “هل ذلك صحيح؟”.
أجاب نَصْرُ الدِّين: “حتماً!”، لكنّه أردفَ قائلاً: “الشيء الوحيد الذي لا يسعني تذكُّره هو هل أنقذت ذلك الرجل من شجرة أو من بئر”.

تمثال يرمز إلى شخصية نصر الدين حجا أقيم في ..موسكو
تمثال يرمز إلى شخصية نصر الدين حجا أقيم في ..موسكو

مَرَقُ مَرَقِ الأرنب
قصدَ بضعةُ أشخاصٍ من قريةٍ مجاورةٍ بلدةَ “آق شهر” في تجارةٍ ما، وعند نهاية النهار، قرعوا بابَ نَصْرِ الدِّين خجا، وهو مِن معارفِهم:
“خجا أفندي، بما أنّنا في بلدتكم، عنَّ لنا أنْ نقومَ بزيارتكم. وهاكُم أرنبَ عربونَ احترامنا لكم”.
رحَّبَ الخجا بضيوفه وسألهم البقاءَ لتناول العشاء. فأعدَّت زوجته الأرنبَ وتناولَ الجميعُ وجبةً شهية. وبعد بضعة أيام، طرقَ البابَ مجدداً آخرون. لم يعلم الخواجة مَن هم، لذا عرّفوا عن أنفسهم قائلين:
“ نَصْرُ الدِّين أفندي، نحن أقاربُ الصَحْب الذين أحضروا لكَ الأرنب”. كانوا يمرّون ببلدة “آق شهر” وخطر لهم زيارتكم.
رحَّبَ نَصْرُ الدِّين خواجة وزوجتُه بهم في بيتهما كُلَّ ترحيب، وأعدَّا حساءً للعشاء.
وأوضحَ الخجا: “إنّه مَرَق الأرنب”.
ومرَّ يومان وإذ بمجموعةٍ أخرى من الغرباء تقف بباب ملّا نصر الدين. قالوا:
“جئنا من قرية القوم الذين أحضروا لكَ الأرنب”.
ولم يكن أمامَ الخجا خيارٌ سوى دعوتهم للدخول. وعندما حانَ موعدُ العشاء، أحضرَ الخواجة قِدراً كبيراً من ماء البئر ووضعُه على المائدة.
فتساءل الضيوفُ بإستياء: “ما هذا يا خجا أفندي؟”
فصاحَ الخجا في وجههم قائلاً: “إنّه مَرَقُ مَرَقِ الأرنب”.

الولدُ الحمار
في يومٍ من الأيام، اشترى نَصْرُ الدِّين خجا من السوق حماراً، وأمسكَ بإحكامٍ حبلَ رَسَن حمارِه الجديد، وعاد مشياً إلى منزله، ساحباً الحمار خلفه. ورأى ولدان شقيّان الخجا وحمارَه، وقرّرا خداعه وعزما على سرقة الحمار ومعرفة ما إن كانا سيفلتان بفعلتهما. وانسلَّ أحدُ الشقيَّين خلف ملا نصر الدين، وحلَّ طوقَ الرَسَن عن عُنقِ الحمار ووضعه حول عنقِه. أمّا الولدُ الآخر، فعادَ بالحمار إلى السوق ليبيعه.
وواصلَ الخجا طريقَه إلى المنزل غافلاً عمّا جرى، ساحباً الولدَ خلفَه بدلَ الحمار. وعندما وصلَ المنزل، التفتَ من الخلف يتفقد حماره فرأى الولدَ مكانَ الحمار. فنهره سائلاً: “مَنْ أنت؟”.
فقال المحتالُ الصغير مخادعاً: “آه يا أفندي، لن تُصدِّق قصّتي. كنتُ ولداً شقياً، وأسأتُ الأدبَ طوال الوقت، وجعلتُ أُمي تعيسة. وعندما لم يعُد بوسعها التحمُّل، دَعَت عليَّ وحوّلتني إلى حمار، وعندما ظننتَ أنّني صالحٌ للشراء، حلّتِ اللعنةُ عنّي، وبفضلك وإحسانك عُدتُ ولداً من جديد”.
فقال له الخواجة: “سأدعك تذهب، لكن لا تُعذِّب أُمَّكَ ثانيةً، كُنْ ولداً صالحاً من الآن فصاعداً!”
وفي اليوم التالي، ذهبَ نَصْرُ الدِّين خجا مجدداً إلى السوق، سعياً إلى شراء حمارٍ جديد. فرأى الحمارَ الذي سرق منه معروضاً للبيع، فاقترب منه الخجا وهمسَ في أذنه: “أنتَ ولدٌ شقي! لقد عصيتَ أُمَّك مجدداً، أليسَ كذلك؟”.

حمايةُ المئذنة
كان نَصْرُ الدِّين خجا يقيم بالقرب من جامعِ قريته. وذات يوم، رآه سُكّان بلدة “آق شهر” يربط حبلاً حول مئذنة الجامع، ويشدّه بإحكام إلى جذع شجرة كبيرة.
وسألوه ذاهلين: “خجا أفندي، ماذا تفعل؟”.
قال: “إنّي أحمي المئذنة، كي لا يسرقها أحدٌ في الليل”.
وأبدى المارّون ارتيابَهم، وسعوا إلى معرفة ما الدافعُ وراءَ ما يقوم به الخجا.
وقالوا: “خجا أفندي، إذا ما أقدَمَ أحدُهم على سرقة المئذنة، فأين عساه يضعها؟”.
أجاب: “ذلك الذي يسرق مئذنة، سيكون متهيِّأً لمثلِ هذا الفعل مسبقاً!”.

طابع بريد هنغاري تكريما لنصر الدين خجا
طابع بريد هنغاري تكريما لنصر الدين خجا

أين القطّة؟
اشترى نَصْرُ الدِّين خجا في أحد الأيام رطلاً من اللحم مِن عندِ جارِه اللّحام، وأحضره إلى المنزل وسألَ زوجتَه أنْ تعدَّ يَخْنَةَ لحمٍ لذيذة للعشاء. وبذلك ضمَنَ الخواجة وجبةَ المساءِ واتّجه هانئاً إلى حقله للعمل.
أعدَّت زوجته يَخْنَةَ اللَّحم، وحدَثَ أنْ جاءها زائراً بعضُ الصَّحْب والأقارب، وعندما لم تجد طعاماً آخر تُقدِّمه للضيوف، وضَعَتْ لهم اليَخْنَة. فأكلوا هنيئاً ومليئاً.
وعاد الخجا بعد يومِ عملٍ طويل، وسألَ زوجتَه إذا كانت يخنة اللحم جاهزة. فأجابت زوجتُه: “ربّاه، ليتكَ تَعْلَم ما جرى لليَخْنَة. لقد التهمتها القطة”.
فتلفّتَ نَصْرُ الدِّين خجا حوله ورأى القطةَ الصغيرة النحيلة في إحدى الزوايا، تبدو جائعةً كشأنه.
أمسكَ نصرالدين خجا بالقطة، ووضعها في كفّة الميزان. فكان وزنُ القطةِ المسكينة رطلاً واحداً تماماً.
فقال لامرأته: “يا امرأة، إذا كانت هذه هي القطّة، فأين اليَخْنَة؟ وإذا كانت هذه هي اليَخْنَة، فأين القطة؟”.

ديكٌ يُفكِّر كالبشر!
فيما كان نَصْرُ الدِّين خجا يتجوّل في السوق ذات يوم، رأى طيراً زاهي الألوان معروضاً للبيع لقاء اثنتي عشرة ذهبية. فدُهِشَ. واقتربَ من الحشد المتحلّق حول الطيرِ وبائعِه.
وسألَ القومَ المُحدِّقين بالطير: “كيف لهذا الطير أنْ يكونَ باهظَ الثمنِ هكذا؟”.
فأجابوه: “إنّه طيرٌ مميّز، بوسعه أنْ يتحدّث كالبشر!”.
وهنا لمعت فكرةٌ في خاطر الخجا. فذهبَ على الفور إلى منزله والتقط ديكاً رومياً وأحضره إلى السوق. ووقفَ بقُرْبِ بائعِ الببغاء. وأخذَ يصيح: “ديكٌ روميٌّ لقاء عشرة دنانير ذهبية!”.
فاحتجَّ الحاضرون وقالوا: “خجا أفندي، كيف لهذا الديك الروميّ أن يكون بعشرة دنانير ذهبية؟”.
فأصرَّ الخجا على موقفه بعناد.
وحاول القومُ أنْ يفهموا السببّ، وقالوا: “خجا أفندي، هذا الطير باهظ الثمن لأنه في إمكانه أن يتكلّم كالبشر”.
بيدَ أنّ الخجا لم يتراجع.
وردَّ بثقةٍ قائلاً: “وهذا الديكُ الروميّ يمكنه أن يُفكِّر كالبشر”.

قصة ملا نصر الدين في خمسة أجزاء يلغة ولاية غوجرات في الهند
قصة ملا نصر الدين في خمسة أجزاء يلغة ولاية غوجرات في الهند

إطعام الملابس
حضر ملّا نصر الدين مأدبة ضمن كبار القوم ووجهاء القوم لكنه عندما اقترب من مدخل القاعة لاحظ الحجّاب أنه في مظهر غير لائق فرجوه بتهذيب أن يعود الى المنزل ويرتدي ثياباً مناسبة لهذا الحدث. امتعض نصر الدين خجا لكنه عاد على مضض وارتدى ثياباً فاخرة ثم عاد إلى المأدبة فسمح له بالدخول ورحّب به الجميع. اتخذ مكانه إلى الطاولة الحافلة بما لذّ وطاب لكنه بدلاً من أن يأكل كغيره أخذ قطعةَ لحمٍ وحشرها بين طيّات قميصه. ودسَّ قطعةً ثانية في زنّارِه، ثم بدأ يغمس طرف كمه في الحساء ويقول له : كل، كل!!
توجهت الأنظارُ بدهشةٍ نحو نَصْرِ الدِّين خجا فيما كان يغمسُ كُمَّي عباءته الطويلين في وعاءِ حساءِ مَرَقِ اللحم الساخن، وانتفضَ أحدُ الضيوفِ المنذهلين وخاطبه قائلاً: “يا أفندي! ما معنى تصرُّفكَ الشائن هذا!”.
فقال نَصْرُ الدِّين خجا: “حسناً، عندما تجدُ نفسَكَ في مكانٍ يُرحَّب فيه بالملابس أكثر من المرءِ الذي يرتديها، فحريٌّ بكَ أنْ تُطْعِمَ الملابسَ أولاً، والمرءَ لاحقاً!”.

باقٍ في الأربعين!
سأل أحدُهم نَصْرَ الدِّين خجا عن عمره فأجاب بالقول: أربعون سنة، لكن السائل علّق على الفور:”لكنني كُنتَ هنا يا نَصْرُ الدِّين قبلَ أربعِ سنوات، وسألتُكَ يومها ما هو عُمرُك، فقلتَ لي إنّه أربعون سنة. هل تجد هذا الأمر منطقياً أو قابلاً للتصديق؟ كيف حدثَ أنّك لا تزال في الأربعين؟”. أجابه نَصْرُ الدِّين: “أنا رجلٌ مستقيمُ القول. فإذا كُنتُ في الأربعين، فسأبقى في الأربعين. وما أنْ أُجيبكَ مرّةً، كأنّي أجبتكَ أبداً! لا يسعكَ أنْ تُضلّلني. أنا في الأربعين، وكلما سألتني فإنك ستحظى دوماً بالإجابة ذاتها”.

سعيد بك جنبلاط

سعيد جنبلاط
سعيد جنبلاط

هذا القول الشريف، والذي ينمّ عن أخلاق متعالية وهمم متفانية في نكران للذات، وفي أحلك الملمات وخصوصاً إذا كانت الشدائد تهدّد مصير الجماعة فلا ضير إذا دفع الفرد حياته ثمناً للعشيرة.
بعد انتهاء أحداث عام 1860 المؤلمة كان زعيم الدروز الأول سعيد بك جنبلاط منشغلاً في جمع محاصيل أملاكه وأثمانها من شركائه وكان السبب خشيته من نتائج الحرب الأهلية واحتمال اتهامه ببعض حوادثها، ولفت يومها أنه أرسل بكميات كبيرة من محاصيله وأمواله إلى بلدات له تقع عند أطراف جنوب جبل الشيخ مثل بلدات مجدل شمس وقراها في الجولان، وذلك كمقدمة لنقلها إلى جبل حوران إذ كان سائداً آنذاك أن الدروز سيتعرضون للإضطهاد من قبل الدول الأوروبية وقد استعد الكثيرون منهم للجوء إلى جبل حوران (جبل الدروز) في ما بعد والبقاء فيه إلى أن تهدأ العاصفة..
لم يكن سعيد بك جنبلاط مرتاحاً إلى الموقف العثماني، وهو الذي خبر حقيقته وما يكنّه العمّال الأتراك من نوايا مسبقة للشر والتفرقة ولتغطية ما ارتكبوه من جنايات قتلٍ وتشريد ومجازر كانوا يلصقونها بالدروز وأعيانهم، وحصلت تحديات واستفزازات كثيرة من عناصر متعصبة بتحريض من بعض الزعماء ورجال الأكليروس كالمطران طوبيا عون وسواه من النافخين في النار، وزدّ على ذلك الدسائس والتحريض من قبل الجواسيس بأثواب مختلفة آتين من الغرب بناء على رغبات دولهم في اقتسام الإمبراطورية التركية المريضة، وتقاسم ممتلكاتها واستعمارها. وليس أسهل من إشعال النار في الهشيم الطائفي، بالإضافة الى ذلك ما قام به الولاة والعمال الأتراك في محاولة التصدي للمؤامرة الغربية بأن زادوا الطين بلّة في إضرام النار والأوار بين الطائفتين المذكورتين في الحوادث الأهلية المشؤومة وما نتج عنها من خراب ودمار وقتل وتشريد ونزوح جماعي للناس عن بعض قراها كما حصل لدروز دير القمر من النكدية وأنصارهم وما حصل في المقابل في حاصبيا التي هجرها قسم كبير من المسيحيين، والعديد العديد من هذه الأمثلة ينطبق على باقي القرى والبلدات.
لهذا، أسرع العمال الأتراك لقطع الطريق على النفوذ الغربي فأتى وزير خارجيتها فؤاد باشا إلى سوريا ولبنان لإصلاح ذات البين بين الفريقين وإعادة المياه إلى مجاريها متعمداً رفع الغبن عن كل مظلوم ومقهور فعمد إلى استدعاء زعماء الدروز أولاً كونهم في نظره المنتصرين والمعتدين وفي طليعة من استدعاهم الزعيم الجنبلاطي سعيد بك جنبلاط. من هنا كان توقع سعيد جنيلاط في محله إذ فور وصول الوزير التركي إلى بيروت عمد إلى استدعاء الزعماء الدروز، والبعض القليل من الزعماء المسيحيين، إكراماً لعيون الغرب.
حاول الشيخ سعيد جنبلاط، عدم الإستجابة الى طلب فؤاد باشا بالذهاب إلى بيروت وقرّر الذهاب إلى جبل الدروز فرافقه نحو ثمانين فارساً من الأقارب والوجهاء والأعيان، وبوصولهم إلى محلة عين ياقوب قرب قرية مرستي استوقف الركب عدد من المشايخ والأعيان وناشدوهم عدم ترك البلاد وقد خاطبوا سعيد بك جنبلاط قائلين “سعيد بك إذا سلّمت نفسك إلى فؤاد باشا ربما هو خطر عليك، لكن إذا تركتنا وغادرت إلى حوران فمن يفاوض اللجنة الدولية للمحاكمة بإسم الطائفة الدرزية، ومن يظهر مركزها ويحافظ على حقوقها، وهل يوجد من هو أجدر منكم لهذه المهام؟”
أثارت مناشدة الناس مشاعر الزعيم الجنبلاطي فراجع أفكاره وأجاب بعد طول آناة :“فيّي ولا في الدروز”، وهكذا وكما توقع سابقاً فقد تمّ استخدامه “كبش محرقة” من قبل العثمانيين لأغراض إرضاء الدول الغربية وامتصاص الحملة التي كانت قائمة ضدها تحملها مسؤولية ما حصل، فبمجرد أن عرض سعيد بك نفسه على الوزير التركي حتى أمر هذا بحجزه في قشلة بيروت والتي تعرف حالياً بالسرايا الكبير ليدفع الثمن غالياً ويموت شهيداً أو مريضاً ويدفن في محلة الأوزاعي في بيروت.

صراع اليوسفين
“المزروك يزحط”

هذه العبارة تردّدها العامة من قبيل الإعتداد بالنفس والإعتزاز بالعشيرة، أما مصدرها فهو الخلاف الذي حدث بين الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان وشيخ العقل في حينه الشيخ يوسف أبوشقرا في حدود عام 1778 تقريباً وإن يكن البعض يلطّفها فيقول
“ المتضايق يرحل” غير أن العديد من الكتّاب تداولوا العبارة السابقة وقد اعتمدناها لاعتقادنا بدقتها وقد أوردها المؤرخ يوسف خطار أبوشقرا في كتاب “الحركات في لبنان”.
قصة تلك الحادثة أنه لما آل عهد الولاية الشهابية إلى الأمير يوسف الشهابي طغى هذا الأخير وبغى وأكثر من الضرائب غير المحقة فعمّت النوائب والمصائب، ومن جملة ما شرّع وسنّ وضع رسمٍ على الشاشية التي كانت عميلا ضرئيبة على اعتمار “العمامة” وذلك انتقاماً من الدروز أولاً لشدة كرهه لهم وقصده أن هذه الضريبة تصيب معظمهم إذ كان على جميع الموحدين لبس العمامة اعتباراً من سن الخامس عشرة وما فوق. وهذا الكره عند الأمير المذكور عائد للدسائس والتآليب التي كان يبثها من يحيط به ومن انتسب إليهم في ما بعد.
إمتعض الدروز وكذلك شيخ عقّالهم الشيخ يوسف أبو شقرا الذي أغاظه هذا الأمر جداً فحضر من بلدته عماطور إلى سرايا دير القمر، مركز الإمارة، لمقابلة الأمير يوسف وثنيه عن تصرفه الشائن هذا، فكان الجدال وكان النقاش ومما قاله الشيخ يوسف: “وليكن بعلمكم يا سعادة الأمير أن هذه العادات من صلب الدين، فلماذا هذا التدخل بشيء لا يعنيكم إلا إذا كان مقصدكم التحدي للمذهب التوحيدي وتقاليده المتبعة”؟؟
الأمير لم يكترث لحديث الشيخ ولم يعر الأمر اهتماماً بل بقي على عناده وإصراره حتى أنه تواقح مهدداً وقائلاً: “إذا لم تعجبكم هذه الضريبة فلربما نفرض سواها، فالواقع يا شيخ يوسف أن البلاد لا تتسع ليوسفين”. الشيخ بعد سماعه هذه العبارة وما تضمنته من تهديد وقف مغتاظاً ومردداً بأعلى صوته “المزروك يزحط”.
الجمهور المجتمع عند الأمير يوسف فاجأته جرأة الشيخ يوسف أبو شقرا واعتبرها البعض صفعة وتهديداً أقوى في مقابل تهديد الأمير، لذلك وعند خروجه مع مرافقيه إلى ساحة الدير أمام السرايا لحق به الكتخدار غندور الخوري (وهو الجد الأول للشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية في ما بعد)، وقال: يا شيخ يوسف أبلغت بكم الجسارة هكذا لتخاطب سيدنا الأمير بالمزروك يزحط، والله والله إذا لم يعمل الأمير على ردعكم فإنني لأحمّي فرن دير القمر من شاشاتكم”..ردّ الشيخ يوسف بصوت جهوري “والله والله لكسر رأسك ورأس سيدك الأمير بهذه العصا أسهل بكثير من تحمية فرن دير القمر بشاشات العمائم..” ثم مضى وبات ليلته في بلدة بعقلين، وقبل أن يأوي إلى فراشه كان قد كتب إلى جميع الإنحاء وصرف الرسل كل إلى ناحيته وفحوى كتابه:” أخواننا أبناء الطاعة، يقتضي حضوركم في النهار الفلاني إلى مرج بعقلين بالأسلحة الكاملة والمؤونة والذخائر الوافرة لأمر يحبه الله تعالى”.
وفي اليوم المضروب طفقت الجماهير تفد من كل حدب وصوب حتى تآلب في المرج نحو سبعة آلاف مقاتل من رجال الدين بأسلحتهم ومؤنهم وأكثرهم لا يدري لما كانت دعوتهم سوى أنه “أمر يحبه الله”. وبعد التداول بالقضية وما حدث بين الأمير والشيخ من تهديد ووعيد رفعت البيارق واستلّت السيوف والخناجر وغدا الجميع مصممين على إشعال الحرب على الأمير وأعوانه حتى خلعه من منصبه واستبداله بمن يناسب.
قرر الشيخ يوسف، حقناً للدماء، إعطاء الأمير فرصة أخيرة للتراجع فأرسل إليه مبعوثاً ينذره بأن الأمور تسير باتجاه المواجهة وأن الدروز اجتمعوا للحرب. توجّس الأمير يوسف من تلك الأنباء فأمر على الفور إرسال إثنين من رجاله ليذهبا إلى مكان تواجد الشيخ والمقاتلين الدروز ويقفا على حقيقة الأمر وما يطلبه الشيخ، غير أن رسول الشيخ وصل قبل وصول رسل الأمير، ثم أخبره بأن الأمير لم يزل على عناده وغطرسته. آنذاك امتطى الشيخ بغلته وسار نحو دير القمر والرجال سارت في إثره وهم يرفعون عقيرتهم بالحداء “ صلوا على المصطفى على المصطفى زيد الصلاة”.
عند سماع الحداء والأهازيج والنخوات ارتعدت فرائص أتباع الأمير وأعوانه فهبوا إليه قائلين: أنظر يا سعادة الأمير ها قد أتى الدروز فماذا تريدنا أن نفعل فنحن لا قبل لنا بمواجهتهم وعليك لذلك أن تحسم أمرك قبل فوات الأوان.

