الأربعاء, نيسان 24, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, نيسان 24, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

ماذا فعلتم بطعامنا؟

إحدى أكبر مصائب العصر الذي نعيشه هو أن أهل هذا الزمن باتوا لا يجدون قُوتَهم وإن كانوا “يأكلون” أكثر من حاجتهم، وبات ما يحصلون عليه “مأكولات” شتى لكن لا ينطبق على معظمها تسمية “الطعام” الحقيقي.
والطعام بكل بساطة هو الحياة، وهو العنصر المقرر للصحة الجسدية والعقلية والنفسية، هو العنصر المقرر لنوعية الحياة بصورة عامة. والقاعدة الذهبية للطب الطبيعي هي: “كما تأكل تكون”. إن كان طعامك طبيعيا وسليما فهو سيتحول داخل جسدك إلى قوة ومناعة وطاقة حياة . وإن كان طعامك جاهزا ومعلبا ومعالجا (ورفوف المخازن مليئة بأنواع تلك الأطعمة) فإنه سيكون على الأرجح خاليا من المواد المغذّية وسيتسبب بمختلف أنواع المشكلات الصحية الظاهرة والخفية، ومعظم الأطعمة التي تباع في المخازن محشوة بالنكهات الكيميائية أو الملونات أو المواد الحافظة بينما طعام المنزل بات بدوره معتمدا على مكونات جاهزة أو لحوم المزارع وخضار الزراعة الهرمونية والكيميائية والفاكهة المشبعة بالمبيدات فأين المفرّ؟
كم من أهل هذا الزمان لا يزال في إمكانهم أن يتناولوا الطعام الطبيعي الذي كان يتناوله أجدادهم وأسلافهم؟ كم منهم يستطيع القول أنه يحصل على الطعام المناسب لصحته الجسدية والفكرية؟ الجواب سيكون صادما لأنه لم يعد هناك إلا القليل ممن يمكنهم القول أنهم ضمن هذه الفئة السعيدة من المحظوظين.
وإذا كنا نخسر غذاءنا الطبيعي الذي حفظ صحة أجدادنا ومكنهم من التصدي لأشق المهام الجسدية فما الذي يبقى لنا؟ وإذا كان حسابك في البنك هائلا أو قصرك شامخا أو كنت وجيها أو غير ذلك من أسباب السرور بنفسك فما ينفعك كل ذلك إذا كنت لا تجد ما تأكل مما كان يتوافر لأي فلّاح بسيط قبل خمسين أو ستين عاما؟
وقد أفسح ضعف القيمة الغذائية لطعام هذا الزمان في المجال أمام ظهور صناعة متكاملة هي صناعة “المُكمِّلات الغذائية” والفيتامينات وهي صناعة لم تكن موجودة عندما كان الناس يأكلون مما تجود به طبيعة أرضهم وأسلوب عيش أجدادهم، ثم ظهرت صناعة خبراء التغذية أو أطباء التغذية وبات عمل هؤلاء أن يقرروا للناس كيف يأكلون وأي مُكمِّل غذائي يجب أن يتناولوه، وفي غالب الأحيان يتعلق عمل هؤلاء بمعالجة مشكلة زيادة الوزن والبدانة الناجمة عن فوضى التغذية وفساد الأطعمة الحديثة. وبين صناعة المكملات ونصائح الإنترنت وخبراء التغذية الذين يريدون أن يديروا حياتنا بتنا فعلا في حيرة من أمرنا وفي قلق دائم، والكلّ يسأل ماذا علينا أن نأكل؟ هذا السؤال الغريب لم يكن موجودا أبدا في قاموس السلف لأن الجواب عليه كان في ما تربّى عليه كل فرد من حياة الطبيعية والقرية والبساطة. كان الطعام الصحي وغالبا الطازج (أو غير المطهي) هو القاعدة ولم يكن موجوداً في حياة الناس إلا الطعام الطيِّب النافع غير الملوّث بمعالجات الصناعة وتجّارة الغذاء، لكنه كان طعاما ينتج الفرد أغلبه من أرضه وبجهده أو يشتريه من عند جاره، أو من سوق قرية مجاورة أو من بائع متجوِّل محلي، فلا حيرة ولا نصائح ولا خبراء، إذ كان الناس أسياد غذائهم بكل ما في الكلمة من معنى، وكانوا لذلك في هناء وحرية حقيقية لأن الحرية هي انتفاء العوز إلى أي شيء من خارجك وهي أن تكون سيِّد نفسك وسيِّد حياتك في مجتمع هو بدوره حرّ وغير مرتهن في عيشه بالأجنبي أو بحادثات الزمان.
أصل المشكلة هي أننا تركنا الأرض وخبرة الأرض وحب الأرض فحلَّت علينا “لعنة الأرض” وأصبحنا “فقراء” ومحرومين رغم كل ما جنيناه بعيدا عن أمِّنا الطبيعة من مال أو ثروات، وقد بات هذا هو شقاؤنا الحقيقي وأصل كل ما نعانيه اليوم.
كيف نعود؟ وإلى أين نعود؟ وهل بقي مُتَّسعٌ للعودة؟ كيف يمكن أن نستردّ حياتنا وحريتنا؟ كيف نسترجع غذاءنا الذي لم يعد في أيدينا؟ إنها أسئلة وجودية ليس هنا مجال الخوض فيها، لكنها نقاط للتأمل لأولي الألباب.

الكابنودس

كابنودِس: حفّار ساق اللّوزيّات

العدوّ رقم واحد للمُزارع

الأرضُ المُهمَلة غير المحروثة أكبرُ سبب للوباء
وريّ الأشجار في أيار يخفّف خطر الإصابة 90%

هل حدث أن رأيتَ شجرة الخَوْخ التي تحبّها والمُحَمّلة بالثّمار الزّاهية تتبدّل فجأة، فتبدأ أوراقها بالذّبول والاصفرار وتجفّ ثمارها على الشّجرة وتصبح مثل هيكل يبعث على الحزن؟ إن حصل ذلك فإن شجرتك الجميلة قتلها على الأرجح حفّار ساق اللّوزيّات ويسمّى باللّغة العلمّية “كابنودس” Capnodis Tenebrionis.
لذلك تُعتبر حشرة الكابنودس أخطر عدوّ للمُزارع في الطّبيعة لأنّها تعمل في الظّلام تحت التّربة وقد لا ندرك أنّها أصابت مقتلاً من الشجرة إلّا بعد فوات الأوان. فما هي هذه الحشرة وكيف تعمل وكيف يمكن الوقاية منها؟

وصف الحَشَرة
الحشرة الكاملة هي خُنفساء كبيرة الحجم صلبة الأجنحة يتراوح طولها بين 3 و 4 سم تقريبا، لونها أسود يوجد على ظهر أنثاها الملاصقة للرأس بقع بيضاء مائلة إلى اللّون الرّمادي، أمّا ذكرها فأسود اللّون عموماً وأطول قليلاً ولا توجد بقع بيضاء على ظهره لكنّه يخرج معها في فترة التّزاوج لتلقيح بيضها قبل أنْ تضعه عند أسفل الأشجار. لذلك فإنّه غالباً ما يُرى الذّكر والأنثى مجتمعان على الشّجرة أو في وضعيّة التّزاوج. رأس الخُنفساء صغير مقارنة بصدرها، أجنحتها الصّدريّة عريضة الشّكل وغِمديّة أي صلبة وقاسية تُحدث فرقعة مسموعة عند كَسْرِها
لكن يجب التّوضيح منذ البدء أنّ العدوّ الأوّل الذي يُحدِث الأضرار الفادحة في اللّوزيّات ليست الخُنفساء نفسها بل يرقاتها التي تتغذّى على ساق الأشجار تحت التّربة، وتتحوّل إلى ديدان بيضاء مسطّحة برأس مفلطح قد يصل طول الناضجة منها إلى أكثر من 6 سنتم، لكن جزءاً أساسياًّ من المكافحة يمكن توجيهه للتّخلّص من الخنافس قبل أن تتمكّن من التّزاوج ومن ثمّ وضع بيضها وفقس يرقاتها وسنأتي إلى ذكر ذلك لاحقا.

عدوّ اللّوزيات رقم 1
يُعْتَبر حفّار الكابنودس العدوّ رقم واحد لأشجار اللّوزيّات والتي تضم المشمش والدرّاق والخوخ والكرز والجارنك كما انّه خَطر أيضاً على التّفاحيّات بما في ذلك التّفاح والإجّاص والسّفرجل والزّعرور وكذلك اللّوز الذي يتبع مجموعة أشجار الجوزيّات.
يفتك حفّار الكابنودس بجذور وكعوب جذوع الأشجار التي يهاجمها محدثاً أنفاقاً عريضة ومتعرّجة وطويلة قد يصل طول النّفق الواحد الى 50 سم تقريباً وتتّجه هذه الحفر نحو الأسفل، لذلك يصعبُ على المزارع اكتشافها بصورة مُبكرة لأنّ يرقات الحشرة تعمل تحت التّراب بعيداً عن الأنظار، وحتّى لو اكتُشفت فإنّ سَحْب الحفّار بواسطة سلك معدني غير مُتاح غالباً كما في حفار ساق التّفاح الذي يمكن سحبه بالشّريط لأنّه يصيب الأجزاء الظّاهرة من الشّجرة فوق التّربة ويحفر نفقاَ مستقيماً نوعا ما وغالباً باتّجاه الأعلى. أمّا أماكن تواجد وانتشار الكابنودس فهي في حوض البحر الأبيض المتوسّط وأوروبّا الوُسطى وجنوب روسيا والهند وإيران.
يرقة الكابنودس (الدودة): تَنتج عن فقس البيوض التي تضعها خنفساء الحشرة في أسفل الشجرة قريبا من التّراب، لونها أبيض مائل إلى الأصفر، وتبقى في طور اليرقة تأكل في أسفل الشجرة لمدّة عامين قبل تحوّلها إلى عذراء، طولها يصل إلى 6,5 سم تقريبا، جسمها طريّ وناعم، رأسها مفلطح وتحمل فَكّين قويّين تستخدمهما في الحفر.
العذراء: بعد اكتمال طور اليرقة تخرج هذه وتحفر حفرة في التّراب بجانب الشّجرة المُصابة تمهيداً لنسج شرنقة والتّحوّل إلى عذراء تمضي فصل الشّتاء تحت الأرض. وعندما ترتفع الحرارة في فصل الربيع وخلال شهر أيّار تخرج من شرنقتها خنفساء كاملة لتبدأ التّزاوج تمهيداً لوضع البيض في أسفل الأشجار لتبدأ دورة حياة (وتخريب للأشجار) جديدة!.

تكاثُر حشرة الكابنودس
بعد خروج أنثى الخنفساء من النّفق تصعد على الشّجر بحثاً عن الشّريك للتّزاوج ثم تبدأ بعد أيّام من التّلقيح بوضع البيض في الشّقوق القريبة من سطح التّربة حول كعب الشّجرة، وتستمرّ بوضع البّيض خلال أشهر أيّار وحزيران وتموز.
تبدأ اليرقات بعد فقسها من البيض بالتّغذية على لُحاء القشرة مُحدِثَة أنفاقاً في منطقة أسفل الساق باتّجاه الجذر الرئيسية وتملؤها ببُرازها الذي يأخذ شكل نشارة الخشب، وتستمر اليرقة في الحَفر والتّغذية أثناء أشهر الصيف والخريف لتدخل بعد ذلك في فترة بيات شتويّ (بالطّور اليَرقي) وعند بداية الرّبيع تستأنف الحفر والتّغذية. والمهم أن إصابة كعب الشجرة قد لا تقتصر على حفّار واحد إنّما في بعض الأحيان قد يصل العدد إلى أكثر من 50 يرقة مختلفة المراحل من عمرها أي بعدة أطوال وأحجام وأعمار.

عوامل تساعد على انتشار الكابنودس
• تنتشر هذه الآفة في الحقول والبساتين المُهمَلة خاصّة في المناطق التي يكون معدّل الأمطار فيها دون 600 ملم فتصيب الأشجار القليلة الرّطوبة في أسفلها.
• ضَعف الأشجار وجفاف التّربة نفسها ممّا يؤدي إلى خَسارة الشّجرة لرطوبتها وجفافها نوعا وهذا ما تحبّه الكابنودس.
• وجود أشجار مصابة بالحشرات وإهمال مكافحتها.
• عدم حراثة الأرض وإزالة الأعشاب وهو ما يساعد الخنفساء على التخفّي ويحمي شرانقها في جوف التربة من أن تقتلع وتصاب بالتّلف.

الوقاية والعلاج
• حراثة كانونيّة لكشف مداخل أنفاق عذراوات الحشرة أو السّماح لمياه الأمطار بالتسرّب إليها وموت الحشرة هذا بالإضافة الى أنّ الرطوبة عامل أساسي في مكافحة الكابنودس لأنّها تؤدي إلى مَوت يرقاتها اختناقا.
• ريّ الأشجار بشكل مُنتَظم ومكثّف خلال أشهر الصّيف لرفع نسبة الرّطوبة حول جذور الأشجار.
• العناية بالأشجار من تسميد وتقليم وحراثة وريّ وتعشيب ومكافحة لانتظام النّموّ والحمل ولإبقاء الشّجرة قادرة على مقاومة الحشرة.
• تظهر الحشرات الكاملة (الخنافس) في عزّ الظّهيرة عند ارتفاع حرارة الجوّ في شهر أيّار فتحطّ على الأشجار القريبة تمهيداً للتّزاوج، وهذه فرصة ذهبيّة لجمع هذه الخنافس باليد أو هزّ الأشجار لإسقاط الخنافس عنها ثم جمعها وقتلها. لكنْ من الضّروريّ تعاون جميع المزارعين في المنطقة الواحدة لتخفيض نسبة الحشرات وبالتّالي التّقليل من ضررها. وفي سوريا تنظّم وزارة الزّراعة حملات أهليّة لجمع خُنفساء الكابنودس ويُعطى مبلغ من المال عن كلّ خنفساء يتمّ التقاطها.
• يذكر أنّ المزارعين الذين يستخدمون المكافحة الكيميائيّة للأشجار يتدنّى لديهم عدد الأشجار المُصابة لأنّ تلك المكافحة تصيب أيضاً حشرة الكابنودس. لكننا لا نشجع على استخدام المبيدات الكيماوية بل الري على كعوب الأشجار بين أيار وحزيران
• تخفيف الثّمار في مواسم الحمل الغزيرة لأنّها تُضعف الشّجرة وتجعلُها عرضةً للإصابة بالحشرة.
• ريّ الأشجار في فترة وضع البَيض منتصف شهر أيّار كلّ أسبوعين مرة تخفف 90% من الإصابة لأنّ الرّطوبة العالية تسبّب عدم فقس البَيض وموت اليرقات حديثة الفقس .
• زراعة أصول متحمّلة للحشرة مثل اللّوز المرّ والمَحلب ومن ثمّ تطعيمها .
• التخلّص من الأشجار المُصابة إصابة شديدة بقلعها وحرقها وتعقيم التّربة مكان القلع للتخلّص من البيوض واليرقات حديثة الفقس.

المكافحة الكيماوية
ونحن لا ننصح بها بسبب مضارّها الجانبيّة الكثيرة لكن لاتّباع “الأسلوب الكيماويّ” يمكن القيام بالتّالي:
• استخدام مبيدات (ميثا داثيون) أو مبيد (ميفيغوس) ذات نفاذيّة عالية لإطلاقها أبخرة قاتلة.
• استخدام مركّبات دلتا ميثرين.
• استخدام مبيد ديازينون أو مبيد (كارباريل) أو مبيد (كاربوفوران)
وهذه تستخدم بطريقة التّعفير أو الرّش حول جذع الشّجرة لمكافحة الطّور اليَرقي حولها وعلى بعد نصف متر وذلك برشها رشّة أولى في شهر أيّار والثّانية في شهر حزيران.

