الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 26, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

حكايـــــــات الامثال

قصص الأمثال

حِكاياتُ الجُبَناء والبُخلاء

النّاس لا يحبّون البُخل ولا البُخلاء ويسخرون منهم ومن طِباعهم كما فعل الجاحظ في كتابه الشّهير(البُخَلاء)، كما أنّهم يمقتون الجُبناء لأنّ الجُبن وانعدام المُروءة من أكثر الصّفات خِسّة في الرجال، ولهذا السّبب تحتوي الأمثال الشّعبيّة على قَدر كبير من قصص الجبناء والبخلاء على سبيل ذمّ خِصالهم وتحذير النّاس من التّشبّه بهم باعتباره يقود إلى سوء العاقبة المُذلّة وصيت العار.
في هذه الحلقة اخترنا بعض الأمثال المستوحاة من قصص أهل الشّح والبُخل وفيها من العِبَر الكثير.

زَبونُ العوافي

عبارة يوصف بها الرّجل الذي لا يُحسب له حساب، للنّيل من قِلّة شأنه ، فإذا حضر إلى مجلس قالوا : “ إجا زبون العوافي “. وحكاية هذه العبارة أنقلها من قاموس أحمد أبو سعد بتصرّف.
تقول الحكاية: “إنّ مكاريّاً كان يسوق حماره، وقد حمّلة كيساً من الدّقيق. وصادف أنْ مرّ بمَخاضة فغاصَ حمارُه في المياه الموحلة حتى شارف على الغرق، فهبّ الفلّاحون المتواجدون في المنطقة لمساعدته في انتشال الحمار من المخاضة.
وَحَدث أنْ مرّ شابٌّ بهم وهم منهمكون في انتشال الحمار، فحيّاهم بقوله: “العوافي”. ثمّ مضى دون أنْ ينضمّ إليهم ودون أنْ يسألهم إذا كانوا يريدون مساعدة. فقالوا: “هذا زبون عوافي وليس زبون شُغل “. فغدت مثلاً1.
وقد جاء في المُنجد أنّ من معاني الزّبون: الغبي الأبله. وأضاف صاحب المنجد: “وليست بهذا المعنى في الفصيح، وإنّما هي فارسيّة2”.
ولعلّهم أخذوا هذا المعنى في هذا الوصف.

زَمّر بنيّك

والمثل يُضْرَب للرّجل إذا بُشِّر بتحقيق غايته، وقضاء حاجته.
وحكاية هذا المثل سمعتها من صديق وكان يرويها في معرِض الحديث عن النّاس الذين يرومون تحقيق غاية ما، فلا تتحقّق غايتُهم ما لم يقوموا بما يلزم لتحقيق تلك الغاية.
قال:
السّفر إلى الشام لم يكن أمراً عاديّاً كما هو هذه الأيام. لذلك كان النّاس إذا خطر للواحد من أهل الضّيعة أن يذهب إلى الشام، يذهبون ليسهروا عنده ويودِّعوه، وإذا عاد بالسّلامة يذهبون للسلام عليه. وكان التّجار يتسوّقون من الشّام كلّ شهرين أو ثلاثة شهور مرّة.
وفي إحدى الضّياع كان هناك صاحب دكاّن. وفي يوم من الأيام خطر له أن يذهب إلى الشّام ليتسوّق. وكان من عادة أهل الضّيعة وكلّ ضيعة، إذا ذهب الدّكّنجيّ إلى الشّام، أنْ حمّلوه التّوصيات والطّلبات كي يشتريها لهم بطريقه. لذلك وما أن عرف النّاس بالتّواتر أن صاحبَنا الدّكنجي يستعد للنّزول إلى الشّام حتى أخذوا يتقاطرون إلى بيته جماعات جماعات من أجل أن يوصوه على أشياء يشتريها لهم في طريقه. هذا يريد قنبازاً، وهذا يريد حَطَّة (كوفيّة)، وهذه تريد عِقد مشرشب، أو شبكان جوخ. والرّجل ما حيلته إلّا أنْ يقول: “حاضر ، طيّب، تِكرَموا، بيفرجها الله، ماشي الحال، انشا لله “ومن هذا الكلام كثير. حتى جاءت حُرْمَة أرملة؛ مدّت يدها إلى عبّها، فأخرجت مَحْرَمة، فتحتها، وأخرجت منها فْرنكين سوري. وقالت للدّكنجي:
ـ بحياتك!. هذول فْرنكين، بَدّي تشتري لي من الشّام بطريقك زُمّيرَة لَهَلْوَلَد . .
أخذ الدّكنجي الفرنكين السوري من الحُرمة، ثم أخرج دفتره، وكتب عليه وصيّة الأرملة، وقال لها:
ـ روحي! انت إللي زمّر بْنَيّكْ.
وَفَهِمَ النّاس أنّ الدّكنجي قد رمى كلّ الوصايا وراء ظهره، لأنّها غير مشفوعة بثمنها، إلّا وصيّة الأرملة لأنّها دفعت ثمن الزّمور مُقدّماً. ومِن يومها صاروا يقولون لكلّ رجل دبّرَ أموره، فأحسن تدبيرها: زمّر بْنَيّك.
وقد ذكر المثل أحمد أبو سعد، وكانت روايته لا تختلف عن روايتنا.
وذكره سلام الرّاسي، دون اختلاف يُذكر عن روايتنا3.
كما ذكره تيمور برواية: “إللي يدفع القرش يزمّر ابنه” دون الإشارة إلى حكاية المثل، إلّا أنّه أضاف أنّهم في هذا المعنى يقولون: “معاك شي إبنك ينشال، ما معَكْشي إبنك يمشي”.

رجعت حليمة لعادتها القديمة

يُقال هذا في من يعود إلى عادة سيّئة كان قد تركها لكنّه يأخذ كموضوع امرأة مطبوعة على البخل وسوء الأدب مع الضّيوف.
تقول الحكاية أنّ “حليمة” كانت زوجة أحد الأجواد، وكانت تتّصف بالبُخل. فكانت إذا قدّمت الزاد للضّيف تقلّل السّمن. فأراد الرّجل أنْ يثنيها عن بُخلها بقوله: إنّها إذا بَحْبَحَت كميّة السّمن على الطّعام فلن يشيبَ شعرُها ولن تعرف الهَرَم. فَصَدّقت وأخذت تزيد من كميّة السّمن على الطعام.
وكان أنْ أخذَ شعرُها يشيب بعد أنْ تقدّمت بها السّنون، وأخذت علامات كِبَر السّنّ تظهر عليها فأدركت خداع زوجها لها، وعادت تقلّل كمّية السّمن. فصار النّاس يقولون: “رجعت حليمة لعادتها القديمة “.
وقد أوردَ سلام الرّاسي حكاية المثل، معتبراً أنّ حليمة زوجة حاتم الطائي.
ولم نعرف لحاتم زوجة غير “ماوية” التي خاطبها بقوله:
أماوِيَ إنّ المال غادٍ ورائحٌ ويبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكْر

رافق النّذلَ تنذَلّ

يُضرَب المثل للرّفيق الذي لا يستطيع نُصرة صديقه وقت الشِدَّة. وكثيرة هي الأمثال التي تتحدّث عن هذه الحالة كقولهم “الصّديق وقت الضّيق”، و “رافق المِسعد تسعد”. وحكاية المثل رواها سلام الرّاسي في كتابه الحَبل على الجرّار ومفادها أنّ رجلين ترافقا في سفر بعيد، وحينما أقبل اللّيل لاذا بإحدى الأشجار. واتّفقا أنْ ينام الواحد منهما ويسهر الآخر يحرسه، حتى إذا شعر السّاهر بخطرٍ أيقظ رفيقه، وتعاونا على درء ذلك الخطر.
وبينما أحدهما ساهراً إذْ أقبلت الضّبُع مُهَروِلا. فارتعب الرّجل السّاهر. وشمّر، وتسلّق الشّجَرة، تاركاً رفيقه لقدره.
وحين أفاق النّائم على وقع أقدام الضّبُع، ورأى ما رأى، ارتعب، وفعلها في ثيابه من شدّة الفَزع . فتقدّم الضبع منه، وأخذ يشمُّه، ثم ابتعد عنه مُنصرفاً؛ لأنّ الضبُع لا تأنفُ من شيء في الدُّنيا إلا من رائحة فضلات الإنسان.
وحين انصرفت الضّبُع نزل الرّفيق الذي كان فوق الشجرة، وسأل رفيقه الآخر:
ـ ماذا قال لك الضّبُع حين اقترب منك ؟. فقال له رفيقه:
ـ قال لي: “رافق النذل بتنذلّ”
فذهبت عبارة الرجل مثلاً.

السّلام بيجرّ كلام، والكلام بيجرّ بِطّيخ

يُضرَب هذا المثل في التّحذير من الهَذر، فَرُبّ كلمة استجرّت كَلمة، فاستجرّت الكَلمة كلمة، حتى يصل المتكلّم إلى ما لا تُحمد عقباه. والحكاية أنّ رجلاً جعلَ ابنه ناطوراً على حقل قثّاء وبطّيخ وأوصاه بالقول:
ـ إذا مرّ بك أحدٌ وسلًم فلا تَردّ السّلام.
فاستغرب الولد ذلك، إذْ كيف ذلك والسّلام لله. فأوضح الأبُ لِابْنِه:
ـ يا بُنَيّ، إنّك إذا رددت السّلام سَيَفتح المارُّ معك حواراً، وسيؤدّي هذا الحِوار إلى ذكر البِطِّيخ، وعندئذِ سوف يُجبرك حياء أنْ تدعوه لتناول شيءٍ من البِطِّيخ. وسوف يتكرّر مرور النّاس بك، وفي كلّ مرّة ستخسر رأس بِطّيخ، فالأَوْلى ألّا تَرُدَّ لأنّه “سلام بيجرّ كلام، وكلام بيجر بِطِّيخ”.
وأراني أتصوّر أحمد شوقي قد خطر له هذا المثل حينما تحدّث عن تعلّق القلب:
نِظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ
ووقعت على الحكاية نفسها عند سلام الرّاسي بعنوان “لا سلام، ولا كلام”؛ إذْ جعل الرّجل مع ابنه في المزرعة، ومرّ جماعة من البدو فسلَّموا، فلم يردَّ السّلام، فاستغرب الاِبن وسأل والده :
ـ السّلام لله فلمً لمْ تردَّ ؟.
فأجاب الأبُ:
ـ بْخاف السّلام يجرّ كلام، والكلام يْجُرّ بِطّيخ.

شفناك فوق وشفناك تحت

مَثَل يُضرب للمرء يحاول أنْ يدّعي الأعذار لعدم قيامه بما يقتضيه الواجب. على حين تهيأت له أسباب المبادرة فلم يبادر إلى ذلك. والحكاية أنّ شحاذاً طرق باب أحدهم يطلب من مال الله، ففتحت له الخادمة وقالت: سيّدتي في الطابق الأعلى، ولَوَ اَنها هنا لما قصّرت في واجبك. وفي اليوم الثّاني عاد الشّحّاذ نفسه يطرق الباب ذاته. فخرجت له السّيّدة، وقالت له : الخادمة في الطابق الأعلى. ولوَ اَنَّها هنا لأمرتها بأنْ تُجْزِل لك العطاء. فرد الشحّاذ قائلاً: “يا ستّي ! شفناكِ فوق، وشفناك تحت”.

إجاكم راعي المْرَصّص

العبارة تُطلق على من يعتقد أنّه يفوق أقرانَه في فِعلٍ ما من الأفعال.
خُلاصة الحكاية أنّ رجلاً مرّ بصِبْيَةٍ يلعبون بالكِعاب لعبة النّدْبة. وتقتضي أحكام هذه اللّعبة أنْ يرمي الصّبيُّ كَعْبَه في الأرض بطريقةٍ فنّيّة مُعَيّنة، ويجب أنْ يقفَ الكعب في وضعيّة مُحَدّدة (على قاعدته) ليحقّق الرّبح لصاحبه. فما كان من هذا الرجل إلا أنْ أخرجَ من جيبه كعباً كان قد حشاه بالرّصاص (بقصد الغِشّ)، فغدا الكعبُ ثقيلاً من الأسفل ليستقرّ دائماً في الوضعيّة الرّابحة. وقال للصِّبْيَة:
ـ إجا عَمّكم راعي (أي صاحب) المْرصّص.
وأخذ يلعب مع الصِّبْيَة فكَسِبَ كلّ كعابهم. وغدت عبارته سائرة، تُطلق على من يفوق أقرانه في عمل ما.

شَهاب الدّين وأخوه الضّائع

عِبارة تُقال في شخصين متماثلين في الصّفات، وغالباً ما تعني الصّفات الرديئة. فإذا أرادوا أن يقارنوا رجلاً رديئاً بآخر يماثله في الرّداءة قالوا ما قيل.
وقد عثرت على حكاية لهذا المثل عند سلام الرّاسي وأرويها بتصرّف لأنّنا رأينا اختيار لغة أكثرَ تحفُّظاً في ما وُصف به شَهاب الدّين وأخوه.
إنّه كان لِرِجل من الوجهاء بنت، أحبَّ أن يزوّجَها لرجل يتوسّم فيه الرّجولة، فرفض الكثير من الخُطّاب حتّى جاءه رجل عريض المنكبين، مفتول السّاعدين، غليظُ الشّاربين، توسّم في الخير وزوَّجه ابنته، وأسكنه في بيته، وكان اسمه شَهاب الدّين.
وبعد الزّواج دأبَ شَهاب الدّين على عادة لا يغادرها يوميّاً، إذْ كان ينهض صباحاً، ويباشر غسل يديه ووجهه، ثم تمسيد شاربيه ثم ارتداء ثيابه، فتستغرق العمليّة ساعات، ثم يمتطي جواده ويغادر البيت، ولا يعود إلّا في المساء، عند ذلك يسأله عمّه أين كنت؟ فيجيبه:
ـ أبحث عن أخي الذي فقدته منذ زمن.
وطال الأمر على هذا المنوال. وصادف أن قصد الوجيه أحد الحلّاقين ليحلق ذقنه؛ فباشر الحلّاق عمله، وضع الصّابون على الذّقن وفتح حديثاً على عادة الحلاقين، وكلّما انتهى من حديث جرّ الموسى على ذقن الرّجل جرّة واحدة، وفتح حديثاً آخر، حتى ملّ الرّجل؛ فوقف وقال له:
ـ يكفي هذا اليوم وغَداً تكمّل لي حلاقة ذقني.
وقفل عائداً إلى البيت، فوجد شهاب الدين يهيئ نفسه للخروج. فقال له:
ـ إلى أين ؟.
فقال شهاب الدين:
ـ لمتابعة التفتيش عن أخي.
فقال له عمه:
ـ لقد عثرت اليوم على أخيك، إنَّه يعمل حلّاقاً في مكان كذا.
فقال شَهاب الدّين:
ـ وما أدراك أنه أخي؟
فقال له عمّه:
ـ وجدته أفشل منك، فقلت لَعلَّه أخوك.
فقال شّهاب الدّين:
ـ هذا إذاً ليس بأخي. إذْ لو كان أخي لما كان “أفشل” مني، لأنّ معلّم المدرسة التي تعلّمنا فيها اعتبرني أنا الأفشل عندما مدحنا بقوله:
كِلا الأخَوَيْنِ ذو فَشَلٍ وَلِكنْ شَهابُ الدّين أفْشَلُ من أخيهِ

سِرِّيةُ حمدانٍ لأًخْتهِ

يُضْرَب هذا المثل في الحِرص على إخفاء أمرٍ تافه لا أهميّة له، ولا يترتّب على إشهاره شيءٌ ما. والمثل معروف في أنحاء الجبل ولطالما لجأت أمّهاتنا إليه للسّخرية من طلبات تافهة كنّا نسألها ـ كأطفال «أن تبقى سرّاً بيننا وبينهنَّ». وقد كُنّا نَحرِص على كَتْم هذه الطّلبات ليس لأنّ فيها سرّاً لا نريد كشفه بل ربّما لأنّنا كنّا نخجل من كوننا نطلب شيئاً.
وحكاية المثل أنّ حمدان، وهو بدويٌّ يعيش مع أخته وحيدَيْن، خرج للرّعي، وحينما وصل إلى المساريح (المراعي) تذكّر أنّه عليه أنْ يوصي أختَه وصيّة، فعاد من المسراح بغَنَمِه، فوجدها في البيت مع ثُلَّة من صاحباتها، فدُهشَت لعودته بالقطيع على غير عادته في تلك السّاعة، وظنّت أنّه عاد لأمرٍ هامّ، وعندما انتحى بها جانباً أوصاها سرّاً أنْ تصُبّ القهوة للضّيف الذي ياتي إلى البيت في غيابه. فدُهِشَت وقالت له: ألِهذا الأمرِ عُدتَ؟!. فذهبت سِرّيتُه مَثلَاً في الحِرص على سِرّية أمر تافه.
وقد ذكر سلامة عبيد هذا المثل في مجموعته.

ملا نصرالدين

حكايات مُلّا نَصْر الدِّين

مقالب ومواقف وعبر من الحياة
ونقد لاذع لضعف النفس الإنسانية

الحلقة الثانية

أدخلت مجلّة “الضّحى” في العدد السّابق باباً جديداً يسلّط الضّوء على شخصيّة الحكيم السّاخر مُلّا نصر الدّين ويبدأ على حلقات في عرض حكاياته الطّريفة تلك التي تحمل في الوقت نفسه عِبَراً ودروساً في تهذيب النّفس وحِكَم الحياة.
ويُعتبر نصرُ الدين خُجا (مُلّا نصر الدين) شخصيّة مِحْوَرية في الإرث الشّعبي لبلدان وسط آسيا، وقد غدت صورته في مُخيّلة العامّة والفولكلور الشّعبي صورة “الحكيم الساخر” كرجل واسع المعرفة سريع الفطنة حادّ الذكاء، إلاّ أنّه يُلْبِس حكمته والعِبَرَ التي يأتي بها طابع السّخرية والّلامعقول. وبسبب شُهرته كمعلّم في الثقافة الآسيويّة والعالميّة فقد حَظِيَت شخصيّته بالتّكريم العالميّ وذلك عندما أعلنت منظّمة الأمم المتّحدة للثقافة والعلوم (اليونسكو)عام 1996-1997 السنة العالمية لنصرِ الدين، وكرّست دول عديدة ذلك العام للتّعريف بشخصيّته وحكاياته وحِكَمِه وعُقِدَت النّدوات الثقافية والأمسيات والاحتفالات الشعبية وأُنتجت أفلام ووثائق بكلّ الّلغات عن هذه الشخصيّة المُثيرة للاهتمام. وقد انتقل العديد من حكايات مُلّا نصرِ الدّين إلى العربيّة من خلال شخصية “جحا” ونوادره. وبالطّبع فقد نما هذا التّراث الشّعبي مع إضافة النّاس العديد من القصص التي تنسب إلى نصر الدين أو جحا لهذا فإنّنا نراها تتفاوت من حيث طرافتها أو من حيث القيمة الثقافية أو التّراثية التي تحملها. ورغم أنّ مؤسسات ثقافية أخذت على عاتقها محاولة جمع هذا التّراث وتنقيته إلاّ أنّ هذه المهمّة تبقى صعبة لأنّ النّاس أنفسهم دمجوا شخصيّة نصرِ الدّين أو شخصيّة جحا في تراثهم وحياتهم مما يعني أنّنا سنجد دوماً مزيداً من الحكايا التي تُنْسَج على لسان هذه الشخصية التّاريخيّة ولا بأس في ذلك إذ إنّ إرثَ نصرِ الدين لم يكن لينمو ويَغْنى بهذا الكمّ من الحكايا السّاخرة ذات المغزى الأدبيّ أو الحياتيّ لولا الإسهام المتواصل للرّواية الشّعبيّة في هذا التّراث وفي كثيرٍ غيره من الموروثات الشعبية.
في هذه الحلقة الثّانية من حكايات المُلاّ نصر الدين تختارُ “الضّحى” باقةً من مواقفه ومقالبه السّاخرة الحاملة للعِبَر الأخلاقية والحياتيّة وتُترجمها للقارئ العربي عن الّلغة الإنكليزية١ كما صاغها الفيلسوفُ الصّوفي إدريس شاه، نقلاً عن اللّغتين الفارسيّة والتّركيّة.

أموت أنا أو الملك أو الحمار
أموت أنا أو الملك أو الحمار

هات مِغرفتَك لِنموتَ معك!
ذاتَ يوم، دُعِيَ الخجا نَصْرُ الدِّين واثنان آخران إلى عشاء عند أحد الأصحاب. كان مساء ذات ليلةِ صيفٍ حار.
وأحضرَ المُضيفُ إلى الطّاولة زُبْدِيّةً كبيرة ملأى بمربّى الكرز وشرابه المثلّج. والتقط مِلْعقةً كبيرة كمِغرَفةٍ وأعطى ضيوفه ملاعقَ صغيرة.
وقال: “فلنغرف بملاعقنا!”.
لكنّ أحداً لم يستطع أن يَغْرِف بمِلعقته بمثلِ ما كان يَغْرِف. فالضّيوف، بملاعقهم الصّغيرة، لم يَسَعَهم التمتُّع بهذه الحَلوى أو أن يُطفِئوا عطشَهم.
بيدَ أنّ المُضيفَ كان يحتسي الشرابَ الباردَ بملعقته الكبيرة، وبعد كلّ ملعقة يُعبّر عن تلذُّذه.
ويقول: “آه، هذا يقتلني!”. ويُضيف مُتأوّهاً: “آه، لعلّني مِتُّ وصعِدتُ إلى الجنّة. أَوّاه، كم هذا ممتعٌ، إنّني أموت!”.
لكنّ الخوجا نَصْرَ الدِّين لم يكن ليسمحَ باختفاء الحَلوى من أمامه قبل أن تتسنَّى له فرصة التمتُّع بها.
فخاطب المضيف قائلاً: “يا أفندي، لِمَ لا تناولنا المِغرفة كي يتسنَّى لنا أيضاً أن نموت قليلاً”.

لم أشتَرِ السّروال!!
في أحد الأيام، كان نَصْرُ الدِّين خوجا يبتاعُ حاجيّات له في السوق. وقفَ أمام متجر ثياب. واستغرقَ وقتاً وهو يُحدِّق في السّراويل الملوّنة، وشاشات العِمامات، والقمصان والجُبَب. وإذْ به أخيراً ينتقي سروالاً.
وبعدما قلّبه لهُنَيْهةً بين يديه، رجِعَ عن اختياره هذا لينتقيَ جُبَّةً بدلاً من السّروال. وأوشكَ على المغادرة بالجُبَّة عندما طالبه البائعُ بماله.
إذ قال له: “خوجا أفندي، إلى أينَ أنتَ ذاهبٌ؟ فأنت لمْ تدفعْ لي ثمنَ الجُبَّة!”.
أجابه الخوجا باستخفاف: “ماذا تقصد؟ لقد بدَّلتها بالسّروال”.
بيد أنّ البائع قال: “عجباً لكنّك لم تدفع ثمنَ السّروال أيضاً”.
أجابه الخوجا بصَلَف: “وَيحَكَ يا صاح، لِمَ عليَّ أنْ أدفع ثمنَ شيء لم أبْتَعْه؟”.

أجْرُكَ؟ لا شيء
كان الحطَّابُ يحمل كيساً مليئاً بالحطب المُقَطَّع على ظهره. الكيسُ كان ثقيلاً ومليئاً أكثر ممّا يستوعب. وحَرِصَ الرّجلُ الذي كان ينوءُ تحت عبءِ حِمْلِهِ الثقيل باذلا أقصى جهده ألَّا يُسقِط شيئاً من قطع الحطب وهو سائرٌ في طريقه.
لكنّ الرّجلَ المِسكين لم يَسَعْه تجنُّبَ التّعثُّرِ بحجرٍ على الطريق فسقطَ نصفُ حمولته من الحطب وتدحرج على الأرض. وصُودِف مرورُ رجلٍ رأى ما حَدَث، فسأل الحطّاب.
“إذا أعدتُ ما سقطَ من قطع الحطب إلى الكيس على ظهرك، فماذا ستُعطيني بالمقابل؟”.
“لا شيءَ”، أجاب الرجلُ الذي ينقل الحطب. فوافقه الرّجل قائلاً: “هذا مقبول”. فجَمَع كلَّ قطع الحطب المتناثرة على الطريق ودسّها مجدداً في كيس الحطّاب. وعندما أنجزَ عمله طلب أجــراً. فذُهِلَ الحطّاب.
وقال: “أخبرتك، سأُعطيك لا شيء”. فقال الرّجل: “نعم، وهذا ما أُريده: لا شيء . أعطِنِي لا شيء!”. وبعدَ شِجَار، قرّر الرجلان أن يحتكما إلى القاضي.
وكان نَصْرُ الدِّين خوجا يتولّى القضاء في حينه.
أصغى إلى كِلا الرّجلين بكلّ جِدّيّة. ومن ثمّ خاطبَ الرّجل الذي كان يُطالِب بأجْره “لا شيء”.
“يا عزيزي، هلَّا رفعتَ حافّة الزاوية اليمنى لتلك السجَّادة على الأرض واستبْيَنتَ ما تحتها؟”.
قام الرجل بما طُلِبَ منه ونظر تحت السجَّادة.
فسأله الخوجا: “ماذا رأيت؟”.
أجابه الرجل: “لا شيء”.
فأَمَرَهُ الخوجا قائلاً: “حسناً، خُذْهُ واذْهَب إلى منزلك، هذا هو أجْرُك”.

طُلابٌ سُذَّج وربابة
كان لنَصْرِ الدِّين خوجا طلابٌ من خارج البلدة. وكان أثناءَ النّهار يُعلِّمهم في المدرسة، وفي آناء الّليل يُؤويهم وزوجتَه في منزلهما.
ذات مساء، كان الخوجا وطلّابه الصّغار عائدين بعد يومٍ دراسيّ طويل في المدرسة.
وفي طريق عودتهم إلى المنزل، شاهدوا لِصَّين أمام متجرٍ. كان أحدهما يُعالِج قُفْلَ الباب بمِبْرَدٍ دَفْعَاً وسَحْباً فيما كان الآخر يُراقِب من حوله.
وسأل الطلابُ الخوجا عمّا يحدث، غير مُدرِكين لسذاجتهم أنّ هذَين الرّجلَين كانا ينويان سَرِقة المتجر.
ولم يَرُقْ للخوجا نَصْرِ الدِّين التورُّط مع هذَين الّلِصَّين الشَّقِيِّيَن، لكنّه في الوقت ذاتِه لم يشأ أنْ يخالَهُ طلاّبُه شاهِداً على جريمة من دون القيام ِ بشيء. لذا قرَّر الكَذِبَ حول ما يحدث.
وتَمَلَّصَ في كلامه قائلاً: “أحدُهم يعزِفُ على الرَّبَابَة، والآخر يُصغِي للموسيقى”.
فاعترضَ الفِتْية قائلين: “لكن يا خوجا أفندي، أيُّ نوعٍ من الموسيقى هي هذه؟ فليسَ ثَمَّةَ صوتٍ”.
أجابهم الخوجا مُطمْئِناً: “أوه، سيكون هناك صوتٌ. إنّــهــا ربَابَة فريدة. وموسيقاها ستُسمَع غداً صباحاً عندما يعودُ صاحب المتجر إلى متجره!”.

أموتُ أنا، أو الملك، أو الحمار!
ذاتَ يوم عَنَّ لتيمورلنك مضايقةُ الخوجا نَصْرِ الدِّين استهزاءً.
فسأله: “أيُّها الخوجا ، هل بإمكانك أنْ تُعلِّم حماري القراءة؟
أجابه: “نعم بإمكاني ذلك يا تيمورلنك العظيم”.
فقال تيمورلنك: “رُويدَكَ يا خوجــا! كيف لكَ أن تُعلِّمَ حماراً القراءة؟”.
أجاب الخوجا بثقة: “إذا ما مَنَحتـنــي مهلةَ ثلاثَ سنوات وثلاثةَ آلاف قطعة ذهبية، فَبِوِسْعي أن أُعلِّم حماري كيف يقرأ”.
استدرك تيمورلنك مُحِذِّراً: “لكنْ إذا لم يستطع الحمارُ القراءة في غضون مهلة السنوات الثلاث فسأُعاقِبُكَ بشدّة لمحاولتك الاستهزاء بتيمورلنك العظيم.
وافقَ الخوجا نَصْرُ الدِّين تيمورلنكَ على شُروطه، وأخذَ ثلاثة آلاف قطعة ذهبيّة وغادر خيمة تيمورلنك الفخمة.
وبادر أصحابُ الخوجا الّذين شهدوا الصّفقة إلى إبداء ارتيابهم.
وقالوا: “يا خوجا أفندي، ما أنتَ فاعلٌ؟ أنتَ تعلم أنّك عاجزٌ عن تعليم الحمار أيَّ شيء سوى النَّهِيق. ثلاث سنوات تمرّ وسيقطعُ تيمورلنك رأسَك!”.
لكنّ نَصْرَ الدِّين لم يكن لينتابَه هاجسٌ. قال برباطة جأشٍ: “يا صَحْبيَ الأعزّاء، قبل أنْ تمضي هذه السنوات الثلاث سيموت واحدٌ مِنّا، إمّا أنا أو تيمورلنك أويموت الحمارُ!”.

القدر تنجب ولا تموت؟
القدر تنجب ولا تموت؟

غداً يومُ القيامة
كان قد مضى وقتٌ طويلٌ قبل أن يَحظى سُكّان بلدة “أكسي شهر” بوليمةٍ حافلة. وخرجَ جيران ملّا نَصْرِ الدِّين بحِيلةٍ لجَعْلِهِ يدعوهم إلى وليمةٍ كبيرة.
قالوا: “خوجا أفندي، غداً سيكون يوم القيامة. لِمَ لا نذهب جميعاً في نزهة، ونشوي خَرُوفَك الصّغير ونستمتع بوليمةٍ كبيرة وأخيرة”.
فاحتجَّ الخوجا قائلاً: “خَرُوفِي الصّغير! إنَّهُ قُرَّة عينيّ! لا يمكنني أنْ أذبحَ خَرُوفي الصغير”. لكنّ الجيرانَ لم يستسلموا بسهولة.
وقالوا: “خوجا أفندي إنّه يوم القيامة. ونحن جميعاً سنموت بأيِّ حال. فما الضَّيْرُ فـي وليمة أخيرة؟”. وفي نهاية المطاف أقنعوا نَصْرَ الدِّين بمَنْح خَرُوفِه الصغير لهم.
اجتمعوا وتوجَّهوا إلى ضفّة النّهر للتنعُّم بنزهةٍ ممتعة. ذبحوا الخروف المسكين ثم جهّزوه ووضعوه فوق النار لِشَيِّه ومن ثمّ نزعوا ثيابَهم ونزلوا إلى النّهر استمتاعاً بالسّباحة. وفيما كان الجميع يتقاذفون بالماء لَعِباً ولهواً ومَرَحاً لفتح شَهيِّتِهم، التقطَ الخوجا نَصْرُ الدِّين جميعَ الملابس المُلقاة على الأرض وألقاها في النار. وعندما خرج الجميعُ من الماء، كان الخَرُوفُ الصّغير قد باتَ مُحَمَّراً مشوّياً، وجميعُ الثياب قد احترقت بنار شِوائه.
صُدِمَ أصحابُ الخوجا وسألوه عمّا حدث مُندَهِشين.
أخذَ يشرحُ لهم بكلِّ برودة وهدوء: “آه، الملابس؟ لقد استخدمتُها لتأجيج النار، وبما أنّ غداً هو يوم القيامة، فما حاجتُكم إليها؟”.

بقرتُنا أتلَفَتْ حديقتَكم!
كان الخوجا نَصْرُ الدِّين قاضيَ زمانِه. وذاتَ يوم جاءَه جارٌ لمواجهته.
“خوجا أفندي، يبدو أنّ بقرتَك قد وَلَجت حديقتي وسبَّبَت تلفاً كبيراً في الخضار. فماذا يقول كِتابُ قوانينِك الكبير حول ذلك؟”.
أجاب الخوجا نَصْرُ الدِّين شَرْعَاً: “الحيوانُ لا عقلَ له. ولا يمكن تحميل صاحبه مسؤوليّـة سلوكه الغريزي. فلا حُكْمَ لعقوبةٍ في ذلك”.
استدركَ الجارُ الأمرَ قائلاً: “لقد أخطأتُ التعبيرَ يا خوجا أفندي. قصدتُ القولَ أنّ بقرتنا هي التي دخلت إلى حديقتكم وأتلفت خضارَكم”.
هنا تناول الخوجا كتابَه الكبير وقال: “دَعْني أنظرْ ما يقول القانون في ذلك!”.

القِدْر تُنْجِبُ ولا تموت!
استعارَ الخوجا نَصْرُ الدِّين قِدْراً من جاره. وعندما تخلَّفَ عن إعادتِها لفترةٍ طويلة، جاءهُ الجارُ طارقاً الباب.
قال الجار: “خوجا أفندي، إن كنت قد انتهيتَ من استعمال القِدْر، هلَّا أعدَتَها إليَّ؟ فزوجتي تحتاجها اليوم”.
قال الخوجا: “آه، بالطّبع. فقط انتظرني دقيقة وسأتفقَّدها”. ولدى عودة الخوجا إلى الباب حاملاً القِدْر، لاحظ الجار أنّ هناك إناءً صغيراً داخلها.
فسأله: “ما هذا”.
قال الخوجا: “حسناً، أُهنِّئُكَ يا جاري لقد أَنْجَبت قِدْرُكَ إناءً صغيراً”.
شكَرَ الجارُ المذهول والمسرور في آن الخوجا، والتقطَ قِدْرَه والإناءَ الصّغير الجديد وقَفَلَ عائداً إلى منزله.
وبعد مرور أسابيع قليلة، جاءَه الخوجا ثانيةً، وسأله أن يستعيرَ قِدْرَهُ. فلم يتردَّد الجارُ أبداً وأعارَ الخوجا القِدْرَ بكلِّ سرور. ومع ذلك، تخلَّفَ الخوجا مجدداً عن إعادتها. فلم يكن أمام الجار من بُدٍّ سوى أن يُطالبه بها من جديد.
“خوجا أفندي، هل انتهيتَ من القِدْر؟”.
فتأوَّه ملا نصر الدين قائلاً: “أوّاه يا جاري. أخشى أنّ قِدْرَكَ قد ماتت”.
فتعجَّبَ الجارُ المُرتاب وسأله: “كيف ذلك يا خوجا أفندي، هذا مُحال، وهل القِدْرُ تموت؟!”.
وكان الخوجا نَصْرُ الدِّين مُتَهيِّئأً للإجابة:
“يا صديقي العزيز، كيفَ لك أنْ تُصدِّق أنَّ القِدْرَ تُنجِبُ، ولا يسعُكَ أنْ تُصدِّقَ أنّها تموت؟”.

في الحمام التركي
في الحمام التركي

الزّوجة السبَّاحة
اتّخذَ مُلّا نَصْرُ الدِّين له زوجةً ثانية كانت أصغر بكثير من الأولى. وذاتَ مساء، عادَ إلى المنزل ليجدهما تتشاجران حول أيّهما الأَحَبّ إلى قلب المُلّا.
بدايةً، أخبرهما نَصْرُ الدِّين أنّه يُحبِّهما بالمقدار ذاته، لكن أيَّاً منهما لم تكتفِ بهذه الإجابة. عندها سألت الزّوجةُ الأكبر سنّاً: “حسناً، لنفترض أنّنا نحن الثلاثة كُنّا في قارب، وأخذَ يغرق بنا. فأيـّاً منّا تُحاوِل إنقاذها؟”.
فكَّر المُلّا لِلَحظة ثمّ قال للزوجة الأكبر سنّاً: “عزيزتي، أنتِ تُجيدين السّباحة، أليسَ كذلك؟”.

سِرُّ طول العمر
ذاتَ يوم سُئِلَ المُلّا نَصْرُ الدِّين عن سِرّ طول العمر.
فأجابَ: “ابقِ قَدَمَيكَ دافئتَين، ورأسَك بارداً، واحترسْ لِمَا تأكله، ولا تُفكِّر كثيراً”.
محامي الدّفاع: دَجاجة!
في أحد الأيام، تقدَّمَ بعضُ أصحاب الشأن من تيمورلنك بشكوى على المُلّا نَصْرِ الدِّين. فما كان من هذا الأخير إلاّ أنْ أخذَ دجاجةً وفِرَاخَها هديّةً إلى أحد مستشاري تيمورلنك لكي يُدافِعَ عنه.
وفي اليوم التالي استُدعِيَ نَصْرُ الدِّين وخصومه إلى القصر للحُكْم بينهم.
وبعد الاستماع إلى الشكوى، أخذَ المستشارُ يُدافِع عن المُلّا نَصْرِ الدِّين، ومن ثمَّ سألَ تيمورلنك الخوجا قائلاً: “ما الذي تقوله لتُثبِتَ أنّكَ لستَ مذنباً”.
فأجاب نَصْرُ الدِّين: “ليس لديَّ المزيد لأقوله أيُّها الكبير. لقد تحدَّثَت الدّجاجةُ وفِرَاخُها عنّي”.

صِفةٌ ممّا لستُ أذكرها!
سُئِلَ المُلّا نَصْرُ الدِّين في يومٍ من الأيام: “ما هي أفضلُ صفات البشرية؟”.
فأجابَ: “حَسَناً، لقد أخبرني أحدُ الفلاسفة مرَّةً أنّ هناك صِفَتَين. كان قد نَسِيَ الأولى، لكنّه أطلعَنِي على الثانية. ولكي أكونَ صادقاً، فقد نسيتها أنا أيضاً!”.

رجاءً لا تَكْشُفِي النِقاب ..!
كان العُرفُ الاجتماعي السائد في أيام المُلّا نَصْرِ الدِّين ألَّا تكشِفَ العروسُ عن وجهها لزوج المستقبل قبل الزواج.
وفي يوم زفاف المُلّا، كشفت زوجتُهُ النّقابَ عن وجهها وسألته: “قُلْ لي يا مُلّا نَصْرَ الدِّين، أيّاً من أقربائك يمكنني مقابلته من دون أن أُغطِّي وجهي أمامه بالنقاب”.
فأجابَ المُلّا بحسرة: “اكشفِي عن وجهكِ لمَن شئتِ، لكن رجاءً احرصي على إبقاء النقاب في حضوري!”.

في الحَمَّامٌ التُركي
قصَدَ مُلّا نَصْرُ الدِّين يوماً حَمَّاماً تركيّاً. لكنّه بسبب ثيابه الرَّثَّة، لم يَسْترعِ اهتمامَ الخادمَيْن هناك. فوضعا له قطعة صابون صغيرة، وخِرْقَة قماش يتّخذها مئزراً، ومنشفة قديمة فقط.
وفيما كان يُغادر الحَمَّامَ نَقَدَ كُلّاً من الخادمَيْن قطعة ذهبية. وكم دُهِشَا لسخائِهِ لأنّه لم يتذمّر من سوء خدمتهما. وتساءَلا كم كان ليُغدِقَ عليهما لو أنّهما عاملاه على نحوٍ أفضل”.
في الأسبوع التّالي، عاد نَصْرُ الدِّين مُجدداً إلى الحمَّام. لكنّ الخادمَين هذه المرَّة عاملاه معاملةً الملوك وقدَّما له مناشِفَ فاخرة مزركشة، ومئزراً من حرير. وبعد تدليكِه وتضميخِه بالعِطر، غادرَ الحَمَّامَ ونَقَدَ كـلّاً من الخادمَين أصغرَ قطعة نقود نحاسيّة لديه وقال الخوجا لهما: “هذه للزيارة الأولى. أمّا القطعتان الذّهبيّتان فهما لليوم!”.

الإجابة عن السؤال بسؤال!
حَدَثَ يوماً أنْ سُئِلَ مُلّا نَصْرُ الدِّين: “لماذا تُجيب دائماً عن السؤال بسؤالٍ آخر؟
فأجاب: “هل أفعلُ ذلك؟”.

أَتُصدِّقُ الحمار؟!
طرَقَ جارٌ بابَ مُلّا نَصْرِ الدِّين ذاتَ يوم وقال له: “خوجا أفندي، أوَدُّ أنْ أستعيرَ منكَ حمارك”.
فأجابه المُلّا: “أنا آسف، لقد سبَقَ وأعرتُهُ لغيرك”.
وما أنْ قالَ ذلك، حتى سُمِعَ صوتُ نهيــق حمارٍ من إسطبل الخوجا.
فقال الجار: “لكن يا مُلّا أسمعُ صوتَ الحمارِ في الدّاخل”.
أجابه نصر الدين غاضباً: “عارٌ عليكَ، أَتُصدِّقُ حماراً وتُكذِّبُني!!”.

كما يقولُ المَلِكُ
دعا المَلِكُ في أحد الأيام المُلّا نَصْرَ الدِّين إلى قصره لتناول العشاء. وكان الطبّاخُ المَلَكي قد أعدَّ من بين أصنافٍ أخرى، طبقَ ملفوف. وبعد العشاء، سأله المَلِكُ: “كيف وجدتَ الملفوف؟”.
فأجابه المُلّا مُجاملةً: “كان لذيذاً جداً”.
فبادر المَلِكُ إلى القول: “أظنُّ أنّ طعمَــهُ فظيع”.
فأردفَ المُلا موافقاً: إنّكَ على حَقّ أيُّها الملك، كان الملفوفُ غيرَ شهيٍّ على الإطلاق”.
فذكَّره المَلِكُ: “لكنّــكَ قُلتَ للتو إنّه لذيذٌ!”.
استدركَ المُلّا: “نعم، لكنّني تابعٌ مُخلِصٌ لسُلْطانِكُم، لا لسُلطانِ الملفوف”.

اختبار عجيب
تسلَّقَ مُلّا نَصْرُ الدِّين ذاتَ يوم إلى أعلى مئذنةِ مسجدٍ وصاحَ بصوتٍ عظيم.
وعلى الفور نزِلَ سريعاً وأخذَ يركض.
فسأله أحدُ المارّة: “خوجا أفندي لماذا تركض هكذا، ماذا يحدث؟”، فأجابه: “إنّني أركضُ لأتبيّن إلى أين يصل صوتي”.

النوم سلطان الصحة

نقص النّوم يحثّ على إنتاج صفائح الأميلويــــد في الدّماغ وقد يقلّص حجمه ويُسرِّع الإصابة بمـــــــرض ألزهايمر

العلم أثبت أن في الجسم عدة ساعات بيولوجيـــة لكل عضو أساسي من الأعضاء واحــــــــدة وأنـــــه حتّى الخلايا الدّهنيــــة تحكمها ساعة بيولوجيـــــــــة

أدنى قدر من الضّوء في غرفة النّوم يُحدِث اضطراباً في السّاعة البيولوجية الداخلية وفي إفراز الغُدَّة الصُّنوبريّة للميلاتونــــــين

لا تتناول طعاماً قبلَ النوم أو تحتسي مشروبات منبّهة وحاول الإخلاد إلى النوم في الوقت ذاته من كل يوم

دراسات أُثبتت علاقتُها بالعديد من الأمراض الخطيرة

الحِرمان المتواصل من النّوم

يُضعِف صِحّتك الجسديّة والنّفسيّة

نقص النّوم في أصل ضَعف المناعة للإنفلونزا
وعامل في زيادة الوزن والسّكري وضغط الدّم المرتفع

40% من البالغين لا ينامون ساعات كافية
والحياة العصريّة وعادات السّهر من أهم الأسباب

الإنسان مُصمّم للعيش باتّساق تامّ مع شروق الشّمس وغروبها
وتجاهُل هذه الحتميّة البَيولوجيّة يُسبِّب للصحّة مشكلاتٍ كبيرة

أحدُ أهمّ الأمور التي يجهلها الكثيرون في أيامنا هو الأهمّية الكبيرة للحصول على قدر كاف من النوم وبالتّالي مخاطر الحرمان من النّوم على الصحّة وتسببه في أعراض مرضيّة كثيرة وخطيرة أحيانا. يتوقّف الأمر بالطبع على درجة الحرمان من النوم وعلى عوامل أخرى كثيرة كما يتوقّف أيضاً على نظام ساعات النّوم ومدى حصول الفرد على النّوم العميق المتوائم مع الساعة البيولوجية للإنسان. لقد أثبتت الدراسات العلمية أنّ النّقص الفادح في النّوم قد يتسبّب بأمراض المناعة مثل الرّشح الدائم، وضعف مقاومة الجسم للأمراض والبدانة ومرض السكري فضلاً عن تأثير نقص النّوم على الدّماغ والذاكرة وزيادة مخاطر الإصابة بمرض الألزهايمر وكذلك أمراض القلب وضغط الدم المرتفع والسرطان وتسريع الشيخوخة. المشكلة أن كثيرين هذه الأيام لا ينعمون بالنوم الكاف إما بسبب عادات السهر الممتد حتى الصباح أو الحياة الفوضوية أو بسبب ظروف العمل المضني أو بسبب مزيج من ساعات العمل الطويلة حتى ساعات متأخرة من الليل، وفي جميع الحالات فإن الناس لا يعيرون أهمية لمخاطر نقص النوم ويعتبرون أن الجسم ربما قادر على تعويض ما يفوته وهذا خطأ أساسي كما سنرى. إنّ الهدف من هذه الدّراسة هو التّوعية بأهمية الحصول على قِسط كافٍ من النّوم من أجل التمتّع بصحّة جسديّة وذهنيّة ونفسيّة جيّدة. وإليكم الحقائق والبراهين العلميّة حول هذا الموضوع.

تُفيد نتائج مُستقاة من 300 دراسة علميّة أنّ حماية صحّة الإنسان تحتاج لأن يحصل المرء على فترة من النّوم تُقارب 8 ساعات ليلاً، أو على الأقل 7 ساعات. وهذا ينطبق على البالغين وكبار السن على حد سواء. أمّا الأولاد في سنّ المدرسة فهم يحتاجون إلى ما بين 9 و11 ساعة من النَّوم، فيما يحتاج المراهقون إلى ما بين 8 و10 ساعات من النوم . وأظهرت الأبحاث نفسُها وجود علاقة قويّة بين عدم الحصول على ساعات النوم الضّروريّة وبين عدد من الأمراض أو حالات الاعتلال الشائعة على الشّكل التالي:

النّوم والرّشح والأنفلونزا
أظهرت الأبحاث أنّ النوم لفترة تقلّ عن ست ساعات في الليل يضاعف مخاطر التقاط فيروس الرّشح بأربعة أضعاف.
فوفقاً لمَسْحٍ أجرته “مؤسّسة النوم الوطنية” (National Sleep Foundation) في الولايات المتحدة حول عادات الأميركيين في النوم ومقدار ساعات نومهم، تبيّن أنّ اضطرابات النوم واسعة الانتشار في البلاد، إذ إنّ قرابة 40 في المائة من البالغين يغلبهم النّوم خلال النهار، وأنّ 45 بالمئة من المراهقين لا يحظَوْن بقِسطٍ كافٍ من النوم في الأشهر الدراسية، وسُجِّل لدى 25 في المائة من الطلّاب النوم في الصّف مرّة واحدة على الأقل في الأسبوع. كما اتّضحَ أنّ واحداً من بين كلّ خمسة أميركيين ينام أقل من ست ساعات في الليل.
وفي إحصاءٍ أجرته مؤسّسة “غالوب” (Gallup) العام 2013، ارتفعت نسبة المحرومين من النوم إلى حدود 40 في المائة. وبيَّن العديدُ من الأبحاث أنّ البالغين الذين ينامون أقل من ست ساعات هم أكثر تعرُّضاً للإصابة بفيروس الرشح من أولئك الذين ينامون سبع ساعات على الأقل.
وأدّى النّوم لفترة أقل من خمس ساعات في الليل إلى زيادة مخاطر على الصّحة بنسبة 4.5 أضعاف. وأظهرت الأبحاث أنّ النوم كان أكثر أهمية من أي عاملٍ آخر في ما يتعلّق بالوقاية من فيروس الرشح، بما في ذلك عوامل المستويات العالية من التوتُّر والإجهاد، والتدخين، والتقدُّم في العمر.
وفي هذا الصدد، قال الدكتور نتانيل واتسون (Nathaniel Watson)، رئيس “الأكاديمية الأميركية لطب النوم” أنّ الدراسات أصبحت تعزز الفكرة القائلة بأنّ النوم مهمٌ جداً لصحّتنا ولا يقل أهميّة عن الحِمْيَة الغذائيّة والتّمارين الرّياضية. فنحن بحاجة إلى اعتبار النّوم أداةً لحياةٍ تتمتّع بالصحة، بدلاً من عدِّه عائقاً أمام القيام بالمزيد من النشاطات”.