قصة عن بناء مدينة القاهرة

المعروف أن القائد الفاطمي جوهر الصقلي هو باني مدينة القاهرة لكن قليلين يعرفون الأسلوب الذي اتبع في بنائها وكيف ساهمت صدفة غير محسوبة في إطلاق إشارة البدء بأعمال البناء؟
فقد كان المعز لدين الله الفاطمي يعلم عن تردي الحكم الإخشيدي في ظل كافور وتدهور مقومات الدولة بسبب حماقته وجهله فاعتبرها فرصة سانحة لفتح مصر، فأرسل قائده العسكري جوهر الصقلي مع جيش مؤلف من مائة ألف جندي وتمّ لجوهر الفتح المنشود من دون قتال يذكر وذلك يوم 6 تموز عام 969م. وفي مساء ذلك اليوم، عسكرت الجيوش في الأرض الواسعة والتي يُشرف عليها جبل المقطم من الشرق ويحدها من الغرب مجرى ماء متفرع من نهر النيل، ثم أمر القائد جوهر بأن تُقام لمصر عاصمة جديدة تليق بخلفاء الدولة الفاطمية الذين خططوا ليحكموا العالم الإسلامي بأسره باعتبارهم خلفاء الرسول نسباً وحسباً، وأولى الناس بحكم المسلمين.
جمع القائد جوهر الحشود من الجنود والعمال وأمرهم بحفر مخطط المدينة بشكل مربع ثم وضع على كل زاوية قائماً كبيراً من الخشب وأوصل على هذه القوائم بحبالٍ تتدلى منها أجراس، بعدها طلب إلى المنجمين الذين يرافقونه أنهم في حال تم الوقت المبشّر بالخير أن يحركوا الحبال المعلقة بها الأجراس فتقرع ويبدأ عندها العمل من قبل الجميع في حفر الأساسات وبناء المنازل والقصور وكذلك الأسوار.
وبينما الجميع في انتظار إشارة المنجمين إذا بغراب ينفر من وكره ويطير ليحطّ عشوائياً على أحد الحبال الممتدة بين الأعمدة فدقت على الفور نواقيس تلك الأجراس وفي لمح البصر بدأ الجميع الحفر والبناء. المنجمون أخذتهم المفاجأة فهرعوا فوراً قائلين إنّ القاهر قد ظهر ومقصدهم كوكب المريخ الذي يُسميه العرب “ قاهر الفلك”، ومن هنا جاء إسم القاهرة في ما بعد.

قصة أدم خنجر
في زيارة للرئيس برّي

المجاهد أدهم خنجر (إلى اليمين) والمجاهد صادق حمزة الفاعور
المجاهد أدهم خنجر (إلى اليمين) والمجاهد صادق حمزة الفاعور

هكذا بادرنا القول دولة الرئيس نبيه بري عند استقباله لنا في قاعة أدهم خنجر بدارته في المصيلح، وقد كنّا برفقة وفدٍ كبير من مشايخ ثقات مجلّلي الرؤوس بعمائمهم البيضاء.
بعد الترحيب والتأهيل قال: “ هل قرأتم حضرات المشايخ ما كُتب على مدخل هذه القاعة؟“ ثم أجاب قبل أن نجيب“ إنها قاعة أدهم خنجر، وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فنحن مدينون لسلطان باشا الأطرش، صلاح الدين الثاني في تاريخنا المعاصر، كونه فجّر الثورة السورية الكبرى، وكان لنا من تلك الثورة استقلال بلدينا سوريا ولبنان من نير المستعمر الفرنسي.. لكن قبل كل شيء تجلّ به أصالته العربية الفذّة وشهامته العائلية السمحة حيث إن الشرارة الأولى لتلك الثورة المباركة، وذاك القسم العظيم الذي أطلقته والدته على نفسها عند عودته إلى منزله قائلة: “سأقطع الثدي الذي أرضعتك منه إذا لم تُعد نزيلك أدهم خنجر وتخلصه من براثن المستعمر الفرنسي الذي اختطفه من حماك“. ثم إجابته الشهيرة لوالدته بعد أن زغردت بارودته قائلاً: “ لعيونك يا أم سلطان فإما حياة ملؤها الكرامة والعز وإما ممات أشرف وأجلّ من الإهانة والذل“.
هذا ما رواه أمامنا دولة الرئيس بري صيف عام 2002، أمّا ما يرويه سلطان باشا في مذكراته التي نشرتها جريدة “بيروت المساء“ بقلم الصحافي يوسف دبيسي أوائل السبعينات من القرن الماضي فيقول: “بينما كنت أقوم ببعض الإتصالات في قرى الجنوب من جبل الدروز حضر شكيب وهّاب ليلاً بأمرٍ من والدتي إلى بيت صديقي حمد البربور في بلدة أم الرمان ليخبرني أن أدهم خنجر، ذاك البطل العاملي النبيل، قد وصل إلى بلدتنا لاجئاً إلى حِمانا غير أن مخفر الدرك المتواجد عند مدخل البلدة اعتقله.“ ثم يكمل سلطان باشا فيقول: “بعد أن وصلت إلى البيت وما سمعته من والدتي وما يلحقنا من إهانة بعدم تخليص نزيلنا، لهذا انتقلت فوراً إلى مخفر الدرك في البلدة فوجدته خالياً وقد تركه حراسه رهبة وخوفاً، عندها أرسلت شقيقي إلى السويداء ليطلب من الفرنسيين إخلاء سبيل نزيلنا وكان هناك المستشار (ترنكا)، فرفض وأجاب مستهزءاً :“إن أدهم خنجر في القلعة وليأت آخوك بنفسه ويأخذه، وإذا كانت عندكم المحافظة على النزيل واجباً مقدساً فيلفعل سلطان ما باستطاعته، ونحن بدورنا نعتبر أدهم خنجر مخرباً وعابثاً بالأمن“. ومع هذا التسلط والتحدي من قبل المستشار الفرنسي إستلم سلطان كتاباً من أدهم خنجر يستجير به، وقد نقله النائب حمد البعيني يقول فيه: “ دخلت لدياركم العامرة مستجيراً وأنا آمن على نفسي لأني أعرف شهامتكم ونخوتكم ولا أزال دخيل حريمكم وأولادكم وحتى الطرشان بأكملهم لأن حياتي صارت بقبضة العدو الفرنسي وفهمكم كفاية. وأختم رسالتي بتقبيل يدكم وأنني مشهّد على ضيافتكم“.
ومع هذا فضّل سلطان باشا التريث أولاً على التهور وإشعال الحرب، لذا أبرق إلى المسؤولين في بيروت ودمشق وفي مقدمهم الجنرال غورو راجياً ترك نزيله .. ولما لم يوفق بذلك جمع أشقاءه وأقاربه وأنصاره في المقرن القبلي ثم اتخذ من منزل نجم عزالدين في بلدة الثعلة مقراً لمراقبة طريق دمشق – السويداء ليقينه أنّ نزيله سينقل عبر هذه الطريق.
وفي صباح يوم 21 تموز 1922 شاهد سلطان باشا ورفاقه القافلة التي تنقل نزيلهم وهي مؤلفة من ثلاث مصفحات، فهبّوا لمهاجمتها عند تل الحديد حيث إن سلطان بنفسه قفز عن ظهر جواده إلى سطح المصفحة الوسطى ظناً منه أن أدهم خنجر في داخلها، فقتل قائدها ومعاونه قبل أن يتمكنا من الحراك إلا أن الجندي الثالث أمسك بخناق سلطان لكنه انقض عليه بالسيف الذي لم يزل مغمساً بدماء رفاقه فتلاشى وسقط فوق رفيقيه، ثم تركهم لينتقل إلى المصفحة الثالثة وإذا بشقيقيه ورفاقهما قد قضوا أيضاً على كل من في داخلها وأسروا الباقين، وكانت الحصيلة أربعة قتلى بينهم ضابط واربعة أسرى أحياء وجرح بليغ أصاب شقيقه مصطفى دفع حياته ثمناً له في ما بعد. أمّا المصفحة التي كان بداخلها الأسير فقد فرّت عائدة نحو السويداء.
هذا أيضاً ما رواه عن تلك الواقعة أحد أبطالها ورفيق سلطان حمد البربور شهيد موقعة المسيفرة في ما بعد.
لكن الأقدار ستتم والشهادة سينعم بها أدهم خنجر ليدخل التاريخ اللبناني من بابه الواسع. ومهما تكن الرجولة والشجاعة، حتى اعتبر العديد من المؤرخين أن إقدام سلطان بنفسه على اقتحام المصفحة في تلك المعركة تهوّر ما بعده تهور ولربما هذه الرجولة نادرة في تاريخ قادة الحروب والثورات.
غير إنه بعد أن أصبحت الطرق غير آمنة اضطر العدو الفرنسي إلى نقل سجينهم بالطائرة إلى بيروت ليُعدم في عاصمة بلده من دون أن يحرك أحد ساكناً.
لكن سلطان لم يكتفِ بذلك بل هاجم مع جماعته جميع المخافر والمراكز العسكرية التي تحيط بمنطقته وكانت بذلك بداية الشرارة الأولى لأجلّ وأشرف ثورة عربية في مطلع القرن العشرين، وبعد أن تيقّن له أنه قد تمّ نقل ضيفه المغدور بالطائرة إلى بيروت وقف وقال:“لا حيلة لنا في السماء وأمّا على الأرض فنحن مستعدون لبذل أرواحنا في سبيل كرامتنا وعزتنا“. وليس بالكثير الكثير إذا تفضل دولة الرئيس بري وقال إن استقلال بلدينا سوريا ولبنان والتنعم بهذا الإستقلال كان الفضل الأول فيه لسلطان باشا الأطرش وثورته المجيدة، وهذا ما ألهم الشاعر القروي رشيد سليم الخوري بقصيدته العصماء هذه:
ولما صـــــــــــــــرت مــــــن مُهـــــج الأعــــــادي بحــيث تذيقها السّـم النقيــــعــــــــــا
وَثبْــــــتَ عــــلى ســــنام التنــــــك وثبـــــــــــــــــــاً عجيبــاً علّم النسـر الوقوعـــــــــــــا
أغـــــــــــــــرت عليــــــــــه تلقـــــــــــــــي النـــــار بــرداً ويرميـهــــا الذي يرمي هلوعـــــــــــــــــاً
فطاشـت عنـــك جازعــــة ولــو لــــــــم تهمهـــم لهـــا لحـاولـت الرجوعـــــا
فخرّ الجنـــد فـــوق التنـــــــك صرعى وخــــرّ التنـــك تحتـــهــــــم صريعـــــــــــــــاً
فيـــــــــــــــا لك غـــــــــــــــــــارة لو لـــــــــــــــــم تذعــــــــهـــــــــــــــا أعـــادينـــــــــــــــا لكـــــــــــذّبنــــــــــــــــــا المذيعـــــــــــــــــــا
ويـــــــــــــــــالــــــــــــــك أطرشـــــــــــــــــاً لمــــــــــــــــّـا دُعينـــــــــــــــــــــــــا لثـــأر كــنت أســـمعنا جميعـــــــــــــــاً

كوكبا

كوكبا

حديقة آثار وزراعة
ونجاح تعليمي باهر

أهل كوكبا لصيقون بالأرض لا يحبون الهجرة لكن حبذا لو جاءتها الإنترنت وتوفّرت المياه

بالعمل والتنظيم تحوّلت مدرسة مهدّدة بالإقفال
إلى حاضرة تعليمية لطلاب وأهالي المنطقة

كوكبا قرية صغيرة وادعة في منطقة راشيا تجلس قبالة جبل حرمون، وهناك غير قرية تحمل الإسم نفسه، لكنها تابعة لقضاء حاصبيا في محافظة الجنوب. يمتد تراب هذه القرية الوادعة تلالاً خضراء حتى الأفق، لكن رغم البساطة الظاهرة فإن القرية تنام فوق تاريخ سحيق من الحضارات السابقة التي تركت بصماتها واضحة في أكثر من مكان كما إنها -عندما تقاس الإنجازات بمدى الاهتمام بالإنسان- تبرز في الطليعة بسبب نجاحها التعليمي وتحولها إلى حاضرة تربوية لقرى المنطقة.

عود تسمية القرية كوكبا الى الآرامية – السريانية ومعناه الحرفي
« الكوكب » والذي يرتبط بكوكب الزهرة الذي كان له شأن في العبادة عند الفينيقيين. وتقع القرية في قضاء راشيا وتتبع إدارياً لمحافظة البقاع وهي تبعد عن العاصمة بيروت 92 كلم وعن مركز القضاء 5 كلم وترتفع عن سطح البحر 1100م وتتصل بقرى مجاورة هي ضهر الأحمر شرقاً ومجدل بلهيص غرباً والمحيدثة شمالاً وكفرمشكي جنوباً، ويمكن الوصول إليها من بيروت عبر طريق شتورا – ضهر الأحمر أو طريق شتورا – مشغرة – سحمر وهناك طريق يتجه من بيروت إلى صيدا ثم مرجعيون في الجنوب ثم حاصبيا فكوكبا.

أهميتها التاريخية
تعتبر قرية كوكبا من القرى الموغلة في القدم وهو ما تدل عليه الآثار الموجودة في محيط القرية ولاسيما القلعة القديمة المحفورة في الصخر ويوجد في داخلها العديد من النواويس الحجرية المنحوتة بإتقان كما توجد مدافن قديمة ايضاً، وهذه الآثار تعود حسب الخبراء الى الحقبة الرومانية، كما توجد بالقرب من القرية معصرة مع جرن كان يتم استخدامهما لعصر العنب وتحويله الى دبس، أضف الى ذلك الكهوف التي تحتوي بدورها على آثار يرجح أنها تعود الى زمن «عنا ايل” اي الى العصور الآرامية التي سبقت التاريخ الميلادي.
ونظراً إلى هذه الآثار الغنية فقد أصدر وزير الثقافة في العام 2012 قراراً بتحويل المنطقة التي تضم الآثار الى المجلس الأعلى للتنظيم المدني والذي يقضي بدراسة كافة الطلبات المقدمة من أجل الحصول على رخص بناء أو ترميم أو استصلاح أراض الى المجلس الأعلى للتنظيم المدني لإبداء الرأي في أي تأثير محتمل للنشاط العمراني على طبيعة المنطقة وسلامة الطابع الأثري. ومن المعالم البارزة في كوكبا مزار بني في فترة متأخرة لسيدنا الشيخ الفاضل رحمه الله مع العلم أن ضريحه ومدفنه يقعان في قرية عين عطا.

الوضع السكاني
يبلغ عدد سكان القرية المسجلين 950 نسمة تقريباً على الرغم من غياب الإحصاء الدقيق منذ زمن بعيد وخلافاً للعديد من قرى الجنوب اللبناني التي تعاني من الهجرة فإن نسبة المقيمين في كوكبا مرتفعة نسبياً مقارنة بالقرى والبلدات المجاورة، إذ إن 50% من أبناء القرية المسجلين يقيمون فيها والذين يغادرونها الى بيروت مثل الطلاب فإنما يفعلون ذلك بهدف متابعة تحصيلهم العلمي بينما انتقل قسم من السكان إلى خارج القرية لأسباب اقتصادية، لكن حركة الاغتراب في كوكبا محدودة وهي تتركز حالياً على دول الخليج.
عائلات البلدة: أبو غوش ، مغامس ، كرامة ، علامة ، زين الدين، الغزال ، كيوان .

الثروة المائية
تعتبر مصادر المياه في القرية ضئيلة مقارنة مع كمية المياه المطلوبة للقيام بأعباء الزراعة، حيث تستفيد القرية في مياه الشفة من بئر ارتوازي تمّ حفره في محاذاة القرية، وقد تمّ جرّ المياه الى خزان القرية وتوزيعها على المنازل من خلال شبكة داخلية عملت البلدية على تأهيلها في الأشهر الماضية بحيث تغطّي كافة المنازل وبحيث يتم تفادي هدر المياه الناتج عن تآكل الشبكة وتقادمها، كما يعمد أبناء القرية الى إنشاء خزانات من الإسمنت لتجميع مياه الأمطار خلال فصل الشتاء ليتم الإستفادة منها خلال موسم الشحائح في فصل الصيف .
وتوجد في جوار القرية بركة اصطناعية تستخدم لتجميع مياه الأمطار والمتساقطات خلال فصل الشتاء ليتم الإستفادة منها في تأمين المياه لري بعض المزروعات خلال فصل الصيف حيث يتم نقل المياه من البركة بواسطة الصهاريج ، لكن مياه هذه البركة غالباً ما تنضب قبل انتهاء فصل الصيف ولا يتم الإستفادة منها عن طريق المداورة أو بطريقة الحصص بين المزارعين .

الزراعة والثروة الحيوانية
تعتبر كوكبا قرية زراعية وهذا على الرغم من أن العاملين في القطاع الزراعي لا يشكلون سوى نسبة ضئيلة من مجموع سكان القرية المقيمين والذين هم في سن العمل ، لكن حتى الذين لا يمارسون النشاط الزراعي كنشاط مستقل فإنهم يعولون عليه لتأمين حاجات الأسرة من محاصيل مثل الحمص والقمح والعدس أو من الفواكه والخضار.
وبسبب شح الموارد المائية الطبيعية فإن الزراعة في كوكبا زراعة بعلية بالدرجة الأولى أما أهم المزروعات التي تعتمد على موسم الأمطار فهي زراعة الكرمة والزيتون، وقد نشطت زراعة الزيتون بصورة خاصة في العقود الأخيرة إضافة الى زراعة الأشجار المثمرة مثل اللوزيات والتفاح. والجدير بالذكر أن زراعة الكرمة يتم الإستفادة منها في تصنيع دبس العنب الذي يتمتع بجودة عالية نظراً إلى اهتمام المزارعين بهذه الزراعة منذ القدم .
كما يتم الإستفادة من السهول المجاورة للقرية في بعض الزراعات الموسمية ولاسيما زراعة الخضار والفاكهة، ويتم ريّ هذه المزروعات خلال فصل الصيف من بركة القرية لكن هذا المورد ينضب عادة قبل انتهاء الموسم وقد يتسبب بضياع ما تبقى بسبب عدم وجود المياه أو تكلفة شرائها.
كما يتم الإستفادة من سهول القرية في زراعات مطرية مثل القمح والحمص والعدس والشعير وهذه الزراعة بعلية ولا تستخدم فيها الأسمدة الكيماوية أو أي مواد مصنعة لزيادة الإنتاج فهي لذلك زراعات طبيعية .
تسويق متجوِّل!
يتم تسويق المنتوجات والمحاصيل الزراعية داخل القرية وفي الأسواق المجاورة وفي بعض قرى وبلدات راشيا عبر وضع محاصيلهم داخل مركباتهم والمناداة عليها في القرى المحيطة. ورغم أن ظاهرة «التاجر المتجول” لم تعد معروفة في القرى، إلا أن أهل كوكبا ما زالوا يرون فائدة في اتباعها ويعتبرونها وسيلة فعّالة لتسويق المحصول وكسب العيش.

السهل
السهل

تربية المواشي
على الرغم من ظاهرة «التمدين» التي أصابت العديد من قرى وبلدات راشيا واخذت تطمس بعض مظاهر الحياة القروية ولاسيما تربية الماشية، إلا ان هذه الحرفة ما زالت نشطة وأساسية في قرية كوكبا وهناك نسبة كبيرة من الناس ما زالت تعتمد على تربية الماشية ولاسيما الأبقار لكن الوضع تغير كثيراً عن الماضي كما يقول إبن البلدة السبعيني الشيخ سامي مغامس الذي يذكر أن ما يقارب ثلاثة ارباع القرية كان قبل عقود قليلة يهتم بتربية الماشية وأن المواشي والماعز كانت تسرح في مراعي القرية وفي الجبال المحيطة بها طوال فصلي الربيع والصيف ومطلع فصل الخريف عندما كان أصحاب الماشية ينقلون ماشيتهم هرباً من برودة الطقس والثلوج الى «بلاد بشارة» في الجنوب اللبناني .
وحسب الشيخ مغامس، فإن أعداد الماشية تراجعت اليوم مع إنخراط ابناء القرية في المؤسسات الحكومية والوظائف الرسمية ومعارضة الناس لوجود المواشي في جوارهم مما يعرّض المربي إلى المضايقة الدائمة فيقرر عندها التوقف عن هذا النشاط المهم لأسرته – وللقرية أيضاً لأنه يوفر منتجات الحليب الطبيعية والطازجة لأسرها.

محمية الخلف الطبيعية
قامت لجنة البيئة في متوسطة كوكبا الرسمية بالتعاون مع المجلس البلدي وتمثلت في انشاء محمية طبيعية بمساحة 9,000 متر وقد تمّ وضع سياج من الأسلاك لحماية المكان من تعدي الرعاة والصيادين وتمّ غرس 2000 شجرة مثمرة من لوز وجوز وصنوبر وغرس 1000 شجرة حرجية من سنديان وملول وأرز وشربين وكينا وتمّ زرع 500 شتلة صعتر (زعتر).
وتحتوي هذه المحمية على أنواع مختلفة من الأزهار والأعشاب البرية والغذائية والأعشاب ذات الاستخدام الطبي.

مغاور-من-العصر-الروماني
مغاور-من-العصر-الروماني

نجاح تربوي
يعتبر تطوير التعليم في كوكبا وتحولها إلى مركز للخدمات التعليمية في نطاقها الجغرافي نجاحاً لافتاً يغاير الاتجاه العام الذي شهد إقفال مدارس في المنطقة أو استمرار معاناة الكثير منها من جراء ضعف الموارد وعدم كفاءة التعليم.
مؤشرالنجاح التربوي الأهم الذي حققته كوكبا هو أنها وبعد أن كانت متوسطة البلدة مهدّدة بالإقفال وبعد أن كان عدد الطلاب تراجع إلى 36 طالباً فإنها حققت تحولاً بفضل جهود الهيئة التعليمية وتمكنت من وقف التراجع والبدء بإجراء تطوير حقيقي في أسلوب التعليم وإدارة المؤسسة ما جعل عدد الطلاب يقفز في سنوات إلى 400 طالب من القرية ومن القرى المجاورة كما ارتفع عدد أفراد الأسرة التعليمية إلى 50 مدرساً بين أساتذة متعاقدين وأساتذة مثبتين في ملاك وزارة التربية.
كيف تمكنت مدرسة كانت مهدّدة بالإقفال بسبب تراجع عدد التلامذة المسجلين فيها أن تحدث هذا التحول الباهر وتصبح محط أنظار التلامذة وأهاليهم في القرية وفي القرى المحيطة؟ السبب الأهم هو تمكن الهيئة التعليمية ومديرها من إجراء تحول كبير في أساليب التعليم وفي إدارة النشاطات والعلاقات مع الطلاب ومع الأهالي بحيث تمكنت من رفع مستوى الأداء الطالبي كثيراً وقد انعكس ذلك سنة بعد سنة بمعدلات النجاح الاستثنائية لتلامذة المدرسة في الامتحانات الرسمية الأمر الذي عزّز شهرة المدرسة وزاد ثقة الطلاب والأهالي بها وبإدارتها. وبالنظر إلى اهتمام الأهالي الكبير بمستقبل أولادهم وكذلك حرص الطلاب على تلقي التعليم الذي يمكّنهم من متابعة تحصيلهم وتأمين مستقبلهم فقد أصبح هناك إقبال على المدرسة يفوق قدرتها الاستيعابية كما يقول مدير متوسطة كوكبا الرسمية الأستاذ سميح أبو غوش الذي يضيف أن المدرسة وحتى هذا التاريخ لم تنته من استقبال الطلاب، رغم أن جميع الصفوف في كافة المراحل باتت مكتملة مما يضطرنا في بعض الحالات الى استحداث شعب إضافية إفساحاً في المجال امام جميع الطلاب الراغبين في متابعة تحصيلهم العلمي. ويردّ الأستاذ أبو غوش نجاح تجربة متوسطة كوكبا إلى الجهود التي بذلت في تطوير مهارات أفراد الهيئة التعليمية بشكل مستمر من خلال متابعة الدورات التي تعدّها وزارة التربية والتي تهدف الى رفع قدرة المدرس على مواكبة التقنيات الحديثة والفعالة في حقل التربية. ويضيف أبو غوش: عملنا بشكل خاص على تحفيز الطلاب من خلال إقامة توازن بين النشاط التربوي والنشاطات المواكبة له إضافة الى النشاط اللاصفي الذي يترك للطالب مساحة للإبداع والتعبير عن ذاته ولاسيما الأعمال المتعلقة بالبيئة من خلال لجنة البيئة داخل المدرسة .
وقد دفع نجاح تجربة متوسطة كوكبا ووفرة عدد الطلاب الذين باتوا ينهون المرحلة المتوسطة إلى إستحداث ثانوية رسمية في القرية بحيث يتمكن الخريجون من متابعة التعليم الثانوي مع تخفيف اعباء انتقالهم الى بلدة سحمر أو الى بلدة راشيا لمتابعة تحصيلهم العلمي، كما ساهم إنشاء الثانوية في خلق فرص عمل لحملة الإجازات الجامعية الأمر الذي ينعكس بنتائج مميزة للثانوية في الامتحانات الرسمية. تبقى مشكلة التعليم الجامعي وبعد أكثر الجامعات عن القرية بما في ذلك الجامعة اللبنانية في زحلة، وقد تمّ استحداث فرع لكلية الاقتصاد في راشيا لكن محدودية الاختصاصات لم تفك المعضلة بعد.