الزعرور غذاء ودواء وزراعة اقتصادية

الزعرور غذاء ودواء وزراعة اقتصادية

من البرية إلى الحديقة ..وصيدلية البيت

الاستعمال العلاجي المتزايد لأزهار وأوراق وثمار الزعرور
نقل الشجرة من البرية إلى خانة الزراعات الطبية الاقتصادية

الاستعمال العلاجي المتزايد لأزهار وأوراق وثمار الزعرور
نقل الشجرة من البرية إلى خانة الزراعات الطبية الاقتصادية

حتى وقت قريب كانت شجرة الزعرور تعدّ من الأشجار البرية التي تميِّز طبيعة الجبال اللبنانية لكن دون التفات حقيقي إلى أهميتها كغذاء أو كدواء أو كقيمة اقتصادية. لكن مع تزايد الاهتمام بأجزاء الشجرة كافة (الأوراق والأزهار والثمار) كمكونات أساسية في العلاجات المكملة لأمراض الضغط والشرايين وتنظيم عمل القلب بدأ الاهتمام بهذه الشجرة القوية يتزايد أولا على شكل استزراع الأنواع المحسنة منها في البيوت ثم عبر الانتقال لاعتبارها زراعة اقتصادية قائمة بذاتها خصوصا وأن سعر الكيلوغرام من ثمر الزعرور يمكن أن لا يقل عن 15 ألف ليرة. فضلا عن ذلك فإن الطلب يتزايد من مصانع العلاجات العشبية على أجزاء الزعرور بهدف استخدامه لإنتاج مستخلص الزعرور على شكل أقراص أو على شكل شراب سائل يمكن تناوله بانتظام في أي نظام علاجي طويل الأمد لمرض ضغط الدم المرتفع أو لتقوية القلب وتنظيم عمله.
في هذا المقال تعريف للقارئ بهذه الشجرة وبالأسباب التي بدأت تجعل لها شهرة واسعة في بلادنا وفي العالم، كما يتضمن المقال بعض الإرشادات الأساسية للراغبين في زرع شجرة الزعرور سواء كشجرة لتزيين الحديقة أم لاستثمارها كزراعة اقتصادية

شجرة الزعرور
هي من الفصيلة الوردية ومن الأشجار المعمرة التي تزرع في المرتفعات الجبلية، وهي تزهر في موسم الربيع فتعطي أزهارا بيضاء تتحول إلى ثمار حمراء إلى برتقالية أو إلى ثمار مائلة إلى الصفرة وهي من متساقطات الأوراق حيث يتغير لون أوراقها في الخريف فيميل إلى الحمرة واللون الأصفر البرتقالي قبل تساقطها. ويمكن لشجرة الزعرور أن ترتفع إلى ما بين 3 و5 أمتار ويجب لذلك زرعها مع ترك مسافة لا تقل عن أربعة أمتار إلى خمسة أمتار بين الغرسة والأخرى
أنواع الزعرور
ينمو الزعرور في بلادنا كشجرة بريّة، الشائع منها يعطي ثمارا حمراء كروية تتفاوت في الحجم في موسم الصيف، وهذه الثمار مع الأوراق والأزهار ذات قيمة علاجية كبيرة في تحسين عمل القلب وتنظيم ضغط الدم، لكن تناول الثمار في موسمها تجربة غنية لأن ثمار الزعرور، بالإضافة إلى فوائدها الصحية، فاكهة لذيذة الطعم خصوصا الأنواع الجديدة التي تم إدخالها في العقود الأخيرة والتي تعطي ثماراً أكبر من ثمار الزعرور البري إذ قد يصل قطر الثمرة إلى نحو 2.5 أو 3 سنتم في مقابل سنتمتر واحد أو 1.5 سنتم للثمرة البرية.
أين نزرعها؟
نحن معتادين على زرع أشجار معدودة للزعرور وربما اكتفينا بشجرة واحدة للبيت لكن مع تنامي الاهتمام بالقيمة الاقتصادية والطبية لشجرة الزعرور فقد أصبحت هذه الشجرة العظيمة الفائدة موضوعا للاهتمام من المزارعين ومن المواطن العادي وبات بالتالي ممكنا زرع أعداد كبيرة منها في صفوف تشبه زرع الأشجار المثمرة الأخرى مثل التفاح، ويمكن لحقل الزعرور أن يكتسي في السنة الثالثة أو الرابع بهاء رائعا سواء أثناء موسم الإزهار أو عندما تكتسي الشجرة بثوب زاهي من الثمار الكبيرة الحجم نسبيا والحمراء أو الصفراء اللون. ويمكن زرع الزعرور الشائك كسياج فعال ضد الدخلاء والحيوانات البرية وبعضهم يربّي الزعرور ليصبح سياجا حول الدار لكن من الأفضل عند التفكير بزرعه في الحديقة تفادي الأجناس الشائكة أي التي تنتج أشواكا قاسية قد يصل طولها إلى 7 أو 8 سنمترات، واستبدالها بأجناس لا تحمل أغصانها أشواكا.
التربة الملائمة: يمكن لشجرة الزعرور أن تزدهر في أنواع مختلفة من التربة وأن تتحمل نسب حموضة pHمتفاوتة لكنها تحتاج إلى شمس دائمة لكي تعطي موسم إثمار جيد.
لكن رغم تعايشه مع مختلف أنواع التربة فإن الزعرور يحب التربة جيدة الصرف كما يحب الاحتفاظ بدرجة معينة من الرطوبة في التربة دون جعل التربة موحلة، ويمكن التأكد من درجة الرطوبة إذا استطعت أن تصنع بيدك كرة من التربة المحيطة بالشجرة بالضغط الخفيف عليها. وهذا يعني أن من الأفضل ري الزعرور خلال فصل الجفاف بصورة معتدلة خصوصا في السنوات الأولى من النمو.
توقيت الزرع: ازرع الأشجار في مطلع الربيع بما يعطيها فرصة طويلة حتى نهاية الصيف لكي تثبت جذورها وتبدأ بتنمية متسارعة للجذع والأغصان.وكتلة الجذور.
المسافة بين الأغراس: يمكن لشجرة الزعرور أن تنمو إلى ارتفاع 3 إلى 5 أمتار وهذا يعني أن من الأفضل ترك مسافة بين الأغراس لا تقل عن 4 إلى 5 أمتار.
الغطاء النباتي: يفضل تغطية التربة المحيطة بشجرة الزعرور بغطاء نباتي جاف بسماكة 5 إلى 10 سنتم تقريا ويستخدم في توفير هذا الغطاء لحاء الأشجار اليابسة والمتحللة والسميسمة وأوراق السنديان أو الكومبوست المصنوع في الحقل عبر تخمير بقايا النباتات والفروع الصغيرة الناتجة عن التقليم وبقايا موسم الزعتر أو غيره فهذا الغطاء النباتي مهم لحفظ رطوبة الأرض ولتخصيب التربة وتعزيز البيئة الميكروبية المفيدة للتربة ومنع انتشار الحشائش والأعشاب.

رسم إيضاحي لنبتة الزعرور
رسم إيضاحي لنبتة الزعرور

معاملة الزعرور
الري: يحتاج الزعرور إلى الري في السنوات الأولى خلال فصل الجفاف، لكن قد لا يحتاج بعد ذلك إلى الماء بسبب طبيعة الشجرة المقاومة للجفاف، ويمكن استنتاج هذه الخاصية من النظر إلى الزعرور البري المنتشر في جبالنا والتي تزدهر في الطبيعة وفي الأراضي الوعرة معتمدة على نفسها وعلى موسم الأمطار الذي يزود الأرض بما يكفي حاجة تلك الأشجار الصلبة العود من الرطوبة طيلة فصل الجفاف.
التسميد: يعتبر التسميد الطبيعي من روث الماعز والدجاج البلدي من أغنى أنواع الأسمدة وأكثرها احتواء للعناصر الأساسية ، لكن في حال عدم توافره يمكن استخدام سماد ثلاثي بنسبة 10-10-10 بمقدار كوب للشجرة على أن يوضع السماد بعيدا عن جذع الشجرة وفوق منطقة الجذور والتسميد أفضله في الخريف وليس ضروريا في الربيع. و من المفضل تغذية الغرسة بالسماد سنويا خلال السنوات الثلاث الأولى من عمرها على أن يتابع التسميد بعد ذلك مرة كل سنتين.
التقليم: تحتاج شجرة الزعرور إلى التقليم الخفيف بما يؤدي إلى إزالة تشابك الأغصان وفتح الطريق للضوء والهواء لكي يتخللها ويساعد في الحفاظ على قوتها وعلى إبعاد الطفيليات والآفات عنها. ويشمل التقليم إزالة الأغصان التي تنمو في أسفل جذع الشجرة كما يمكن أن تشمل أيضا “تجميل” الشجرة عبر استخدام أسلوب في التقليم يزيل الطابع العفوي للنمو ويعطي الشجرة شكلا جذابا. وعندها من المهم إجراء القطع بمقص التقليم بصورة مائلة قليلا مع اختيار براعم متجهة إلى الخارج وهذه البراعم هي التي ستنمو على شكل أغصان جديدة ويجب التأكد أنها ستنمو في اتجاه محيط الشجرة الخارجي وتساهم في اتساع دائرتها وليس باتجاه خاطئ كأن تنمو نحو داخلها.
يتم تقليم شجرة الزعرور في موسم البيات الشتوي لكن استخدم مقص التقليم للفروع التي يقل قطرها عن 3 سنتم ومنشار التقليم للفروع الأغلظ من ذلك وانتبه إلى الأشواك.

آفات الزعرور
أبرز آفات الزعرور هي الخنافس الطفيلية الصغيرة وحشرة المن والبق العنكبوتي وطفيليات اللحاء وهذه الحشرات يمكن أن تبدأ في أماكن محدودة لكنها سريعة التكاثر ويمكن أن تتحول إلى تهديد للشجرة ما لن تتم مكافحتها فور ظهور الأعراض. وأهم احتياط ضِدّ هذه الطفيليات هو الرش المبكر (على الحطب) بمزيج من الزيت الشتوي الجيد النوعية مع الجنزارة والكبريت الغروي، لكن انتبه إلى استخدام نوعية جيدة من الزيت لأن بعض الزيوت المغشوشة يمكن أن تؤذي الشجرة وقد تسبب يباس الشجرة في حال رشها خارج الوقت المناسب (كأن ترش بكثافة زائدة عن المعدل أو في أيام حارّة).

شجرة الزعرور عند الإزهار تضيف جمالا إلى الطبيعة
شجرة الزعرور عند الإزهار تضيف جمالا إلى الطبيعة

الفوائد العلاجية للزعرور
نتيجة الاختبارات والأبحاث العلمية العديدة فقد تم الاعتراف بالقيمة العلاجية للزعرور من قبل المؤسسات الطبية والعلمية بحيث لم يعد يعتبر من أدوية الأعشاب بل من العلاجات المكملة المقرة علميّا خصوصا في المجالات التالية:
تغذية شرايين القلب: يتسبب محتوى الزعرور من الفلافونيدات الحيوية بارتخاء الشرايين التاجية، وهو ما يزيد من تدفق الدم إلى عضلات القلب ويخفض احتمالات الإصابة بالذبحة. لكن استخدام الزعرور كعلاج طبيعي لضعف القلب يتطلب مثل أغلب العلاجات الطبيعية الصبر والوقت وقد يأخذ الأمر بضعة أشهر كي ينجح العلاج في إحداث التحسن المنشود.
ضغط الدم المرتفع: يعتبر الزعرور علاجاً قيّماً لضغط الدم المرتفع، كما أنه يرفع ضغط الدم المنخفض، وقد ثبت علميا أن الزعرور يساهم بقوة في انتظام الضغط وإبقائه ضمن المعدلات الطبيعية.
مقوِّ للذاكرة: يؤخذ الزعرور ممزوجآ مع الجنكة Ginko biloba لتقوية الذاكرة الضعيفة، وهو يعمل في هذه الحالة مع الجنكة على تحسين دوران الدم ضمن الرأس ومن ثم يزيد كمية الأوكسجين التي تصل إلى خلايا الدماغ.
منظم لدقات القلب: تعتبر أوراق وأزهار الزعرور، وكذلك عنباته علاجا أساسيا للمصابين بعدم الانتظام في ضربات القلب Heart Arrhythmia
ووفقاً للخبرة الطبية الأوروبية فإن من الممكن استخدام ثمار الزعرور لمدة طويلة دون أية أعراض جانبية. لكن يفضل دائما استشارة طبيبك في مدى فعالية استخدام العلاجات البديلة وعدم التوقف عن تناول العقاقير الصيدلانية التي وصفها الطبيب المعالج إلا بموافقته
يباع مستخلص الزعرور المركّز في جميع الصيدليات على شكل عبوات، لكن يمكن صنع مستحلب من أوراقه وأزهاره عبر نقعها كشاي في الماء الساخن، كما يمكن صنع صبغة Tincture من خلال نقع ثمار الزعرور بمادة كحولية أو بخل التفاح لمدة ستة أسابيع وهي مدة كافية لسحب الخواص العلاجية للزعرور في الصبغة والتي يمكن عندها تناولها بمعدل ملعقة صغيرة يوميا.

أخبار الصحة

الزيوت النباتية المكررة تتأكسد بسرعة عند تحميتها وتصبح ضارة أما الدهون الطبيعية مثل زيت جوز الهند والزيدة فهي أفضل بكثير كما أثبتت الدراسات العلمية

تحب المته؟ لا تشربها ساخنة جدا

أخبارُ الصِّحَّة

نظامُ العيشِ الصِّحيِّ يُقلّل كثيراً
من خطرِ الإصابةِ بالسّرطان
بات من المؤكّد أنّ خطرّ الإصابة بالسّرطان يمكن التقليلُ منه بنسبة كبيرة من خلال اتّباع نظام تغذية سليم وصِحيّ. ففي شهر آب الماضي نشر فريق أبحاث قسم الغذاء والأمراض في كليّة الصِّحّة العامة في جامعة هارفرد دراسة أثبتت أنّ تطبيق نظام صِحّي للحياة والغذاء يمكن أن يمنع 40% من حالات السّرطان و50% من حالات الوفاة بهذا المرض في الولايات المتّحدة الأميركية. وللتوصّل إلى تلك النّتيجة قام الباحثون بمتابعة نمط حياة 136,000 رجل وامرأة من الأميركيين البيض فوجدوا أن أربع عادات جيّدة تؤدّي إلى خفضٍ كبيرٍ في أمراض سرطان الرّئة والقولون والثّدي والبنكرياس والكُلى. وهذه العادات الأربع هي:
1. ممارسة نحو 150 دقيقة من الرّياضة المعتدلة في الأسبوع
2. اجتناب السّمنة والحفاظ على معدّل دهون إلى حجم الجسم لا يزيد على 18.5 للنّساء و 27.5 للرّجال.
3. عدم التّدخين.
4. عدم تناول الكحول.
5. خلاصة هذا البحث المهمّ أن السّرطان ليس قَدَراً يأتينا من الخارج لأنّنا غالباً ما نستثيره بسبب سوء الإدارة لحياتنا وغذائنا وحياتنا النفسيّة.
إلى هواة المتِّه: انتبهوا
تنبيه لا بدّ منه لهواة قرعة المَتِّه في الجبل وفي أيّ مكان يُقبِل النّاس فيه على هذه العادة الشّعبية والاجتماعية في آن: حاذروا تناول المَتِّه السّاخنة جدّا لأنّ الأبحاث الطّبيّة أثبتت الآن وجود علاقة بين تناول المشروبات السّاخنة جدّاً (وليس المَتِّه فقط) وبين ارتفاع احتمال الإصابة بسرطان المريء.
فقد التقى 23 باحثاً بدعوة من منظمة الصِّحَّة العالميّة في الشّهر الماضي بهدف تقييم الآثار الصِّحيّة لتناول القهوة والشّاي وغيرهما من المشروبات السّاخنة، واتّفق الباحثون على تبرئة كلّ تلك المشروبات في حدّ ذاتها من تهمة التَّسبّب بمرض السّرطان. إلا أنّه وعلى الجانب الآخر اتّفق الباحثون على أنّ تناولَ أيّ شراب (حتى الماء) بحرارة تزيد على 65.5 درجة مئوية يمكن أن يزيد من خطر الإصابة بسرطان المريء.
بناءً على ذلك فإنّ من المهمّ تنبيه هواة المَتِّه إلى اجتناب تسخين الماء إلى ما يقرب من درجة الغليان أحياناً قبل صبِّها نظراً لأنّ بعض الجُلساء يحبّون تناول المَتِّه ساخنة جدّاً. فهذه العادة أثبتت الأبحاث اليوم أنّها تحمل خطر التّسبّب بالأذى للمريء وغلافه الرّقيق غير المعدِّ لتحمّل الحرارة المرتفعة، وهو ما قد يتحوّل في ما بعد ومع استمرار الممارسة الخاطئة إلى سرطان مميت. وما ينطبق على المَتِّه ينطبق بالطّبع على الشّاي والزّهورات وغيرها من المشروبات السّاخنة والتي نتناولها خصوصاً في فصل الشّتاء.
وكقاعدة يمكن استخدام ميزان حرارة إلكتروني مصمم لقياس حرارة تفوق الـ 100 درجة مئوية وفي غياب ميزان الحرارة فإنّ في إمكاننا التأكّد من أنّ حرارة الماء باتت مقبولة بمجرّد القدرة على تناول الشّراب السّاخن دون الحاجة للنّفخ عليه.

أهمّيّة السّيطرة على مُعَدّل السُكّرِ في الدّم
في التّقليل من خطرِ الجلطاتِ والنّوبات القلبيّة
أكّدت دراسة علميّة نُشرَت في مجلّة نيو إنغلاند للطّب1 أنّ السّيطرة على مُعدّلات السكّر في الدم لدى مرضى السُّكّريّ المتأخّر Type 2 يحمل فوائد كبيرة لجهة الحماية من خطر الجلطات والنّوبات القلبيّة.
وقال ديفيد ناتان الدّكتور في كُلّيّة الطّب في جامعة هارفرد في شرح نتائج البحث إنّ التّحكّم وبانضباط عال بمعدّلات السكّر في الدّم يمثّل عهداً جديداً في التّصدّي لمرض السكّريّ. ورغم أنّ التحكّم بمعدّل السكّر في الدّم كان دوماً من الأمور المتّفق على أهمّيتها لاتّقاء المضاعفات الجانبيّة للمرض إلّا أنّ المسألة التي بقيت موضع نقاش كانت ما هي درجة التحكّم المطلوبة بسكّر الدّم للحصول على الفوائد الوقائيّة المرجوّة. والحال أثبتت الدّراسة التي اعتَمَدَت على متابعة 1791 من قدماء المحاربين المصابين بالسكّري، والذين تتجاوز أعمارهم الـ 60 عاماً، أنّ الفئة التي تمّ التّركيز على خفض مخزون السكّر لديها إلى درجة لا تزيد على 7% كانت أقلّ عرضةً بنحو 17% من الفئة التي عُمِل على خفض مخزون السكّر لديها بصورة أقلّ (8.4%) من حيث احتمال الإصابة بأمراض القلب والشّرايين وخصوصاً النّوبات القلبيّة.
الرّسالة الأهمّ من هذه الدّراسة هي أنّ السكّريّ مرض لا يمكن التّهاون بشأنه وأنّ الخيار الوحيد أمام المصابين به هو ممارسة أقصى درجة من الانضباط والعمل على خفض مخزون السكّر إلى ما دون الـ 6% لأنّ تحقيق هذا الهدف يؤمّن نوعيّة حياة أفضل ويخفّف كثيراً خطر الموت بالجلطات أو النّوبات القلبيّة.