النَّومُ وجهازُ المَناعة
إنّ للنّوم تأثير مباشر على حُسن عمل الجهاز المناعي (Immune System)، وقد أثبتَ بحثٌ نشرته “مجلة النّوم” (Sleep Journal) العالمية المختصّة أنّ لنقص النوم التأثير ذاته على جهاز المناعة كشأن الجهد البدني. فخلايا الدّم البيضاء تزدادُ عدداً عند الحِرمان من النوم، وهي ردّة الفعل ذاتها التي نشهدها في حال المرض أو التوتُّر والإجهاد.
وباختصار، سواء كُنّا مُجهَدين بَدَنيّاً، أو نشعرُ بالمرض أو محرومين من النّوم فإنّ جهازنَا المناعي يصبح مفرطَ النشاط ويبدأ بإنتاج خلايا الدّم البيضاء، الخطّ الدّفاعي الأوّل للجسم ضدّ الكائنات الغريبة التي تغزوه مثل الجراثيم والفيروسات المُسبِّبة للأمراض.
ولذلك تُحذِّر “الأكاديمة الأميركية لطب النوم” و”جمعية أبحاث النوم” (Sleep Research Society) من أنّ النوم لفترة تقل عن سبع ساعات ليلاً قد يتسبب بأمراضٍ عديدة أهمها الوزن الزائد، وداء السُّكّري (Diabetes)، وضغط الدم المرتفع، وأمراض القلب، والاكتئاب، وضَعف الجهاز المناعي، وتراجُع القدرات العقلية واختلال وظيفة الدماغ وغيرها.

بعض أهم نتائج الحرمان الطويل من النوم
بعض أهم نتائج الحرمان الطويل من النوم

نقص النوم ومرض السّكري
يرتبط الحرمانُ من النّوم أيضاً بزيادة في الأمراض المتّصلة بـ “الإنسولين” (Insulin). فاختلال الحساسية للإنسولين، أو ما يُعرف بـ “مقاومة الإنسولين” (Insulin Resistance)، يحدثُ عندما لا يستخدم الجسم الإنسولين على نحو مناسب، ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات السُكّر في الدم. ومقاومة الإنسولين هي أول مؤشر على الإصابة بـداء السُّكّري المتأخر Type II،كما أنّه يزيد مخاطر التعرّض للعديد من الأمراض المُزمنة الأخرى، لأنّ التحكُّم بمستويات الإنسولين هو من بين أهم الوسائل لخفض مخاطر ضغط الدّم المرتفع وأمراض القلب والسّرطان. لذا، فإنّ الوسيلة المُثلى التي لا بُدّ منها هي تحسين سلوك النّوم للتغلُّب على مخاطر الإصابة بتلك الأمراض.

جهازُ المَناعةِ والميلاتونين
على مدى أكثر من قرنٍ اتَّبعَ العالَمُ المُتحضِّر تجربةً مفتوحةً تمثّلت بإطالة ساعات النّهار وتقصير اللّيل وذلك للحصول على مجتمعٍ مُنتِجٍ على مدار الساعة، وتم ذلك خصوصا عبر تعميم الإضاءة والإنارة.
لكنّ “التلوّث بالضّوء” المتولّد من التكنولوجيا المعاصرة يجعلنا ندفع فاتورة بيولوجيّة ثقيلة. فالجسم يحتوي على عددٍ من الساعات البيولوجيّة التي تحكمها دورات الأرض من الضّوء والعتمة.
وباختصار، الإنسان مهيَّأ لكي يكون نشطاً وحيوياً أو عكس ذلك باتّساق تام مع دورة شروق الشمس وغروبها، وإنّ تجاهُل هذه الحتميّة البيولوجية يُسبِّب للصحّة مشكلات كبيرة.
فالسّاعة البيولوجية الرئيسية للإنسان تكمن في جزء صغير جدّاً من الدّماغ يدعى الغدّة الصّنوبرية Pineal Gland تقع تحت الهيبوتالاموس (Hypothalamus). واستناداً إلى إشارات الضوء والعتمة، تعطي هذه الغُدَّة الإشارة بأنّ الوقت حان لإفراز هرمون “الميلاتونين” (Melatonin)، وهو مضاد للأكسدة قوي ومُبدِّد لِمَا يُسمَّى بـ “الجُذور أو الشوائب الحُرَّة” (Free Radicals) ويساعد أيضاً على محاربة الالتهابات وبعض الأمراض.
لكنّ الضّوء الاصطناعيّ الذي أصبح مُنتشراً بسبب الحياة المعاصرة يُحدِث اضطراباً في الساعة البيولوجية للجسم وبالتّالي اضطراباً في إنتاج هرمون الميلاتونين، وهو بدوره يُخِلّ بوظيفة الجهاز المناعي. وفي الواقع، فإنّ الميلاتونين هو في غاية الأهمية لجهازنا المناعي لدرجة أنّ نقصَه يُسبِّب ذبول “الغُدَّة الصّعتريّة” (Thymus Gland)، وهي مكوِّن رئيسيّ في جهاز المناعة.

الميلاتونين والسّرطان
يساعد هرمون الميلاتونين أيضاً على حماية صحة الخلايا، وهو عامل قوي جداً مضاد للسرطان. فالخلايا حتى السرطانية منها لديها مُستَقبِلات لهرمون الميلاتونين، لذا عندما يقوم الميلاتونين بنشاطه الليلي حيث يصل إنتاجه إلى أقصاه خلال الليل، يتباطأ انقسام الخلايا. وهرمون الميلاتونين إذا ما دخل خلايا سرطان الثدي على سبيل المثال، فإنّه يُحارب ميل “الأستروجين” (Estrogen) لتحفيز نمو الخلايا الخبيثة. كما أنّه يُحفِّز ما يُسمَّى بالتدمير الذاتي للخلايا السرطانية ويتدخّل مع إمداد الدم للأورام ويُبطئ نموها.
وهنا يُلاحظ أنّ عمّال النّوبات اللّيلية يعانون مخاطر متزايدة من اكتساب الوزن، وداء السُّكّري والسرطان. وبذلك يكون للحرمان من النّوم تداعيات تتجاوز فحسب الإصابة بالرّشح والأنفلونزا.

النّوم ومرض ألزهايمر
إنّ الافتقارُ إلى النوم الكافي قد يكون مؤشرَ إنذارٍ مبكّرٍ لبداية مرض ألزهايمر (Alzheimer) وفقاً لبحثٍ جديد. وفيما تُعتبر مشكلات النّوم شائعة لدى مرضى ألزهايمر، فإنّ الافتقار إلى النوم قد يُسهم أيضاً في تطوُّر هذا المرض عبر حثّه لتراكم “صفائح الأميلويد” أو “صفائح بروتين النّشا” (Amyloid Plaques) في الدّماغ، المُساهِم الأول في مرض ألزهايمر.
ويقول أحد الباحثين إنّ النوم يبدو كقطعة مفقودة في “أُحجية ألزهايمر” ومن شأن تحسين النوم أن يُخفِّف من العبء الفكري على مرضى ألزهايمر. وقام الباحثون بقياس موجات الدماغ لـ 26 مُسِنٍّاً خلال فترة نومهم ووجدوا أنّ أولئك الذين يتّسِمون بأنماط نوم عميق غير مستقرّ لديهم كميات أعلى من “صفائح الأميلويد” في أدمغتهم. وإضافة إلى ذلك، فإنّ النوم المضطرب والمستويات العالية من “صفائح الأميلويد” ارتبطت بالأداء الضّعيف في اختبارات الذاكرة التي أُجريت قبل النوم وبعده. وخرجت هذه الدراسة بنتيجةٍ مُفادها أنّ النّوم هو في غاية الأهمّية لصحّة الدّماغ.
فالنّوم ضروري للحفاظ على التّوازن الدّاخلي Metabolic في الدماغ. فمن دون كميّة كافية من النّوم تتراجع الخلايا العصبيّة أو العُصبونات (Neurons). ففي دراسة أُجريت على الحيوان، تبيّن أنّ النوم المتقطّع أو غير الكافي، وفي غير أوانه نجمَ عنه ضررٌ كبير في الدماغ، حيث فقدت الفئران حوالي 25 بالمئة من الخلايا العصبية الموجودة في منطقة “همزة الوصل الدماغي” (Locus Coeruleus)، وهي نواة في جذع الدماغ مرتبطة بالنّهوض والإيقاظ وبعض العمليّات الفكريّة. وقد نَشرت هذه الدّراسة مجلة “تايم Time Magazine الأميركيّة الواسعة الانتشار.
واتّضح أنّ مشكلات النّوم مثًل الأرق الدّائم لها تأثيرٌ كبير على الدّماغ مع مرور الوقت، فتتقلّص كتلته سريعاً مقارنةً بأولئك الذين ينعمون بأنماط نوم سليمة ولفتراتٍ كافية، لا سيّما لدى مَنْ هم فوق الستين.
فالدماغ يتميّز بوسيلة فريدة للتخلُّص من الفضلات السّامة من خلاياه عبر ما يُسمّى بـ “الجهاز الغليمفاوي” أو “الجهاز التنظيفي” (Glymphatic System)، وهو يُنظِّف الدماغ من المخلّفات الأيضية وفضلات العمليات الدماغية، ويتم ذلك عبر دفق “السائل المُخِّيْشَوْكيّ” (Cerebral Spinal Fluid) داخل أنسجة الدماغ لغسل تلك الفضلات وإزالتها منه وإعادتها إلى الدورة الدموية في الجسم، ومن ثمّ إلى الكبد الذي يتخلّص منها. وهذا الجهاز يتنشَّط خلال النوم بما يتيح للدماغ التخلُّص من سمومه، بما في ذلك البروتينات المؤذية المرتبطة بمرض ألزهايمر. فخلال النّوم يصبح “الجهازُ الغليمفاوي” أكثر نشاطاً بعشرة أضعاف منه أثناء اليقظة.

النّوم والساعاتُ البيولوجيّة
وفقاً لبحثٍ أُجريَ حديثاً، فإنّ النّوم غير الوافي قد يكون له تداعيات كبيرة من ناحية الاعتلالات الأيضيّة Metabolic، مثل اكتساب الوزن ومقاومة الإنسولين أو السُّكّري، وأنّ تحسين عادات النوم قد يكون له تأثيرٌ من ناحية منع الإصابة بتلك الأمراض وعلاجها. والأمر يتعلّق بما يُسمَّى بـ “الساعات البيولوجية” أو “الجهاز اليَوماوي” (Circadian System)، وهناك عددٌ من تلك الساعات، لا ساعة واحدة كما هو شائعٌ. ففي السنوات الأخيرة توصَّل العلماء إلى اكتشافٍ مهمّ، مفاده أنّ هناك ساعات بيولوجيّة مختلفة، ساعة في كلّ عضو أساسي من أعضاء الجسم، حتّى في الخلايا الدّهنيّة.
ويقول العالم المختصّ فريد توريك (Fred Turek) من “جامعة نورث ويسترن” (Northwestern University) الأميركيّة إنّ هذا الاكتشاف أدهشَ العلماء. فالجسم البشريّ غدا أشبه بآلةٍ ضابطة للوقت، ونحن بحاجةٍ إلى توقيتٍ منتظم للنوم والأكل لإبقاء ساعاتنا البيولوجية في توازنٍ وتناغمٍ، وهذا ما يقينا من الأمراض المُزمنة.
وكانت دراسة تمهيدية وجدت أنّ نقص النّوم حتى ولو بمقدار 30 دقيقة كلّ ليلة قد يخلّ بالعملية الأيضية ويؤدّي إلى اكتساب الوزن، وكذلك زيادة مقاومة الخلايا للإنسولين، وبالتالي فإنّ تحسين ساعات النوم كوسيلةٍ في إطار تدخُّلات تغيير نمط الحياة من أجل خفض الوزن والوقاية من السُّكّري قد يُحقِّق نجاحاً لتلك التدخّلات، وذلك بحسب المُشرِف على هذه الدراسة شهراد طاهري (Shahrad Taheri)، أستاذ الطب في “كلّية وايل كورنيل الطبيّة” (Weill Cornell Medical College) في قطر.

النّوم ..وعوامل إضافيّة لمقاومة الرّشح

هنا إرشادات أساسية للوقاية من الرّشح في هذا الموسم البارد:
• الاهتمام بتحسين جَوْدَة النوم والحرص على التمتُّع بثماني ساعات من النّوم يوميا
• تعزيز مستويات فيتامين “دي” (D) في الجسم، وهو من أفضل الحلول لتجنُّب الالتهابات من جميع أنواعها والضّعف أمام الفيروسات، لاسيّما فيروسات الرّشح والأنفلونزا.
• تجنُّب السّكر والمشروبات المحلّاة والأطعمة المعالجة. فالسّكر يخلّ بوظيفة الجهاز المناعي سريعاً. وهنا ينبغي الانتباه إلى وجود السّكر الغني بالفركتوز في أطعمة لا نشتبه بها، مثل الكاتشب وعصائر الفاكهة.
• تفعيل البكتيريا المثفيدة في الأمعاء، وهو في غاية الأهمّية لأنّه يُعزِّز جهاز المناعة إلى حدٍّ كبير وذلك بتجنُّب الأطعمة المضرّة واستبدالها بالدهون الصحيّة وبكمّيات منتظمة من الأطعمة المخمّرة. كما يُنصَح بزيادة تناول الدّهون الصّحية والضّرورية مثل الأحماض الدهنية “أوميغا 3” الموجودة في الجوز وزيت الزيتون والأوفكادو والمأكولات البحرية وزيت السمك.

إرشادات لنومٍ هانئ وعميق

غرفة مُعْتمة وحرارة بين 16 و 20 درجة
ووقف العمل الذّهني قبل ثلاث ساعات من النوم

يجب إطفاء «الواي فاي» وإبعاد الخلوي عن السّرير أمتاراً
وعدم وضع تلفزيون أو أجهزة إلكترونيّة في غرفة النوم

يوصي العلماءُ بعددٍ من الإرشادات للتمتُّع بنوم صحي، هانئ وعميق، وهذه الإرشادات هي كالآتي:
• تُنتِج الغُدَّةُ الصَّنوبريّة هرمونَ الميلاتونين تماشياً مع تباين التعرُّض لأشعّة الشّمس الباهرة نهاراً والظلمة الكاملة ليلاً. فمَنْ يقبع في الظّلام دائماً لا تُميِّز الغُدَّةُ الصُّنوبريّة لديه الفارقَ ولا تُفعِّل إنتاجَ الميلاتونين. لذلك من أجل ضبط إيقاع ما يُسمَّى بـ “الجهاز اليَوماوي” (Circadian System)، ينبغي الحرص على التمتُّع بأشعة الشمس صباحاً لفترة 10 إلى 15 دقيقة على الأقل، وهذا من شأنه أن يبعث برسالة قوية إلى الساعة الداخلية في الجسم بأنّ النهار قد أقبَلَ، وبالتالي لا تختلط عليه إشارات الضوء الضعيف في أوقات لاحقة، خصوصاً بسبب الإضاءة الاصطناعية ليلاً. كما يُستحسن التعرُّض للضوء خارج المنزل لفترة 30 إلى 60 دقيقة في منتصف النهار أو أي وقت آخر من أجل ضبط إيقاع هذه الساعة البيولوجيّة.
• للتكنولوجيات الباثّة للضّوء تأثيرٌ كبير على النّوم، لذا يُستحسن تجنُّبها قبل الإخلاد إلى النوم على الأقل بساعة أو أكثر. فشاشات التلفاز والكومبيوتر تبثّ الضوء الأزرق، وهو يُماثل الضوء الطبيعي الذي نتعرّض له خارج المنزل. وهذا ما يخدع الدّماغ ويُوحي له بأنّ النهار لا يزال مستمرّاً، وبالتّالي يعمل على إيقاف فرز الميلاتونين. فالدّماغ في الظروف الطبيعية يبدأ بإفراز الميلاتونين بين الساعة التاسعة والعاشرة مساءً، وهذا ما يجعلنا نشعرُ بالنعاس. فعند اضطرار هذه الدّورة الطبيعيّة لإيقاف إفراز هذا الهرمون بفعل التعرُّض الزّائد للضّوء بعد مغيب الشمس، يحدثُ الأرق (Insomnia).
وبحسب الباحث المختصّ مايكل غراندنير (Michael Grandner)، من “جامعة بنسلفانيا” فإنّ الأرق غالباً ما يكون تأثيراً جانبياً للانخراط في نشاطٍ ما في الوقت الذي ينبغي به للجسم أنْ يتحضَّر للنّوم، وعلى الأخصّ استخدام الأجهزة الإلكترونية ومشاهدة التلفاز، فيجد المرء نفسه يتقلّب في فراشه والنوم يُجافيه ولا يُقارِب جفونه أبداً.
وحتى أدنى حدٍّ من الضّوء في غرفة النوم يُحدِث اضطراباً في الساعة البيولوجية الداخلية وفي إفراز الغُدَّة الصُّنوبريّة للميلاتونين. لذا يُفضَّل إغلاق الباب وإطفاء الأضواء، والامتناع عن تشغيل أي إنارة خلال الليل، إلا ما كان باهتاً جداً، حتى عند النهوض والتوجُّه إلى الحمّام. ويمكن استخدام مصباحٍ يدوي ذي ضوءٍ خافتٍ أصفر أو برتقالي أو أحمر، حيث إنّ الضّوء في هذا النطاق لا يعمل على إيقاف إنتاج الميلاتونين كشأن الضّوء الأبيض والآخر الأزرق اللّذين يُماثلان ضوءَ النّهار. وإذا كانت هناك ساعة رقميّة أو مُنبِّه فيجدر وضع غطاء على الشاشة المضيئة، والحرص على عدم دخول أي إضاءة قدر الإمكان من النوافذ بإسدال السّتائر.
• أظهرت الدراسات أنّ درجة الحرارة المُثلى لغرفة النّوم هي بين 16 و 20 درجة مئوية. ومن شأن إبقاء الغرفة عند درجة حرارة أقل أو أكثر من ذلك أن يؤثّر في النوم. ذلك أنّ الإنسان عندما يكون نائماً تنخفض درجة حرارة جسمه الداخلية إلى أدنى مستوياتها، وعادةً ما يكون ذلك بعد أربع ساعات من الاستغراق في النوم. وهنا يرى العلماء أنّ غرفة النوم الباردة نسبياً قد تساعد أكثر على النوم حيث إنّها تُحاكي الانخفاض الطبيعي لدرجة حرارة الجسم.
• الاستحمام بمياهٍ دافئة قبل النّوم بساعةٍ ونصف الساعة أو ساعتين وهذا يساعد على رفع حرارة الجسم الداخلية، وعند الخروج من الحمّام تنخفض هذه الحرارة بسرعة، وهذا ما يُرسِل إشارة للجسم بالاستعداد للنوم.
• الحرص على عدم وجود أي مصدر للحقول الكهرومغناطيسية (EMF) بالقرب من السّرير، إذ إنّها تُحدِث اضطراباً في الغُدَّة الصُّنوبريّة وإفراز هرمونَي الميلاتونين و”السيروتونين” (Serotonin)، فضلاً عن تأثيراتها السلبية الأخرى. حتى إنّ بعض الخبراء يوصي بإغلاق الدائرة الكهربائية في المنزل قبل الخلود إلى النوم لقطع جميع إمدادات الطاقة في المنزل التي قد تُحدِث مثل هذه الحقول.

النوم له حقّه فلا تصطحب الألكترونيات إلى السرير
النوم له حقّه فلا تصطحب الألكترونيات إلى السرير

• إبعاد الساعات الإلكترونية والمُنبِّه وجميع الأجهزة الإلكترونية عن السرير. وفي حال الاضطرار لاستخدام تلك الأجهزة، ينبغي إبقاؤها أبعد ما تكون عن السرير، أقلّه متراً. ويُوصَى بإبعاد الهواتف الخلوية، واللاسلكية، وأجهزة شحنها لمسافة أكبر بكثير عن السرير لتجنُّب الحقول الكهرومغناطيسية المؤذية.
• عدم تناول الطعام في وقتٍ متأخّر من الليل، فهذا إلى جانب إخلاله بالساعات البيولوجية للجسم، يجعل المرء يشعر بالامتلاء والانتفاخ ويصعب عليه الاستغراق في النوم. لذا من الأفضل تجنُّب تناول الطعام قبل النوم، أو تناوله على الأقل قبل ساعتين من دخول السرير.
• عدم احتساء مشروبات تحتوي على الكافيين، فالكافيين يؤثّر في الجسم حتى بعد مضي 12 ساعة على تناوله. والبعض إذا ما احتسى كوباً من القهوة ظهراً يجد صعوبة في النوم ليلاً في توقيته المعهود. والكافيين موجود ليس فقط في القهوة، بل في الشاي والمشروبات الغازية والشوكولاته. والأمر ذاته ينطبق على مصادر النيكوتين مثل السجائر والنارجيلة وأنواع التبغ وغيرها.
• الاستماع إلى موسيقى هادئة، وهو ما يُنشِّط “موجات ألفا” (Alpha Wave) في الدّماغ ويُرسي تناغماً بين فَصَّيه، وبالتالي يساعد على الاسترخاء ما يجعلنا ننعَمُ بنومٍ عميق.

غرفة نوم مثالية لأنها معتمة ومريحة ولا يوجد فيها تلفزيون أو كمبيوتر أو إلكترونيات -2
غرفة نوم مثالية لأنها معتمة ومريحة ولا يوجد فيها تلفزيون أو كمبيوتر أو إلكترونيات -2

صَحّ النوم
فيما يلي ثلاثة عوامل لتحديد مدى صحّة النوم، وفقاً للباحث دان باردي (Dan Pardi) من “جامعة ستانفورد” (Stanford University):
1. مُدّة النوم: أي عدد الساعات التي نستغرقها في النوم. إنّ متطلبات النوم تتباين بحسب الأفراد، وقد تتغيّر بين يومٍ وآخر، اعتماداً على عوامل مثل الإجهاد، والإرهاق الجسدي، والمرض، وغيرها. لكن في الإجمال معظم الناس يحتاج إلى نحو ثماني ساعات من النوم ليلاً.
2. توقيت النوم: أي عادة الخلود إلى النوم مساءً في الوقت ذاته تقريباً. فحتى إذا كانت فترة النوم هي نفسها، ففي حال تغيير توقيت دخول السرير والهجوع لا يكون النوم كافياً أو صحيّاً كعادته.
3. عُمْق النوم: ذلك يتعلّق بالمراحل المختلفة التي يمر بها الدماغ والجسم طوال فترة الليل، وتتالي هذه المراحل بمختلف موجاتها وكيفية ارتباطها. وبعض الأدوية تخلّ بمراحل النوم، أو قد تجعله متقطِّعاً، فلا يكون النوم هانئاً وصحيّاً حتى ولو استغرق الفترة ذاتها.

اِعرفْ شخصيّتك من أسلوب نومك!!

ما الفرق في الشّخصية وأسلوب العيش
بين من ينامون باكراً وبين مُطيلي السّهر

العلم أثبت أنّ المَيْل للنوم المبكر أو للسهر
موجود في البَصمات الجينيّة لكلّ إنسان

أهلُ النّوم المُبكر منظّمون وينعمون بالرّضا في حياتهم
وأهل السّهر أكثر توتّراً وقلقاً لكنهم أكثر إبداعا

مطيلُ السّهر مُفرِط في الأكل لكنّه ظريف ومحبّ للمجازفة

أهل الإبكار ناجحون في المِهَن واجتماعيّون
وأهلُ السّهر يحبّون الفنون والمشاريع الرّياديّة

سيُفاجأ القارئ بأن عادات النوم إبكاراً أو سَهَراً قد يكون لها علاقة بالشّخصية كما أنّ لها حسبما أكّدت الدّراسات علاقة قويّة بالعديد من عاداتنا الأخرى وحالتنا النّفسية مثل الطّعام والمزاج وأسلوب العمل وطبيعة المِهن التي نختارها وغير ذلك من الفوارق . هنا ووفقاً لنتائج أبحاث علميّة حول الموضوع مُلخّص لتلك الفوارق:

إجهاد العمل الليلي له والحرمان من النوم نتائجه خطيرة على الجسم
إجهاد العمل الليلي له والحرمان من النوم نتائجه خطيرة على الجسم

السّجل الصِّحّي
يتّسِم النائمون باكراً بدقّات قلب أقلّ سرعة، ويشكون بنسبة النّصف من حالات النوم المتقطّع، فيما يتّصفون بوزنٍ أخفض من المتأخّرين في نومهم. ويقول جو ليشتين Jo Lichten، الاختصاصي بعلم التّغذية ومؤلّف كتب حول تحفيز نشاط الجسد والتّركيز والإنتاجية، إنّ عشّاق السهر غالباً ما تكون لديهم في المقابل مستويات أدنى من الكوليسترول الجيد (HDL)، وهم ممن يشخر ليلاً، وترتفع لديهم مستويات هرمون التوتُّر “الكورتيزول” (Cortisol). كما أنّهم أكثر قلقاً واكتئاباً من المُبكِّرين في النوم ويميلون إلى استهلاك كميات كبيرة من الكافيين ويُدمنون عليه. أمّا الذين ينامون باكراً، وبالتالي يستيقظون باكراً، فهم أكثر مقاومة للتوتُّر وينعمون بمستوى أعلى من الرضا في الحياة. لكنّ “المُبكِّرين” يترنّحون نَعَساً بعد الغروب، فيما يبقى “المتأخّرون” أكثر تيقُّظاً وتركيزاً.

عادات الأكل
عادةً ما يتناول المُبكِّرون فطورَهم بُعيد الاستيقاظ مباشرةً، فيما يميل المتأخّرون إلى تناول وجبات آخر الليل، كما تقول عالِمة التغذية بام بيك (Pam Peeke). فبعد الساعة الثامنة مساءً يستهلك المتأخّرون سُعرات حرارية ضعف ما يتناوله المُبكِّرون، لكنّ هذه الوجبات قد لا تكون مُشبِعة لأنّ هرمون “اللبتين” (Leptin) عادةً ما يكون عند أدنى مستوياته مساءً، بما يحدّ من الإحساس بالشّبع. ونتيجةً لذلك من السهل أن يُفرط المتأخّرون في تناول الأكل وهو ما قد يؤدّي إلى زيادة الوزن والبدانة. وحيث إنّ المتأخّرين غالباً ما يسهرون إلى وقتٍ متأخّر من الليل لكنْ مع حاجتهم للاستيقاظ باكراً للذهاب إلى العمل، فهم أكثر من يُحرَمون من النوم. والحرمان من النوم قد يؤدّي إلى خللٍ في هرمون الشبع “اللبتين” وهرمون الجوع “الغريلين” (Ghrelin)، وهذا ما يدفع إلى فرط تناول الأطعمة الغنية بالنشويات، لا سيّما السّكر المكرّر، المضرّ بالصّحة.

الذين يستيقظون باكراً أكثر مقاومة للتوتُّر وينعمون بمستوى أعلى من الرضا في الحياة
الذين يستيقظون باكراً أكثر مقاومة للتوتُّر وينعمون بمستوى أعلى من الرضا في الحياة

الشخصية الاجتماعية
يميل المُبكِّرون أكثر من المتأخّرين إلى الالتزام بخطة ما والعمل على تحقيقها. وهم ينزعون إلى كونهم أقل اكتئاباً وأكثر تركيزاً، كما يتمتّعون غالباً بتحكُّمٍ أكبر بالذات. أمّا المتأخّرون فيميلون إلى الظرافة، والإقدام والمجازفة، وكذلك يكونون أكثر إبداعاً. وكشفت دراسة متخصّصة في مجلة “الفوارق التعليمية والفردية” (Learning and Individual Differences) أنّ المتأخّرين أبدوا قدرة معرفيّة إيجابيّة وإنجازاً أكاديمياًّ سلبياًّ، في حين أنّ المُبكِّرين أظهروا قدرة معرفيّة سلبيّة وإنجازاً أكاديميّاً إيجابيّاً.

المسار المِهَني
ينزع المُبكِّرون على ما يبدو نحو نمط حياة أكثر تقليديّة، بينما غالباً ما ينجذب المتأخّرون تجاه الفنون وخوض المشاريع الرّيادية. وهنا يلحظ الباحثون أنّ المتأخّرين يتّسِمون بإلهامٍ خلّاق وإبداعي في الليل بينما يبرع المُبكِّرون في عالم التجارة والأعمال والشركات. فإذا ما كان الموظّفُ ممّن ينام في وقتٍ متأخّر من الليل، وهو يعمل في شركة كبيرة تُنظِّم كلّ اجتماعاتها وتتّخذ قراراتها الوظيفية الحاسمة في الصباح الباكر، فلا ريبَ أنّ أداءه سيكون شاقاً ومتعثِّراً، وهذا ربّما ينعكس عليه اكتئاباً وتراجعاً في الثقة بالنفس والحياة. في المقابل، إذا ما كان المُبكِّرُ في نومه واستيقاظه يسعى جاهداً إلى تحدّي المخاطر والمجازفة في الإبداع بعمله ليلاً، كشأن المتأخّرين، فإنّه من دون شك سيصاب بالإرهاق والتوتُّر.

إنّها في الـ DNA!
في ظل تواصُل الدراسات العلميّة المختصّة، تُظهِر بعض الأبحاث أنّ شخصيتَي المُبكِّر والمتأخّر نوماً مُشَفَّرتين فعلاً في جِيناتنا الوراثيّة (Genes)، ويبدو أنّ الجِين Period3 أو PER3 يلعب دوراً كبيراً في تحديد مَنْ هو من النّاحية الجِينيّة مُبكِّراً في نومه ومن هو المتأخّر. وتبيّن أنّ التسلسل التكراري لهذا الجِين يؤثّر في استعداد المرء لأنّ يكون إمّا من عُشّاق الصباح الباكر وإمّا من المُولعين بالسهر ليلاً.

السّاعة البيولوجيّة والتّقدُّم عُمراً
فيما يميل المرءُ إلى النّوم والاستيقاظ باكراً أو السّهر والاستيقاظ متأخّراً بفعل عوامل جِينية، فإنّ الوضع يختلف مع الساعة البيولوجية الداخلية، التي تُنظِّم إيقاع النوم والاستيقاظ والراحة والنشاط. فالساعة البيولوجية (Biological Clock) بإيقاعها اليومي (Circadian Rhythm) تضبط دورة النّوم والاستيقاظ ليلَ نهار، وهي تتغيّر على مرّ السنين والمراحل العمرية. فالأطفال عموماً هم من المستيقظين باكراً. وفيما يصل الطفلُ إلى سنوات المراهقة، غالباً ما يصبح أكثر نشاطاً في اللّيل وبالتالي نؤومَ الضُّحَى. ومع التقدُّم في العمر وتراجع الهرمونات الجنسيّة، يغدو الرّجالُ والنّساء أكثر فأكثر ضمن فئة المُبكّرين.
وبما أنّ الحمض الوراثي والفئة العُمريّة يؤثّران في جعلنا من “المُبكّرين” أو “المتأخّرين”، فربّما يثير إحداثُ تغييرٍ جذري تحدّياً كبيراً. وربّما ينجح البعض في تغيير فترة نومهم لنحو ساعة واحدة تقديماً أو تأخيراً من دون تداعيات تُذكر، لكنّ تغيير نمط ساعات النوم لأكثر من ذلك قد يكون له تأثيرات سلبيّة على الصّحَّة والمزاج، وكذلك القدرة على التّفكير. وهنا ينصح الباحثون أنّه بدلاً من فرض نمطِ نومٍ جديد باستخدام المنبِّهات الصّدّاحة على سبيل المثال، ربّما يجدر في المقابل تكييف نمط حياتنا مع دورة نومنا الطبيعية. فهناك على سبيل المثال، رجلُ أعمالٍ شهير عالمياً لا يُحدِّد أيَّ موعدٍ لمقابلةٍ أو اجتماع عمل قبل الساعة العاشرة صباحاً، ولا يتحدّى نمط نومه الطبيعي! وعلى ذمة الشاعر عمر الخيام:
“فما أطالَ النومُ عُمراً ولا قصَّرَ في الأعمارِ طُولُ السَّهَر”.

 

الغذاء الملكي

ذلك الأكسير العجيب:

غذاء النحل الملكي

بسبب التغذية به تعيش الملكة حتى 6 سنوات
بينما لا تعيش النحلة العاملة أكثر من 3 أشهر

بعض العلماء حاول تركيب مادة تشبه الغذاء الملكي
فلم يجدوا لها أي تأثير هرموني مشابه للغذاء الملكي

تفرزه العاملات الصغيرات السن من غدد في مقدمة رأسها
هلامي أبيض اللون حامض الطعم لكن فوائده لا تحصى

فعاليته أُثبِتَت علمياً لحالات فقر الدم وضعف الخصوبة
وفي علاج عدد من الأمراض الجسدية والأعراض النفسية

يُعَدُّ الغذاءُ الملكيّ أو الهُلام المَلَكيّ من أفضل الموادّ الغذائيّة التي يعتمدها الإنسان كغذاء ودواء، ولا يستهلكه إلّا الأشخاص الميسورون ماديّاً والذين هم بحاجة ماسّة له كدواء. وله فوائد وخصائص عديدة هامّة فهو مُغذٍّ فعّال وسريع الهضم ولا توجدُ في مصانع الأدوية البشريّة أيّة مادّة شبيهة بالغذاء الملكيّ خاصّة من ناحية تأثيره على نموّ جسم الإنسان وعدم ظهور الشيخوخة المبكر، وهو هامٌّ جدّاً لتقوية الإخصاب.
الغذاء الملكيّ مادّة هُلاميّة لَزجة الشّكل لونها عاجيّ يميل إلى الأبيض، تُفــرزُ هذه المادّة من غُدد موجودة في رأس النّحلة المولودة حديثاً، أمّا كميّة الغذاء المَلَكيّ الذي تفرزه العاملات الحديثة تتوقّف على نوعية الغذاء التي تتناوله، فإنّ النّحل الذي يتغذّى على مزيج من العَسَل وحبوب اللّقاح المتنوّعة يصبح أكثر إنتاجا وإفرازاً من الغذاء المَلَكي. يحتوي الغذاء الملكيّ على العديد من الفيتامنات أهمّها: جميع فيتامينات ب المركّب ومنها حمض البانتوثنيك Pantothenic acid ويحتوي الغذاء الملكي أيضاً على معادن وإنزيمات وهرمونات وثمانية عشر حمضاً آمينيناً ومكوّنات مضادّة للبكتريا ومضادّة للكائنات الحيويّة الضارّة والقليل من فيتامين ج.
الغذاء الملكيّ هو الغذاء الرّئيسيّ للملكات الذي يميّزها عن باقي أفراد الخليّة العاملات والذّكور، وبسبب التّغذية المتخصّصة للملكات فإنّها تختلف عن العاملات بحجمها الكبير الذي يصبح نحو ضعف حجم العاملة أو الشغّالة، وتضع الملكة ما يقارب وزنها نحو 2000 بيضة يوميّــاً، بينما الشغّالات عقيمة. تعيش الملكة نحو 7 سنوات أي نحو 40 مرّة أطول من عُمر الشغّالات الذي لا يزيد عن 3 أشهر هذا في فصل الشتاء. أمّا في مرحلة الأزهار الوفير يتراوح عمرها بين 40 و60 يوماً. فإنّ هذا الاختلاف في أفراد خليّة النّحل أدّى إلى تفعيل دور هذا الغذاء وتعزيز دوره في التّسويق من الدّول الأوروبيّة والآسيويّة كدواء وعلى نطاق واسع لفوائده الكثيرة، نذكر أهمّها لاحقاً.

ما هو الغذاءُ الملكيُّ؟
الغذاء الملكيّ هو مادة لزجة تفرزها العاملات شغّالات النّحل الصّغيرة السنّ التي يتراوح عمرها ما بين 4 إلى 14 يوماً، وذلك من زوجين من الغُدد البلعوميّة التي تتواجد في مقدّمة رأس النّحلة. لهذه المادّة رائحة خاصّة، أمّا مذاقه فهو لاذع ولم يحدّد الطّعم بنوع واحد بل خليط من الأطعمة الثلاثة (الحارّ والحامض والمرّ)، وتتغذّى عليه يَرَقات النّحل الحديثة السنّ من الشغّالات والملكات والذّكور وتقسم الفترة العمرية لكلٍّ منها كالتّالي: العاملات تتغذّى حتى اليوم الثالث من عمرها اليَرَقي، ويرقات الذّكور حتى اليوم الخامس من عمرها، وتستمرّ يرقات الملكات فقط بالتّغذية عليه حتى نهاية مرحلة اليَرَقة.
التّركيبةُ الكيميائيّة للغذاء الملكيّ
يحتوي الغذاءُ الملكيّ على العديد من المركّبات والفيتامينات الغذائيّة الضّرورية لجسم الإنسان وهذا حسب الأبحاث التي أجريت عليه من باحثين وعلماء بارعين في هذا المجال وأتت النتائج على الشّكل التّالي:
ماء بنسبة 66% .
1. بروتينات بنسبة 12.34%.
2. دهون بنسبة 5%.
3. كربوهيدرات بنسبة 15%.
4. معادن بنسبة 1%.
5. موادّ أخرى غير معروفة بنسبة 3%.
كما يحتوي الغذاء الملكيّ على عناصر نادرة مختلفة كالحديد والمنجنيز والكوبالت والسّليكون وغيرها من عناصر كثيرة. يحتوي الغذاء الملكيّ أيضاً على مجموعة من الفيتامينات وخاصّة مجموعة فيتامين (ب) ويعتبر الغذاء الملكي من أغنى المصادر الطبيعيّة لحامض البانتوثنيك والاسكروبيك، بالإضافة إلى فيتامينات أخرى عديدة ولكن بنسب قليلة.
وَتَبَيّن أيضا من التّحاليل التي أجراها الباحثون في الغذاء الملكيّ احتواؤه على عشرين حامضاً من الأحماض الآمينية منها (الانين – ارجينين – سستين – جليسين – هيستدين -ايسوليسين – ليسين – ميثونين – سيرين – ثيريونين – تيروسين – فالين – الأسيتيل كولين – وغيرها). ومن أهم هذه المركّبات الموجودة في الغذاء الملكيّ أنّه يحتوي على المواد المسؤولة عن تزويد الخلايا بالطّاقة، ويزوّد الجسم بالمركبات الأوّليّة التي تعيد بناء خلايا الجسم.

حصاد الغذاء الملكي (باللون الأبيض) من الخلية الملكية
حصاد الغذاء الملكي (باللون الأبيض) من الخلية الملكية

تتواجد الأحماض الآمينية الأساسية بشكل حُرّ في الغذاء الملكيّ، ويستطيع الجسم الاستفادة منها بشكل أسهل.
وقد قام بعض علماء تربية النّحل في كندا بإجراء تحليل مُفَصّل للغذاء الملكيّ الذي أُخذ من أبراج ملكيّة طبيعيّة ليَرَقات عُمرُها بين 2 إلى 3 أيام، وقسّم العلماء الغذاء المجموع من هذه الأقماع أو الأبراج إلى أربعة أجزاء:
الجزء الأوّل: وهو الذي يذوب في الأثير ويمثل 10-15% من الوزن الجافّ للغذاء الملكيّ ويحتوي على:
1. 4-10% فينول.
2. 80-85% أحماض عضوية غير معروفة.
3. 5-6 سيترولات وكلسريدات.
4. 5-6% شمع.
5. 0,4-0,8 % فوسفوليبيدات.
الجزء الثاني: وهو الذي يذوب في الماء ويمثل 55% من الوزن الجافّ للغذاء الملكيّ ويحتوي على:
1. 1.2% أزوت.
2. 3.4% معادن.
3. 50% سكريّات مُخْتَزَلة، وتشمل السّكّريات (26% فركتوز + 21% كلوكوز + 3% سكريات غير قابلة للتخمّر).
4. 20% أحماض عضوية غير معروفة.
الجزء الثالث: وهو الذي يذوب في الماء ولا يقبل الانتشار ويمثل 15-20% من الوزن الجافّ للغذاء الملكي ويحتوي على:
1. 5% معادن.
2. 0.3% فوسفور.
3. 15% أزوت.
4. 0.89% كبريت.
الجزء الرّابع: ويمثّل البروتينات الغذائيّة في الماء 15% من الوزن الجافّ للغذاء الملكيّ، ويحتوي على:
1. 13.4% أزوت.
2. 0.16% فوسفور بالإضافة إلى آثار من الكبريت.
وقد دلّت تجارب هؤلاء العلماء على أنّ الجزء الأوّل من الغذاء الملكيّ (الذي يذوب في الأثير) يحتوي على هرمونات جنسيّة منشّطة، ولوحظ أيضاً أنّ التّجارب على التّغذية بالغذاء الملَكِيّ بكميّات معتدلة أدّت إلى نموٍّ مبكرٍ في الجهاز التّناسلي.
والملاحظة التي أدهشت العلماء في هذه التّجارب أنّ يرقات شغّالات أو عاملات النّحل تتغذّى بدءاً من اليوم الرّابع على خَليط من العَسل وحبوب اللّقاح، بينما يرقات الملِكات تستمرّ في تغذيتها بكميّات وافرة من الغذاء الملكي الذي تفرزه العاملات حتى اليوم الخامس من عمرها، ولم تكن هذه اليرقات قادرة على استهلاك كامل الكميّة المقدّمة لها من قِبَل العاملات حيث تبدأ بالتّحوّل إلى طور العذراء، وما يتبع ذلك من اختلافات كثيرة فسيولوجية (طبيعية) ووظائفيّة بين الملكة والشغّالة.
أهمُّ فوائدِ الغذاءِ الملكيّ
إنّ الغذاء الملكيّ منشّط حيويّ عام يعمل على تحسين الاستقلابات داخل الجسم، ويَقي من الأمراض السّارية، ويزيد من قوّة الجسم ليتحمّل الأعمال المجهدة مثل رفع الأثقال وغيرها، ويزيد الشهيّة عند الصّغار والكبار، ويحسّن وظيفة الغدّة الدّرقيّة والكظريّة، ويزيد من وزن نحيليِّ الأجسام، ويفيد في الكثير من حالات أمراض القلب. ولا يحتاج الغذاء الملكي إلى عمليات هضم، وينشّط الذهن، ويحسن عمل الجهاز العصبي، ويساعد في حالات الضّعف الجنسي عند الرجال، ويقوّي الغُدَد التناسليّة. يعمل على تأخير ظهور التّجاعيد في البشرة، وعلامات الشّيخوخة المبكرة. يساعد في حالات الإصابة بأمراض الكبد. ويعالج اضطرابات الجهاز العصبيّ، ومشاكل فقدان الشهيّة، ويعتبر عاملاً مقاوماً للإصابة بمرض السكري. وهو مفيد في حالات ضَعف النّمو، وحالات الإصابة بفَقْر الدّم. ويعمل على محاربة البكتيريا المسبّبة للأمراض لاحتوائه على المضادّات الحيويّة. يساعد في حالات الإصابة بالأمراض الجلديّة، وحالات سقوط الشّعر، ويحافظ على نعومة البشرة. ويعالج الإصابة بالأمراض المعويّة، ومفيد في حالات القرحة. ويدعم ويقوّي جهاز المناعة، ويقوّي الذاكرة. وينشّط أجهزة الجسم المختلفة، ويعمل على زيادة سرعة التحوّل الغذائي، وهو منشِّط عام ومُقَوٍّ للجسم يساعد على إزالة الشعور بالتّعب والإرهاق، ويُنصّح به لكبار السنّ.
ويستعمل الهُلام الملكيّ كعلاج لعدد من الأمراض، كما أنّه يقوّي الجهاز المَناعي لدى الإنسان، ويعالج مشاكل العظام واضطراباتها مثل الروماتيزم ويحدّ من سرطان الدم.

الفوائد الطّبّيّة للغذاء الملكيّ
بعد التحليل الكيميائيّ للغذاء المَلَكي الذي أظهر احتواءه على الكثير من المُركّبات والأحماض الآمينية والفيتامينات والهرمونات، فقد قامت بعض الهيئات الطبّية بدراسة أثر استعماله كعلاج لكثير من الأمراض التي تصيب الإنسان، واشتدّ الاهتمام بدراسة الغذاء الملكيّ وبدء التّجارب والأبحاث والدراسات التي توضّح السرّ الكامن وراء هذه المادّة الطبيعية التي تفرزها هذه الحشرات الصغيرة (العاملات أو الشغالات حديثة السنّ) وبدأ التسابق بين الهيئات الطبّية في إجراء هذه الدراسات لما عُرِف بالدليل القاطع إنّ للغذاء الملكي خصائص قويّة في قتل الميكروبات المرضيّة بالإضافة إل تأثيره الهرموني عليها ومع استعمالات الغذاء الملكيّ في الكثير من الحالات ووجود التقارير التي تثبت أثره العلاجي.
إنّ الظروف المناخية التي تحيط بالغذاء الملكيّ من حرارة تصل في الكثير من الأحيان إلى أكثر من 35 درجة مئويّة ورطوبة مرتفعة داخل الخليّة ممّا تساعد هذه الظروف على نموّ الكثير من الكائنات الحيّة الدقيقة عليه. دُهِش بعض العلماء لعدم فساد هذا الغذاء خاصة بعد تحليله الكيميائي الذي أظهر أنّه غذاء غنيّ بمكن نموّ الميكروبات عليه بسهولة إلّا أنّه لا يفسد ويبقى بحالته الطبيعيّة داخل الخليّة رغم درجة الحرارة والرّطوبة المرتفعة. عندها بدأ بعض العلماء باختبار مقدرة نموّ بعض أنواع من البكتيريا المرضيّة ومن بينها ميكروب التيفوئيد في الغذاء الملكيّ، فلاحظوا أنّ وجود الغذاء الملكيّ في البيئة التي تنمو فيها البكتيريا يتسبب في موت الميكروبات بعد دقيقة واحدة، وبذلك ثبت أنّ للغذاء الملكيّ تأثير قاتل ومُميت لبعض أنواع البكتيريا المَرَضيّة، وبدأوا بدراسة أثر استعماله في قتل البكتيريا التي تصيب الإنسان.
وتعددت طرق وأشكال استعمال الغذاء الملكيّ في شفاء الكثير من الأمراض خاصّة في الدّول المتقدّمة في تربية النّحل ومنتجاته، وقد قامت مصانع الأدوية بتعبئة الغذاء الملكي في طرق مختلفة مع الحفاظ على فاعليته والإبقاء على قيمته الحيوية وعدم إفساده، ومنها إمكانية تحضيره على شكل حقن لحقنها تحت الجلد، أو معبأ في أوان صغيرة يمكن للإنسان تناولها كشراب عن طريق الفم، كذلك أمكن تجفيفه وتحويله إلى مسحوق او كبسولات يسهل تناولها خاصة تحت اللسان، وأيضا استعمل الغذاء الملكي في مستحضرات التجميل (الكريمات) لتنشيط خلايا البشرة وإعادة الحيوية إليها وإزالة التجاعيد.