كوكبا والإنترنت
رغم وصول شبكة الهاتف الثابت (أوجيرو) إلى القرية منذ العام 2000 فإن كوكبا ما زالت من دون شبكة الإنترنت وهذا أمر مستغرب بالطبع لأن الإنترنت بات حاجة أساسية في التعليم وفي الكثير من النشاطات الاقتصادية والثقافة الشخصية، لذلك فإن الخدمة تقدم من خارج القرية من خلال اشخاص يعمدون الى ايصالها بكلفة مرتفعة نسبياً.

المدرسة الرسمية
المدرسة الرسمية
مدير متوسطة كوكبا الرسمية الأستاذ سميح أبو غوش
مدير متوسطة كوكبا الرسمية الأستاذ سميح أبو غوش

محطة بارزة
إحدى الحوادث التي ما زالت ماثلة في ذاكرة أبناء القرية حملة التنكيل التي شنّها الجيش الفرنسي على القرية عام 1925 وذلك في ردّ فعل على نشاط بعض مجاهدي الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش. فقد تعقبت القوات الفرنسية المجاهدين من ابناء القرية للإقتصاص منهم بسبب مساندتهم الثوار فعاثوا في القرية تنكيلاً وفساداً وحرقوا المنازل وشردوا السكان مما دفعهم إلى مغادرة القرية، فمنهم من غادر الى سوريا وما زالوا يرتبطون بالقرية الأم ومنهم من غادر الى فلسطين وما زالوا مدرجين على قيود القرية والأوفر حظاً منهم من انتقل مؤقتاً الى القرى المجاورة لإتقاء الاضطهاد لكنه عاد الى منزله بعد خروج المحتل.

النشاط البلدي
على صعيد الإدارة المحلية، قامت البلدية بتأهيل شبكة المياه في القرية مع العمل على إيجاد مصادر جديدة من مياه الشفة التي يتم توفيرها حالياً من بئر إرتوازية تمّ حفرها في العام 2013، كما قامت البلدية بزيادة غطاء الثروة الحرجية في القرية من خلال القيام بعمليات تشجير وغرس ما يزيد على 5000 شجرة صنوبر .
ويوضح رئيس البلدية السيد وليد مغامس أن اهتمام البلدية يتركز الآن على تشييد مبنى لثانوية كوكبا ليصبح قادراً على استيعاب ما يزيد على 300 طالب في بيئة تعليمية وتقنية تواكب متطلبات التربية الحديثة. وأضاف مغامس أن البلدية تعمل على توفير الموارد اللازمة لتأهيل الطرقات وإقامة جدران دعم لرفع هامش الأمان على الطرقات الداخلية وأنها مهتمة بإقامة ملعب لكرة القدم من أجل توفير متنفس لأبناء القرية “نأمل إنجازه قريباً”.

كلمة سواء

زمــــن الفَـــــــرُّوج

يجد القارئ في باب “الإرشاد الزراعي” في هذا العدد من “الضحى” موضوعاً مفيداً عن تربية الدجاج البيتي. لاحظوا الوصف. فنحن لا نتحدث عن تشغيل المداجن وملحقاتها بل عن “الدجاج البيتي” لماذا؟ لأن هذا الجانب الأساسي من حياة القرية واقتصاد الأسرة يتجه إلى الزوال مع ما نراه يزول يوماً بعد يوم من مقومات الحياة السليمة لتحل محله حياة فقيرة خطرة شاحبة تحولنا فيها من أناس ذوي تراث وثقافة وتاريخ وأسلوب حياة إلى مستهلكين أو الأصح “متسوقين”. سيطرة “الفَرُّوج” النمطي وزوال “الدجاجة” الزاهية الألوان وصيصانها من الدور والحدائق الخلفية للبيوت عنوانان عريضان لموت مجتمع ولسير سريع الخطى نحو المجهول.
لذلك، فإن لنشر موضوع كامل عن تربية الدجاج البيتي وفوائده رمزية يجب أن لا تخفى على القارئ الحصيف، لأنه شكل من أشكال النصح أو التذكير الطويل النفس هدفه ليس بالضرورة العودة إلى الماضي (فهذا الأمر بات بعيد المنال) ولكن توفير المعلومات المفيدة لمن يشاء أن يتّبع سبيل العيش الصحي لنفسه ولأسرته لكنه لا يعرف ربما من أين يبدأ لأن الكثير من ثقافة العيش الطبيعي وخبراته اضمحلت بسبب عدم استخدامها وعدم تناقلها من الأولين إلى الأجيال الجديدة. ونحن لا نريد أن نلعن الظلام بل أن نضيء شمعة وأن نحيي الأمل بإعادة إنتاج ثقافة العيش الطبيعي والصحة الجسدية والنفسية لنا ولأطفالنا. هذا هو الهدف من إفراد المجلة منذ اليوم الأول لإعادة إصدارها بصيغتها الجديدة حيزاً مهماً لباب الزراعة وكذلك الصحة والغذاء.
كثيرون منا ممن تجاوزوا سناً معينة يذكر ولا شك كيف كان الناس يفيقون على أعمالهم باكراً (لم يكونوا اخترعوا التلفزيون!)على صياح الديوك في الحي أو في مزرب البيت، وكان ديك البيت يصيح فتردّ عليه ديوك كثيرة في البلدة ليشكل الكل سمفونية من صياحات متنوعة في موسيقاها وأسلوبها كأنما لكل ديك شخصية وميزة يتفاخر بها على الباقين. كانت تلك أيام البركة عندما كانت الدجاجة من المقتنيات المحببة والعزيزة على أهل البيت يعرفونها حق معرفة ويطعمونها ويبيتونها في المساء. الذين رافقوا تلك الفترة من الزمن لم يروا في حياتهم ربما “فروجاً” منتوفاً في دكان أو سوبرماركت فهذه المناظر جدَّت بعد ذلك في الخمسينات والستينات عندما كبرت المدن ولم تعد هناك وسيلة لتموين سكانها بالدجاج إلا بتوسيع الإنتاج واتباع الوسائل الحديثة ومنها المزارع الكبيرة والمسالخ والأعلاف المصنّعة بهدف الإنضاج السريع للدجاج الأمر الذي يخفض تكلفته على المربي (حيث العلف يمثل التكلفة الأهم) ويجعل ممكناً بيع الفروج بأسعار تكون مناسبة حتى لأصحاب الدخل المحدود.
منذ ذلك الزمان حصل إنقلاب كبير إذ تحوّل الجميع تقريباً – بمن في ذلك سكان القرى من الذين كان أهلهم يربُّون الدجاج البلدي- عن تربية الدجاج في المنزل إلى “تسوُّق” الفَرُّوج في السوبرماركت وكذلك البيض، وأصبح “فروج” المزارع الطري العديم الطعم والمحشو بهرمونات النمو والمضادات الحيوية والرخيص الثمن “زينة الموائد”. يذكر أهلنا أن طهي دجاجة بلدية في الحي كان يتحول إلى خبر في البلدة لأن رائحتها الزكية كانت تنتشر بين المنازل، أما الآن فلا رائحة ولا طعماً ولكن جري وراء السهولة فالجميع في عجلة من أمرهم، ولا يعرف أحد السبب.
لكن لكل عمل نقوم به نتائج، وفي ميزان العقل كل ما يخالف الطبيعة وشرعتها الأزلية لا بدّ أن يرتدّ على الناس عاجلاً أم آجلاً بأوخم العواقب، وها هو حصاد ما نزرعه يرتسم أمام أعيننا في هذه الحالة المخيفة من الأمراض والسقم والكآبة والذبول البطيء؛ الناظر إلينا من بعيد يدهش لمنظر الخلق الشارد في كل اتجاه غير مستقر على حال، ولهذا التفكك في الروابط الإنسانية وهذا العنف واستمراء الحرام والغش حتى بين أهل البيت الواحد. من أين أتى كل هذا؟ من ترك الأرض التي هي جزء من العبادة وتوازن الجسد والروح، ومن إهمال إرث السلف الصالح وسيرتهم وكنوز الحكمة التي ورثناها منهم وهذه الكنوز يلقي بها منكرو هذه الأيام وجهَّاله خلفهم ويستصغرونها مثلما فعل المنكرون للحق قبلهم في كل زمان وأوان إذ قالوا عنه وعن آياته “أساطير الأولين”. إنه زمن “الفَرُّوج ..إفرحوا أيها الآكلون!!

الحلقة المفقودة في أزمة النفايات

في شوارع بعض قرى الجبل إرتفعت يافطات تحثّ المواطنين على المساهمة في حل مشكلة النفايات وعلى الأخص القيام بفرز نفايات المنازل ومن تلك اليافطات ”فرز النفايات دليل حضارة” أو “فرز النفايات دليل رقيّ” وغير ذلك. لكن عدا تعليق اليافطات لم نشهد حراكاً حقيقياً على صعيد مجتمع الجبل لجعل المواطن شريكاً فاعلاً في حل هذه المعضلة التي تبدأ في بيته وفي الأسلوب الذي يتعامل به مع نفاياته هو، ولا توجد نفايات في الشوارع إلا من نتاج الناس والأسلوب الذي اعتادوا أن يطبقوه في التخلص منها.
طبعاً وكما اتضح فإن الحل المقتصر على الجمع والنقل والطمر بلغ نهاية صلاحيته ولم يعد الاستمرار به سهلاً، لأن الناس خصوصاً تلك التي تعيش بالقرب من المطامر لم يعد في إمكانها أن تحتمل أكثر فنزلت إلى الشارع واعترضت وحصلت اجتماعات ولقاءات وقدمت خططاً أبرزها خطة الوزير أكرم شهيِّب التي تقترح تبسيط المشكلة عبر اهتمام كل منطقة بنفاياتها مع تركيز على تشغيل معامل الفرز والبحث في الوقت نفسه عن أماكن مناسبة لإيجاد “مطامر صحيّة” تكون بديلاً عن تلك المشكو منها.
لكن رغم كل ما أذيع، ليس واضحاً إذا كانت النزاعات السياسية وحالة الشلل التي تغرق فيها البلد ستمكّن أصحاب المبادرات من جمع الأصوات المتنافرة حول موقف واحد يضع خاتمة للأزمة. هذا من جهة، من جهة ثانية فإن تعطّل الدولة، يعني أن كل ما يبحث من حلول لا يتعدى كونه من نوع “عالج الحاضر بالحاضر” دون وجود رؤية بعيدة الأمد تتضمن مثلاً تعميم عملية فرز النفايات في المصدر أي في المنازل والمؤسسات، كما هي الحال في دول العالم المتحضرة. وهذه النقطة مهمة ونعتبرها من أهم مسؤوليات المجالس البلدية، ولا يوجد بين مسؤوليات المجلس البلدي ما يفوق مسؤوليته في تأمين نظافة البلدة وصحة المواطن. لكننا الى حد الآن لم نلاحظ أي حراك حقيقي على مستوى البلديات يستهدف طرح مبادرات إيجابية في عملية إدارة معضلة النفايات. فعدا تعليق بعض اليافطات لم نعلم أن رئيس بلدية أو مجلساً بلدياً نظم اجتماعاً واحداً لأهل البلدة بهدف التباحث في نظافتها وتدريب المواطنين على عمليات فرز النفايات في المصدر. ونحن نعتقد أنه من المفروض رفع موضوع فرز النفايات إلى مستوى التكليف البلدي مثله مثل رسوم المسقّفات أو الرسوم على المياه أو إضاءة الشوارع أو غيرها من الخدمات. وإذا كان المواطن بسبب نقص الوعي يتوقع من جهات بعيدة أن تنقل نفاياته على علّاتها، فإنه لا يجوز للهيئات المحلية أن يكون لها نفس الموقف التواكلي وأن تعتبر الموضوع موضوع مطمر صحي أو معالجة أو حرق أو أي أمر آخر.
وفي حال إلزام المواطن بالتخلص من النفايات العضوية بطريقة التخمير Composting في أرضه وبالتالي عدم قبول استلام نفايات عضوية من البيوت الواقعة في البلدات الجبلية، فإن أكثر من 70 % من مشكلة النفايات في قرى الجبل تكون قد حُلَّت هذا باستثناء بعض أحياء المدن الجبلية التي يعيش سكانها في الشقق ولا تتوافر بالتالي لهم أرض زراعية قريبة. وفي حال إلزام المواطنين بتخمير نفاياتهم المنزلية فإن ما قد يرد إلى مراكز تجميع النفايات (وفرزها) من مواد غير عضوية مثل الكرتون والزجاج والمعادن والبلاستيك لا تثير مشكلة بل سنجد جهات كثيرة راغبة في شراء النفايات غير العضوية ومحاولة تدويرها.
المجالس البلدية هي أهم أدوات الحكم المحلي ومن منظور إصلاح اللامركزية الإدارية الذي هو مطلب تقدمي ووطني لا يمكن قيام حكم محلي من دون تحمل المجالس البلدية لأدوار جديدة تتضمن التواصل الدائم مع أهل البلدة ودعوة المواطن لأن يتحمل مسؤولياته، ومن أهم الفرص لوضع ذلك المفهوم الجديد والمتقدم للحكم المحلي موضع التطبيق هو إنطلاق مبادرات أهلية تقودها المجالس البلدية بالتعاون مع لجان يتم إنشاؤها في القرى وبعض المتخصصين من أجل تطوير أسلوب جديد وفاعل لإدارة النفايات المنزلية أو التجارية أو غيرها بالإستناد إلى مبدأ الفرز في المصدر وتفريق النفايات العضوية عن النفايات الصلبة غير العضوية.
إننا نطرح وجهة النظر هذه ونأمل من البلديات أن تستجيب وأن تفتتح أسلوباً جديداً مبادراً للتعامل مع مشاكل البلدات والمواطنين، ونحن في انتظار أصحاب الهمم وعلى أتمّ الاستعداد للإضاءة على أي مبادرة بلدية أو أي نشاط حقيقي يخدم الناس ويضرب مثلاً في الخدمة العامة ما زلنا نفتقده بشكل كبير.

غزوة الخندق

غزوة الخندق

يوم بلغت القلوب الحناجر

آخر محاولة من قريش لوأد الدولة الإسلامية
أفشلها سلمان وخدعة نُعَيم والعاصفة العاتية

فوجئ المسلمون بضخامة جيش الأحزاب المهاجمة
فاقترح سلمان على الرسول حفر خندق حول المدينة

القائد خالد بن الوليد كان من بين قادة الهجوم على المدينة ولم يكن قد أسلم بعد
القائد خالد بن الوليد كان من بين قادة الهجوم على المدينة ولم يكن قد أسلم بعد

خسائر المسلمين في غزوة «أحد» أضعفت المعنويات
فحرّض اليهود قريش على تسديد الضربة القاضية

في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة الموافق 627 للميلاد تعرّضت الدولة الإسلامية في المدينة لخطر وجودي بكل معنى الكلمة كاد لولا تأييد الله أن يتحول إلى كارثة على المسلمين، ففي تلك الموقعة حشد ما سمي تحالف الأحزاب بقيادة قريش أكثر من 10،000 مقاتل كاملي التجهيز والعتاد لهدف واحد هو شنّ هجوم كاسح على الدولة الناشئة في المدينة والقضاء عليها قضاء تاماً والتخلص بالتالي من التهديد الذي باتت تمثله لسلطان قريش وإمتيازاتها ونظام الجاهلية وقيمه وشرائعه وعلى رأسها عبادة الأصنام. في مقابل هذا الجيش اللجب المتحمس للقضاء على المسلمين تجمع داخل المدينة 3،000 مقاتل من المسلمين كانوا ينظرون بمزيج من الخوف والرجاء إلى جيش الكفار وهم يتساءلون كيف يا ترى سيمكنهم ردّ الهجوم وإنقاذ الدين وأهله من ذلك الخطر العظيم؟ لكن }كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ { (البقرة: 249). وبالفعل فقد قيض الله أن تتحول غزوة باغية هدفها القضاء على المسلمين إلى نصر غير متوقع لأن المشركين الذين خسروا الرهان على تلك الغزوة لم يتمكنوا بعدها من شن أي غزوة على المسلمين بل المسلمون هم الذين سيأخذون المبادرة بعدها وسيزدادون قوة على قوة إلى أن ييسّر الله تعالى لهم القضاء على الشرك وفتح مكة ورفع لواء الإسلام في أنحاء الجزيرة العربية.
بهذا المعنى فإن معركة الخندق التي صمد فيها المسلمون أمام جحافل المشركين والقبائل التي تحالفت معهم يمكن اعتبارها معركة فاصلة بين مرحلتين : مرحلة ضعف المسلمين وتشريدهم من مكة ولجوئهم إلى المدينة والتزامهم سياسة الدفاع والمهادنة وبين مرحلة ضعف المشركين وإدراك الرسول (ص) مع الوقت أن الموازين قد انقلبت ضد قريش وحلفائها الأمر الذي سيزيد المسلمين تصميماً وإقداماً في التعامل مع المشركين وسيدفع بهم في الوقت المناسب من سياسة الدفاع إلى سياسة الهجوم وحسم الموقف مع أهل الكفر.
فما هي خلفيات معركة الخندق ما الأسباب التي قادت إليها؟ وكيف مكّن الله تعالى للمسلمين المستضعفين يومها الصمود ثم النصر في وجه عدو يفوقهم بأكثر من ثلاثة أضعاف؟

أسباب معركة الخندق
في السنة الخامسة للهجرة، وهي السنة التي حصلت فيها غزوة الخندق كان المسلمون قد تمكنوا منذ خروجهم من مكة من بناء دولة صغيرة في المدينة بالاستناد إلى حلف المهاجرين الذين قدموا من مكة هرباً من اضطهاد قريش والأنصار الذين كانوا من سكان المدينة والذين استقبلوا الرسول ومهاجري المسلمين بالتأييد والنصرة وكانوا يتألفون بصورة أساسية من قبيلتي الأوس والخزرج. ورغم انحصار الوجود السياسي للمسلمين في المدينة دون امتداده إلى نواح أوسع من الجزيرة، فإن المسلمين استخدموا المدينة كقاعدة لشن هجمات على المشركين ومناوشتهم باستمرار، وكانت أول موقعة مهمة لهم مع قريش وحلفائها هي غزوة بدر التي انتصر فيها نفر قليل من المسلمين على جيش كبير من المشركين وقتلوا خلالها أكثر من 70 من كبرائهم وصناديدهم.
بعد غزوة “بدر” وهزيمة قريش بات المسلمون يشكلون خطراً حقيقياً على اقتصاد مكة عن طريق السرايا التي كانت تقطع طريق قوافل قريش التجارية وعن طريق الإغارة على القبائل لإجبارها على قطع موالاتها لمكة. وقد شن الرسول (ص) بعد “بدر” غزوتين مهمتين الأولى استهدفت بني سليم والثانية غطفان وهي من القبائل القوية المتحالفة مع قريش. في هذه الأثناء خشي اليهود وكانوا قوة يحسب حسابها في المدينة ونواحيها أن تقوى شوكة الإسلام فأخذوا بتحريض قريش على الثأر لهزيمة “بدر” كما إن أعيان قريش كانوا يصرون على أبي سفيان أن يجهز حملة كبيرة على المسلمين من أجل الثأر لقتلى القبيلة العزيزة واستعادة هيبتها. وبالفعل قررت قريش شنّ حملة كبيرة أسفرت عما سمي بغزوة “أحُد” (و”أحُد” هو جبل يقع على مقربة من المدينة) وقد مني خلالها المسلمون بخسائر كبيرة وتعرض فيها الرسول نفسه إلى هجمات مباشرة من المشركين الذين أحاطوا به وحاولوا قتله وأصابوا منه جروحاً أسالت دمه وكادوا أن ينالوا منه لولا استماتة بعض الصحابة في الدفاع عنه وصدّ السهام التي كانت تطلق عليه بصدورهم وظهورهم.
ورغم أن غزوة “أحُد” انتهت دون نصر حاسم لقريش إلا أنها أصابت المسلمين بخسائر كبيرة اعتبرتها قريشا ثأراً لقتلاها في “بدر”. ومن هنا فإن معركة “أحُد” لعبت دوراً كبيراً في وقوع غزوة “الخندق” لأنها أثرت على هيبة المسلمين، كما إنها جعلت اليهود الذين كان الرسول (ص) قد عقد معهم مواثيق شرف بعدم الاعتداء والتضامن في وجه أي عدوان خارجي يكشفون أوراقهم ويبدأون بالتطاول على المسلمين واستفزازهم. كما إنهم في الوقت نفسه بدأوا مع منافقي المدينة وزعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول بتحريض قريش على استكمال غزوة “أحُد” بغزوة حاسمة يجمعون لها قبائل العرب ويوجهون خلالها ضربة تقضي على المسلمين وعلى الرسول (ص) وتخلص قريش وحلفاءها من هذا الخطر المتعاظم.
قبل غزوة “الخندق” حصلت أحداث مهمة تمثلت في اصطدام المسلمين بقبيلة بني النضير اليهودية بسبب ما بدأ يظهر من أفرادها من مظاهر تحدٍ للمسلمين بعد الخسائر التي منيوا بها في «أحُد». وظهرت نوايا القبيلة جلية عندما جاءها الرسول (ص) طالباً المساعدة في دية قتيلين فرفضوا المساعدة بل وحاولوا خلال زيارة الرسول لحيِّهم أن يستدرجوه إلى مكان يمكنهم فيه أن يرموه بحجر كبير من السطح بهدف اغتياله. وبالفعل حاول يهودي من بني النضير تنفيذ الجريمة فصعد إلى سطج يعلو المكان الذي جلس فيه النبي وأصحابه مسنداً ظهره إلى جدار تمهيداً لإلقاء الحجر لكن الملاك جبريل أنبأ الرسول فنهض مع أصحابه فجأة وغادروا المكان.
بعدها أنذر الرسول قبيلة بني النضير بالخروج من المدينة ولما رفضوا حاصر قواتهم التي كانت تضمّ 1500 مقاتل ست ليال أذعنوا بعدها عندما لم يأتهم التأييد الموعود من المنافقين وقبلوا الخروج دون أي سلاح وأن يأخذوا من متاعهم فقط ما يمكن لإبلهم أن تحمله.
بعد خروجهم من المدينة نزل أشراف بني النضير أولاً في خيبر التي كان يسكنها اليهود أيضاً وبدأوا يفكرون في الثأر من المسلمين وفي الوسائل التي توصلهم إلى تحقيق غرضهم وتردهم إلى مزارعهم في منطقة يثرب، وأجمع قرار زعماء اليهود على أن السبيل الأفضل للثأر هو بذل جهود منسقة بهدف تحريض قريش والقبائل العربية الكبيرة على شن حرب كاسحة على الدولة الإسلامية في المدينة والقضاء عليها قبل أن يستفحل أمرها. ومن أجل ذلك سار جمع من كبرائهم ومنهم سلام بن مشكم ورئيسهم كنانة بن أبي الحقيق النضري وحييّ بن أخطب وهوذة بن قيس الوائلي وأبو عامر الفاسق إلى مكة بهدف دعوة قريش لمحاربة رسول الله (ص). وكانت خطتهم أن يلفتوا قريش إلى أن المسلمين أصبحوا الآن ضعفاء بعد غزوة «أحد» وأن الفرصة متاحة للتخلص من الدولة الإسلامية في ما لو نشأ حلف كبير من القبائل لتولي تلك المهمة.
كان لقريش بالطبع أسبابه الخاصة للتفكير بشنّ حملة كبرى على المسلمين، فقد كانت دولة المدينة قد تحوّلت إلى خطر محدق بقوافل قريش التجارية وكان المسلمون يزدادون ثقة وجرأة في مضايقة المشركين وشنّ الغزوات على قوافلهم وعلى قوافل القبائل الحليفة لقريش. لكن رغم ذلك تعجب زعماء قريش لعداء اليهود الشديد للمسلمين وارتابوا في نواياهم، لذلك خاطبهم زعماء قريش بالقول: “يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول وأنتم تعلمون بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ وكان قصد قريش فهم الغاية من قدوم ممثلي اليهود وطلبهم التحالف لأن المنطق هو أن المسلمين واليهود أهل كتاب ووحي.
هنا لم يتردد زعماء اليهود في القول: “بل دينكم خير من دينه وأنتم أولى بالحق منه” وهو ما سر المشركين وأقنعهم بإعداد العدة للغزوة الكبرى التي سميت في ما بعد بـ “غزوة الأحزاب” وقد تابع زعماء اليهود سيرهم إلى قبيلة غطفان القوية ودعوها إلى مشاركتهم في الحرب وذكروا لزعمائها استعداد قريش فأجابوهم إلى ما رغبوا فيه.
سلمان يقترح حفر الخندق
وصلت إلى الرسول (ص) من عيونه في مكة أخبار الحشد العسكري الذي كانت قُريش تحضر له لمهاجمة المسلمين. عندها جمع النبي (ص) أصحابه للتشاور في استراتيجية مناسبة لصد العدوان المحتمل على المدينة. صدر عن هذا الاجتماع قرار بالبقاء في المدينة والدفاع عنها من الداخل على عكس ما حصل في معركة “أُحُد”. أثناء عملية التشاور اقترح الصحابي سلمان الفارسي (ر) على الرسول (ص) حفر خندق عميق حول المدينة لتعزيز دفاعاتها والتعويض عن أي تفوق عددي محتمل في صفوف حلف الأحزاب. وقال سلمان: يا رسول الله كنا في فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. ثم شرح سلمان للرسول (ص) وللصحابة تقنية الخندق وطريقة حفره، وكان المسلمون يملكون وقتاً محدوداً قبل وصول طلائع الجيوش المهاجمة فقرروا العمل بسرعة وكسب الوقت. الجدير بالذكر هنا أن كلمة “خندق” هي كلمة فارسية في الأصل.
أذن الرسول بحفر الخندق حول المدينة في الجهات التي لم تكن حصينة لتعوق العدو المهاجم، واشتغل بنفسه على حفر الخندق ليقتدي به المسلمون، وليشجعهم على العمل فاشتغل المسلمون معه، أما المنافقون فكانوا يتوانون وينصرفون من دون إذن رسول الله (ص) ويستثقلون العمل ويثبطون العزائم وتباطأ رجالهم في العمل وصار الواحد منهم ينصرف إلى أهله من غير استئذان.