حذارِ أدوية الحرقة المحتوية على الأسبرين
حذّرت وكالة الغذاء والدّواء الأميركيّة الرّسميّة من أدوية معالجة الحرقة المحتوية على مادّة الأسبرين مثل ألكا سلتزر Alka-Seltzer Original وبرومو سلتزر Bromo-Seltzer والكثير غيرها على اعتبار أنّها قد تحدث نزيفاً في المعدة في بعض الحالات. وأعلنت الوكالة أنّها تستعدّ لعقد ندوة علميّة حول الموضوع في العام المقبل لاتّخاذ الإجراءات المناسبة في ضوء النّتائج العلميّة الإضافيّة التي قد يتمّ التوصّل إليها.
إضافة إلى اجتناب العلاجات المحتوية على الأسبرين يجب على المصاب أن يكون حذراً بصورة مضاعفة في حال تعرضه لإصابات سابقة بقرحة المعدة أو إذا كان يتناول عقاقير مرقّقة للدّم أو يتناول عقار أيبوبروفن (Advil) أو مواد ستيرويدية. steroids

الدّهون الأكثر ضرراً لصِحّة القلبِ
أحدُ أبرز الخبراء العالمييّن في موضوع تأثير الدّهون على الصِّحَّة الدكتور كومرو، نشر مؤخّراً دراستين تضمنتا توضيحات مهمّة حول هذا الموضوع. فحسب الدكتور كومرو هناك نوعان من الدّهون التي تساهم في أمراض القلب وهما:
1. الدّهون المركّبة Trans fat الموجودة خصوصاً في الزيوت المهدرجة جزئيّاً. فهذه الدّهون (مثل الفيجيتالين والكريسكو وغيرهما) هي عبارة عن دهون مُشبعة لكنّها غير طبيعيّة Synthetic بمعنى أنّها لا توجد في الدّهون الحيوانيّة ولا في الدّهون النّباتيّة الطّبيعيّة، ويتمّ إنتاج 14 نوعاً منها أثناء عملية الهدرجة. ويؤدّي تناول الدّهون المركّبة (المهدرجة) إلى إحباط إنتاج الشّرايين لمادة بروستاسيكلين prostacyclin الضّروريّة للحفاظ على انسياب الدّمِ وبسبب إعاقة الدّهون المهدرجة لإنتاج تلك المادّة الحيويّة فإنّ الدّمَ قد يُصاب بالتجلّط في الشّرايين ما يزيد احتمالات تعرّض المرء للموت الفجائيّ.
2. النّوع الثّاني من الدّهون الخطرة هي الكولسترول المؤكسد والذي يتكوّن عند تحمية الزّيوت النباتيّة المكرّرة (مثل زيوت الصّويا والذّرة ودوّار الشّمس).
وأحد خصائص الكولسترول المؤكسد (وليس الكولسترول النّاجم عن مصادر الغذاء الطبيعيّة) أنه يزيد إنتاج الثرومبوكسان thromboxane وهو من العوامل التي تؤدّي إلى تخثّر وتجلّط الدّم، وهو لذلك يلعب دوراً أساسيّاً في تطوّر أمراض القلب والشّرايين حسب مقال لصحيفة نيويورك تايمز. وحسب الدكتور كومرو فإنّ سبب أمراض القلب ليس الكولسترول السّيئ (Ldl) في حدّ ذاته بل كون الكولسترول والجزيئات الدّهنيّة التي يحتويها أصبحت مؤكسدة بفعل الارتفاع الشّديد لحرارة الزيت عند تسخينه.
ويؤكّد الدّكتور كومرو أنّ الحرارة المرتفعة المستخدمة في تحمية الزّيوت النّباتيّة (زيوت القلي) تؤدّي إلى تأكسد تلك الزّيوت وتحول الكولسترول (Ldl) الذي بات مؤكسَداً إلى عامل سلبيّ بل ومخرِّب لصِحَّة الشّرايين والقلب. وبحسب الدّكتور كومرو فإنّ زيت الصّويا والذّرة لا حاجة لكي يتأكسدا عندما تجري تحميتهما على النّار لأنّ من الممكن أن يتأكسدا داخل الجسم!!

الماغنيزيوم وصحة القلب والشرايين

الخضار الخضراء اللون مصدر أساسي للماغنيزيوم الغذائي

الماغنيزيوم عنصر أساسي لصحة القلب والشرايين ومعالجة ارتفاع ضغط الدم

الماغنيزيوم

عنصر بالغ الأهمية لصحة القلب والشرايين
وعامل مساعد في معالجة ارتفاع ضغط الدمّ

النسبة الكبرى من الماغنيزيوم يمكن أخذها
من الخضار والبندورة والسمسم واللوز وبذر اليقطين

ماذا تعلم عن الماغنيزيوم وأهميته بالنسبة لصحتك؟ هل تعلم أن مئات الدراسات العلمية باتت تؤكد أن الحفاظ على مستوى جيد من الماغنيزيوم في خلايا الجسم يعتبر من أهم وسائل الوقاية من أمراض الشرايين والقلب ولاسيما ارتفاع ضغط الدم؟
هل أنت متأكد من أنك لا تشكو من نقص في هذا العنصر الحيوي وأنك تزيد بذلك مشكلة ارتفاع ضغط الدم التي قد تشكو منها، وحتى إن كنت مدركا لأهمية الماغنيزيوم فهل تسعى للحصول عليه مصنعا كمُكمِّل غذائي وهل تعلم أن في إمكانك تأمين نسبة كافية منه من خلال العديد من مصادر الغذاء الطبيعي.
فما هو عنصر الماغنيزيوم وما هي أهميته لصحة الجسد وكيف نتأكد من أننا نحصل فعلا على المعدل الكافي منه؟

بين المعادن التي يعتمد عليها جسمنا فإن الماغنيزيوم يأتي في المرتبة الرابعة من حيث الأهمية ومن حيث حجم تركزه في الخلايا، وهناك أكثر من 300 أنزيم تعتمد على الماغنيزيوم من أجل فعالية عملها، ويلعب الماغنيزيوم دورا مهما في العمليات البيوكيميائية للجسم ومن أهم هذه العمليات:
• تصنيع فوسفات الأدينوسين الثلاثي
• إرخاء الشرايين وبالتالي المساعدة على خفض ضغط الدم المرتفع
• دعم وظائف العضلات والأعصاب بما في ذلك عضلة القلب
• التكوين الصحيح للعظام والأسنان
• تنظيم سكر الدم وحساسية الأنسولين

الماغنيزيوم وصحة القلب
إن كنت مصابا بنقص في ماغنيزيوم الخلايا فإن ذلك قد يؤدي إلى تردي وظائف التمثيل الغذائي خصوصا على مستوى الخلايا، وهذا التردي يمكن أن يقود إلى مشاكل للقلب.
أضف إلى ذلك أن من الضروري أن يكون هناك توازناً بين معدني الماغنيزيوم والكالسيوم ، وتشير الدراسات إلى أن النسبة الأكبر من الناس، وبسبب عادات التغذية السيئة والتركيز على الأطعمة الجاهزة أو المعلّبة، لا تحصل على نسبة كافية من الماغنيزيوم هذه الأيام بينما هي تحصل على نسبة أكبر من المعدل من عنصر الكالسيوم، ومن المعروف أن النقص في الماغنيزيوم يتسبب في الانقباض المفاجئ والمؤلم للعضلات وهذا الأمر قد تكون له نتائج بالنسبة للقلب أيضا خصوصا في حال ارتفاع نسبة الكالسيوم في الجسم.
سبب أهمية الماغنيزيوم هو أنه يعمل كموصل كهربائي Electrolytes وهو لذلك بالغ الأهمية لكل النشاطات الكهربائية في الجسم. إذ بدون الموصلات الكهربائية مثل الماغنيزيوم والكالسيوم والبوتاسيوم والصوديوم فإن الإشارات الكهربائية يصعب أن ترسل أو يتم استقبالها وبالتالي فإن قلبك لن يتمكن في غياب تلك الإشارات من ضخ الدم بصورة كافية إلى الدماغ والذي لن يستطيع العمل بصورة طبيعية.
تشرح الدكتورة كارولين دين هذه الحقيقية في كتابها “معجزة الماغنيزيوم” بالقول أن القلب هو أكثر أعضاء الجسم احتياجا لعنصر الماغنيزيوم ولاسيما البطين الأيسر المسؤول عن ضخ الدم المحمل بالأوكسيجين إلى خلايا الجسم، وهذا يعني أن القلب من دون كميات كافية من الماغنيزيوم لن يستطيع العمل بصورة طبيعية، وسيتسبب ذلك بمرض ارتفاع ضغط الدم واضطراب إيقاع القلب وخطر السكتة القلبية وكل هذه الأعراض تحدث نتيجة نقص الماغنيزيوم أو اختلال التوازن بينه وبين عنصر الكالسيوم.
وقد أثبتت دراسة نشرت هذا العام في المجلة الأميركية للغذاء العلاجي وشملت 240,000 شخص أن هناك علاقة أكيدة بين توافر عنصر الماغنيزيوم وبين إبعاد احتمال الإصابة بالسكتة القلبية أو الجلطات وبات العلماء ينسبون إلى هذا العنصر الحيوي أهمية لا تقل عن أهمية الفيتامين (د) D والذي لم تتضح مدى أهميته للعديد من وظائف الجسد أيضا إلا في العقدين الأخيرين.
فضلا عن ذلك فإن الماغنيزيوم يعتبر عنصراً مهما في تنظيف الجسد من السموم التي تتسرب إليه من البيئة الملوثة خصوصا في المدن، لاسيما وأن أهم مضاد للأكسدة في الجسم وهو عنصر الـ glutathione يحتاج إلى الماغنيزيوم لكي يعمل بفعالية.

أهمية الماغنيزيوم العلاجية
لقد أثبتت دراسة شاملة أخرى على أشخاص غير مصابين بأمراض القلب والشرايين أن وجود نسبة وافية من الماغنيزيوم في الجسم أدت إلى التالي:
• خفض 48% في احتمالات الإصابة بضغط الدم المرتفع
• خفض 69% في احتمالات الإصابة بمرض السكري المتأخر Type 2
• خفض 42% في احتمال الإصابة بتكلّس الشرايين
كما أثبتت الدراسة التي أجريت على 32,900 شخص أن وجود معدل جيد من الماغنيزيوم يؤدي إلى خفض ملحوظ في مؤشر أعراض الالتهابات وهو المسمى CRP الذي يمكن قياسه في فحص الدم. ويعتبر نقص مؤشر الالتهاب أحد أهم أسباب الوقاية من الإصابة بالأمراض المزمنة.

أعراض نقص الماغنيزيوم
هناك فحوصات مخبرية يمكن أن تدل على معدل الماغنيزيوم لكنها ليست دقيقة بما فيه الكفاية نظرا لأن 1% فقط من هذا العنصر موجود في الدم بينما يوجد الباقي في مختلف خلايا الجسم ولهذا فإنه مع فائدة الفحص المخبري كمؤشر فإن من المهم الانتباه لأعراض نقص الماغنيزيوم التي قد تظهر أولا في إشارات مبكرة مثل فقدان الشهية والصداع والدوخة مع التقيّؤ والشعور العام بالضعف ونقص الطاقة الجسدية.
وفي الحالات الأكثر وضوحا فإن النقص المرضي في عنصر الماغنيزيوم قد يظهر في أعراض أكثر خطورة مثل:
• خدر في الأطراف والتنميل
• الانقباض المفاجئ والمؤلم في بطة الرجل عند مد الرجل وشدها Cramp
• تبدّل في المزاج الشخصي
• اضطراب إيقاع ضربات القلب
• الشعور بتقلص أو اهتزاز قوي ومتكرر في الشرايين

كيف تعزز معدل الماغنيزيوم في الجسم؟
تؤكد الباحثة الدكتورة سوزان شتاينبوم أن من الممكن الحصول على 370 ملغ من الماغنيزيوم من خلال تناول وجبات غذائية صحية وبالتالي دون الحاجة لتناوله كمُكمِّل غذائي على شكل أقراص. وأفضل غذاء يمكن تناوله لزيادة معدلات الماغنيزيوم في الجسم هو الخضار الخضراء الأوراق مثل البروكولي والسبانخ والسلق وأوراق الشمندر والخس، كما يمكن تناول الأفوكادو لاحتوائها على البوتاسيوم والذي يخفف من أثر الصوديوم على الشرايين. يجب أن يضاف إلى الخضار الخضراء اللون بذور اليقطين والكاجو واللوز والسمسم الغنيّة جميعها بالماغنيزيوم.
ويستحسن أن يضاف إلى ما سابق ثمار التوتيات مثل الفريز والتوت البري والتوت الشامي والفرامبواز وكذلك البندورة والبابايا والشمام واليقطين.
أخيرا، فإن الفائدة الأهم التي نستخلصها من الدراسات العلمية حول الماغنيزيوم هو الدور المهم الذي يمكن أن يلعبه كعامل مساعد في السيطرة على ارتفاع ضغط الدم وهذا دائما بالطبع مع اتخاذ كافة الاحتياطات الأخرى الأساسية في الأمر مثل خفض الوزن الزائد والامتناع عن السكريات والنشويات قدر الإمكان وممارسة الرياضة وخصوصا المشي والابتعاد عن المؤثرات والمحرضات التي تسبب التوتر والضغط النفسي.

عجائب الكائنات الصغيرة

عجائبُ الكائناتِ الصّغيرة

من النّحلِ والعنكبوتِ إلى النَّملِ الأعمى

{سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فُصِّلت:53)

تَعوّدنا كبشر على أن ننبهرَ بالكائنات الكبيرة والقويّة التي تشاركنا العيش على وجه هذه البسيطة وغالباً ما تَركز اهتمام العلم عليها ربّما لما نتوقّع أن نجنيه منها من فوائد أو نجتنبه من مضار. للسبب نفسه فإنّنا غالباً ما ننظر إلى عالم الكائنات الصّغيرة والحشرات كما لو أنّها بلا أهمّية ولا تستحقّ بالتّالي الدّرس. لكنّ آيات الإعجاز في المخلوقات الصّغيرة تبدو -عند التّدقيق- أكثر إدهاشا وبلاغة لأنّنا سنرى تكويناً معقّداً ومتطوراً للغاية وسلوكاً مدهشاً في دقّته في مساحة صغيرة للغاية قد لا تزيد على ملّيمتر واحد أو هي ربّما أصغر، وفي هذا ما لا يدع أيَّ مجال للشّكّ بأنّ الخلق معجزةٌ واحدة في أسرارها وعظمتها لكنّها معجزة تظهر عبر ألوف بل مئات الألوف من التّصميمات والآيات، وهو ما يجعلنا نستيقن أنّ الخلق بحرٌ لا قعر له وأنّنا رغم كل ما نتباهى به كبشر من تقدّم علميٍّ لا زلنا لم نتجاوز شاطئه. في ما يلي بعض الأمثلة على آيات الخلق كما تظهر في بعض مخلوقات الله الصّغيرة.

التّنظيمُ العجيبُ لِخليّة النّحل

عندما ترتشف ملعقة من العسل الطّبيعي الجبليّ اللذيذ فإنّك لا تفكّر على الأرجح كيف وصل هذا الغذاء الشّافي إلى مُتَناولك. فالكثير منّا يشتري العسل من السّوق كسلعة مُعلّباً بأسماء مختلفة ويستهلكه، بينما كانت تربية النّحل في الماضي حرفة يمارسها الكثيرون، ولو بتربية خليّة نحل أو اثنتين في الحديقة وكان السّابقون بذلك يعرفون عن النّحل من خلال المراقبة والخبرة ويتأملون في هذه الآية العجيبة للخلق، فماذا نعرف حقا عن عمل خلية النّحل وكم من العمليّات ومراحل التّصنيع المعقّدة تقوم بها العاملات من أجل إنتاج هذا الإكسير الذّهبيّ الذي نسعى جميعا لدعم نظامنا الغذائيّ به؟
يمارس النّحل في حياته اليوميّة مجموعة هائلة من المهامّ وهو ينظّم مجتمعه بصورة دقيقة بين الملكة والذكور والعاملات التي تتوزّع بدورها مجموعة كبيرة من المهام فمنها ما يختصّ بجلب الماء ومنها ما يختصّ بجلب العكبر أو البروبوليس وهو بمثابة “إسمنت” الخليّة ومادّة البناء ورأب الشّقوق في الخليّة وتحنيط الكائنات الدّخيلة التي يتمّ القضاء عليها ومنها ما يختصّ بجلب حبوب اللّقاح ومنا ما يعمل على جلب الرّحيق وفي الخليّة عاملات مختصّة بمعالجة الرّحيق ليصبح عسلاً ومنها ما يختصّ بعملية تجفيفه ومنها ما يعمل على تهوئة الخليّة بينما تهتمّ جماعة براحة الملكة وتغذيتها وتنظيفها (الوصيفات) وتهتمّ جماعة أخرى بتغذية اليرقات أو تنظيف الخليّة من الشّوائب (عاملات النّظافة) أو بناء الخلايا السداسيّة الشّمعيّة أو ترميمها أو إغلاقها على العسل ومنها ما يعمل في الحراسة ومنها الكشّافات التي تعمل على استكشاف المراعي الجديدة لترشد إليها العاملات، وباختصار فإنّنا أمام مجتمع في غاية التّنظيم، لكنّ السّؤال هو كيف يتمّ تقسيم العمل بين عشرات الألوف من النّحل في الخليّة ومن يحدد لهذه النّحل مهمّة جلب الماء ومن يطلب من جماعة أخرى الاهتمام بالبيض واليرقات أو صنع الغذاء الملكيّ إلخ..
الرّاهن أننا أمام ظاهرة معقّدة لها أسرارها وهي مثل كلّ أسرار الخلق وعجائب المخلوقات فلا يوجد في الكون شيء إلّا وسنراه آية على إعجاز الخالق عند التأمّل به عن قرب أو التعمّق في فهم حقيقته. لكن لنتمعّن قليلاً في العالم السرّي لجماعة النّحل.