كيفيّة استهلاك الغذاء الملكي
أفضل طرق لتناول الغذاء الملكيّ تناوله طازجاً وتحت اللّسان ومن ثمّ الانتظار نحو 5 دقائق حتى يذوب ثم بَلْعُه، بهذه الطريقة يمكن امتصاصه مباشرة إلى الدّم عبر الغدد الماصّة الموجودة تحت اللّسان وهذه الطّريقة تعطي أفضل النّتائج، ويُفضّل ألّا يتمّ ابتلاع الغذاء الملكيّ فوراً بل الانتظار حتى يذوب في الفم ثمّ يتمّ بَلْعُه لأنّ عُصارات الجهاز الهضميّ تقلّل من القيمة الغذائيّة لغذاء ملكات النّحل، وكذلك طعمه غير مُستساغ في حال تمّ بلعُه فوراً. وتُقَدّر الجُرعة بنحو غرام واحد للبالغين يوميّاّ ونصف غرام للأطفال لفترة تتراوح نحو عشرين يوما.
يمكن تناول غرام من الغذاء الملكيّ أي بحجم حبّة الحمّص مباشرة تحت اللّسان صباحاً على الرّيق، ويمكن تكرارها قبل النّوم أو يتمّ مزج 10 غرامات غذاء ملكيّ مع نصف كيلو غرام عسل وتُؤخذ منه ملعقة كبيرة مرّتين باليوم للكبار وملعقة صغيرة للصّغار.
من المُفضّل خلط الهُلام الملكيّ مع العسل لكي لا يفسد ويجب أن يُحفظ في الثلّاجة.
ملاحظة: يُحَضّر استعمالُه من قِبَل الحامل أو المرأة التي تنوي الحمل وكذلك المُرضعات والأطفال الذين لا تتجاوز أعمارهم السّنة إلّا بعد استشارة الطّبيب.
هذا المُنتَج كسائر مُنتَجات النّحل يتسبب بالحساسيّة بنسبة ضئيلة بين البشر لذلك يُفضّل التّجربة بكميّة قليلة قبل استخدامه كعلاح.
كانت النتائج مُشجّعة في العديد من الحالات، وهذه بعض الأمثلة لاستخدامه كمادّة علاجيّة.

غذاء ملكي طازج - يتم حفظه في الثلاجة أو خلطه بالعسل
غذاء ملكي طازج – يتم حفظه في الثلاجة أو خلطه بالعسل

1. أهميّة الغذاء الملكيّ في علاج الأطفال
وَجدَ العالمان “Malosso and Gandi”سنة 1956م في إيطاليا أنّ للغذاء الملكيّ أثراً علاجيّاً لأمراض الأطفال المختلفة، وتمّ تجريب ذلك بطرق ومعدّلات مختلفة وإعطائه للأطفال على شكل كبسولات بمعدل 50 ملّغرام في الكبسولة الواحدة من الغذاء الملكيّ المجمّد عن طريق التبريد، أو على شكل كبسولات بمعدّل 10 ملّغرام في الكبسولة الواحدة، أو على شكل حبوب جافّة بمعدل 100 ملّغرام في الحبّة الواحدة، وتُعطى هذه المقادير حسب عمر والحالة المرضية لكلّ طفل.
أمّا النّتائج وملاحظات العالِمَيْن كانت كما يلي:
1. إنّه يساعد على تنشيط شهيّة الطفل في أغلب الحالات.
2. تبدأ ظهور نتائج محسوسة للعلاج بعد 20 يوماً من بدايته.
3. العلاج على فترات متقاربة (20 يوم) بين كلّ دفعة وأخرى مدّة كافية للحصول على نتائج إيجابية.
4. تأثيره مفيد للأطفال الذين يعانون من التقلّصات في الأمعاء، وكذلك الذين يعانون من كثرة الإفرازات العَرَقية ( التّعرّق ).
5. يساعدعلى زيادة عدد كُريّــات الدّم الحمراء ويؤمّن التّوازن بين عدد كُريّــات الدّم المختلفة في حالة الأنيميا المزمنة.
6. يساعد على زيادة استفادة الجسم من البروتينات.
7. له تأثير خاص ديناميكي ومُنَشّط للإنسان.
ومن الضّروريّ قراءة التّعليمات عن المُنتَج قبل البَــدء في الاستعمال.

2. فوائدُ الغذاء الملكيّ للشّيخوخة
للغذاء الملكيّ أثر جيّد وملحوظ في تحسين الحيويّة لحالات الشّيخوخة، فقد عالج أحدُ العلماء 134 مريضاً سِنُّــهم يتراوح بين 70ــ75 سنة، وكلّهم يعانون من النّحافة والإنهاك الجسدي، وذلك بالحقن في العضل يوماً بعد يوم بمعدل 20 ملّغرام غذاء ملكيّ في الحُقنة الواحدة وكانت النتائج إيجابية ابتداء من الحقنة السّادسة حيث بدأت تعود الشّهية ثم الوزن الطّبيعي للمريض.
كما لوحــِظ أنّ ضغط الدّم المنخفض رجع إلى المعدّل الطّبيعي في جسم الإنسان، ومن بين الأمثلة الواضحة ذكر أربع حالات هي:
1. سيّدة 84 سنة نَشِطة ولكنّها تعاني من بعض النّقص العقليّ والعصبيّ، كما تعاني من انخفاض في ضغط الدّم نتيجة لإصابتها بإنفلونزا شديدة وطويلة، فقد تحسن الضّغط كما تحسّنت الحالة العصبيّة بعد 6 حُقن فقط وتركت سريرها وبدأ وزنها في الزّيادة واستمرّ تأثير الحقن المفيد ثمانية أشهر بدون الحاجة لإعادة العلاج.
2. رجل 68 سنة يعاني من نقص في التّغذية وحالة عصبيّة ودَوْخة وضغط عام، ولكن بعد أربع حقن بدأ التّحسّن، وبعد 12 حقنة أصبح شخصاً طبيعيّاً لا يحتاج إلى أي علاج آخر.
3. سيّدة 50 سنة مرّت بمرحلة سِنّ اليأس منذ 5 سنوات وتعاني من النّرفزة (التّعصيب) والصّداع المستمرّ وآلام في الحنجرة وقلّة في النّوم وآلام في الظّهر ودَوخة، مما بدأ يخلق عندها ميلاً قويّاً للانتحار، ولكنْ بعد العلاج تحسّنت حالتها بعد الحقنة السّادسة ونسيت أفكارها الانتحاريّة وانتظم النّمو وحالتها الجنسية أصبحت عادية بالنسبة لسنّها.
4. سيّدة 62 سنة تعاني من نوع من البكتيريا ممّا أدّى إلى انخفاض زائد في الوزن وضَعف شديد ونرفزة، بسبب إصابتها بأورام في جسمها لم ينفع في علاجها استعمال المضادّات الحيويّة المختلفة ولمدّة طويلة، وبعد بضعة حُقن بدأت في التّحسّن وزاد وزنُها، وبعد أربعة أشهر من العلاج تمّ القضاء على البكتيــريا وشعرت السّيدة بالتحسّن العام.

غذاء ملكي ممزوج بالعسل
غذاء ملكي ممزوج بالعسل

3. الغذاءُ الملكيّ وعلاج بعض الأعراض النّفسيّة والعصبيّة
لاحظَ بعض العلماء في إيطاليا أنّ المرضى يمكن معالجتُهم بتناول 50 ملّغرام يوميّاً من الغذاء الملكيّ المخلوط مع العسل لمدة 20ــ30 يوماً، وكانت النّتيجة بعد إتمام العلاج أنْ أصبح المَرضى قادرين على العمل بدون اضطراب وتحسّنت قدرتهم على التّركيز العقليّ. كما لوحظ أيضاً احتواء الغذاء الملكيّ على مادّة مهدّئة للأعصاب وهذه المادّة هي استيل كويلين (إحدى مُشتقّات الأرجوت) يُستعمل في الطِّبّ في علاج تقلّصات الأمعاء، كما أنّ له أهميّة كبرى في تعديل حالة ضغط الدّم، ووجود الأستيل كولين يفسّر سبب تخفيفه لحالات الإمساك المزمن.

4. الغذاءُ الملكيّ في علاج قرحة الإثني عشريّة
أجرى بعض العلماء تجارب على عدد قليل من المرضى (لثلاث حالات فقط) أعطت كلّها نتائج مدهشة إذ اختفت القرحة بعد علاج لمدة 20 يوما بالحقن مرة واحدة يوميا في الصّباح، أو بخلط الغذاء الملكيّ مع العسل الصّافي بمعدّل 10 بالمئة أي 10 غرام لكلّ 100 غرام عسل على أن يؤخذ هذا الخليط في الصّباح قبل تناول أي شيء ويجب أن لا يأكل أو يشرب قبل مضي ساعة على الأقل.

5. الغذاء الملكي وعلاج أمراض الجلد
أشار بعض العلماء إلى فائدة الغذاء الملكيّ في علاج أمراض الجلد مثل حالات الأكزيما، وقد لوحظ أنّ العلاج بالغذاء الملكيّ داخليّاً أفضل بكثير من العلاج الموضعيّ باستعماله مع كريم الجلد، ولو أن الأخير أعطى نتائج لا بأس بها وهذا بالإضافة الفوائد الأخرى التي يقدّمها هذا الغذاء للجسم.

6. الغذاء الملكي وتأثيره على غدد الكُلى.
لاحظ العالم Ardry في فرنسا أنّ للغذاء الملكيّ تأثيراً مُنشّطاً للغدّة الموجودة فوق الكُليتين وبالتّالي له تأثير هام على التّمثيل الغذائيّ للجسم، والغدّة فوق الكُلية هي زوج من الغدد طولها حوالي 5 سم ولونها يميل للصّفرة وتستقرّ على الجزء العلويّ لكلٍّ من الكُليتين بالقرب من العمود الفقري، هي غدّة صمّاء تفرز هذه الغدّة هرمونات متعدّدة في مجرى الدّم مباشرة، وكذلك بالنّشاط الجنسي، فيفرز الجزء الدّاخلي لهذه الغدد هرمون الأدرينالين النّاتج من الانفعالات والخوف والغضب وزيادة في ضربات القلب وحرق السّكّر المخزون في الكبد، ومن أهمّ ما يفرزه الجزء الخارجيّ (الغلاف) لهذه الغدد هو هرمون الكورتيزون الذي يرتبط إفرازه بنشاط عمليات التّمثيل الغذائيّ للكربوهيدرات في الجسم، ويعالج هذا الهرمون المُفْرَز في حالة النّزيف الشّديد من جراء الحقن تحت الجلد أو في حالات النّزيف النّاتج عن جرح أو غيره بالإضافة إلى الصّدمات والأزمات الطارئة.
لذلك يُنصح بإبقاء الغُدد فوق الكُليتين في حالة نشاط دائم لما لها من أهمّية في تنظيم حالة الجسم الصّحيّة. ومن هنا يتّضح لما للغذاء الملكيّ من أهمية كبيرة في تنشيط هذه الغُدد.

7. الغذاء الملكيّ علاج لأمراض الأنيميا وفَقر الدّم
نقدّم لك أيُّها القارىء بعض الأبحاث والتّجارب التي قام بها بعض العلماء:
اكتشف علماء إيطاليون أنّ الغذاء الملكيّ يحتوي على فيتامينB 12 بمعدّل 0,15ملّغرام في 100 غرام غذاء ملكيّ جافّ وَتبيّن لاحقاً أنّ هذا الفيتامين تمّ اكتشافه في الكبد ويُعتقد أنّ له أهميّة كبرى في علاج الأنيميا الخبيثة وَوُجدَ أنّ التّأثير المفيد النّاتج عن الحقن بالغذاء الملكيّ له تاثير عال جدّاً بالنّسبة للعلاج بالأدوية الكيميائيّة وأثبت بعض العلماء منهم (ميلامبي) أنّ للغذاء الملكيّ أهمّيّة عالية في قتل الميكروبات تزيد على العلاج الكيميائيّ، وهذا يفسّر لنا لماذا يعيش الغذاء الملكيّ المجفف مدّة طويلة دون أن يفسد.
لذا فإن هذه النّتائج العلاجيّة الممتازة للغذاء الملكيّ لفتت انتباه كثير من الباحثين والأطبّاء في أوروبا والولايات المتّحدة وكندا والمكسيك وغيرها من البلاد المتقدّمة في هذا العلم فبدأوا بدراسة تحليليّة لهذا الغذاء مثلاً في فرنسا وفي السّنوات الأخيرة أصبح الغذاء الملكيّ يُدرس ويُجرّب في كثير من المستشفيات والمعاهد الطِّبيّة، وقد أقرّت وزارة الصحّة الفرنسيّة اختبارات المستحضرات السائلة من الغذاء الملكيّ في حقن صغيرة لحقنها في العضل مع الماء المالح، وقد استمرّت التّجارب عامين بمستشفى نيكر بباريس، وفي كثير من الحالات أدّت إلى الشّفاء، وبعد ذلك أُعطيَ تصريح بإنتاج مستحضر (ابيسيرم) وهو مُستَحضر من الغذاء الملكيّ.
وفي معهد فلوريدا للسّرطان يُدرَس أثر الغذاء الملكيّ على نموات الزّوائد الخبيثة.

نصائحُ خاصّةٌ للمَرضى
قبل البدء بالعلاج على الغذاء الملكيّ يجب الانتباه الى أمرين هامّين هما:
أوّلاً: من المفضّل للشّخص الذي يحتاج العلاج أنْ يبدأ بجُرعة صغيرة للتأكّد من أنّه لا يعاني من حساسيّة على الغذاء الملكيّ (مع الذِّكر أنّ الحساسية على هذا الغذاء ضئيلة).
ثانياً: إنّ الشّخص المريض يمكنه أنْ يبدأ بتناول الغذاء الملكيّ لمدة 15 يوماً وإذا شعر بتحسّن في حالته الصّحيّة، وهذا ما يحصل عامّة، يجب عليه أنْ يستمرّ في تناول هذا الغذاء لمدّة 15 أو 30 يوماً ثم أخذ فترة راحة لمدّة 15 أو 30 يوماً (دون أن يتناول خلالها الغذاء الملكيّ)، أي نفس المدّة التي تناول بها الغذاء. عزيزي المستهلك، بإمكانك تناوُل غذاء الملكات بالكميّة التي تريد لكن احرص على ألّا تتعدّى هذه الكميّة 180 غرام سنويّاً هذا عند الأشخاص الذين يعانون من حالات مرضيّة.
أمّا فيما يخصّ تناوُل الغذاء الملكيّ للوقاية من الأمراض، فيُتَناوَل لفترة 15 يوماً مع أخذ راحة وتوقّف لفترة 30 يوماً قبل معاودة التّناول مرّة أُخرى. وننصح الشّخص الذي يَوَدّ تناول الغذاء الملكي للوقاية أخذ كميّة سنويّة تعادل 120 غراماً.
من المُفَضّل، تَنـــاول الغذاء الملكيّ مرّة واحدة يوميا وأفضل وقت لذلك هو صباحاً، ولا يُنصَح بتناوِله مساءً لأنّه يرفع من طاقة الجسم ممّا يسبّب الأرق وعدم النّوم.
ملاحظه: هامٌّ جدّاً تناوُل الغذاء الملكيّ بانتظام تامّ كي يعطي النّتائج المرجوّة.

كيفيةُ الحصول على الغذاء الملكيّ وإنتاجه وجمعه
لتناول هذا الغذاء طازجاً طريقتان هما:
أوّلاً: بعد أخذ الغذاء الملكيّ من الخليّة المُربيّة وتصفيتُه، يُخــلط غرام واحد منه مع نصف كلغ من العسل النّقي. يعادل هذا الخليط 20 ملعقة أكل تقريباً أي 25 غراماً لكلّ مِلعــقة، وتصبح كلّ ملعقة من العسل تحتوي على ما يعادل 50 ملّغراماً من الغذاء الملكيّ وهي الكميّة التي يَنصحُ بها الأطبّاء في الصّباح كما ذكرنا أعلاه.
ملاحظة: يجب استهلاك الكميّة المخلوطة بالكامل خلال شهرين تجنّباً لإفسادها أو تفاعلها.
ثانياً، بعد جمع الغذاء الملكيّ وتصفيته، يُجمّد على حرارة صفر ليؤخذ منه جزء صغير (مقدار حبّة حمص) من نصف غرام إلى غرام تحت اللّسان.

الكاتب يعرض الإطار أ المُثْبَت عليه أبراج الملكات البلاستيكية
الكاتب يعرض الإطار أ المُثْبَت عليه أبراج الملكات البلاستيكية

 

عمليّةُ إنتاجِ الغذاءِ الملكيّ
إنّ عمليّة إنتاج الغذاء الملكيّ تُعتــبر مرحلة من مراحل تربية الملكات بشكل صناعيّ مكثّف وتمرّ بعدّة خطوات هي:
– تحضير أدوات نقل اليرقات صغيرة السّنّ (ملعقة صغيرة خاصّة) من أقراص اليرقات إلى كؤوس بلاستيكية.
– تحضير الخلايا القويّة في إنتاج البيض الذي سيكون مصدراً لليرقات التي سنأخذها وتحضير موادّ وأدوات التّغذية المكثّفة لطوائف التّربية المختلفة إضافة لغرفة مناسبة قريبة من المنحل أو تحت شجرة على أن تكون الحرارة نحو 25 درجة مئوية ورطوبة بنسبة نحو 75 بالمئة وطاولة لتثبيت إطار الحضنة الذي سنأخذ منه اليرقات ومصدر ضوئي يسمح برؤية ما بداخل الإطار.
– اختيار الخليّة المربّية والتي يجب أن تكون قويّة وتتميّز بقدرتها على إفراز كميّة جيّدة من الغذاء الملكيّ ثم تؤخذ منها الملكة حتى تشعر عاملات الخليّة باليتم بعد مرور 8 ساعات على الأقل.
– بعد مضي 8 ساعات أو في اليوم الثّاني، نأخذ بروازاً او إطاراً من الخليّة القويّة في إنتاج البيض يحتوي على يرقات عمرها أقل من ثلاثة ايام أي ما زالت تتغذّى على الغذاء الملكيّ، تُنقَل بعض هذه اليرقات إلى البراويز المثبتة عليها الأبراج ويُنقَل هذا الإطار إلى الخليّة اليتيمة على أن تنتهي هذه العمليّة بأقلّ من 10 دقائق.
– بعد مضي 3 أيام من نقل اليرقات إلى الكوؤس، تُرفَع من الخلية المربّية ثم يتمّ رفع اليرقات عن الغذاء الملكيّ ويُجمع الغذاء بواسطة جهاز شفط خاصّ ينقله إلى زجاجة مُعَقَّمة قاتمة اللّون تتّسع لـ 100 أو 200 غرام، كي لا يتأثّر المُنْتَج بالضّوء، ويتمّ حفظه بالثلّاجة على درجة حرارة صفر. على أن يوضع للطّائفة دفعة جديدة من الإطارات التي تحوي يرقات.
إنّ عمليّة زرع اليَرقات لإنتاج الغذاء الملكيّ صعبة جدّاً ولا يقوم بها إلّا مربّو النّحل المحترفون ذوو الخبرة العالية في هذا العمل، إضافة إلى احتياجهم لبال طويل وهدوء أعصاب.

ما هي أنسب الأوقات لإنتاج الغذاء الملكيّ؟
إنّ الطّبيعة في لبنان مناسبة جدّاً لتربية الملكات اصطناعيّاً خلال ثلاثة فصول: الرّبيع والصيف والخريف لتوفّر الأزهار المتنوّعة التي تمدّ النحل بحبوب اللّقاح والذي تعتمد عليه العاملات حديثة العُمر لإفراز الغذاء الملكيّ ( العاملات التي لا تتغذّى على حبوب اللّقاح لا تفرز الغذاء الملكيّ). أمّا أنسب الأوقات لإنتاج الغذاء الملكيّ فهو فصل الرّبيع وبداية الصّيف لأنّ هذه الفترة تكون أكثر إزهاراً وحيويّة ويتكاثر فيها النّحل بشكل كبير، وهي الفترة التي يربّي فيها النّحل الملكات طبيعيّاً للتّكاثر.
كما أشرنا سابقاً فقد ازداد الاهتمام في السّنوات الأخيرة بالغذاء الملكيّ في كثير من البلاد المتقدّمة في هذا المجال وخاصّة في فرنسا وإيطاليا وأمريكا وروسيا، وأُجريَت عدّة دراسات وأبحاث عن مدى أهمِّيته بالنِّسبة للإنسان، واهتمّت وحدات البحوث ببعض الجامعات العربيّة في إجراء أبحاث عن الغذاء الملكي وطرق إنتاجه وحِفظه وتأثيره على الإنسان في مختلف أطوار حياته.
أمّا الوعي الطِّبّي الجديد الذي ظهر لدى الكثير من النّاس عن فوائد الغذاء الملكيّ، بدأ العديد من الأطبّاء يصفونه لبعض المّرضى خاصّة لعلاج نقص المناعة عن طريق استعمال الأدوية الأجنبيّة المستورَدة من فرنسا وأمريكا والتي تعتبر الغذاء الملكيّ المادة الفعّالة فيها، أو يدخل الغذاء الملكيّ كجزء رئيسيّ منها. ونظراً لنقص هذه الأدوية في السّوق، نصحَ الأطبّاء باستعمال الغذاء الملكي المُحَضّر من طوائف النّحل على أنْ يكون محفوظاً بطريقة لا تفسد خواصّه، ومن هنا بدأ مربّو النّحل في تلقِّي طلبات شراء الغذاء الملكيّ. وفي اعتقادي، إنّه لن يمرَّ وقتٌ طويل إلّا وسيصبح هذا الغذاء الأوّل في علاج جميع الأمراض التي تصيب الإنسان. بعد هذه النّهضة المُنْتَظرة قد يتزايد الطّلب على الغذاء الملكيّ ممّا يدفع مربِّي النّحل إلى تخصيص بعض المناحل لإنتاجه.

فتاتان تتوليان ترويج منتجات الغذاء الملكي الصيني في أحد المعارض الدولية
فتاتان تتوليان ترويج منتجات الغذاء الملكي الصيني في أحد المعارض الدولية

 

علاج نادر ومرتفع الثمن وصعب إيجاده

الصين تغرق العالم بالغذاء الملكي المصنّع

كيف الحصول على الغذاء الملكي الأصلي؟

يتفق معظم الناس، بمن فيهم أوساط طبية وعلمية، على أن الغذاء الملكي هو من أهم العناصر الغذائية المتوافرة على وجه الأرض، إذ عزيت إليه حالات شفاء لا تحصى قد يكون في بعضها مبالغة، لكن الناس تعطي للغذاء الملكي مكانة تعلو على كل غذاء وتسعى للحصول عليه بكل وسيلة رغم ارتفاع ثمنه. لكن الغذاء الملكي الحقيقي ليس متوافرا إلا بكميات قليلة ويعتبر إنتاجه بواسطة أساليب خاصة ومعقدة من قبل النحالين مهمة مجهدة وتتطلب وقتا، وهذا سبب ارتفاع ثمنه إذ يبلغ ثمن الغرام الواحد منه بين 5 و6 دولارات (أي أن الكيلوغرام الواحد قد يكلف 6000 دولار).
ولكن الطلب الكبير على الغذاء الملكي وارتفاع سعر الأصلي منه فتح الباب واسعا لعملية غشه أو «تصنيعه» على نطاق واسع خاصة في الصين التي باتت أكبر مٌصدِّر للغذاء الملكي في العالم، وقد أثارت الكميات الضخمة المصدرة من الصين تساؤلات من بعض خبراء النحل الذين يعتقدون أن الكثير من الغذاء الملكي في السوق مصنع في المختبرات أو المصانع وليس في خلايا النحل، بينما تعزو أوساط أخرى حجم الصادرات الصينية إلى فعالية أساليب الإنتاج، والحقيقة قد تكون في مكان ما بين الرأيين، لكن وجود الشك بصدقية منتجات الغذاء الملكي المسوقة على نطاق واسع يجب أن يدعو إلى الحيطة لأن القيمة الغذائية أو العلاجية للمنتجات المقلدة تكاد تقترب من الصفر.
وكما في حال العسل الذي بات عرضة لعمليات غش واسعة في الخليج وفي لبنان وفي الصين وغير ذلك من البلدان، فإن العامل الأهم في احتمال غش الغذاء الملكي هو (بالإضافة إلى تطور تقنيات الغش نفسها) عدم إلمام المستهلك بالمنتج وافتقاده لأي خبرة تمكنه من التمييز بين الأصلي والمقلد.
في موضوع الغذاء الملكي فإن عمليات التصنيع الأوسع نطاقا تتم (كما في العسل) في الصين، وباتت هناك تقنيات لترويج المنتجات المقلدة تسمى «غسل المنتجات» على طريقة «غسل الأموال» وهو ما يتم عن طريق تصدير المنتجات المقلّدة أولا إلى بلد أوروبي مثلا ثم إعادة تصديرها إلى الأسواق، لكن هذه المرة باعتبارها منتجا أوروبيا أو حائزا على شهادة منشأ محترمة.
إن الراغبين في شراء الغذاء الملكي لأغراض التغذية أو العلاج يجب أن ينتبهوا إلى عدم شراء المنتجات الرخيصة الثمن لأنها ليست أصلية وعلى الأرجح لا فائدة منها، كما أن شراء الغذاء الملكي الممزوج بالعسل من رفوف المحلات قد يكون هدر مال دون طائل لأن الغذاء الملكي لا يحافظ على خصائصه بعد مزجه بالعسل لأكثر من شهر واحد وربما شهرين كحد أقصى، ولا توجد وسيلة لمعرفة كم مضى على الغذاء الملكي المضاف إلى العسل قبل طرحه في السوق، كما لا توجد وسيلة للتأكد من نسبة الغذاء الملكي المضاف وجودته أو حتى إذا كان العسل يحتوي على الكمية المشار إليها في جدول مواصفات المنتج.
إن قطاف الغذاء الملكي من خلايا النحل التي خصصت لإنتاجه في حد ذاته مسألة دقيقة وتتأثر كثيرا بوقت النهار الذي يتم فيه القطاف وحرارة الجو والمدة التي يستغرقها نقل الغذاء الملكي قبل وصوله إلى البراد أو إلى الثلاجة، إذ أن تعرض الغذاء الملكي لحرارة عالية في الحقل قد يفسده تماماً ويلغى كافة خصائصه، وهناك بعد ذلك الحفظ ومدته وما قد يتعرض إليه المنتج أثناء النقل البحري أو الجوي أو على الطرق.
إن الأفضل هو شراء الغذاء الملكي من نحّال متخصص وموثوق في أساليبه وسمعته، بعد ذلك يجب وضع الغذاء الملكي فورا في غرفة التجميد (الثلاجة) داخل البراد أي في حرارة تحت الصفر. ويمكن بعدها في حال الرغبة في تناوله إخراجه من الثلاجة وتقطيعه إلى قطع صغيرة وابتلاع قطعة مع الماء أو إذابة القطعة في العسل وتناولها ممزوجة به وإعادة الباقي للحفظ مجلدا في الثلاجة.
أما في حال توفر العسل الجيد ومن مصدر موثوق فيمكن مزج الغذاء الملكي مع العسل بنسبة معينة (راجع المقال) على أن يتم حفظ المزيج في البراد واستهلاكه في غضون شهر واحد وشهرين على الأكثر وقبل أن يؤدي الزمن إلى اضمحلال الخصائص العلاجية للمنتج.
وما لم يكن هناك وسيلة للتأكد من جودة الغذاء الملكي فالنصيحة الطبيعية هي ببساطة: لا تشتريه!! واستبدل به العسل الطبيعي أو العضوي فهو أقل تكلفة وأكثر نفعا بالتأكيد من منتج مُصنَّع أو مُزيّف.

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

إعلامُ السُّوء

أعترفُ بأنّني لا أضعُ في بيتي جهازَ تلفزيون أو راديو ولا أتابع أيّاً من القَنَوات الأرضيّة أو الفضائيّة، لذلك فإنّني والحمد لله أتمتّعُ بحياةٍ هانئة أقضي بعضها في الطّبيعة الجميلة والثّرِيّة المحيطة بمنزلي (والتي رتّبتُها بنفسي) أو في التأمّل في مُعتَكفي، وعندما تكون بي حاجة للاستزادة حول موضوع أو استقصاء شأنٍ جَللٍ فإنَّ مقصدي الأوّل هو قاعدة البيانات الهائلة للإنترنت، حيث يمكن الحصول – بجميع اللّغات – على أشمل المعلومات وأوثقها من “رأس النّبع” بمجرّد امتلاك تقنيّات التّنقيب وخبرة الإبحار فيها وتجنُّب متاهاتها. والإنترنت هي مصدر أساسيٌّ من مصادر الثَّقافة المعاصرة لأنّها مرآة العالم وبحر العلوم، وأهمُّ شيء فيها أنَّك تحصل منها بلحظات على كل ما تحتاجه أو تسأل عنه من أصول وفروع المعارف على اختلافها.

إنَّها معجزة عصر المعلومات الّتي لم ينتبه إلّا قليلون بعدُ إلى الأخذ بها بقوّة بهدف بناء محتواهم المعرفي وتكوين فَهمٍ أعمقَ للعالم ولِما يعتمل فيه من اتّجاهات وتيّارات وتطوّرات متسارعة في كل المجالات. هذا لا يُلغي بالطّبع أهميّة الكتاب وأهميّة التّراث المكتوب، لكنَّ الكتاب العربيَّ تأخّر كثيراً عمّا يحدث، فبتنا لا نجد في معارض الكتاب التي نرتادها إلّا القليل من جديد المؤلَّفات التي تستحقُّ أن تأخذ مكانها على أرفُف المكتبة، ليس كمجلّدات للزّينة أو إبهار الزائرين، بل كوسيلة مفيدة يمكن أن تزيد المرء علماً على علم.

وضعنا هذه المقدَّمة لكي ننتقل إلى المقارنة بين مصادر المعرفة والحضارة الإنسانية من كتاب أو من قواعد بيانات الإنترنت وبين الدَّور السّلبي إن لم نقل المُخرِّب الذي يلعبه إعلام الاصطفافات السّطحيِّ الذي سيطر على ساحة الإعلام في لبنان. السّلاح الماضي الأوّل لهذا الإعلام هو الشّاشة المستطيلة (والّتي ازداد اتّساعها لتحتلّ مساحة الجدار أحياناَ)، أما سلاحه الثّاني فهو سلبية المتفرَّج الكسول الذي يرتمي لساعات على مقعد وثير ويحمل الرّيموت بيد وشيء من الطّعام أو الشّراب بيد ويتابع باهتمام أو حماس هذا أو ذاك من برامج السطحية والتوتير والأنباء السّيِّئة.

التَّنافس على استرهان الجمهور وزيادة عدد المشاهدين جعلنا نقتبس من الأميركان – أو غيرهم – أحدث الأفكار والتّقنيّات المخصّصة لشدّ النّاس إلى الشّاشات ولو باختلاق القِصَص أو إثارة الغرائز والإبقاء على درجة كبيرة من التّوتر والإثارة حتى لا يفلت المشاهد ولو لنصف ساعة أو ساعة من أجل قِسطٍ من الرّاحة.

أكثر القنوات، تلجأ إلى برامجَ تسمّيها “حوار” وهي في الحقيقة “حوارات طرشان” ومشادّات كلاميّة مُصَمَّمة لاستثارة المتبارزين ــ وجمهورهم ــ وإظهار أسوإِ ما في السّياسة من فساد وإفساد. وهناك بعد ذلك إعلام التّشهير الفضائحيّ الذي نادراً ما يتّصف بالموضوعيّة أو باستقصاء صحفيٍّ نزيه، والنَّتيجة العامَّة لهذا الكوكتيل السامّ هو أن التّلفزيون بات أكبر سبب لهدم المعنويّات وتيئيس النّاس من حياتهم ومن بلدهم، وربّما هو سبب رئيس في تهافت الشّباب على الهجرة وترك البلد، لأنَّ من يشاهد تلفزيونات لبنان يتكوَّن لديه غضب وشعور عارم باليأس من البلد والقرف، وقناعة أكيدة ألّا مفرّ له من هذا المُستنقع إلّا النّجاة بنفسه عبر ركوب أوّل طائرة.

بالنِّسبة للَّذين لا يوجد لديهم إلّا خيار البقاء في البلد، مع من هم باقين، فإنّ إعلام الأخبار السيِّئة والتَّيئيس بات ربّما من أهمّ أسباب ارتفاع ضغط دمِ الكثيرين والإصابة بالاكتئاب أو أمراض التوتُّر والأرق وسوء الطِّباع، لأنَّ تجارة الحِقد والشَّحن لها أثرٌ نفسيٌّ خطيرٌ في اللّاوعي وهي تجارة تجعل نار الغيظ والكراهية ونوايا السّوء تضطّرم في صدور كثيرين فتؤذيهم، لأن “المكر السَّيّئ” لا يحيق إلّا بأهله كما جاء قي القرآن الكريم.

نصيحتُنا لكلِّ من يريد أنْ يُخْفِضَ معدّل التّوتّر لديه، وأن يحافظ على حدٍّ أدنى من السَّكينة والتفاؤل بالحياة في هذا الزَّمن الرَّديء، هي أن يعتمد صداقة الكتاب وثورة المعلومات على الإنترنت وينسى “صندوقَ الفرجة” هذا، أو قُلْ صُندوقَ الهمِّ والغمِّ وأخبارَ الشُّؤْمِ.

مأساة اليهود العرب في اسرائيل

المَشـروعُ الصّهيونـــيّ
ومأساةُ اليَهود العَرب

نصوص للكاتب الإسرائيليّ العراقيِّ الأصل رَؤُبين سنير

المؤسّسة الصّهيونيّة تتعامل مع الثّقافة اليهوديّة – العربيـــّة كما لو كانت وباءً يجب عزل المُصابين به عن المُجتمع

أجبر النّظام التّعليمي الإسرائيليّ أبناء الأسر اليهوديّة العربيّة على القبول بالهولوكوست كما لو أنه محرقتهم الذاتيّة وألقى بالهويّة العربيّة الأصليّة لليهود المهاجرين من العالم العربيّ إلى إســرائيل في ســلّة مهملات التّاريخ
(رؤوبين سنير)

تقديم من “الضّحى”:
ليس من المبالغة القَوْل إنّ الكثير ممّا نشهده اليوم من تمزيق للمجتمعات العربيّة خصوصاً المشرقيّة منها يعود في تاريخه إلى العام 1948، أيْ إلى ذلك التاريخ الذي تمكّن فيه مؤسّسو الحركة الصّهيونيّة من إرساء أوّل لَبِنَة مهمّة في مشروع إسرائيل التّاريخيّة وهو قيام دولة يهوديّة على جزء من فِلِسْطين. كثيرون في الغرب نَسَوْا أنّ ذلك المشروع لم يحدث على شكل اتّفاق سلمي بل اتّخذ حرباً مدبّرة استهدفت تهجير العرب من الأراضي التي كانت الحركة الصهيونيّة تطمح أنْ تجعلها نواة الدّولة اليهوديّة وتمّت بذلك إحدى أكبر عمليّات التّطهير العرقيّ مع إخراج القسم الأكبر من الفلسطينيّين العرب، وهم أهل البلاد الأصليّين، من ديارهم وقُراهم وطردهم تحت أنظار المجتمع الدولي إلى الدّول المجاورة ليتحوّل قِسم كبير منهم إلى لاجئين حُرِموا نعمة الوطن والأمن والكرامة الإنسانيّة.
مُنذُ ذلك التّاريخ المشؤوم دخلت المنطقة العربيّة في مرحلة ما بعد قيام الدولة اليهوديّة وهي مرحلة نعلم جيدا الآن أنّها تميّزت بانهيارات متوالية وعمليّات استنزاف وحروب عدوان وتوسّع وضم أراضٍ، لكنّ النّتيجة العامّة الأهمّ هي أنّه تمّ حِرمان العرب وهم القوّة البشريّة الكُبرى في المنطقة ثم القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة من أنْ يتكوّنوا في دول مستقرة أو أنْ يجتمع شملهم أو تستقرّ مجتمعاتُهم، إذ إنّ العقيدة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تقوم على ربط أمن إسرائيل بانعدام أمن الجِوار وإنهاك الكيانات السياسيّة وتعميم الانقسامات و”الفوضى الخلاّقة” في كامل “مجالها الحيويّ” الجغرافيّ والسياسيّ.
هذا الجانب الذي يركّز على الظّلم التّاريخيّ الذي أوقعه المشروع الصهيونيّ بالمنطقة لها غالبا ما يُغيِّب الأنظار عن النّكبة التي أوقعها الكيان الصّهيوني باليهود العرب أنفسهم وكان عددهم يربو على المليون خصوصاً بعد قيام إسرائيل، إذ سُرعان ما وجد مهندسو المشروع الصّهيوني تناقضاً صارخاً بين قيام إسرائيل وبين استمرار الجاليات اليهوديّة في عيشها الآمن بل والمزدهر كجزء من المجتمعات العربيّة المحيطة وهي الحال التي كانوا عليها لمئات السنين في ظل الدّول الإسلاميّة المُتعاقبة بما في ذلك آخر تلك الدّول وهي السّلطنة العثمانيّة. لهذا فقد اتّخذ مؤسّسو دولة إسرائيل بعد سنوات قليلة من قيام كيان الاغتصاب قراراً بتنفيذ خطّة تستهدف إجبار اليهود العرب على الهجرة إلى إسرائيل تحت شعار العودة إلى أرض الميعاد أو الـ Aliyah، وبالنّظر لأنّ الحجم العربيّ في إسرائيل بقيَ مؤثّراً رغم إجلاء مئات الألوف من أهل البلاد الأصليّين، فإن ضَعف الثّقل النّسبي للسكان اليهود بعد قيام الدّولة جعل قادة الحركة الصهيونيّة يصمّمون على استقدام أكبر عدد ممكن من يهود الدّول العربيّة إلى الدّولة الجديدة. لكنّ هؤلاء صُدِموا إذ تبيّن لهم أنّ نسبة بسيطة من هؤلاء كانت ترغب في ترك بيوتها وأرزاقها وعلاقتها بالبلد والهجرة إلى إسرائيل، وكانت الدّولة العِبريّة يومذاك لا زالت بلداً غيرَ متطوّر ويقوم على العمل الشاقّ في المستوطنات الزراعيّة وعلى أفكار اشتراكيّة وتعاونيّة غريبة عن الإرث اليهوديّ العربيّ لأنّ اليهود العرب كانوا في أكثرهم ذوي نزعة دينيّة معتدلة أو علمانيّة غير دينية وتجاراً وحرفيين مَهرَة وعلى قدر من الثّروة والرّخاء كما أنّهم كانوا في بلد مثل العراق أو المغرب يتمتّعون بنفوذ سياسيّ كبير ويعتبرون البلد بلدهم ويعتبرون أنفسهم مواطنين عراقيين أو لبنانيّين أو مصريّين أو مغربيّين…
في المقابل فإنّ المشروع الصهيونيّ قام منذ القرن التاسعَ عشَر على نُخبة من المفكّرين والسياسيّين اليهود الذين كانوا يعيشون في الغرب، وتبلوَرَت الفِكرة الصهيونيّة ومشروع إقامة دولة يهوديّة في فلسطين على يد اليهود الأوروبيّين وخصوصاً أولئك الذين كانوا يعيشون في جنوب وشرق أوروبا. فمؤسّس الحركة الصّهيونية ومشروع الدّولة اليهوديّة هو تيودور هرتزل كان يهوديّاَ هنغاريّاً وأوّل رئيس لدولة إسرائيل حاييم وايزمان كان روسيّاً وأوّل رئيس وزراء وهو دافيد بن غوريون كان بولونيّاً وكان هؤلاء اليهود المؤسّسين جميعاً تقريباً ذوي نزعات اشتراكيّة وكان حماسهم لإنشاء دولة لليهود حماساً قوميّاً أو عرقيّاً وليس دينيّاً. وفي مقابل هيمنة الفكر الغربي على المشروع الصهيونيّ وهندسته وفق نموذج المجتمعات الأوروبيّة الحديثة، فإنّ اليهود العرب كانوا على العكس قريبين في إرثهم الدّيني والثّقافي والاجتماعي إلى العالم الإسلاميّ ومُندَمجين به وقد عاشوا فيه لمئات السّنين ولجأ قسمٌ كبيرٌ منهم إليه خصوصاً بعد حَمَلات الاضطهاد التي جرّدها الأسبان ضدّ المسلمين واليهود ابتداءّ من أواخر القرن الخامسَ عشَر.
لذلك، فإنّ الغالبيّة من اليهود العرب نظرت إلى الدعوة الصهيونيّة بعين الشّكّ، لاسيّما وأنّ قادة هذه الدّعوة كانوا معظمهم من يهود أوروبا الشرقيّة، ولم يكن بينهم يهود عرب على الإطلاق. لذلك وعندما بدأت أجهزة الدّولة العبريّة النّاشئة بِحَثّ اليهود العرب على القدوم إليها فإنّها لم تُلاقِ أيَّ نجاح، بل إنّ قسما وافراً من اليهود العرب رفضوا الدّعوة الصهيونيّة،الغربيّة النّزعة بينما اعتبرَ كثيرون منهم أنّ المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها أفضل بكثير من فلسطين وأنّه لم يكن لديهم بالتالي أيُّ حافز للهجرة إلى “أرض الميعاد”.
من أجل “إقناع” اليهود العرب بالهجرة إلى إسرائيل طبّقت الدّولة الإسرائيليّة إستراتيجيّة استهدفت تأجيج العداء مع العرب وخلق مُناخات نفسيّة تُقنع اليهود عموماً واليهود العرب خصوصاً باستحالة التّعايش بين إسرائيل والجوار وبين اليهود والعرب بصورة أعم. تَخلّلت تلك الخطّة حملات قامت بها المخابرات الإسرائيليّة لتفجير بيوت اليهود ومعابدهم في بلدان عربيّة، واستغلّت تلّ أبيب بمهارة موجة الغضب العربيّ التي فجّرتها محنة فلسطين واللّاجئين الفلسطينيين وتسببت تلك الموجة العارمة في حالات متزايدة بانتقال مشاعر الشكّ والاتّهام إلى اليهود المقيمين أنفسهم، رغم تمسّك الكثيرين من هؤلاء بالبقاء في بلدانهم وعدم “الهجرة” إلى إسرائيل.
إذا أردنا تلخيص المفارقة التاريخيّة التي قام عليها تأسيس الكيان اليهودي فإنّ في الإمكان القول: إنّه قام – في جانب أساسي منه – على عمليّتي اقتلاع متزامنتين أولاها كانت اقتلاع الفلسطيّنيين من أرضهم وقراهم وإخراجهم منها إلى الدّول المحيطة، وثانيهما كانت اقتلاع غالبيّة اليهود العرب غالبا بتأثير التّخويف أو عمليّات الإرهاب المدروس من بلدان عربيّة كانوا يعتبرونها أوطانهم التاريخيّة ويحملون جنسيّتها وينعمون بخيراتها ليُلقى بهم في اختبار شاذّ وغريب لخلق أوّل دولة عنصرية تقوم على العِرق بعد انهيار تجربة القوميّة الآريّة في ألمانيا. إنّ مأساة اليهود العرب مُزدوجة لأنّ المشروع الصهيونيّ حوّلهم إلى ضحايا فاضطرّهم إلى تَرك أرزاقهم وأعمالهم وجيرانهم وأصدقائهم العرب وذكرياتهم، كما حوّلهم في الوقت نفسه إلى غاصبين عندما أجبرهم على أنْ يستبدلوا حياتهم الرّغدة السّابقة باحتلال أراضي الغير وأرزاق الغير فجعلهم بالتّالي، شركاء في الظّلم التاريخيّ الذي قام عليه مشروع الدّولة اليهوديّة في عقيدته وأُسُسِه ونظامه السّياسي والاجتماعي.
منذ ذلك المُنعطف الذي أنهى تعايشاً يهوديّاً عربيّاً استمرّ لأكثر من 1300 عام فإنّ أدبيّات اليهود العرب، أو من تحدّر منهم في إسرائيل، تزخر بالشّهادات على أنّ مأساة هؤلاء استمرّت بأشكال أخرى داخل الكيان الإسرائيليّ الغربيّ النّزعة بين الصهيونيّة الغربيّة المنشأ، اللّادينية في جوهرها والقوميّة النّزعة، وبين اليهود العرب المنتمين إلى الحضارة الشرقيّة العربيّة بتقاليدها وتسامحها وتقاليد التّعايش الطّويلة التي ربطت بين منّوعاتها القوميّة والدينيّة على اختلافها. لقد فوجىء مؤسّسو الحركة الصهيونيّة بأنّ مُناخ الاضطهاد وقتل اليهود والتّمييز ضدّهم الذي عاشوه في أوروبّا، وكان في أساس انطلاق الفكرة الصهيونيّة، غير موجود في العالم العربيّ ولا حتى في فلسطين، كما أنّهم فوجئوا بالمشاعر الإيجابيّة التي كانت لدى اليهود العرب تجاه بيئتهم واعتبروا ذلك قصوراً فكريّاً وجبناً معنويّاً منهم، وقد رفض آباء الحركة الصهيونيّة في تفكيرهم الإقصائي الاعتراف بفضل العرب والمسلمين على مواطنيهم اليهود، ورفضوا في الوقت نفسه احترام خصوصيّة اليهود العرب وإرثهم التاريخيّ الغنيّ وقبولهم بل وسعادة أكثرهم بهويّتهم العربيّة، لأنّ مجرّد وجود هذا التّعايش يمثّل نقضاً لأهمّ مرتكزات مشروع الدّولة اليهوديّة وهو أنّ اليهود شعب مُضطَهد وأنه لا يوجد حل لاضطهادهم التّاريخيّ إلاّ بإنشاء دولة تضمّ يهود العالم ولو على حساب طرد أهل البلاد الشّرعيين.
بذلك بدأت مأساة اليهود العرب مع قيام إسرائيل لأنّ الدولة اليهوديّة ستعمل دون تأخير على تنفيذ أكبر عمليّة إجلاء لليهود العرب عن بلدانهم لتُلقي بهؤلاء وبأجيالهم في بيئة مُصطنعة لا تمتّ بصلة لتاريخهم وعاداتهم وهو ما سيؤدّي في نهاية المطاف إلى خسارة اليهود العرب لأوطانهم دون أنْ يربحوا في إسرائيل وطناً بديلاً يبرّر كلّ الآلام التي أخضعوا لها في سياق هذه “التّجربة العرقية”.
من أجل فهم عمق المأساة التي وقعت باليهود العرب بسبب قيام إسرائيل نستعين هنا ــ بتصرّف ــ بنصّين مُختارَين من مقالة أطول للمفكّر الإسرائيلي التقدّمي من أصل عراقي رؤوبين سنير، عميد كلية الآداب في جامعة حيفا أوّلهما حول “الإبادة الثّقافية” المنهجيّة لهويّة اليهود العرب من قبل المؤسّسة الصهيونيّة، وثانيهما حول يهود العراق في العصر الذّهبي للوحدة الوطنيّة العراقيّة في ظل الأسرة الهاشميّة، وكلا النّصّين يكمّل الآخر في توضيح عمق المأساة الإنسانيّة التي جلبها المشروع الصهيونيّ على اليهود العرب، خصوصاً بعد قيام إسرائيل. والدّكتور رَؤُبين سنير (62 عاما) اليهودي العراقيّ الأصل لم يعرف العراق لأنّه ولد في إسرائيل، لكنّه ما لبث مع نموّ تجربته الفكريّة أنِ اصطدم بعمق الهيمنة التي تمارسها الصهيونيّة الغربيّة المنشأ على المجتمع ونزوعها الفاشيّ لإلغاء التنوّع وتعميق الطابع العنصريّ للمجتمع اليهوديّ. لذلك تحدّث مراراً عن “توبته” وتركه للفكر الصهيونيّ نحو العودة إلى جذوره العراقيّة العربيّة، وتحوّله إلى أحد أهم النّاطقين باسم الهُوِّيّة الثقافيّة لليهود العرب والعاملين على إحيائها وحمايتها من التّذويب الصهيونيّ.تقديم من “الضّحى”:
ليس من المبالغة القَوْل إنّ الكثير ممّا نشهده اليوم من تمزيق للمجتمعات العربيّة خصوصاً المشرقيّة منها يعود في تاريخه إلى العام 1948، أيْ إلى ذلك التاريخ الذي تمكّن فيه مؤسّسو الحركة الصّهيونيّة من إرساء أوّل لَبِنَة مهمّة في مشروع إسرائيل التّاريخيّة وهو قيام دولة يهوديّة على جزء من فِلِسْطين. كثيرون في الغرب نَسَوْا أنّ ذلك المشروع لم يحدث على شكل اتّفاق سلمي بل اتّخذ حرباً مدبّرة استهدفت تهجير العرب من الأراضي التي كانت الحركة الصهيونيّة تطمح أنْ تجعلها نواة الدّولة اليهوديّة وتمّت بذلك إحدى أكبر عمليّات التّطهير العرقيّ مع إخراج القسم الأكبر من الفلسطينيّين العرب، وهم أهل البلاد الأصليّين، من ديارهم وقُراهم وطردهم تحت أنظار المجتمع الدولي إلى الدّول المجاورة ليتحوّل قِسم كبير منهم إلى لاجئين حُرِموا نعمة الوطن والأمن والكرامة الإنسانيّة.
مُنذُ ذلك التّاريخ المشؤوم دخلت المنطقة العربيّة في مرحلة ما بعد قيام الدولة اليهوديّة وهي مرحلة نعلم جيدا الآن أنّها تميّزت بانهيارات متوالية وعمليّات استنزاف وحروب عدوان وتوسّع وضم أراضٍ، لكنّ النّتيجة العامّة الأهمّ هي أنّه تمّ حِرمان العرب وهم القوّة البشريّة الكُبرى في المنطقة ثم القوّة الاقتصاديّة والسياسيّة من أنْ يتكوّنوا في دول مستقرة أو أنْ يجتمع شملهم أو تستقرّ مجتمعاتُهم، إذ إنّ العقيدة الاستراتيجيّة الإسرائيليّة تقوم على ربط أمن إسرائيل بانعدام أمن الجِوار وإنهاك الكيانات السياسيّة وتعميم الانقسامات و”الفوضى الخلاّقة” في كامل “مجالها الحيويّ” الجغرافيّ والسياسيّ.
هذا الجانب الذي يركّز على الظّلم التّاريخيّ الذي أوقعه المشروع الصهيونيّ بالمنطقة لها غالبا ما يُغيِّب الأنظار عن النّكبة التي أوقعها الكيان الصّهيوني باليهود العرب أنفسهم وكان عددهم يربو على المليون خصوصاً بعد قيام إسرائيل، إذ سُرعان ما وجد مهندسو المشروع الصّهيوني تناقضاً صارخاً بين قيام إسرائيل وبين استمرار الجاليات اليهوديّة في عيشها الآمن بل والمزدهر كجزء من المجتمعات العربيّة المحيطة وهي الحال التي كانوا عليها لمئات السنين في ظل الدّول الإسلاميّة المُتعاقبة بما في ذلك آخر تلك الدّول وهي السّلطنة العثمانيّة. لهذا فقد اتّخذ مؤسّسو دولة إسرائيل بعد سنوات قليلة من قيام كيان الاغتصاب قراراً بتنفيذ خطّة تستهدف إجبار اليهود العرب على الهجرة إلى إسرائيل تحت شعار العودة إلى أرض الميعاد أو الـ Aliyah، وبالنّظر لأنّ الحجم العربيّ في إسرائيل بقيَ مؤثّراً رغم إجلاء مئات الألوف من أهل البلاد الأصليّين، فإن ضَعف الثّقل النّسبي للسكان اليهود بعد قيام الدّولة جعل قادة الحركة الصهيونيّة يصمّمون على استقدام أكبر عدد ممكن من يهود الدّول العربيّة إلى الدّولة الجديدة. لكنّ هؤلاء صُدِموا إذ تبيّن لهم أنّ نسبة بسيطة من هؤلاء كانت ترغب في ترك بيوتها وأرزاقها وعلاقتها بالبلد والهجرة إلى إسرائيل، وكانت الدّولة العِبريّة يومذاك لا زالت بلداً غيرَ متطوّر ويقوم على العمل الشاقّ في المستوطنات الزراعيّة وعلى أفكار اشتراكيّة وتعاونيّة غريبة عن الإرث اليهوديّ العربيّ لأنّ اليهود العرب كانوا في أكثرهم ذوي نزعة دينيّة معتدلة أو علمانيّة غير دينية وتجاراً وحرفيين مَهرَة وعلى قدر من الثّروة والرّخاء كما أنّهم كانوا في بلد مثل العراق أو المغرب يتمتّعون بنفوذ سياسيّ كبير ويعتبرون البلد بلدهم ويعتبرون أنفسهم مواطنين عراقيين أو لبنانيّين أو مصريّين أو مغربيّين…
في المقابل فإنّ المشروع الصهيونيّ قام منذ القرن التاسعَ عشَر على نُخبة من المفكّرين والسياسيّين اليهود الذين كانوا يعيشون في الغرب، وتبلوَرَت الفِكرة الصهيونيّة ومشروع إقامة دولة يهوديّة في فلسطين على يد اليهود الأوروبيّين وخصوصاً أولئك الذين كانوا يعيشون في جنوب وشرق أوروبا. فمؤسّس الحركة الصّهيونية ومشروع الدّولة اليهوديّة هو تيودور هرتزل كان يهوديّاَ هنغاريّاً وأوّل رئيس لدولة إسرائيل حاييم وايزمان كان روسيّاً وأوّل رئيس وزراء وهو دافيد بن غوريون كان بولونيّاً وكان هؤلاء اليهود المؤسّسين جميعاً تقريباً ذوي نزعات اشتراكيّة وكان حماسهم لإنشاء دولة لليهود حماساً قوميّاً أو عرقيّاً وليس دينيّاً. وفي مقابل هيمنة الفكر الغربي على المشروع الصهيونيّ وهندسته وفق نموذج المجتمعات الأوروبيّة الحديثة، فإنّ اليهود العرب كانوا على العكس قريبين في إرثهم الدّيني والثّقافي والاجتماعي إلى العالم الإسلاميّ ومُندَمجين به وقد عاشوا فيه لمئات السّنين ولجأ قسمٌ كبيرٌ منهم إليه خصوصاً بعد حَمَلات الاضطهاد التي جرّدها الأسبان ضدّ المسلمين واليهود ابتداءّ من أواخر القرن الخامسَ عشَر.
لذلك، فإنّ الغالبيّة من اليهود العرب نظرت إلى الدعوة الصهيونيّة بعين الشّكّ، لاسيّما وأنّ قادة هذه الدّعوة كانوا معظمهم من يهود أوروبا الشرقيّة، ولم يكن بينهم يهود عرب على الإطلاق. لذلك وعندما بدأت أجهزة الدّولة العبريّة النّاشئة بِحَثّ اليهود العرب على القدوم إليها فإنّها لم تُلاقِ أيَّ نجاح، بل إنّ قسما وافراً من اليهود العرب رفضوا الدّعوة الصهيونيّة،الغربيّة النّزعة بينما اعتبرَ كثيرون منهم أنّ المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها أفضل بكثير من فلسطين وأنّه لم يكن لديهم بالتالي أيُّ حافز للهجرة إلى “أرض الميعاد”.
من أجل “إقناع” اليهود العرب بالهجرة إلى إسرائيل طبّقت الدّولة الإسرائيليّة إستراتيجيّة استهدفت تأجيج العداء مع العرب وخلق مُناخات نفسيّة تُقنع اليهود عموماً واليهود العرب خصوصاً باستحالة التّعايش بين إسرائيل والجوار وبين اليهود والعرب بصورة أعم. تَخلّلت تلك الخطّة حملات قامت بها المخابرات الإسرائيليّة لتفجير بيوت اليهود ومعابدهم في بلدان عربيّة، واستغلّت تلّ أبيب بمهارة موجة الغضب العربيّ التي فجّرتها محنة فلسطين واللّاجئين الفلسطينيين وتسببت تلك الموجة العارمة في حالات متزايدة بانتقال مشاعر الشكّ والاتّهام إلى اليهود المقيمين أنفسهم، رغم تمسّك الكثيرين من هؤلاء بالبقاء في بلدانهم وعدم “الهجرة” إلى إسرائيل.
إذا أردنا تلخيص المفارقة التاريخيّة التي قام عليها تأسيس الكيان اليهودي فإنّ في الإمكان القول: إنّه قام – في جانب أساسي منه – على عمليّتي اقتلاع متزامنتين أولاها كانت اقتلاع الفلسطيّنيين من أرضهم وقراهم وإخراجهم منها إلى الدّول المحيطة، وثانيهما كانت اقتلاع غالبيّة اليهود العرب غالبا بتأثير التّخويف أو عمليّات الإرهاب المدروس من بلدان عربيّة كانوا يعتبرونها أوطانهم التاريخيّة ويحملون جنسيّتها وينعمون بخيراتها ليُلقى بهم في اختبار شاذّ وغريب لخلق أوّل دولة عنصرية تقوم على العِرق بعد انهيار تجربة القوميّة الآريّة في ألمانيا. إنّ مأساة اليهود العرب مُزدوجة لأنّ المشروع الصهيونيّ حوّلهم إلى ضحايا فاضطرّهم إلى تَرك أرزاقهم وأعمالهم وجيرانهم وأصدقائهم العرب وذكرياتهم، كما حوّلهم في الوقت نفسه إلى غاصبين عندما أجبرهم على أنْ يستبدلوا حياتهم الرّغدة السّابقة باحتلال أراضي الغير وأرزاق الغير فجعلهم بالتّالي، شركاء في الظّلم التاريخيّ الذي قام عليه مشروع الدّولة اليهوديّة في عقيدته وأُسُسِه ونظامه السّياسي والاجتماعي.
منذ ذلك المُنعطف الذي أنهى تعايشاً يهوديّاً عربيّاً استمرّ لأكثر من 1300 عام فإنّ أدبيّات اليهود العرب، أو من تحدّر منهم في إسرائيل، تزخر بالشّهادات على أنّ مأساة هؤلاء استمرّت بأشكال أخرى داخل الكيان الإسرائيليّ الغربيّ النّزعة بين الصهيونيّة الغربيّة المنشأ، اللّادينية في جوهرها والقوميّة النّزعة، وبين اليهود العرب المنتمين إلى الحضارة الشرقيّة العربيّة بتقاليدها وتسامحها وتقاليد التّعايش الطّويلة التي ربطت بين منّوعاتها القوميّة والدينيّة على اختلافها. لقد فوجىء مؤسّسو الحركة الصهيونيّة بأنّ مُناخ الاضطهاد وقتل اليهود والتّمييز ضدّهم الذي عاشوه في أوروبّا، وكان في أساس انطلاق الفكرة الصهيونيّة، غير موجود في العالم العربيّ ولا حتى في فلسطين، كما أنّهم فوجئوا بالمشاعر الإيجابيّة التي كانت لدى اليهود العرب تجاه بيئتهم واعتبروا ذلك قصوراً فكريّاً وجبناً معنويّاً منهم، وقد رفض آباء الحركة الصهيونيّة في تفكيرهم الإقصائي الاعتراف بفضل العرب والمسلمين على مواطنيهم اليهود، ورفضوا في الوقت نفسه احترام خصوصيّة اليهود العرب وإرثهم التاريخيّ الغنيّ وقبولهم بل وسعادة أكثرهم بهويّتهم العربيّة، لأنّ مجرّد وجود هذا التّعايش يمثّل نقضاً لأهمّ مرتكزات مشروع الدّولة اليهوديّة وهو أنّ اليهود شعب مُضطَهد وأنه لا يوجد حل لاضطهادهم التّاريخيّ إلاّ بإنشاء دولة تضمّ يهود العالم ولو على حساب طرد أهل البلاد الشّرعيين.
بذلك بدأت مأساة اليهود العرب مع قيام إسرائيل لأنّ الدولة اليهوديّة ستعمل دون تأخير على تنفيذ أكبر عمليّة إجلاء لليهود العرب عن بلدانهم لتُلقي بهؤلاء وبأجيالهم في بيئة مُصطنعة لا تمتّ بصلة لتاريخهم وعاداتهم وهو ما سيؤدّي في نهاية المطاف إلى خسارة اليهود العرب لأوطانهم دون أنْ يربحوا في إسرائيل وطناً بديلاً يبرّر كلّ الآلام التي أخضعوا لها في سياق هذه “التّجربة العرقية”.
من أجل فهم عمق المأساة التي وقعت باليهود العرب بسبب قيام إسرائيل نستعين هنا ــ بتصرّف ــ بنصّين مُختارَين من مقالة أطول للمفكّر الإسرائيلي التقدّمي من أصل عراقي رؤوبين سنير، عميد كلية الآداب في جامعة حيفا أوّلهما حول “الإبادة الثّقافية” المنهجيّة لهويّة اليهود العرب من قبل المؤسّسة الصهيونيّة، وثانيهما حول يهود العراق في العصر الذّهبي للوحدة الوطنيّة العراقيّة في ظل الأسرة الهاشميّة، وكلا النّصّين يكمّل الآخر في توضيح عمق المأساة الإنسانيّة التي جلبها المشروع الصهيونيّ على اليهود العرب، خصوصاً بعد قيام إسرائيل. والدّكتور رَؤُبين سنير (62 عاما) اليهودي العراقيّ الأصل لم يعرف العراق لأنّه ولد في إسرائيل، لكنّه ما لبث مع نموّ تجربته الفكريّة أنِ اصطدم بعمق الهيمنة التي تمارسها الصهيونيّة الغربيّة المنشأ على المجتمع ونزوعها الفاشيّ لإلغاء التنوّع وتعميق الطابع العنصريّ للمجتمع اليهوديّ. لذلك تحدّث مراراً عن “توبته” وتركه للفكر الصهيونيّ نحو العودة إلى جذوره العراقيّة العربيّة، وتحوّله إلى أحد أهم النّاطقين باسم الهُوِّيّة الثقافيّة لليهود العرب والعاملين على إحيائها وحمايتها من التّذويب الصهيونيّ.