” أرادت قريش القضاء على الدولة الإسلامية لأن الدعوة كانت تنتشر بسرعة ولأن دولة المدينة تحولت إلى تهديد خطير لقوافل المشـركين التجارية “

غزوة الخندق
غزوة الخندق

سلمان منا أهل البيت
خط رسول الله (ص) الخندق ثم قسمه إلى قطع الواحدة منها تعادل أربعين ذراعاً وأوكل لكل عشرة من المسلمين أمر حفر تلك القطعة، وعندما همّ بـتخصيص سلمان الفارسي ومجموعة بقطعة من الخندق بهدف إنجاز حفرها مع بقية الصحابة، اختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي وكان رجلاً قوياً ومهاباً فقالت الأنصار: سلمان منا (يريدون أن يكون في فرقتهم) وقالت المهاجرون: سلمان منا، فقال رسول الله (ص) “سلمان منا أهل البيت” فأخرج سلمان بذلك من شبكة الانتماءات والولاءات القبلية ليضمه معنوياً إلى أهل بيته الشريف، وقد كان وبقي بعد ذلك من أقرب المقربين إليه ومن أهل شورته.

الصخرة ومعجزة الرسول
بينما كان فريق من المسلمين يعملون في حفر الخندق في الجزء المخصص لهم ومعهم سلمان الفارسي، إذ ظهرت صخرة بيضاء شديدة الصلابة فكسرت حديد معاولهم وشقت عليهم، فطلبوا من سلمان أن “أبلغ رسول الله بأمر هذه الصخرة فإما أن نعدل عنها وإما أن يأمر فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه”، فرقي سلمان حتى أتى رسول الله فأخبره برأي الجماعة، فهبط رسول الله مع سلمان في الخندق وأخذ المعول من سلمان (ر) فقال: “بسم الله” ثم ضربها فنثر ثلثها وخرج منها نور أضاء ما بين جانبي المدينة، فقال: “الله أكبر أعطيتُ مفاتيح الشام والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة من مكاني”، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثاً آخر فبرقت برقة من جهة فارس أضاءت كالأولى فقال: “الله أكبر أُعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن فأبشروا بالنصر”، فسُرَّ المسلمون، ثم ضرب الثالثة وقال: “بسم الله” فقطع بقية الحجر وخرج نور من صوب اليَمَن فأضاء جانبي المدينة حتى كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فقال: “الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني الساعة”.

” أراد بنو النضير اليهود من تحريض بني قريظة على القتال الإستفادة من موقعهم المتميّز في جنوب المدينـة وإحداث تحول يؤدي إلى هزيمة المســلمين “

تنظيم الدفاع
استمر بعد ذلك العمل في حفر الخندق كما تقرر إقامة أبراج لمراقبة الخندق منها. ثم جعل النبي (ص) النساء والصبيان في أحد حصون بني حارثة لحمايتهم، ثم أمر بتنظيم دوريّاتٍ لحراسة المدينة من جميع الجهات ، وعيّن سلمة بن أسلم الدوسي (ر) لتولّي الحراسة عند الخندق، وأرسل مع زيد بن حارثة (ر) مائتي رجل لمراقبة الجهة الجنوبية وبذلك يصعب على الأعداء مفاجأة المدافعين أو استغلال نقطة ضعف معينة لاختراق الخندق ودخول المدينة. وبذلك تمكن المسلمون من إنهاء الخندق قبل وصول العدو بستة أيام!
وعند وصول حلف الأحزاب ونيتهم القضاء على دعوة الإسلام وعلى النبي (ص) قدر عدد مقاتليهم بنحو 10،000 مقاتل كانت بينهم فرقة من الفرسان وقد زحفوا جميعاً بقيادة أبي سفيان إلى المدينة، لكن الجيوش التي قدمت وفي ظنها أن حسم المعركة لصالحها لن يأخذ وقتاً طويلاً فوجئت عند وصولها بالخندق الذي يلف الحدود المفتوحة للمدينة فوقفت عاجزة عن عبوره لمهاجمة المسلمين بعد أن حاولت موجات مقاتليها اختراقه أكثر من مرة، وكانت إحدى محاولات الاختراق بقيادة خالد بن الوليد كما شارك عمر بن العاص في الهجوم وكان هذان البطلان الإسلاميان لا يزالان في صفوف المشركين. وبعد أن فشل حلف الأحزاب بقيادة أبي سفيان في اقتحام المدينة بفضل حفر الخندق قرر الجيش المهاجم نصب الخيام وفرض حصار على المدينة إلى أن تستسلم، لكن خطة الدفاع كانت محكمة والمدينة تختزن مؤونة تكفي سكانها أشهراً طويلة بينما الجيش المهاجم لم يكن مستعداً لحصار طويل ولم يكن قد جلب معه مؤونات تكفيه أكثر من شهر. وقد طال الحصار فعلاً نحو شهر وكانت الحرب عبارة عن كرّ وفرّ. المدافعون المسلمون يرمون المهاجمين بالنبال لمنع خيولهم من اجتياز الخندق، وقد قتل للمشركين خيل كثيرة في محاولاتهم اجتياز تلك العقبة وبدأ التعب يحل في صفوفهم رغم كثرة عددهم. أحد العوامل التي أضعفت معنويات المهاجمين كان البرد القارس خصوصاً في الليل وكان الوقت شتاء إذ بدأت الحملة في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة١ وكان ذلك يوافق شهر كانون الثاني/يناير البارد جداً من سنة 627 ميلادية.

خيانة بني قريظة
مع صمود المسلمين داخل حصون المدينة وخلف الخندق الذي أصبح عنصر حماية أساسياً بدأ يهود بني النضير الذين شاركوا في التحضير لهذا الهجوم بالتفكير في خطة جديدة أملوا أن تقلب الموازين وتعيد المبادرة إلى حلف المهاجمين، وقرروا تحريض بني قومهم يهود بني قريظة الذين مازالوا يعيشون في المدينة ويربطهم عهد مع المسلمين على نقض العهد مع رسول الله (ص) .
كان المسلمون يعتبرون حي بني قريظة في المدينة منطقة محايدة تحمي ظهرهم، لذلك فإن انحياز تلك القبيلة اليهودية إلى المهاجمين وتحولها إلى قتالهم من داخل المدينة ومن خلفهم كان سيضعضع صفوف المدافعين، إذ يجعلهم بين نارين، ويسهل بالتالي على المهاجمين تحقيق الاختراق المنشود وكسب المعركة. فذهب إليه حُيَيّ بن أخطب النضري وهو أحد الذين حزبوا الأحزاب إلى سيد بني قريظة وكان كعب بن أسد القرظي، فلما سمع كعب حُيَيّ بن أخطب يطرق الباب أغلق دونه باب حصنه ولم يرد أن يستقبله لأنه علم أنه جاء يطلب منه نقض عهده مع المسلمين. لكن حيي ألحّ عليه حتى فتح له وما زال يستميله ويغريه بكثرة الأحزاب وقوّتها، ووعدهم بالحماية بعد انتهاء الحرب ورحيل الجيوش وكان هدف حيي بن أخطب من بني النضير أن يستفيد المهاجمون من الموقع المتميّز لبني قريظة في جنوب المدينة وهو ما أمل أن يحدث تحولاً كبيراً في مجرى القتال.
ولما وصلت الأخبار إلى النبي (ص) بنقض بني قريظة للعهد حزن كثيراً وأرسل سعد بن معاذ و سعد بن عبادة وآخرين للوقوف على حقيقة الأمر والتأكّد من صحّة الخبر، ولما دنا الرجال منهم محاولين تذكيرهم بالعهد وجدوا أنّ اليهود قد نقضوا العهد فعلاً ومزّقوا الوثيقة وكانوا يجاهرونهم بالسوء، وبلغوا حد سب الرسول قائلين: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد.

امتحان شديد للمسلمين
رجع الصحابة بسرعة إلى رسول الله (ص) وأخبروه بغدر بني قريظة، فحزن الرسول (ص) حزناً شديداً لهذا الخبر لدرجة أنه تقنع بثوبه (غطى رأسه بالثوب) ومكث طويلاً، وهو يفكر فيما سيحدث. ثم رفع رأسه فجأة وقال للمسلمين بصوت عال: “اللّهُ أَكْبَرُ، أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرِ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ” .
وانتشر خبر خيانة بني قريظة بين المسلمين فعظم عليهم البلاء، وأصابهم الكرب الشديد، فقد كانت المدينة مكشوفةً من الجنوب على بني قريظة، وزاد من خوفهم وجود بعض النساء والأولاد في حصون اليهود، وقد وصف الله تعالى تلك اللحظات العصيبة في قرآنه الكريم بقوله:}إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا{ ( الأحزاب : 10و11).
وكان للمنافقين دورٌ في زيادة المحنة، وذلك بالسخرية من المؤمنين وبثّ روح الهزيمة والانهزامية فيهم ، كما قال تعالى }وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا{ (الأحزاب:12)، واستأذن كثير منهم النبيَّ في العودة إلى ديارهم بحجّة أنها مكشوفة للأعداء، وغرضهم في الحقيقة إنما هو الفرار من أرض المعركة وسمع البعض منهم يتهكم تعليقاً على بشارات الرسول (ص) بالفتوحات القادمة، ويقول: “كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط”.
وبدأ المنافقون في التسرب من الصف أي الفرار } وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا{(الأحزاب: 13).
مع تزايد الضغوط على المدافعين وفي محاولة استباقية عاد النبي (ص) إلى سلاح الدبلوماسية والمهادنة الذي طبقه في أكثر من مناسبة يكون فيها صف المؤمنين ضعيفاً، وتمثلت خطته في محاولة استمالة قبيلة غطفان الكبيرة والقوية وفصلها عن التحالف. وكان اقتراحه أن يعقد مصالحة مع غطفان للعدول عن الحرب مقابل أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة. لكن لما كانت ثمار المدينة ملك الأنصار فقد وجد لزاماً عليه أن يستشير في الأمر لذلك استدعى زعيمي الأوس والخزرج سعد بن معاذ وسعد بن عبادة (ر) وعرض عليهما ما يجول في فكره فقالا: “لقد كنا نحن وهؤلاء القوم (أي غطفان)على الشرك بالله وعبادة الأوثان،أفحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله لا نعطيهم إلا السيف” “ فاستحسن النبي (ص) قولهما، وتراجع عن الفكرة. وكان رأي الصحابيين الجليلين في محله لأنه لو أعطيت غطفان وهي قبيلة مجاورة للمدينة ثلث الثمار لكان ذلك بمثابة إشارة ضعف من معسكر المسلمين وكان سيزيد في هبوط معنوياتهم، ولكانت هذه التسوية أسست لعادة تقوم فيها القبائل بإبتزاز المسلمين عبر التهديد بالحرب.

“نفذ نعيم بن مسعود خدعة بارعة أدت إلى انهيار الثقة بين اليهـــود وبين الأحزاب وكانت هذه من أهم أســباب وقف قريش للحملة على المدينـــة”

أحد الجبال المحيطة بالمدينة المنورة وكانت أثناء الغزوة تمثل حماية لها
أحد الجبال المحيطة بالمدينة المنورة وكانت أثناء الغزوة تمثل حماية لها

خدعة…في الوقت المناسب
بينما كانت الضغوط تتصاعد على المسلمين المحاصرين في مدينتهم جاء رسول الله (ص) رجل يدعى نُعيم بن مسعود بن عامر فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي وعرض أن يستخدم هذا الأمر لينفذ خدعة تضعضع صفوف المهاجمين. وبالفعل جاء نعيم بن مسعود بني قريظة وكان لهم نديماً في الجاهلية فذكرهم بأنهم يظاهرون قريشاً وحلفاءها ويخاطرون لأن قريشاً والقبائل جاءت لكسب المغانم فإن لم توفق لذلك فستتركهم وتعود أدراجها وعندها سينتقم منهم المسلمون، ونصح نعيم اليهود بأن يطلبوا من قريش رهائن من رجالهم يكونون بمثابة ضمانة بأن قريش ستقاتل المسلمين حتى حسم الموقف. ثم مضى نعين إلى قريش وقال لهم إن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أن قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك عنا أن نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم؟ فأرسل إليهم أن نعم، فإن طلب إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلاً واحداً، ثم خرج وقال لغطفان ما قاله لقريش وحذّرهم ما حذرهم.
وبالفعل لما حثت قريش اليهود على مقاتلة النبي (ص) محمد ردّ اليهود عليهم بأن اليوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً كما إننا لن نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون في أيدينا برهاناً لنا أنكم ستقاتلون محمداً لأننا نخشى إن تعبتم من الحرب واشتد عليكم القتال أن تشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك من محمد، فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان: تعلمون والله إن الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة إنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن أنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كانوا غير ذلك عادوا إلى بلادهم وتركوكم لتواجهوا محمداً وقومه في بلادكم، فأرسل اليهود مجدداً يطلبون رهائن من قريش ليقاتلوا ورفضت قريش ودب الخلاف بين الفريقين.

تصوير ثلاثي الأبعاد يوضح مجريات معركة الخندق أو غزوة الأحزاب
تصوير ثلاثي الأبعاد يوضح مجريات معركة الخندق أو غزوة الأحزاب

الطقس …يدخل الحرب
نجح نعيم بن مسعود في خدعته وأوقع الفشل بين بني قريظة وقريش، لكن لم يكد يتم لنعيم الأمر حتى حدث أمر لم يحسب المشركون حسابه إذ هبت عليهم ريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تطفئ نيرانهم وتقلب قدورهم وتقتلع خيامهم وأدت الرياح الشديدة البرودة إلى شل حركة الجند الذين باتوا مهتمين بسلامتهم ومات للمشركين الكثير من مواشيهم.. قال تعالى: } يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحا وَجُنُودا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرا{ (الأحزاب:9). فلما انتهى إلى رسول الله ما اختلف من أمرهم وما فرق الله من جماعتهم، دعا حذيفة فبعثه إليهم لينظر ما فعل القوم ليلاً، وبالفعل تسلل حذيفة إلى صفوف القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل لا تقرّ لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً. فإذا بقائد الحملة أبي سفيان يخطب في الأحزاب التي بدأت تتشتت ويصيبها الذعر فيقول:
“يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون والله ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني مرتحل” ثم قام إلى جمله فجلس عليه ثم ضربه فوثب به ووجه رحله في طريق العودة إلى مكّة.
حطمت خطبة أبي سفيان ما بقي من معنويات أو إرادة قتال لدى المشركين، لأنه كان قائد الحملة وماذا سيفعل بقية الجمع بعد أن عاد قائدهم القهقرى إلى بلده تاركاً الجمع المشتت والمذعور ليدبر أمره بنفسه. لقد ساءت حالهم بسبب اشتداد البرد وهبوب الريح وعدم رغبة بني قريظة في القتال، وقد كانوا يأملون دخول المدينة وكسب المغانم من حربهم على المسلمين لكن الخندق الذي أشار سلمان الفارسي بحفره منعهم وأحبط خطتهم على الرغم من كثرة عددهم. ولما سمعت غطفان بما فعلت قريش رفعوا مضاربهم أيضاً وجمعوا خيلهم وإبلهم وقفلوا راجعين إلى بلادهم تاركين ما استثقلوا من متاعهم فغنمه المسلمون، وانصرف المسلمون عن الخندق ورجعوا إلى المدينة ووضعوا السلاح بعد أن حاصرهم المشركون خمسة عشر يوماً (وفي رواية شهراً كاملاً). وكان أول ما قاله الرسول (ص) لأهل المدينة أن بشرهم بأن قريش “لن تغزوكم ثانية بعد عامكم هذا”وقد كان كما أخبر (ص) فقد كانت هذه الغزوة آخر محاولة من جانب أشراف مكة للقضاء على الدين الجديد ألا وهو الإسلام.
بعد انسحاب جيش الأحزاب يجر أذيال الخيبة استفاق بنو قريظة على خطورة ما ارتكبوا من خيانة للمسلمين في أصعب أوقاتهم، وتوجه المسلمون فور انتهاء غزوة الخندق إلى حي بني قريظة لتصفية الحساب معهم فحاصروهم حتى استسلامهم فأخرجوهم من المدينة ولم يسمحوا لهم بأخذ أي شيء من أملاكهم معهم كما كان الحال مع بني النضير، كما إنهم أوقعوا القصاص بحد السيف في عدد من كبرائهم ومقاتليهم.

طريق الحرير

طريق الحرير

طريــــــق الحضــارة البشريــة

كان طريق الحرير أهم شريان عالمي لتبادل السلع
وحركة القوافل والسفن والأفكار والتأثيرات الحضارية

كان طول طريق الحرير أكثر من 30,000 كلم
وكانت الخانات تؤمن الراحة والأمان للمسافرين

قبل سنوات أعلنت الصين التي باتت أكبر اقتصاد من حيث الناتج المحلي في العالم (وفق ما أعلنه البنك الدولي) عن مشروع ضخم أسمته “طريق الحرير الجديد” وهو يستهدف ربط دول آسيا والشرق الأوسط وأوروبا بشبكة متطورة من الطرق البرية والبحرية والموانئ والمطارات وشبكات الاتصالات والخدمات المالية والتجارية بهدف تعزيز التجارة والعلاقات الاقتصادية بين دول المجموعة، كما يتضمن المشروع إنشاء بنك تنمية صينياً سيتولى توفير الموارد المالية اللازمة لتمويل مشاريع الربط والبنى الأساسية الضرورية لجعل هذا المشروع الطموح حقيقة واقعة.
ويستلهم مشروع “طريق الحرير” الجديد المثال الباهر الذي كان عليه طريق الحرير التاريخي الذي ازدهر واشتهر بصورة خاصة مع قيام الحضارة العربية الإسلامية وازدهار بلدان الشرق وتطورها الاقتصادي ونمو ثرواتها بصورة غير مسبوقة، الأمر الذي أعطى في حدّ ذاته دفعاً كبيراً للتجارة بين المنطقة العربية والقارة الآسيوية ولم يكن ما عرف في ما بعد بإسم “طريق الحرير” في الحقيقة سوى مجموعة متشابكة من الطرق والممرات والمحطات التجارية التي كانت تخدم تدفقات البضائع بين دول الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وفارس والقرن الأفريقي وبين القارتين الصينية والهندية، وكان “طريق الحرير” أهم شريان عالمي لحركة الأشخاص والقوافل ولتبادل البضائع والسلع الأفكار والتأثيرات الثقافية من الشرق الأدنى وحتى الشرق الأقصى مروراً بآسيا الوسطى، في ما كانت أوروبا ما زالت تغرق في ظلمات التخلف، وهي لن تلحق بركب “طريق الحرير” إلا في وقت متأخر ابتداءً من القرون الوسطى.
فما الذي نعرفه عن “طريق الحرير” الذي كان رمزاً للإزدهار والتقارب بين الشعوب لآلاف السنين؟
كانت “طريق الحرير” شبكة من المسالك والممرات البرية والبحرية التي استخدمتها الأمم الغابرة لتحقيق شتى أنواع التبادل السلعي، وكانت طرق الملاحة البحرية تعتبر جزءاً لا يستهان به من هذه الشبكة وهي مثّلت بالتالي حلقة وصل ربطت الشرق بالغرب عن طريق البحر واستُخدمت على الأخص لتجارة التوابل بحيث بات إسمها الآخر الشائع “طرق التوابل” Spice Road.
هذه الشبكات الواسعة من طرق التجارة لم تستخدم فقط لتبادل السلع والبضائع الثمينة فحسب وإنما أتاحت أيضاً تناقل المعارف والأفكار والثقافات والمعتقدات بفضل هذا التمازج الهائل بين قوافل التجار من مختلف الأمم والحضارات المستمرة واختلاطهم المتواصل مما أثر في وقت لاحق تأثيراً عميقاً في تاريخ شعوب المنطقة الأوروبية والآسيوية وحضاراته. ولم تكن التجارة وحدها هي التي جذبت المسافرين المرتحلين على طول “طريق الحرير” وإنما التلاقح الفكري والثقافي الذي كان أيضاً سائداً في المدن الواقعة على تلك الطرق حتى إن العديد من هذه المدن تحوّل إلى مراكز للثقافة والتعلم والإكتشاف. وقد شهدت المجتمعات المستقرة على امتداد هذه الطرق تبادلاً وانتشاراً للعلوم والفنون والأدب ناهيك عن الحرف اليدوية والأدوات والتقنيات، الأمر الذي أدى إلى تفاعل غني جداً للغات والأديان والثقافات..
ويُعتبر مصطلح “طريق الحرير” في الواقع مصطلحاً حديث العهد نسبياً إذ لم تحمل هذه الطرقُ القديمة طوال معظم تاريخها العريق إسماً بعينه. وفي أواسط القرن التاسع عشر، أطلق العالم الجيولوجي الألماني، البارون فرديناند فون ريشتهوفن، إسم “دي سيدينستراس” (أي طريق الحرير بالألمانية) على شبكة التجارة والمواصلات هذه ولا تزال هذه التسمية المستخدمة أيضاً بصيغة الجمع تلهب الخيال بما يلفها من غموض وإيحاءات رومنطيقية.