ملكة النحل -في الوسط- محاطة بوصيفاتها . الملكة القوية هي أساس قوة الخلية وإنتاجيتها
ملكة النحل -في الوسط- محاطة بوصيفاتها . الملكة القوية هي أساس قوة الخلية وإنتاجيتها

• تنظيم الرّطوبة والتهوية: من أهم الأمور للنّحل المحافظة على نسبة رطوبة معيَّنة في الخليّة وذلك بهدف الحفاظ على جَوْدة العسل والحؤول دون فساده. فإذا زاد معدل الرطوبة أو نقص يفسد العسل ويفقد قيمته الغذائيّة. من هنا أهمّية دور العاملات التي تعمل على تجفيف سائل العسل الذي يكون أولاً ذا رطوبة مرتفعة حتى تصل بتلك الرّطوبة إلى معدّل 17 % وهو المعدّل الذي يتيح للعسل أن يحتفظ بجَوْدَته وخواصّه الغذائيّة سنوات طويلة.
• تنظيم حرارة الخليّة: إنّ حرارة القفير يجب أن تكون 35 درجة مئوية خلال 10 أشهر من السّنة وهناك مجموعة من النّحل توكَلُ إليها مهمّة تعديل حرارة الخليّة من الدّاخل من خلال قيامها بتهوية الخليّة ويمكن في أيِّ يوم حارّ أن نشاهد النّحل مُزدحما على مدخل الخليّة مرفرفاً بأجنحته لتحقيق ذلك، وفي خليّة النّحل المثاليّة يدخل الهواء من طرفها ويُدفع للخروج من الطرف الآخر حيث تعمل مجموعة من نحلات التّهوية الأخرى داخل الخلية (القفير) على دفع الهواء للخروج من زواياه جميعها.
• النّظام الصّحيّ: إنّ جهود النّحل للحفاظ على نوعيّة العسل لا تقتصر فقط على تعديل الحرارة والرّطوبة داخل الخليّة. بل على وجود نظام صحّي متكامل داخل الخليّة مهمّته أن يزيل كلّ الموادّ التي قد تسبب إنتاج البكتيريا وتلويث الخلية. والقاعدة الأساسيّة التي يعتمد عليها هذا النّظام الصّحيّ هي منع الموادّ الغريبة من الدّخول إلى الخليّة ولتأمين ذلك يقف حارسان على مدخل الخليّة بشكل دائم وإذا دخلت مادّة غريبة أو حشرة على الرّغم من هذه الاحتياطات تعمل النّحلات جميعها لإزالتها وإخراجها من الخليّة.
كما يستعمل النّحل طريقة دفاعيّة أخرى في مواجهة الأجسام الغريبة الكبيرة وإخراجها من الخليّة حيث يقوم النّحل بتحنيط تلك الأجسام بواسطة مادّة تدعى العكبر (البروبوليس) وهذه المادة ينتجها النّحل بإضافة إفراز معيّن إلى المادّة الغرويّة اللّاصقة (الرّاتنج) التي يجمعها من أشجار مثل الصّنوبر والحَور والخرّوب وتستعمَل هذه المادّة أيضاً لإصلاح الشّقوق في الخليّة، وبعد أن يضاف الرّاتنج إلى الشّقوق ويجفّ يتفاعل مع الهواء مشكّلاً سطحاً قاسياً وبالتّالي يستطيع أن يقف بوجه جميع أنواع التّهديدات والمخاطر. وتستعمل النّحلة هذه المادّة في الكثير من أعمالها.
• مُعجزة هندسيّة : يبني النّحل خلايا تتّسع كلٌّ منها لـ 80 ألف نحلة يمكنها أن تعيش وتعمل معاً وذلك عبر صنع

براويز من شمع النّحل يحتوي كلّ منها على مئات من الخلايا السّداسية الصّغيرة جدّاً والمتساوية الحجم على كلّ جهة من البرواز. وهذه المعجزة الهندسيّة يتمّ إنجازها بفضل العمل المتخصّص لآلاف من النّحل التي تستعمل هذه الخلايا لتخزين الغذاء ورعاية اليرقات.
ويستخدم النّحل البنية السداسيّة الشكل في بناء أقراص العسل منذ ملايين السّنين (تمّ العثور على أحفور لنحلة يعود تاريخها إلى 100 مليون سنة) أمّا لماذا أوحي للنحل باستخدام الشكل السّداسي وليس المخمّس أو المثمّن مثلا فلأنه هو الأنسب هندسيّاً لاستخدام المساحة بشكل أفضل لأنّها تحتاج إلى أقلّ كمية من الشّمع اللّازم لبنائها بينما تستوعب أكبرَ كميّة من العسل.
• تفصيل مهمّ: من النّقاط التي يهتمّ النّحل بها عند بنائه الأقراص الشّمعيّة للعسل هي رفع زاوية الخلية 13 درجة على الجانبين مما يمنع الخلايا من أن تصبح موازية للأرض وبالتالي يمنع ذلك تسرّب العسل من فُوَّهَة الخلية. وخلال العمل تتعلّق النحلات العاملات بعضها ببعض على شكل دوائر وتحتشد في مجموعات بهدف تأمين الحرارة اللّازمة لإنتاج الشّمع.
• لغز هندسة قرص الشّمع: وهناك نقطة أخرى مثيرة للانتباه هي أنّ قرص العسل يتمّ بناؤه كثلاثة أجزاء منفصلة من كلّ الاتّجاهات لكنّ الأجزاء تلتقي مع بعضها بشكل مثاليّ وكأنّها قطعة واحدة على الرّغم من وجود مئات الزّوايا المختلفة في تصميمها. وللقيام بمثل هذا التّصميم يحتاج النّحل إلى حساب المسافة بين نقاط البدء والوصل قبل البدء بالعمل ومن ثم تصميم أبعاد الخلايا بحسب ذلك لكن كيف يمكن لآلاف النّحلات القيام بهذه الحسابات؟
• كيف يحدّد النّحل اتجاهه: لكي يجد النّحل غذاءه عليه أن يطير لمسافات بعيدة وأن يقوم بالمسح الشّامل لمناطق شاسعة ومن ثمّ يقوم بجمع لقاحات الأزهار والموادّ الأساسيّة لصنع العسل ويحدث ذلك على بعد نحو 800 م من القفير.
والنّحلة الكشّافة التي تجد الأزهار تعود أدراجها إلى القفير لتُعلم الآخرين عن مكان وجودها وهي تقوم بوصف موقع الأزهار ونوعها وبُعدها واتجاهها بالنّسبة للشمس بواسطة تنفيذ “رقصة” تتكرّر لمرّات عديدة تتضمّن المعلومات اللّازمة حول الانحدار والاتجاه والمسافة وتفاصيل أخرى عن مصدر الغذاء يُمكِّن النّحلات الأخريات من العثور على المرعى.
وتنفّذ النّحلة رقصتها على شكل الرقم ثمانية باللغة الانجليزية باهتزاز لذيلها على شكل خط متعرج. ثم تقوم النّحلة العائدة من مصدر الغذاء بمجموعة من الحركات بجسمها لإخبار النّحلات عن المسافة للوصول إلى رحيق الأزهار فتهزّ النّحلة الجزء الأسفل من جسمها فتولّد تياراً هوائيّاً. فمثلاً لكي تشير إلى مسافة مقدارها مئتان وخمسون متراً، تحرّك الجزء الأسفل من جسمها 5 مرات في نصف دقيقة. وبهذه الطّريقة يتّضح موقع مصدر الغذاء بالتّفصيل من خلال المسافة والإحداثيّة.
ولكن النّحلة تواجه مشكلة وهي أنّها تستطيع أن تحدّد موقع المرعى الزّهري بحسب اتّجاه الشّمس لكن خلال رحلة العودة إلى قفيرها فإنّ الشمس تكون قد تحركت بمقدار درجة واحدة كلّ أربع دقائق ولكنّ النّحلة تستطيع القيام بحسابات المسافة والاتجاه مع الأخذ في الاعتبار تغيّر الضّوء الصادر من الشّمس في الأوقات المختلفة من النّهار. وبالتّالي فهي تحدّد اتّجاه الهدف بدون أيّ خطأ وذلك بالقيام بالتّعديلات المناسبة على المعلومات التي تعطيها في القفير عندما تغيّر الشّمس موقعها.

حارسات الخلية تمكنت من قتل اليعسوب المهاجم لكنها تكبدت خسائر
حارسات الخلية تمكنت من قتل اليعسوب المهاجم لكنها تكبدت خسائر

• طريقة تحديد الزّهور المستهلكة:يستطيع النّحل أن يعرف إذا ما كانت إحدى العاملات قد زارت الزّهرة من قبل أم لا، وعندما يقرّر أنّ إحدى النّحلات استهلكت رحيق هذه الزهرة يتركها مباشرة وبهذه الطّريقة يوفر الوقت والجهد. ولكن كيف يفهم النّحل دون أن يتفحّص الزّهرة أنّ الرّحيق قد تمّ استهلاكه مسبقاً؟.
الجواب هو أنّ النّحلة التي تزور الزّهرة تترك عليها نقطة ذات رائحة مميّزة وعندما تنظر نحلة جديدة إلى الزّهرة ذاتها تشمّ هذه الرّائحة وتفهم أنّه لا فائدة فيها وتذهب مباشرة إلى زهرة أخرى وبالتّالي لا تضيّع النّحلات وقتها على الزّهرة ذاتها. وهذا الأمر يساعد أيضا عمليّة تلقيح أزهار الأشجار المثمرة لأنّ النّحل يركّز فقط على الزّهرة التي لم يتمّ تلقيحها بعد ممّا يضمن تلقيح الأزهار كلّها. العنكبوت، هذا الكائن الصّغير الذي لا يشدّ انتباه أكثر النّاس، هو في الأصل واحد من التّجلّيات التي تُظهر الإبداع الكامل لخلق الله عزّ وجل ، و لمعرفة هذا علينا أن نراقب العنكبوت عن كثب، عندما يقال عنكبوت، أوّل ما يخطر بالبال شبكة العنكبوت، و بالتّأكيد هذه الشّبكة واحدة من خوارق التّصميم. لشبكة العنكبوت مخطّط معماريّ مميّز، لها حسابات هندسيّة مناسبة لهذا المخطّط، لو كبّرنا العنكبوت بالنّسبة إلى حجم الإنسان، فشبكة العنكبوت التي نسجتها تعادل مئة وخمسين متراً تقريباً، وهذا يساوي علوّ ناطحة سحاب ذات خمسين طابقاً. كيف تنشئ العنكبوت شبكتها بهذه الخصائص؟ لإنجاز مثل هذا العمل يفترض بها أولاً رسم مخطّط كما يفعل المهندس المعماريّ، ذلك لأنّ بناءً بهذا التّصميم، وبهذا الحجم، و المتانة، لا يُبنى دون مخطّط هندسيّ، وحسابات رياضيّة تأخذ في الاعتبار عوامل الطّبيعة والغاية من بناء الشّبكة وكيفيّة توجيهها وغير ذلك من الحسابات. لكن نظرة بسيطة إلى عنكبوت ينسج بيته فإنّها ستؤكّد لنا أنّه يعمل بصورة آليّة كما لو أنّه مُبرمَج تماماً لإنجاز بيته وفق تصميم مسبق مستبطن فيه لكننا لا نراه.
وتنتج العناكب حريرها بخصائص مختلفة لأغراض مختلفة. فعلى سبيل المثال، يمكن للعنكبوت استخدام الغدد الحريريّة لإنتاج سبعة أنواع مختلفة من الحرير المشابهة لتقنيّات الإنتاج المستخدمة في آلات الغزل والنّسيج الحديثة. وحتى هذه اللّحظة لا يمكن مقارنة حجم تلك الآلات الهائلة مع بضعة ملليمترات من جهاز إنتاج الحرير لدى العنكبوت. وهناك ميزة يجب ذكرها هي تفوّق العنكبوب في إعادة تدوير وصناعة الحرير الذي ينتجه، فهو قادر على إنتاج شيء جديد تماماً عن طريق استهلاك الخيوط التّالفة لديه ليُعاد تصنيعها من جديد.

نسيج العنكبوت آية في الهندسة ..والقوة
نسيج العنكبوت آية في الهندسة ..والقوة

شبكة معجزة في خيطها وصنعها: عند مراقبة كيفيّة بناء الشّبكة تظهر لنا معجزة حقيقيّة، تترك العنكبوت أولاً الخيط الذي أنتجته في الهواء وبمساعدة جريان الهواء تربطه مع إحدى النّقاط الثّابتة، وهكذا يبدأ البناء كما ترَوْن، يستغرق بناء الشّبكة ساعة أو أكثر، والآن يتابَع هذا العمل مسرّعاً بستين ضِعفاً، تنشر العنكبوت خيوطها المشدودة من المركز باتجاه الخارج، و تجهّز هيكل الشّبكة، بعد ذلك تنسج خيطاً رقيقاً و لاصقاً راسمة حلقات من الخارج باتّجاه الدّاخل، وبذلك يصبح الفخّ جاهزاً.
ليس تصميم شبكة العنكبوت معجزة فحسب بل المعجزة تكمن في خيطها أيضاً، فخيط العنكبوت أمتن بخمسة أضعاف من الفولاذ في السّماكة نفسها، فالمتر المربّع من خيط العنكبوت يتحمّل مئة و خمسين ألف كيلو غرام، و لو صُنع حبل من خيط العنكبوت بشعاع قدره ثلاثون ملّيمترا (3 سنتم) لتمكّن هذا الخيط من حمل مئة وخمسين سيّارة مركّبة بعضها فوق بعض. أنتج رجال العلم تأسّياً بخيط العنكبوت مادّة خاصّة تسمّى كافلار، تُستخدم هذه المادّة في إنتاج الدّروع الفولاذيّة المصمّمة للوقاية من الرّصاص، باستطاعة الطّلقة ثقب أيّ شيء أمامها بسرعة مئة وخمسين متراً في الثّانية، إلا أننا لا نستطيع ثقب قطعة من قماش مصنوع من الكافلار .
أمّا خيط العنكبوت فإنّه أمتن من الفولاذ بخمسة أضعاف، ومن الكافلار بعشرة أضعاف، خيط العنكبوت الذي هو أدقّ من الشَّعر، و أخفّ من القطن، و أقوى من الفولاذ، يوصَف على أنّه -عند نسجه- يصبح أمتن مادة في العالم.

أبراجُ النّملِ الأبيضِ الأعمى

هذا البناء الشاهق هو من أقوى الأبنية وهو من صنع النمل الأبيض الأعمى
هذا البناء الشاهق هو من أقوى الأبنية وهو من صنع النمل الأبيض الأعمى

> كيف يمكن لنملة عمياء أن تشيد أبنيةً تُعتَبر (عند قياسها بحجم النّملة) مثل ناطحات السّحاب التي يبنيها الإنسان بأحدث الوسائل والتّقنيات؟
هذا العمل الفذّ والمتميّز موجود في مثال النّمل الأبيض الأعمى الذي يبني على الدّوام أبراجه العالية والتي يجعلها قويّة لدرجة أنّه حتى بني البشر لا يمكن لهم هدمها إلّا بصعوبة. إنّ النّمل الأبيض الأعمى يبني أنواعاً مختلفة من الأعشاش، وذلك وفقاً لاحتياجاته. فمن ذلك النّمل ما يبني أعشاشه لتحميه من حرارة الشّمس، ومنها ما يبني أبراجاً تحميه من المطر كما ويمكن بناء مثل تلك الأعشاش تحت التّراب أو فوقه أو – في أحيان أخرى- داخل الأشجار.
عشّ النّمل الأبيض له تكوين إسفنجيّ وهو يتكوّن من خلايا يصل عرضها إلى نحو 2.5 سم وترتبط ببعضها عبر ممرّات ضّيقة لا يمكن لغير النّمل الأبيض أن يمرّ من خلالها. إنّ الموادّ الخام التي يستخدمها النّمل الأبيض لبناء مبانيه الرّائعة وأعشاشه تلك إنّما تتكوّن فقط من التّراب واللّعاب والبُراز، وهو يستخدم تلك الموادّ البسيطة لجعل أعشاشه قويّة بحيث أنها لا تهدم إلا باستخدام الديناميت ويُعتبر نظام تلك الأعشاش قمّة في التّفصيل والمتاهات والممرّات والطّرق المستديرة لغايات تنظيم دخول الهواء والنّمل والطّعام…
أمّا الجانب الأكثر إعجازاً والأكثر إدهاشاً فهو أنّ ذلك النّمل الأبيض أعمى تماماً وهو يعيش كذلك طيلة حياته، لكنّه يبني أعشاشه العظيمة الطّول والقوة الهائلة والرّوعة دون رؤية الأنفاق والممرات التي يصنعها، ولا الموادّ ولا التّراب الذي يستخدمه ولا محيط المكان…
قد يصل طول “قرية” النّمل الأبيض الأعمى إلى 443 مترا وعلى الرّغم من صغر حجمها (من 1 إلى 2 سنتم) فإنّها تبني أعشاشاً عملاقة قد يصل ارتفاعها إلى 7 أمتار. وعلى سبيل القياس فإنّه لو كان النّمل الأبيض بطول الإنسان فإنّ أعشاشه ستكون أعلى بأربع مرات من مبنى الأمباير ستيت بل وأطول من برج خليفة.