[su_accordion]
[su_spoiler title=”النص الأول” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

مأساةُ اليهودِ العرب في إسرائيل

اكتشاف الهُوِّيّة اليهوديّة – العربيّة
كانت توبتي في “باب التّوبة” من “الرّسالة القُشَيْرِيّة” يَرِدُ القول إنّ الله يحبّ التوّابين، فعلى الأقلّ، هكذا أسلّي نفسي، يحبّني الله. لقد ارتقيت طريق التّوبة (وربّما أضحى ذلك واحداً من هُوّيّتي المُبتكرة الحاليّة) يوم 14 كانون الأول/ديسمبر 1984، أي بعد خمس سنوات من وفاة والدي، حينما كنت جالساً في قسم الأخبار في إذاعة إسرائيل باللّغة العربيّة حيث كنت أعمل يومها، بعد أن صِرت أتقن العربيّة، محرّراً للأخبار توفيراً للُقمة العيش. أمّا في أبحاثي الأكاديميّة فكنت منهمكاً في تحقيق نصوص الزُّهّاد والصّوفيين القُدامى ضمن دراستي في الجامعة العبرية في القدس – لم تكن ثقافة اليهود العرب في العصر الحديث في أيّ حال من الأحوال ضمن موضوعاتي المفضّلة. فالتصوّر السائد آنذاك في الجامعة العبريّة (وهناك من يُصرّ أنّ هذا التصوّر ما زال سائداً هناك حتى الآن) هو أنّ العرب المعاصرين ليسوا إلاّ “ أمّة بائدة”، أي أمّة ذات ماضٍ عريق حضارياً، ولكن بلا شيء ذي قيمة حالياً. في ذلك اليوم الشّتائي، أبلغَنا مراسلنا للتوّ بوفاة الشاعر أنور شاؤل (1904-1984) في كيرؤون، بالقرب من تل أبيب، وأذعنا الخبر مع نبذة مُقتضبة عن سيرة حياته. اتّصلت فوراً بالمسؤولة عن تحرير الأخبار في القسم العِبري، إذ ظننت أنّ من المهمّ، رغم تربيتي الصهيونيّة المتزمّتة، أن يذاع في النشرة العبرية أيضاً خبر موت أحد آخر الشعراء اليهود العرب. “أنور مَنْ؟” سمعت المحرّرة في القسم العبري تزعق. شرحت لها باختصار أهمّية الخبر إلا أنّها سرعان ما قالت: “هذا لا يعني مستمعينا بتاتاً” لم أحاول إقناعها وقتذاك، لكن بعد ذلك بسنتين، وفي عام 1986، خطف الموت شاعرا يهودياً عربيّاً آخر هو مراد ميخائيل (1906-1986) ، ثمّ في السّنوات اللاّحقة أدركت المنيّة المزيد من الشّعراء والكتّاب اليهود العرب في غفلة تامّة: شالوم درويش (1913-1997)، داود صيماح (1933-1997)، يعقوب بلبول (1920-2004)، إسحاق بار موشيه (1928-2004)، وكذلك سمير نقاش (1938-2003)، من أعظم الكتّاب العرب في جيلنا، من وجهة نظري. وأُصرّ على قولي، من أعظم الكتّاب العرب وليس اليهود العرب فقط، و أدعو كل من يعتقد أنّي أبالغ بحكمي النّقدي أنْ يحتفظ بتحفّظاته إلى أنْ يقرأ رواية نقّاش العراقية الرائعة “نزولة وخيط الشيطان” التي نشرت عام 1986. مات سمير نقاش وهو مفتقر إلى الوسائل الأساسية اللائقة بأسباب العيش الكريم ممّا حدا به، قبل موته المُبكر ببضع سنوات، أن يعبّر عن عُزلته في المجتمع الإسرائيلي على جميع المستويات بقوله: “لا أعتبر نفسي كائناً حيّاً في هذا البلد (إسرائيل)؛ ليس ككاتب، ولا كمواطن أو حتى كإنسان. لا أشعر بأنّني أنتمي إلى مكان ما منذ انتزعت جذوري من الأرض (في بغداد)”. ومنذ وفاة سمير نقاش وافى الأجل كاتبين رائعين آخرين من الكتاب اليهود العرب هما: مير بصري (1910-2006) في لندن وإبراهيم عوبديا (1924-2006) في حيفا.
لقد كان اليهود العرب، الذين هاجروا إلى إسرائيل بعد تأسيسها، عُرضةً لمؤسّسة ثقافية عبرية ــ صهيونية سائدة، فَرضت هيمنتها المُطلقة على كافّة الكيانات الثقافيّة الأخرى تحت قناع اللّبيرالية اليساريّة، وكانت في ذات الوقت تحتقر وتخشى الشّرق وثقافته. لم تختلف سياسة إعادة قولبة هويّة اليهود العرب المهاجرين في صورة الإشكينازي الأبيض وهويته الثقافيّة الغربيّة عن السياسة البريطانية في الهند، والتي عرّفها توماس بابنغتون ماكولي Thomas Babington Macaulay 1800- 1859 في كلمة له عام 1834 أمام الهيئة العامّة للتّعليم العام. متحدّثاً عن الأهداف التعليميّة للبريطانيّين في الهند، دعا بابنغتون إلى خلق نوع جديد من الأشخاص يكون “هنديّاً بالدّم واللّون، وإنجليزيّاً في الذّوق، الأخلاق والذكاء”. لقد حقّقت الحركة الصهيونيّة نجاحا باهراً بالضّبط حيث عجزت حتّى بريطانيا عن تحقيقه ــ خلق نموذج جديد للإسرائيليّ: شرقيّ في دمه ولونه، وصهيونيّ وإشكينازيّ وغربيّ في الذّوق والرأي. هكذا، مثلا، أجبر النّظام التّعليميّ الإسرائيليّ نسلَ العوائل اليهودية العربيّة على القبول بالهولوكوست كما لو أنها كانت محرقتهم الذّاتيّة ــ وأستطيع أنْ أضيفَ أحياناً، كما لو أنّها روح تاريخهم الوحيد والعلامة الفاصلة في هُوّيّتهم الثقافيّة. الهُوّيّة العربيّة الأصليّة لليهود المهاجرين من العالم العربيّ إلى إسرائيل حضاريّاً وثقافيّاً أُلقيت في سَلّة المُهْمَلات التاريخيّة.

حاخام اليهود الأكبر في بغداد عزرا دنغور وأسرته في صورة في بغداد سنة 1910
حاخام اليهود الأكبر في بغداد عزرا دنغور وأسرته في صورة في بغداد سنة 1910
عائلات-يهودية-في-حلب-في-العام-1914
عائلات-يهودية-في-حلب-في-العام-1914

نقد الهُوِّيّة الأشكينازيّة الغربيّة
صار المدافعون عن الميول الغربيّة للهُوِّيّة الإسرائيليّة المُخْتَرَعة يتفجّعون خوفاً من “خطر” تشرّق” و”تمشرق” المجتمع الإسرائيليّ. فعلى سبيل المثال كتب الصّحافي آريه جيلبلوم (Arye Gelblum) في صحيفة “هآرِتس” الإسرائيلية يوم 22 أبريل 1949 ما يلي:
“نحن نتعامل مع أناسٍ في غاية البدائيّة، مستوى معرفتهم يقترب عملياً من الجهل المطلق، بل أسوأ من ذلك، إنّهم لا يتمتّعون ولو بالقليل من الموهبة التي تؤهّلهم لفهم أيِّ شيء عن الثّقافة”.
أحدُ هؤلاء الذين وصفهم جيلبلوم بأنّهم “لا يتمتّعون بقليل من الموهبة تؤهّلهم لفهم أيّ شي عن الثقافة “كان نسيم رجوان (ولد عام 1923)، الذي كتب باستمرار في الأربعينيات لصحيفة “Iraq Times” الإنجليزية (وكانت تصدر في بغداد) وكان يهتمّ خصوصاً بشؤون الأدب الإنجليزي. وبالرّغم من ذلك، وبعد هجرته إلى إسرائيل، كان غالباً ما يعامَل ككاتب يفتقر للقابليّات الثقافيّة المناسبة عندما أراد الكتابة عن القضايا غير العربيّة، حينما كان يعمل مثلا لصحيفة جيروزاليم بوست Jerusalem Post، أمّا رجوان نفسه فلا يتردّد الآن في حكمه على تلك الجهات الرّسميّة التي سعت إلى شطب الهُوِّيّة اليهوديّة العربيّة واستهانت باليهود العرب، يقول:
“إنّها المؤسّسة السّياسيّة ــ الثقافيّة (الصهيونيّة) الحاكمة، التي ينحدر قادتها وروّادها الثقافيّون، على الغالب، من قرى وغيتوات روسيا والمناطق البولندية في روسيا، وهم الذين تقنّعوا بقناع “الغربيين” الأصليّين ــ هذه المؤسّسة أخضعت المهاجرين الشّرقيّين إلى عملية منظّمة من احتلال الهًوِّيّة والتّطهير الثّقافي فأجبرتهم على التّنازل عن ثقافتهم، ولغتهم وطريقتهم في الحياة. هكذا أفلحت إسرائيل في تفويت ما كان فرصة نادرة للاندماج في المنطقة بشكل يرحّب بها الجيران العرب – بدلاً من الانغلاق على النّفس ككيان غريب في قلب المنطقة التي تأسّست فيها”.

“أفلحت إسرائيل في تفويت ما كان فرصة نادرة للاندماج في المنطقة بحيث يرحّب بها الجيران العرب، بدلاً من الانغلاق على النّفس ككيان غريب في قلب المنطقة التي تأسّست فيها”
(نسيم رجوان: كاتب إسرائيلي من أصل عراقي)”

فرقة الإنشاد في معبد صموئيل ميناشي في الاسكندرية في أربعينييات القرن الماضي
فرقة الإنشاد في معبد صموئيل ميناشي في الاسكندرية في أربعينييات القرن الماضي

اسطورة اضطهاد اليهود العراقيّين
ومن جانب آخر، أرفض تماماً الأسطورة، التي تغذّيها المؤسّسة الصهيونية بكلّ عناية، ومفادها أنّ يهود العراق كانوا في خطر داهم، أنقذتهم منه عمليّة إنقاذ خياليّة قامت بها أجهزة الدّولة اليهوديّة الجديدة. فالحقيقة هي أنّ يهود العراق رفضوا الهجرة إلى إسرائيل حتّى مطلع عام 1950، بل وحتّى حينما أصدرت الحكومة العراقيّة قراراً يسمح لليهود بالهجرة مقابل تخلّيهم عن الجنسيّة العراقيّة أو ما سُمّي بـ “التّسقيط” وقد طُرح خيار تسقيط الجنسيّة المذكور لفترة سنة واحدة فقط، ولم تكن الاستجابة له في صفوف اليهود قوية إلى أن بدأت القنابل تتفجّر في بعض المعابد والمؤسّسات اليهودية في بغداد. تُرى من فجّر هذه القنابل؟؟ سؤال حَرِج، وبالفعل، لا أعرف، وربّما لا يعرف أحد ذلك الآن؛ ولكن يسعني القول، بكلِّ ثقة، إنّ مُعظم يهود العراق الذين تسنّى لي الاستفسار لديهم عن هذه الحوادث الغريبة لا يساورهم أيُّ شكّ حول هُوِّيّة الجهة الفاعلة، أو على الأقل هُوِّيّة الجهة التي حقّقت أكبر المنافع من وراء تلك الأحداث، حينما أسرع ما لا يقلّ عن مئة ألف من يهود العراق إلى الهجرة لإسرائيل.

وجهاء الطائفة اليهودية في بيروت يحتفلون بسن التكليف (بارميتزفا) في الكنيس الرئيسي في وادي أبو جميل عام 1967
وجهاء الطائفة اليهودية في بيروت يحتفلون بسن التكليف (بارميتزفا) في الكنيس الرئيسي في وادي أبو جميل عام 1967

ووفق هذه العجالة التاريخيّة المنسوجة بمذكّراتي الشّخصيّة، من الواضح بلا شكّ أننا نشهد اليوم احتضار الثّقافة والهُوّيّة اليهودية ــ العربية. كان العنصر الأساسي في “التّكافل الخلّاق” creative symbiosis 1 بين المسلمين واليهود في القرون الوسطى وحتّى العصر الحديث، كون الغالبية العظمى من اليهود الواقعين تحت الحكم الإسلامي، قد تبنَّوْا اللّغة العربيّة كلُغة لهم. أما في عصرنا فلا وجود لمثل هذا التّكافل لأنّ العربية أصبحت تتلاشى الآن كلُغة يتقنها اليهود. وإذا التقيت اليوم يهوديّاً يتحدّث العربية بطلاقة، فكُن على ثقة بأنّه إمّا أنْ يكون قد ولد في بلد عربي (وعددهم يتناقص، بطبيعة الحال، باستمرار) أو أنّه يعمل في إطار أجهزة الاستخبارات أو المباحث العامة الإسرائيلية (وعددهم، بالطبع، يزداد على الدوام). فالنّخبة اليهودية ــ الإسرائيلية، سواء كانت الرّسميّة أو الثقافيّة، لا تعتبر اللغة العربية وثقافتها كنزاً حضاريّاً، وليس هناك، مثلاً، ولو كاتب يهودي واحد وُلِد بعد 1948 ويكتب بالعربية. هكذا يتلاشى تدريجيّاً تراثٌ حضاريّ نشأ قبل أكثر من ألف وخمسمائة عام، أو بالأحرى هكذا يتمّ أمام أعيننا، الإجهاز بشكل مُنظّم على هذا التّراث الحضاريّ الرّائع في حين يقف الجميع مكتوفي الأيدي، وذلك بناءً على تآمر غير مُعلن تشارك فيه الصهيونيّة، من جهة، والقوميّة العربيّة المتعصّبة، من جهة أخرى، وكلٌّ منهما يجد دعماً لموقفه في دين سماوي يستلهمه، وكأنّ الإسلام واليهوديّة يُجمعان على ضرورة مَحْو هذا التّراث الحَضاري اليهوديّ ــ العربيّ العريق المُشترك.
بكلمة أخرى، أصبحت الهويّة اليهوديّة ــ العربيّة مثل الوباء الذي ينبغي مكافحته، وأصبحت الحاجة ملحّة لعزل هذه القلّة من الناس التي ما زالت مصابة به في حَجْر صحّي خشية انتقال وباء الهويّة غير المرغوب بها، لا سمح الله، إلى غير المُصابين.
وممّا لا شكّ فيه، أنّ اليهود العرب، الذين أصبح من المألوف في إسرائيل بعد 1948 أنْ يُطلق عليهم، من باب لُطف التّعبير اسم “مزراحيم” (شرقيون)، قد اضطُهدوا طوال عقود طويلة من القرن المنصرم، من قِبَل الصّهيونيّة والقوميّين العرب وعملائهما السّياسيّين والاجتماعيّين والثّقافيين المتنفّذين. كما تحوّل اليهود العرب أنفسهم، أحياناً، وربّما بسبب ما مَرّوا به من شطب لهُوِّيّتهم الأصليّة وإحلال هُوِّيّة تنكر العروبة محلّها، إلى قامعين للآخرين، وخصوصا للفلسطينيّين.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”النص الثاني” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يهودُ العراق
والمشــروع الهاشمــي لبنــاء العــراق الحــديث

الكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش يعبر عن حنينه للوطنه الأصلي بهذه الصورة لأسرته قبل الهجرة إلى إسرائيل
الكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش يعبر عن حنينه للوطنه الأصلي بهذه الصورة لأسرته قبل الهجرة إلى إسرائيل

لو أنّ بغداد نجحت في أن تُوَرّث لأهالي الشّرق الأوسط، على جميع مذاهبهم، تلك القيم الحضارية والإنسانية التي تَشكّل منها ربيعها المُشرق في مطلع القرن العشرين لكان تاريخ هذه المنطقة اليوم محفوفاً بالرّفاهية والازدهار بعيداً عمّا جرّبه أهاليها من ويلات الحروب والضّغينة المُتبَادلة خلال القرن الماضي.
كانت هذه، في اعتقادي، إحدى أعظمِ الفُرص التي تمّ تفويتها في تاريخ هذا الجزء من العالم. لقد تمتّع يهود بغداد، مثلهم مثل سكانها الآخرين، بثمار هذا الرّبيع الذي بدأ بعد تأسيس الدولة العراقية، وكان لديهم الكثير من الأسباب التي حَدت بهم إلى الاعتقاد بأنّ المُجتمع المحلّي المحيط بهم، وفي مقدّمته الملك فيصل (1883-1933)، كان يروم دمجهم التامّ بكلّ ما أوتيَ من قوة.
هكذا وقبل وصوله إلى العراق، ألقى الأمير فيصل خطاباً أمام النادي العربي في حلب في 9 حزيران 1919 قال فيه: “نحن عرب قبل موسى ومحمّد وعيسى وابراهيم. نحن عرب تجمعنا الحياة ويفرّقنا الموت”.
وبعد وصوله إلى بغداد، وقبل تتويجه ملكاً على العراق، خاطب في الثامن عشر من شهر تموز/ يوليو 1921، زعماء الجالية اليهوديّة قائلا: “لا شيء في عرف الوطنيّة اسمه مُسْلم ومسيحيّ وإسرائيليّ، بل هناك شيء يُقال له العراق. إنّني أطلب من أبناء وطني العراقيّين أن لا يكونوا إلا عراقيين لأنّنا نرجع إلى أرومة واحدة ودوحة واحدة هي دوحة جدّنا سام وكلّنا منسوبون إلى العنصر السّامي ولا فَرق في ذلك بين المسلم والمسيحيّ واليهوديّ. وليس لنا اليوم إلا الرّابطة القوميّة العظيمة التأثير”.
كما أكّد ساطع الحُصَريّ (1880-1986) يومها أنّ “كلّ من يتكلّم العربيّة هو عربي” وكان الحُصَري المدير العام للتّربية والتعليم في العراق، بين 1923-1927، هذه التّصريحات من قِبَل القائمين على العراق الحديث مهّدت الطريق أمام تأسيس مجتمع متعدّد الثقافات منفتح على جميع الطوائف والملل دُعي للانضمام إليه السكّان من الأصول المختلفة. وبُنيت هويّة من قرّر الانضمام إلى ذلك الوطن على الإيجابيّة والشعور بالانتماء أكثر مما بُنيت على السّلبيّة والاختلاف. وقد أسهمت التّصريحات “التأسيسية” للملك فيصل في تقوية نسيج ذلك المجتمع وبلوَرة هُوّيّته العراقيّة العربيّة المتفرّدة.
وإذا عدنا إلى كلّ أولئك الذين انضمّوا إلى المجتمع لعراقيّ الجديد في عشرينيّات القرن الماضي وعبّروا عن رغبتهم في المشاركة في بنائه، نستطيع فهم التّغيير الكبير الذي حدث في حياة المثقّفين والكتّاب اليهود العلمانيين الشباب الذين سيشتهرون لاحقا كعلامات مضيئة في الأدب العراقي. وكان هذا التّحوّل حاسماً لأنّه شمل هُوّيّات متفرّدة مختلفة ولم يكن مشروطاً بالتخلّي عن الأُطر الفردانية الأخرى سواء كانت دينيّة، اثنيّة أو مهنيّة وما إلى ذلك. فعلى سبيل المثال، نشر الكاتب العراقيّ الكلدانيّ يوسف رزق الله غنيمة (1885-1950) في مطلع عام 1924 كتاباً بعنوان: “ نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق” (عن مطبعة الفرات ببغداد). لاحظ غنيمة، في معرض وصفه للطّبقات الاجتماعية والمهنيّة للجالية اليهوديّة أنّ يهود العراق يمارسون كافة المهن: “إلاّ أنّك لا تجد بينهم من حَمَلة الأقلام وأصحاب المجلاّت والجرائد. وسبب ذلك أنّ اليهوديّ يرمي إلى ما به نفعه وسوق التّأليف والكتابة كاسدة في ديارنا فإنّهم في هذا الباب يتّبعون المثل اللاتيني القائل “عِشْ أوّلا ثمّ تفلسف”.

الملك فيصل الأول رعى تجربة فريدة لعراق جامع لكل الطوائف والقوميات
الملك فيصل الأول رعى تجربة فريدة لعراق جامع لكل الطوائف والقوميات

ولكنْ بعد ثلاثة أشهر فقط من صدور كتاب غنيمة، وفي العاشر من شهر نيسان/ أبريل 1924 بالضّبط صدر العدد الأول من مجلّة “المصباح” العربيّة. وكان صاحبها ورئيس تحريرها ومعظم كتّابها من اليهود. وكان هدف هذه المجلّة أنْ تكون جزءاً من الثّقافة العراقيّة العربيّة ومن تيّار الصّحافة العربيّة السائد دون أن تكون لها أيّة غاية يهوديّة ضيّقة على الإطلاق، ولا سيّما في الأشهر الأولى من إصدارها. وجسَّد صدور “المصباح” التحوّل العظيم الذي طرأ على الحياة الثقافيّة لأبناء الجالية اليهوديّة التي بدأ أعضاؤها المثقّفون الشّباب يعتبرون أنفسهم جزءاً من الأمّة العراقيّة – العربيّة الجديدة وطبقتها المثقّفة. وبوسعي أنْ أقول، مستخدماً مفردات غنيمة، أنّ اليهود بدأوا يتحدّثون آنذاك في “القضايا الفلسفيّة”، وبالذّات حول الأشياء ذات الاستقلاليّة النسبيّة عن الحقول الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، التي غالباً ما تتجسّد بأشكال جماليّة كانت المتعة واحدة من أهمّ مبادئها.
ومنذ البداية تأثّر المثقّفون اليهود العراقيّون الشّباب بالرّؤية الثقافيّة التي كان “الدّين لله والوطن للجميع” شعارها. هذا الشّعار، الذي كان أوّل من تفوّه به، حسب معلوماتنا، هو المثقّف القبطي توفيق دوس أمام المؤتمر القبطي بأسيوط عام 1919، مستمدّ أساسا من الترجمة العربية لأنجيل مرقص 12، 17: “ أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”. ونجد شبيهه في شعار المثقّفين اللبنانيين ــ السّوريين المسيحيّين في القرن التاسعَ عشَرَ “حبُّ الوطن من الإيمان”. وقد تبنّته أيضا مجلّة الجِنان، أوّل نشرة دورية عربيّة عموميّة تأسّست ببيروت عام 1870 من قِبَل بطرس البستاني (1819-1883) وصدرت حتى عام 1886؛ وحُرّرت أيضاً من قِبَل نجله سليم البستاني. ووفقاً لهذا الشعار عبّرت المجلّة من خلال أعدادها عن الحاجة الملحّة لاستبدال الرّابطة الدينية بالرابطة القومية.
ولقد تبنّى يهود العراق، الذين استلهموا موقف المثقّفين المسيحيّين المارّ ذكرهم، شعار “الدّين لله، والوطن للجميع”، كما حفزتهم الآيات القرآنيّة التي تدعو للتّسامح الدّيني والتعدّديّة الثقافية مثل “لا إكراه في الدّين” (البقرة 256) و“لكم دينكم ولي ديني” (الكافرون 6). واصطفّت نُخْبَتهم، وخاصّة المثقّفون العلمانيّون الشّباب، ضمن الجهود المبذولة لجعل العراق دولة قوميّة حديثة تتعامل مع كلّ مواطنيها من المسلمين الشّيعة والسّنة، والكُرد، والتُّركمان، والآشوريين والأرمن المسيحيين، واليزيديين واليهود، على قدم المساواة. أما أحلام وآمال الصّهاينة الأوروبيين الخاصّة بتأسيس دولة يهوديّة قوميّة في فلسطين، حسب وعد بلفور من عام 1917، فكانت أمراً غير مرغوب به إطلاقاً في صفوف مُعظم يهود العراق. ولم يكن بوسعنا العثور على أيّة وثائق تاريخيّة تعكس تحمّساً لتطبيق هذا الوعد في صفوف يهود العراق في عشرينيّات القرن العشرين يقابل تحمّسهم للاندماج في المجتمع العراقيّ العربيّ. يكفي بنا أنْ نقتبس ممّا كتبه أرنولد تالبوت ويلسون (Arnold Talbot Wilson)، المفوّض المدنيّ المؤقت في بلاد الرّافدين في الفترة ما بين 1918، 1920 في سجّلاته عن تلك الفترة:
“ناقشت وعد بلفور وقتذاك مع العديد من أعضاء الجالية اليهوديّة الذين كنّا على وفاق معهم. علّقوا بالقول إن فلسطين بلدٌ فقير، والقدس مدينة غير صالحة للسّكن. وبلاد الرّافدين جنّة مقارنة بفلِسْطين. قال أحدُهم: “العراق جَنّة عدَن ومن هذا البلد طُرد آدم ــ أعطونا حكومةً جيّدة وسنجعل البلد يزدهر ــ وادي الرافدين وطننا؛ وطن قوميّ سيفرح يهود بومباي وفارس وتركيا بالقدوم إليه! تتوفّر هنا الحرّية والفرصة! قد تتوفّر في فِلسطين الحرّية، ولكن لن تتوفّر فيها الفرصة”.
وقال التّربوي والصّحفي اليهوديّ عزرا حدّاد (1900 – 1972) في أواخر الثّلاثينيّات: “نحن عرب قبل أنْ نكون يهوداً”. كما كتب الأديب يعقوب بلبول (1920- 2004 ): “لا يتوقّع الشّاب اليهوديّ في البلدان العربيّة من الصّهيونيّة غير الاستعمار والهيمنة”. عاش معظم السّكّان اليهود العراقيين ببغداد واحتلّوا معظم الأعمال في الخدمات المدنية تحت حكم البريطانيّين والحقبة الملكيّة المُبكّرة. ويقول نسيم رجوان إنّه: “يمكن أن يقول المرء بكلّ ثقة إنّ بغداد كانت يهوديّة في النصف الأوّل من القرن العشرين، كما كان يقال إنّ نيويورك مدينة يهوديّة”. كان الأفق الحقيقيّ ليهود العراق، على الأقلّ من وجهة نظر النّخبة المثقّفة، عراقيّاً وعربيّاً. لقد جمعت مظلّة العروبة العراقيّة جميع أبناء المجتمع المحلّي على مختلف دياناتهم. ويقول داود صيماح بهذا الصّدد: “لم يطلق يهود العراق على العراقيّين من غير اليهود تسمية “عرب”، وإنّما استخدموا مفردات “مسلم” و”مسيحيّ” وحينما كانوا يتكلّمون عن “عرب” فالمعني في أذهانهم كان “البدو” فقط

ساسون حزقيال اليهودي العراقي عضو البرلمان ووزير المالية في الحكومة العراقية بين العامين 1921 و1925
ساسون حزقيال اليهودي العراقي عضو البرلمان ووزير المالية في الحكومة العراقية بين العامين 1921 و1925

إذا عدنا إلى “المصباح”، نرى أنّ رئيس التّحرير أنور شاؤل، كان يكتب تحت الاسم المستعار “ابن السموأل”، إشارة إلى الشّاعر اليهوديّ الجاهليّ السّمَوْأل بن عادياء، الذي يضرب به المثل بالوفاء. لقد رفض السّموأل (هكذا تسرد الروايات العربيّة القديمة) تسليم أسلحة عُهِدَ بها إليه، وبالتّالي فقد شَهِدَ مصرعَ ولَدِه على يديّ شيخ القبيلة البدوي الذي فَرضَ حِصاراً على قصره كي يجبرَه على تسليم الأسلحة التي تُرِكت بحوزته. وبفضل ذلك خُلِّد السّموأل في ذاكرة العرب إذ أصبح يُقال “أوْفَى من السّموأل”. ويعكس قرار شاؤل استخدام هذا الاسم المستعار موقفه العراقيّ ــ العربيّ الذي كان، من منظاره، المَوْقف الأنسب لانبثاق الأمّة العراقيّة.
ولقد عَثرت، ودون أيِّ جهدٍ خاصّ، على نصوص تتناول ذلك الرّبيع ببغداد في عشرينيّات القرن الماضي بقلم السّنّي معروف الرّصافي (1875-1945) والشيعي محمد مهدي الجواهري (1899 – 1997 ) والكردي جميل صدقي الزّهاوي (1863- 1936) والمسيحيّ يوسف رزق الله غنيمة (1885 ــ 1950). لا أحدَ منهم تباهى بأنّه عربيّ أو عراقيّ إذْ كان ذلك بديهيّاً كما كان بديهيّاً بالنّسبة لأنور شاؤل إذ كان انتماؤهم جميعاَ يستند إلى كون كلّ منهم جزءاً من الأمّة العراقيّة وكانت لغتُه الأمّ هي العربيّة وكان مستقرُّه الأوحد هو الوطن العراقيّ، ولم يكن للاختلاف في الدّين أيّة أهميّة إذ إنّ الإيمان الدّيني، في المنظور السّائد في تلك الفترة، كان أمراً بين الفرد وخالقِه “الدّين لله، والوطنُ للجميع.

رؤبين سنير

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

المجاهد عقلة القطامي

سِيرَةُ قائدٍ مَسيحيٍّ في الثّوْرةِ السُّوريّة الكبرى

عُقلة القِطاميّ

(1889ــ 1956)

رفيق سلطان في الجهاد والمنفى

حَقدَ الفرنسيّون عليه كثائر مسيحي فأحرقوا منزله
ومنحه بابا روما عام 1947 الوسام البابويّ تقديراً لجهاده

شارك عام 1918 في رفع العلم العربي
ورافق سلطان لِلّقاء بالملك فيصل الأوّل

قاتل الفرنسيين تحت بَيْرَق قريته «خَرَبا»
وكان بَيرقاً مُميّزاً يحمل في وسطه شَارة الصّليب

يحتلّ اسم المجاهد في الثورة السورية الكبرى، عُقلة القِطاميّ، مكانا بارزا في تاريخ تلك الثورة المجيدة، ليس فقط بسبب الدور المِحوري الذي لعبَه في أحداثها ومعاركها ومراحلها، بل لكونه كان أبرز شخصية مسيحية تتبوّأ موقعا قياديا فيها؛ وقد كان أحد المقربين من قائد الثورة سلطان باشا الأطرش ورفيق جهاد لم يترك قائده في أي لحظة ولم يساوم أو يهادن رغم الأضرار التي لحقت به من انتقام الفرنسيين؛ وقد حقد هؤلاء عليه أكثر من غيره لأن وجوده -مع مسيحيين آخرين- في صفوف المجاهدين عزز الطابع الوطني للانتفاضة على الاحتلال وأحبط خطة فرنسا لإظهار الثورة بمظهر “إسلامي” مناهض لمصالح المسيحيين التي كانت تدعي أنها “حامية” لهم؛ وقد كان هدفها بثّ الفرقة بين أبناء الوطن تسهيلا للسيطرة على البلاد وإلحاق الهزيمة بالثورة.
فمن هو هذا المناضل الشجاع؟ وما هو الدور الذي لعبه في الثورة وفي النضال الوطني السوري عموما؟

عُقلة القِطاميّ هو أحد وجهاء عائلة عربيّة عريقة من مسيحيّي سهل حوران، أولئك القوم من قبائل العرب الذين استوطنوا أواسط وجنوب بلاد الشّام قبل الفتح العربيّ الإسلاميّ بقرون.
كان ميلاده في قرية “خَرَبا” التي تقع إلى الغرب من بلدة “عِرى” في الجبل، وعلى مسافة نحو عشرين كيلو متراً من مدينة السّويداء. وقد أشار إلى تلك العائلة وأصولها الباحث يحيى عمّار في كتابه “الأصول والأنساب” الجزء الأوّل، ص 156، يقول: “آل القِطاميّ عائلة عربيّة عريقة” ويقول ابن حزم في “الجمهرة” أنّ جدّهم الأوّل هو عمرو بن شُيَيْم بن عمرو بن عبّاد بن بكر بن عامر بن أسامة بن مالك بن جشم. من بني عمرو، ومن هؤلاء الشّاعر المعروف بالأخطل، وعمرو بن شُييم كان شاعراً أيضاً، والقِطاميّ لقبُه”.
ويذكر الدّكتور خليل المقداد في كتابه “حَوْران عبر التاريخ” في معرض حديثه على حوران في العصر المملوكي أنّ المجتمع الحورانيّ، المؤلّف من مسلمين ومسيحيين، “كان مجتمعاً بسيطاً ومركّباً، فسكّان القرية ينتمون لقبيلة واحدة وأحياناً لأكثر من ذلك، وعاش المسلمون متعاونين مع النّصارى على السرّاء والضرّاء أكثر، وكانت نسبة المسلمين في حوران تصل إلى مابين 70ــ80%”.
ويشير الباحث يحيى عمّار إلى أنّ آل القِطاميّ هم “عائلة أرثوذكسيّة المذهب حورانيّة المقام (..) وللعائلة فرع في لبنان هم آل مسلِّم منهم في زحلة ورشعين وزغرتا (في لبنان) وأم الفحم ( في فلسطين) قرب نابلس وفي الناصرة”.

عُقلة المجاهد العربيّ
لم يكن عُقلة القِطاميّ، ومنذ شبابه الباكر شخصاً منعزلاً عن هموم الناس ومعاناتهم في تلك الفترة من الحكم العثماني في بلاد الشّام، ولم يُغِرِهِ مَنْحُه وسام النّيشان العثماني الرابع والثالث والثاني مع ميدالية عثمانيّة وأخرى ألمانية ليسكتَ عن مظالم العثمانيّين، وعلى هذه الحقيقة يستند الباحث محمّد جابر في كتابه “أركان الثّورة السّوريّة الكبرى” فيذكر أنّ القِطاميّ “ اشترك في الثورة العربيّة ضدّ العثمانيّين، وكان أحد فرسان الجبل الذين دخلوا دمشق في 30 أيلول عام 1918، ورفعوا العلم العربيّ فوق دار الحكومة. و”كان بين من اجتمعوا من ثوّار الجبل برفقة سلطان باشا بالأمير فيصل بن الحسين بعد خروج العثمانيّين من دمشق في أوائل تشرين الأوّل في منزله بحيِّ المهاجرين”.