” بدأت طريق الحرير بعلاقات قامت قبل آلاف السنين بين شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وحضارة وادي الهـندوس قبل أن تتوســــع الشبكة نحو الصين ثم أوروبـا  “

طريـــق الحرير
طريـــق الحرير

في البدء .. كان الحرير
عرفت الصين دودة الحرير قبل 6,000 عام وبعد 2,000 عام من ذلك التاريخ صنع الصينيون القدماء أول آلة لحلج الحرير وعندما برزت فرنسا في القرن السادس عشر بإعتبارها البلد الأول في تصنيع الحرير الفاخر فإنها تعلمت تقنيات تلك الصناعة من الصين والتي كانت يومها أكبر دولة متقدمة اقتصادياً وتقنياً في العالم.
يتكون الحرير من ألياف بروتينية تنتجها دودة القز عندما تقوم بغزل شرنقتها، وقد بدأت صناعة الحرير بحسب المصادر الصينية عام 2700 قبل الميلاد تقريباً. وكان الحرير يعدّ من المنتوجات النفيسة جداً، فانفرد بلاط الإمبراطورية الصينية باستخدامه لصنع الأقمشة والستائر والرايات وغيرها من المنسوجات القيّمة، وبقيت تفاصيل إنتاجه سراً حفظته الصين بشدة طيلة 3000 سنة تقريباً بفضل مراسيم إمبراطورية قضت بإعدام كل من يتجرأ على إفشاء سرّ إنتاج الحرير لشخص غريب. وتحوي قبور مقاطعة هوبي، العائدة إلى القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، نماذج فاتنة لهذه المنسوجات الحريرية ومن بينها الأقمشة المزخرفة والحرير المطرّز والألبسة الحريرية في جميع أشكالها.
إلا أن احتكار الصين لإنتاج الحرير لا يعني أنها لم تتاجر به وتبادل به سلعاً أخرى من العالم كانت تحتاجها. وقد استُخدم الحرير كهدايا قيمة في العلاقات الدبلوماسية وبلغت تجارته شأناً كبيراً بدءاً بالمناطق المتاخمة للصين مباشرة وصولاً إلى المناطق النائية، بحيث بات الحرير إحدى الصادرات الرئيسية للصين في عهد سلالة الهان (استمر حكمها من سنة 206 ق.م وحتى سنة 220 ميلادية)، وقد عُثر بالفعل على أقمشة صينية من هذه الحقبة في مصر وشمال منغوليا ومواقع أخرى من العالم.
وفي وقت ما من القرن الأول قبل الميلاد، دخل الحرير إلى الإمبراطورية الرومانية حيث اعتُبر سلعة فاخرة تغري بغرابتها وعرف رواجاً هائلاً وصدرت مراسيم ملكية لضبط سعره، وبقي يلاقي إقبالاً شديداً طوال القرون الوسطى حتى إن قوانين بيزنطية سُنت لتحديد تفاصيل حياكة الألبسة الحريرية، وهذا خير دليل على أهميته إذ كان يعدّ نسيجاً ملكياً خالصاً ومصدراً هاماً للمداخيل بالنسبة إلى السلطة الملكية. وفضلاً عن ذلك، كانت الكنيسة البيزنطية تحتاج إلى كمّيات ضخمة من الملبوسات والستائر الحريرية. ومن هنا، مثّلت هذه السلعة الفاخرة أحد المحفزات الأولى لفتح المسالك التجارية بين أوروبا والشرق الأقصى.
وكان الإلمام بطريقة إنتاج الحرير أمراً بالغ الأهمية وعلى الرغم من سعي الإمبراطور الصيني إلى الاحتفاظ جيداً بهذا السر تجاوزت صناعة الحرير في النهاية حدود الصين لتنتقل إلى الهند واليابان أولاً ثم الإمبراطورية الفارسية وأخيراً الغرب في القرن السادس ميلادي. وذكر المؤرخ بروكوبيوس أن بعض الكهنة الهنود جاءوا بيزنطا في نحو العام 550 م, وأقنعوا الإمبراطور جوستنيان أوغست بأنهم سيوفرون للرومان سبل إنتاج الحرير بأنفسهم بحيث يستغنون عن التعامل مع أعدائهم الفرس. وكشفت البعثة الهندية للإمبراطور عن طريقة تربية دودة القز مؤكدة له أن تربيتها عملية سهلة وقدمت البعثة معلومات عن طرق الحصول على بيوض دود القز وحفظها والتشجيع على تفقيسها وتحولها إلى ديدان القز ثم الفراشات. وبعد اقتناع الإمبراطور بالفكرة عاد الكهنة الهنود إلى بلادهم ثم عادوا إلى بيزنطا وهم يحملون بيوض ديدان القز إليها وكانت هذه بداية تاريخ إنتاج الحرير في الإمبراطوريةالبيزنطية وانتقاله منها في ما بعد إلى القارة الأوروبية.

من هنا كانت تمر إحدى تفرعات طريق الحرير وتبدو أطلال أحد الخانات التي كانت تخدم تجار القوافل على الطريق الطويل
من هنا كانت تمر إحدى تفرعات طريق الحرير وتبدو أطلال أحد الخانات التي كانت تخدم تجار القوافل على الطريق الطويل

دروب ومسالك ..وبضائع
مع أن تجارة الحرير مثلت أحد الدوافع الأولى لتطور واتساع الطرق التجارية عبر آسيا الوسطى، فإن الحرير في حدّ ذاته لم يشكل سوى واحد من المنتجات العديدة التي كانت تُنقل بين الشرق والغرب، ومنها الأنسجة والتوابل والبذور والخضار والفواكه وجلود الحيوانات والأدوات والمشغولات الخشبية والمعدنية والقطع ذات الدلالات الدينية والفنية والأحجار الكريمة وغيرها الكثير. وازداد الإقبال على طريق الحرير وتوافد المسافرون عليها طوال القرون الوسطى، وبقيت تُستخدم حتى القرن التاسع عشر مما يشهد ليس على جدواها فحسب وإنما على مرونتها وتكيفها مع متطلبات المجتمع المتغيرة أيضاً، كما لم تقتصر هذه الدروب التجارية على خط واحد – فكان أمام التجار خيارات عديدة من الطرق المختلفة المتوغلة في مناطق متعددة من أوروبا الشرقية والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والشرق الأقصى، ناهيك عن الطرق البحرية حيث كانت تُنقل البضائع من الصين وجنوب شرقي آسيا عن طريق المحيط الهندي وبحر العرب باتجاه أفريقيا والهند والشرق الأدنى.
وتطوّرت هذه الطرق مع الزمن، ومع تبدّل السياقات الجغرافية السياسية عبر التاريخ حاول تجار الإمبراطورية الرومانية مثلاً تجنّب عبور أراضي البارثيين أعداء روما وسلكوا بالتالي الطرق المتجهة نحو الشمال عبر منطقة القوقاز وبحر قزوين. وكذلك، شهدت شبكة الأنهار التي تجتاز سهوب آسيا الوسطى حركة تجارية مكثفة في بداية القرون الوسطى، إلا أن مستوى مياهها كان يرتفع ثم يهبط وأحياناً كانت المياه تجف كلياً فتتبدل الطرق التجارية بناءً على ذلك.
وشكلت التجارة البحرية فرعاً آخر اكتسب أهمية بالغة في هذه الشبكة التجارية العالمية. وبما أن الطرق البحرية اشتهرت خاصة بنقل التوابل، عُرفت أيضاً بإسم طريق التوابل، فقد زَوّدت أسواق العالم أجمع بالقرفة والبهار والزنجبيل والقرنفل وجوز الطيب القادمة كلها من جزر الملوك في اندونيسيا (المعروفة أيضاً بإسم جزر التوابل)، وبطائفة كبيرة من السلع الأخرى. فالمنسوجات والمشغولات الخشبية والأحجار الكريمة والمشغولات المعدنية والبخور وخشب البناء والزعفران منتوجات كان يبيعها التجار المسافرون على هذه الطرق الممتدة على أكثر من 15,000 كيلومتر، ابتداءً من الساحل الغربي لليابان مروراً بالساحل الصيني نحو جنوب شرقي آسيا فالهند وصولاً إلى الشرق الأوسط ثم إلى البحر المتوسط.
ويتصل تاريخ هذه الطرق البحرية بالعلاقات التي قامت قبل آلاف السنين بين شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين وحضارة وادي الهندوس. وتوسّعت هذه الشبكة في مطلع القرون الوسطى، إذ شقّ بحارة شبه الجزيرة العربية مسالك تجارية جديدة عبر بحر العرب وداخل المحيط الهندي. وقد ارتبطت شبه الجزيرة العربية والصين بعلاقات تجارية بحرية منذ القرن الثامن الميلادي، وتيسّر مع الوقت ركوب البحر لمسافات طويلة بفضل الإنجازات التقنية التي تحققت في علم الملاحة والعلوم الفلكية وتقنيات بناء البواخر. ونمت مدن ساحلية مفعمة بالحياة حول الموانئ المحاذية لهذه الطرق التي كانت تستقطب أعداداً كبيرة من الزوار على غرار زنجبار والإسكندرية ومسقط وغوا، وأضحت هذه المدن مراكز غنية لتبادل السلع والأفكار واللغات والمعتقدات مع الأسواق الكبرى وجموع التجار والبحارة الذين كانوا يتبدلون بإستمرار.
وفي أواخر القرن الخامس عشر، أبحر المستكشف البرتغالي، فاسكو دي غاما، ملتفاً حول رأس الرجاء الصالح فكان أول من وصل البحارة الأوروبيون بالطرق البحرية المارة من جنوب شرقي آسيا فاسحاً المجال لدخول الأوروبيين مباشرة في هذه التجارة. وبحلول القرنين السادس عشر والسابع عشر باتت هذه الطرق والتجارة المربحة التي تمر بها موضع تنافس شرس بين البرتغاليين والهولنديين والبريطانيين. فكان الاستيلاء على موانئ الطرق البحرية يوفّر الغنى والأمان على حد سواء لأن هذه الموانئ كانت في الواقع تهيمن على ممرات التجارة البحرية وتتيح أيضاً للسلطات التي تبسط نفوذها عليها إعلان احتكارها لهذه السلعة الغريبة التي يكثر الطلب عليها وجباية الضرائب المرتفعة المفروضة على المراكب التجارية.
تميّزت طريق الحرير بتنوع هائل لأن كل منطقة أو شعب أو قوافل تجارية كانت تتخذ لنفسها طريقاً تلائم تجارتها وعوامل واعتبارات أخرى كثيرة وكان التجار يضعونها في حسابهم، وكان هؤلاء التجار يسافرون محملين بمختلف أصناف البضائع ويأتون براً أو بحراً من شتى بقاع الأرض. واعتادت القوافل التجارية في غالب الأحيان على قطع مسافة معينة من الطريق ثم التوقف لنيل قسط من الراحة والتزوّد بالمؤن أو حط الرحال وبيع حمولاتها في مواقع منتشرة على طول الطرق، وقد أفضى ذلك إلى نشأة مدن وموانئ تجارية ترشح بالحياة، واتسمت طرق الحرير بالحيوية وتخللتها المنافذ والمداخل فكانت البضائع تباع للسكان المحليين القاطنين على طول الطريق واعتاد التجار على إضافة المنتوجات المحلية إلى حمولاتهم إذ كان قسم من التجارة يتم عن طريق المقايضة، كما نشأ ما يمكن تسميته بالتجارة العابرة حيث يشتري التجار من مكان ما في طريق رحلتهم لكي يبيعوها في مكان آخر فكانت القافلة بالتالي تشتري وتبيع حمولتها أكثر من مرة خلال تنقلاتها، وكانت هذه وسيلة مهمة لتعظيم الأرباح وتمويل التكلفة العالية للرحلات الطويلة التي تقطع ألوف الأميال بين البلدان والممالك.

تمثال للأدميرال والقائد البحري الصيني الشهير زنغ هـ الذي لعب دورا كبيرا في تطوير التجارة البحرية لطريق الحرير في القرن الخ
تمثال للأدميرال والقائد البحري الصيني الشهير زنغ هـ الذي لعب دورا كبيرا في تطوير التجارة البحرية لطريق الحرير في القرن الخ

“كانت القافلة تشتري حمولتها وتبيعها أكثر من مرة على الطريق وكانت هذه وسيلة أساسية لتعظيم الأرباح وتمـــــويل التكلفة العالية للرحلة التجارية”

دروب الحوار
لعل الإرث الأهم الذي تركته طريق الحرير هو دورها في تلاقي الثقافات والشعوب وتيسير المبادلات بينها. فقد اضطر التجار على أرض الواقع إلى تعلم لغات وتقاليد البلدان التي سافروا عبرها لكي يسهلوا على أنفسهم ويزيدوا حظوظهم في عقد الصفقات والصداقات، فكان التفاعل الثقافي جانباً حاسماً من المبادلات المادية، كما أقبل العديد من المسافرين على سلك هذه الطرق بهدف التبادل الفكري فازدهرت اللغات والأديان والثقافات وتمازجت.
وإحدى النتائج الاجتماعية المهمة التي نشأت على هذا التمازج كانت عملية التزاوج الواسعة بين الشعوب فكان الكثير من التجار يحلون في بلد وإذا طابت إقامتهم فيه أو إذا تكررت سفراتهم إليه لأغراض التجارة يتخذون زوجة لهم من ذلك البلد وكانت الزوجات غالباً ما يبقين في بلدهن في انتظار عودة الزوج التاجر من رحلته، وفي حالات قليلة اصطحب التجار زوجاتهم إلى بلدانهم ونشأ عن تلك الزيجات ثم عن موسم الحج السنوي إلى مكة المكرمة من التجار المسلمين من مختلف أنحاء العالم تمازج عرقي وثقافي ما زالت آثاره واضحة في أسماء العديد من العائلات البارزة في الجزيرة العربية أو في دول المشرق العربي. وكان الحج السنوي إلى مكة المكرمة غالباً ما يمتزج بالرحلات التجارية بعد أن أصبحت الجزيرة العربية في ظل الإسلام مركزاً زاهراً للتجارة ورحلاتها ولم يكن امتزاج أغراض تجارة القوافل بالحج إلى الجزيرة العربية أمراً غير عادي إذ علمنا قدر المشقة التي كانت تعترض المسافرين مما جعل مناسبة الحج تستغل أيضاً للتجارة الأمر الذي يساعد التاجر أو الحاج على تغطية نفقات سفره الطويل أحياناً من بلاد بعيدة. وربما كان ذلك هو أحد الأسباب في ازدهار أسواق تجارية تباع فيها كل أنواع السلع في موسم الحج في مختلف مدن الحجاز وفي طرق القوافل المارة عبر الجزيرة العربية.
ومن أبرز الإنجازات التقنية التي خرجت من طريق الحرير إلى العالم تقنية صناعة الورق وتطوّر تقنية الصحافة المطبوعة، كما تتصف أنظمة الري المنتشرة في آسيا الوسطى بخصائص عُممت بفضل مسافري طريق الحرير.
وكان الدين وطلب العلم والمعرفة من الدوافع الأخرى للسفر على هذه الطرق. واعتاد كهنة الصين البوذيون السفر للحج إلى الهند لجلب نصوص مقدسة تتعلق بالعقيدة البوذية التي نشأت في الهند، ويمثل ما دوّنه الكهنة البوذيون من مذكّرات عن رحلاتهم مصدراً مذهلاً للمعلومات. وعلى سبيل المثال تتمتع مذكرات شوان زانغ (تغطي الفترة من 629 وحتى 654 ميلادية) بقيمة تاريخية هائلة. في المقابل قصد الكهنة الأوروبيون في القرون الوسطى الشرقَ في بعثات دبلوماسية وتبشيرية، وبخاصة جيوفاني دا بيان دل كاربيني المرسل من البابا إينوشنسيوس الرابع في بعثة إلى بلاد المغول من عام 1245 حتى عام 1247 ووليام أف روبروك وهو كاهن فلمنكي من الفرنسيسكان أرسله الملك الفرنسي لويس التاسع للاتصال بقبائل المغول ما بين العامين 1253 و1255 ولعل المستكشف البندقي ماركو بولو هو أوسعهم شهرة وقد أمضى ما بين العامين 1271 و1292 أكثر من 20 سنة في الترحال وأضحى سرده للتجارب التي خاضها شهيراً جداً في أوروبا بعد وفاته.
وأدت طرق الحرير كذلك دوراً أساسياً في نشر الأديان في المنطقة الأوروبية والآسيوية. وتعدّ البوذية خير مثال على الأديان التي ارتحلت على طريق الحرير، إذ عُثر على قطع فنية ومزارات بوذية في مواقع بعيدة عن بعضها مثل باميان في أفغانستان وجبل وتاي في الصين وبوروبودور في إندونيسيا. وانتشر الدين المسيحي والإسلامي والهندوسية والزرادشتية والمانوية بالطريقة ذاتها، فقد تشرّب المسافرون الثقافات التي صادفوها وعادوا بها إلى مواطنهم. ودخلت مثلاً الهندوسية ومن ثم الإسلام إلى اندونيسيا وماليزيا عن طريق تجار طرق الحرير الذين ساروا في المسالك التجارية البحرية للهند وشبه الجزيرة العربية.

طريق الحرير في لوحة صينية قديمة
طريق الحرير في لوحة صينية قديمة

“أدت رحـــلات طريـــق الحرير وموسم الحـــج السنـــوي إلى تمازج عرقــــي وثقافـــي ما زالـــت آثاره واضحــــــة في أسـماء العديـــد من العائلات العربيـــة”

السفر على طريق الحرير
تطوّر السفر عبر طريق الحرير بتطور الطرق نفسها. وكانت القوافل التي تجرها الأحصنة أو الجمال في القرون الوسطى هي الوسيلة المعتادة لنقل السلع عن طريق البرّ. وأدت خانات القوافل، وهي عبارة عن مضافات و “فنادق” كبيرة مصممة لاستقبال التجار المسافرين، دوراً حاسماً في تيسير مرور الأشخاص والسلع على هذه الطرق. وكانت هذه الخانات المنتشرة على طرق الحرير من تركيا إلى الصين توفّر فرصة دائمة للتجار لكي يستمتعوا بالطعام وينالوا قسطاً من الراحة ويستعدوا بأمان لمواصلة رحلتهم، ولكي يتبادلوا البضائع ويتاجروا في الأسواق المحلية ويشتروا المنتجات المحلية ويلتقوا بغيرهم من التجار المسافرين أيضاً، مما يتيح لهم التفاعل مع ممثلي ثقافات وأديان وأفكار متنوعة. .
ومع مرور الوقت، تطورت الطرق التجارية وتنامت أرباحها لتزداد بذلك الحاجة إلى خانات القوافل، فتسارعت عملية تشييدها في شتى مناطق آسيا الوسطى بدءاً من القرن العاشر حتى مرحلة متأخرة من القرن التاسع عشر. وأدى ذلك إلى ظهور شبكة من خانات القوافل امتدت من الصين إلى شبه القارة الهندية وإيران والقوقاز وتركيا وحتى إلى شمال أفريقيا وروسيا وأوروبا الشرقية ولا يزال العديد من هذه الخانات قائماً حتى يومنا هذا.
وكان كل خان يبعد عن الخان الذي يليه مسيرة يوم واحد، وهي مسافة مثالية هدفها الحيلولة دون أن يضطر التجار (وحمولاتهم الثمينة على وجه التحديد) لأن يبيتوا في العراء عدة أيام أو ليال ويكونوا بذلك عرضة لمخاطر الطريق. وأدى ذلك في المتوسط إلى بناء خان كل 30 إلى 40 كيلومتراً في المناطق المخدومة بشكل جيد.
وكان التجار البحارة يواجهون تحديات متعددة أثناء رحلاتهم الطويلة. وعزّز تطور تقنية الملاحة ولا سيما المعارف المتعلقة ببناء البواخر من سلامة الرحلات البحرية خلال القرون الوسطى. وأنشئت الموانئ على السواحل التي تقطعها هذه المسالك التجارية البحرية، ما وفّر فرصاً حيوية للتجار لبيع حمولاتهم وتفريغها وللتزوّد بالمياه العذبة، علماً بأن إحدى المخاطر الكبرى التي واجهها البحارة في القرون الوسطى هو النقص في مياه الشرب. وكانت جميع البواخر التجارية التي تعبر طرق الحرير البحرية معرضة لخطر آخر هو هجوم القراصنة لأن حمولاتها الباهظة الثمن جعلتها أهدافاً مرغوبة من عصابات القرصنة البحرية.