هذا البناء الشاهق هو من أقوى الأبنية وهو من صنع النمل الأبيض الأعمى

القرآن، ونشأة النحو العربي – شوقي حماده

القرآنُ الكريمُ
ونشأةُ النَّحوِ العربيِّ

نسخة نادرة من ديوان أبو الأسود الدؤلي تعود إلى صفر 380 وهي محفوظة في مكتبة جامعة لايبزيغ الألمانية copy
نسخة نادرة من ديوان أبو الأسود الدؤلي تعود إلى صفر 380 وهي محفوظة في مكتبة جامعة لايبزيغ الألمانية

لم يكن تأثير الدّين محصوراً في النّظم السياسية والاجتماعيّة وحدها، فللدّين تأثير جوهريّ على الحياة الفكريّة، ومن ثمّ يكون تأثيره على روحِ الحضارة فضلاً عن مقوّماتها. وتأثير الدّين في الثّقافة الإنسانية واضح في قول الشاعر والمفكر البريطاني توماس إليوت: “لا يمكن أن تظهر ثقافة أو تنمو، إلّا وهي متّصلة بدين”. وهذا الأمر صحيح الى حدٍّ بعيد، بالنسبة للإسلام، فإن مختلف ضروب العلم الإسلاميّ، قد تأثّرت – نشأةً وتطوّراً – بالعقيدة الإسلاميّة، وقد تأثّرت دراسة اللّغة – عند المسلمين – بالمنهج الإسلاميّ، كما تأثّرت المادّة اللّغوية بالإسلام، فنشأةُ الدّراسات اللُّغوية بدأت متأثّرة بحاجات دينيّة، وضرورات اجتماعية ناتجة عن الدّين، وإن كانت تختلف – في الأسباب المباشرة – عن غيرها من العلوم الإسلاميّة، ومصدر هذا الاختلاف، يعود، عندي، إلى محور الدّين، وهو القرآن الكريم، والقرآن نصٌّ عربي. وإذا كان لا بدّ من نقل الأمم الإسلاميّة، على تنوّع ألسنتها واختلاف لهجاتها، إلى القرآن والعربيّة، فكيف يتمّ هذا النقل ــ يا رعاكَ الله– بغير تناول اللّغة التي نطق بها القرآن؟ بيد أنّ نقل هذه الأمم-على امتداد الآفاق- إلى القرآن، يتطلّب أولاً توحيد النّصّ القرآني، ولم يتمَّ توحيد هذا النص إلّا في عهد الخليفة عثمان بن عفّان (ر) سنة 35 هـ / 655 م، حين جمع الناس على مُصحفٍ واحد، فمهّد بذلك الطّريق الى ضبط النَصّ ضبطاً دقيقاً، وهي الخطوة الأولى التي فتحتْ باب الدّراسات النّحويّة بأسرها.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنّنا نشّك فيما ذهب إليه ابن فارس1، من أنّ النّحو في اللّغة قديم، ثمّ أتت عليه الأيّام، حتى جاء أبو الأسود الدّؤلي2، فأحيا ما اندرس منه.
كما أننا نشكّ في أن يكون ظهور اللَّحن أو شيوعه، هو السّبب الأساسيّ في نشأة الدّراسات النّحوية، وإلّا لظهرت محاولات نحويّة في العصر الجاهليّ، أو في عهد الرّسول (ص) وأبي بكر وعمر (ر) وهو ما لا نجد له أصلاً في ما ترويه كتب التاريخ ومصادر اللغة – باستثناء – نصٍّ يتيم وحيد، نسب نشأة النّحو إلى عهد عمر، وقد نقلها عن ابن الأنباري3 ابن قاضي شهبة4، ثمَّ نقلها عنهما السّيوطي5. وابن الأنباريّ من علماء القرن السادس للهجرة، وكانت وفاته سنة 577 ه / 1181 م، فانظر إلى الفترة الطّويلة التي تتجاوز خمسة قرون، لم ينسب، في خلالها، أحد وضع النّحو الى عهد عمر بن الخطاب (ر).
ومشكلة ابن الأنباري – رغم معرفته بأسرار اللغة – أنّه كان ضعيف الرّواية، فهو لا يذكر عَمّن روى، ولا ممّن أخذ، وهو – فوق هذا كلّه – ممّن لا يتحرّزون ولا يحللّون، إذ يذكر روايات كثيرة يناقض بعضها بعضاً دون أن يحفل بتحقيقها، فهو يضيف إلى هذه الرّواية التي تنسب وضع النّحو إلى أبي الأسوَد الدؤلي بأمرٍ من عمر (ر)، روايات أخرى تنسب السَّبب في وضع النّحو إلى الإمام علّي بن أبي طالب كرّم الله وجهه و إلى زياد بن أبيه6، كما يسند وضع النّحو في روايات لاحقة إلى عبد الرحمن بن هوفر ونصر بن عاصم7، دونما تحليل لسَنَد هذه الروايات، أو مادّتها، فإذا أيّدنا صحّة هذه الرّواية، فلأنها لا تتناقض مع ما تحتّمه الظروف الموضوعية، من استبعاد البدء في الدراسات النحوية – بأي وجهٍ من الوجوه– قبل عهد عثمان بن عفّان (ر)؛ إذ يمكن تفسير هذا النّحو الذي أمر الخليفة عمر أبا الأسود الدؤلي بوضعه، بأنه ليس هو ما يعنيه الباحثون من تناول الظواهر التركيبية بالتعقيد8 والدّرس، بل هو النّحو الذي ينبغي أن ينحوه قُرّاءُ القرآن الكريم، أي المنحى أو الاتّجاه أو الطريقة التي يجب أن يتّبعها معلمو القرآن في قراءته، يؤيّد ذلك ما نراه في أحد كتب الخليفة عمر إلى أبي موسى الأشعريّ، فقد استخدم فيه لفظ “الإعراب” لأوّل مرّة، دون أن يحمل مضمونه الاصطلاحي، إذ يقول: “أما بعد، فتفقّهوا في الدّين، وتعلموا السُنّة، وتفهمّوا العربية، وليعلِّم أبو الأسْوَد أهل البصرة الإعراب”

1.تمثال-للخليل-بن-أحمد-الذي-يعتبره-البعض-واضع-قواعد-اللغة-العربية
1.تمثال-للخليل-بن-أحمد-الذي-يعتبره-البعض-واضع-قواعد-اللغة-العربية

فالإعراب، هنا، بمعنى الإبانة، وعمر (ر) يقصد وضوح القراءة في كتاب الله. هذا، ولا يضيف أحد من علماء القرن السابع الهجري، أمثال ياقوت أو ابن الأثير أو القفطِيّ أو إبن خِّلكان شيئاً جديداً، وإذا كان علماء القرن السّابع الهجري هؤلاء، قد اكتفَوْا بترجيح وضع أبي الأسْوَد الدّؤلي للنّحو، مع حكاياتهم لما فيه من خلاف، فإنَّ علماء القرون التالية، قد خطا بعضهم خطوةً إذ استقرّت عندهم نسبة وضع النّحو إلى أبي الأسْوَد، دون أن يعتنوا كثيراً بما في هذه النّسبة من اختلاف، يؤكّد ذلك نصّ ابن مكتوم في تلخيصه9، و ابن نباتة في سرحه10، و اليافعي في مرآته11، و ابن كثير في كامله12، والعسقلاني في تهذيبه، وابن تعزي؟؟؟ (يرجى سؤال شوقي عن حقيقة الاسم هنا: أظنّه ابن تغري بردي وليس ابن تعزي، إذ لايجوز لنا أن نغلط في مجلّتنا)في نجومه13 ، وابن العماد في شذراته14، و البغدادي في خزانته15.
قلنا اهتمّ عمر بن الخطّاب (ر) بتعليم الإعراب لأهل البصرة، وهي أصلح مكانٍ في العراق لنشأة الدّراسات النّحوية، ذلك أنّ موقعها الجغرافي هو نقطة التقاء تتقاطع فيها الطّرق الصّحراوية الآتية من شبه الجزيرة والشّام، والمتجّهة من بلاد فارس بالطّرق البحرية الممتدّة من المجرى الأدنى للرّافدين، على ما في هذا التّلاقي الكثيف من تنوّع سكّانيّ وتعدّد ثقافيّ لألوانٍ من القبائل والبطون.
هذا العدد من العرب وسواهم من أبناء الشعوب غير العربيّة، لا بدَّ أن يُحِسّ بالمشكلة اللُّغَويّة إحساساً عميقاً، يدفعه إلى خلق “لغة مشتركة”، لتكون وسيلةً للتّفاهم بين ذوي اللّهجات المتعدّدة واللّغات المختلفة، ولا بدّ أن تصبح هذه “ اللّغة المشتركة “ مبّسطة القواعد الى أبعد الحدود ليتيّسر استخدامها في مجال الحياة اليوميّة، ولا بدّ لها أن تتجرّد من مراعاة الظّواهر الأصلية في اللّغة العربيّة، وأبرز هذه الظّواهر، الظّواهر التّركيبيّة. أمّا أوضحها دلالةً وأصعبها مركباً، فهي ظاهرة التصرّف الإعرابي، وفي مقابل هذا الدافع إلى خلق “لغة مشتركة”، لحلّ المشكلة اللُّغَويّة، لا بدّ أن يبرز حلٌّ آخر، وهو جعل العربية نفسها “اللّغة المشترَكة” ولا سبيل إلى ذلك، إلّا بوضع قواعد لها، لتصبح هذه اللّغة، أساس وحدة الفكر ودعامة لوحدة العقيدة، معنى هذا أنّ الظروف كانت مؤاتية في أواخر عهد عثمان بن عفّان (ر) للتصّدي لهذه العقبة الأساسيّة التي تواجه الفكر الإسلاميّ؛ ونحسب أنّ التحدّي اللُّغَويّ الذي واجه المسلمين، دفعهم دفعاً إلى أن يواجهوه، في مجالين متّصلين متكاملين، يتمثّل أوّلهما بالعلاج السّريع للمشكلة، ونعني به ضبط القرآن ضبطاً دقيقاً حتى لا يخطئ فيه قارئوه.. ويمثّل ثانيهما، حلّ المشكلة حلّاً جذرياً على المدى البعيد، وهو دراسة اللّغة العربيّة، وفهم ظواهرها، وصَبُّ هذه الظّواهر في قواعد كلّيّة تشير إليها وتدل عليها، لتُعرَف بها، وتُتَعلّم عن طريقها.
إنّ التصدي لهذا التحدّي اللُّغَويّ، يتطلّب وعياً عميقاً للقرآن وللّغة في وقتٍ واحد، ويستدعي أن يكون المتصدّي لحلّ هذه المشكلة، حافظاً جهد الحِفظ، ولُغَويّاً واسع الدّراية؛ ومن المؤكد أنّ أبا الأسْوَد الدّؤلي، هو الذي انبرى لعلاج الجانب العاجل من المشكلة اللُّغَويّة، فقام بضبط المُصحف، وتؤكد الحقائق التّاريخيّة أنّه كان أوّل من نقّط المُصْحَف، وليس هناك خلاف في دور أبي الأسْوَد الدّؤلي الرّائد في هذا المجال16، وهو عملٌ يكشف عن أصالةٍ في الفَهم وقدرةٍ على الابتكار، وبراءةٍ من التّبعية والتّقليد.
وإذا كان أبو الأسْوَد هو الذي قام بالعلاج السّريع للمشكلة اللُّغوِيّة، فهل هو أيضاً من قام بريادة الدّراسات النّحويّة فوضع بذلك الأسس الأولى للحلّ الجذريّ للمشكلة؟
ينبغي علينا أن نحدّد معنى الواضع الأوّل للنّحو ليكون تمهيداً طبيعيّاً لمعرفة أبعاد الدّور التاريخيّ.. وفي تصوّري أنّ “الواضع الأوّل” إنّما يعني الرّائد الذي ارتاد الطّريق إلى الدّراسات النّحويّة ولا يشترط أن يكون قد وضع قواعد نحويّة مُحَدّدة، وذلك يعني أنّ ريادة الدّراسات النّحوية، يمكن أن تكون بملاحظة الظّواهر اللُّغَويّة وحدها، دون محاولة تقعيد أيّ وضع قواعد لهذه الظّواهر.
فإذا نظرنا إلى الواضع الأوّل – بهذا المعنى – فسنجد أنّ شخصياتٍ ثلاثة هي التي تنسب إليها الأوّليّة، بصورة أساسيّة، إذا نحّينا شخصية رابعة، هي شخصيّة علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، ليس لوضوح الهدف السّياسي من نسبة هذه الأوّلية اليه، فحَسْب، بل لأّنّ طبيعة الظّروف السّياسية، وعمق التّحوّلات الاجتماعيّة التي جابهت أميرالمؤمنين، فَرَضَت عليه مواجهتها وشغلته عن الالتفات إلى غيرها، وهذه الشّخصيات التي تَنْسُبُ إليها الرّوايات التاريخية ريادة النّحو هي: أبو الأسْوَد الدّؤلي و نصر بن عاصم وعبد الرّحمن بن هرمز.
إنّ أوّل رواية نسبَت ابتكار النّحو إلى هؤلاء الثّلاثة العلماء، هي رواية السّيرافيّ17 المتوفّى سنة 368 ه / 979 م، أي بعد قرابة ثلاثة قرون، لم يذكر فيها أحد، شيئاً عن نصر بن عاصم أو عن عبد الرّحمن بن هرمز، وهذه الرواية لا تعدو أن تكون رأياً فرديّاً منسوباً إلى خالد بن مهران، وقد رجّح فيها اسم نصر بن عاصم، وكذلك هي الحال في رواية السّيرافيّ الثانية، التي استندت إلى رأيٍ فرديّ منسوبٍ الى أبي النضر وقد رجّح فيها اسم ابن هرمز رائداً في النّحو. وليست الآراء الفرديّة ممّا يُعّول عليها كثيراً في صحّة الحقائق التّاريخيّة، وبخاصّةٍ حين تتعارض مع روايات أكثر قوّةً، توافَرَ على دعمها العقل والنّقل معاً.
وإذاً، فهذه الرّوايات التي استند إليها السّيرافيّ، تحمل في نفسها بذور الشَكّ، وهي – بذلك – ترجّح كِفّة أبي الأسْوَد رائداً في علوم اللُّغة. فنصر بن عاصم، هو أحد القرّاء، وكذلك ابن هرمز، وإن كان ابن هرمز يضيف إلى القراءة علماً بأنسابِ قُريش، ومعنى هذا أنّ كُلّاً منهما ذو ثقافةٍ محدودة، لا نتصّور فيها ممارسة العمل الفكري إلّا متابعةً لا ابتكاراً، وأمّا أبو الأسْوَد، فهو إنسانٌ مُلِمّ، الى حدّ كبير، بثقافة عصره فهو يحفظ القرآن، ويروي الحديث، ويحيط باللُّغة، ويقول الشِّعر.
أمّا المعاصرون من الدّارسين، فيمكن أن نميّز بينهم ثلاثة اتجاهات:
الاتّجاه الأوّل، يكتفي بسرد الرّوايات التّاريخيّة المتعدّدة، دون تقديم تفسير لاختلافها، أو الخروج بترجيحٍ بينهما.
والاتّجاه الثّاني، يعترف بدَور أبي الأسْوَد، وهو الاتّجاه الشّائع بين الدّارسين.
والاتّجاه الثّالث، يرفض الاعتراف بدور أبي الأسْوَد، وأرى أصحاب هذا الاتّجاه، وإن اتّفقوا على نفي كلّ دورٍ لأبي الأسْوَد، فإنّهم يختلفون فيما وراء هذا الاتّفاق، إذ يحاول كلٌّ منهم أن يقدِّم من يعتبره المؤسّس الأصيل للدّراسات النّحْويّة، منطلقاً من وجهة نظر خاصة، ترفض – في كثير من الأحيان – الإلمام بالظّروف الموضوعيّة التي رافقت نشأة الدّراسات النّحْويّة، وفرضت اسم أبي الأسود الدّؤلي رائداً في هذا الميدان، وهكذا وجدنا أسماء جديدة أضافها الدّارسون المحدثون إلى اسم أبي الأسود وزميليه: نصر بن عاصم، وعبدالرّحمن بن هرمز، ونسبوا إليها التّأثير الحقيقيّ في نشأة البحث النّحْويّ وعلى رأس هذه الأسماء عبد الله بن اسحق18 والخليل بن أحمد 19و سيبويه20.

بناءً على هذه الدّراسة الموجزة المستندة الى عشرات المصادر والمراجع، يمكن القول باطمئنان علميّ، إنّ أبا الأسْوَد الدّؤلي، ليس أصلح شخصيّة يمكن أن ينسب اليها وضع النّحو فحسْب، بل هو بالفعل، الواضع الأوّل للنّحْو العربيّ، وأوّل من ارتاد الطّريق الى الدّراسات اللُّغَويّة بأسرها.

مصحف جامعة برمنغهام يعتبر أقدم مصحف في العالم، ويلاحظ أنه كتب بالعربية لكن من دون تنقيط للحروف
مصحف جامعة برمنغهام يعتبر أقدم مصحف في العالم، ويلاحظ أنه كتب بالعربية لكن من دون تنقيط للحروف

الهوامش

1. أحمد بن فارس: لغوي كوفّي المذهب. له كتاب “المجمل في اللغة” و”مقاييس اللغة” توفي سنة 1004 م
2. أبو الأسود الدولي: (605 – 688م) عالم في اللغة، وحافظ، وشاعر، اليه ينسب علم النحو
3. ابن الأنباري، هو أبو البركات (1119 – 1181) نحوي لغوي، له “نزهة الألبّاء في طبقات الأدباء” “والأنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين”
4. طبقات النحويين واللغويين
5. الأخبار المروية في سبب وضع العربية (مخطوط)
6. نزهة الألبّاء
7.
8. أريد بالتعقيد: وضع القاعدة.
9. تلخيص أخبار النحويين واللغويين (مخطوط) ورقة 4 و 5
10. سرح العيون (158)
11. طبقات القرّاء (245 – 304)
12. تهذيب التهذيب 12 (10 – 11)، وانظر الاصابة (304 – 305)
13. النجوم الزاهرة 1/184
14. شذرات الذهب 1/76
15. خزانة الادب ولب لباب لسان العرب 1/136 – 138
16. وقع الخلاف، فقط في (العهد) الذي تّم فيه هذا الضبط، و(من) اسند الى أبي الأسْود القيام به.
17. الحسن السيرافي (897 – 979 م) نحوي وعالم بالأدب، له: أخبار النحويين البصريين، وشرح كتاب سيبويه”.
18. عبدالله بن أبي اسحق: هو أقدم النحاة الذين ذكرهم سيبويه، يعود اليه مدُّ القياس وشرح العلل في النحو، توفي سنة (735 م / 117 ه).
19. الخليل بن احمد: اشهر علماء اللغة وواضع علم العروض له كتاب (العين) وهو أول معجم عربي، توفي سنة (786 م / 170 ه)
20. سيبتويه: هو عمرو بن عثمان، إمام مذهب البصريين في النّحو، تعلّم على الخليل بن أحمد، توفي سنة (796 م / 180 ه).