عقلة القطامي (إليى اليسار) مع سلطان باشا الأطرش في منفاهما في وادي السرحان في المملكة السعودية
عقلة القطامي (إليى اليسار) مع سلطان باشا الأطرش في منفاهما في وادي السرحان في المملكة السعودية

مهمة سِرّيَّة مع زعماء حوران
كان عُقلة القِطاميّ وَجيها مرموقاً في قومه ويتمتع بعلاقات طيّبة مع زعماء الثّورة في الجبل بصفته واحداً منهم، وكان له في الوقت نفسه علاقات طيّبة مماثلة مع زعماء سهل حوران بحكم مكانته الاجتماعيّة في قريته خَرَبا، وفي الوَسَط المسيحيّ في جنوب الشام بشكل عام بحكم مسيحيّته العربيّة الغسّانية الجذور، وموقع قريته الذي يشكل صلة وصل بين جبل حوران الذي كان مُنْطلَق الثورة السوريّة الكبرى وقاعدتها الرّئيسة، لذلك تمكّن عُقلة وبتوجيه من القائد العام للثّورة سلطان باشا الأطرش، في أيار 1926، من إقناع بعض المشايخ الحوارنة بشنّ هجوم على خطّ سِكّة الحديد بين إزرع وخربة غزالة، وقد تمّ هذا العمل الجريء ضدّ الفرنسيين وفرّ الثوّار المنفّذون إلى إمارة شرق الأردن. وكان على رأس هؤلاء المجاهدين كبيرهم الشيخ اسماعيل الحريريّ الذي سبَق أن سجنته السّلطة الفرنسيّة، لأنّه رفض استعمال السّلاح الفرنسيّ المُقدّم للحوارنة ضدّ ثوّار الجبل. يذكر المؤرّخ البعينيّ أنّ جُمْلةً من المجاهدين الّلاجئين إلى شرق الأردن، وفيهم من شيوخ حوران اسماعيل الحريريّ ومصطفى الخليليّ دمّرت جسر عَرار، وأحرقت مركزاً للدّرك، وأسرت جنوده، ودمّرت جزءاً من الخط الحديدي في أوائل تشرين الأوّل 1926. ثمّ وبعد أيّام من العمليّة الأولى، وفي 10 تشرين الأوّل، خاضَ خلف المُقْبِل وبعض مجاهدي آل الحريري وآل الزعبي موقعة مع الفرنسيّين بالقرب من نبع الدّلي”. ، وبالاستناد إلى أوراق المجاهد عُقلة القِطاميّ، وما أكّده ولده سليم فإنّ سلطان بعث بتاريخ 18 تشرين الأول 1926 رسالة إلى مشايخ وأعيان ووجوه حوران “يشكرهم على ما أظهروا من الغَيْرَة الوطنيّة والشّهامة العربيّة والهمّة العليّة”.

القِطاميّ في مؤتمر ريمة الفخور
كان دور عُقلة القِطاميّ بارزاً كواحدٍ أركان الثّورة في ذلك المؤتمر، وقد أكّد على هذا الدّوْر ما سجّله سلطان باشا في كتاب “أحداث الثّورة السورية الكبرى” حيث تمّ بحث مسألة التنظيم العسكريّ للثّورة، وقد ضمّ المؤتمر في حِينهِ ممثّلين من الحركة الوطنية بدمشق وَ “مَن كان يصحبهم من المجاهدين الذين انضمّوا إلى الثّورة، بالإضافة إلى عدد من أعيان الجبل وقادة الرأي فيه” وبنتيجة ذلك المؤتمر أُعلنت جملة من القرارات نصّت على: “متابعة الثّورة حتى تنالَ البلاد استقلالها التّام وتسمية سلطان باشا الأطرش قائداً عاماً للثّورة، وتولية الدّكتور عبد الرّحمن الشّهبندر إدارة الشّؤون السياسيّة، وتسميته ناطقاً رسميّاً لها، وتشكيل أركان قيادة الثورة من السّادة حمد عامر وفضل الله هنيدي ومحمّد عز الدين وعُقلة القِطاميّ وسليمان نصّار وحسين مرشد ويوسف العيسمي وعلي عبيد وقاسم أبو خير وعلي الملحم، والدّعوة إلى حَمل السلاح والانضمام إلى الجيش السوري”.

الفرنسيّون ينتقمون
لقد صَدَق عُقلة القِطاميّ في جهاده ضدّ الاحتلال الفرنسيّ لسورية ولبنان، ولم تنطلِ عليه أحابيل الفرنسيّين ومحاولاتهم استمالة مسيحيّي الشام إلى جانبهم، لذلك فإنّهم حَقدوا عليه وقرّروا معاقبته، وسنحت لهم الفرصة عندما تقدّمت حملة الجنرال غاملان المُجهّزة بالدّبابات والمدفعيّة والمدعومة بسلاح الطيران بتاريخ 27 أيلول من عام 1925م باتّجاه السّويداء، مرّت الحملة في طريق تَقدُّمها على قرية “خَرَبا” مسقط رأس عُقلة القِطاميّ وأحرقت داره. غير أنّ الفرنسيّين لم يوفّقوا بعدها، ذلك أنّ الثوّار هزموا القوّات الفرنسيّة في سلسلة من المعارك العنيفة غربيّ قرية المجيمر، وفي قرية رساس التي تبعد عن السّويداء مسافة بضعة كيلومترات، وكان المجاهد عُقلة القِطاميّ مقاتلاً في تلك المعارك.
يذكر سلطان باشا أنّه دارت هناك “المعركة الرّهيبة المشهورة بتاريخ الثّورة باسم هذه القرية (رساس)، والتي دامت ثلاثة أيام متتالية، لم يَذُق الفرنسيون خلالها طعماً للنوم أو الراحة، مما اضطرّهم إلى التّقهقر باتّجاه قرية كناكر غرباً، مُتَخلّين عن خطّتهم المرسومة بمتابعة الزّحف شمالاً نحو مدينة السّويداء ودخول قلعتها الحصينة”.

عقلة القطامي مع سلطان - صورة أخرى في وادي السرحان
عقلة القطامي مع سلطان – صورة أخرى في وادي السرحان

موضع ثقة سلطان
كانت الثّورة السوريّة الكبرى موضع آمال السّوريّين عموماً في سائر بلاد الشّام آنذاك، وكان الشّعور الوطنيّ يعمّ البلا وكان الرّأي العامّ الشّعبي في فلسطين مؤيّداً للثّورة السّوريّة الكبرى التي كانت بحاجة للدّعم المعنويّ والماديّ في مجابهة المحتلّ الفرنسي، وفي هذا السياق تألّفت “لجنة القدس” برئاسة مُفتي فلسطين، الحاج أمين الحسيني بهدف جمع الأموال أو تلقّيها من الدّاعمين العرب ومن ثم تقديمها مع الأدوية والملابس لمجاهدي الثّورة السّورية، كما تكوّنت في القاهرة جمعيّة إعانة المنكوبين السوريّين، وكان المجاهد عُقلة القِطاميّ أحد أعضاء لجنة مختارة من الثّوار مؤلّفة من الأمير عادل أرسلان وعبد الغفّار الأطرش وحسين الهجري والدكتور عبد الرّحمن الشّهبندر مهمّتهم تَسَلُّم الإعانات من الخارج، وشراء الأدوية والمؤن بالإضافة إلى الأسلحة والذّخائر.
وبنتيجة تحالف بريطانيا مع فرنسا ضدّ الثورة، وتقلُّص العمليّات الحربيّة للثوّار وعودة الفرنسيّين إلى السّويداء وصلخد، فقد انعقد مؤتمر “شَقّا الثاني” وجرى انتخاب عُقلة القِطاميّ عضواً في المجلس الوطني للثوّار ومن مقرّرات ذلك المؤتمر: مصادرة كلّ ما يورّده أهل القرى إلى السّويداء وصلخد كي لا يستفيد منه الجيش الفرنسيّ، ووجوب المثابرة على الجهاد، وهدر دم المتطوّعين (من أبناء الأهالي) في الكتائب التي أنشأها الفرنسيّون، وهدم دورهم، ونهب مواشيهم، ومصادرة حبوبهم ومفروشاتهم. ومن المقرّرات أيضا انتخاب عَشَرةِ زعماء لِجَمْعِ المجاهدين وتوحيد تحرّكاتهم، وتنظيم شؤونهم وإدارة حركاتهم على أن يكون لكلّ مائة مجاهد قائد، وإنشاء مجلس وطنيّ، ولَجنة إداريّة، ولَجنة ماليّة وهيئة قضائيّة للفصل في قضايا الثّورة.

حياة منفى ومعاناة
في ربيع عام 1927 اضطرّ الثوّار للّجوء إلى الأردن، وبضغط من بريطانيا التي تعاونت مع فرنسا لإخماد الثّورة، خضعت الحكومة الأردنيّة التي كانت تحت الانتداب البريطاني لطلب بريطاني بترحيل الثّوار، الذين انتقلوا إلى منطقة وادي السّرحان الصّحراويّة الواقعة في الأراضي السّعودية، وذلك بعد موافقة الملك عبد العزيز آل سعود على استضافتهم في بلاده، ولم يتخلَّ عُقلة القِطاميّ عن الجهاد ضدّ الفرنسيين ولا عن رفاقه الثوّار الذين اعتبروا صمودهم في المنفى شكلاً من أشكال الضّغط السياسي على الاحتلال الفرنسيّ لسورية ولبنان، إلى جانب معارضة الدّاخل التي كانت تعمل بأسلوب المفاوضات. وكان القِطاميّ ناشطاً في ميادين القتال، وكذلك في مجال النّشاط السّياسي والاتّصالات مع معارضة الدّاخل.
وفي عام 1927 نزح القِطاميّ برفقة سلطان باشا إلى موقع النّبك في وادي السرحان، وعانى شظف العيش في الصحراء، وممّا جاء في مذكّرات صيّاح الأطرش يوم الأربعاء أنّه “جرت مذاكرة بشأن عائلة عُقلة بك، حيث تقرّر دَرْجها في جداول التّوزيع ــ المعونات ــ لأنّها أصبحت تقطن معنا في الحَديثَة (موقع في الصحراء السّعودية) وبالمناسبة فإنّ عُقلة هو مِنّا وفينا، نحبّه ونحترمه لأنّه شهم وغيور على المصلحة الوطنيّة، وقد انصهر في بوتقة العمل الوطني وفضّل أن يعيش معنا في المهجر رغم الإغراءات المادّيّة والمعنويّة التي قدّمها الفرنسيّين له”. ويذكر حفيده سليم أنّه وُلِدَ حفيدٌ لعُقلة من ابنه موسى في وادي السرحان في المنفى فسمّاه سلطانوذلك تَيَمُّناً بصديقه القائد العام.

استثناؤه من العفو الفرنسيّ
كان الفرنسيّون يتحايلون لإنهاء الثّورة السّوريّة، فيصدرون أحكاماً تصل إلى الإعدام على قادتها، ومن ثمّ هم يوقفون العمل بها بُغيةَ دفعهم للاستسلام وإيقاف المقاومة، لكنّهم كانوا يجابَهون برفض الثّوار الخضوعَ لتلك الأساليب. وحسب الدكتور البعيني فقد آثر المجاهدون “العيش خارج البلاد في عذاب وقهر وحرمان، على العيش داخلها تحت سيطرة فرنسيّة مُسْتبدّة حاولوا إزالتها أو التّخفيف من وطأتها، والعديدون منهم لم يرضَوْا بعفو فرنسيّ مشروط أو مذلّ، وبعضهم حُكم عليه بالإعدام أكثر من مرّة ومنهم سلطان، وبعد تأليف الحكومة السوريّة برئاسة الشّيخ تاج الدّين الحَسَني، أصدر المفوّض السّامي ( هنري بونسو) في 18 شباط 1928 قراراً بالعفو استثنى منه أكثر من 70 شخصاً”. وأمّا مِمّا كان يُدعى بـ “ دولة جبل الدروز” فقد كان المستَثْنَوْن، وعُقلة القِطاميّ واحدٌ منهم، حسب تسلسل أسمائهم في قرار الاستثناء من عفو المندوب السّامي هم: سلطان الأطرش وأخواه زيد وعليّ، وصيّاح الأطرش وفضل الله النّجم الأطرش وسلامة النجم الأطرش، وعُقلة القِطاميّ وفرحان العبد الله وعلي الملحم ومحمّد عز الدين الحلبي وسعيد عز الدين الحلبي. كما اسْتُثْنِيَ من جمهورية لبنان: الأخوان شكيب وعادل أرسلان، وسعيد حيدر، وتوفيق هولو حيدر وفوزي القاوقجي وشكيب وهّاب.

ناشط في مجتمع الثوّار المنفيّين
كان عُقلة القِطاميّ واحداً من وجهاء الثّوار البارزين، يؤكّد هذا تكليفه بمهام خاصّة ذات شأن من قبل القائد العام سلطان باشا، يقول سلطان في ص333 من “أحداث الثورة:” تلقّيْنا نبأ وفاة المغفور له الملك حسين بن علي فكتبنا إلى ابنه الملك علي مُعَزّين بجلالته مُشيدين بمآثره وقيادته الحكيمة لأحرار العرب في ثورتهم الكبرى على السّلطنة العثمانية، ثمّ شكّلنا وفداً لتمثيل المجاهدين في الحفلة التّأبينيّة الكبرى التي أُقيمت في حديقة المنشيّة بعمّان، يوم الثلاثاء 14 تمّوز 1931، من السّادة عُقلة القِطاميّ وكنج شلغين وفضل الله الأطرش وصيّاح الأطرش وأخي زيد”.
كما مثّل القِطاميّ بصحبة صيّاح الأطرش وزيد الأطرش القائد العام سلطان باشا الأطرش وثوّار المنفى في وفد ذهب إلى العراق لتهنئة الملك فيصل بن الحسين ورجال حكومته وشعب بلاده بمناسبة إلغاء الانتداب (البريطاني) على العراق ودخوله عضواً في عصبة الأمم.
وعلى أثر صدور قانون العفو عن الثوّار بعد معاهدة 1936، كان عُقلة القِطاميّ في 28 نيسان عام 1937 واحداً من أعيان لجنة من المجاهدين وهم حسب ما ذكره سلطان باشا في”أحداث الثورة”، عُقلة القِطاميّ وعلي عبيد وعبد الكريم عامر وقاسم أبو خير وعلي الملحم، وسلمان طربيه وأخيه زيد، وهؤلاء استلموا أوراق المرور لتوزيعها على المجاهدين العائدين إلى الوطن من وفد سوريّ رسمي قَدِمَ من دمشق إلى عمّان، مؤلّف من السّادة: صبري العسلي وفايق المؤيّد العظم مدير الأمن في حوران والجبل لهذه المهمّة، وقد سُلّمَت الأوراق في ما بعد إلى القائد العامّ.
وفي أيّار من ذلك العام 1937، كان القِطاميّ إلى جانب محمّد عزّ الدين وعلي عبيد وحسين مرشد أعضاء في لجنة مهمّتها تنسيق عودة المجاهدين إلى سوريّة بالتّعاون مع عزّة دَرْوَزَة مدير البنك العربي في عمّان…

دار عقلة القطامي التي سبق أن أحرقها الفرنسيّوندار عقلة القطامي التي سبق أن أحرقها الفرنسيّون
دار عقلة القطامي التي سبق أن أحرقها الفرنسيّون

عودةُ المجاهد
عاد المجاهدون إلى سورية برؤوس شامخة عام 1937، فهم الذين بجهادهم في ميادين القتال مع إخوانهم المجاهدين الّلبنانيين، وبمنفاهم في ما بعد وبتنسيقهم مع معارضة الدّاخل، شكّلوا ضغطاً على الإدارة الفرنسيّة أفضى أخيراً إلى اعتراف فرنسا باستقلال سوريّة ولبنان، لكن عُقلة القِطاميّ عاد فوجد داره خراباً على أثر انتقام فرنسا منه، فاضطُرّ إلى السّكنى في خيمة في العراء إلى أن تمكّن من بناء دار جديدة.
وفي سنة 1939 انتُخب عُقلة القِطاميّ نائباً في البرلمان السّوري عن الجبل، وفي عام 1942، وحسب مجلّة “ألف باء” خَصّص له مجلس الوزراء مُرَتّباً شهريّاً بقيمة مائة ليرة سوريّة كتقاعد مدى الحياة لتضحيته بأملاكه من أجل وطنه. كذلك فاز في انتخابات المجلس النّيابي عن الجبل في عهد الرّئيس شكري القوّتلي.

إلى جانب سلطان باشا
يذكر الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه “سلطان باشا والثّورة السوريّة” إنّ سوريّة، وبخاصة جبل الدروز، قدّمت القمح إلى لبنان خلال ما عرف بـ “أزمة الرّغيف” نتيجة نقص كبير في كميّات القمح في مطلع الأربعينيّات نتيجة اندلاع الحرب العالميّة الثانية. وقد تمّ ترتيب المساعدة السوريّة من خلال مجلس الميرة الأعلى السّوري اللبنانيّ، وتمّ ذلك بفضل مساعي سلطان الذي انتقل في مطلع آب 1942ــ من الجبل ــ مع يوسف وصيّاح الأطرش وعُقلة القِطاميّ إلى دمشق، وقضَوْا فيها عدّة أيام مع وزير الدّفاع السّوري حسن الأطرش من أجل الإجازة بنقل كميّات من القمح من جبل الدروز إلى اللبنانيّين، مقدارها 539 طنّاً. ثمّ أُرسلت كميّات أُخرى من الجبل إلى لبنان. “وبهذا ساهم الجبل في التخفيف من حِدّة أزمة الرّغيف في الحرب العالميّة الثّانية، كما ساهم في الحرب العالميّة الأولى في التّخفيف من وطأة المجاعة التي حصلت فيه”.

عُقلة القِطاميّ في نَكْبَة دمشق
في 29 أيار من عام 1945، وعلى أثر قصف الفرنسيّين للعاصمة دمشق بالمدفعيّة، يذكر سلطان باشا في ص 364 من “أحداث الثورة”، أنّه “قَدِمَ السيّد فخري البارودي ــ من أعضاء الكتلة الوطنية البارزين ــ من دمشق وبصحبته المجاهد عُقلة القِطاميّ، ووصلا نحو السّاعة الحادية عَشْرَةَ صباحاً إلى مكتب جريدة “الجبل” المجاور لدار الحكومة بالسّويداء، حيث أعلن الأوّل ــ فخري البارودي ــ على مَسْمَعِ الأمير حسن وجمهور كبير من المواطنين “إنّ العاصمة قد احتلّها الفرنسيّون إثر ضربهم للبرلمان، وأنّ الحكومة الوطنيّة ستنتقل منها إلى السّويداء ريثما تنفرج الأزمة السياسيّة القائمة!”. في ذلك الوقت كان الجبل لم يزل معقلاً للحركة الوطنية الاستقلاليّة في سورية، وبدا يومذاك أنّ المجاهد القِطاميّ كان على استعداد مع مجاهديّ الجبل للعودة إلى السّلاح وإعلان الثّورة مُجَدّداً على الانتداب الفرنسيّ.
ويذكر سليمان علي الصبّاغ في كتابه “مذكّرات ضابط عربي في جيش الانتداب الفرنسي” أنّ الأمير حسن الأطرش محافظ السّويداء آنذاك، قرّر وبموافقة قيادة فرقة الفرسان في الجبل تشكيل كتيبة مغاوير من عناصر الفرقة لإرسالها إلى ضواحي العاصمة للقيام بحرب عصابات ضدّ القوّات الفرنسيّة حتّى دون طلب من الحكومة الوطنيّة. وبالفعل فقد فَتِحَت القيادة مكتباً لتسجيل المتطوّعين في كتيبة المغاوير وخلال أربع وعشرين ساعة تطوّع أكثر من ثمانمائة ضابط وصفّ ضابط ورتيب وجندي فتشكّلت وجُهّزَت كتيبة المغاوير، ووقفت على أُهبة الاستعداد للسّفر في أيّة لحظة يُطلَبُ منها ذلك.

مواجهة مع حكومة الاستقلال
احتفلت الحكومة السّوريّة عام 1946 في دمشق بعيد الجلاء الأوّل واستقلال سورية، لكنّها تجاهلت دعوة سلطان باشا ومجاهديّ الجبل لحضور الاحتفال، وسلطان هو القائد العام للثورة السوريّة الكبرى التي لا يمكن تجاهل دورها التّاريخيّ في تحقيق جلاء الفرنسيين، وبالتّالي استقلال سوريا ولبنان معاً. رَدّاً على ذلك التّجاهل المُجحف نظّم سلطان ورفاقه احتفالات استقلال شعبيّة كُبرى في الجبل احتَفلَ بها مع سائر المجاهدين، فأُقيمت المهرجانات في السّويداء وشهبا وصلخد، ولبّى المجاهد عُقلة القِطاميّ الدّعوة إلى اجتماع عُقد في القريّا في 13 حزيران 1946، وحضره أعيان الثورة والجبل وأبرزهم محمّد عز الدين الحلبي، وعلي عبيد وحسين مرشد ويوسف العيسمي وقاسم أبو خير وعُقلة القِطاميّ، وتمّ على أثر ذلك عقد اجتماعات استمرّت بضعة أيام، وُضِعت فيها الخطط “لمواصلة العمل في سبيل الأهداف الوطنيّة والانتصار لوحدة الوطن”. وكانت تلك النّشاطات تمثّل احتجاجاً على الإساءة لقائد الثورة ومجاهديّ الجبل، ويعلّق المؤرخ البعينيّ في كتابه “سلطان باشا والثورة السورية” على سياسة الحكومة تلك بقوله: “ما جرى أصحّ ما يقال في تفسيره والحكم عليه أنّه عمل مقصود، وإساءة لا مبرر لها وخطأ سياسي فادح من حكومة يجب أن يكون عندها سلطان من أوائل مدعوّيها إلى حضور الاحتفال” وأضاف البعيني بأنّ أركان العهد الاستقلالي الأوّل الذين حَظَوْا بشبه إجماع السوريين عليهم في انتخابات 1943، أخذوا يتعثّرون في سياستهم بسبب وقوع سوريّة ضحيّة لتجاذبات القوى الإقليميّة المحيطة بها، وبدأوا يفقدون رصيدهم، ولهذا كان سلطان من النّاقمين على مسارهم ذاك، بالإضافة إلى “إهمالهم شؤون جبل العرب ولجنوحهم إلى التسلّط والاستبداد”.

السيدة هيام القطامي حفيدة المجاهد عقلة القطامي -عن موقع السويداء
السيدة هيام القطامي حفيدة المجاهد عقلة القطامي -عن موقع السويداء

تحذير لسلطان من غدر حسني الزّعيم
نفّذ الضّابط حسني الزّعيم انقلاباً عسكريّاً في 30 آذار1949، وحلّ مجلس النّواب وتولّى السلطتين التشريعية والتّنفيذية، ونصّب نفسه رئيساً للجمهورية، ثم أجرى استفتاءً صُوَريّاً، وتسلّم بعد ذلك رئاسة الحكومة، واحتفظ لنفسه بوزارتي الدفاع والدّاخلية. ويذكر مايلز كوبلاند في كتابه” لعبة الأمم” أنّ انقلاب الزّعيم كان من صُنْع الأمريكيين الذين أوحَوْا بأنه سيكون أتاتورك سوريّة، كما يذكر سليمان علي الصباغ في كتابه “مذكّرات ضابط عربي في جيش الانتداب الفرنسي” أنّه في فترة حكم حسني الزّعيم جرى توقيع الهدنة مع إسرائيل، بالإضافة إلى توقيع اتفاقية التابلاين، وبسبب تشكّكه بمن حوله فقد اختار حرسه الخاص من المسلمين اليوغوسلافيين الذين” يُقْسِمون على الولاء له فقط” وهؤلاء بالأصل جماعة من الهاربين من يوغوسلافيا على أثر سيطرة الماريشال تيتو على الحكم فيها بعد الحرب العالمية الثانية.
ويبدو أن حُسْني الزعيم نوى الإيقاع بسلطان، ليتخلّص من رجل قادر على قيادة انتفاضة ضدّه فطلبَ منه زيارته في دمشق، وتلك ذريعة يريد بها من سلطان باشا أنْ يُهنّئَه بالمناصب الجمّة التي اصطنعها لنفسه، لكنّ سلطان رفض تلك الدّعوة بادئ الأمر، وكان الزّعيم قد بعث بقوّة من الجيش إلى الجبل، وعمل بعض رجال الدولة، عن طيب نيّة، ومنهم محافظ السويداء عارف النّكدي على إقناع القائد العام بقبول الدّعوة، ويذكر البعيني أنّ سلطان باشا كان مُدركاً أنّ الخطر يتهدّده سواء بقي في الجبل ورفض دعوة الزّعيم (الذي حاول اغتياله بواسطة عسكري يوغوسلافي بعث به إلى صلخد لهذا الغرض) أو لبّى الدعوة إلى دمشق.
وأخذ الباشا قراره، ونزل من الجبل إلى دمشق، وقبيل وصوله إليها، في بلدة الكسوة على مسافة 18 كيلومتراً من العاصمة قدّمت حظيرة من العسكر التّحيّة بالسلاح له، وقدّر سلطان الأمر على أنه إجراء يجمع بين التّكريم والتّلويح بالعنف.
وفي دمشق استقبل حسني الزّعيم سلطان باشا بالزّي العسكريّ، وطلب منه أن يبقى في دمشق، في البيت الذي أُهدِيَ له أيّام وزارة سعد الله الجابري، وكان الزّعيم قد سلّمه إياه، واعتبر سلطان أنَّ في ذلك الطّلب إقامة جبريّة وتهديداً ضمنيّاً، فاعتذر، ولمّا كان عُقلة القِطاميّ، صديق سلطان المقرّب على عِلم بالزّيارة، وكان لا يثق بنوايا الزّعيم تجاه سلطان، صديقه ورفيق جهاده، فقد أبلغ محمّد بن مصطفى الأطرش وهو ابن أحد أوائل الشهداء في معركة الكفر عام 1925، وابن أخي سلطان، وكان ضابطاً في الجيش المرابط في دمشق حينها، أبلغه بوجود عمّه في قصر الضّيافة عند الزّعيم، فما كان من الضّابط، محمّد، إلاّ أن سَيّر خَمْسَ مُصَفّحات وتقدّم بها باتجاه القصر وأنذر بأنّه في حال وقوع أيّ مكروه لعمّه القائد العام فإنه سيتدخل بالقوّة، وبذلك تمّ إحباط نوايا الديكتاتور الذي أدرك أنّ الغدر بسلطان باشا سيكون أمراً غير مضمون العاقبة، وهكذا انتهت الزيارة بسلام، وخرج سلطان من ضيافة الزّعيم عائداً إلى الجبل من يومه.

وسام تقدير بابوي للقطاميّ
بعد الاستقلال، في عام 1947 فاز القِطاميّ بانتخابات المجلس النّيابي السّوريّ بالأصوات، ولمْ يُسَمَّ حينها نائباَ بسبب الأحداث التي نَجمت عن الحركة الشّعبية في الجبل.
وتقديراً لحجم نشاطه الاجتماعيّ فقد مُنِح عام 1947 الوسام البابوي، من بابا روما، وقد قَبِلَهُ راضياً، في حين أنّه رفض مُغرَيات وعروض التّعاون مع الفرنسيين المحتلّين لبلاده. ولكونه يكره الاستبداد كصديقه الأثير لديه، سلطان باشا، فقد كان من المعترضين على الحكم الدكتاتوري لأديب الشيشكلي عام 1954.
في العام 1956 توفي المجاهد الكبير عُقلة بك القِطاميّ ودفن في قريته خَرَبا. وانطوت بذلك صفحة أكبر ركن مسيحي في الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين وقد كان بحق ركناً وطنياً وعربياً اعتبرَ مسيحيته جزءا من انتمائه العربي السوري المشرقي، واعتبرَ أنّ مشاركته في الثورة كانت الموقف الطبيعي لأيّ سوري بِغَضّ النّظر عن عقيدته، وذلك للدفاع عن الوطن ضد محتلٍّ أجنبي، لقد كان في حماسه واندفاعه في سبيل الجهاد تعبيراً ناصعاً عن وحدة المصير بين جميع السوريّين على اختلاف انتماءاتهم وهو ما لخّصه شعار الثورة الذي كان على كلِّ شَفَةٍ ولسان في تلك الأيام المجيدة: “الدين لله والوطن للجميع”.

العز عز العمايم

“خشيَ أهل أمّ الرّمان لجوء أهل الغارية للثأر من الخُرشان فأرسلوا مع قافلتهم 40 فارسا ليؤمنوا وصولهم حِمى قبيلتهم”

“أمسكَ زعيمُ الخُرشان بعمود خيمته وأقسم «بالعمود والرّب المعبود» أنْ يَحْفَظ ودّ الدّروز ولا يعتدي هو وذريته عليــهم أبداً”

“الخُرشان يرسلون 100 من فرسانهم لنجدة سلــطان ويعقدون تحالفا مع ثوار بني معــــروف ضدّ الفرنســــيين”

من ذاكرة الجبل

قِصّةُ شهامةٍ وصَفْحٍ وَوَفاء

بين بني معروف وعشيرة الخُرْشان

تناسى بنو معروف الثّارات وأكرَموا الخْرشان الجياع
فقامت بين العشيرتين صداقةٌ وحِلْف ضدّ الفرنسيين

شيخُ الخُرْشان يهاجم المُفترين على بني معروف في مجلس ابن سعود
العزّ عزّ اللهْ هُوْ وَليِّ النّاس والعزّ اْلآخَر لابْسينِ العَمايم

منذ نحو مائة عام أغار على الجبل فرسان من عشيرة الخُرشان، وهم فريق من قبيلة السّرحان، من بني صخر، الذين كانوا ينتقلون بمواشيهم في بوادي الحَمَاد الممتدة جنوب جبل حَوران إلى عمق شبه الجزيرة العربية بعيداً. يومَها لحق بهم جماعة من فرسان بني معروف المُوَحّدين، ولكنّ هؤلاء لم يًوفَّقوا في مطاردة الغُزاة وخسروا بعض فرسانهم في موقعة سمّيت بموقعة “الغَباوي”، نسبةً للأرض التي حصلت بها تلك الموقعة.
وفي واقعة أخرى، في أرض “الغباوي” ذاتها، ثأر المُوَحدون من الخرشان، وحَدثت بعدها قطيعة بين الطّرفين دامت نحواً من اثني عشرَ عاماً، ومرت سنوات من جفاف في البادية، لم يدخل الخرشان على أثرها حِمى الجبل بسبب العداوة والدّماء التي لم تجد سبيلها إلى المُصالحة.
وبما أنّ الحاجة الماسة لا ترحم ذويها، فقد جمع شيخُ الخرشان علي الحْنَيف وجهاء قومه، وقال لهم:”ها نحن جُعنا، وما عندنا مَيْر، لا قمح ولا شعير، وها أنتم ترَوْن أنّ بني عثمان هم أصحاب الكلمة العليا في سهل وحواضر البلاد ما عدا الجبل، وما من قافلة تعبر تلك الديار إلاّ ويجبي منها العثمانيّون الضّرائب الباهظة، ونحن على جوعنا لا قدرة لنا على دفع ضريبة للتّركي. مالنا حيلة إلا أن نبعث على بني معروف في الضّلع ونَطلب المَير منهم. (كانت قبائل البدو في القرون الماضية يطلقون على جبل حوران اسم “الضلع” لأنه يظهر للناظر إليه من الأفق البعيد في مدى البوادي المحيطة به مقوّساً كضلع أزرق).
تابع شيخ الخُرْشان كلامه فقال: “مع أنّهم عَدّو علينا، لكن المثل عندنا يقول “اِذبح ابن الدرزي وِاْنْصيه ( أي اطلب منه فترة سماح) يعطيك عَطْوَة( فرصة) خمسة أيام”، كان الشّيخ الحْنيف على حقّ، فَلِلْبدوي طبع يأبى سطوة السّلطة، فكيف بها إذا كانت سلطة جُباة ظالمة!.
اتّفق الحْنيف مع رجال عشيرته على إرسال قافلة من مائة جمل وفي حراستها عَشَرة فرسان تَصحبُهم عشرين امرأة لإبعاد شبهة القتال والعداوة عن الرّكب، وبالفعل، في اليوم التّالي انطلقت القافلة، وقد اتّخذت طريقها إلى جبل حوران.
بعد مسيرة أيام وصلت القافلة إلى حِمى الجبل، وصَعّدت في مسارها على السفح الجنوبي منه، إلى أنْ حطّت رحالها مع الفجر في جوار مُنبسَط من الأرض في الظاهر الجنوبي لقرية أم الرمان المواجهة للبادية. كان أهل القرية قد اتّخذوا من ذلك الموقع مدافن لموتاهم ( المكان اليوم هو محلّ المدرّج العام في القرية)، وكان مغزى نزول القافلة في جوار المدافن يعني طلب الحماية، والتوسّل بأرواح الموتى لتحقيق ما جاؤوا من أجله.
علم أهل أمّ الرمان بنزول الرّكب في جوارهم، وقد أدركوا أنّ غايتهم سلميّة، لكنهم أرسلوا رسولا منهم يسأل القادمين:
ــ وِشْ جابكم علينا؟
ــ والله ما جابنا غير الجوع، وِدْنا نكتال ــ أي نشتري كميات من الحبوب ــ من عندكم.
وبالفعل توزّعت القافلة على بيوت أهل القرية الذين كالوا لهم ما طلبوه من القمح والشعير وما طلبوه من حاجات أُخرى..
عَلِمِ أهل قرية الغارية المجاورة لأمّ الرّمان من جهة الجنوب الشّرقي، وفيها الفارس علي مقلد ( آل مقلد أصلاً ينتمون لآل المصري، قدموا إلى الجبل من قرية صليما في جبل لبنان)، كان الخُرشان قد أصابوه برصاصة في فخذه في إحدى الغزوات فكسروه كسراً شنيعاً رافقه طيلة حياته. أراد أهل الغارية الثأر لصاحبهم علي، فجمعوا جَمعهم للهجوم على الخُرشان النازلين في حِمى أم الرمان.
لكن عقلاء الغارية وفي طليعتهم الشيخ فارس فرج، عارضوا نِيَّة المُتحمّسين من ذويهم. كان فارس فرج قاضياً معروفاً بحصافة الرأي، قال لهم :”يا أهل الغارية! الخرشان صاروا في وجه أهل أم الرمان ــ أي في حِماهم ــ ضَعوا أنفسكم محلّهم، هل تقبلون بذلك، كُفّوا الشرّ، والزموا دياركم، ونحن وأهل أمّ الرمان وجهنا واحد، وكرامتنا واحدة، والأيّام بيننا وبين الخُرشان باقية، وحقّنا لن يموت”.
بِهذا تغلّب صوت العقل في الغارية على نزعة الانفعال…
أمّا في أمّ الرّمان فقد ملأ أصحاب القافلة أوعيتهم من الحبوب، وأخذوا ما يلزمهم من سواها، لكنّهم اعتذروا عن دفع ثمن ما اكتالوه وأخذوه، بل طلبوا أنْ يكونَ دَيْناً مؤجّلاً بسبب ظروف البادية، وعجزهم عن دفع الثمن حينها، فلبّى أهل أمّ الرّمان طلبهم. بعد هذا عزموا على الرّحيل والعودة بقافلتهم إلى باديتهم.
كان أهل أمّ الرّمان قد بلغهم ما جرى من محاولة أهل الغارية الثأر من ضيوفهم، وأدركوا أنّ هذه القافلة الكبيرة لن يحميها العشَرَةُ من فرسانها الذين قدموا معها، فيما لو هاجمها أهل الغارية، أو أيّ طامعٍ آخر في أمداء بادية يسودها قانون الأقوى!.
لهذه الغاية، ركب أربعون فارساً في طليعتهم شيخ قرية أم الرمان “أبو حمد سلمان الأطرش”، ومَضَوْا حَرَساً للقافلة عبر البادية حتى بلغوا موقعاً يقال له “رُجم المشنشل”. كانت قبيلة الخُرشان يومذاك تُخيّم قُرْبَه. كان شيخها علي الحْنيف يقلّب منظاره في الآفاق على قَلق، خيفةً من غارة ما على الحمى، لم يلبث أن رأى القافلة، لكنّه ارتاب بِخَيْلٍ وفرسانٍ أكثرَ من العدد الذي بعث به حمايةً لقافلته، لكنَّ أحدَ فرسان القافلة كان قد سبقها ليبلغَ قبيلته بوصول الرّكب، لاقاه الشيخ الحْنيف مُتلهِّفاً لاستطلاع حقيقة الأمر. قال له:
ــ علّمْ وِشْ معك؟
ــ عيال معروف خافوا علينا من الغدر، وما تركونا بالبرّية وحدنا، مرادهم يوصلونا بالأمان.
أطلق الشيخ الحْنيف عنان فرسه نحو الرّكب حتى اقترب من الفرسان الذين همّوا بالعودة. حيّاهم، وّرَحّب بهم، وأقسم عليهم بالله، وبمحمّد رسول الله، ألاّ يعودوا دون أنْ ينزلوا ضيوفاً على قبيلته. قال له الشيخ أبو حمد سلمان الأطرش :”أنت تدري اْلْلّي جرى بيننا بالماضي”. ــ يشير إلى الثارات السابقة .
قال الشيخ الحْنيف، وأشار بحركة من يده إلى الأرض:”حَفَار ودَفّان يا الأطرش “ (يقصد أنّه آن الأوان لدفن الماضي).
هنا، قَبِل فرسان أمّ الرّمان الدّعوة، ووسط ترحيب وجهاء القبيلة توزعوا ضيوفاً عليهم. كان الوقت عند العصر. طلب الحْنيف أن يُجري الفرسان من الفريقين ميدانَ سباق فروسية علامة على المصالحة التي يريدها، فكان ذلك بين زغاريد صبايا العشيرة، وإطلاق الرّصاص في الهواء، وغبار الميدان على صفحة البادية…
بعدها، قال الحنيف للمُضيفين من عشيرته، كلّ واحد منكم يعشّي ضيوفه، وغداً كل عيال معروف وأنتم معهم تُفطِرون عندي”.
كانت حصّة علي الحْنيف من الفرسان الضّيوف الشيخ سلمان الأطرش وشبلي الهادي وآخرون ناموا في مَضْرَبِه ــ أي بيت الشَّعر الذي يتّخذه البدويّ مسكناً له ولأسرته .
في الصباح التالي نهض الشّيخ الأطرش، فرأى رجالاً من البدو يسلخون جَزوراً(جملاً سميناً)، سنامه بطول إبطه ــ كناية عن ضخامته ــ قال متعجّباً ممّا يرى ــ”أيش بلاه هذا؟”، قال الحْنيف وكان يشرف على عملية الذبح والسّلخ “هذا بَلاه أنت يا شيخ”، وأردف وكأنّه يُحَدّثُ نفسَه “أمَا هوْ عيب على علي الحْنيف يضيف عنده الأطرش وعيال معروف، وتقول عنه العرب ما عَقَر لهم!”، ــ أي لم يذبح لهم جَزوراً ــ وهكذا كان فطور فرسان قرية أمّ الرمان عند الشّيخ الحنيف.
بعد ذلك الفطور، وعندما عَزم الضيوف على العودة إلى ديارهم، أراد منهم الحنيف المبيت ليلةً أُخرى، فاعتذروا منه، قالوا له “إن تأخّرنا سيحسب بنو معروف في الجبل أن مكروهاً حصل لنا، وسيصولون ببيارقهم وراءنا”، قبِل الحنيف اعتذارهم، ولما امتطَوْا ظهورَ خيلِهم أمام مضربه، أصَرّ على أن يسقي كل فارس منهم فنجاناً من القهوة بيده، كانت هذه منه مبادرة في التّكريم الزّائد والاعتراف بالفضل، ثم اتجه بعدها إلى مضربه، وأمسك بأقرب عمود من أعمدة البيت وهزّه، وأقسم قائلاً: “وحياة ها العمود، والرّب المعبود، ألْما عَنّهْ صدود، مادام علي الحْنيف ومن وَراه ــ أي ذرّيته من بعده على قيد الحياة ــ حرام عليّ قَوامة ــ أي معاداة ــ بني معروف”.

كان شيخ العشيرة علي الحْنيف يقلّب نظره في الآفاق خيفةً من غارة ما على الحمى
كان شيخ العشيرة علي الحْنيف يقلّب نظره في الآفاق خيفةً من غارة ما على الحمى

وفاء الشيخ علي الحنيف
مرّت بضعُ سنوات، ولم تلبث أنْ نشبت الثورة السّورية الكبرى عام 1925، وذاع صيت انتصاراتها الأولى في معركتي الكفر والمزرعة، وسمع الخُرشان وشيخهم الحْنيف بخَبَرها، فأرسل ابنه الشابّ “حديثة الخريشا”، إبراراً بقسمه يوم أمسك العمود الذي يرتكز إليه بيته، وحلف بالرّب المعبود ألا يعادي بني معروف وأنْ يكون وذرّيته صديقاً لهم. أرسله برفقة مائة من فرسان عشيرته إلى الجبل قاصداً سلطان باشا، مهنّئاً إياه بانتصار الثّوار في معركتي الكفر والمزرعة، ومعلناً تحالفه مع الثورة في قتال الفرنسيين لتحرير سوريا، وقد أشار سلطان باشا إلى ذلك الوفد في ص 126 من كتاب أحداث الثورة بقوله” في 16 آب عام 1925، وصل إلى قرية الثعلة حديثة الخريشا، على رأس قوة من بني صخر، مؤلّفة من نحو مائة فارس، وقد سارعوا إلى نجدتنا بعلم رضا الركابي، رئيس الحكومة الأردنية وتشجيعه”.
كان سلطان وثلّة من الثوار يوم قدوم وفد الخرشان في قرية الثعلة، وبعد أن استقبلهم مرحِّباً بوفادتهم، رغب الشيخ حديثة أن يرى على الطّبيعة موقع المعركة التي هُزم فيها الفرنسيون، فأرسل سلطان معهم دليلاً من مُقرَّبيه هو سلامة أبو عاصي، من قرية أم الرمان، وكان هذا يجمع الفروسية والبلاغة في شخصه، وفيما هم على الطّريق قرب تلة من رماد القرية، فاجأهم سِربٌ من طائرات الفرنسيين الذين كانوا يفتّشون عن فرصة لينتقموا لِهزيمتهم المدوية منذ بضعة أيام مضت. ألقت الطائرات قنابلها على الفرسان الذين تَحَثْحَثوا لرؤيتهم الطائرات، وتفرقوا شَذر مَذَر، بينما كانت امرأة تحمل على كتفها جرّة ماء، وبيدها الثانية تحمل طفلاً رضيعاً، وقد لفّته بمملوكها، ــ قماش أشبه بمئزر تشدّه المرأة بعروة متينة على خصرها بحيث يكون على مقدّمة ثوبها تحت الصّدر ــ كانت المرأة تعضّ على طرف قماش المملوك بأسنانها تثبّتُه كيلا يسقط الطّفل منها. خاطبتهم وهم ينتشرون هاربين من حولها: “أتخافون من فراشة؟”. ثمّ أردفت غاضبةً توجّه كلامها للطائرة، وقد رأت الغبار يملأ فضاء المكان :” الله يقطع عُمْرِك، غبّرتينا”، ومضت في وجهتها …
دُهش الشيخ الخريشا لموقف المرأة وقال” هيك ناس لا يحتاجون المساعدة من أحد”.
بقي الشّيخ الخريشا ورجاله مدة أيام في الجبل، واستمرّت الثّورة نحواً من سنتين حرباً سجالاً في مواجهة الفرنسيين الذين استقدموا قوات من مستعمراتهم في إفريقيا والهند الصينية، واضطر سلطان والثوار إلى اللجوء إلى إمارة شرق الأردن ( كما كانت تدعى آنذاك)، وهناك ضغط الإنكليز على الثوار ليتخلّوْا عن الثورة، أو يخرجوهم بالقوة من الأراضي الأردنية التي كانت تقع تحت سيطرة انتدابهم، وإزاء هذا الضغط قرر سلطان وأركانه إرسال وفد للملك عبد العزيز بن سعود، الذي كان حينها في زيارة لموقع قريب من الأراضي الأردنية التي وفد منها الرجال. كان الملك قد علم بقدومهم عبر الدروب الطويلة في الصحراء، فأمر لهم بغداء قبل دخولهم عليه.

وحياة ها العمود، والرّب المعبود حرام علي وعلى ذريتي معاداة بني معروف
وحياة ها العمود، والرّب المعبود حرام علي وعلى ذريتي معاداة بني معروف

الحنيف ينتصر لبني معروف
أقبل الموفدون على الفسطاط الكبير الذي يجتمع فيه حَشْد من الرجال حول الملك، وتوزعت مشاعر الحاضرين بين مُرَحّب ونافر من قدوم بني معروف، كان سلامة أبو عاصي بين أعضاء الوفد، قال بعد السلام الشّفوي بلا مصافحة: نحن رجال سلطان، جئناكم بسبب ضغط فرنسا وبريطانيا علينا لنسلّم سلاحنا يريدون منّا أنْ ننهي الثورة، ونحن لن نسلّم دون شروط تحفظ حقوق بلادنا، وغايتنا طلب الإذن بدخول بلادكم نبقى فيها ريثما تنفرج علينا”.
وقف الملك وقال: “الله يحييكم، اِن اشتهيناكم نرسل وراكم”،
(يقصد نطلب مجيئكم إلى بلادنا).
ما إن خرج الموفدون حتى التفت الملك عبد العزيز وسأل الوجهاء وزعماء القبائل الذين يلتفّون حوله: يا عرب، أسألكم بالله وبمحمّد رسول الله من يعرف حقيقة هؤلاء الدروز فلْيخبرني.
وقف أحدهم، وكان يُدعى “سلطان بن شرخي”. قال:” الدّروز!، لا أبْ ولا ربْ. ثمّ جلس.
تبعه آخر، وهو مبارك بن غدير، قال:”الدّروز لادين ولا مذهب”. وجلس.
وقف علي الحنيف، شيخ الخرشان، وكانت بادية وادي السرحان في الأراضي السعودية من بعض منازل قومه في حلّهم وترحالهم. قال: يا جلالة الملك، أنت تسأل بالله وبمحمّد رسول الله. أَهُوَ الكلام مسموع؟

قال الملك، نعم وكان يثق به :”كلامك رسالة”.
فأجابه الحْنيف بالقصيد (وكان شاعراً) مدافعاً بحرارة عن بني معروف الموحّدين وعن إسلامهم وشيمهم وشجاعتهم وعن إيمانهم، وكان لقصيدته وقْع فوري على الحضور وعلى الملك عبد العزيز الذي قبل في ما بعد بتقديم الملجأ لسلطان وقيادة الثورة وعدد كبير من الثوار وعائلاتهم. وفي ما يلي نص القصيدة التي ألقاها شيخ الخُرشان في حضرة الملك عبد العزيز وهي باللّهجة البدوية النّبطية، لذلك قمنا بوضع هوامش في أسفل الصفحة لشرح بعض مفرداتها الأساسية تسهيلا لفهم مغزاها من القارئ غير المُلِمّ بالشعر البدوي النّبطي. قال الحنيف زعيم الخرشان في شعره:
العــــــــــــــــزّ عــــــــــــــــــزّ الله هُـــــوْ وَلِــــــــــــــيّ النّـــــــــــــاس والعـــــــــــــزّ اْلْآخَــــــر لابْســـــــــــــين العمايــــــــــــــــــم
عزّك بني معروف عَ الخيــــــــــل فُـرّاس بمقـــابـــــــــــــل الجمعـــــــــــــــــين كلـــــــــــــــــــهم لزايــــــــــــــم1
دروزٍ تْعزّزهم علـى كـــــلّ اْلاْجْنــاس طِيبٍ وفعل نفوس شُمّخْ عظــايـــم
المَرْجَـــلَـــــــــــــهْ من دور آدمْ لَــهم ســـــــــــــاس عَـــــيــــــــــــّوا بــــهـــــــــــا بمصقّلاتٍ عـــــــــــجايــم2
ياما احتمى بِـــــرْبــاعْهُـــم كلّ مِحْتاس يْعِــــــــزّوهْ لَنَّـــهْ شـــــــــــارب الــدّم عايــــــــــــــــــــــم3
كم منْ أميرٍ يشرب الخمر بــالكاس خلّـــــوا عليه الطّيرْ يــــــــا مِيرْ حـايـم4
يــوم المعارك عَجّهــــــــــا تِقُـــــــــــــلْ حِنـداس وبزر الفْرَنْجي مِثل رَشق الغَمايــــــــم5
يْدوسوا العَراضي بْعَزِم كاللوح دَرّاس واللي مْقصّـــر عِـــدّوهْ أبو الهمايم6
إســلام يعطوا الحقّ أصفى من الكاس والحــقّ مِنْهم مِسِنْدينــوا بــدعايــم7
الصــــــدق مني شهــادةٍ تِـــــــــــــرْفــع الرّاس وْلاني مْــنَ اَلْلّـــي يِبِذْرُون السّمايم8
يا الله يا اللّي مـِرْتِقب كلّ الاجْـنــــاس وتْكفّ عَنْهم عـــايْلات المَظـــالــــــــــم9

1. – لزايم: أي أقارب
2. – المصقَّلات العجايم، أي السيوف الباترة
3. – المحتاس: الخائف، والمطارَد من أهل قتلى قتلهم وابتليَ بدمائهم
4. – المحتاس: الخائف، والمطارَد من أهل قتلى قتلهم وابتليَ بدمائهم
5. – أي تركوه مقتولاً طعاماً للطيور في البرّيّة
6. – العجّ: الغبار. والحنداس: ظلام الليل. و”بزر الفرنجي” هو الرصاص من صنع الأوربيين، إشارة إلى جودته وفتكه

7. – العراضي: الجيوش ــ عامية ــ أي يهزمون الجيوش. بعزم كاللوح درّاس أي كالنورج. أبو الهمايم: أي هو البطل ذو الهمة العالية.
8. – أي مدعوم بشواهد
9. – يبذرون السّمايم: أي ينشرون السموم ويقومون بإيذاء الآخرين والافتراء عليهم كذباً.
10. – هو يدعو الله أن يبعد الظالمين عن بني معروف

محمد خليل

محمّد حسين الخَليل

من بائع كشّة في ماريدا المكسيكيّة
إلى امبراطوريّة أعمال في نيجيريا

تعطّلت باخِرَة العَوْدَة إلى لُبنان في مرسيليا
وبدأت بذلك رحلةٌ مثيرةٌ في بناء الثّروات

بفضل دعم محمد الخليل لأبناء عشيرته ووطنه
أصبح 85% من شركات النقل في نيجيريا ملكاً للّبنانييّن.