العماني أحمد ابن ماجد أمير البحار وعالم الملاحة ومكتشف الهند بعد إبحاره حول رأس الرجاء الصالح في جنوب القارة الأفريقية
العماني أحمد ابن ماجد أمير البحار وعالم الملاحة ومكتشف الهند بعد إبحاره حول رأس الرجاء الصالح في جنوب القارة الأفريقي

إرث حضاري
في القرن التاسع عشر، تردد نوع جديد من المسافرين على طريق الحرير هم: علماء الآثار والجغرافيا، والمستكشفون المتحمسون الراغبون في عيش مغامراتهم الشخصية وتسجيل وقائعها. وتوافد هؤلاء الباحثون من فرنسا وإنكلترا وألمانيا وروسيا واليابان وأخذوا يجتازون صحراء تكلماكان في غرب الصين، تحديداً في منطقة تُعرف الآن بإسم شينجيانغ، قاصدين استكشاف المواقع الأثرية القديمة المنتشرة على طول طرق الحرير، مما أدى إلى اكتشاف العديد من الآثار وإعداد الكثير من الدراسات الأكاديمية والأهم من ذلك أن هذا الأمر أدى إلى إحياء الاهتمام بتاريخ هذه الطرق.
وما زالت العديد من المباني والآثار التاريخية قائمة حتى يومنا هذا، راسمة ملامح طرق الحرير عبر خانات القوافل والموانئ والمدن، إلا أن الإرث العريق والمستمر لهذه الشبكة المذهلة يظهر في الثقافات واللغات والعادات والأديان العديدة المترابطة رغم اختلافها التي نمت طوال آلاف السنين في موازاة تطور التجارة. فلم يولّد مرور التجار والمسافرين على اختلاف جنسياتهم تبادلاً تجارياً فحسب وإنما ولّد أيضاً على نطاق واسع عملية تفاعل ثقافي مستمر. وعليه، تطورت طريق الحرير بعد أولى رحلاتها الاستكشافية لتغدو قوة دافعة حفّزت على تكوين شتى المجتمعات القاطنة في المنطقة الأوروبية -الآسيوية وما يتعداهما.

صورة من التراث

صورة من التراث

النرامواي في القاهرة في مطلع القرن العشرين
النرامواي في القاهرة في مطلع القرن العشرين

    النرامواي في القاهرة في مطلع القرن العشرين

الصدق هو النهج القويم

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

الصدق هو النهج القويم

صدق عند الموحدين الدروز هو الركن الأساسي في قاعدة السلوك الأخلاقي التي يجب على كل انسان الالتزام بها تجاه ذاته أولا وتجاه الآخَرين في كلامه وأفعاله ومقاصده الظاهرة والباطنة في كل حال. فالصدق عندهم وما يعنيه من إخلاص في الأداء هو روح العمل، وعليه، إمّا أن يكون العمل حركة طيِّبة في صالح خير الفرد والجماعة، أو يكون مُشبعا بالخبث لا يتأتَّى به إلَّا تشويش الأذهان، وزرع بذور الشكوك والشقاق، وإثارة البغضاء في النفوس. والمرء بنواياه، فإنْ قصَد سبُل الإصلاح فإنَّه بادئ بنفسه، وإنْ أضمر الشرور فهو في ظلمة نفسه، وحاشا لنور الصلاح والإصلاح أن يتبدَّى من سواد الظلام.

وإن كان الإنسانُ مُطَالبًا بصدق القال والحال في ذاته، فهو أحرى أن يكونَ مُطالَبًا به إنْ تجاوزت حركةُ أفعاله إلى الحقل العام. هنا، يرتبطُ الأمرُ بمسؤوليَّةٍ عامَّة تُضافُ إلى المسؤوليَّة الخاصَّة المتعلِّقة بضمير المرء وحقيقة سريرته. ومن بديهيَّات الأمور أن يعتبرَ الشخصُ، السّاعي إلى الإصلاح في مجتمعِه، نفسَه صادقًا، وذا مروءةٍ وحَميَّة، مندفعًا في مبادرتِه لتقويم الخلل. فإن لم يكن متأصِّلا بهذه الصِّفات فهو خادعٌ نفسه قبل أن يخادعَ الناس.

ان مقومات أي اصلاح اجتماعي حقيقي صحيح، يبدأ بمراقبة كل امرء لنفسه ولصدق لسانه وتعامله مع الآخرين. وهذا يوجب على المخلص تقديم النصيحة لأخيه اولاً عملاً بمبدأ حفظ الاخوان. ان قاعدة ادب الدين قبل الدين هو الأساس في الشرع التوحيدي وهو ادب الحياة أما اللسان الذي اعتاد المراوغة واستحسان الخداع يكون آفة كبيرة للنفس التي تصير اولى ضحاياه باعتيادها الكذب المؤدي بها الى اغتراب خطير.

فانتقاد الخطأ او التقصير يجب ان يكون قد استند الى وقائع قائمة فعلاً، اما إذا ارتكز على الاغلاط والشبهات والاوهام والظنون، فيكون في حقيقة الامر أكثر سوءاً لأنه يكون منطلقاً من دوافع الحقد والضغينة.

النهضويُّ في مجتمعه يجب أن يتحلَّى بمزايا الصِّدق والصَّراحة والشجاعة الأدبيَّة، انّ أصول احترام الآخَر والتعامُل في مسائل الشأن العام بشكلٍ يقدِّمُ الدلالات على أنَّ المطالبة بالإصلاح متأتية من رؤيةٍ جدّيَّة وواضحة وقويَّة الحجج في الحقول التي تتناولها، يتطلَّبُ بعض الأمور كي يؤتي ثمره في خدمة المصلحة العامَّة، ومن أهمِّها التعاون والتواصُل والبحث الدائم والدؤوب عن نقاط مشتركة من أجل البناء عليها لتحقيق الأهداف المرجوَّة. فإن لم يكن ذلك كذلك، فهو التعطيل والمقاطعة وتكريس الانقسامات وما شابه، وهذا يقود إلى أوضاع عبثيَّة الكلُّ فيه خاسر، وبالتالي، تتحوَّل المطالبة بالإصلاح إلى نقيضها، بل إلى ما هو أسوأ. فليست المسألة هي في ممارسة نشاطٍ عقيم يتغلَّبُ فيه حبّ الظهور على الغايات المفيدة، ويطغى فيه حبُّ الكلام من أجل تمتين علاقاتٍ عامَّة محدودة على حساب القيام بخطواتٍ حقيقيَّة، وإنجازاتٍ فعَّالةٍ تخدم النَّهضةَ المطلوبة من أجل مصالح المجتمع والوطن.

هذه من الحقائق التي يجب أن لا تغيب عن بالنا جميعًا في هذا المجال، ويكفي لكلِّ ذي ضمير الوقوف مليّا أمام الحقائق والوقائع، وبالتجرُّد التام عن كلّ عصبيَّةٍ وفئويَّةٍ وضغائن مكبوتة، ليكون الصّدق هو النهج القويم تجاه الذات وتجاه الآخرين، وهو الدلالة على النوايا الصادقة، وهو التعبير الناجع عن نيَّة الخير لكلِّ من يريد أن يدلي بدلوه في مواضيع الشأن العام. والله سبحانه وتعالى عليمٌ بذات الصدور.

اللهم قدّرنا على معرفة الحق واتباعه والدرء لعكسه واجتنابه.

سليمان بدور

الصحيفة التي رافقت نضال العرب وكانت منبراً لمشاهير كتَّابهم

تكريم الصحافي الراحل سليمــان بدور
والــدور التاريخـــي لصحيفـة “البيـــــــان”

نجيب البعيني: سليمان بدُور رفض بشدّة عرضاً من فرنسا بالسماح بدخول “البيان” إن هو قبل بمهادنتها

شوقي حمادة: أمثال سليمان بدور اغتربوا ليبقى لبنان مقيماً.. وكم من مقيم هنا يسعى ليجعل لبنان مغترباً!

حليم فيّاض:صحيفة “البيان” رافقت أحداث المنطقة ولعبت دوراً في توجيه الجالية الدرزية الأميركية والمحافظة على تراثها

شهد لبنان منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين موجات هجرة متتالية لشبانه الذين عرفوا طريق البحر إلى القارات الجديدة في الأميركيتين بصورة خاصة. كانت أسباب الهجرة أكثر من أن تعدّ، لكن من أهمها آثار الحرب الكونية الأولى وما رافقها من ضائقة شديدة على السكان أوصلت الكثيرين منهم إلى حافة الجوع والعجز عن تأمين القوت، لكن كانت هناك أيضاً الآثار المباشرة للاحتلال الأجنبي لمعظم ولايات الدولة العثمانية التي أزيلت عن الخريطة وقد كانت بلاد الشام وبصورة خاصة سوريا ولبنان تزخر بالأفكار الوطنية ومعاداة الأجنبي، وظهرت الأحزاب الاستقلالية والنهضوية وحركات المرأة، كما برزت الدعوة القومية العربية ومهّدت تلك المناخات لأحداث كبيرة كان أهمها الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش في العام 1925.
في ظل تلك المناخات برزت ظاهرة الصحافة المهاجرة وازدهرت لتصبح في وقت من الأوقات المُعبِّر الحقيقي والأهم عما يختلج في الشرق العربي من حركات وتيارات وأفكار وحياة سياسية، وقد استفادت صحافة المهجر من وجود نخبة من الكتاب والمفكرين المقيمين في الخارج كما استفادت من قوة الجالية العربية خصوصاً في البرازيل والأرجنتين ومن مناخات الحرية التي كانت متوفرة في المهاجر، فصدرت عشرات المجلات والصحف التي كانت تنقل أخبار الوطن للمغتربين وتنقل أخبار المغتربين أيضاً وتهتم بالقضايا الوطنية والإجتماعية والثقافية. بين هذه الباقة من صحف المغتربات برزت جريدة “البيان” التي أسسها صحافي لامع من بعقلين هو سليمان بَدُّور كأبرزها وأشهرها وأوسعها نفوذاً. واستمرت الصحيفة في لعب دورها البارز طيلة مرحلة العشرينات والثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، فرافقت نضالات التحرر من المحتل الأجنبي ثم مرحلة الاستقلال وانطلاقة الحياة السياسية، كما لعبت صحافة المهجر وكتاب المهجر ومثقفوه دوراً مهماً في إحياء الثقافة العربية وتحفيز الإبداع الأدبي والشعري فتأسست رابطات أدبية وثقافية مثل “الرابطة القلمية” و”العصبة الأندلسية” وبرز في المهجر أعلام كبار منهم ميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي ورشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) ونعمة الله الحاج ونسيب عريضة ورشيد أيوب وعبد المسيح حداد وندرة حداد وغيرهم كثيرون..
لكن على الرغم من الدور الكبير الذي لعبته صحافة المهجر وكتّابه فإن الكثيرين من أبناء الجيل الحالي لا يعرفون الكثير عنهم، إلا أن المناسبة أتيحت وافرة للتعرف على بعض جوانب هذا الفصل من تاريخنا الثقافي والوطني عندما دعا مجلس إنماء قضاء الشوف والمكتبة الوطنية في بعقلين إلى تكريم الصحافي الراحل سليمان بدُّور (توفي في العام 1941) مؤسس جريدة “البيان” في الولايات المتحدة في العام 1910 والتي لعبت في ما بعد دوراً كبيراً في حركات الاستقلال في لبنان وسوريا بصورة خاصة وقد استمر سليمان بدُّور في دوره الريادي هذا حتى وفاته.
وُفِّق منظمو الندوة في اختيار الأشخاص المحاضرين الذين، من دون تنسيق بينهم، نجحوا في اجتناب التكرار فساهمت مداخلة كل منهم في إضافة ضوء مختلف على تاريخ الرجل وشخصيته ومساهمته ودوره ودور صحيفته (البيان) في تاريخنا الفكري والوطني بحيث خرجنا في النهاية بعرض متكامل ومفيد ومؤثِّر.

المشاركون في التكريم ويبدو من اليمين أسعد زيدان ، شوقس حمادة، جان داية، غادة العريضي، حليم فياض ونجيب البعيني
المشاركون في التكريم ويبدو من اليمين أسعد زيدان ، شوقس حمادة، جان داية، غادة العريضي، حليم فياض ونجيب البعيني

نجيب البعيني
الأستاذ والمؤلف نجيب البعيني لفت إلى أنه “كان في الخامسة من عمره عندما توفي سليمان بدّور صاحب جريدة “البيان” النيويوركية في سنة 1941 مشيراً إلى أن جريدة “البيان” أصبحت في وقت قصير” لسان حال المجاهدين والمناضلين في الوطن وبلاد الإغتراب طوال ثلاثين سنة متواصلة. خلال تلك المدة كانت الجريدة منبراً للأفكار الحرّة وأداة لمقاومة الاستعمار الفرنسي لسوريا ولبنان.
وأوضح البعيني أن جريدة “البيان” اعترضتها صعوبات جمة، فنية ومادية وسياسية لكن صاحبها “ظلَّ مثابراً مكافحاً مناضلاً مكابراً على صدورها في أوقاتها المحدّدة وديمومتها حتى لقّبه بعض أصحابه وزملائه: بـ”الجبل الذي لا تهزه الرياح”. وأضاف في وصف الرجل نقلاً عن الذين رافقوا مسيرته بأنه “كان رجلاً فذاً مقداماً، صدوقاً إذا صادق وفياً إذا عاهد، عنيداً لا يتزحزح إذا آمن بعقيدة أو موقف، كما إنه كان “عفيف اللسان قوي الجنان لا يسخّر قلمه لأحد، ولا يخشى في نصرة الحق والعقيدة لومة لائم، وكان كثير الأصحاب والأصدقاء قليل الأعداء، وإذا قام بمشروع وطنيّ أو بمشروع خيري، تكون “البيان” فاتحة صفحاتها حاملة هذا المشروع على كتفيها، إكراماً لوجه الله من دون مقابل أو مال يُذكر”.
وأضاف البعيني القول: إن جريدة “البيان” رافقت كل الأزمات التي حصلت في البلاد العربية فانحازت إلى العثمانيين إبان الحرب العثمانية- الإيطالية، والحرب التركية، البلقانية، إدراكاً من صاحبها سليمان بدور أن ضعف العثمانيين هو ضعفٌ للمسلمين أولاً، وللعرب ثانياً. لكنه تحول إلى معارضتهم والمطالبة بجلائهم عن أرض العرب عندما رأى من مظالم الطورانيين وأنصار التتريك وشراستهم في التعامل مع أماني العرب بالكرامة والحرية.
وبعد ان تقلّص ظل تركيا على البلدان العربية، صارت “البيان” في ركب السياسة الوطنية المتحررة حين اندلعت الثورة العربية السورية الكبرى في جبل الدروز سنة 1925. شرّعت “البيان” صدر صفحاتها لنداءات قائد الثورة العربية الكبرى سلطان باشا الأطرش وأخوانه المجاهدين الميامين، كما إنها شحذت همم المغتربين على مد يدّ المساعدة والعون للمجاهدين وفتحت صفحاتها لنشر الأنباء عن تبرعات المغتربين من أجل مساعدة منكوبي الثورة ومد أبنائها بالمال. ونقل البعيني حادثة عن المغترب البتلوني نايف خطار قيس تبيّن مدى صلابة سليمان بدور في مواقفه المتحررة، إذ كانت السلطات الفرنسية منعت دخول “البيان” إلى لبنان وسوريا فتأثرت مبيعاتها ولاقتصعوبات مالية، عندها وحسب المغترب قيس فقد تبّرع هو للإتصال بالمؤرخ سليمان أبو عز الدين للتوسط مع السلطة المنتدبة التي أكّدت أنها سترفع المنع وتؤمن سليمان بدور على شخصه في حال بدّل سياسته المعادلة لفرنسا. لكن عندما عرض قيس الموقف الفرنسي على صاحب «البيان» كان جوابه على الفور: “إنني أنا و«البيان» نفضّل الموت، ولا أغيّر من سياستي ولا أبيع ضميري بالفرنكات الفرنسية».
واستغرب نجيب البعيني استمرار غياب أعداد «البيان» عن قاعدة بيانات مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت رغم توافرها في الولايات المتحدة وفي جامعة SOAS في لندن، رغم أهميتها للدارسين والباحثين مذكراً بأنه طالب الجامعة الأميركية بذلك منذ 30 عاماً لكن من دون نتيجة حتى الآن.
أخيراً طالب البعيني بطبع مذكرات سليمان بدور وطبع أعداد جريدة البيان لتكون في متناول الجميع ولاسيما الباحثين وطلبة الجامعات.

‘دد من صحيفة البيان صادر فيالعام 1929
‘دد من صحيفة البيان صادر فيالعام 1929

الأستاذ شوقي حمادة
الأستاذ اللغوي شوقي حمادة بدأ مداخلته بالإشارة إلى أنه “ما من صحيفة عربية، ظهرت في بسيط الأرض، إلاّ كان مؤسسها لبنانياً (مع إستثناءات نادرة والنادر لا يقاس عليه) ولم يكن النهضويّون اللبنانيون، روّاد الصحافة وحدها بل كانوا روّاد العلوم واللغة والترجمة والنقل والتجديد الأدبي في المشرق العربي كلّه” ونوّه حمادة بروّاد الإغتراب والفكر المهجري من أمثال سليمان بدور واصفاً إياهم بـ “أسراب النسور، الذين ركبوا المجهول عبر البحار، وبنوا لأنفسهم مجداً وللبنان أمجاداً قائلاً: “هؤلاء اغتربوا ليبقى لبنان مقيماً.. وكم من مقيم هنا يسعى ليجعل لبنان مغترباً، ومرتهناً لولاءات غريبة عن لبنان الحضارة والثقافة والإنفتاح.
وقال حمادة: إن سليمان بدور الذي هاجر إلى الأرجنتين سنة (1907)، لم يحبّ كار التجارة وهو الغالب في تلك المهاجر، ورأى في الموقف والرأي والكلمة، ما يفوق المال والذهب والثراء”..فعاد إلى لبنان ومنه إلى نيويورك حيث اشترى امتياز جريدة “السهام” التي أسّسها ميخائيل جرجس الباشا سنة 1905، فأصدرها بإسم “البيان” سنة 1910، جريدة عربية حرة، شعارها الوطنية والحقيقة.
وذكر الأستاذ شوقي حمادة أنه “ما إن بلغت “البيان” يوبيلها الفضّي في 26 آذار سنة 1935، حتى تقدّم ملوك العرب، وأعيانهم من أهل الصحافة والطب والأدب والحرب والسياسة يهنئون ويباركون، وقال: «ألا يكفي ذلك في الإشارة إلى منزلة سليمان بدور إبن بعقلين الأعزّ، وفتى لبنان الأغرّ وسليل بني معروف الأمجاد؟ وقد مضى عليه مغموراً قرن كامل من الزمان»؟

حليم فياض
المحافظ الأسبق الأستاذ حليم فياض أشار إلى ولادة سليمان بدور في العام 1888 في ظروف صعبة كانت تعيشها المنطقة ثم اغترابه إلى الأرجنتين عندما أصبح في التاسعة عشر من العمر ليعود بعد عام واحد ويسافر إلى الولايات المتحدة الأميركية ويشتري في العام 1910 جريدة ناطقة باللغة العربية أسماها “السهام” وما لبث أن غيّر إسمها إلى “البيان” التي صدر العدد الأول منها في 24 كانون الثاني 1911، وكان سليمان بدور لا يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر. ولفت فياض إلى قيام الجريدة بنشر مقالات كثيرة عن الدروز والعرب وأنها كانت قفزة رئيسية في توجيه الجالية الدرزية الأميركية والمحافظة على تراثها.
من أبرز مراحل “البيان” الإحتفال المهيب باليوبيل الفضي لمناسبة مرور خمس وعشرين سنة على تأسيسها. وقد كان للدكتور رشيد تقي الدين اليد الطولى في ذلك، وقد بعث الملك السعودي عبد العزيز آل سعود بكسوة عربية قشيبة إلى صاحب «البيان». وتحدّث بعدها الخطباء والشعراء وصاحب اليوبيل الذي ألبسه أصدقاؤه الكسوة العربية “بين التهليل والإغتباط”.
وأشار فياض إلى توقف “البيان” عن الصدور بعد وفاة بدور في العام 1941 وتنادى عدد من أبناء الجالية الدرزية في الولايات المتحدة على رأسهم الوجيه المعروفي أمين داود فياض للإستمرار بإصدارها وعقدوا لهذا الغرض اجتماعاً أيدوا فيه متابعة إصدار الجريدة فسجّلت “البيان” بإسم أمين داود فياض الذي تابع مع شقيقه سعيد إصدارها حتى العام 1947 عندما تنازل أمين عن ملكيته في الجريدة الى لجنة من أبناء الجالية الذين استقدموا لرئاسة تحريرها الشيخ هاني أبو مصلح من لبنان وأقاموا مهرجاناً لها عام 1947.
وأخيراً في أوائل الخمسينات عادت ملكية الجريدة إلى محررها السابق راجي ضاهر الذي أعادها إلى نيويورك واستمر في إصدارها إلى عام 1970.
ولفت فياض إلى أن المعلومات التي يوردها مستقاة من كتاب وثائقي أصدرته الجمعية الدرزية الأميركية عن دروز أميركا في بداياتهم تضمن مجموعة قصص عن المهاجرين الأوائل بمن فيهم المرحوم سليمان بدور، شاكراً للجمعية جهودها.

جان داية
الكاتب والأديب والأستاذ جان داية ركّز في مداخلته على استعراض أسماء الكتاب والمشاركين في تحرير جريدة البيان وعلى إعطاء أمثلة عن طبيعة المواضيع والأخبار التي كانت تنشرها لافتاً إلى المشاركة البارزة للأمير شكيب أرسلان في مواضيعها ومقالاتها ابتداء من حزيران 1912 ونشاطه البارز فيها خصوصاً في العام 1925.
وأشار داية إلى مشاركة الدكتور رشيد تقي الدين في تحرير «البيان» وكان ما زال شاباً يدرس الطب في الجامعات الأميركية ومن كتاباته مقال عن “الحالة الحاضرة في لبنان” وسلسلة مقالات بعنوان “خطرات أفكار”، وأشار داية إلى ثلاثة مقالات كتبها سليمان بدور تعليقاً على انعقاد المؤتمر العربي في باريس في العام 1913 وكان أولها بعنوان “المسألة السورية” والثاني بعنوان “ماذا فعل المؤتمر؟” والثالث بعنوان “الإصلاح السوري” بعد ذلك امتلأت الصحيفة بأخيار الحروب التي اندلعت في العام 1914 والإفتتاحيات المتمحورة حولها كما لفت في صفحاتها الى المناظرات والردود المتبادلة بين ناشري عدد من المجلات المهجرية مثل “الهدى” و”السائح” و”مرآة الغرب”، ولفت أيضاً في تلك الفترة الى مشاركة كتاب كبار مثل ميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وجبران خليل جبران وفيليب حتي بمقالات في الجريدة.

مرتديا الكسوة الملكية التي أهداها إليه الملك عبد العزيز
مرتديا الكسوة الملكية التي أهداها إليه الملك عبد العزيز

الأديب أسعد زيدان
وتحدث الأديب المهجري البرازيلي الأستاذ أسعد زيدان عن مآثر المحتفى بذكراه، وأورد شهادة الأمير شكيب أرسلان به والتي جاء فيها “سليمان بدور عصامي من الطبقة الأولى، وهو أحد حاملي الوطن في قلوبهم، ورافعي علم العروبة فوق رؤوسهم، جعلوا من أقلامهم أشواكاً في عيون الخصوم، فهو من الأحرار أنصار الحق المبين”.
وأضاف زيدان أنه عدا عن شهادة الأمير الأرسلاني هنالك لائحة كبيرة بأسماء أدباء ومناضلين عرب كرام أشادوا في سليمان بدور ونضاله ورهنه حياته دفاعاً عن قضية أمته، منهم المؤرخ عجاج نويهض والأمير عادل أرسلان ومحمد علي الطاهر وفؤاد حمزه وغيرهم من الذين أورد أسماءهم أستاذنا الكبير شوقي حمادة.