الجوفيّة حازم ناصر النّجم

اجتماع المجاهدين في العام 1925 استعدادا لمعركة المزرعة ضد الجيش الفرنسي – الجوفيات لعبت دوما دورا أساسيا في رفع المعنويات وبث الحماسة فس المقات

الرجل داخل الحلقة دوره أساسي في إشعال الحماس في مجموعةالجوفية

العرضة السعودية تشبه في العديد من وجوهها الجوفية في جبل العرب

سلطان باشا وفريق من مقاتليه في صحراء الأردن

فرقة شعبية للجوفية تؤدي رقصتها في مدينة السويداء

الجَوْفِيّةُ في جَبل العرب

فـــــنُّ التّفاخـــــرِ وشَحْــــــذِ الهِمَــــــــم

معظمُ شعراءِ السّلف في الجبل ومن عاصرَهم
يكرهون إقحامَ الغَزَلِ في الجَوْفيّة أو يرفضونَه تماماً

في سياق تتبّعنا لنشأة الشّعر العامّيّ في جبل العرب وحركة تطوّره تستوقفنا مجموعة عناصر مهمّة في هذا الفولكلور الواسع، وقد قدّمنا في السّابق دراسة حول كيفية تحوّل لغة هذا الفولكلور في معظمها من الصّيغة اللّبنانية أو القرويّة المحلّيّة إلى الصّيغة البدويّة التي هي لغة المحيط الذي يضمّ المتمايزين في لوحة جغرافيّة واحدة ..
ومن أهمّ هذه العناصر التي نتناولها في هذا المقال “الجوفيّة” التي أخذت مساحة غير قليلة في الفولكلور قياساً إلى النّماذج الأخرى. فما هي الجوفيّة؟ومن أين جاءت تسميتُها ؟ وكيف تطوّرت خلال أكثر من قرنٍ من الزّمن في جبل العرب؟

الجوفيّة هي نموذج غنائيّ جماعيّ تندرج تحته عدّة أوزان شعريّة وعدّة ألحان، وهذا النّموذج مخصّص للأشعار الحماسيّة التي تصلح للغناء، ولا أقول إنّ كلَّ القصائد الحماسيّة تصلح للغناء بصيغة الجوفيّة وألحانها، فنحن نلمس من خلال القصائد الجوفيّة بكافة أنماطها أنّها مُختصرة، لا تتعدّى العَشَرةَ أبيات في غالبيتها العظمى، بل وإنّ أشهرها لم يتعدَّ الخمسة أبيات، وهي أيضاً تحمل الزّخم اللُّغَويّ الرّشيق والمتتابع، والذي ينضح بالحماس والتحدّي والفروسيّة وما إلى ذلك من مقوّمات القصائد الحربيّة ونلمس أيضاً أنّ معظم هذه الجوفيّات ارتبطت بالحدث أو المعركة التي قيلت فيها القصيدة، أي هي “قول على فعل”.
وقد دأبت العرب منذ القِدَم على استخدام هذا الأسلوب “الإعلاميّ” وهذا الفنّ الحماسيّ في كل وقائعها، فنجدهم يطلقون الأهازيج الحماسيّة أو الأراجيز قبيل معاركهم، ومنها ما يكون إلقاءً للشّعر ومنها ما يكون مُغنّى بشكل جماعيّ، وهذا الغناء رافقه إيقاع الطّبول والدّفوف بغية إثارة حماس المقاتلين، وزرع الرّعب في قلوب الخصم، ونلمس في تاريخ الشّعر العربي أيضاً قصائدَ نُظمت إثرَ الانتصارات السّاحقة التي عُرفت بوقائع وأيّام العرب، وكان لهذه القصائد دورٌ تاريخي في نقل ملامح بعض المعارك بل وتوثيق بعضها بشكلٍ كامل وهذا ما نجده في معظم (جوفيّات) جبل العرب من دورٍ تحفيزيّ وتوثيقيّ وإعلاميّ.
وقبل الخوض في الأمثلة لابدّ من البحث في سبب تسمية هذا النّموذج بالجوفيّة وفي منبعه الأساس.
كلمة “جوفيّة” مصدرها “الجَوْف” وهي منطقة في شبه الجزيرة العربيّة تحدّها الأردنّ من جهة الشّمال الغربيّ، ومن الجَنوب منطقة حائل وتبوك، ومن الشّمال والشّرق منطقة الحدود الشّمالية للسعوديّة، وكان لأهالي منطقة الجوف علاقات تجارة ورعي ماشية مع سكان جبل العرب، ومن خلال هذه العلاقات والاحتكاك الثّقافي الذي رافقها انتقل هذا النّموذج من الفنّ الغنائيّ الشعبيّ من الجوف إلى الجبل كما انتقل إلى سهل حوران والبادية الأردنية وعُرفَ بالاسم ذاته (جوفيّة)، وهو في الجوف (أو الجزيرة العربية بشكلٍ عام) معروف باسم (العَرْضَة)، ومع انتقاله إلى جبل العرب تغيّرت بعض معطياته الفنيّة وبالأحرى تطوّر هذا النموذج مع الزّمن، وفي الواقع فقد لعبت الجوفيّة دور وسيلة النّقل التي وثّقت الكثير من الأحداث التّاريخيّة والأسماء التي غيّبها ليل الزّمن، وهذه الأسماء تنوّعت ما بين قادة وجنود أبطال، وحتى نساء، كان لهنَّ دور مميّز في إثارة حماس المقاتلين أو المشاركة في المعارك، وأكثر ما وردَ توثيق أسماء هؤلاء النّسوة في صيغة “الاعتزاء” أو العزوة كما تسميها العامة وهذه الصّيغة تُعْتَبرُ جزءاً من الموروث البدويّ الشعبيّ، والمقصود بالاعتزاء اللّقب الذي دأبت العامة على إلحاقه بعائلة ما أو قبيلة أو حتى أفراد فيقولون “أخو نَوْضَة” وهي عزوة مسلط الرّعُوْجي أحد فرسان قبيلة العمارات، أو “أخو سميّة” وهي عزوة سلطان باشا الأطرش، أو “أخوة شيخة” وهي عزوة آل عامر في الجبل،.وهذه الأسماء جاءت من منطق الفخر بالنّسوة اللائي لعبنَ دوراً بارزاً وحماسيّاً في مسيرة الفرسان، وكان للشّعر العامّي وعلى رأسه الجوفيّة الفضل في توثيق هذه الألقاب ودلالتها. ومثال ذلك : بيت من جوفيّة لاسماعيل العبد الله في مدح أحد شيوخ الرّوله :
أخــــــــــو عَــــــــــذرا يـــــــــا صَـــــــــليــــــف العيالــــــي يــــــــــا زَبـــــــون مْدَهّنــــــــــــــات الجَديـــــــــــــــــــــلـــــــة
صليف العيالي: أي هوقائدٌ يتبعه رجال أشدّاء، زَبون : بفتح أولها تعني المُدافع الذي يذود عن الحمى ، مدهّنات الجديلة : كناية عن النّساء اللواتي يُعطّرنَ جدائلهن.
وأيضاً بيت من جوفيّة لثاني عرابي في مدح سلطان باشا الأطرش وذِكر معركة المزرعة الشّهيرة :
أخـــــــــــــــــــو سْميّــــــــــــة قــــــــــــايد الكِــــــــــــــــــــــــــــــــــــلِّ بـــــــــــــــــالمزرعــــــــــــــــــــــــــــــة عِلقـــــــــــــــت حْــــــــــروبَــــــــــهْ

الكلّ: تُلفظ “الكِلة” لتوافق القافية والوزن والموسيقى الداخليّة في الجوفيّة ذاتها

الرجل داخل الحلقة دوره أساسي في إشعال الحماس في مجموعةالجوفية
الرجل داخل الحلقة دوره أساسي في إشعال الحماس في مجموعةالجوفية

شكل وأسلوب الجوفيّة
الجوفيّة كنموذج غنائيّ جماعيّ لها شكلها وأسلوبها الخاصّان بها وهي تعتمد على الغناء المتناوب من قبل مجموعة من الرّجال حصراً ــ فهذا الغناء خاص بالرّجال دون النّساء ــ فترى مجموعة من الرّجال يشكّلون حلقة دائرية ليس لها عدد محدّد، ومن ثم يبدأ قِلّة منهم بغناء قسيم واحد من بيت الشّعر المطلوب كأن يبدأوا بالإنشاد مثلا:
هيه يــــــــــا اللي راكبين عْلَى اْلسَّلايــــــــــلْ
فيقوم باقي الرّجال في الحلقة بترديد هذا القسيم على اللحن ذاته ومن ثم تتكرّر هذه العمليّة بالتّناوب مرتين أو ثلاثة للقسيم الواحد ومن ثم تنتقل المجموعة التي بدأت الغناء إلى القسيم الثاني:
فوق ضُمّر يَمِّ طربــــــــــــــــــــا نَــــــــــــــــــــــــــــــاحِّرينـــــــــــــــــــــــهْ
وتستمر هذه العملية والانتقال من بيت إلى بيت حتى آخر القصيدة، ويرافق هذه الأبيات المُغنَّاة مجموعة حركات جماعيّة وفرديّة، فالحركة الجماعيّة متوافقة من قِبَل جميع المشاركين في الحلقة وهي عبارة عن انحناءة بسيطة إلى الأمام وانثناء في الرّكبتين يكون بسيطاً أيضاً ويحقق حركة توافقيّة بين أعلى الجسم وأسفله، لكن قد يصل الحماس بالبعض إلى ثني الجسم بكامله إلى حد ملامسة الأرض بالرّكبتين، وترافق هذه الحركة صَفْقِ الأكف في إيقاع واحد، وهذا الصَّفق يتسارع أو يتباطأ حسب تفاعل المجموعة وإيقاع الغناء.
وفي شكلٍ آخر لحلقة الجوفيّة – وهو المعتمد غالباً- تدور المجموعة ببطء باتّجاه اليمين أي بعكس عقارب السّاعة، أمّا الحركات الفرديّة فهي عبارة عن رقصة خاصّة يؤدّيها شخص بمفرده عندما يفترق عن الحلقة ليصبح داخلها، فيقوم عندها بأداء حركات حماسيّة يشجّع من خلالها جزءاً من رجال هذه الحلقة، ويتخلّل هذا الأداء الجماعي دخول شخصين يؤدّيان رقصة من نوع آخر تتوافق مع اللّحن المطروح، وهي تتطلّب رشاقة وإتقاناً فترى الشّخصين يتمايلان بشكل متوافق مع حركة الأيدي المصفِّقة التي تمتد وتنثني في تناغم مع حركة الجسد وغالباً ما يكون السّيْف حاضراً في هذه الرّقصة الفرديّة، مع الإشارة إلى أنّ الجوفيّة لها تنسيق آخر أيضاً وهو غير متداول حالياً في الجبل إلّا عند الفرِق الشّعبيّة، وهذا التّنسيق يعتمد على صَفّين متقابلين من الرّجال فيقوم صفٌّ منهما بالغناء والصّفّ الآخر يقوم بالرّد على المُغنّين القدوة

وسيلة للتعبئة الحربية
بالعودة إلى نشأة الجوفيّة في جبل العرب وقدوم هذا النموذج الحماسيّ من منطقة الجوف، فنحنُ أمام مسألة تاريخيّة مهمّة في واقع أمر هذه الجماعات التي جاءت إلى جبل العرب من لبنان وغيره وأثبتت وجودها ودافعت عن استقرارها بكل ما أوتيت من عزمٍ وفكر.
إنّ تقليد الجوفيّة يُعدّ أحد أركان هذا الدّفاع عن الوجود من المنظور الثقافيّ، فهذه الجماعات فُرِضت عليها حالة التأهّب الدّائم، ما يمكن أن نسمّيها “حالة التعبئة والاستنفار” فهي ضمن محيطها الصّحراويّ الجديد معرّضة للخطر في كلّ آن، وهذا الوضع أفرز بطبيعة الحال طقوساً للتّكتّل الجماعيّ وللوحدة المعنويّة في صفوفها ، وقد مرَّ معنا سابقاً كيف استطاعت هذه الجماعات أن تأخذ لغة المحيط المجتمعيّ الشّعريّة لتساجله فيها، وهذا الأمر لم يكن وقفاً على المواجهة الصداميّة بل كان أيضاً وسيلة للتقرّب من بعض عناصر هذا المحيط وبالسّلاح اللّغوي ذاته ، وهو الذي يشكل لُحمة المجتمع العربيّ الجامعة من حضر وبدو ..
والجوفيّة أخذت شكلها في الفولكلور الشّعبي الذي أصبحَ جُزءاً من حياة سكّان الجبل واستمرّت فيما بعد مُدوّية في أفراحهم ومناسباتهم الوطنيّة (أي في حالة الاستقرار والأمان) وأيضاً في المآتم الخاصّة بالشّهداء والأبطال فهم يعتبرون مأتم الشهيد أو البطل عرساً وطنيّاً .

آداب وطقوس الجوفيّة
من طقوس الجوفيّة وآدابها أنّه في مناسبات الفرح التي تُدعى إليها القرى تكثر الجوفيّات أثناء قدوم الوفود المشاركة، وما يثير الدّهشة في هذه الجموع التي تهزج التنظيمُ العفوي الذي أصبحَ عادةً متبّعة، فالجماعة التي تصل أولاً تدخل المناسبة هازِجةً بجوفيّة، ويستقبلها أصحاب المناسبة بالترحيب والرّد على الجوفيّة بجوفيّة مقابلة، ومن ثمّ ينتظم الجميع في حلقة واحدة، ويشتركون بجوفيّة واحدة…
وعندما يأتي وفد آخر ــ يهزج بجوفيّةٍ أخرى ــ تُنهي الجماعة الأولى جوفيّتها فوراً وتبدأ بالرّد على الجوفيّة القادمة إلى أن يندمج الوفدان وهكذا حتى تتكامل الوفود المدعوّة وذلك خلال فترة وجيزة، ومن ثم تبدأ المناسبة بكامل فولكلورها المتنوّع. وتُعتبر الجوفيّة المرافقة للوفد المشارك تحيّةً ومباركة لأصحاب المناسبة.
أيضاً نجد في أعراس الجبل ظاهرة التّحدّي (بالجوفيّة) بين أهالي القرى فكلّ قرية تتفاخر بما تحفظه من الجوفيّات النادرة أو الجديدة، وللجوفيّة في هذه الأجواء ما للضّيافة من قِيَم، فالوفد القادم من خارج القرية له الأولوية في المشاركة ويُرَد على تحيّتهِ (جوفيّته) بمثلها.
وقد أصبحت القصائد التي تُغنّى بأسلوب الجوفيّة معروفة بهذا الاسم حتى وإن لم تُغَنّى؛ أي عندما يُطلب من الشاعر إلقاء هذه الأبيات يُقال: أسمِعنا جوفيّة كذا .. وفي المناسبات المشار إليها وعندما تَهِمُّ مجموعة ما باختيار جوفيّة يَطلبُ أحدُ أفرادِها غناء جوفيّة بعينها فيقول مثلاً: (بحر) أي هو يريد جوفيّة (يا الله ويا اللي حاجزٍ موج البحر) أو يقول: (شوشة) أي يريد جوفيّة (يحلالي حمرا تحت ناثر الشوشة) ــ أي هو الفارس الشاب الفتيّ الذي يمتطي فرساً حمراء اللون، والناثر مقدّمة شعر رأسه ــ وهكذا، فتراهم يأخذون اسم الجوفيّة من قافية صدر بيتها الأول، وهذه الجوفيّات محفوظة عن ظهر قلب من قبل كلّ أفراد المجموعة بطبيعة الحال؛ فعندما يريدون الانتقال إلى الشّطر الثاني في خِضمّ الأهزوجة والأصوات الرّجولية والحماس يلمّحون بكلمة من الشّطر الجديد فتنتقل المجموعة بشكل عفوي إلى هذا الشّطر وهكذا حتى نهاية الجوفيّة .

اجتماع المجاهدين في العام 1925 استعدادا لمعركة المزرعة ضد الجيش الفرنسي - الجوفيات لعبت دوما دورا أساسيا في رفع المعنويات وبث الحماسة فس المقات
اجتماع المجاهدين في العام 1925 استعدادا لمعركة المزرعة ضد الجيش الفرنسي – الجوفيات لعبت دوما دورا أساسيا في رفع المعنويات وبث الحماسة فس المقات

أمثلة عن الجوفيّات في جبل العرب
لابدّ من التّنويه إلى أنّ بعض الجوفيّات نقلها واستخدمها أهلُ جبل العرب عن البدو كما هي بكلماتها وألحانها وربما زادوا عليها أبياتاً خاصّة بهم، ومن هذه المنظومة نورد بعض الأمثلة التي لم يزل أصحابها مجهولين إلى الآن :
كـــــــــــــلِّ مــــــــــــــــــا نــــــــــاضِ بــــــــــرقٍ ورعّــــــــــــــادِ شيوخنــــــــا فــــــــوق ذَروات يتلونــه
ربَّــــــــعَ الجيش مــــــــِن رِعيَ الاجــــــــوادِ كــــــــلِّ قَفْرهْ وِمْن العشب يــــــــــــــــرعونه
هَنَــــــــــــــــو مــــــــَن قــــــــلَّـط الصّــبــــــــح روّادِ بَيْــــــــــــــــــــــــرق العـــــــــزِّ يمشي على هونــــــــــه
ناض البرق: أي لمع، فوق ذروات: أي على إبلٍ قويّة، يتلونه: إشارة إلى تتبع البدو للمطر، ربّع: أي أقام في المرعى. الجيش: كناية عن مجموعة الإبل. من رعي الأجواد: يشير إلى رعاية أصحاب الإبل لإبلهم وحمايتها من الغزاة، هنو: كلمة تستخدم بمعنى غبط الآخر أي هنيئاً له، قلّط الصّبح روّاد: بمعنى مشى صباحاً ليرود المكان أي ليستطلعه قبيل وصول قومه .
وأيضاً هذه الجوفيّة :
حـــــــــيّ قُـــــــبٍّ لفـــــــــــــــــــــت بــــــــــــــــــــــــالعيــــالـــي فــــــــــــــــــَزْعِــــــــــــةَ المِــــــــــــــــــــــــطِــلْبــــــــــــــين الــــــــــــــــــــــرَّعـــايـــــــــا
هَنَـــوْ مَـــــــــــــــــــــن نــــــَـطّ روس الطـــــــــــــوالي واشْرَف علــــــــى البيوت القصـــايـــــــــا
يــــــــــوم حاطـــــــــــــــــــوا بــــــهـــــــــــــــــــــــــم بــــــالمفــالي خـــالط الطَرش عَــــــــــــــــــــــــــــــــــــجّ السبـــــايـــــــــا
يــــــا عشيـــري تــــــرى العمـــــــــــــر غــــــالي نــــــــــــرخصـــه عنــــــــــــد ســــــــــــــــــــــوق المنايــــــــــا
القُب: الخيل الضامرة، فزعة المطلبين الرعايا: إشارة إلى إغاثة طالبي المعونة والفزعة عند العامة: النّجدة؛ نطّ روس الطوالِ: أي ارتقى الأماكن المرتفعة، بالمفالي: المفالي: الأرض والمراعي المحيطة بالقوم، الطّرش: الماعز والغنم والمواشي (عامّيّة)، عجّ السبايا : الغبار الذي تحدثه الخيل في الغارة .