شركة ببسي كولا نيجيريا
توزع لـ 180 مليون مستهلك وتملك ثمانية مصانع
ويعمل فيها 140,000 موظّف في جميع أنحاء نيجيريا

صَدق من قال: “إنّ الرّجولة ليست فقط في ميادين القتال، بل هي صفة تضيء على هامات الرّجال في كلّ مجالات الحياة وما إليها يؤوب. كذلك أمر الشّجاعة فهي قد تُرى على خطوط المواجهات ويوم التقاء الجموع وتطاحن الإرادات لكنّ من الشّجاعة ما يَظهر دون ضوضاءَ في مجالات الحياة وخصوصاً مجال الأعمال لكنّها شجاعة مقترنة بالحِنكة وبُعد النّظر وهي شجاعةُ العمل الدّؤوب والصّبر وأخذ المخاطر واغتنام الفرص.
نُقدّم بهذا الكلام لقصّة من قصص الرّيادة في الأعمال وقِصّة نجاح اقتصادي من أبرز ما أنجزه المهاجرون اللّبنانيون في المُغتربات، وهي قِصّة المهاجر أبو كمال محمد الخليل، والد النائب والوزير السّابق الأستاذ أنور الخليل، والذي تطوّر من مهاجر بسيطٍ يحمل “الكشّة” في شوارع مدينة “ماريدا” المكسيكيـة إلى مؤسس لامبراطورية صناعيّة وتجاريّة وماليّة مترامية الأطراف عبرَ القارّات وإلى قوّة اقتصاديّة يُحسب حسابُها في نيجيريا التي هي من أكبر بلدان أفريقيا سكاناً، وأغناها بالثّروات النّفطيّة والطّبيعيّة، ويُقدّر عدد عمّال وموظّفي هذه الامبراطورية بمئات الألوف فُمَن هو رائد الأعمال وبِناء المؤسسات الكبرى في نيجيريا وفي العديد غيرها من البلدان محمد الخليل؟ وما هي قصّة كفاحه وحياته الحافلة التي عاشها بين عاميّ 1891 و1992 والتي امتدت لمائة سنة وسنة واحدة؟

وُلِدَ محمّد الخليل عام 1891 في بلدة عُرمان من جبل العرب لوالدين هما حسين يوسف الخليل وقرينته، وقد هاجر الزوجان من بلدتهما الفرديس حاصبيّا إلى جبل العرب منتصف القرن التاسع عشر، ورافقهما الجدّ الشّيخ يوسف حسين الخليل الأوّل (والد حسين) ليستقرّ الجميع في تلك الدّيار. وبسبب تعشُّـقُـه الحرّية والكرامة فقد التحق الشّيخ يوسف (الجدّ) بالزّعيم اسماعيل الأطرش في ثورته ضد الإقطاع الحمداني المتسّلط على رقاب العباد والتي انتهت كما هو معروف بزوال سلطة آل الحمدان وتكريس آل الأطرش في زعامة الجبل.
في هذه البيئة الحميدة من الرّجولة والكرامة نشأ الفتى محمد الخليل، لكنّه ما إن شبّ عن الطّوق وتحرّك فيه الطّموح وبدأ يطرق أبواب الحياة حتى صُدم بضيق الفُرَص في بيئة الجبل، وعَرف بحدسه أنّ مستقبله لن يكون في تلك البقاع. لذلك ترك موطن هجرة أهله وعاد إلى موطنه الأول حاصبيّا، ومنها إلى ديار الاغتراب عام 1910 ليصل إلى منطقة “ماريدا” في المكسيك حيث التقى بالأخوين مسعود من بلدته حاصبيّا ونزل بضيافتهما.
هنا، وكما رواها أمامنا يوماً، فإنّه لم يجد عندهم مكاناً للنّوم حيث كانا يقطنان في غرفة واحدة، لهذا أقام لنفسه أرجوحةً أو “سريراً مُعَلّـــقاً” من الحبال شدّه إلى اثنتين من أشجار الحديقة فكان ينام فيه ليلاً ويستريح نهاراً. وكم هي الأعمال المضنية والقاسية التي صادفها أثناء عمله وهو يحمل الكشّة (وهي حقيبة محشوّة ببضائع متنوعة للمنازل)على ظهره ويتنقّل بها من منزل إلى منزل ومن شارع إلى شارع. ومن فضائل تواضعه واعتزازه بعِصاميَّتِــه أنّه لم يكن ليخجلَ أنْ يُخبــِـر عن الشّقاء الذي كان رفيق بداياته في المغترب المكسيكي، ومن ذلك أنّه صادف في يوم عائلة كانت تهم بتناول طعام الغداء، فأشاح بنفسه احتشاماً، لكنّ ربّ العائلة الذي انتبه إلى وجوده ناداه قائلاً : يا توركو Turko (وهــذا اللّقب كان يُطلق على المغتربين العرب لكونهم من رعايا الدولة العثمانيّة آنذاك)، هل تنتفُ لنا هذه العصافير وتأخذ غداءك منها؟ وهذا ما حصل!..
أكملَ الشيخ أبو كمال قائلاً :”لقد نتفتُ تسعين عُصفوراً لآخذ ستّة عصافيرَ تناولتها كغداء” وكان يضيف قائلاً: إنّ الحرمان والتشرّد والبُعد عن الأهل يزيد من عزيمة الإنسان على العمل والكفاح، ربّما بسبب حنينه إلى الوطن ورغبته في أن يعود إليه عزيزاً ومُعتبراً. لذلك فإنّه أخذ يسابق طلوع الصّباح للذّهاب إلى عمله وبقي على هذا المنوال ستّة عشْرة سنةً في تلك الدّيار. وحيث أنّ المكسيك في ذلك الزّمان كانت بلداً عديم الاستقرار حكومةً ونقداً، لهذا قرّر تركَها والعودة، فباع جميع ما يملك بقيمة زهيدة لا تتجاوز العشرين ليرةً ذهبيةً، دفع القسم الأكبرَ منها ثمناً لتذكرة السّفر، ليستقلّ الباخرة عائداً إلى بلاده.
لكنّ الباخرة المذكورة أصابها عطل أساسي اضطرها للتوقف في مرفأ مرسيليا جنوب فرنسا وكان إصلاح العطل سيأخذ وقتاً. نزل المهاجر محمد الخليل إلى البرّ وجال في المدينة فإذا به يلتقي أحد المهاجرين اللّبنانيين المسَافرين إلى إفريقيا الغربيّة فعرَض عليه الأخير فكرة مرافقته بدل الانتظار هناك، وهكذا عَدَلَ عن العودة إلى بيروت وانتقل إلى نيجيريا وكان ذلك في العام 1926 ليبدأ عمله في الأرض الواعدة.

محمد الخليل وعائلته 1960
محمد الخليل وعائلته 1960

 «على المهاجر أنْ يسعى إلى لُقمة عيشه ولو في لُبْدَة الأسد والكسل والخمول وقلّة التّدبير من أكبر الآفـات»

لفرصة الأولى
مَثَلُه في الحياة، وكما كان يردّد أمام زوّاره، أنّه ما من أمرٍ صعبٍ أمام إرادة الإنسان، وعلى المهاجر أنْ يسعى خلف لُقمته ولو كانت في لُبدة الأسد أو في أقصى أصقاع الأرض، لأنّ الحياة للأقوياء وليست للضّعفاء، وما الكسل والخمول وقلّة التّدبير إلاّ من أكبر الآفات.
ما إن وطأت قدماه أرض الاغتراب الجديد، نيجيريا، حتى أيقن بِحسّه التّجاري الفذّ أنّ مجالات العمل واسعة ووفيرة هناك، وهذا على الرّغم من صعوبة الحياة وقسوتها في تلك البلاد من حيث اختلاف الثّقافة وتخلّف المجتمع وشدّة الحرّ والحشرات المؤذية والمسبّبة للمرض أو الأوبئة. لكن خفف كثيرا من وطأة هذه الصّعوبات تعرّفه على عدد من المغامرين اللّبنانيين الذين كانوا قد سبقوه إلى ذلك البلد، وباتت لهم بالتّالي خبرة في كيفيّة التّعامل معه ومع ظروفه، وقد هوّن ذلك الكثير على المغترب الشاب فضلاً عن أنّه وبشخصيته الذّكية والمحبّبة تمكّن في وقت قصير من أن يقيم علاقات الصّداقة مع العديد منهم.
خاض الشّاب المهاجر محمد الخليل أولاً غِمـــار التّجارة فأقدم على العمل في مدينة لاغوس بما تبقّى لَديه من اللّيرات الذّهبية العشرين التي كانت في حَوْزته، وفي المهنة ذاتها التي ألِفها في هجرته الأولى أيْ تجارة الأقمشة الإنكليزية المُستوردة من مدينة مانشستر. لكنّه بعد سنة على تلك التّجارة تركها واتّجه نحو قطاع جديد هو قطاع النّقل لاستشعاره بأنّ السّوق النّيجيرية التي كانت في صعود ونموّ ستكون في أمَسّ الحاجة إلى خدمات النقل في وقت كان السّوق يعاني من نقص كبير في ذلك القطاع، خاصة في وسائل النّقل المتوافرة لشحن البضائع من المرفأ إلى العاصمة. وبدأ محمّد الخليل مؤسسة النّقل التي أنشأها بشاحنة واحدة لتكبر هذه المؤسّسة خلال خمس سنوات وتصبح من أكبر شركات نقل البضائع في نيجيريا. وحصل الخليل بعد ذلك على عقد من الدّولة لنقل جميع ما يلزمها من بضائع ومعدّات ومفروشات وسوى ذلك. وساهم العقد مع الحكومة في تنمية أعمال المؤسّسة التي ارتفع عدد شاحناتها فيما بعد إلى أكثرَ من ثلاثمائة شاحنة وباتت مؤسّسة الخليل تُعرف بعلامة تجارية ممّيزة في نيجيريا هي:
M-E-L- Kahalil- transport- Ltd..

” حول جزيرة مهملة في البحر إلى أكبر مشروع عقاري وبنى أكبر شركة للنقــــل ضمت أكثر من 300 شاحــــنة  “

دار البلدة في حاصبيا التي تبرع ببنائها أبناء الشيخ محمد الخليل
دار البلدة في حاصبيا التي تبرع ببنائها أبناء الشيخ محمد الخليل

زواجُه وعائلتُه
بعد أن ضَحكت الأيّام للمُغترب محمد الخليل عاد إلى وطنه عام 1932، ليقترن من الفاضلة بتلا الأطرش كريمة فضل الله بيك الأطرش من بلدة مَلَح لتكونَ إلى جانبه في معركة الحياة ولْتلعب دور الزّوجة والمُدبّرة والمرشدة والوالدة لأسرة كبيرة كريمة. وبعد ستّة أشهر من زواجه عاد إلى عمله في نيجيريا لينصرفَ بكلّ جدّ إلى إدارة تلك الشّركة والعمل على رفع شأنها وازدهارها ممّا جعلها إحدى أكبر شركتين تجاريتين للنقل في تلك الديار حيث انتشرت شهرتها ومصداقيتّها في التّعامل من حيث نقل البضائع سواء أكانت للدّولة أو للتّجار أو للمزارعين الرّاغبين بنقل محاصيلهم الزراعية للتصدير أو للاستهلاك المحلّي.
بعدها في عام 1938 أسّس محمد الخليل شركة عقاريّة تُعنى بتشييد المباني وتأجيرها، ثم أقدم على استصلاح جزيرة “أبابا” في مشروع احتوى على الكثير من عناصر الإبداع والمخاطرة في آن، وقد استخفّ البعض بمشروع تطوير الجزيرة واعتبروه مثل من “يرمي ماله في البحر”. والحقيقة هي أنّ الجزيرة لم تكن توحي بأيّ قيمة عقاريّة وكانت مُهْمَلة لسنين لا يهتم بها أحد لأنّها كانت شبه مغمورة بمياه البحر، لكنّ محمد الخليل لجأ إلى أحدث معدات الطّمر واستخراج الرّمول البحريّة لكي يقوم بردم الجزيرة ورفع مستواها عن سطح البحر وحمايتها من الأمواج، ممّا حوّلها فجأة إلى أحد أهم الثّروات العقاريّة السياحيّة. وقام الخليل بعد ذلك بتطوير الجزيرة وأقام الأبنية عليها وذلك كلّه أمام دهشة واستغراب المجتمع النّيجيري الذي لم يكن يتوقّع تلك النّتيجة الباهرة.
ومن نجاح إلى نجاح كانت أعمال العائلة تكبر وتكبر وقد أكرمه المولى بأن رزقه أولاً بنجله كمال ثم شقيقه أنور وكرّت السُّبحة: حسام، هدى، فريد، فيصل، فاروق، وفريال. وهذه الأسرة الكريمة لمعَ جميع أفرادها في حياتهم العمليّة والاجتماعيّة وكان كلّ منهم نواة لعائلة صالحة مصونة من والدين صالحين مع تعليمهم في أرقى الجامعات والتّركيز في الوقت نفسه على ترسيخ ارتباطهم ببيئتهم وثقافتهم المعروفيّة.

حفل افتتاح معمل سفن أب في نيجيريا - 1960
حفل افتتاح معمل سفن أب في نيجيريا – 1960

“مَدَحَه أحد الشّعراء منادياً إياه بـ محمد بيك الخليل فقاطعه بالقول: «يا بُنَـــــيّ والدي كان فلاّحـــاً وليس بَيـْــــكاً”

امتياز الببسي كولا
إضافة إلى توسّعه في مختلف مجالات النّقل والعقار أتيحت لمحمد الخليل وأسرته في ما بعد فرصة ذهبيّة هي فرصة الحصول على امتياز تصنيع وتوزيع منتجات شركة سفن أب في كامل الأراضي النّيجيرية وكان أحد أنجال محمد الخليل وهو الشاب أنور قد تخرّج حديثاً من جامعة لندن بشهادة الحقوق الدّولية فاستدعاه لمساعدته في إدارة أعمال العائلة في نيجيريا وتعاون الوالد مع الشاب الذي شغل لاحقاً منصب وزير في الحكومة اللّبنانية على تأسيس شركة “سفن أب – نيجيريا” في العام 1960، ثم أضيف إليها لاحقاً شركة “ببسي كولا” لتصبح الشّركة المذكورة أكبر شركة لتصنيع وتوزيع المشروبات الغازيّة في نيجيريا وربّما في كامل القارّة الإفريقية. وعلى سبيل المثال فإنّ الشّركة تقوم بتوزيع منتجاتها في سوق يضمّ حاليّا نحو مائة وثمانين مليون نسمة، وهي تدير ثمانية مصانع ضخمة يعمل فيها نحو مائة وأربعين ألف موظفٍ وموزّعٍ في جميع أنحاء نيجيريا. وهذه الامبراطوريّة الاقتصادية المترامية الأطراف بين المَهاجر والوطن باتت قيمة أصولها تقدّر بمليارات الدّولارات وفوق ذلك فقد غدا منزل محمد الخليل وأنجاله في لاغوس مرجعاً لأبناء جلدته من اللّبنانيين وسواهم، وقد كان يحثّهم ويرشدهم ويقدّم يد لهم العون لتركيز أعمالهم، وأحد أهمّ إنجازاته التي تذكر أنّه وبسبب دعمه وتشجيعه فقد أصبح 85% من شركات النقل في نيجيريا ملكاً للّبنانييّن.

الاستثمارات في الوطن
بعد توطيد دعائم الامبراطورية الاقتصادية عاد محمد الخليل إلى عرينه حاصبيّا واشترى من أمراء آل شهاب تلّة جميلة كانت مصيفاً لهم في الماضي وهي تقع قبالة البلدة من الجهة الشّمالية وتُعرف بتلّة “زغله”. وهناك بنى محمد الخليل قصراً منيفاً إلى جانب بناء قديم أصبح مَعْلَما معمارياً في المنطقة. وهذا المَعْلَم قصفه العدوّ الإسرائيلي ودمّره كيْداً وحقداً في العام 1982 لكنّ إرادة الأبناء الشّباب أعادت إعمار القصر من جديد ليعود مَعلّمــاً لافتا. ومما يزيد من جماله شجرة سنديان أثريّة يفوق عمرها مئات السنين،
هذا في بلدته. أمّا في العاصمة بيروت فكان الخليل بِبُعد نظره من أوائل الذين استثمروا في شراء الأراضي في منطقة الحمراء يوم كانت لا تزال بساتين للصّبار وأشجار العنب والتّين واستمرّ الخليل في بناء العمائر والأبنية الحديثة وهذه لم يزل قسمٌ منها قائماً إلى اليوم.
أنشأ محمد الخليل أيضا برّاداً ضخماً في شارع الأرز قرب المرفأ لتبريد الفاكهة اللّبنانية وسواها من المنتجات الزّراعيّة المُعَدّة للتّصدير أو المستوردة للاستهلاك المحلي. أمّا إنجازه الأكبر في الوطن فكان تأسيسه مصرفاً تجارياً عُرف يومها باسم بنك بيروت والرّياض مع الاقتصادي الكبير حسين منصور.

مدينة لاغوس في نيجيريا تظهر مدى التطور في البلاد
مدينة لاغوس في نيجيريا تظهر مدى التطور في البلاد

العَوْدَة إلى الجذور
أواسط السّبعينيّات عاد المغترب الكبير محمّد الخليل إلى وطنه ليتقاعد من عمله، بعد أنْ استراح بالُه بتسليم الأمانة إلى الجيل التالي من الأنجال الذين تابعوا رسالته في إدارة تلك الامبراطوريّة التجاريّة في الوطن والمهجر وليتفرّغ إلى واجباته الاجتماعية مؤازراً ومواسياً ومشاركاً في شتّى المناسبات سواء أكانت في بلدته حاصبيا أمْ في قضائها أو عند أقاربه وأقارب قرينته في جبل العرب. وذلك بكلّ محبّة وتواضع وتفانٍ دون أيّ أبّهة أو اعتزاز بالنّفس أو بالمال.
ذات يومٍ أقرضه أحد الشّعراء في إحدى المناسبات شعراً بمناداته ـ محمد بيك الخليل، فما كان منه إلا أنْ اعترضه وأجابَه مُصَحّحاً :” يا إبني والدي كان فلاحاً وليس بيكاً”.
في أواخر أيامه أتمّ واجباتِه الدّينية ولبس زِيّ الأجاويد وانصرف بأكثرَ وقته إلى زيارة المشايخ الأفاضل وأعضاء الهيئة الرّوحية والانتفاع من علمهم وبرَكتهم وكان يزور المشايخ في خلواتهم أو في مجالس العبادة، متّعظاً وصاغياً وخاشعاً لإرشاداتهم ومواعظهم، وطالباً شفاعاتهم وتبريكاتهم، وفي النّهاية كانت الشّهادة يوم وافته المنيّة يوم 11 نيسان 1992 وقد واكبه حشْدٌ من المشيعين والسّادة المشايخ والهيئات الرّوحية مُشيدين بأعماله الخيريّة وحسناته الاجتماعيّة الكثيرة، ثمّ ليُدفن قرب منزله في عاليه أولاً بسبب الأوضاع الأمنية السّائدة آنذاك، وبعدها لينقلَ جثمانه، وحسب وصيته، إلى أغلى الأماكن على قلبه، بلدته حاصبيا، وإلى تلّة زغلة بالذّات والمقابلة لأشرف وأجلّ التّلال، البيّاضة الزّاهرة، ليستريح هناك.
بعد وفاته بقليل عمد أنجاله معالي الوزير الأستاذ أنور وأشقاؤه السيّدان فريد وفيصل والعائلة إلى إنشاء “مؤسّسة الخليل الاجتماعية” تخليداً لذكراه وكان من عطاءاتها إقامة صرحٍ كبير عند مدخل حاصبيا عُرف باسم “دار حاصبيّا” والذي صمِّم ليتّسع لأكثر من ألفي شخص وقد بات هذا المقرّ العامر الإطار المفضّل لإقامة المناسبات الاجتماعية والحفلات سواء لأهل حاصبيا أو لسائر أبناء المنطقة.

يوسف بك حسن في يوميات يمنية

حبُّه للطبيعة
والعمل في الحديقة

تُظهر يوميّات يوسف بك حسن في اليمن حبّه الشديد للطبيعة وهو يصف بتفصيل شاعري أحيانا أسفاره الطويلة، والمضنية على ظهر حصان أو بغلة في شعابها الوعرة، ووهادها ووديانها، ويتوقف أمام جداول المياه التي كان يصادفها، وإن كان يشدّد على طبيعتّها الجافة وعلى فّقرها، وقد أورد في إحدى يومياته أنّ 80% من اليمنيين يقتاتون بأوراق الأشجار، وبعض ما تجود به الطبيعة، لكنّ الموضوع الذي يحتلّ اهتمامّه الأول كان الحديقة التي كان يُنشِئُها في أي مكان يحلّ فيه ويتخذه مقراً إدارياً، وكان يأتي بالتربة الصالحة من مسافات أحياناَ لإثراء البستان، ويعتني بالزرع والأشجار معتبرا ذلك النشاط “سلواه الوحيدة” في تلك البلاد الموحشة والصعبة. في ما يلي على لسانه ما أورده في يومياته عن ذلك الجانب:
يقول في إحداها: “ولكثرة شَغَفي بالطبيعة، ومحبتي للخُضْرة والزهور، أصبحت كثير الاهتمام ببستاني الكائن في باحة الدار، ولذا ازداد نموا وقد ابتدأت بجني ثماره”.
وفي ما سجّله أيضا قوله: “بالرّغم من ضغط العمل الرّسمي فإنّني كثير الاشتغال في الجنينة التي في دار الحكومة، وقد أتقنتها، ووزّعت بها زراعات وأشياء كثيرة من زهور وخضار. وضعت سُرادِقاً للعريشة التي بها، وقد كانت مُهْملة، ففي كلّ صباح أنزل إليها، أريِّض النفس بها قليلا قبل افتتاح العمل. وهذه سلواي الوحيدة في هذه الأيام.

” عن قبائل اليمن
إذا رأوْا ميلا نحوهم ازداد غُنْجُهم،وإن رأوا خِرقة تهرب قلوبهم
وعقول القبائل في أعينهم، ما رأوه فقنعوا به  “

” قضيت هزيعــــاً من اللّيل وأنا مُمَدّدٌ على كرسي متفكـــــراً الأهل، وقلبي يُخْرِج زفرات بلغت القمر وأحاطت به كهالة  “

“عن هزيمة الدولة العثمانيّة في الحرب
صِرنا كالأغنام التي في المجازر دون أن ندري إلى أيّ جزار نُساق، وهذه عاقبة من لم يعرف سياسة المُلك والرُّبّان الذي لا يُحسن صنعته يغرق مع الفُلك.”

يوسف بك حسن في يومياته اليمنية

رجل إقدام ونزاهة ورحمـة
في غابة من الفَقر والجهل والفساد

لــولا ضـــرورة استــدراك إعاشــة العسكـــــر
لوجدت تحصيل المال من النـــاس حرامـــاً..

الشِّدّة هي الدواء لمن عقله في عينه!

القراءة في يوميّات يوسف بك حسن في اليمن عمل يجلب ولاشكّ المتعة للنّفس، لكنّها قد تكون أحد أفضل السّبل لفهم يَمن بدايات القرن العشرين من الداخل، والذين يتابعون بذهول الحروب العبثيّة والمدمّرة التي يغرق فيها اليمن منذ سنوات ربما يجدون في يوميات هذا الرجل الفذّ ما يعينهم على فهم جذور المعضلة اليمنية السياسية والاجتماعية، وهذه المختارات من مدوّنته الطويلة التي استغرقت نحو 12 عاماً تسلّط الضوء أيضاً على شخصيّة الكاتب، ورؤيته الأخلاقية وشجاعته وإيمانه العميق، وتظهر اليوميات أيضاً رجل دولة مُحنّك، وعلى قدر من الدهاء السياسي (وهو ما سمح له بترويض الطبيعة المتخلّفة الصّعبة المراس لليمنيين) ويظهر صاحب اليوميّات لنا من خلال ما سجّله رجلاً ذا فطرة إنسانية عميقة، وعنفوان وشاعرية مرهفة، وحدب كبير على الفقراء والمظلومين. لكنّ يومياته تُظهر أيضاً عدم تردّده في البطش والمواجهة الشّجاعة؛ سواء في الحرب أم في حملات تأديب وإخضاع المتمرّدين والعُصاة.
وقد اخترنا من حديقة يومياته الوفيرة بعض اللّمعات المُلفته في تصويرها لشخصيته الغنية، أو في تسجيلها لمشاعره تجاه بعض أهم الأحداث التي مرّ بها في تلك الفترة الانتقالية الخطيرة، فترة انهيار الدولة العَلِيّة (والخلافة الإسلاميّة ) تحت ضربات الغرب والمتآمرين من كل نوع. ونحن ننصح كلّ قارئ مهتمّ باقتناء هذا الكتاب النفيس الذي لا نشهد في هذه الأيام صدور ما يوازيه أهمية وجِدَّة وإمتاعا إلاّ لماما.
رئيس التحرير

باللباس-اليمني
باللباس-اليمني

مختارات من اليوميات

منشور ألقته الطائرات البريطانية لإقناع الحامية العثمانية في اليمن بتسليم أسلحتها وقد رفض يوسف بك حسن العمل به
منشور ألقته الطائرات البريطانية لإقناع الحامية العثمانية في اليمن بتسليم أسلحتها وقد رفض يوسف بك حسن العمل به

الخميس 24 أيلول 1914:
بدأ الناس يقطفون السنابل الحاصلة لأجل سد الرّمق حيث لم يعد في يمكنهم الانتظار إلى وقت الحصاد، فالله يبعد عن خلقه الجوع والبلاء.

4 تشرين الأول 1914:
ازداد قلقنا من الإشاعات بأن الدولة العليّة (يقصد العثمانية)دخلت في مواقع القتال السائدة الآن، وإنها في حالة حرب مع الإنكليز، وهي تجهّز الجنود في جهة “المُخا” و”المندب” على حدود الإنكليز. فأشعرت بعض الأصدقاء طالبا تحويلي إلى “المُخا” ،أو تلك الجهات لأجل الاشتراك في الحروب المحتمل حصولها؛ لأنني أوَدّ أن يكون لي نصيب في الجهاد ضدّ الإنكليز كما جاهدت ضدّ إيطاليا.

الأربعاء 14 تشرين الأول 2014:
خرجنا هذا اليوم إلى أطراف القرية، وأجرينا تمرين الرماية بإلصاق ورقة بيضاء صغيرة على حجر، وقد توفقت لرميها برمية واحدة، وقد أُعجِبَت بذلك القبائل ولاسيّما الشيخ “حسين هوّاش”، ولسان حالي يقول “رِمَية من غير رامٍ”.

الجمعة 16 تشرين الأول 2014:
محلّ إقامتي في حيّ اليهود الذين يربو عددهم عن السّتين، والكنيس قريب منهم، فلا نسمع ليلا ونهارا إلاّ أصوات عبادتهم سيّما يوم السبت. وفي الحقيقة ترى اليهود في بيوتهم ولباسهم أكثر نظاما ولطافة؛ مع أنهم أفقر من المسلمين، وهذا من شدّة تعلّقهم ومواظبتهم على العبادة، ومع كثرة التحقير الذي ينالهم من الأهالي، والتّنظير عليهم في أمر اللّبس، وعدم اقتدارهم على ركوب الخيل في القرى، والتزيّي بزي المسلمين. تراهم صابرين مُتوكّلين. ونسبة لسواهم تراهم مُرفّهين، وكافة الصنائع في أيديهم.

السبت 5 كانون الأول 2014:
اجتمعنا عند العصر بمدير المال مع البينباشي والطبيب وكثير من المأمورين، وعملنا مجلساً للقات الذي أنا منه بَراء، براءة الذئب من دم يوسف الصّدّيق.

الثلاثاء 8 كانون الأول:
الأمور بغاية الرَّداءة والتحصيلات خاربة (أي معطّلة)بسبب مَلْعَنَة الحاكم، وقلّة ناموس مدير المال، فكم أتوسّل الله تعالى أن ينقذني من هذه الحالة.
الجمعة 11 كانون الأول 1914:
لقد وفيت كثيرا من الديون التي عليّ بسبب تراكم معاشاتي، إذ مضى خمسة أشهر لم تُدفع لي، وقد أصبحت في ضيق شديد بسبب عدم وجود نقود لاستبقاء معاشي.

الجمعة 18 كانون الأول 1914:
صمّمت النيّة على العزم إلى “نجرة” لأجل التّحصيلات، وتدارك شيء من المعاش للتّمكن من العزم، وقد خاطرت بنفسي بسبب كثرة حماس القبائل المشارقة ضد الحكومة من تأخير معاشاتهم، وقد بلغنا أنهم يريدون شرّاً. وقد حصلت مناوشة شديدة بين رؤسائهم وبين “الإمام” والوالي، قاتل الله الجهل لأنه لا يُقدِّر هؤلاء ما هي الدولة وما تعانيه من الأهوال.

الثلاثاء 7 نيسان 1915:
تناقشت كثيرا مع بعض المشايخ بشأن مباحث دينية، وقد تمكّنت من إقناعهم، وإزالة ما رسخ بأذهانهم من الخرافات. وإني لا أفَوِّت فرصة بهذا الشأن، لأنّ أعظم شيء يهمّني هو الخدمة لأبناء جنسي وتنويرهم.
الاثنين 13 نيسان 1915:
أصدرت إعلانات للأهالي بكفّ يد المشايخ المذكورين عنهم، ورفع كلّ تعدٍّ وكسر الحجاب الذي يمنع ضعفاء الخَلق عن أبواب الحكومة.

مطلع رسالة من الأمير شكيب أرسلان
مطلع رسالة من الأمير شكيب أرسلان

الجمعة 17 نيسان 1915:
تهافت عليّ الأهالي يطلبون النِّصفة (العدل) من ظلم “محمد بن علي باشا”، فأعطيتهم آيات النجاة.
وكان اجتماعي مع خَلق كثير تحت أشجار التّمر الهندي، وأحضِر لي كرسي طويلة، وهي تخت من حبال ورق النخيل، يُنام عليه في تهامة وجوارها، فأشبهت في تلك الوضعية كأنني مَلِك الجِنّ.

الجمعة 24 نيسان 1915:
الأمور تُساق بأسلوب حَسَن، فقد رفعت يد كلّ متجبِّر. إنّما شاهدت في الأهالي جوعاً عظيماً. ولولا ضرورة الحال الحاضرة، وضرورة تدارك إعاشة العسكر العثمانية المنقطعة عن سائر الجهات؛ لكنتُ أرى تحصيل أموال من الأهالي حراماً بسبب عدم استحقاق هذا.

الجمعة 29 أيار 1915:
قرأت خطبة الجمعة في جماعة عظيمة، خطبة تليق بالزمن الحاضر، حثثت بها القوم على الاتفاق والبدار إلى الجهاد، وأوضحت لهم الحال التي هي عليها الأمّة الإسلامية، فكان تأثيرها شديدا، حتى أنني رأيت القوم في شهيق ونحيب، وقد صمّموا العزم إلى الجهاد والتفاني في حفظ الدين والبلاد.

الاثنين 7 تموز 1915:
وردتني برقيّة من الوالي يظهر تشكُّرَه وتقديره من الخدمات والشجاعة التي أظهرتها في الزّحف على “لحج”. ومع هذا لا أنتظر مثل هذا التقدير، بل خدمتي لِلّه ولوطني ولشرفي، وكلٌّ يعمل على شاكلته.
السبت 15 آب 1915:
ولم نَكَدْ نصل مع القوّة (الجيش)ونحن نجول مع القومندان والقائمقام قدري بك، إلاّ والعدوّ الإنكليزي قد أقبل بقوّة عظيمة وثمانية مدافع، فاستَعَرَتْ نيران الحرب أطراف “الوهط” وقد ثبت الإنكليز ثباتا حسَناً، ولكن استحضارنا للموت، وشدّة هجومنا هدّ عزمهم ففرّوا منهزمين. أمّا أنا “العاجز”، فاستصبحت قليلاً من المجاهدين وتوغّلت بهم بين العدوّ، فاستوليت على مدفع ومربط لهم يبعد ساعة من “الوهط”، فأشغلت العدوّ الذي هُزِم شرّ هزيمة.

الأحد 16 آب 1915:
حين وصولنا “الدّرب” تحقق أنّ العدو كانت قوّته من المشاة أربعة آلاف، وثمانية مدافع وأربعمائة فارس . وفي الحقيقة كانت هذه الحرب (حرب لحج) من الخوارق؛ لأنّ العدد المقاتل منّا لا يبلغ الخمسمائة. والمجاهدين أكثرهم أبْلَوْا بلاءً حسناً.

الاثنين 23 تشرين الثاني 1915:
مدير “حبيش” هو ضيفي، والبيت مملوء من الخدامين، لذلك فالمصروف زائد لكن الله الستّار، وأنا لا أخشى من فَقْد المال أو الرّزق مادام البيت مفتوحاً، والبَرَكة تقع في المال الذي يأكل منه الضيف، والقناعة بالمال الحلال هي السعادة بعينها.

خلاصة سنة 1915:
كنت في هذا السنة كثير الأسفار والأتعاب، وحائزا على شُهرة لم تتيسّر إلاّ للقليل، حيث من أوّلها إلى آخرها ونحن نخوض في غَمَرات الوقائع الشهيرة من حرب الجبلين، إلى تأديب كافة أنحاء القضاء، والانتقال من ذلك إلى ساحة الجهاد والحَوْزَة (أي السيطرة) على “لحج”.
والحمد لله الذي عصمني من التنزُّل إلى أخذ شيء من الغنائم، كما فعل سواي من الرؤساء، إلاّ بعض كتب نفيسة وآلة غناء، وبعض عاديّات لا يعرف قدرها إلاّ ذووها. وإنني أشكر الله الذي طوى عاما من عمري بمثل هذه الغوائل، ونزّهني عن الوقوع في شُبُهات الحرام، ومع ما حصل بيدي من أموال، وخصوصاً حاصلات الأراضي في “لَحْج”.

الثلاثاء 11 كانون الثاني 1916:
الحمد لله على التوفيق لإلقاء الرّهبة في القلوب، وهذا لِشدّة اهتمامي بالضّعفاء من الأهلين.

السبت 19 شباط 1916:
خرجنا من “الرميد” الساعة الثالثة مع السيد “أحمد باشا” ومعه سائر المرافقين، قاصدين عزلة “السارة”، أرادوا منعنا من المرور فلم نحفل لهم، كانوا هم على مرتفع حيث أطلقوا عليّ رصاصتين أصابت إحداهما فخذ البغلة التي أمتطيها، والثانية خرقت طرف الصمّاتة وأصابت حجرا طارت شظاياه عَليّ. فحمدت الله على النجاة من هذا القضاء، فوالله ما عدت أخشى الموت ما دام في الأجل مهلة.
جاء بعض المشايخ يعتذرون عن جهالة الفاعلين.

الاثنين 13 آذار 1916:
كانت ليلة أمس ليلة طَرَب لا تُحدّ ولا توصف، وكان الجميع سُكارى ما عداي، فلم أمسَّ شيئا رغماَ عن إصرار الجمهور.

الجمعة 31 آذار 1916:
خُلاصة آذار أسفار وأخطار وزيارات كبار وصغار، وطيُّ البراري والقفار والمُنجّي العليّ الجبّار.

السبت 8 نيسان 1916:
أطالع كتاب “ثمرة الحقيقة في التصوّف” للشيخ أحمد الزّيلعي المدفون في “اللُّحَيّة” (مدينة على البحر الأحمر شمال ميناء الحُدَيدة) والمعروف وهو كتاب عميم النّفع.

الجمعة 5 أيار 1916
في “اللُّحَيّة”، تاجر مُهمّ اسمه “يوركي” يوناني الأصل وهو هنا منذ اثنتي عشرة سنة، كان فارّاً من الحُدَيدة، فلما سمع عن حُسن معاملتنا ومحافظتنا على التجّار رجع وحانوته تحت بيتنا، وهو مملوء بالبضائع.

الجمعة 19 أيار 1916:
تفكّرت في أحوالي وأنا في القطر اليماني، ونصيبي كان في خِضَمّ الكوارث والحروب، فمنذ مجيئي إليها وأنا أقارع الأهوال، ولقد حضرت لغاية هذا التاريخ ثماني عشرة معركةً استعملت بها المدافع، أربعاً منها في “المُخا” مع السفن الإيطالية سنة 1327،وأربعاً في “بيت الفقيه”، ( مدينة على الساحل الغربي لليمن على البحر البحر الأحمر) مع “ قبيلة الزَّرانيق” المشهورين بالتمرّد، وثلاثة منها مع القبائل، وأربعاً منها في سفر “لحج” مع الإنكليز وسلاطين لحج، وثلاثاً مع سفن الإنكليز في “اللّحَيّة”، أما الوقائع التي لم تستعمل فيها المدافع فهي كثيرة والمسلِّم الله.

الثلاثاء 23 أيار 2016:
عندما كنت مُخْتَلياً في مقصورتي العليا، تأمّلت الكوارث التي تحيط بي وما استولاني من الحنين إلى الوطن. عزمت فجأة على تبديل مسلك الإناءة بالانتباه الشديد، والتصلّب في تلقّي الحوادث والحروب ليلاَ نهاراً إلى مراقي العلا. إنّ الإنسان رهين الأعمال لا الآمال، وقد عَوّلت على طرد كلّ حادثة من شأنها الهزيمة، وأبدَلْتُها بعزيمة توجِب الكفاح، وعلى الله الاتّكال، وأحمده على هذا الإلهام.

” قضيت هزيعــــاً من اللّيل وأنا مُمَدّدٌ على كرسي متفكـــــراً الأهل، وقلبي يُخْرِج زفرات بلغت القمر وأحاطت به كهالة.  “

السلطان عبد الكريم بن فضل العبدلي سلطان سلطنة لحج عام 1922
السلطان عبد الكريم بن فضل العبدلي سلطان سلطنة لحج عام 1922

الجمعة 26 أيار 1916:
أشعر بصلابة في نفسي على كبح جِماحِها، لذلك أرى نفسي بغاية الانشراح، لا همّ إلاّ الوظيفة، ولا مسرح لأفكاري إلا فضاء التعالي، واكتساب المَحمَدة التي هي من فطرة كل إنسان.

الاثنين 5 حزيران 2016
أصبح كثير من النساء والأطفال يتضوّرون جوعاً وفي حالة مُريعة من الجوع والحرارة والغلاء. فرأيت من الديانة الإنسانية النّظر لحالهم. فدعوت كبار البلد والمأمورين واقترحت مأوى للفقراء لجمعهم في مكان خاص يُنفق عليهم من مال الجمعية الذي يُحصَّل من بعض رسوم على الواردات من أموال التجّار ومن التبرعات التي تجود بها أيدي أهل الإحسان ودَعَوْنا الجمعية “جمعية إعانة الفقراء”.
فتشكلت الجمعية برئاستي وقد هيّأت برنامجا لأعمالها وابتدأنا بجمع التبرعات وعلى أن يسلِّم كلٌّ مِنّا قدرا معيّناً كلّ أسبوع… وتداركنا بناءً للإيواء.

الجمعة 9 حزيران 2018
افتتحنا اليوم ملجأ الفقراء وبلغ عددهم ستين شخصا، وحضر الاجتماع المأمورون والأعيان. تَلَوْت الدّعوات وألقيت خطابا مُذَكِّرا بالواجب تجاه المعوزين والفقراء وإيثار الصّدَقات، مُسْتنداً على أوامر الشريعة الغرّاء، فكان لذلك تأثير كبير. وهنالك تناولنا الإعانات وتناثرت الصدقات وقد شعرت بالارتياح.
أخذت كتاباً مسهباً من سعادة الأمير شكيب أرسلان، ويعرب عن امتنانه مع أحمد جمال باشا من خدماتي.

الاثنين 19 حزيران 1916:
ومن هذه التجربة وغيرها؛ علمت أنّ الكثير من أعيان اليمن لا يهمّهم إلا مصالحهم الخاصة، وذلك للجهل المتفشّي بينهم.

الاثنين 31 تموز 1916: (عيد الفطر)

خلاصة شهر تموز:
1. عَزَمْت أن أعمل كلّ ما يؤول إلى تمجيد ربّي؛ ليعود عليّ بالفائدة والنفع طول إقامتي في هذا الوجود، دون إعارة والتفات إلى تقوّل الناس وعرقلتهم
2. عَزمت أنْ أقوم بكلّ ما أراه واجباً، عليَّ إتمام خدمة الوطن ونفع أبنائه.
3. عَزمت أنْ لا أعمل شيئا كنت أَمنع عنه، ولو كنت في آخر لحظة من العمر

الاثنين 14 آب 1916:
عند كل فرصة أتمتّع بقراءة كتاب “الجامع الصغير للأسيوطي المتضمّن أحَدَ عشرَ ألف حديث عن النبي العربي، وإني لأُدهَش كما لا شكّ يُدهش كل مُفكِّر من ما حواه النبي من بعد النظر، والقدرة السياسية والعمرانية، فإنّه بمثابة قانون مشروح ومُفسَّر، لأنَّه لم يترك أمراً من أمور الدين ومسائل الدنيا إلا طرق بابه، فأوصى به، فلو عمل أبناء مِلَّته الكسالى بموجبه؛ لأصبحوا نبراس المدنيّة الحاضرة كما كان أسلافهم في الغابر.

صفحة من يومياته اليمنية بخط يده
صفحة من يومياته اليمنية بخط يده

السبت 7 تشرين الأول 1916
الأربعاء 8 تشرين الثاني 1916:
أكرّر درس العَروض والقَريض في وقت الفراغ، فأرى نفسي وقد سَهُلَ عليّ النظم وسَبْك المعاني التي أتصوّرها في قالب الوزن، ومهما تعسَّر المعنى وكان دقيقاً لا يُعجزني. أتابع المطالعة حتى يكون الشِّعر لي سليقة، والنثر بيدي مملوك والله على كلّ شيء قدير.

الخميس 8 كانون الأول 1916:
اجتهدت في إنجاز ما بقي من ضروب بالشِّدّة حتى نحصل على القسم الوافر من التحصيلات ثم حبست المشايخ وهكذا يُرى أن الشدة هي الدواء لمن عقله في عينه1

الأحد 21 كانون الثاني 1917:
حالة القبائل أشبه بحالة الأطفال الّذين لا يعرفون الغثّ من السّمين، فإذا رَأَوْا مَيْلاً نحوهم من زعمائهم ازداد غُنْجُهُم،وإن رَأوْا خِرْقَة فلا بد أن تهرب قلوبهم وعقول القبائل في أعينهم، ما رَأوْه فقنعوا به، فمن الأمور مشكلة إدارة هؤلاء في هذا الوقت، الحكومة مشغولة والعدوّ يهددنا برّاً وبحراً وبإفساد القبائل بالرشوة.
وقد جمعت مشايخ وعقال “بني عديّة” وتَلَوتُ عليهم درساً يتعلّق بلزوم الاتحاد مع “بني جامع” قبيلتهم الأصليّة فرأيت منهم آذانا صاغية.

الأربعاء 21 آذار 1917:
في هذا اليوم يتساوى فيه الليل والنهار، وقد تجلّت به الغزالة في برج الحَمَل ولمّا أعدت الفكر للماضي ولمّا كان تجربة الخلفاء العباسيين في هذا اليوم من أسباب التّرَف والزينة ونفيس الهدايا لأرباب دولتها، وهذه عادة أُخِذَت من الأعجام ويُسّمونه “النّيْروز”ولا يخفى أنّ أهمّ رجال العباسيين من الأعجام الذين انتصروا لهم ليس حُبّاً بل انتقاماً من العرب والإسلام إذْ قوّض دينهم القديم وهدم شوامخ عزهم الذي كانوا يظهرون به على العرب.
الجمعة 13 نيسان 1917
أصبحنا كالعائم في اليم على خشبة لا يدري ما هو جارٍ بأحوال العالم لسبب تناقض الأخبار التي تردنا وإننا لا نعوِّل على ما يُحدق بنا من المهالك لأننا قررنا الوصول إلى هذه الدرجة فهي منتظرة لدينا؛ لا تأخذنا الدهشة لأن المأمول من تسامح الحكومة وعدم اعتدادها للطوارئ الوصول إلى مثل هذه الحالة,

الجمعة 27 نيسان 1917:
بعد المعايدات الرّسمية بدار الحكومة توجّهت ومعي الجَمّ الحاضر في المعايدة إلى حيث تُحفر الآبار، وكان منها ثلاث آبار صار قابل استعمالها، فَوَصَلنا إلى إحداها التي تمّ بناؤها، فبعد أن تكلّمت بكلام مناسب استخرجت بيدي أول دلو شرب منه جميع من كان حاضراً، وكان الماء عذباً، فحمدنا الله على إنعامه الذي لم تَنَلْهُ “اللّحَيّة” منذ بنائها. رجعنا وعموم الأوجه تَتهَلّل بشرا والأهلون يضاعفون الدّعاء.

الاثنين 30 نيسان 1917:
انصرفنا أمس ليلاً من “العَطَن” ونحن في انشراح وقد أثبتنا للأهالي وخصوصاً القبائل أَنّنا لسنا كالذين سبقوا. نحن لا نعبأ إلاّ براحة ضمائرنا وأنّ السّعي يوجِدُ في الرمال القاحلة جِناناً خضرة ورياضاً نضرة. وقد وصل رجل حَضرَميّ اسمه “سعيد سالم” وقد ذكر أنّ أهل “لَحْج” عموماً في حنين نَظراً لما رَأوْه أثناء إقامتي هناك من حسن المعاملة ويرون فرقاً بيِّناً عمَّن خلفني، وكذلك عموم أعيان اللواء التَّعِزي، فالحمد لله على حُسْن الذِّكْر وهذا ما ينسيني الامتحان الذي أراه من غير العارفين.