د. نهى الغصيني
رئيسة بلدية بعقلين الدكتورة نهى الغصيني قدمت مداخلة قالت فيها إن من حق سليمان بدور، الكاتب والأديب والصحافي الفَذَّ أن يكرّم في بلدته بعقلين، وفخر واعتزاز لبعقلين أن تكرّمه وتباهي بإنتمائه إلى البلدة التي أعطت العباقرة في الأدب النثري والشعري وقد لمع من أفذاذها في الوطن ودنيا الإغتراب جمهرة من الراسخين في العلوم والأدب. وشكرت عائلة بدور المحترمة لتسليطها الضوء على سيرة الصحافي المبدع سليمان بدور الذي أضاف نجمة ساطعة في تاريخ بلدتنا الحبيبة”.
واختتم حفل التكريم بكلمة من آل بدور شكروا فيها منظمي الحفل على جهودهم معربين عن اغتباطهم لهذه البادرة التي تعيد لسليمان بدور بعض ما يستحقه من شكر وتقدير للدور الكبير الذي قام به في مرحلة حساسة من تطور لبنان وبلدان المنطقة.

زيارة البطريرك

لقاء كفرمتى بحضور الأمير طلال أرسلان

مشهد من اللقاء الأخوي

علـــى هــــدي مصالحــــــة الجبـــل فـــي العــــــام 2001

زيارة البطريـــــــرك الراعي لدارة شيـخ العقل تعزز وحدة الصــــــف الــــدرزي المسيحــــــــــــــــي

الشيخ نعيم حسن: ليس مسألةً عرَضيَّةً أن يبقى لبنان عبر القرون
فكرةً عصيَّةً على الأفول بالرّغم من كلِّ العابرين

البطريرك الراعي: في هذا الجبل كتبنا معاً تاريخ حياتنا المشتركة
والرجولة والبطولة هي أنّكم طويتم الصفحة

إستقبل سماحة الشيخ نعيم حسن، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز في داره في البنية صاحب الغبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي يرافقه رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر وكان في استقباله إلى جانب سماحة شيخ العقل، الوزير أكرم شهيب وقضاةُ المذهب الدرزي، ورئيسُ محكمة الاستئناف القاضي فيصل نصر الدين، ومشايخُ الطائفة وفي حضور النواب فؤاد السعد، فادي الهبر، هنري حلو، رئيس الصندوق المركزي للمهجرين العميد نقولا الهبر وحشدٌ من الفعاليات والأهالي. توزّعت صور البطريرك الراعي واللافتات المُرحِّبة به على طول الطريق المؤدّية إلى البلدة وفي أرجائها، بما يكرِّس فعلاً عهود المصالحة في الشحّار الغربي عامةً وكفرمتى خاصةً.

كلمة سماحته
وبعد كلمة ترحيب من رئيس بلدية البنية الأستاذ فارس جابر رحّب سماحته بالبطريرك الراعي بكلمة مؤثِّرة قال فيها: “شرَّفتُم دارَكُم صاحبَ الغبطة. من هذه الأرضِ خبزُنا ومِلحُنا، ومن هذا الجبل ماؤنا وهواؤنا، وبخيراتِه لمْ تَقْوَ أجسادُنا وحسْب، بل تغذَّت أرواحُنا من نسائم الحرِّيَّة والكرامةِ وهِبةِ الحياة. لم يؤذِ الجبل عبر التاريخ إلا مصالح الدُّوَل الطامعة وسياساتِها. وليس مسألةً عرَضيَّةً أن يبقى لبنان عبر القرون فكرةً عصيَّةً على الأفول بالرّغم من كلِّ العابرين».
وتابع سماحته: “كلُّ لقاءٍ طيِّبٍ بين مكوِّناتِه هو لبنان. هذا هو الوطنُ شراكةُ القِيَم، ورسالةُ اللقاء الإنسانيّ الّذي يؤتي ثماره بالمحبَّةِ. دستورنا هو العيش المشترك. تشريفكم للقاء الأهل هو تعبيرٌ عن الإرادةِ الوطنيَّة التي لا يكون لبلدنا خلاصٌ إلا بها. نُقدِّر عالياً دورَكم اليوم باختتام جرح الشحّار وكفرمتى تكملةً لمسيرة العيش المشترك التي رعاها سلفُكم صاحب الغبطة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير ومعالي الأستاذ وليد بك جنبلاط. ونحنُ وإيّاكُم نلتقي دائماً على الثوابت التي تعبِّرُ عنها القِممُ الروحيَّة التي بها روح بلدِنا الغالي”.
وأضاف: “دعـنا يا صاحبَ الغبطة نرحِّبُ بكُم في فُسحة الضوءِ هذه التي ينيرُها اللقاءُ بكلِّ معانيه دون المزيد من الخوض في الشأن العام. دعـنا نعيشُ فرحَ هذه الهُنيهة لنوجِّهَ رسالتَـنا إلى كلّ اللبنانيّين وهي رسالة المحبَّة والمشاركة تحت سماءِ بلدٍ خصَّهُ اللهُ تعالى بجمال الأرض وجمال اللقاء والتعارف الإنسانيَّيْن. دعـنا نقول سويّاً بقـلبٍ مؤمِن أنَّ لبنانَنا باقٍ على رسالتِه مهما اشتدَّت العواصفُ، وأنَّ إيمانَنا به هو من معدِن إيمانِنا بالقيَم الساميَة التي نستمدُّها من الرِّسالات السَّماويَّة بعيداً عن كلِّ تعصُّبٍ وافتـِئات.

البطريرك الراعي
ثم تحدّث البطريرك الراعي فقال: “أشكركم سماحة شيخ العقل للصداقة الرُّوحيّة والإنسانية العميقة التي تشد بيننا منذ أن تعارفنا، يسرّنا هذا الاستقبال في دارتكم الكريمة، ونُحيّيكم خاصة وأنّ شعار البيت المِلك لله، وقد شعرنا بالحقيقة أنّنا في بيتنا”.
وأضاف: “إنّ هذا الجبل كما قلتم ماؤنا وهواؤنا، ونقول هو قلبنا النابض، وهو عمود فقري للحياة اللبنانية والكيان اللبناني، وهذا الجبل عليه كتبنا معاً كلّ تاريخ حياتنا المشتركة ولذلك فعل الإيمان اليوم هو الإلتزام بمسؤوليتنا المشتركة لأنكم في الجبل كنتم القدوة، كيف طويتم الصفحة السوداء. وأعتقد أنّ الجبل مرّ بخبرة مُرّة للغاية، ولكن الرجولة والبطولة هو أنّكم كلّكم طويتم الصفحة وعشتم جمال هذه المصالحة ونحن نواصل هذا الطريق، لكن ما أودُّ أن أقوله إنّكم كنتم سبّاقين في بدء صفحة جديدة، وجمال المصالحة أن نبدأ صفحة جديدة. ننسى الماضي وننطلق للمستقبل، ننسى الماضي لكن يظل عِبرة لنا بعدم العودة إليه. لكنّنا نبني المستقبل وهذا ما فعلتم وهذا ما رأينا بأُمّ العين في كلّ الرعايا والبلدات التي زرناها وأنا سعيد جداً أنّ معظم هذه البلدات هي بلدات فيها أخواننا الموحّدون الدروز. أنا أشكر سيادة المطران بولس مطر لأنّه أراد أن نبدأ هكذا. لذا نقول نحن في بيتنا، نحن في هذه الأخوّة الوطنية، وفي هذه المسؤولية التاريخية التي ينبغي علينا نحن كذلك أن نحملها معاً.
وأردف الراعي: “فرحتنا كبيرة اليوم أننا التقينا ولكن نلتقي وفينا الغصّة التي ذكرتموها والتي أنا أيضاً بإسم هذا الجمهور معكم نُجدِّد الدعوة للجماعة السياسية لنقول لهم تمثّلوا بأبناء الجبل، أبناء الجبل تصالحوا، أبناء الجبل نسوا الدماء، أبناء الجبل طووا الصفحة، اطووا الصفحة، اطووا الصفحة، يكفي اطووا الصفحة، تصالحوا، تقاربوا، احموا هذا الوطن. أنتم في الجبل تصالحتم حُبّاً بهذا الجبل، حُبّاً بالعيش معاً، حُبّاً بحفظ تاريخنا المشترك الجميل وكذلك ينبغي على الجماعة السياسية أيضاً القيام به حُبّاً بلبنان، لبنان الكيان ولبنان الشعب، لبنان المؤسّسات، لبنان التاريخ، لبنان الرسالة. إذا آمنا فعلاً بهذا الوطن أنّه فوق كلّ شيء وفوق الجميع لا شيء يمكن أن يقف أمام المصالحة”.

أيها السياسيون : احترموا الشعب!
وقال: “نحن نُحيّي من هنا كلّ أصحاب الإرادات الطيّبة، كلّ الذين يسعون فعلاً من أجل هذه الغاية ونحن نطالبهم ونقول لهم الشعب يثق بكم كونوا على مستوى ثقة الشعب بكم. وأقول الشعب يحترم السلطة السياسية يحترمهم ويقدرّهم ويعزّهم وهم يعرفون، وأنا أقول ينبغي عليكم أنتم أن تحترموا الشعب أيضاً، أن تُحبّوا الشعب أيضاً وأن لا تستهتروا بشؤونه أيضاً. وأضاف القول: يؤلمنا هذا المشهد المُذل بالنفايات، التي أيضاً تذلنا بكرامتنا الوطنية وبجمال هذه الأرض الجميلة، لكن يؤسفنا أيضاً أنّ كلّ المبادرات وخصوصاً المبادرة الرسمية التي تكلّف بها الوزير شهيب. وقال: نحن شعب فيه سمو وقِيَم وتاريخ وحضارة وثقافة، لذلك نحن نرجو ونأمل أن يتحمّل المسؤولون مسؤولياتهم التاريخية. ووجدتُ دارتكم الكريمة يا سماحة الشيخ أفضل مكان لقول ذلك وأمام هذا الحضور. ولا بدّ من القول إنّ إيماننا عظيم بلبنان، إيماننا عظيم بالجبل، سبحانه وتعالى يُلهمنا أن نمشي إلى الأمام.

جولة رعوية واسعة
جاءت زيارة البطريرك الراعي لسماحة شيخ عقل الطائفة في إطار جولة رعوية واسعة في منطقة عاليه، قام خلاها بدايةً بزيارة مركز جمعية الرسالة الاجتماعية في مدينة عاليه المدينة، حيث رحب به وزير الزراعة اكرم شهيب وكانت كلمة للبطريرك قال فيها: “أُحيّي أخوتنا الموحّدين الدروز لأنّ لهم فضل في تاريخ لبنان مع الموارنة. كلّنا مسؤول ولمسؤولياتنا جذور تاريخية لذلك علينا أن نعمل معاً». وزار البطريرك كنيسة مار جرجس للروم الأرثوذكس في عاليه.
كما انتقل البطريرك إلى بلدة بيصور حيث كان في استقباله عند مدخل البلدة فرقة من الخيّالة ترفع الأعلام اللبنانية تقدّمت الموكب إلى حين الوصول إلى مبنى الرابطة الثقافية الرياضية، حيث استقبله إلى جانب المشايخ والفاعليات النائب غازي العريضي. وحيا الراعي في كلمته في بيصور القيادات السياسية ولا سيما النائبين وليد حنبلاط وطلال ارسلان وجميع ابناء المنطقة «على الوحدة والتعاون الذي تعيشونه».
وفي إطار جولته الرعوية تفقد البطريرك عدداً من القرى منها شملان وعيناب وعين كسور ودفون ومجدليّا وتفقد في مجدليا كنيسة مار تقلا المارونية التي يعاد بناؤها وترأس قداساً في كنيسة رمحالا كما اجتمع بأهالي كيفون في حسينية البلدة وألقيت كلمات شددت على الوحدة وأهمية الحفاظ على لبنان وطناً للجميع.

لقاء في كفرمتى
وانتقل البطريرك الراعي إلى بلدة كفرمتى وفي دارة الشيخ نصر الدين الغريب وكانت بادرة رمزية استهدفت تكريس المصالحة التي تمت بين المواطنين المسيحيين والدروز في البلدة، وألقى وسط حشد ضمّ رجال الدين والوزير أكرم شهيب والأمير طلال أرسلان كلمة حيّا فيها “مصالحة الشجعان والأبطال” مشيراً إلى «أن الأبطال دائماً يتصالحون” وداعياً الى تجاوز الماضي.
وألقى الأمير طلال ارسلان كلمة قال فيها: هذا اللقاء التاريخي يأتي تتويجاً صادقاً لسلسلة المصالحات في جبلنا اللبناني. هو لقاء العودة الى الجذور الوطنية والإنسانية والتاريخية. بعد ذلك توجه البطريرك الراعي الى كنيسة مار الياس في كفرمتى.

لقاء في عبيه
بعد كفرمتى انتقل البطريرك الى عبيه حيث كان لقاء جامع بين أبناء البلدة مسيحيين ودروزاً كما انتقل الى رحاب مقام الأمير السيد عبد الله التنوخي حيث كان في استقباله الشيخ سعيد فرج وممثل شيخ العقل الشيخ غاندي مكارم.

الرمّان غذاء ودواء

طــوّره الفـــــرس وزرعـــــه المصريـــــون
ونقلـــــه العـــــرب إلـــــى الأنـــــدلس

الرمان الأفغاني يكتسب شهرة و”كارفور” تبيعه خليجياً

زراعة الرمان اقتصادية وسهلة وأهم أوجه العناية به
هي الري والتقليم والتفريد والوقاية من الآفات

شجرة الرمان قديمة العهد جداً في لبنان وبلدان المشرق وقد عرفها الأجداد على الأرجح في نفس الفترة التي عرفوا فيها التين والزيتون والعنب والنخيل، وقد ذكرت هذه الفاكهة جميعها في القرآن الكريم وفي الكتب المقدسة، وغرسها القدماء المصريون في حدائقهم وكان إسمها لديهم (أرهماني) ومن هذا الاسم اشتق الإسم العبري «رمون” والإسم العربي رُمّان و«رُمّانة»!!.
في لبنان كان الرمان من أشجار الحديقة لكنه وبسبب شح الماء فقد عومل مثل التين والزيتون وغالباً ما كان يزرع إلى جانبهما في الجلول الجبلية المدرجة بالقرب من البيوت، ونادراً ما كنا نرى الرمان مزروعاً كمحصول اقتصادي، لأن الحيازات كانت دائماً صغيرة ولأن الزيتون كان هو لأسباب تاريخية «ملك» البساتين والزراعات الجبلية ربما إلى جانب الحبوب والقمح والأعلاف في زمن تربية الماشية والاقتصاد المنزلي المستند إلى الاكتفاء الذاتي في الغذاء.
ولا يزال الرمان في لبنان زراعة إنتقائية وغير منتشرة كمشاريع اقتصادية لكن بسبب الطلب المتزايد عليه فإننا نجد توجهاً متزايداً من المزارعين إلى الاستثمار في الرمان كزراعة اقتصادية، وقد ساهم الانتشار المتزايد لاستخدام دبس الرمان في الإقبال على زرع الشجرة كما أدخلت مع الوقت إلى جانب الأنواع البلدية المعروفة مثل اللفاني والحامض والحلو أنواع جديدة مثل الفرنسي وغيره من الأنواع المرغوبة بسبب إنتاجها لنسبة عالية من العصير  وبسبب صغر «الرز» أي «البذور» في حب الرمان بالمقارنة مع الأنواع البلدية.

فما هي شجرة الرمان وكيف نزرعها ونستفيد من إنتاجها وما هي العوامل البيئية والزراعية التي يجب مراعاتها للحصول على إنتاج وفير  وعلى النوعية؟

الشجرة الجميلة
تتصف أشجار الرمان بمنظرها الجميل خصوصاً عندما تكون منتجة، اذ نرى أن الثمار متدلية على رؤوس فروع وأغصان الشجرة، أما ثمرة الرمان فهي شهية وجميلة الشكل من داخلها وخارجها، إضافة إلى فوائدها الغذائية المميزة من فيتامينات ومعادن ومضادات للأكسدة. الرمان شجرة صغيرة متساقطة الأوراق، يتراوح إرتفاعها ما بين 3 الى 4 أمتار.
تبدأ اشجار الرمان بالنمو الخضري خلال شهري آذار ونيسان حسب الإرتفاع عن سطح البحر وتستمر في النمو حتى أواخر فصل الصيف. براعم الرمان من النوع المختلط وتظهر البراعم الثمرية اكثر من مرة على جوانب خشب الفروع القديم أو على أفرع عمرها سنة، تتفتح البراعم لتنمو عليها فروع خضرية قصيرة تحمل في اطرافها عدة أزهار (من زهرة الى 5 زهرات). اما لون الأزهار فهو أحمر زاه، وتظهر هذه الأزهار على شكل اسطواني ذات مدقات طويلة المياسم التي تحمل أكياس حبوب اللقاح أطول من المدقات مما يؤدي الى تساقط حبوب اللقاح بداخلها ويتم التلقيح ذاتياً. ومعظم هذه الأزهار تعقد وتعطي الثمار التي تكون كبيرة الحجم وذات صفات جيدة ومبكرة في النضج، وهناك أزهار تظهر على الطرود الحديثة للسنة الجارية وهذه المجموعة تنتج ثماراً متأخرة تكون ذات حجم صغير لأنه لا يتاح لها المجال للنمو والنضج بسبب بدء تقلب الأحوال الجوية وانخفاض الحرارة خصوصاً في أواخر الصيف وأوائل الخريف، كما يظهر على اشجار الرمان نسبة من الأزهار العقيمة التي تكون على شكل جرس وتظهر بهذه الأزهار المدقات ومياسم أقصر من المدقات، والسبب في عقم هذه الأزهار أن البويضات غير تامة ومختزلة.
تنمو فروع الرمان على الجذع بدءاً من مستوى سطح التربة، نموها سريع مُكَونة عدة سوق وفروعاً تنحني للخارج وكثيراً ما تتدلى إلى الأرض، الأوراق رمحية الشكل كاملة لامعة من السطح العلوي ومتقابلة على الأفرع.

جلنار وثمار
الإسم العلمي للرمان: Punicagranatum أما زهرة الرمان فتسمى في الفارسية بـ (جُلنار). وقد استحسن كثيرون التسمية ورمزيتها فأطلقوا الإسم على طفلاتهم الإناث تيمناً بجمال الزهرة وخصوبة شجرة الرمان.
التصنيف النباتي للرمان: الرمان نبات يتبع العائلة الرمانية ويوجد منه نوعان فقط، الأول هو النوع المعروف الذي تؤكل ثماره، والنوع الثاني هو الرمان التزييني الذي يزرع في الحدائق العامة والخاصة والهدف منه التزيين فقط وذلك لأنه يعطي أزهاراً جميلة جداً ومتتالية أي يعطي عدة أفواج من الأزهار ويبقى مزهراً طوال فصل الصيف تقريباً.

زراعة اقتصادية
تندرج أهمية الرمان الاقتصادية في القيمة الغذائية العالية حيث إنه جيد ومقوي للمعدة، نافع للحلق والصدر والرئة، جيد للسعال، وعصير الرمان ملين للبطن ويقدّم للجسم غذاء سهلاً وسريعاً، هذا في الأصناف الحلوة. أما في الأصناف الحامضة التي تكون فيها المادة القابضة لطيفة وسلسة فإن ثمار الرمان تعالج المعدة الملتهبة وتدرّ البول وتسكن الصفراء وتقطع الإسهال وتمنع القيء وتقوي أعضاء الجسم. تتميز ثمرة الرمان بحبوبها الحمراء اللؤلؤية، وأزهارها الحمراء. ويضم الرمان ثلاثة أنواع هي: الحلو والحامض واللفاني الذي يجمع بين الحامض والحلو.

” مهما كان معدل الأمطار عالياً فإن الأشجار المثمرة تبقى في حاجة الى الماء خلال بداية نموها أي في فصل الربيع وخصوصاً شـهر ايار “

الرمان زراعة منتجة ومرحبة إذ عومل جيدا
الرمان زراعة منتجة ومرحبة إذ عومل جيدا

المتطلبات البيئية للرمان
يتأثر نجاح زراعة الرمان بالمناخ حسب المنطقة المنوي الزراعة فيها، إذ تجود زراعته في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية حيث تتوفر الحرارة والجفاف، كما إن أشجار الرمان تنمو جيداً في المناطق المعتدلة والحارة نوعاً ما، وينمو الرمان في ظروف مناخية وبيئية عديدة مثله مثل أشجار التين والزيتون والكرمة. وأهم هذه المتطلبات البيئية والطبيعية لزراعته هي التالية:
1. الحرارة: تنجح زراعة أشجار الرمان إذا توفرت الشروط المناخية التي تحتاجها، حيث تفضل الشجرة الظروف شبه الإستوائية، ويكون نموها وإنتاجها جيداً إذا كان فصل الربيع معتدلاً ولا تنخفض حرارته عن 12 درجة مئوية، وفي فصل الصيف تفضل ان يكون حاراً، أما فصل الخريف فجافاً ودافئاً نوعاً ما.
2. الضوء: إن أشجار الرمّان مُحبة للضوء الذي يكسب الثمار لوناً جيداً وطعماً مميزاً لأنه يساعد الثمرة على تحويل المواد البكتينية إلى سُكَّريات آحادية.
3. التربة: تنجح زراعة الرمان في مختلف انواع الأتربة مثل الطينية الرملية والأراضي الحجرية والطميية وغيرها شرط ان تكون خصبة – عميقة وجيدة الصرف، ولا تنمو في الأراضي التي تصرف مياه الأمطار مثل المستنقعات والأرض المالحة.
4. الماء: ينمو الرمان في الأراضي الجافة نسبياً، لكن من أجل تأمين النمو الجيد والإنتاج العالي يجب ري الرمان خصوصاً عندما ينخفض معدل الأمطار عن 600 ملم، لكن من المهم جداً ان يعلم جميع مزارعي الأشجار المثمرة انه مهما كان معدل الأمطار عالياً فإن الأشجار المثمرة تبقى في حاجة الى الماء خلال بداية نموها اي في فصل الربيع وخصوصاً شهر ايار.