ومن الجوفيّات البدويّة التي أضاف إليها أهل الجبل أبياتاً خاصّة بهم جوفيّة مشهورة لعبيد الرشيد أمير حايل في نجد الملقّب بـ (أخو نُورة) ومن أبياتها الأساسية:
مِــــــــــــــــــــــــــــــــــــن قــفـــــارٍ لـحـايــــــــــــــــــل نشرنــــــــــــا واعتلينـــــا ظهـــــــــــــــــــــور النّجايــــــــــــب
نطْلبـــــــــــــــــــــــــــــــك لا تخيّــب ســـفـــــــــــــــــرنــــــــــــا نستجيـرك يــــــــــــا مْدير الهبايـــــــــــــب
مــــــــــــــــــــع مضيــق الشَّعيب انحدرنــــــــــــا تقـــــــل مــــــزنٍ حَدَته السحــايـــــــــــــب
حايل: مدينة جبليّه في نجد كانت عاصمة آل الرشيد قضى على نفوذهم آل سعود، نشرنا : بمعنى انتشرنا وانطلقنا هذه الأرض، النّجايب : الخيل والإبل الأصيلة، نطلبك: نرجوك وهو دعاء لله عز وجل، الشعيب: الوادي او المنفرج في الأرض، مزنٍ حَدته السحايب: المطر الغزير الذي جاء به السحاب .
أما عند أهل الجبل فهي تغنّى بروايةٍ أخرى مع إضافة أبيات عليها:
مـــــــــــــــن قفا روض حايـــــــــــــــــل نشرنـــــــــــــــا واعتلينا ظهــــــــــــــــــــــــور النّجــــايــــــــــــب
نَـــــــــــــــطْلبـــَك لا تغيّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــب سَعَدنـــــــــــــا نستجيرك يـــــــــــــــا مْدِيْر الهبايــــــــــــب
تــــــــــــــــــايـــــــــــــــه الشور ويـــــــــــــاللي تحاربنــــــا مَــــــــــــن حاربنا يذوق العطايــــــــــــب
أما الجوفيّات التي نظمها أهل الجبل فنختار أمثلة من أشهرها:
ــ أبيات من جوفيّة لثاني عرابي قيلت قبيل معركة الكفر الشهيرة (تموز 1925) وأثناء توافد بيارق الثوار إلى منطقة (العَيّن) التي كانت مكان التعبئة لخوض معركة الكفر آنذاك:
يــــــــــــــــا راكبَ اللي لو مَشَـت ما تندَرَكْ تِحِثّ حـــالَه وْ لا تحتاجِ ســوقــــــــها
مَوْرَدِها عُرمان و عــــــا جال البُــــرَكْ خيّالها ســبــــــــــع المْـزَمْجِــــــــــــــــــر فــوقــــــــــــها
جُوك الزّغابهْ يــــــــــــــــــــا رينو دوّر هـَـلَك في مــرجة العيّن انتصب سوقــها
سـُرْبَة مَلَـــــــــــح يوم اللّـــزايــــــــــــم تذهِلَك سَـــلّ السيوف تْقول لَمـــــــــْع بروقـــــــــها
ما تندرَك: لا يمكن إدراكها لسرعتها الفائقة، تحثّ حالَه ولا تحتاج سوقها: إشارة إلى أصالتها وطواعيتها العفويّة، موردها: أي مكان وِردها الماء ويريد المكان المُراد إيصال الرّسالة إليه وهو قرية عرمان، الزّغابة: صفة لازمت فرسان بلدة صلخد تشبيهاً لهم بالأبطال الزغبيين في تغريبة بني هلال، رينو (Renaud) الكابتن الفرنسي وكيل الكابتن كاربيه Carbillet حاكم الجبل آنذاك، دوّرْ هَلك: أي ارحل إلى أهلك، مرجة العيّن: بتشديد الياء هي مكان اجتماع الثّوار، سُرْبة ملح: أي جماعة قرية ملح من الثوّار.

العرضة السعودية تشبه في العديد من وجوهها الجوفية في جبل العرب =
العرضة السعودية تشبه في العديد من وجوهها الجوفية في جبل العرب =

جوفيّة من ثلاثة أبيات لجاد الله سلام
هيه يا اللي راكبين على السّــــــــــــــــلايل فوق ضُمَّر يـــــــــــمّ طَرْبـــــــــا نــــــــــــــــــاحـــرينهْ
سَلّمــــــــــــــــوا عَ ربوعنا وقـــــــــــــــــــــــــولوا لهايـــل بـــــــــالسـّــويدا ثــــــــــــــــــارنـــا حِنّــــــــــــــــــا خذينـــاْ
وامس ابـــــــــو صيــّاح دنّـــــــــى للّرحــــــــــــايل ســـــــــال دمّهْ خالط اسواق المدينــةْ
هيه : تستخدم للنّداء، السّلايل : الخيل الأصيلة، ضُمّر : الخيل الضّامرة السّريعة، يمّ طربا: أي: نحو طربا وهي بلدة الشاعر، ناحرينا: قاصدين، هايل: ابن عم الشاعر، حِنّا: أي نحن .

ومن جوفيّة لفارس حسن في مدح سلطان باشا الأطرش:
يــــــــا بــــــــاشا واظهَــــــــــــــر سَعَدنــــــــــــــــــــــــا مِـــــــــــــــــن طَــــــــبِّ عِلمَك علينـــــــــــــــــا
بــــــــالسّما يقصــــــــــــــــــــــف رَعَدنــــــــــــــــــــــــا بْـــــــــــــــــــــحُمر البيارق مشينــــــــــــــــــــــــــا
الجيــــــــــــــــــــــــــــــش تــــــــــــــــــــــــاه بْعَــدَدنــــــــــــــــــــــــا وحـــــــــول القـريّــــــــــــــــا حَـدَينــــــــــــــــــــــــــا
مِن طبّ عِلمك علينا : يريد عندما وصل نداؤك أو طلبك لنا، حَوْل القريّا حدينا: أي قمنا بغناء الحُداء على سبيل الاستجابة والتلبية..
والجوفيّات في الجبل تكاد لا تُحصى، ومن المُلفت للنّظر أنّ بعض هذه الجوفيّات أصبحت تُنسَب إلى بعض القرى كصفة ملازمة لها فيقال: (جوفيّة أهل حبران أو جوفيّة أهل حوط أو جوفيّة أهل أم الرمان.) وذلك لأنهم يعتمدون في غالب الأحيان جوفيّة محددة أثناء مشاركتهم في مناسبة خارج البلدة، فيدخلون هذه المناسبة وهم يهزجون بها وقد تكون من أشعار القرية أو لا.

مسار تطوّر الجوفيّة
لم تنقل لنا الحافظة الشّعبية أيّة قصيدة جوفيّة قيلت في المراحل الأولى من توطّن الدّروز في الجبل سوى أنّ القصائد (الشّروقية) وقصائد (الحُداء) والقصائد (الهلاليّة) كان لها حضور مميّز في عمليّة شحذ الهمم والاستنفار، وهذه يمكن اعتبارها الإرهاصات الأولى للشّعر (الشعبي) في الجبل، ولابدّ أنّ بعض هذه النّماذج وعلى رأسها الحداء استخدِمَ بشكلٍ مغنّى لأنّنا نعلم أنّ الأهازيج كانت حاضرة في مرحلة الاستعداد للحرب وفي مرحلة ما بعد الانتصار، وما وصلَ إلينا بشكل موثّق ومتداول بعض(جوفيّات) نهاية النّصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبشكلٍ كثيف وأوسع (جوفيّات) مطلع القرن العشرين. ولو أعدنا النّظر في مراحل تطوّر الشعر في الجبل فسنجدها متمثّلة بثلاث محطات رئيسة:
• المرحلة الأولى من الاستقرار في الجبل والمتمثّلة بمقارعة القبائل البدويّة أو التّحالف معها.
• المرحلة الثّانية المتمثّلة بمحاربة الاحتلال العثماني والتي تخلّلتها الحرب ضد ابراهيم باشا المصري.
• المرحلة الثالثة في مقارعة الاستعمار الفرنسي.
ومن الملفِت أنّنا لم نجد في قصائد الجوفيّات التي وصلتنا من تلك المراحل أي قصيدة جوفيّة غزليّة، وهذا الأمر يمكن اعتباره نتيجة طبيعيّة لحالة التأهّب والقتال الدّائم والتي لم تكن لتسمح بإدخال المعاني الغزليّة الرقيقة في فن الجوفيّة الحماسي بطبيعيته، وبالنّظر إلى الحِقبة الزمنيّة التي استمرّت فيها هذه الحال الفنّية الخاصّة فهي تمتدّ -حسب تقديرنا- من مطلع القرن التّاسع عشر حتى مطلع القرن العشرين أي نحو مِئة عام تقريباً، ولكنّنا نجد في خواتيم هذه المرحلة بدايةً لتسرّب القصائد الغزليّة إلى نموذج الجوفيّة وذلك من خلال قصيدة لمصطفى العبد لله قيلت على الأرجح في نهايات القرن التاسع عشر وجاء فيها :
والضّحـــــــــــــــى نطّيــــــــت انــــــــــــا المِسْتظلّي راسِ رجـــــمٍ بِهـــــــــــــا لَفــــــــــــــــــــــــــــــع الهبايـــــــــب
يـــــــــا علــــــــــــــــــي يـــــــــا بُعــــــــــــــــــد ديـــــــــران خِــــــــــــــلّي دون خِلّــــــــــــــــي بـــــــــَرَّكــــــــــــــــــــــنَّ النجايـــــــــــــب
يـــــــــا علـــــــــــــــــــــــــي يـــــــــا بكــــــــــــــــــرْتينٍ غَــــــــــــدن لــي حَدّرن عالســــوق راحــــن جلايب
يـــــــــا علــــــــــــــــــي هَـــــــــــــــــــــرج الحبيّب يِســــــــــــــــــــَلّي ســـَـلاّني هَرْجـُــكم يابو الذّوايــــب
حالــفٍ مــــــــــــــــا زِلّ عـــــــــن موقـــــــــَفٍ لــــــــــــــــــــــــــــــــــــي لو حَسرت الرّاس واضحيتِ شايب
فالشاعر هنا يشكو من بعد ديار الأحبّة، وهو يقسم يميناً أنه لن يتخلّى عن موقفه من الحبيب حتى وإن شاب شعره …
وفيما بعد هذه المرحلة بدأت القصائد الغزليّة تأخذ دورها في الجوفيّة، ذلك أنّ استخدام الجوفيّة في الأعراس مع الفنون الأخرى من (هُوْليَّة ودلعونة وقصيدة فن وغيرها) أصبحَ بحاجة إلى التّجديد، ونعزو هذه الحاجة إلى سببٍ رئيس وهو حالة الاستقرار والأمان التي سادت بعد استقلال الجبل عام 1946 أو لنقُل بعد سنوات من الاستقلال ومرحلة السّلم والاستقرار الاجتماعي، فإنّ الشعراء وأصحاب الفنون باتوا بحاجة إلى نظمٍ ومعنًى جديد يعكس تبدل نمط الحياة والظّروف، وهم وجدوا في الغزل ضالّتهم فانتشرت مجموعة جوفيّات غزلية في الجبل، مع الإشارة إلى أن معظم شعراء السّلف ومن عاصرهم لا يحبّذون إقحام الغَزَل في الجوفيّة بل إنّ الكثير منهم يرفضونه رفضاً قاطعاً إنّما بات هذا الفنّ متداوَلاً في الأعراس وهو يتمتّع برقيٍ في معناه ومبناه على كلّ حال.

العزف على الربابة أصبح عنصرا من عناصر الجوفية في الجبل
العزف على الربابة أصبح عنصرا من عناصر الجوفية في الجبل

بعض الأوزان المعتمدة في الجوفيّة
الجوفيّة كما تبيّن لنا نموذج وليست وزناً محدّداً، وقد أخذ سكّان الجبل غالبية هذه الأوزان من البدو وهم في الواقع اعتبروها ألحاناً أو ما يسمّونه (لَهواً) أي نموذجاً غنائيّاً ولم يعتنوا باسم البحر الخاص بالقصيدة أو بجوازاته وما إلى ذلك حتى مرحلة متأخّرة من تاريخ هذه النّماذج، ونشير هنا إلى بعض الأوزان المستخدمة في الجوفيّة ومنها: الرّجز ومثاله أبيات من جوفيّة لصالح عمار الشاعر الشعبي للثّورة السورية الكبرى، يقول:
يـــــــــــــا الله ويــــــــــــــا اللي حاجـــــزٍ موج البحر يـــــا خالقي يـــــا اللي دعــــــــــــــانــــــــــا تِســـمـــــــــــــعِ
تجعــــل سَـــعَدنـــــــــا عاليــــــــــــــاً فوق البشــــر قيـــــــــدومنــــا يشبـه شَبيب التُّبّـــــــعي
لَ صار حنّا نجوم وسلــــطان القـمر باربعْ طًعش نيسان يومِ انْ يطلعِ
غربِ السّجن بالمزرعة شرقي بُصُـــر دم الفـــرنســـي بــــــــــــــــالمواطــــــي مَنْـــــــــــــــــقَعِ
كــــــــــــــم فارسٍ منّـــا على الخصـــم انحدر مثل الصــّـواعق مـــــــــــــــــــع بــــــــــــــــــــــــــــروقٍ تشلعِ
ومن هذه الأوزان أيضاً: الهجيني الطّويل ( الموافق لبحر الرَّمَل ) ومثاله أبيات من جوفيّة للمجاهد زيد الأطرش :
من هضابٍ شاد اهـــــــــــــــــَلْنا فوق مِنّهْ موطنــــــــــاً للعــــزّ موفـــور الكـــــــــــــــــرامَهْ
مـــــــــــــــــــن جبل حــــــــــــوران بِيَعــرُب تِكَنّى يا المْشَكِّك دونك وشـاح الوســـامهْ
أبعَثـــــــــــَه منِّـــــــــــــــي تحيّــــــــــــــاتٍ ومِنّـــــا بالأصالة والنّيــــابة عْنَ النّشــامهْ
ربعنــــــــــــــــــــــا درع الوطن من يـوم كُنّــــــا ان قادنــــا سلطان نشفي لهْ مرامه
أبعثــــــــــــــــه لجيـــــــــــــــــــــــــوش تــــــــــــــدفع عن وطنّـــا عاديــــاتٍ من دَهَــرْنا بــــــــــــــــــالحســـامهْ
وأبيات لعيسى عصفور وهي من وزن المسحوب ( الشروقي ) :
لي ديرةٍ تَذْرِي علـى كــــــــــــــلْ ملـهوف نــــــــــــوِّخ وريِّـــــــــضْ لا تهــــــــــــــــــاب الرّزايـــــــــــا
حِنّا بها يا مَسْنَدي عيال معــروف الغُلمـْـــــــة الـــــــــــــــــــــلـي يرعبــــــــــــــــــــــــــون المـنايـــــــــا
كم سُربةٍ للصَدّ مــــــــــا تعرف الخوف حـــــــــــــامـــوا عليـها مْرَقّـعــــــــــــين العَبايــــــــــا
والمجال يقصر هنا عن ذكر كلّ الأوزان التي دخلت في مجال الجوفيّة فقد استحدث بعض الشعراء أوزاناً جديدة من خلال اختزال البحور أو إردافها بتفعيلة أو أكثر كما رأينا في جوفيّة (ذلول وياللي نشدّه) ومن هذه النماذج (نمط من الهجيني) كما يسمّى في الجزيرة العربية اشتهرت قصيدة لشاعرٍ اسمه (الصغيّر) شاعر القصيم من أبياتها :
نحمـــــــد الله جميــــله شــــيخنـــا صار منّا
نـــــــــــــــــــافـلٍ كـلّ جيــله من ســــــــــلايل مهنّـــا
هيه يـــــــــا بو جديــــله فــــــــوق متنـــه تِثنّـى
الرـــــــــّدي لا تجي له ذاك مـــــا هوب منّا

الجوفيّة الآن في الجبل
لابدّ أن التطوّر لعبَ دوراً مهمّاً في تغيير شكل الجوفيّة وطقوسها، ذلك أنّ بعض الآلات الموسيقية باتت ترافق الجوفيّة مثل الرّبابة ( في السّهرات التراثيّة ضمن المضافة وقد لعبت الرّبابة دوراً مهمّاً في الحفاظ على جزء كبير من الجوفيّات التي كادت أن تندثر ) والدَّف أو الطبلة (وهذا ما تنفر منه الذائقة السليمة) والعود وبعض الآلات الموسيقية الكهربائيّة التي أخرجت الجوفيّة بشكل أغنية حديثة مسجّلة في استديو، وقد دخل الصّوت النّسائي في بعض هذه التسجيلات، وأصبحت الجوفيّة الأصيلة مقتصرة على بعض القرى في الجبل وبعض الفرق الشّعبية التي أنقذت ما تبقّى من هذا الإرث الفنّي التاريخي وعلى رأس هذه الفرق ( فرقة العاديات ) التي تعمل على إحياء كافة الفنون الشعبيّة في جبل العرب.