الاثنين 21 أيار 1917:
هنيئاً لِمن اقتفى أَثرَ أبي العلاء الذي أقول بأنه قد أجال طَرْفَ العقل في سوح الكائنات وما ترك من مَهامِهِ الدّنيا مفازة إلاّ سَبَر غَوْرَها، فرجع وهو ظافر بالحقيقة التي تختبئ غالباً في أحْفَر الزوايا، ولذلك أراني مضطرّاً، ولأجل تخفيف جشع النفس، إلى تتبّع آثاره والاستضاءة بمنارِه رحمه الله من عالمٍ بالله.

الجمعة 25 أيار 1917:
اعتدت صباحاً وفي غالب الأحيان أن أمُرّ على دائرة الجُمرك لأجل مشارفة أحوال الإعانة الجهادية فأتذاكر مع “أحمد عاكف أفندي” مدير الجمرك، وهو أضاع سنوات في اليمن استعمل في حياته ضروب الخلاعة، إلا أنه لم يبقِ من جسده إلاّ الحثالة ومن ماء الحياة إلاّ الوَشَل.

ميناء عدن الاستراتيجي في العام 1910 كان محطة لتزويد الأسطور البريطاني بالوقود
ميناء عدن الاستراتيجي في العام 1910 كان محطة لتزويد الأسطور البريطاني بالوقود

الأحد 3 حزيران 1917:
ما زالت أشغالي مُنْحَصِرَة في تَرِكَة “محمّد ياسين” وإظهار لصوصية المحكمة الشرعية وأبت الاستقامة إلاّ القيام بما يوجِبُه الوجدان الحيّ الذي تجرّد منه قاضي “اللّحَيّة” “أبو طالب” الرّشوة لقاء دُرَيْهمات، ولابدّ أن أُرْجِع جميع السرقات إلى حيِّز الإشهار وسيرى (القاضي) ما يجعله يقول:”هذا ما وعد الرّحمن وصدق المرسلون”!

الأحد 10 حزيران 1917:
ولقد حَميَ الوطيس بيني وبين الحكومة لسبب ارتشاء في تركة “محمد ياسين” وقد أكدت إشعار المُتَصَرّفيّة والولاية بشأن ذلك، ولم تزل التحريات جارية لإخراج المكتوم من التركة، وإثبات سوء استعمال القاضي مع الكاتب اللذين ظهرا أنهما لِصَّان كبيران لا يخشيان الله، فسأتغلب عليهما بإذن الله ما دمت على حقّ وأذيقهما صابّ عملهما.

الجمعة 16 تشرين الثاني: 1918
مضى شهر على تاريخ عقد الهدنة بين الدول ولم نقف على شيء جديد وما علمنا على ماذا أسفرت مخابرة الإمام مع الإنكليز في عدم تسليم القوة العسكرية للإنكليز حسب أمر الباب العالي، فصرنا كالأغنام التي في المجازر دون أن ندري إلى أيّ جزار نُساق، وهذه عاقبة من لم يعرف سياسة الملك والرُّبان الذي لا يُحسن صنعته يغرق مع الفُلك.

فاتحة سنة 1919
ربّنا عليك توكّلت وإليك أنبنا؛ ربنا الأعلى أنر أبصارنا للسير على طريقتك المثلى، ربّنا أيِّدنا بالحقيقة، واجعل الشهامة في كل أعمالنا لنا رفيقة. أهدنا إلى الحق، وصبِّرنا على مرارة الصِّدق. ربّنا يسِّر لنا اتصال القول بالفعل ومحبّتنا للفضيلة راسخة. ربّنا أبعد عنا أهل الخَنا، والإفك ومعرّة قول أنا. وإِشر الغنى وأوصلنا لرحمتك بعد الفَنا، على طريق مستقيم دون انحناء ولا عنا، واجعل يمن هذه السنة لنا.

يوسف بك حسن

قائدٌ عثمانيّ في بلد منقسم وعصيّ على الجميع

يوسف بك حسن فرض النظام في اليمـــن وصالـــح القبائـــل وكسـب محبـة اليمنييـــن

أمــرَ العثمانيــون جنودهــم بتسليــم السّــــلاح
لكــن المتصــرّف الأبــيّ رفــض الاستســــلام!!

كان حاكما وقاضيــاً وحَكَمــاً وقائــدا عسكــرياً
خاض غمار المعارك وتعرّض مراراً لخطر الموت

تمكن دون مساعدة من الدولة في اسطنبول من بسط سلطة السلطنة
وإخضاع المتمردين و تجنيد العسكر والمجاهدين، ودفعهم إلى الجبهات

وصل الموظف يوسف حسن إلى قضاء “إب” في اليمن لاستلام وظيفة قائمّقام في 20 كانون الثاني/ يناير عام 1910. وكان شاباً لم يتجاوز الخامسة والعشرين عاماً، لكنّ مواهبه واستعداداته كانت كافية لتسنّمه هذا المنصب في ذلك الموقع البعيد عن اسطنبول عاصمة السلطنة، موقع لم يكن يحظَ بأيّ اهتمام حقيقيّ من جانب الدولة العليّة طيلة فترة الوجود العثماني في اليمن.
كان الشاب” يوسف” قد تخرّج من الكلّية الشاهانية التي تخرّج منها كبار الموظّفين في اسطنبول، وأجرى التدريب اللازم في ولاية بيروت.. كانت عاصمة الخلافة في العقد الأول من القرن العشرين تحبل بمشاريع وحركات وأفكار متنوعة؛ مثل اللامركزية والعروبة والعثمنة والتتريك، وكانت الخلافة ذاتها قد أصابها الوهن وجفاف العروق، فلم تعد فاعليتها لتصل إلى الأطراف.
التقى الموظف الشاب في اسطنبول بعدد من المفكرين الإسلاميين والعروبيين؛ الذين انضمّ بعضهم إلى جمعيات سرّية، فتأثر بأفكارهم، وحاول أن يوثّق علاقاته هو ورفاقه بهم، لكنّ عيون الرقابة والاستخبارات كانت لهم بالمرصاد، سواءً في السكن أو في التنقل.
هكذا قَدِم الموظف العثماني إلى اليمن، تلك الولاية البعيدة المترامية الأطراف؛ مسلّحاً بخمس لغات؛ لم تكن اللغة العربية أجودها، ولكنّه كان قد بدأ ينظم الشعر بها، كما كان ينظمه باللغة التركية أو هو يترجم عن الفارسية.
كان قدومه من متصرّفية جبل لبنان، حيث لمعت فيها أسماء أثّرت في فكره وخياله، وأوقدت جذوة العروبة في نفسه منذ مطلع شبابه، ومن هذه الأسماء الأمير شكيب أرسلان؛ الذي كان آنذاك في عزّ عطائه للسلطنة العثمانية، وفي عز دفاعه عنها لاحقاً.. وما الرسالة الوثيقة الموجهة من الأمير إلى القائمّقام يوسف بك حسن يهنئه فيها بإنجازاته في اليمن؛ سوى دليل على عمق العلاقة بينهما، لقد كان الأمير شكيب أرسلان الأب الروحي لعدد غير قليل من المناضلين الشباب في بلاد الشام ومصر، أولئك الذين كانوا يرون إمكانية إصلاح السلطنة العثمانية، وإبقاء الولايات العربية تحت راية الخلافة، حيث كانوا يرَوْن في ذلك مصلحة للطرفين.
وقد يكون اختياره العمل في ولاية اليمن عنواناَ لطموحاته المتوقدة وأفكاره العروبية، إذ يقول في تقديم قصيدته في رثاء الأمير شكيب: “إنه أستاذي السياسي، ودافعي إلى اليمن في مهمات سياسية”، لكن رغم وجود مسافة زمنية توازي أربعة عقود، بين قدومه إلى اليمن ووفاة الأمير شكيب، فإننا لا نلاحظ في اليوميات، أو في الوثائق ما يقدم فكرة ما عن نوع تلك المهام السياسية سوى الرسالة المذكورة سابقاً.
لم يكن وجود السلطنة العثمانية في اليمن فاعلاً في أي وقت من الأوقات، وكان موظفوها يحكمون الألوية الثلاثة (صنعاء وتعز والحديدة) بالتراضي، أو بالتنازل أو بالتواطؤ مع القوى المحلية المتعددة المشارب والمذاهب، وهذه الولايات الثلاث – والتي كان يقطنها نحو خمسة ملايين شخص كما يقول يوسف بك حسن- كانت متباعدة متناثرة تفصلها موانع جغرافية كأداء، مثل الجبال الوعرة والأودية والبيد، والمسالك الخطرة والهضاب، ممّا يجعل التحكّم بها أمراً صعباً على دولة قوية فاعلة، فكيف إذا كانت هذه الدولة تحتضر، وينتظرها الطامعون في عقر دارها وعلى أطرافها، ويحفرون لها قبر النهاية!.
أمّا على حدود ولايات اليمن، وفي منطقة البحر الأحمر بالذات، فقد كانت الإمبرياليات الغربية تتنافس وتتناهش لسلب ما تستطيع سلبه من تركة هذه السلطنة العجوز. فالايطاليون كانوا ينطلقون من مستعمراتهم من الضفة المقابلة لليمن، ليحاولوا وضع أيديهم على بعض الموانئ والانطلاق منها إلى الداخل. وكان ميناء “المُخا” مطمعهم الأكبر، خاصة بعد الحرب الايطالية – العثمانية، واحتلال إيطاليا لطرابلس الغرب عام 1912م. وقد جرب الطليان احتلال أجزاء من الساحل، وقصفوا مدنه غير مرة، وكان يوسف بك حسن والمجاهدون من العسكر والقبائل لهم بالمرصاد، فردوهم خائبين دون أن تتوقف مطامعهم.

قصور-سلطنة-لحج-في-العام-1915--في-تاريخ-قريب--من-قيام-يوسف-بك-حسن-مع-الجند--الثماني-بانتزاعها-من-الإنكليز
قصور-سلطنة-لحج-في-العام-1915–في-تاريخ-قريب–من-قيام-يوسف-بك-حسن-مع-الجند–الثماني-بانتزاعها-من-الإنكليز

مطامع الانكليز
منذ أن وطأ الانكليز أرض عدن عام 1839، جمعوا السلطنات والمشيخات كمحميات تحت سلطتهم، لكنهم لم يكفُّوا عن التطلّع نحو الداخل، أو نحو السواحل امتداداً إلى الحديدة إن هم استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فالبحر الأحمر طريق ضرورية، وحاجة استراتيجية لإبقاء التواصل بين قناة السويس من جهة، ومستعمرات الهند من جهة أخرى.
وكان الفرنسيون غير بعيدين عن اليمن بسبب وجودهم الاحتلالي في جيبوتي، حيث كانت لهم قنصلياتهم وممثلوهم في الحديدة وعدن وفي مدن أخرى.
أما ألمانيا فقد تعرضت لنكسة معنوية عندما قامت القبائل ولأسباب غامضة بقتل قنصلها في ولاية الحديدة؛ قُبيل وصول يوسف حسن إلى اليمن.
ومع اشتعال الحرب العالمية الأولى تسابقت الإمبرياليات الغربية لتنال ما تستطيعه من كيان السلطنة المترامي الأطراف، ودخلت إنكلترا وفرنسا وايطاليا في حلف معادٍ للسلطنة ولألمانيا؛ في تلك الظروف العصيبة، رأى القائمّقام الشاب الذي كان يعمل كحاكم إداري، أن يركب حصانه ويعمل كقائد حربي، وأن يحارب جميع من كانوا يتربصون شرّاً باليمن من بوابة مدينة الحُدَيدة الساحلية، التي يطل عليها من متصرّفيته في “إب”.
لقد طُلب منه أن يشتت القوى المعادية للسلطنة، خاصة الإنكليز؛ حتى لا يوجّهوا قوّاتهم إلى مِصر! كما كان عليه كذلك أن يقمع القبائل المتمرّدة التي لا تدفع الإتاوات لتمويل الجنود، ويبعد قبائل أخرى عن التعامل مع الإنكليز، خاصةً وأن هؤلاء كانوا يغدقون الأموال والسلاح على الجماعات اليمنية المختلفة، ويحاولون استمالتها. كما طُلِب من الحاكم الإداري الشاب في غير مناسبة أن ينتقل بين مناطق ومدن متباعدة خارج مُتصرّفيته، كـ “حَجَّة” و”العُدَيْن” أو إلى “زَبيد” أو “الحُدَيْدة” لإخماد فتن، أو لإخضاع تمرد، كلّ ذلك لتوطيد سلطة الدولة العليّة.
وبالفعل وفيما يشبه معجزة إنجاز، قام على عمله بكفاءة وإصرار، ونجح بفضل شخصيته الفعّالة والمحبوبة. لقد أفلح لغاية منتصف فترة الحرب العالمية الأولى بوقف تدهور الأحوال وانفلاتها في مناطق عمله التي لم تعد تقتصر على متصرّفية “إب” فقط في اليمن، وبذلك مَنَعَ تقدّم الأعداء الطامعين نحو الداخل اليمني، أو النزول إلى الشواطئ الغربيّة على البحر الأحمر. لكن أخبار الشؤم ما لبثت أن بدأت تَرِدُه مع دخول الحرب العالمية الأولى مرحلة صعبة بالنسبة للدولة العثمانية، وارتسام معالم انتصار الحلفاء، من تلك الأنباء تحالف سيف الإسلام الإدريسي أمير عسير مع الانكليز، ثم تغرير هؤلاء بالشريف حسين الهاشمي لإعلان الثورة العربية ضد السلطنة، ثم أنباء تقاسُم الحلفاء لبلاد الشام، إلى أن جاءته الصدمة الكبرى بإعلان استسلام السلطنة للحلفاء عام 1918، وطَلب تسليم قواتها وجيوشها وأسلحتها لهم، وللإنكليز في اليمن بخاصة.
لكنّ المتصرّف لم يصدِّق خبرَ الاستسلام معتقدا أنه خدعة بريطانية، غير أنّه ما لبث أن واجه الحقيقة المرة برباطة جأش؛ عندما وصله منشور بريطاني من نائب الملك في عدن للتسليم، وحتى مع وصول ذلك المنشور الرّسمي، انتظر يوسف بك حسن حتى أتاه ضابط عثماني ليؤكّد له مضمونه.. ورغم كلّ تلك الدلائل عن انهيار الدفاعات العثمانية، وهزيمة السلطنة، فإن المتصرّف الشاب الممتلئ عنفوانا عربيا وعثمانياً لم يستطع أن يبتلع تلك الخاتمة المذلّة، فرفض أن يستسلم، وبقي معه مجموعة من المجاهدين، ورجال القبائل الذين ابتعدوا عن الحديدة -التي دخلها الانكليز- وتراجعوا الى باجل.
السؤال البديهي هنا هو: لماذا لم ينفّذ متصرف الحديدة آنذاك الأوامر التي طلبت منه التسليم؟ وعلى ماذا كان يُعوِّل؟ ولماذا لم يرحل في أواخر عام 1918، وانتظر حتى أواخر العام 1921 عندما ركب باخرة إنكليزية نقلته من عدن مع قدر كبير من التكريم؟ هل كان ينتظر سقوطاً رسمياً للسلطنة، وهي التي سقطت عسكريّاً بالفعل، أو هل كان ينتظر المفاوضات الجارية بينها وبين الحلفاء قبل اتخاذ القرار الأخير؟ أم أنها “المهام السياسية” التي كلّفه بها الأمير شكيب أرسلان، التي جاء ذكرها سابقاً؟

السلطان محمد رشاد الخليفة العثماني إبان عمل يوسف بك حسن في اليمين
السلطان محمد رشاد الخليفة العثماني إبان عمل يوسف بك حسن في اليمين

تأثير الأمير شكيب أرسلان
يُنقَل عن الصحافي المجاهد عجاج نويهض، الذي رافق الأمير شكيب سنين طويلة في نضاله السياسي والفكري، أنّ يوسف بك حسن كان مبعوثاً سرّياً للأمير شكيب، ولشيخ العروبة أحمد زكي باشا، الذي رافقه الموظف الشاب في اسطنبول قبل قدومه إلى صنعاء، وكانت المهمة التي أوكلت إلى يوسف بك حسن هي العمل على تحقيق الاستقلال الذاتي لليمن عن الدولة العثمانية، مع الولاء المطلق للخلافة في اسطنبول.
وبعيداً عن تلك الأسئلة النظرية، وكيف جرت الأمور على أرض الواقع في أثناء السنوات الثلاث التي فصلت بين نهاية الحرب، وسقوط الدولة العثمانية، وبين مغادرة المتصرّف اليمن أخيراً متوجّهاً إلى لبنان؟ فإنّ يوميات يوسف بك حسن الذي بقي يسطّرها حتى آخر يوم له في اليمن، وكذلك الوثائق الباقية منه، وخاصة ترجمة الوثائق العثمانية؛ تُظهر أنّه نجح في الحفاظ على قدر كبير من الاستمرارية والشرعية التي كانت سائدة في منطقة عمله الإداري من قبل.
صحيح أنّ الإنكليز تقدّموا نحو الحُديدة، لكنّ المتصرّف الشاب بقي تحت إمرته عدد من الجنود والمجاهدين ورجال القبائل. كما أنه بقي مستحوذاً على ثقة الأهالي بفضل “إدارته الفذّة” حسب قول للوالي العثماني محمود نديم. بل إنّ يوسف بك تابع تحصيل بعض الإتاوات ليموّل بها الجنود، كما أن التواصل مع الوالي الموجود في صنعاء استمر بشكل قانوني، إذ ما معنى أن يحرّر الوالي أمر تعيين يوسف بك متصرّفاً على الحديدة بناءً على مناشدة الأخير غير مرّة، وذلك في 2 تشرين الأول عام 1919، ويحوّل ذلك الأمر إلى قائمّقام الرّقمدار في صنعاء لإجراء القيود؟ وهذه الواقعة قام يوسف بك بتدوينها في يومياته في ذلك التاريخ.

إنجاز فريد
حقيقة الأمر أن يوسف بك حسن لم ينجح فقط في اكتساب ثقة الأهالي التامة، بل هو فرض نفسه على الفرقاء الأساسيين الثلاثة في ذلك المحور الاستراتيجي وهم: الانكليز في الجنوب، والإدريسي في تهامة، والإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن في صنعاء؛ الذي بدا أنه في تناغم مع الوالي، ويودّ بسط حكم إمامته على تهامة غير الزيدية. وبالطبع اكتسب يوسف حسن أيضا ثقة وصداقة الوالي العثماني في صنعاء؛ الذي كما يتبين من وثيقة باللغة التركية، طالب في كتاب إلى وزارة الداخلية بدفع كافة المستحقات المتراكمة للمتصرّف حتى نهاية وجوده في اليمن.
ويبدو أنّ الاتفاق الذي تمّ لاحقاً بين السلطة التركية الجديدة، وبين الإمام نتج عن بعض بنوده بقاء الأتراك كمسؤولين وجنود في اليمن، يساعد على فهم المرحلة السابقة. وتأتي حادثة احتجاز وعرقلة مهمة الوفد الانكليزي المُحمّل بالهدايا، والمتوجه إلى صنعاء لزيارة الإمام يحيى لكسب ودّه إلى جانب الإنكليز ضد العثمانيين، من قبل قبائل تهامة لتزيد من شهرة ذلك المجاهد، يوسف بك حسن ورفاقه، وهم الذين دارت الشكوك حول كونهم خلف قيام القبائل بتلك العملية الجريئة، وهذا رغم أن يوسف بك حسن نفى أيّ علاقة له بتلك الحادثة، بل ظهر لاحقاً كـ “وسيط” يعمل للإفراج عن المحتجزين. وقد اضطرّ الوفد الإنكليزي أن يعود خائباً مع هداياه، بعد احتجازه لفترة تزيد عن الشهرين في مدينة “باجل” بعيداً عن الساحل، رغم غضب الإمام وحقده وغيظه.
ورغم كثرة السفر والتنقل في اليمن، لم يصل متصرّف الحُديدة إلى صنعاء إلاّ عبر التواصل بالرسائل والتوجيهات مع والي اليمن، ولم يكن للإمام عنده مودّة، ولم يذكره بالخير في يومياته أو في رسائله. وبعد أحد عشر عاماً من الوصول حزم المجاهد حقائبه، ورحل من عدن مكرّماً كما يقول ليصل إلى لبنان عبر مصر، ويلتقي بعروسه التي انتظرته طوال تلك المدة كما يدون في مذكراته. كما ترك اليمن في بحر هائج من الصراعات بين قوى جديدة محلّية وخارجية، فلم تستقرّ الأمور إلاّ بعد حين لتتغيّر معها الخارطة السياسية في المنطقة كذلك.
لم يَطُلْ به المقام حتى زار اسطنبول بناءً على نصيحة رئيسه والي اليمن السابق، وحصل على ترقياته ومستحقاته وأوسمته، وغادر إلى سوريا بعد عام 1925 لعدم انسجامه مع تحوّل لبنان من متصرفية إلى “دولة لبنان الكبير” تحت الانتداب الفرنسي.
وعمل في سوريا محامياً، ثم قاضياً في مدينة السويداء حتى عام 1955، ليعود بعد ذلك إلى قريته الشوفية بتلون، ويمضي فيها تقاعده حتى تاريخ وفاته في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1969.

آثار يوسف بك حسن
لم يتوقّف يوسف بك عن الكتابة والتأليف ونظم الشعر في اليمن، ومتابعة شؤون السياسة العربية والدولية والتعليق عليها، شعراً ومقالات. ولعلّ الحقبة اليمنية هي أغنى ما في هذه التركة الثقافية، لأنّها كانت باكورة المغامرات، وأصدق التجارب وأوسع تعبير عن بلاد لم تكن تمتلك الصحافة أو المطابع، أو حتى المدارس، فجاءت كتاباته المتنوعة من عام 1910 ولغاية 1921 سجلاً حافلاً عن مجريات الأحداث آنذاك، وقد تكون ذخراً للدارسين والباحثين في تاريخ اليمن لتلك الحقبة.

موظفان عثمانيان في صنعاء في مطلع القرن الشرين
موظفان عثمانيان في صنعاء في مطلع القرن الشرين

الوثائق العربية
ترك يوسف بك ما يزيد عن مائة وثيقة مكتوبة، معظمها ذات أهمية تاريخية فريدة، وهي تتناول مراسلات مع والي اليمن محمود نديم، ومع السيد الإدريسي وقائد جيوشه، ومع شيوخ قبائل ورجال دين وموظفين، كما تتضمن أجوبة منه على بعض الطلبات، وتدخّلات لدى بعض الأعيان ومعايدات وتهانٍ، ولم تتوقف المراسلات مع خروجه من اليمن، بل تابع التوسّط لدى بعض سلاطين المحميات، والإجابة على رسائل لأصدقاء له، وهناك بعض الوثائق التي حملها في مجموعته، مثل منشور نائب الملك البريطاني بإعلان انتهاء الحرب، وطلب الاستسلام، ومنشور رجال دين ومشايخ يمانيين في مصر يحذّرون فيها من الخروج عن طاعة دولة الخلافة العليّة. وتتميز الوثائق التي كتبها يوسف بك بالترتيب، وحسن الخط وندرة الأخطاء اللغوية، وقد أرّخ معظمها بالسنة الهجرية أو بالسنة المالية العثمانية، في حين أنّ الرسائل التي كان يتلقاها متنوعة الخطوط، والترتيب وهي كثيرة الأخطاء أحياناً وتحمل عدداً من التعابير المحلّية.

الوثائق العثمانية
تشكل الوثائق العثمانية في مجموعة المتصرّف ذخراً مستوراً يحتاج إلى دراسة متأنّية من المهتمين والمتخصصين، وهي على الأرجح عبارة عن مراسلات إدارية مع الوالي ومع مسؤولين إداريين في اسطنبول، ومع قواد عسكريين محليين، أو ترجمة لبعض التقارير الصّحفية التي تعوّد يوسف بك أن يقدمها للوالي، كما أنّ الأرقام الواردة في بعضها قد تدل على الجبايات والمصاريف والمعاشات، وكيفية إدارة القائمقاميات ثم المتصرفية التي تسلّمها.
وفي ترجمة لبعض هذه الوثائق تحدثت إحداها عن راتب متصرّف الحديدة، وعن تنقّلات قضائية في المتصرفية، ومذكّرة تتحدث عن إرسال تقارير متعلّقة بالولاية إلى اسطنبول بواسطة متصرّف الحُديدة، ودفع أجور من الأموال العامة المحصّلة. كما تتضمن إحداها مراسلة بين القائد سعيد باشا، وقائمقام “اللُّحَيّة” آنذاك، يطلب منه الاستعداد للنزول إلى لحج وعدن لمواجهة الإنكليز.
وتعرض وثيقة موجّهة إلى وزارة الداخلية جهود يوسف بك حسن في اليمن في خدمة الدولة العثمانية، ونجاحه بالتعامل مع الأهالي، ومع الإنكليز ومع الادريسي في عسير بعد أن صدرت الأوامر الدولية بالتسليم، وكيف استحوذ على ثقة الأهالي، ممّا جعلهم يدفعون الأموال المستحقّة للدولة، والتي استطاع بواسطتها أن يوفّر احتياجات الجيش وغيرها من المصروفات حتى بعد هزيمة السلطنة عسكرياً، وتطالب هذه الوثيقة الوزارة بمنح المتصرّف مُرَتّبَه المتراكم من سنوات سابقة، ممّا يجعلنا نعتقد أن للمتصرّف دوراً في تشجيع موقّعي هذه العريضة.
وممّا يلفت النظر في ترجمة لكتاب آخر مرفوع من والي اليمن إلى وزارة الداخلية يشرح فيه أحوال البلاد بعد الحرب العالمية الأولى، ومن المعروف أنّ الوالي بقي في اليمن بعد انتهاء الحرب كما بقي يوسف بك، أو قد يكون هذا هو سبب بقاء المتصرّف كذلك.
وفي هذا الكتاب يطلب الوالي من الوزارة سرعة إرسال متصرّف الحديدة يوسف حسن بك الموجود في دار السعادة إلى محل عمله في الحديدة!
فهل غادر المتصرف الحديدة على أمل العودة؟ وماذا كانت نِيّة والي اليمن آنذاك؟
أمّا الوثيقة الأخيرة المهمّة، والتي سننقل ترجمتها في باب الوثائق، والتي تعود لآخر مهمة للمتصرّف، فهي رسالة مرفوعة من والي اليمن إلى وزارة الداخلية يستعرض فيها حياة يوسف حسن بك في اليمن منذ وصوله، ويتكلّم فيها عن قدراته الإدارية الفذّة، وقدراته العسكرية، ومشاركته في الحروب ضد أعداء الدولة. ويختم الوالي رسالته بتذكير الدولة العليّة بأن المستحقّات المتراكمة للمتصرّف من خزينة الدولة لم يتم دفعها، ويطلب صرفها له تقديراً لخدماته وجهوده الكثيرة.
وأخيراً هناك قصيدة ليوسف بك حسن باللغة العثمانية، خصّ بها متصرّف جبل لبنان يوسف باشا بمناسبة حلول سنة جديدة.

جنود-عثمانيون-في-اليمن-مطلع-الحرب-العالمية-الأولى
جنود-عثمانيون-في-اليمن-مطلع-الحرب-العالمية-الأولى

اليوميات
حين وصل القائمّقام الشاب إلى لواء تعز، وتابع سيره إلى “إب”، أدرك أنّه بدأ مرحلة مهمّة في حياته، ميزاتها المغامرة والخصوصية والتجارب، ولم تعد الشهادات التي أوصلته إلى ذلك المكان تشكّل سوى جواز مرور شرعي فقط، ليصبح مقبولاً في المنطقة المتمرّدة، والتي لم تتعود على موظفين عثمانيين يهمهم بسط نفوذ السلطنة، وكان يوسف بك حسن قد تعوّد تدوين مذكّراته قبل قدومه إلى اليمن.
وقد واظب المتصرّف المُجدّ، والشديد الانضباط على تدوين يوميّاته لمدّة إحدى عشرة سنة متتالية، وتجمّع من ذلك التدوين المنتظم ما يزيد عن ثلاثة آلاف “يوميّة” من المذكرات، لم تتوقف إلاّ مع مغادرته لتلك البلاد! وتتراوح اليوميّة الواحدة بين عدة أسطر، وصفحة مدوّنة باليوم وبالشهر الميلادي الشمسي المعتمد في بلاد الشام. وكانت ملفتة فعلا تلك العادة في تدوين كل صغيرة وكبيرة تتعلق بحياته اليومية، أم بمهماته العامة ومغامراته الخطرة أحيانا في مجاهل اليمن الجغرافية والسياسية، وفي الحقيقة، وحسب علمنا فإنه قلّما حصلت تلك المواظبة على تدوين اليوميات في تاريخ الحكام العثمانيين، ولاسيّما الذين منهم تحمّلوا مسؤوليات عامة واسعة كتلك التي اضطلع بها يوسف بك حسن لأكثر من 11 عاما في بلد صعب، وفي أحلك الظروف التي كانت تمرّ بها الدولة العثمانية.

ماذا في اليوميات؟
إنّها سجلّ حافل بتاريخ المقاطعات التي كانت تابعة للسلطنة، أو للمناطق التي تنقّل بها القائمّقام ثم المتصرّف، وهي مرآة تصور الحياة السياسية والاجتماعية والمناخية، والاقتصادية والإدارية وأحوال الناس والقبائل. ويزيد في أهمية تلك اليوميات أنها تجمّعت في فترة كانت ولاية اليمن فيها مسرحاً لحوادث داخلية، وتمرُّدات ومشكلات لا تتوقف، وهذه الأحداث والحروب كان المتصرف الشاب يتابعها بإصرار، وغالبا ما كان يحقّق النّجاح في التصدّي لها، أو استيعابها، وتمكن يوسف بك حسن دونما مساعدة حقيقية من الدولة في اسطنبول من بسط سلطة السلطنة، وإخضاع المتمردين كما حقّق نجاحاً كبيراً في تجنيد العسكر والمجاهدين، ودفعهم إلى جبهات المواجهة مع الأخطار الخارجية، كما في “المُخا” و”لَحْج” وغيرهما. والملفت أنّ يوسف بك حسن استمر حتى في فترات الحرب، والضائقة الاقتصادية في جمع “العشور” والضرائب، أو الحكم بين الناس، أو ترتيب المصالحات والتحكيم بين القبائل المتخاصمة!، لقد كان قائمّقاماً وقاضياً، وضابطاً عسكرياً اقتحم غمار المعارك غير مرة وتعرض للموت مراراً.
وها هو يقول في يوميات 20 أيار 1916 “تفكرت في أحوالي وأنا في القطر اليماني، ونصيبي كان في خضم الكوارث والحروب، فمنذ مجيئي إليها وأنا أعاني الأهوال، وقد حضرت لغاية هذا التاريخ ثماني عشرة معركة استعمِلت بها المدافع، أربعاً منها في المُخا في مواجهة السفن الإيطالية سنة 1327، وأربعاً في بيت الفقيه مع الزرانيق المشهورين بالتمرد” قبيلة بدوية شديدة البأس على ساحل تهامة اليمن”، وثلاثاً منها مع قبائل أخرى، وأربعاً منها في لحج مع الانكليز وسلاطين لحج، وثلاثاً في مواجهة سفن الإنكليز في الحُديدة.
أما الوقائع التي لم تستعمل بها المدافع فهي كثيرة، والمسلّم الله. هذا حتى منتصف عام 1916، فكم معركة خاض لغاية 1921؟!
يذكر في مذكرات عام 1919، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعد لقائه مع قلّة من المجاهدين ورجال القبائل في “باجل” في منطقة بين الإنكليز في “الحُديدة”، وسيف الإسلام الإدريسي في تهامة عسير، والإمام يحيى الطامع في تمديد سلطته نحو السواحل، يذكر أنّ “باجل” أصبحت مركزاً للسياسة، ومحوراً لعمل دوائر القبائل والحكومة.
فالوفد الانكليزي المؤلّف من ثمانين فرداً، والذي كان متوجّهاً إلى منطقة الإمام مع كميّة من الهدايا احتُجز في “باجل” ما يزيد عن الشهرين، وبدأت القبائل تضع الشروط للإفراج عنه، وحاول المتصرّف أن يقف وسيطاً بين الطرفين – كما يقول- لكنّه في الحقيقة لم يكن يريد للوفد أن يتابع سيره لملاقاة الإمام، كما أنه لم يكن يريد للقبائل أن تهاجم الوفد في دار الحكومة.
وهو يذكر كيف قامت طائرة إنكليزية بالتحليق فوق “باجل”، وفوق الجزيرة القريبة منها في البحر، وكيف كانت ردة فعل الأهالي على هذا السلاح الذي لم يعرفوه سابقاً، إذ هددت القبائل باقتحام دار الحكومة إذا أعادت الطائرة تحليقها، وأطلقوا عليها النار من بنادقهم.
ويذكر في عام 1920 مقابلاته مع سيف الإسلام مصطفى الإدريسي، ومحاولات التوسّط بينه وبين الإمام يحيى بطلب من والي اليمن محمود نديم. وفي يوميات عام 1921 يذكر بداية التنازع على تهامه بين الإدريسي والوهّابين الذين فرضوا شروطاً فقهية وسلوكية غير مسبوقة.
وفي كل مرة يذكر فيها الإمام يحيى كان يكيل له الأوصاف السلبية، كالجشع والتسلّط والتزمّت، ويذكر جازماً صعوبة تمدّد سلطته نحو تهامة نظراً للفوارق بين الزيدية والشوافع..
وإلى جانب المواضيع السياسية والعسكرية؛ اكتست اليوميات بالقلق والأسى، والشعور بالهزيمة بعد ورود أخبار احتلال بلاد الشام من قبل الانكليز والفرنسيين، ونكث الانكليز بوعودهم للشريف حسين وثورته العربية. وكم كان يأسى عندما يتلقّى الأنباء المحزنة التي تخبر بوفيّات بين الأهل والأقارب؛ تلك الأنباء التي كانت تحملها الرسائل جرّاء الحرب والمجاعة في موطنه.
ولأنّه كان يسجل صادقاً ولنفسه، فكم من مرّة سجل المعاناة والقلق، وتلك الهواجس، وكم انفرد بنفسه في أمسيات الحُدَيدة وباجل، ليذرف دمعاً غزيراً على غياب الأحبّة في موطنه البعيد، وكم أفاق في الأصبحة، وقد تبلّلت وسادته بالدموع!. وكم منّى نفسه بالعودة إلى الوطن، وقد أتته وعود مفرحة أحياناً. إنها الغربة حقاً، إنها المكابرة غير المجدية أحياناً، لقد بدت المعاناة الإنسانية في أصدق صورها لدى ذلك المجاهد الصابر.

الإمام يحي حميد الدين كان في نظر يوسف حسن رمزا للفساد والتخلف السياسي
الإمام يحي حميد الدين كان في نظر يوسف حسن رمزا للفساد والتخلف السياسي

ديوان الشعر
إلى جانب العمل الإداري والعسكري، والأحداث المتلاحقة، وجد يوسف بك فسحة ليمارس ميوله الأدبية، وقراءة الدواوين المتوافرة وقرض الشعر، وقد كانت له تجربة وثقافة أدبيتان بخمس لغات، وحتى كان يذكر في اليوميات أنّه لولا المطالعة وتحرير الرسائل لضاقت به الدنيا. وقد ترك المتصرف باقة غضّة من الأشعار؛ جمعها ولده عاصم في كتاب اسمه “لبناني وسيف يماني” (الدار التقدمية – لبنان 2007)، وتشمل المجموعة مواضيع متنوعة، أكثرها من الشعر السياسي الذي كان يُنفّس به عن كربته، ويعبّر عن مبادئه وتوقه لتحرّر الشعوب ومناهضة الاستعمار، وكان يرى في كلّ حركة تحرّر أو استقلال عيداً، ومناسبة لكتابة قصيدة شعرية، وظل يوسف بك يمارس الشعر حتى وفاته.
حقّاً لقد كانت فترة اليمن فترة حافلة غنيّة في تراثه، وأفرد لها في الديوان باباً خاصّاً نظم فيه أشعاراً عن طبيعة اليمن، وجمال بعض المناظر، وطباع الناس وبعض السجالات مع الأصحاب، فأطرى البعض وهَزَأ بالبعض الآخر، وقد نالت قرية “الدفدف” في العدين نصيبها من هجائه بسبب طباع سكانها، كما ترك قريحته لتعبّر عن مفاخر اليمن وماضيه، وعن لواعج غربته، ولم يتوانَ عن أن يتغزّل باستحياء ببعض الوجوه أو ما بدا منها!.
كما حاول أن يكتب قصائده بأوزان شعرية متنوّعة، ونترك للعروضيين تقييمها، مع الملاحظة أنّ القائمقام الشاب، ثم المتصرّف، كان يواكب حركة شعرية ناشطة في مصر وبلاد الشام، وكانت أصداؤها تصل إلى بلاد اليمن ولو متأخّرة.

الإرث النثري
لم يترك يوسف بك نتاجاً نثرياً أثناء عمله في اليمن، سوى كتابات إدارية كانت عبارة عن تقارير صحافية يضعها بيد الوالي، أو مذكّرات متعلّقة بسير العمل، وأهم ما تركه عن تلك الفترة تقرير عن أوضاع تهامة، قد يكون أعدّه حين عُيّن متصرّفاً للواء الحديدة، يعرض فيه أحوال اللواء، وطرق تطويره المتمثلة بالأمن والمعارف والمواصلات، وهو يقترح مَدّ خط سكة الحديد من الحجاز إلى الحديدة، لكنّ المتصرّف عاد إلى الكتابات السياسية بعد انتقاله للعمل كمحام في سوريا، وشارك في السّجالات القومية والنضالية التي لم يتخلّ عنها طيلة حياته.

يمن-يوسف-بك-حسن---طبيعة-وعرة-ومجتمع-صعب-المراس
يمن-يوسف-بك-حسن—طبيعة-وعرة-ومجتمع-صعب-المراس

خاتمة
ينتمي يوسف بك حسن إلى جيل من المجاهدين الذين انخرطوا في صفوف الثورة العربية، وناضلوا من أجل التحرر والاستقلال في وقت كانت فيه السياسات الدّولية، وشهوات الاستعمار والمؤامرات تعمل في اتجاهات مغايرة وأكثر تعقيداً، فجاءت نتائج الحرب العالمية الأولى لتحبط نِضالات هذا الجيل، ولتُقيِّد البلاد العربية بأشرطة من الشوك تحرسها الإمبرياليات الجديدة. ثم جاء وعد بلفور ليصبح كسرطان تجذّرت أورامه في فلسطين.ثم إلى ما حولها. وحين ذهب المجاهدون العرب لنصرة أشقائهم في فلسطين في عام 1948 كان من بينهم ابنه الشاب ناصر يوسف حسن، وقد اندفع للجهاد هناك بتشجيع من والده، لكن هؤلاء المجاهدين أيضا عادوا خائبين لتضاف نكبة فلسطين إلى باقي الهزائم التي باتت عنوان جيلهم، وأكبرها بالطبع هزيمة العرب في حرب حزيران 1967
بعد سنتين من الهزيمة توفّي المجاهد يوسف بك حسن في بلدته بتلون، لكنه كان قبل وفاته طلب أن يُنقَشَ هذان البيتان من الشعر على ضريحه وقد جاء فيهما:
فإذا قضيتُ ولم أُشاهـــِد أمَّتي بلغتْ بسُؤدُدِها السِّمــــــــاكَ الأعــزَلا
فليُكْتَبَنّ علــــــــــى ضريِحــــــــــيَ إنَّ ذا قبرَ امرئٍ قد خابَ فــــــــــي مَــــــــــا أمَّـــــــــــلا

 

تاريخ آل علم الدين

تاريخُ أمراءِ آلِ علمِ الدِّين

من نشأتهم في عْبَيْه إلى نهايتِهم في عَيْن دارَةَ

مع انتصار الأمير حيدر الشهابي على رأس الحزب القيسي في عين دارة سنة 1711 فإنّه لم يتمّ فقط حسمُ مسألة حكم الجبل بعد زوال المعنيّين لصالح الأمراء الشّهابيّين، بل حُسِمت أيضاً معركة لا تقلّ أهميّة هي محاولة آل علم الدّين الدّروز وحلفائهم إعادة لبنان مجدّداً إمارةً يحكمها الدّروز كما كان عليه الأمر لمدّة تقارب الـسّبعة قرون. وكان فشل آل علم الدّين في تحقيق طموحهم إيذاناً بزوال حكم الأسر الدّرزية للجبل الذين كانوا مالكيه الفعليّين من زاوية الملكيّات الزّراعية والعدد والنّفوذ لقرون طويلة، لكن تفرّق زعمائهم وانقسامهم الحادّ بين الغَرَضِيّتَين القيسيّة واليمنيّة جعلهم ينتصرون مجدّداً لأمير سنِّي من آل شَهاب ويقاتلون “إخوانهم” اليمنيّين بشراسة حتى القضاء عليهم. ولقد حدث الأمر نفسه قبل ذلك في اجتماع السّمقانيّة الذي دعت إليه الأسر الإقطاعيّة الدّرزيّة لانتخاب خَلَفٍ لآل مَعن فلم يَسْتَطِيعوا الاتّفاق على أمير منهم وفضّلوا إعطاء البلاد لأمير شهابيّ استُقْدم من وادي التَّيم وأعطي إمارة لم تكن لتؤول إليه عن أي طريق لولا عجز زعماء الدروز عن الاتفاق على واحد منهم. لكنّ هزيمة آل علم الدّين كانت أيضا من صُنع أيديهم لأنّهم لم يتصرّفوا كعنصر جامع للدّروز (وللّبنانييّن)، كما فعل فخرالدين المعني الثاني، بل قاتلوا، انطلاقا من حزبيّتهم اليمنيّة، الأمير فخر الدين (القيسِيّ الغرضيّة) باستمرار وعملوا على إضعاف إمارته الدّرزية حتى آخر يوم من أيام عهده المَجيد. وبينما كان مشروع فخر الدين توحيديّاً بكلِّ معنى الكلمة ومؤسَّساتياً يقوم على بناء دولة حديثة جامعة، فإنَّ مشروع آل علم الدين كان تقليدياً وصراعياً وكان لا بد وأن ينتهي بانتصار فريق من فريقيّ النّزاع الأهلي وهزيمة الفريق الآخر. وقد كانت الهزيمة في عين دارة موجعةً ودامية لكنَّ الذي هُزِم فيها لم يكونوا آل علم الدين اليمنيّين وحدَهم بل مشروع استرداد الدّروز لإمارة الجبل ولو بإمارة منقوصة.
فمن هم آل علم الدين الذين كادوا أن يبدّلوا مسار الإمارة في جبل لبنان؟ ماذا نعرف عن أصولهم وتاريخهم وما الذي آل إليه أمرهم بعد هزيمتهم في عيندراة والقضاء على معظم أمرائهم ووجودهم السياسي ؟
في المقال التالي يقدم المؤرخ الدكتور حسن أمين البعيني عرضا وافيا لتاريخ هذه الأسرة العريقة ولأبرز زعمائها وللأدوار التي لعبتها في تاريخ لبنان خصوصا في العهد الوسيط وحتى انتهاء أمرهم في معركة عين دارة على يد الحزب القيسي بزعامة الشهابيين.
(الضحى)

ُرِف آل علم الدين في تاريخ لبنان باسم”آل علم الدين الرّمطونيين”، و باسم”آل علم الدين العنداريين”، وعُرِفوا في أواخر عهدهم بـ”أمراء آل علم الدين اليمنيين”. بعض فصول تاريخهم معلوم، وبعضه الآخر غامض، أو المعلومات عنه قليلة. وليس هناك اليوم أيّة أسرة من أسر الموحِّدين الدروز تحمل اسم “آل علم الدين” ولا اسم آل عبد الله الذين تفرّع آل علم الدين منهم، ويعود غموض تاريخ أجداد آل علم الدين وأجداد الفروع الأخرى من آل عبد الله، إلى أنَّه لم يُقيّض لآل عبد الله وبني فوارس من يكتب عنهم ويؤرّخ لهم كما قيِّض لآل أرسلان الذين أضاء السّجلّ الأرسلانيّ عليهم، وكذلك البُحْتريّين التَّنوخيّين الذين أرّخ لهم أحد أمرائهم صالح بن يحيى ثم أكمل ابن سباط تاريخهم إلى سنة 1520 وهي السّنة التي توقف فيها عن الكتابة. وبالعودة إلى تاريخ آل علم الدين، فهو يبدأ عند صالح بن يحيى بعلم الدين معن، وأبنائه، وحفيده الذي يحمل اسم”علم الدين سليمان”.
سنحاول فيما يلي الإضاءة عليهم حتى انتهاء نفوذهم في سنة 1711 جرّاء هزيمتهم في عَيْن دارة، والإضاءة على إشكالية انقراضهم.

أصل آل علم الدين
آل علم الدين فرع من آل عبد الله، وهؤلاء فرع من المناذرة اللّخميين الذين استقدمهم الخليفة العبّاسي أبو جعفر المنصور من معرّة النعمان في شمال سورية إلى جبل لبنان الجنوبي، ليدافعوا عن بيروت وساحلها ضدّ هجمات الرّوم البيزنطيّين، وليؤمّنوا حماية الطّرق بينها وبين دمشق ضد اعتداءات حلفاء البيزنطيين، والمتعاونين معهم من أبناء البلاد.
وآل عبد الله هم أبناء عم آل أرسلان وآل تنوخ وبني فوارس، ويعودون جميعهم في النّسب إلى الملوك المناذرة الذين حكموا في الحيرة لمدة 364 سنة. وقد جانب العديد من المؤرّخين الحقيقة عندما نسبوا هذه الأسر الأربع إلى قبيلة تنوخ، أو إلى حلف تنوخ، فيما هم لا علاقة لهم بهذا ولا بتلك. أمّا من حملوا منهم اسم التّنوخيين، فهم فرع واحد يعود في النّسب إلى أمير مُنذري لَخمي،هو تنوخ بن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذحج بن سعد بن طيّ بن تميم بن الملك النعمان أبي قابوس الذي هو الجدّ الأعلى لآل أرسلان وآل عبد الله وبني فوارس(1).
نزل المناذرة اللّخميون سنة 759م في الأقسام الغربيّة من قضاء عاليه، وقضاء المتن الجنوبي (بعبدا حاليا) فدعَوْها “الغرب”، ودُعِيَت الإمارة التي أسّسوها هناك إمارة الغرب، وقد تسلّمها أولاً آل أرسلان، ثم تسلّمها أمير واحد من بني فوارس هو أبو الفوارس مِعْضاد، وتسلّمها أمير واحد من آل عبد الله هو الأمير مجد الدولة، وآلت بعده إلى الأمراء البحتريّين التّنوخيين، نسبة إلى جَدّهم بحتر بن علي بن الحسين بن ابراهيم بن محمّد بن علي بن أحمد بن عيسى بن جُمَيْهِر بن تَنوخ. لذا عُرفوا باسم البُحتريّين التَّنوخيِّين نسبةً إلى الأمير بُحتر وجدّه الأمير تنوخ، الذي وردت الاشارة إليه.

إلى أي “علم الدين” ينتسب “آل علم الدين” ؟
المألوف في الكثير من التّسميات هو الأسماء المركّبة من اسمين، ثانيهما اسم المرء، وأوّلهما صفة أو كنية تُعطى له، هي على العموم، اسم مركّب أيضاً تدخل فيه غالباً لفظة الجلالة (الله)، مثل عبد الله، أو لفظة “الدين” مثل جمال الدين. وأسماء معظم أمراء آل علم الدين مركّبة من اسم، وكنية أو صفة فيها لفظة “الدين”، هي علم الدين معن، علم الدين سليمان، ركن الدين محمّد، عز الدين جواد، بهاء الدين داود، ظهير الدين علي، ناصر الدين محمّد، سيف الدين غَلاّب، وهذا الاسم الأخير حمله ثلاثة أمراء، هم سيف الدين غَلاّب بن علم الدين معن، وسيف الدين غلاّب بن علم الدين سليمان، وسيف الدين غلاّب بن ظهير الدين علي.
هناك فقط أميران في اسميهما كنية أو صفة علم الدين، هما علم الدين معن، وحفيده علم الدين سليمان. فإلى أيّ علم الدين منهما ينتسب آل علم الدين؟ إنهم ينتسبون إلى الأمير علم الدين سليمان، لأنّ علم الدين معن لا يُعرف عنه سوى اسمه، فيما حفيده علم الدين سليمان اشتُهر بقوّة الشّخصيّة، وميزة القيادة، وجليل المزايا والمناقب، وكان أوّل من تأمَّر من أسرته على جزء من بلاد “الغرب” في العهد المملوكي.

تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيِّين
بدأ تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيِّين مع المؤرِّخ صالح بن يحيى. فهو، بالرّغم من اتّصافه بالموضوعيّة، وبالكتابة اعتماداً على المناشير الرسميّة والوثائق، كان محابياً لقومه البحتريّين التّنوخيِّين، يكره من خاصموهم كبني أبي جيش الأرسلانيِّين، ويُظهر الرّضى والارتياح لمن ناصروهم وتقرَّبوا منهم، كآل علم الدين الذين نسَّبهم إلى البيت البحتريّ التّنوخي، فأرَّخ لأمرائهم مع من أرَّخ للأمراء من هذا البيت. وهذا جعل من نقلوا عنه يُنسِّبونهم إلى البحتريّين التّنوخيين، دون أن ينتبهوا إلى ما ذكره عنهم حين قال عن علم الدين سليمان، الذي ينتسب آل علم الدين إليه: “إنه ابن سيف الدين غلاّب بن علم الدين معن بن مُعْتِب بن أبي المكارم بن عبد الله بن عبد الوهّاب بن هِرماس بن طريف”. وأضاف قائلا: “ورأيت من خطوط بعض المتقدِّمين في الهجرة أن هرماس هو أبو طارق الذي تنسب إليه الطوارقة وهم فخذ من آل عبد الله”(2). وهذا يعني أن الطوارقة وآل علم الدين فخذان من آل عبد الله. كما أنه جاء في السّجلّ الأرسلاني أنَّ هرماس هو ابن طريف بن طارق بن عبد الله(3). وعبد الله هو من ينتسب إليه آل عبد الله.
نقل ابن سباط عن صالح بن يحيى تاريخ البحتريين التنوخيين، وأوضح سبب تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيين، فقال: “إن أمير “الغرب” ناصر الدين الحسين جوَّز [زوَّج] علم الدين سليمان ولم يكن في سلف علم الدين أحد تجوَّز[تزوَّج] منهم، وكان جليل القدر، مُهاباً بين أهله وكلمته فيهم نافذة وأمره مُطاع. ومن علم الدين اتَّصل بيت آل تنوخ وصاروا صفة بيت واحد بالزواج وصاروا أولاد علم الدين يُنسبوا من أمراء الغرب”(4).
وفي حين أوضح ابن سباط أن المُصاهرة هي سبب تنسيب آل علم الدين إلى البحتريين التنوخيين، فإنه جانب الحقيقة حين ذكر أنَّ أحدًا من سلف علم الدين سليمان لم يتزوّج من البحتريين التنوخيين، ذلك أن والده سيف الدين غلاّب تزوَّج من هؤلاء(5) وأخذ ــ أي تَزَوّج ــ ابنة الأمير نجم الدين محمّد بن جمال الدين حِجى بن كرامة بن بحتر.
وإضافة إلى زواج الأمير سيف الدين غلاّب وابنه الأمير علم الدين سليمان وسيف الدين غلاّب الثالث من البحتريين التنوخيين، هناك خمس زيجات لهؤلاء من آل علم الدين، ذكرها صالح بن يحيى، وهي:
• زواج الأمير شمس الدين عبد الله بن جمال الدين حجى من ابنة الأمير سيف الدين غلاّب بن علم الدين معن.
• زواج الأمير شهاب الدين بن زين الدين من ابنة الأمير عزّ الدين جواد بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير جمال الدين محمّد بن زين الدين صالح من ابنة الأمير سيف الدين غلاّب بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير علاء الدين علي بن زين الدين صالح بن ناصر الدين الحسين من ابنة الأمير عزّ الدين جواد بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير ناصر الدين الحسين بن تقيّ الدين إبراهيم بن ناصر الدين الحسين من ابنة الأمير ظهير الدين علي بن جواد بن علم الدين سليمان(6).
هذه الزيجات الثماني بين البحتريين التنوخيين وآل علم الدين أظهرتهم كأنَّهم أسرة واحدة، وحملت صالح بن يحيى على تنسيب آل علم الدين إلى البحتريين التنوخيين الذين هم أكثر شهرة منهم.
وكما أنّ آل علم الدين ليسوا أصلاً من البحتريين التّنوخيين، وإنما نسِّبوا إليهم بالمصاهرة، فإنهم هم أيضا ليسوا أصل الأمراء المعنيين كما رأى بعض المؤلِّفين، وذلك اعتمادا منهم على كلمة “معن” التي يتضمّنها اسم علم الدين معن، والتي هي نفسها اسم “معن” جدّ الأمراء المعنيين. إلاّ أنّ هذا التشابه في الاسم لا يفيد على الإطلاق عن الأصل الواحد، لأنّ أبناء وأحفاد علم الدين معن معروفون، وليس بينهم أي اسم لأمير معنيّ منذ قدوم المعنيِّين إلى لبنان سنة 1120م، كما أنّ آل علم الدين يمنيُّون وأنّ المعنيِّين قيسيُّون، ممّا يؤكّد أيضا الاختلاف في النَّسب(7).

محيط مدينة السويداء في جبل العرب- نكبة اليمنيين كانت بداية إعمار الجبل وتحوله إلى قوة بشرية وسياسية
محيط مدينة السويداء في جبل العرب- نكبة اليمنيين كانت بداية إعمار الجبل وتحوله إلى قوة بشرية وسياسية

ُرِف آل علم الدين في تاريخ لبنان باسم”آل علم الدين الرّمطونيين”، و باسم”آل علم الدين العنداريين”، وعُرِفوا في أواخر عهدهم بـ”أمراء آل علم الدين اليمنيين”. بعض فصول تاريخهم معلوم، وبعضه الآخر غامض، أو المعلومات عنه قليلة. وليس هناك اليوم أيّة أسرة من أسر الموحِّدين الدروز تحمل اسم “آل علم الدين” ولا اسم آل عبد الله الذين تفرّع آل علم الدين منهم، ويعود غموض تاريخ أجداد آل علم الدين وأجداد الفروع الأخرى من آل عبد الله، إلى أنَّه لم يُقيّض لآل عبد الله وبني فوارس من يكتب عنهم ويؤرّخ لهم كما قيِّض لآل أرسلان الذين أضاء السّجلّ الأرسلانيّ عليهم، وكذلك البُحْتريّين التَّنوخيّين الذين أرّخ لهم أحد أمرائهم صالح بن يحيى ثم أكمل ابن سباط تاريخهم إلى سنة 1520 وهي السّنة التي توقف فيها عن الكتابة. وبالعودة إلى تاريخ آل علم الدين، فهو يبدأ عند صالح بن يحيى بعلم الدين معن، وأبنائه، وحفيده الذي يحمل اسم”علم الدين سليمان”.
سنحاول فيما يلي الإضاءة عليهم حتى انتهاء نفوذهم في سنة 1711 جرّاء هزيمتهم في عَيْن دارة، والإضاءة على إشكالية انقراضهم.

أصل آل علم الدين
آل علم الدين فرع من آل عبد الله، وهؤلاء فرع من المناذرة اللّخميين الذين استقدمهم الخليفة العبّاسي أبو جعفر المنصور من معرّة النعمان في شمال سورية إلى جبل لبنان الجنوبي، ليدافعوا عن بيروت وساحلها ضدّ هجمات الرّوم البيزنطيّين، وليؤمّنوا حماية الطّرق بينها وبين دمشق ضد اعتداءات حلفاء البيزنطيين، والمتعاونين معهم من أبناء البلاد.
وآل عبد الله هم أبناء عم آل أرسلان وآل تنوخ وبني فوارس، ويعودون جميعهم في النّسب إلى الملوك المناذرة الذين حكموا في الحيرة لمدة 364 سنة. وقد جانب العديد من المؤرّخين الحقيقة عندما نسبوا هذه الأسر الأربع إلى قبيلة تنوخ، أو إلى حلف تنوخ، فيما هم لا علاقة لهم بهذا ولا بتلك. أمّا من حملوا منهم اسم التّنوخيين، فهم فرع واحد يعود في النّسب إلى أمير مُنذري لَخمي،هو تنوخ بن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذحج بن سعد بن طيّ بن تميم بن الملك النعمان أبي قابوس الذي هو الجدّ الأعلى لآل أرسلان وآل عبد الله وبني فوارس(1).
نزل المناذرة اللّخميون سنة 759م في الأقسام الغربيّة من قضاء عاليه، وقضاء المتن الجنوبي (بعبدا حاليا) فدعَوْها “الغرب”، ودُعِيَت الإمارة التي أسّسوها هناك إمارة الغرب، وقد تسلّمها أولاً آل أرسلان، ثم تسلّمها أمير واحد من بني فوارس هو أبو الفوارس مِعْضاد، وتسلّمها أمير واحد من آل عبد الله هو الأمير مجد الدولة، وآلت بعده إلى الأمراء البحتريّين التّنوخيين، نسبة إلى جَدّهم بحتر بن علي بن الحسين بن ابراهيم بن محمّد بن علي بن أحمد بن عيسى بن جُمَيْهِر بن تَنوخ. لذا عُرفوا باسم البُحتريّين التَّنوخيِّين نسبةً إلى الأمير بُحتر وجدّه الأمير تنوخ، الذي وردت الاشارة إليه.

إلى أي “علم الدين” ينتسب “آل علم الدين” ؟
المألوف في الكثير من التّسميات هو الأسماء المركّبة من اسمين، ثانيهما اسم المرء، وأوّلهما صفة أو كنية تُعطى له، هي على العموم، اسم مركّب أيضاً تدخل فيه غالباً لفظة الجلالة (الله)، مثل عبد الله، أو لفظة “الدين” مثل جمال الدين. وأسماء معظم أمراء آل علم الدين مركّبة من اسم، وكنية أو صفة فيها لفظة “الدين”، هي علم الدين معن، علم الدين سليمان، ركن الدين محمّد، عز الدين جواد، بهاء الدين داود، ظهير الدين علي، ناصر الدين محمّد، سيف الدين غَلاّب، وهذا الاسم الأخير حمله ثلاثة أمراء، هم سيف الدين غَلاّب بن علم الدين معن، وسيف الدين غلاّب بن علم الدين سليمان، وسيف الدين غلاّب بن ظهير الدين علي.
هناك فقط أميران في اسميهما كنية أو صفة علم الدين، هما علم الدين معن، وحفيده علم الدين سليمان. فإلى أيّ علم الدين منهما ينتسب آل علم الدين؟ إنهم ينتسبون إلى الأمير علم الدين سليمان، لأنّ علم الدين معن لا يُعرف عنه سوى اسمه، فيما حفيده علم الدين سليمان اشتُهر بقوّة الشّخصيّة، وميزة القيادة، وجليل المزايا والمناقب، وكان أوّل من تأمَّر من أسرته على جزء من بلاد “الغرب” في العهد المملوكي.

تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيِّين
بدأ تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيِّين مع المؤرِّخ صالح بن يحيى. فهو، بالرّغم من اتّصافه بالموضوعيّة، وبالكتابة اعتماداً على المناشير الرسميّة والوثائق، كان محابياً لقومه البحتريّين التّنوخيِّين، يكره من خاصموهم كبني أبي جيش الأرسلانيِّين، ويُظهر الرّضى والارتياح لمن ناصروهم وتقرَّبوا منهم، كآل علم الدين الذين نسَّبهم إلى البيت البحتريّ التّنوخي، فأرَّخ لأمرائهم مع من أرَّخ للأمراء من هذا البيت. وهذا جعل من نقلوا عنه يُنسِّبونهم إلى البحتريّين التّنوخيين، دون أن ينتبهوا إلى ما ذكره عنهم حين قال عن علم الدين سليمان، الذي ينتسب آل علم الدين إليه: “إنه ابن سيف الدين غلاّب بن علم الدين معن بن مُعْتِب بن أبي المكارم بن عبد الله بن عبد الوهّاب بن هِرماس بن طريف”. وأضاف قائلا: “ورأيت من خطوط بعض المتقدِّمين في الهجرة أن هرماس هو أبو طارق الذي تنسب إليه الطوارقة وهم فخذ من آل عبد الله”(2). وهذا يعني أن الطوارقة وآل علم الدين فخذان من آل عبد الله. كما أنه جاء في السّجلّ الأرسلاني أنَّ هرماس هو ابن طريف بن طارق بن عبد الله(3). وعبد الله هو من ينتسب إليه آل عبد الله.
نقل ابن سباط عن صالح بن يحيى تاريخ البحتريين التنوخيين، وأوضح سبب تنسيب آل علم الدين إلى التّنوخيين، فقال: “إن أمير “الغرب” ناصر الدين الحسين جوَّز [زوَّج] علم الدين سليمان ولم يكن في سلف علم الدين أحد تجوَّز[تزوَّج] منهم، وكان جليل القدر، مُهاباً بين أهله وكلمته فيهم نافذة وأمره مُطاع. ومن علم الدين اتَّصل بيت آل تنوخ وصاروا صفة بيت واحد بالزواج وصاروا أولاد علم الدين يُنسبوا من أمراء الغرب”(4).
وفي حين أوضح ابن سباط أن المُصاهرة هي سبب تنسيب آل علم الدين إلى البحتريين التنوخيين، فإنه جانب الحقيقة حين ذكر أنَّ أحدًا من سلف علم الدين سليمان لم يتزوّج من البحتريين التنوخيين، ذلك أن والده سيف الدين غلاّب تزوَّج من هؤلاء(5) وأخذ ــ أي تَزَوّج ــ ابنة الأمير نجم الدين محمّد بن جمال الدين حِجى بن كرامة بن بحتر.
وإضافة إلى زواج الأمير سيف الدين غلاّب وابنه الأمير علم الدين سليمان وسيف الدين غلاّب الثالث من البحتريين التنوخيين، هناك خمس زيجات لهؤلاء من آل علم الدين، ذكرها صالح بن يحيى، وهي:
• زواج الأمير شمس الدين عبد الله بن جمال الدين حجى من ابنة الأمير سيف الدين غلاّب بن علم الدين معن.
• زواج الأمير شهاب الدين بن زين الدين من ابنة الأمير عزّ الدين جواد بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير جمال الدين محمّد بن زين الدين صالح من ابنة الأمير سيف الدين غلاّب بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير علاء الدين علي بن زين الدين صالح بن ناصر الدين الحسين من ابنة الأمير عزّ الدين جواد بن علم الدين سليمان.
• زواج الأمير ناصر الدين الحسين بن تقيّ الدين إبراهيم بن ناصر الدين الحسين من ابنة الأمير ظهير الدين علي بن جواد بن علم الدين سليمان(6).
هذه الزيجات الثماني بين البحتريين التنوخيين وآل علم الدين أظهرتهم كأنَّهم أسرة واحدة، وحملت صالح بن يحيى على تنسيب آل علم الدين إلى البحتريين التنوخيين الذين هم أكثر شهرة منهم.
وكما أنّ آل علم الدين ليسوا أصلاً من البحتريين التّنوخيين، وإنما نسِّبوا إليهم بالمصاهرة، فإنهم هم أيضا ليسوا أصل الأمراء المعنيين كما رأى بعض المؤلِّفين، وذلك اعتمادا منهم على كلمة “معن” التي يتضمّنها اسم علم الدين معن، والتي هي نفسها اسم “معن” جدّ الأمراء المعنيين. إلاّ أنّ هذا التشابه في الاسم لا يفيد على الإطلاق عن الأصل الواحد، لأنّ أبناء وأحفاد علم الدين معن معروفون، وليس بينهم أي اسم لأمير معنيّ منذ قدوم المعنيِّين إلى لبنان سنة 1120م، كما أنّ آل علم الدين يمنيُّون وأنّ المعنيِّين قيسيُّون، ممّا يؤكّد أيضا الاختلاف في النَّسب(7).

بلدة عين دارة التي شهدىت نهاية الحكم القصير لآل علم الدين على يد حيدر الشهابي
بلدة عين دارة التي شهدىت نهاية الحكم القصير لآل علم الدين على يد حيدر الشهابي

آل علم الدين العنداريون
إنّ آخر أمراء آل علم الدين، الذين ذكرهم المؤرِّخان صالح بن يحيى وابن سباط، هم سيف الدين غلاّب بن ظهير الدين علي، وأبناء أخيه عزّ الدين حسن: يوسف، وأحمد وناصر الدين محمّد.
وبعد سنة 1406م لا نعرف عن آل علم الدين شيئاً إلى أن برز في القرن السابع عشر عَلَمان منهم في عين داره، هما الشيخ مظفّر العنداري وابن أخيه الأمير علي العنداري، مع أنّهما كانا خلال تلك الفترة مُقدَّمَيّ الجُرد، ويقيمان في قاعدته عين داره التي عُرفا بها. فإنّه لم يَرِد ذكرُ أيٍّ منهما في أخبار حملة الوالي العثماني إبراهيم باشا على الجبل سنة 1585، وهو الذي جعل مخيَّمَه في عين صوفر قريباً من عين داره، والذي أحرق العديد من قرى الجرد والمتن والغرب والشوف ومنها قرية عين داره التي ورد الحديث عنها في الوثائق العثمانية أنّها تمنَّعت قبل سنة 1585 عن دفع الضّرائب المترتِّبة عليها للدولة العثمانية، وأنَّ أهلها بقيادة أبي عَرام [ربما أبي عرم]، ويوسف بن هرموش هاجموا منزل السّباهي المكلّف بجمع الضّرائب، محمّد بن الحَنَش(17).
اللّافت هو حمل مظفّر لقب “الشيخ”، وحمل علي ابن أخيه لقب”الأمير”. إلّا أنّ لقب “الشيخ” يماثل في العديد من العشائر والبلدان لقب “الأمير”. فشيخ القبيلة هو بمثابة أمير لها، وشيوخ بعض الدول والإمارات العربيّة هم أمراؤها وملوكها. وحمل مظفّر لقب “الشيخ” عائد، في رأينا، إلى صفة دينيّة متأتِّية من انضمامه إلى سلك رجال الدين، وهو بهذا يشبه أميراً تنوخيًّا معاصراً له هو الشّيخ أحمد العينابي المعروف باسم بلدته عيناب، كما يشبه أميراً آخر معاصراً له كذلك هو الشّيخ بدر الدين حسن العنداري.

تزعُّم آل علم الدين الغرضيّة اليمنيّة
حملت القبائل والعشائر العربيّة النازحة من الجزيرة العربيّة نزعاتها القبليّة والعشائريّة، وتعصَّبت كلٌّ منها للطّبقة التي تنتمي إليها من الطبقات التالية: الفخذ المعروف حاليًّا بالجبّ، والبطن، والعمارة، والعشيرة، والقبيلة، والشَّعب (بفتح حرف الشين) (18). كما تعصَّبت لأصولها الأولى الرّئيسة، وتأطَّرت تحت مجموعتين كبيرتَين هما عرب الشمال، أي القيسيّة أو العدنانيّة، وعرب الجنوب، أيّ اليمنيّة أو القحطانيّة. وحملت القبائل والعشائر العربيّة هذين الانتماءين، اللَّذَين سُمِّيا الحزبيَّتَين (القيسيّة واليمنيّة) إلى كل المناطق التي انتقلت إليها، وحتى إلى إسبانيا (الأندلس). إلاّ أنّ هاتين الحزبيَّتَين لم تظهرا عامل تفرقة ونزاعات وحروب في المقاطعات اللبنانية إلا في عهد الأتراك العثمانيين الذين شاؤوا خلق الصراعات بين زعماء العشائر وتفريقهم فيما تكتَّل هؤلاء تحت لواءي القيسيّة واليمنيّة في صراعهم من أجل المحافظة على النفوذ وزيادته.
كان المناذرة اللّخميون بفروعهم الأربعة: آل أرسلان وآل تنوخ وآل عبد الله وبني فوارس، يمنيِّين، فيما كان المعنيُّون والشّهابيُّون قيسيِّين. وكان هناك إلى جانب هذه الأسر الحاكمة للمقاطعات اللّبنانيّة أُسَرٌ يمنيّة وقيسيّة عِدّة. إلاّ أنّ الولاء للقيسيّة واليمنيّة لم يكن ثابتًا ومستمرًّا في كل الأحوال وجميع الأزمان، بل كان يتغيّر تبعاً للواقع السياسيّ والظروف والمصالح. ومن وجوه ذلك أنّ آل أبي اللمع المتحدّرين من أصل بني فوارس اليمنيين كانوا في مطلع العهد الشهابي قيسيِّي الولاء، وأن البحتريين التنوخيين اليمنيين ناصروا المعنيين القيسيين.
سعى الأمير فخر الدين المعني الثاني لتوحيد أبناء المقاطعات اللبنانية على مختلف أديانهم ومذاهبهم وغرضيّاتهم، وحاول الجمع بين القيسيّة واليمنيّة، مضمِّنا عَلَمه شعار القيسيين الأحمر وشعار اليمنيين الأبيض. لكن النّزعة الحزبيّة ظلّت كامنة في النفوس تستيقظ أو يوقظها الولاة العثمانيون، وظلّت تشكّل عامل تفرقة وعدم استقرار بين أمراء المقاطعات اللبنانية.
انضوى آل علم الدين اليمنيّون تحت شعار اليمنيّة المتّخذ في المقاطعات الللبنانية، عند الموحِّدين الدروز، وهو اللون الأبيض وزهرة الخشخاش، وهتفوا تحيّةَ اليمنيِّين المعتمدة أثناء التجمُّعات وأثناء السّير إلى القتال، وهي”يا آل المعروف”. والمعروف ضد المنكر، ومن معانيه الجود والكرم، وهو لقب جميع الموحِّدين الدروز المحبَّب إليهم، ثم صار اسما للموحِّدين الدّروز في سورية. أمَّا شعار القيسيين فكان اللون الأحمر وزهرة السّوسن، وتحيّتهم هي”هوبر”، وأصلها “هو البار”، أي هو الله تعالى.
ظهرَ آل علم الدين في عهد الأمير فخر الدين الثاني من قادة اليمنيين الذين وقفوا ضدّه أثناء حملة أحمد حافظ باشا عليه سنة 1613، وأثناء حملة أحمد الكجك باشا عليه سنة 1633. ثم ظهروا رأس الحربة اليمنيّة في مواجهة ورثته بين سنتَي 1633 و1697، وبعد ذلك في مواجهة الأمراء الشهابيّين في بداية تسلُّمهم لإمارة الجبل بعد المعنيِّين.

الشيخ مظفّر علم الدين العنداري
برز دور الشيخ مظفّر العنداري عند قدوم حملة أحمد حافظ باشا على فخر الدين، وذلك حين توجّه إليه ووضع نفسه في خدمته، فأعطاه الحافظ “الغرب” والجرد والمتن، وأمره أن يجمع رجال هذه المناطق ويسير بهم إلى رأس الشّوف ثم إلى الشويفات. لقد كان لآل علم الدين مقاطعة الجرد، وأحيانا المتن، لكنَّ حافظ باشا أعطى للشيخ مظفّر زيادة عليها “الغرب” مكافأة له على انضمامه إليه، وقتاله مع عسكره ضد فخر الدين.
خاض الشيخ مظفّر برجال “الغرب” والجُرد والمتن غِمار القتال ضدّ أهالي عين زحلتا والباروك وسائر قرى رأس الشوف، واستمرَّ القتال طوال نهار كامل، “وكان الحرب بينهما سجالاً تارة لهؤلاء وتارةً لهؤلاء لأنّ الجميع أولاد البلاد يعرفون مظنّات بعضهم بعضاً”، ما اضطرّ حافظ باشا إلى إرسال نجدة للشيخ مظفّر الذي كان مهزوماً، فعاود الهجوم على أهل الشوف، فارتدّ هؤلاء إلى نبع الباروك حيث ثبتوا هناك، ثم ما لبثوا أن انسحبوا عند قدوم عسكر الحافظ وأنصاره لنجدة الشيخ مظفّر(19).
تابع الشيخ مظفّر العنداري اشتراكه في القتال ضد الأمير فخر الدين، فحضر برجاله مع أحد قادة الحافظ (حسين آغا) إلى عْبَيه حيث كبسوا الأمير ناصر الدين التّنوخي، وحاصروه وأحرقوا عْبَيه. ثم عاد وساهم مع ابن سيفا في حرق بعض قرى الشّوف(20).
استطاع الأمير علي بن فخر الدين، وعمّه الأمير يونس، إعادة جمع أنصار المعنيّين، وقدِم إليهم حليفهم علي الشهابي من وادي التّيم، وهاجموا رجال الشيخ مظفّر وحليفه ابن سيفا عند عين الناعمة. وهناك وقعت كبرى المواقع الأربع التي دارت في يوم واحد وانتصر فيها الأمير علي المعني وحلفاؤه. وقد هُزم الشيخ مظفّر في الناعمة وقُتلت فرسُه، وانسحب مع ابن سيفا إلى عكّار حيث أقام في قرية شدره، وظلّ فيها إلى ما بعد عودة فخر الدين من أوروبّا سنة 1618. ثم إنه لجأ إلى قلعة الحصن ليشترك مع ابن سيفا في الدّفاع عنها عندما ذهب فخر الدين إلى عكّار للانتقام من آل سيفا. لكنّ الأمير فخر الدين راسل الشيخ مظفّر بعد انتصاره على ابن سيفا، وأعطاه الأمان، واستقدمه “وأعطاه حكم بلاد الجرد لأنّ أصله منها وأجداده من قديمٍ حكّام بها”(21). وفي هذا الكلام الذي أورده الخالدي في تاريخ فخر الدين دلالة على توطّن آل علم الدين لعين داره بعد انتقالهم مباشرة من رمطون.

الأمير فخر الدين
الأمير فخر الدين

الأمير علي علم الدين العنداري
عُرف الأمير علي علم الدين بلقب”العنداري”. وعُرف أيضا بلقب اشتهر به أكثر من اللقب الأوّل هو”اليمنيّ” لترؤُّسِه الحزب اليمني في صراعه ضد المعنيين زعماء الحزب القيسي.
وكما انضمّ الشيخ مظفّر علم الدين العنداري إلى أحمد الحافظ باشا عند قدومه سنة 1613 لمحاربة الأمير فخر الدين، كذلك انضمّ ابن أخيه (الأمير علي) إلى أحمد الكجك باشا عند قدومه سنة 1633 لمحاربة فخر الدين. فأعطاه الكجك ولاية الشوف إضافة إلى إقطاعه. وبهذا دخل في صراع مع ابن أخي الأمير فخر الدين (ملحم يونس) على إمارة الشوف، إذ إنّ الأمير ملحم ترك مخبأه وحضر إلى الشوف، وهاجم سنة 1635 الأمير علي في المقيرط(22) حيث انتصر عليه، وقتل مدبّر الكجك، فوصل هذا مع أخبار الاضطرابات التي أثارها الأمير ملحم في الشوف إلى السلطان مراد الرابع العثماني، فأمر بإعدام الأمير فخر الدين الذي كان سجينا في الآستانة منذ سنة 1633.
بعد ذلك بقي الأمير علي علم الدين ينازع الأمير ملحم المعني على الإمارة لسنوات، مستقوِيًا بوالي دمشق. ومن المواقع التي خاضها الاثنان، بالإضافة إلى موقعة المقيرط التي ورد ذكرها، ما يلي:
• موقعة قب الياس سنة 1633 التي انتصر فيها الأمير علي وعسكر الشام على القيسيّة، وكانت نكبة لآل العماد(23).
• موقعة أنصار سنة 1638 التي تغلّب فيها الأمير ملحم على الأمير علي، وأولاد علي الصغير، وأصحاب الأغراض من اليمنيّة(24).
• موقعة وادي القرن سنة 1650 التي انتصر فيها الأمير ملحم والشهابيون على الأمير علي وعسكر الشام الذي يساعده(25).
كان الأمير علي علم الدين مثالاً في الرّجولة والشجاعة، ومثالاً في الوقت نفسه في البطش والإجرام. ومن الشواهد على رجولته وشجاعته البطولات التي أبداها في حرب السلطان العثماني مراد الرابع في العراق ضدّ شاه العجم، ما رفع منزلته عند السلطان وجعله من المقرَّبين إليه. ومنها أنه حين كان في السّرادق أمام السلطان، من جملة القوَّاد الماثلين أمامه، حصل اضطراب في الجيش سببه اقتحام أسدٍ ضارٍ لصفوفه وبطشه بمن لقيهم. وحين علم الأمير علي بذلك انتضى سيفه وكرّ على الأسد وصرعه بضربة واحدة، وعاد إلى السّرادق وكأنّ شيئا لم يحدث، فأثنى السلطان عليه.
ومن وجوه بطش الأمير علي علم الدين، وإفراطه فيه، فتكه بأقاربه الأمراء التنوخيِّين كبارا وصغارا سنة 1633 بعد تسلُّمه حكم الشوف، أثناء حملة أحمد الكجك باشا على الأمير فخر الدين الثاني. وسبب ذلك هو حقده عليهم لمناصرتهم خصومه المعنيِّين.
وقد اعتقد الكثير من المؤلِّفين أنّ التنوخيين أُبيدوا وانقرضوا سنة 1633. وفي الحقيقة أنه بقي منهم أُسَرٌ عديدة، هي بأسماء الأجداد المتأخِّرين لا باسم البحتريين التنوخيين، وهذه الأُسر معلومة وموجودة حتى اليوم في بعض قرى الشحّار(26).

الأميران موسى ومنصور علم الدين
من الطبيعي أن يطمح آل علم الدين إلى توسيع إقطاعهم في الجرد ليشمل المتن والغرب والشوف، وليخلفوا المعنيِّين في إمارة الجبل، تشجّعهم على ذلك الدولة العثمانية التي أصدرت الحكم بإعدام الإمارة المعنيّة سياسيًّا يوم أَعدم السلطان مراد الرابع فخر الدين الثاني في الآستانة، وحين أنشأت الدولة العثمانية ولاية صيدا سنة 1660 لمراقبة الإمارة المعنيّة التي أتعبتها فأعدّ واليها محمّد باشا كمينًا لولدَي الأمير ملحم المعنيّ: أحمد وقرقماس، في عين مزبود سنة 1662، فقُتل الأمير قرقماس ونجا الأمير أحمد بأعجوبة.
كان الأمير علي علم الدين البديل عن الأمير ملحم المعنيّ في كل مرة تغضب عليه الدولة العثمانية، وتعزله بسبب عجزه أو تعجيزه عن ضبط الأمن وجمع الضرائب. وبعد وفاته سنة 1660 صار ولداه موسى ومنصور البديل عن الأمير أحمد بن الأمير ملحم المتوفَّى في سنة 1658، كما أنّ والي دمشق ولاّهما على حاصبيّا وراشيّا بدلاً من أصحابهما الأمراء الشهابيِّين، وكانت التّوجيهات والأوامر تصدر عبر الرسائل المتلاحقة إلى والي طرابلس، ووالي صيدا وبيروت، ووالي دمشق، ومُتسلِّم حلب، ومُتصرّف سنجق غزّة، وجميع القضاة والأعيان وذوي الشأن، أن يتعاونوا لتسليم الحكم إلى الأمير موسى علم الدين، وعزل الأمير أحمد المعني وملاحقته والقضاء عليه وإنهاء الاضطرابات التي يثيرها، ومصادرة جميع أمواله المنقولة وغير المنقولة(27).
تسلَّم الأمير موسى الإمارة بدلاً من الأمير أحمد المعني، بمساعدة الدولة العثمانية، لكنه تنحَّى عنها سنة 1695 بسبب عجزه عن تحصيل الضرائب، وبسبب المعارضة التي لقيَها من الأهالي جرّاء تحريض الأمير أحمد المعني وابن شهاب لهم. وبما أنّ الدولة العثمانية كانت غاضبة على الأمير أحمد وتتّهمه بمساعدة الثائرين عليها في شمال جبل لبنان، أَصدرت الأوامر إلى والي طرابلس لإعادة الأمير موسى(28)، لكنّ الأمير أحمد استمرّ في الحكم حتى وفاته سنة 1697.
ورد اسم الأمير موسى مع اسم أمير آخر من آل علم الدين، هو الأمير نعمان كشاهدين في صك بيع “السّت الكبيرة أم الأمير نعمان الشهير نسبه الكريم” غرسة جوز مثمرة “إلى الشيخ أبي حرب ابن الشيخ محمّد علاء الدين الشهير بابن عطا الله، من قرية عين داره من بلاد الجرد عمل بيروت المحروسة” وذلك بتاريخ ربيع أوّل سنة1102هـ (كانون أوّل 1690م). وقد ورد ختماهما على ظهر الصّك مقابل إِمضاءَيْهِما ضمن دائرة: بنده نعمان مظفّر- بنده موسى آل مظفّر(29).

آل علم الدين واسترداد الإمارة الدرزيّة
توفِّي الأمير أحمد المعني بدون عقب، وانتهت بموته سلالة الأسرة المعنية الموجودة في الشوف. لكن المعنيِّين لم ينقرضوا إذ كان هناك أسرتان منهم، متخفِّيتان عن غضب الدّولة العثمانية، أولاهما في قرية إبل السّقي في الجنوب اللبناني، وثانيتهما في قرية عُرنة السُّورية الواقعة في السّفح الشّرقي لجبل حرمون، هي من سلالة الأمير علي بن فخر الدين الثاني(30).
اجتمع أعيان القيسيّة في السّمقانية لاختيار أمير عليهم يخلف الأمير أحمد المعني في حكم الجبل. ولما كان لا يوجد في الجبل أمراء قيسيُّون يختارون منهم أميراً، ولما كانوا لا يرضون بأمير يمني من آل أرسلان، ولا بأمير يمني من آل علم الدين، فقد شكَّل الأمراء الشهابيون القيسيُّون، حكام حاصبيّا وراشيّا في وادي التّيم، مخرجاً لهم سواء اتَّفقُوا على ابن أخت الأمير أحمد: الأمير بشير حسين أمير راشيّا، أو ابن ابنة الأمير أحمد: الأمير الصغير حيدر موسى، أمير حاصبيّا. ومن الطبيعي أن يكون قرار الدولة العثمانية هو الأساس أولا وأخيراً. وهكذا كان، إذ تفيد الوثائق العثمانية عن قبول السلطان بتولية أميرٍ شهابي على”جبل الشوف” هو أوّلاً الأمير بشير حسين، وبعده الأمير حيدر موسى حين يبلغ سن الرشد.
فضّل القيسيُّون الدروز أميراً شهابيًّا قيسيًّا من غير مذهبهم وغير منطقتهم على أمير يمني من مذهبهم ومنطقتهم، مغلِّبين عامل الانتماء الحزبي على عامل الانتماء المذهبي، إذ إن مذهب الشهابيِّين هو المذهب السُّنِّيّ، فخسر الموحِّدون الدروز الإمارة التي كانت لأُسَرِهم منذ الإعلان عن مذهب التوحيد سنة1017م، وكانت لأسلافهم منذ أن قدموا إلى جبل لبنان سنة759م.
كانت الموافقة العثمانية على الأمير بشير الشهابي الأوّل مشروطة بتأدية الأموال المترتِّبة عليه، والأموال المتأخِّرة على الأمير أحمد المعني. وقد تكفّل الأعيان الذين اجتمعوا في السمقانيّة بتسديد الأموال المتأخِّرة، وهذا أمَّن موافقة الدولة العثمانيّة. ثم جاءت مقدرة الأمير بشير الأوّل على جمع الضّرائب في منطقة التزامه من كسروان إلى صفد، وفرض هيبته، وتغلُّبِه على خصومه، لتؤمِّن استمراريّته في الحكم حتى سنة 1706 حين دسّ له أنصار الأمير حيدر موسى الشهابي السّمّ في الحلوى ومات. فانتقلت الإمارة إلى الأمير حيدر بموافقة الدولة العثمانية، المشروطة بتأديَة الضرائب المطلوبة منه والمتأخّرة على الأمير بشير.
لم يَرْضَ اليمنيُّون وعلى رأسهم آل علم الدين، بتوليَة الأمير بشير الشهابي الأوّل على الجبل، لكنهم في بادئ الأمر لم يقرنوا عدم رضاهم، ولم يقرنوا معارضتهم، بالتحرّك الميداني، وبالعمل لعزل الأمير الشهابي، وتسلّم الإمارة بدلاً عنه كما كانوا يفعلون سابقاً مع الأمراء المعنيِّين، لأنهم ما كان بمقدورهم ذلك إلا إذا تأخّر الأمير الشهابي عن ضبط الأمن، وتأدية الضّرائب للدولة العثمانيّة في أوقاتها، وإلاّ إذا حرّضتهم الدّولة العثمانيّة على مناهضته. وقد حصل ذلك في عهد الأمير الشاب حيدر الشهابي الذي عجز عن حفظ الأمن وتأدية الضرائب، فاعتبرته الدولة، بتعليماتها الصادرة في سنتي1707 و1708، عاصياً يجب طرده، وتعيين بديل عنه، لأنّه تمنّع عن دفع المترتّب عليه، وماطل وزعماء الدروز في ذلك.
آنذاك ظهر منافس للأمير حيدر الشهابي هو محمود أبو هرموش، من أسرة بني الشويزاني العريقة. كان نائبه في جمع الضرائب من جبل عامل. وقد تقرّب من والي صيدا، واستحصل منه على لقب الباشويّة. ثم تعاون مع آل علم الدين والأرسلانيّين، الذين تظاهروا ضد الأمير حيدر، فعجز الأمير عن الوقوف في وجه هذا التكتّل المدعوم من والي صيدا، وترك مَقرّ إمارته في دير القمر سنة 1709، ولجأ إلى غزير، وبعد طرده منها من قِبل خصومه لجأ إلى الهرمل واختبأ في مغارة فاطمة المعروفة أيضا بمغارة عزرائيل.
تسلّم آل علم الدين حكم الجبل بعد خلع الأمير حيدر الشهابي، لكن تجربتهم فيه كانت، كسابقاتها في العهد المعني، غير ناجحة، إذ لاقوا الصعوبات في جمع الضرائب، ولم تفسّر الأكثريّة الدرزيّة القيسيّة في الجبل تسلّمهم للحكم أنّه استعادة للإمارة الدرزية، بل فسَّرَته استعادة لنفوذ يمني لا يريدونه، فبدأوا يتصلون بالأمير حيدر، ويطلبون عودته، فترك مخبأه في الهرمل وعاد إلى الجبل في أوائل سنة1711، ونزل عند حلفائه اللّمعيين في رأس المتن، حيث بدأ القيسيون يتوافدون إليه ويتجمّعون لمحاربة اليمنيين، ثم التحموا معهم في موقعة عين داره حيث انتصر الأمير حيدر، وعاد إلى الحكم قاضياً بمساعدة القيسيّين له على محاولة آل علم الدين ومحمود باشا أبو هرموش استعادة الإمارة، إذ بات التّنافس بعد ذلك على إمارة الجبل محصورا بالأمراء الشهابيّين الذين استمرُّوا في الحكم إلى حين عزل آخر أمير منهم في سنة1841 هو الأمير بشير الثالث.

نهاية آل علم الدين والحزب اليمني
تقع عين داره إلى الغرب من مَمَرِّ ضهر البيدر عند المدخل الشرقي لجبل لبنان الجنوبي، وعلى مفترق الطرق المؤدّية إليه، والذاهبة منه إلى البقاع. اكتسبت بموقعها المميّز أهميّة استراتيجيّة، ربما أعطتها أحد معاني اسمها: دار الحرب. واكتسبت بخراجها الواسع، الغني بالمراعي والأراضي الخصبة والمياه، أهميّة اقتصاديّة سمحت بسكنها وتزايد سكّانها، ما أعطاها أحد معاني اسمها: عين البيوت والمساكن.
كانت عين داره مقرّ آل علم الدين ومركز إقطاعهم بعد تركهم لرمطون، ثم كانت في سنة1711 مركزاً لتجمّع أنصارهم، ورجال محمود باشا أبو هرموش، بقصد أن يهاجموا، بعد استكمال حشدهم، جموع القيسيّين التي تلتقي في رأس المتن. وكان آل علم الدين يتوقّعون وصول والي دمشق الذي حضر لنجدتهم ونزل في قب الياس، ووصول والي صيدا الذي حضر لنجدتهم أيضا ونزل في حرج بيروت. لكن الأمير حيدر قام بمغامرة جريئة إذ هاجم على رأس رجاله القيسيِّين عين دارة بشكل كَبْسة ليل الجمعة في 15محرّم 1123هـ (5 آذار 1711)، وتمكّنوا بفضل عنصر المفاجأة وكثرة العدد من التغلّب على اليمنيِّين وقتل خمسمائة رجل منهم، ومعظم قادتهم بمن فيهم بعض أمراء آل علم الدين، فيما أُسِر أربعة من هؤلاء أو ثلاثة، هم منصور وأحمد ويوسف، الذين أجهزَ عليهم الأمير حيدر على نبع الباروك. وحين علم واليَا دمشق وصيدا بالنتيجة عادا إلى مقرَّي ولايتيهما ليتعاملا مع الواقع الجديد، ومع المنتصر، إذ كان الهمّ الأساس عند الولاة ضبط الأمن وجمع الضرائب أكثر من هُوِيّة الأمير الحاكم.
أُسِرَ محمود باشا أبو هرموش في الموقعة، لكن الأمير حيدر لم يقتله احتراماً للقب الباشويّة، واكتفى بقطع لسانه وإبهاميه. ثم إنه هدم قصره في السمقانيّة، وقصر أخيه هزيمة في بعقلين.
كان من نتائج هزيمة اليمنيين، في موقعة عين داره، إعادة الأمير حيدر الشهابي توزيع الإقطاع، ما أدَّى إلى بروز مشيخات درزيّة جديدة، منها آل تلحوق الذين فتكوا بآل حمدان اليمنيِّين المقيمين في قرية كفرا(الغرب)، وآل عبد الملك الذين فتكوا بالتعاون مع آل شيّا، ببني هرموش اليمنيين المقيمين في مجدل بعنا، الواقعة في الجرد، والتي لا زالت فيها حارة وبيادر في خراجها تعرف باسمهم، كما أنه ظلّت لهم أملاك مُسجّلة باسمهم حتى أوائل النّصف الثاني من القرن العشرين(31). وقد ذكرت الوثائق العثمانية قائدًا لسكّان عين داره في سنة 1564 إبّان تمرّدهم على الدولة العثمانية، وامتناعهم عن دفع الضرائب، اسمه يوسف بن هرموش، ومن المرجَّح أنّ هذا هو من أقارب آل أبو هرموش في مجدل بعنا، لكنّنا لا نعلم إذا كان هؤلاء أقارب محمود باشا أبو هرموش، أم أنّ ما يجمعهم به هو الاسم”هرموش” فقط، مع العلم أنّ اسم العائلة”هرموش” أو”أبو هرموش” هو واحد. وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن آل هرموش كان لهم إقامة في بلدة نيحا، ولهم ملكيّات عقاريّة بالقرب منها، في مرج بسري، وفي منطقة جزِّين.

آل العبد الله في الخيام يعتقدون بتحدرهم من آل علم الدين التنوخيين
آل العبد الله في الخيام يعتقدون بتحدرهم من آل علم الدين التنوخيين

عدم انقراض آل علم الدين
كما أخطأ الكثير من المؤرِّخين حين حكموا بانقراض المعنيِّين بعد موت الأمير أحمد المعني بدون عقب سنة 1697، كذلك أخطأ الكثير منهم حين حكموا بانقراض آل علم الدين في موقعة عين دارة. فمِمّا لا شك فيه أنّ مَن حضروا هذه الموقعة من آل علم الدين أُبِيدوا فيها أو أُبِيدوا بعد أسْرِهم. وممّا لا شكّ فيه أيضا أنّهم لم ينقرضوا، ذلك أنّ بقاياهم ظهرت حسبما يروى في مكانين، هما بلدة الخيام ومدينة دمشق. وعن وجودهم في بلدة الخيام يقول أمين بك آل ناصر الدين ما يلي:
“يؤكِّد آل عبد الله في(خيام مرجعيون) ومن كبار زعماء الشيعة في جبل عاملة أن لديهم من الاستدلالات التاريخية الثابتة ما يرجعهم إلى آل علم الدين التنوخيين، وأنّ جدّهم نزح من مواطن التنوخيين في مشارف الغرب والجرد إلى بلدة الخيام واستقرّ فيها، وكان من نسله هذه الأسرة الكبيرة المعروفة اليوم بآل عبد الله، وكتب إلينا الحاجّ علي عبد الله مفتي مرجعيون يزيد على هذا التأكيد، أنّ في حيازة الأسرة كتابًا خطيًّا قديما موسومًا بهذه العبارة: لقد دخل هذا الكتاب في ملك موسى ابن علم الدين التنوخي من آل عبد الله القاطن بالخيام من أعمال مرجعيون سنة 750 للهجرة”(32).
إنّ الكلام الوارد أعلاه غير قابل للنقاش عندنا إلاّ فيما يتعلّق بتاريخ الكتاب الذي دخل في ملك موسى ابن علم الدين وهو سنة 750 للهجرة، إذ إن هذه السنة توافق سنة 1349م، وهي سنة لم يكن فيها، حسبما جاء في تاريخ بيروت لصالح بن يحيى وتاريخ ابن سباط، أمير من آل علم الدين اسمه موسى.
ويورد أحمد أبو سعد عن نسب آل عبد الله الكلام التالي: “أمّا المسلمون الشيعة من أبناء الخيام، فهؤلاء يرجع نسبهم كما يروي أحد أبنائهم إلى آل عبد الله التنوخيين، وما يزال البعض منهم مسجَّلاً في جدول الإحصاء القديم باسم التنوخي، والمنقول أنهم جاؤوا تلك البلدة في منتصف القرن 16، واتَّخذوها وطنًا لهم، وأوّل من جاء منهم موسى بن علم الدين التنوخي وبصحبته ولده عبد الله الذي أورث الأسرة اسمه”(33).
كانت دمشق ملجأ آل علم الدين الأول في كل مرّة ينهزمون فيها أمام المعنيّين، حيث يستظلُّون بحماية الولاة الذين يناصرونهم. ومن بقاياهم فيها أسرة مسلمة سنِّيَّة كانت أخبار نسبها ومذهبها الدرزي معلومة عند أفرادها، مجهولة عند غيرهم وعند المؤلِّفين، إلى أن كشف ذلك أحد أبنائها، عزّ الدين علم الدين التنوخي، الذي أعلن هُوِّيَّته وأصله في الثلاثينيات من القرن العشرين، فقال: “إنه من أصل آل علم الدين التّنوخيِّين”. وقد كان عضو المجمع العلمي في دمشق وأحد أساتذة جامعتها. وتسلَّم مديريّة المعارف في محافظة جبل العرب سنة 1945، وله الفضل في تكريس اسم الجبل رسميًّا (جبل العرب)، بعد أن كان اسمه في عهد الانتداب الفرنسي: جبل الدروز.
اشترك 1800 ضابط وجندي درزي من جبل العرب بتحرير الجبل من الفرنسيِّين في أواخر أيّار 1945. واشتركت في الوقت نفسه قوّة من الخيّالة الدرزية، وبعض المجاهدين الدروز، في الدفاع عن دمشق عند مهاجمة الفرنسيِّين لها يومي 29 و30 أيّار 1945، فكان هذا مبعث فخر عند عزّ الدين علم الدين التنوخي بقومه الدروز، وبقائد الثورات السورية التحرُّريّة: سلطان باشا الأطرش، فارتجل في الجامع الأموي البيتين التاليَين:
يـــــــــــــــا معشر المستعمريـــــــــــــن ترحّلـــــــــــــوا قَومي الدروز تكفَّلوا الترحيلا
سَيغولكم سلطان يهزم جمعكم فيريكــــــــــــــم يـــــــــــــوم الحســـــــــــــاب ثقيــــــــــــــلا

العدد 15