إكثار الرمان
يتم إكثار الرمان بعدة طرق هي:
1. البذور: من الصعب جداً استخدام هذه الطريقة لصعوبة فصلها عن لحاء الثمرة وتحضيرها للزرع، لكن تستخدم هذه الطريقة عند الحاجة لإنتاج أصناف جديدة ذات مواصفات معينة لاستخدامها في الحصول على هجين جديدة.
2. التطعيم: يمكن استخدام هذه الطريقة عند تغيير صنف رديء بآخر ممتاز، أو إنتاج أصناف جديدة جيدة على أصول بذرية المنشأ غير جيدة الصفات لكنها طريقة مجهدة وصعبة لذا لا تستخدم كثيراً، ويتم التطعيم بالقلم في شهر آذار، أو بالعين البرعمة في شهري تموز وآب.
3. الترقيد: يتم إختيار طرود طويلة نوعاً ما وتكون نامية في منطقة الجذع وقريبة من الأرض. يحفر خندق بطول حوالي 50 سم وعمق 20 سم تقريباً ثم يحنى الطرد المختار ويدفن طولياً على أن يترك متصلاً بالنبات الأم لمدة سنة، ثم يفصل عن الأم في شهر شباط ثم يزرع مباشرة في الأرض المستديمة.
4. الفسائل: وهي أكثر الطرق شيوعاً في إكثار الرمان عند المزارعين، حيث تفصل الفسائل عن جذوع الأشجار بقواعد صغيرة من خشب الجذع مع القليل من الجذور، تزرع في منتصف الشتاء حيث تبدأ الاندفاعات الجذرية منها بكثرة في أواخر الشتاء وأوائل الربيع.
5. العُقَل: التكاثر بالعقل هي الطريقة الأمثل والأكثر انتشاراً في العالم خصوصاً في المشاتل المتخصصة، وتستخدم هذه الطريقة عند الراغبين في إكثار أكبر عدد ممكن من نباتات الرمان، حيث تؤخذ العقل من الفسائل التي نمت على جذع شجرة الرمان ومن الطرود المقلمة الناضجة منها، أو قد تؤخذ من خشب قديم ناضج عمره أكثر من سنة ولا يقل طول العقلة عن 25 – 30 سم، وقد تكون أطول من ذلك عند الزراعة مباشرة في أرض رملية أو خفيفة.

زهرة-الرمّان---الانتفاحة-في-أسفلها-تمثل-الثمرة-قبل-نموها
زهرة-الرمّان—الانتفاحة-في-أسفلها-تمثل-الثمرة-قبل-نموها

زراعة الرمان في المشتل
يتم غرس العقل في المشتل في شهر آذار على خطوط رطبة ومخلوطة بالسماد العضوي لتسهيل عملية دفع الجذور، يبعد الخط عن الآخر حوالي 60 سم وتكون المسافة بين العقل 25 سم على نفس الخط، ومن المفضل غرس العقل مائلة بمحاذاة الخط ولا يظهر منها فوق سطح التربة سوى البرعم الطرفي.
يجب ري العقل المزروعة رياً غزيراً ثم عند الحاجة بحيث لا تترك الأرض لتجف تجنباً من جفاف جذورها الرخصة والصغيرة، إذ إن وفرة الري المعتدل في الأطوار الأولى من النمو تساعد على تكوين جذور ونباتات جيدة وقوية، كما يجب التخلص من الحشائش التي تنمو خلال فصلي الربيع والصيف، وقد وجد من خلال الأبحاث أن عقل الرمان القوية والتي يتراوح سمكها ما بين 10 – 15 مم أنتجت نباتات قوية كما كانت نسبة إنباتها ما بين 96 – 100%.

إنشاء بستان الرمان
قبل زرع الأشجار، يجب تنفيذ عدة أعمال أهمها: بعد إختيار الموقع المناسب لزراعة الرمان من حيث صلاحية الارض للزرع، عمق التربة، جودة الصرف، الغنى بالمعادن والمواد الغذائية، قرب الارض من طريق زراعية وإلا يتم شق الطريق لتسهيل الاعمال الزراعية.
1. نقب الأرض: إن موعد النقب يكون خلال شهري آب وايلول قبل هطول الامطار لضمان عدم استمرارية النباتات البرية وعدم تكتل التربة في حالة الرطوبة المرتفعة. تنقّب الأرض على عمق 70 الى 90 سم وتنظف من الصخور والأحجار الكبيرة الحجم والنباتات وجذور الاشجار البرية الكبيرة ان وجدت، ويتم انشاء الجدران في حال كانت الأرض منحدرة. تحرث الارض بواسطة الجرار (سكة جنزير) حراثة متوسطة على عمق حوالي 40 سم، تساعد هذه الحراثة على رفع ما تبقى من احجار متوسطة وصغيرة الحجم وتسوية سطح التربة نوعاً ما، ثم تفرم بواسطة الفرامة (العزاقة) لتكسير وتنعيم وتسوية سطح التربة على عمق حوالي 15 سم.
2. تخطيط الأرض: يتم تخطيط أو تقسيم الأرض الى خطوط وتحديد اماكن الغراس مع الأخذ في الاعتبار المسافة بين الشجرة والأخرى وبين الخط والخط، فإذا كان الشكل المعتمد من قبل المزارع “المربع”، نأخذ نفس المسافة بين الشجرة والأخرى وبين الخط والآخر من 4 إلى 5 أمتار. تحفر الجور في المكان المحدد لها على عمق 40 سم وعرض 30 سم، ويوضع 2 كلغ تقريباً من السماد العضوي المخمر في قاع الحفر بالإضافة الى حوالي 100 غرام من السوبر فوسفات الثلاثي وخلطها مع التراب في قاعها.
3. غرس الأشجار: تغرس أشجار الرمان في الحفر المهيَّأة بعد أن يُخلط السماد مع تراب قاع الحفرة ويعاد التراب المأخوذ من الحفرة إلى حول الغرسة ثم يرص جيداً بواسطة القدمين تجنباً لبقاء فجوات هواء حول جذور النبتة، ويجب أن تكون النصوب مستقيمة، اما إذا كانت رفيعة فتربط في سندات مثل الخشب الرفيع او القصب وذلك لمنع تكسرها من جراء الهواء القوي.

” عدم إزالة الفروع التي نمت داخل الشجرة من قاعدتها تعرّضها للإصابة بالبق الدقيقي والمن الأخضر بشدة  “

مرض تبقع الرمان والمسبب بكتيري
مرض تبقع الرمان والمسبب بكتيري

الخدمات الحقلية بعد الزرع
الري: تحتاج شجرة الرمان لرطوبة كافية بغية القيام بعملياتها الحيوية من عقد الازهار وكبر الثمار ونمو خضري جيد. اما حاجة شجرة الرمان للري خلال الموسم اي من بداية فصل الربيع حتى أوائل فصل الخريف، فهي حوالي 10 ريَّات على أن تكون كمية الماء في الريةّ الواحدة حوالي 100 لتر ماء، خصوصاً في المناطق والأراضي الجافة والتي يقل فيها معدل الأمطار عن 500 مل.
التسميد: تنمو أشجار الرمان في الأراضي الغنية بالمواد الغذائية والجيدة الصرف والعميقة لعدة سنوات من دون تسميد، ولكن عندما يتجاوز عمرها 15 عاماً فإنه من المفضل تسميد الرمان تجنباً لتراجع الإنتاج والنمو الخضري. لذا، يستحسن إضافة الأسمدة العضوية والكيميائية لأشجار الرمان على الشكل التالي: 30 كيلوغراماً سماداً عضوياً مخمراً لكل شجرة رمان وسماداً كيميائياً حوالي 300 غرام سلفات الأمونياك و250 غراماً سوبر فوسفات و150 غراماً سلفات البوتاسيوم على أن يوضع السماد العضوي في فصل الخريف داخل خندق يحفر حول جذع الشجرة بموازاة تفرع أغصانها وبعمق حوالي 20 سم ثم تطمر. وتوضع الاسمدة الكيميائية قبل مرحلة النمو بحوالي شهر بنفس طريقة وضع السماد العضوي خلال شهري شباط وآذار حسب الارتفاع عن سطح البحر.
التقليم: قبل البدء بتقليم أشجار الرمان، يجب معرفة طبيعة الحمل على الأشجار لإجراء التقليم بأسلوب علمي سليم، وحيث إن أشجار الرمان تحمل ثمارها على خشب ناضج قديم لا يقل عمره عن سنتين، حيث تكون الأزهار على هذه البراعم الخشبية إما جانبية على الأفرع أو قائمة مباشرة على الخشب القديم الغليظ، أو على دوابر أو فروع صغيرة وقصيرة. اما إذا كانت الأفرع بعمر السنة، فإنها تنتج أزهاراً عقيمة لا تعقد ولا تعطي إنتاجاً. أما في المناطق التي تنتشر فيها حفارات السوق والأفرع، فتعتمد زراعة الرمان على أكثر من ساق واحد من ساقين إلى أربعة سوق، تجنباً من فقدان الشجرة إذا ما كانت ذات ساق واحد.
ملاحظة: يجب على جميع الذين يقلمون الأشجار المثمرة عدم قطع او قص أو إزالة التفرعات الصغيرة وأطراف الأفرع القديمة لأنها هي التي تحمل الثمار، والتقليم الجائر (القاسي) الذي يزيل الكثير من الخشب القديم الذي يحمل الكثير من التفرعات الصغيرة يؤدي الى تقليل الإزهار وبالتالي يقلل الإنتاج. لكن كثرة التفرعات وتشابكها في الأشجار المثمرة يؤديان الى حجب الضوء المتجه إلى الأفرع الداخلية فيضعفانها، كما إن عدم التفريد وتخفيف الثمار فإنه يجعل الثمار هزيلة وذات مواصفات ونوعية رديئة، وكذلك عدم تفريد وإزالة الفروع التي نمت داخل الشجرة من قاعدتها يعرضانها للإصابة بالبق الدقيقي والمن الأخضر بشدة.
وعندما تصبح الأشجار قديمة وهرمة، يجب إتباع التقليم التجديدي الجائر حيث تُزال جميع الأغصان مع الإبقاء على قاعدة الأغصان التي تشكل الهيكل العام للشجرة، مما يؤدي إلى إنتاج أفرع جديدة قوية تثمر بعد سنتين، ومن هذه الأفرع تربى الأشجار من جديد، وبعد إجراء عملية القطع يجب دهن الجذوع والأغصان بالكلس لحمايتها من أشعة الشمس والحرارة المرتفعة، أما وقت تقليم الأشجار والنصوب فيجب ان يكون بعد سقوط الأوراق وقبل انتفاخ البراعم أو خروج النموَّات الجديدة في بداية فصل الربيع.

أصناف الرمان
توجد اصناف عديدة للرمان تزرع في لبنان وخصوصاً البلدية منها والتي تتصف بإنتاجها الجيد أهمها :
1. الأصناف الحلوة
أ. الياسميني: الثمرة كبيرة الحجم صفراء، مخضرة الحبات، زهرية الى محمرة قليلاً، حلوة المذاق تنضج بدءاً من منتصف أيلول حسب الارتفاع عن سطح البحر.
ب. الماوردي: الثمرة كبيرة الحجم شامطة نوعاً ما الحبة متطاولة حمراء اللون، تنضج خلال شهر أيلول.
ج. بنت الباشا: الثمرة كبيرة الحجم قشرتها بيضاء محمرة، حباتها متوسطة الحجم عصارية مرغوبة جداً لأنها فاخرة الطعم، تنضج بدءاً من منتصف ايلول.
2. الأصناف الحامضة
أ. البلدي الحامض: الثمرة متوسطة الحجم، القشرة خضراء اللون وغير سميكة، لون الحبات وردي غامق، تبدأ في النضج من منتصف آب، تستخدم ثمارها في عدة صناعات مثل دبس الرمان وشراب وعصير الرمان ويدخل أيضاً في الصناعات الغذائية وفي حفظ بعض المربيات.
ب. الحامض الفرنسي: دخل حديثاً الى لبنان نوع إقتصادي يتميز بصغر نواته، يستخدم في التصنيع وخصوصاً دبس الرمان.
3. اللفاني
يتصف هذا النوع بطعمه الذي يربط بين الحلو والحامض، كبير الحجم، لون القشرة ذهبي مصفر، لون الحبات أحمر غامق، لذيذ الطعم، ينضج خلال شهر أيلول.
ويمكن إطالة موسم إستهلاك الرمان إما بتخزين الثمار في غرف مبردة أو برادات لمدة قد تصل إلى 4 أشهر، بخاصة في الثمار المعدة للتصدير، وقد لوحظ أن الثمار في هذه الطريقة يتكامل نضجها، فتزداد حلاوتها وتقل حموضتها وتزداد لذة طعمها بشكل عام. لكن عند جمع قطاف الثمار، يجب مراعاة قطع الحامل الثمري بمقص التقليم قرب قاعدة الثمرة وليس نزعه عن الثمرة الذي يؤدي الى جرها وتلفها أثناء التبريد، والانتباه إلى عدم ترك الثمار تسقط على الأرض.

تصوير علمي لشجرة الرمان ووثمرتها وأجزائهما
تصوير علمي لشجرة الرمان ووثمرتها .وأجزائهما

“التقليم التجديدي -الجائر- لأشجار الرمّان الهرمة ضروري لإحيائـــــها وتجديد الهيكل العام الورقي والثمري للشجرة “

جني الثمار
تبدأ أشجار الرمان في الإنتاج من السنة الثالثة بعد زراعتها في الأرض الدائمة، حيث يمكن للمزارع أن يتأكد من نوعية أشجاره خصوصاً لون الثمار والحبوب، أما بالنسبة إلى حجمها فإن شجيرات الرمان لا تعطي ثماراً كبيرة الحجم لأنها ما زالت صغيرة في العمر والحجم، وتعطي أشجار الرمان محصولاً مميزاً وغزيراً خصوصاً عندما يصل عمرها الى 8 سنوات. أما ذروة إنتاجها، فتكون في السنوات الثلاث 14 – 15 – 16، إذ يصل إنتاج الشجرة الواحدة الى 30 كلغ سنوياً، وقد يصل عمر الأشجار إلى 50 سنة، لكن إنتاجها يقل تدريجياً كلما تقدمت الشجرة في العمر. تنضج ثمار الرمان تدريجياً وتقطف تدريجياً بعد اكتمال نموها لأن الرمان لا يستمر في النضج بعد القطاف كغيره من الفواكه، لذا يجب إبقاؤه على الشجرة حتى مرحلة اكتمال نضجه ليصبح غنياً بالسكريات وألذ في الطعم.
يجب ان تقطف ثمار الرمان بعناية كما قطاف التفاح الى حد ما تجنباً لجرح القشرة وبالتالي تضرر الحبوب في داخلها ثم تفرز الى مجموعات حسب حجمها أي كل حجم أو قياس على حدة، ثم تعبأ مباشرة في أوان خاصة غير صلبة مثل الكرتون أو الفيبر، وتكون صغيرة الحجم لتسويقها بسرعة وبأسعار مرتفعة في الأسواق المحلية والخارجية، لأن الرمان من الفواكه المرغوبة جداً خصوصاً في الأسواق الخارجية.

آفات الرمان
الحشرات: تصاب أشجار الرمان بالعديد من الحشرات التي تحدث فيها أضراراً بالغة منها:
• دودة ثمار الرمان.
• حفار ساق الرمان.
• البق الدقيقي.
• المن.
• ذبابة الرمان البيضاء.
الأمراض: تصاب اشجار الرمان بأمراض عديدة أهمها:
في السنوات العشرين الأخيرة زرع الرمان بشكل كبير جداً في العالم بعد أن أصبح الطلب عليه كبيراً. ومع ارتفاع المساحات المزروعة بدأت تظهر أمراضاً جديدة ومختلفة لم تكن توجد أو تشكّل ضرراً اقتصادياً سابقاً.
أما أهم هذه الأمراض التي تتسبب بأضرار في بساتين الرمان هي:
• التبقع الأسود: يسبب هذا المرض فطراً يدعى Alternaria alternate يظهر على الثمار بشكل بقع دائرية ومع تقدّم المرض تتحد هذه البقع لتكوّن بقعاً اكبر. هذا المرض لا يسبب مشكلة كبيرة في بساتين الرمان, لكنه يؤدي عندما تكون الإصابة قوية الى تعفن الثمار من الداخل بنسبة 100% خصوصاً أثناء التخزين ويكون لونها شاحباً وغير صالحة للاستهلاك.
• عفن التاج:  سبب هذا المرض فطر يسمى Botrytis cinereaيظهر هذا المرض بعد القطاف. أعراض الإصابة تظهر على قمة الثمار ومنطقة التاج كما هو ظاهر في الصورة.
• العفن الاسود: يسبب هذا المرض نوعين من الفطر: الأول يسمى Aspergillus sp يدخل من الجروح التي تسببها الحشرات وخصوصاً المن ويؤدي الى تعفنها، والثاني يدعى Alternaria alternata وهذا المرض لا يسبب مشكلة إقتصادية في الرمان.
•  التبقع الزيتي: يسبب هذا المرض بكتيريا تسمى Xanthomonas axonopodis
يظهر المرض على جميع اجزاء الشجرة لكن أخطره على الثمار الناضجة.
أعراض الإصابة: تظهر بقع زيتية على الاوراق ومن ثم تتحول الى اللون الاسود الذي يؤدي الى إصفرار الاوراق ومن ثم تساقطها، اما ظهور المرض على الفروع فيؤدي الى تقرحات على القشرة لونها داكن ومع تقدم الإصابة تتحول الى جروح عميقة، وتؤدي الاصابة على الأغصان الى تليينها (تصبح طرية) مما يؤدي الى كسرها بسهولة، اما الاعراض الاكثر وضوحاً فتظهر على الثمار بشكل بقع رمادية سوداء غالباً ما تؤدي هذه البقع الى تفتت وتحلل نسيج القشرة مما يسبب ثقوباً في الثمرة.

الوقاية والعلاج لهذا المرض:
1. استعمال عقل للزراعة خالية من البكتيريا.
2. الفروع المصابة او الاشجار يجب قطعها ومن ثم حرقها.
3. تعقيم المعدات المستعملة خصوصاً ادوات التقليم.
4. عدم زراعة الرمان في المناطق الموبوءة.
5. وأخيراً رش المبيدات النحاسية.

أميركا والهند والصين وإيران أكبر المنتجين

10% فقط من الإنتاج العالمي
للرمان يصدّر إلى الخارج

تعدّ بلاد فارس الموطن الأصلي للرمان ويعتقد أن الفرس قاموا بتأهيل شجرة الرمان وتطوير زراعتها قبل نحو 4,000 عام، وقد انتقلت زراعة الرمان بعد ذلك إلى العراق وبلاد الشام والجزيرة العربية ثم بعد ذلك نقل العرب الرمان إلى إسبانيا ومنها نقله المستوطنون الإسبان إلى الولايات المتحدة الأميركية.
وتنتشر زراعة الرمان على نطاق تجاري في الولايات المتحدة خصوصاً في الولايات الجنوبية وفي كاليفورنيا كما إن الهند والصين وإيران تعتبر من أكبر المنتجين للرمان في العالم، وتلعب أفغانستان دوراً متزايداً في التجارة الدولية للرمان بسبب شهرة رمانها الذي يتمتع بخصائص مميزة لوناً وحجماً وطعماً، وقد دخل رمان أفغانستان أسواق الشرق الأوسط عبر شركة كارفور التي تدير أكبر مراكز للتسوق في الخليج وقد وسعت الشركة تسويق الرمان الأفغاني إلى مراكز تسوق عديدة تديرها في المنطقة.
وتنتشر زراعة الرمان أيضاً في بلدان الشرق الأوسط وخصوصاً في سوريا ولبنان وفي شمال أفريقيا لكن السمة العامة لتجارة الرمان الدولية هي أن معظمه ينتج في حيازات صغيرة ويستهلك في الأسواق المحلية وتقدر منظمة الأغذية والزراعة (فاو) أن 10% فقط من إنتاج الرمان العالمي يذهب إلى التصدير.
وبصورة عامة وبسبب طبيعة زراعته كمشاريع صغيرة في ملكيات فردية فقد وجدت منظمة الأغذية والزراعة صعوبة في توثيق إنتاج العالم من الرمان، إلا أن زراعة هذه الفاكهة الشهية بدأت تتطور في بلدان كثيرة مثل الولايات المتحدة والصين والهند وإسبانيا بسبب الزيادة الكبيرة في الطلب من المستهلكين خصوصاً بعد تزايد الوعي بالفوائد الغذائية والعلاجية للرمان في الكثير من حالات الاعتلال وأهميته لتقوية جهاز المناعة.

لصنع دبس الرمان ضع عصيره المصفَّى على نار معتدلة في وعاء لمدة 4 إلى 5 دقائق
لصنع دبس الرمان ضع عصيره المصفَّى على نار معتدلة في وعاء لمدة 4 إلى 5 دقائق
جِـلو الرمان
جِـلو الرمان

 

 

 

 

 

 

 

ذبول الشجرة
يسبب هذا المرض الفطر Ceratocystis fimbriata. أعراضه تظهر في البداية على شكل اصفرار الأوراق ثم جفافها وسقوطها، وبعد تقدم الإصابة تؤدي إلى ثمار جافة على الفروع، أما إذا أصيبت الأشجار إصابة شديدة فإنها تجف وتموت تدريجياً خلال بضعة أشهر وعند قطع الفرع الرئيسي او الجذع يمكن أن نرى تحول الخشب الى اللون البني ومن ثم إلى الأسود. يكثر هذا المرض في التربة الطينية الثقيلة وتزداد حدته مع ازدياد الرطوبة وقلة التهوئة، ويبدأ المرض في الظهور في فصل الربيع وبداية الصيف.

القيمة الغذائية والطبية للرمان
استخدم الاطباء القدامى في اليونان وروما والهند الرمان بكافة عناصره من حبوب وقشور واوراق وازهار ولحاء وجذور لأغراض علاجية مختلفة. فالفوائد الغذائية والطبية للرمان كثيرة، لذلك يعدّ الرمان من الفواكه الصحية لاحتوائه على مجموعة من المركبات النباتية المفيدة لا مثيل لها في الاطعمة الباقية.
للرمان تأثير لافت على جسم الانسان، فهو يحتوي على مضادات الاكسدة ويخفّض خطر الاصابة بامراض القلب والسرطانات والالزهايمر والبدانة، وقد اوضحت أبحاث أجريت على اشخاص يعانون من ارتفاع ضغط الدم انه بعد تناولهم 150 مل من عصير الرمان يومياً على فترة اسبوعين انخفض عندهم ضغط الدم بشكل كبير. يحتوي الرمان على الفوسفور، الماغنيزيوم، الكالسيوم، الزنك، الحديد، ونسبة قليلة من الدهون. الماغنيزيوم الموجود في الرمان يساعد على تشكيل الهيكل العظمي والبوتاسيوم يساعد على توازن مستويات السوائل ويحافظ على وظائف الخلايا.
(راجع الجدول)
يعمل عصير الرمان كمرقق للدم ويساعد على ازالة الترسبات في شرايين القلب ويخفّض الكوليسترول السيىء ويرفع الكوليسترول الجيد وبذلك يخفض خطر التعرض لامراض القلب.
اما في المعدة، فإن عصير الرمان يساعد على إفراز أنزيمات ذات خصائص مضادة للبكتيريا تساعد على الهضم وتكافح البواسير والغثيان والإسهال والطفيليات المعوية، ويستعمل الرمان كملين لعلاج الإمساك ويوصف عصيره لتحسين الشهية. أما الحديد الموجود في الرمان فيزيد معدل الكريات الحمراء في الدم ويساعد على معالجة فقر الدم.
ويستخدم الرمان لمعالجة حالات الربو والاحتقان في الحلق والسعال والصفير.
كما إن الرمان يحول دون ظهور علامات التقدم في العمر مثل التجاعيد والدبغات على الجلد كما يساعد على تجديد الخلايا وشفاء الجروج وتشجيع الدورة الدموية حول الجروح لشفاء افضل.
تناول عصير الرمان يساعد المرأة الحامل على تخفيف التشنجات وصعوبات النوم (القلق) التي تظهر خلال الحمل كما يحافظ على صحتها وصحة الجنين وتدفق الدم للجنين بشكل جيد.

العدد 14