فرقة شعبية للجوفية تؤدي رقصتها في مدينة السويداء
فرقة شعبية للجوفية تؤدي رقصتها في مدينة السويداء

تمثيليّة “السّحجة” في فن الجوفية
نزال وهياج وأسر وصلح وتهليل وشماتة

تعتبر تمثيلية “السحجة” ركنا أساسيا من فن الجوفية في جبل العرب وكما يتضح من مجرياتها فإنها مستوحاة من الحرب والقتال الحماسي وأسر العدو ثم فكّ الأسرى بالمناشدة أو الحيلة.. وتبدأ التمثيلية قُبيل إنهاء القصيدة الجوفيّة عندما يأتي أوان ما يدعونه “ربط الحاشية” كتكملة لِلّوحة الفنّية الفولكلورية للعرس وهذه “التمثيلية الشعبية النمطية تبدأ عادة بتمثيل معركة بين فارسين ينفصلان عن حلقة الجوفية إلى داخلها ويشرعان في مبارزة وهمية بالسيف أو بالعصا، وعلى وقع هذا النزال تتصاعد حماسة الحلقة فيشارك به الجميع في ما يسمى “السحجة” وهي قيام أفراد الحلقة بالتجاوب مع معركة الفارسين بصفق الأيدي بقوة مع إصدار نبرة صوت (الدّحيو) بحيث يتشكّل من مجموع هذه الأصوات صوت واحد راعب وتصبح الرقصة كلها مثل رقصة حرب..
وبعد أن يتعب المتبارزان من النزال والتهييج يتوقّف السّحج وما يرافقه من صخب فيقوم واحد أو أكثر ممّن هم في دائرة السّاحجين بالدّخول بين عنصري الحاشية فيمسكان بهمها تمثيلاً لعملية الأسر، وعندها تنتقل الجوفيّة إلى نموذج آخر بقصيدةٍ ولحْنٍ مخالفين غرضهما هذه المرة مناشدة الآسر فك أسر رهينتيه..
هكذا وبعد كل بيت من الإنشاد يردّد المتحلّقون لازمة لاتتغيّر هي:
هلا …هلا بك يا هلا وانت حليــــــــــــــــفي يـــــــــــــــــــــاولـــد1
ويتضمن الإنشاد الجماعي في هذه المرحلة عروضاً كلاميّة لدفع “الفِديَة” ونوعها من جمال وغنم وخيول ومال من ليرات فضّيًة وذهبيّة عثمانيّة وإنكليزيّة وغيرها لآسر المتبارزين (اللّذين كانا يهيّجان الجوفية بالرّقص العنيف داخل حلقة الساحجين) كي يطلق سراحهما وهو بدوره يرفض كلّ المغريات المادّية إلى أن يذعن بعد عروض طريفة في نهاية المطاف ويقبل بإطلاق سراح الأسير (الحاشي).
ويفترض أن يكون من ربط (أي أسر) الحاشي فارساً تناسى المنشدون أو هم نسَوْا ذكره والثّناء على فروسيّته أو كرمه فقام بربط الحاشي وهكذا فالمنشدون يسعون لاسترضائه بالسّؤال الملحّ نشيداً كقولهم:
وفي تلك اللحظات تدخل التَّمثيليّة مرحلة جديدة إذ ينقلب المنشدون الذين بالغوا بتقديم العروض المُغرية من الأعطيات للآسر الذي أطلق سراح الحاشي فيعلنون أنهم توصّلوا إلى غايتهم بالمخادعة والحيلة ولن يدفعوا لآسرهم شيئاً حتى ولا ليرة ولا (مِصّريّة)، ممّا كانوا قد وعدوا به هازئين. ويُبلغونه ذلك بالإنشاد المغنّى كأن يقولوا إثر تحرّر الحاشية وعودتهم متباهين واثقي الخُطى إلى رفاقهم في الحلقة مثلاً:
يا مِيْةْ حَيّا الله بالحاشي والـْ جـانـــــــــا يتــخطّم ماشـي
خَذِينا الحاشي بَلا شـي والله ما تشوف المصريّه!!

1. – يقصدون بـ “الولد” الشاب القوي البأس في لهجتهم المحلّيّة

الدكتور عبدي الأطرش رئيس فرع الهلال الأحمر

مبــــــــــادرون رغـــــــــمَ أنـــــــــف الأزْمـــــــَة

الدّكتور عبدي صيّاح الأطرش

رئيسُ فرعِ الهلالِ الأحمرِ العربيِّ السّوريِّ في السّويداء

نعملُ في ظروفٍ غَيرِ عاديّة

مجتمعُنـــا حافـــلٌ برجـــالٍ يَتسابقـــون للعَــــطاء
وأحـــدُ أبـــرزِ الأمثلـــةِ برنامَـــج المِنَـــح الجامعيّـــــة

هو الابن الأصغر لصيّاح الأطرش المجاهد الكبير في الثّورة السّوريّة الكبرى عام 1925، ولئن كان والده مجاهداً بالسّيف والبارودة ضدّ الاحتلال الفرنسيّ فإنّ ابنَه الطّبيبَ عبدي المولود عام 1938والمتخرّج طبيباً من جامعة دمشق عام 1964 سار على خُطى والده في خدمة المجتمع لكنه وهو الذي عاش مرحلة الاستقلال السّوري والاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ اتّجه إلى ميدان الخدمة الاجتماعيّة في إطارالعناية بصحّة المواطنين والأسرة ونشر الوعي الصحّي، وهو عمل يراه الدكتور عبدي شكلاً من أشكال الجهاد الوطنيّ، وقد بات الآنَ متفرّغا بالتّطوّع للعمل الإنسانيّ من خلال عمله كرئيس لفرع الهلال الأحمر العربيّ السوريّ في محافظة السّويداء وكعضو مُنتخَب في المكتب التنفيذيّ للمنظّمة الأمّ في العاصمة دمشق. وقد سعى الدكتور عبدي في المدة الأخيرة لتأمين انتقال مسؤوليّة هذه المؤسسة إلى جيل الشّباب، بهدف التفرّغ لأعماله الخاصة وللنّشاطات الثقافية والفكرية والكتابة، لكن منظّمة العاصمة طلبت منه بإلحاح الاستمرار في دوره الحيويّ مشدّدة على عدم إمكان الاستغناء عن خبراته الغنيّة في مجال العمل الإنسانيّ الهلاليّ في هذه المرحلة التي تخيّم بغيومها السّوداء في سماء الوطن الحبيب.
لكن وبرغم الوقت الذي يتطلّبه إشرافه على جمعية الهلال الأحمر في المحافظة فإنّ الدّكتور عبدي يجد الوقت للإسهام الوافر في العديد من النّشاطات الثقافيّة والرّياضيّة والإنسانيّة، فهو عضو في عدد كبير من الجمعيّات الأهليّة الرّياضيّة والثّقافية وهو المحاضر الدّائم في شؤون حماية البيئة ومشكلات إدمان الكحول والمخدّرات وغيرها من الآفات الاجتماعية وعدد من المسائل الإنسانية والثقافيّة والأدبيّة.
له العديد من الكتب والمنشورات والمقالات الأدبيّة والشعريّة والوطنيّة ، ومن أبرز أعماله كتابُه في سيرة والده المجاهد صياح الأطرش الذي استند بصورة خاصة إلى يومياته التي سجلها الوالد إبان أحداث الثورة السوريّة الكبرى الجليلة، كما صدر له مؤلف شعري بعنوان “الحسام” وديوان بعنوان “الغيمة الماطرة”.
بسبب هذه الانشغالات والوضع غير العادي الذي تمر به البلاد السّوريّة فإن الدّكتور عبدي يبدو مستنزَفاً بفعل الضّغوط الشّديدة على طاقته ووقته، حتى أصبح انتهاز وقت للقاء به أمراً يحتاج إلى ترتيب وانتظار، لكن رغم ذلك فإنّ سليل الجهاد الوطني حرص على أن يرحّب بمجلة الضّحى التي يقدر عالياً دورها الثّقافيّ، وأن يضعها في جوٍّ بعض التّطوّرات المهمّة في عمل فرع الهلال الأحمر في محافظة السويداء وبعض أهمّ مشاريعها الاجتماعيّة والصحّية، فكان هذا اللقاء:

> ما دور فرع الهلال الأحمر في محافظة السويداء في الظروف الرّاهنة؟
منظّمة الهلال الأحمر في السّويداء منظّمة إنسانيّة تركّز على مواجهة الأحداث المأساويّة التي ألمّت بالوطن والتصدّي لنتائج تلك الأحداث من خلال أعمال الإسعاف والإغاثة والصّحّة والدّعم النفسي والعلاجي.
> ما المهام التي تقومون بها من خلال موقعكم كرئيس لفرع الهلال الأحمر في محافظة السّويداء؟
لابدّ لي من التأكيد على اعتزازي بهذه المنظّمة الإنسانيّة، وهي التي كان المرحوم سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى قد شغل منصب رئيسها الفخريّ بعد تأسيسها، وفي ما يخص عملنا راهناً فإنّه تقع علينا حاليّاً مسؤوليّات وطنيّة في إطار إدارة عمليّات فرع المنظّمة في محافظة السويداء، وأعطي مثالا على ذلك باجتماعات مجلس الإدارة إذ بلغت نحو خمسين اجتماعاً في السّنة الواحدة أو ما يوازي اجتماعا واحداً في كل أسبوع، ولهذه الكثافة في الاجتماعات أسباب عدّة أوّلها يتعلّق بالوضع الاستثنائيّ الذي نعيشه ويلقي أعباء غير عادية على عمل الفرع وهيئاته ومتطوّعيه، وثانيها كون مجلس الإدارة ليس مجرّد هيئة تقريريّة تتولّى المصادقة على أوجه العمل الأساسيّة بل يتحمّل أفراده مسؤوليّات إشراف ومتابعة على الأرض خصوصاً لأعمال لجنة المتطوّعين الشّباب وكافة نشاطات الجمعيّة في المحافظة. وأوَدُّ هنا أن أُشيرَ إلى إنجاز حققته لجنة الإعلام والتّواصل لدينا وذلك عندما نجحت بتصوير فيديو بمناسبة اليوم العالميّ للصّليب الأحمر والهلال الأحمر اختير كأفضل فيديو لعام 2014 عُرِض في جنيف أمام المؤتمر السّنوي لجمعيّات الهلال الأحمر والصّليب الأحمر الدّوليّة.
> ما هي أبرز النشاطات والمبادرات التي تقومون بها في المرحلة الرّاهنة؟
نحن في عمل دائم لمواجهة المتطلّبات الإضافيّة التي تفرضها الظّروف الرّاهنة على عمل وخدمات الهلال الأحمر، ومن الخطوات التي نعلّق الأهميّة عليها إنشاء المركز المتخصّص في الاستجابة للكوارث والإغاثة والإسعاف الأوّلي الذي أحدثه الفرع بالتّعاون مع المركز الرّئيسيّ للمنظّمة واللّجنة الدوليّة للصّليب الأحمر. وقد تمّ افتتاح المركز في 29 كانون الأوّل من عام 2013 في السّويداء وبات في جهوزيّة تامّة لتقديم المعونة والمساعدة للفئات الأشدّ ضعفاً في المحافظة.

> كيف تعاملتم مع موجات الوافدين إلى السويداء بتأثير الأحداث الأليمة في سورية؟
من أجل استيعاب الحاجات الجديدة والأوضاع الملحّة لبعض الوافدين فقد قمنا أوّلاً باستحداث مركز الاستجابة للكوارث وأعمال الإغاثة الطّارئة في فرع الهلال الأحمر في السّويداء وتتركّز مسؤوليّات هذا المركز على تقديم الخدمات الصحيّة والإنسانيّة العاجلة مثل دراسة الوضع الأسريّ والاجتماعيّ للوافدين وإجراء تقييم صحّيّ لهم في أماكن تواجدهم، ومن خدمات هذا المركز أيضاً تقديم الدّعم النّفسي والصحّي. وإنشاء دورات في الإسعافات الأوّليّة والصحّة المجتمعيّة. كما يتولّى المركز تأمين نقل المرضى من عَجَزة وأطفال في الحالات الطّارئة إلى المشافي الرّئيسة في مدن المحافظة.
> كيف تلبّون الطّلب المتزايد على خدمات الجمعيّة في المحافظة؟
يَصدُق القول أنّنا نعمل في ظروف غير عاديّة والمطلوب في هذه الظّروف من الجميع التحلّي بروح العطاء والمسؤوليّة أكثر من أيِّ وقت، ونحن نطلب من أنفسنا أوَّلا ومن زملائنا أن يعطوا كلَّ ما في إمكاناتهم من أجل مواجهة الظّرف القاسي الذي يمرّ بها بلدنا الحبيب. إنّ جوابنا على الطلب المتزايد على خدمات الجمعيّة هو المزيد من العمل والمزيد من التّعاون خصوصاً التّعاون مع الشّعب الهلاليّة في القرى.
ونظراً للثّقة الممنوحة من كلّ الجهات الحكوميّة والرّسميّة والشّعبية لفرع الهلال الأحمر فإنّنا نحصل على دعم في كافة الخدمات الصّحيّة على مساحة المحافظة، وبات الفرع يملك أربع سيّارات إسعاف مجهّزة وعيادة متنقّلة مجهّزة بكامل المعدّات الطبّيّة اللازمة. مع العلم أنّ العيادة المتنقلة مجهّزة بجهاز تخطيط قلب وجهاز إيكو وجهاز صدمة مع كادر طبي وطبيب عام وممرّض وإداري.

رعاية التّعليم الجامعي
> من المعروف أنّ لمنظّمتكم دوراً في مجال الخدمات العامّة يتجاوز التّعريف الضّيّق للرّعاية الصحيّة أو الإسعافيّة، كرعاية التّعليم مثلاً؟ كيف دخلتم هذا الحقل؟
نعم، رغم الظّروف القاهرة فإنّ منظّمتنا تهتمّ بالتّنمية البشريّة والعلميّة عن طريق تقديم المنح الجامعيّة والمعهديّة للطلّاب غير القادرين على الاستمرار في التأهيل التّعليمي، ويتمّ ذلك بعد دراسة واقعهم بواسطة لجنة تنتقي الطّالب الذي تتوافر فيه شروط اللائحة الدّاخليّة للمنحة، وهذه مفخرة لنا تميّزنا عن باقي الفروع في القطر العربيّ السّوريّ.

> ما عدد الطلّاب الذين استفادوا من هذا البرنامج حتى الآن؟
بلغ عدد المستفيدين منذ بداية مشروع المنح عام 1997، 576 مستفيداً وعدد الخرّيجين 210. هذا ولا ننسى أن بعض الشُّعَب والنقاط الهلاليّة قد استطاعت الحصول على المنح الجامعيّة من بعض المحسنين في قراهم.

> من هم أبرز المساهمين في برنامج المنح الجامعية؟
لقد كان السيّد أنور الجرمقاني في طليعة المحسنين الكرماء المساهمين في تقديم 125 منحة جامعية و25 منحة معهدية، وكان بذلك القدوة الحسنة لمجموعة من المتبرّعين أبرزهم: المحسن الكريم زياد صيموعة الذي خص البرنامج بـ 25 منحة جامعيّة. والمحسن الكريم جمال أبو حسن الذي قدم 8 منح جامعيّة، والمحسن الكريم المهندس يحيى القضماني الذي دعم البرنامج بتقديم منحتين جامعيتين والمحسن الكريم الأستاذ محمد طربيه الذي تكرم بتقديم منحتين جامعيتين وقدم منحة جامعية واحدة كل من المحسنين والمحسنات السيدات والسادة الأكارم: إحسان جانبيه وعاطف الحلبي والدكتور ناصر جانبيه والدكتور أنس مالك الأطرش والدكتورة رولا كمال الفقيه والسيد عمر المروّد والسيدين عمّار ياسر فرمند وبليغ الجباعي (والسّيدان الأخيران هما من الخرّيجين الذين ردّوا الجميل عبر المساهمة في البرنامج نفسه الذي منحهم يوماً الفرصة لاستكمال تعليمهم الجامعيّ.

> ما دور اللّجنة الاجتماعيّة في منظّمتكم؟
تتعاون هذه اللّجنة مع جمعية أصدقاء مرضى السّرطان، وجمعيّة الوفاء للمعاقين وغيرها من الجمعيّات الأهليّة والفعاليّات النّقابيّة في أنشطة المشاركة بالأفراح والأتراح، كالمشاركة مع لجنة الطوارئ والإسعاف في أحداث قريتي داما ودير داما بالتّواصل مع المجتمع المحلّي وتوضيح طبيعة الأزمة وآليّة عمل الهلال الأحمر.

> لديكم في المنظّمة لجنة نسائيّة، ما الدّور الذي تقوم به هذه اللّجنة؟
تقوم اللّجنة النّسائيّة بالتّعاون مع جمعيّة تنظيم الأسرة بتنفيذ عدّة أنشطة منها القيام بزيارات ميدانيّة لمراكز الإيواء المؤقّتة للوافدين من خارج المحافظة، وتوزيع الإعانات واللّقاء مع العديد من الأسر وتقديم الدّعم النّفسي والاجتماعي لهم. وتقوم اللّجنة النّسائيّة بتقديم خدمات صحّيّة للأطفال والأمّهات في الشّعب الهلاليّة في المحافظة بواسطة الفريق الطبّي التابع لجمعيّة تنظيم الأسرة.

> ما خطّتكم للعمل المستقبليّ كمجلس جديد لفرع المنظّمة؟
سنعمل على دراسة مقترحات الهيئة العامّة للفرع وتنفيد الممكن منها. وسنتابع إقامة دورات الإسعاف الأوّليّ والدّورات المتقدّمة مع إيلاء اهتمام خاص بمركز الاستجابة للإسعاف والإغاثة، وسنُعنى بصورة خاصّة بتعزيز ثقافة التطوّع والنّجدة والتّنمية المستدامة، من خلال لجنة الشّباب المتطوّعين مع تعميق وتعزيز التّشاركيّة مع الجمعيّات الأهليّة والمنظّمات الشّعبيّة ومواصلة العمل مع اللّجنة الفرعيّة للإغاثة.

رئيــــس الهــــلال الأحمــــــر الدكتــــور عبـــدي الأطرش ينوه بالدور البارز للمحسن أنــــــــــور الجــــــــــــــرمقاني

الدكتور عبدي صياح الأطرش في مكتبه في السويداء

مع تقديره الكبير لمساهمات أهل الغَيْرة والسخاء في جبل العرب، وهم كُثُر، طلب الدكتور عبدي الأطرش السماح له بتنويه خاص بالدّور البارز الذي يلعبه رجل الأعمال والمحسن الكبير أنور الجرمقاني في دعم مؤسّسة الهلال الأحمر في السّويداء و وفي مشروع مِنَح التّعليم والعديد من المبادرات الاجتماعية والتّنموية والإنسانيّة.
وقال الدكتور الأطرش إنّ مساهمات أنور الجرمقاني تعود إلى أكثر من أربعين سنة وبالتّحديد عندما رتب في منتصف سبعينيات القرن الماضي زيارة لفرع الهلال الأحمر في السّويداء إلى نيجيريا لتنظيم حملة تبرّعات هناك كان الهدف منها وضع حجر الأساس للمركز الإقليميّ لتدريب الكوادر الهلاليّة والإسعاف الأوّلي ومواجهة الكوارث في منطقة البحر المتوسّط وشمال إفريقيا. وقد ساهم نجاح تلك المبادرة في نقل هذا المركز الذي كان مقره في يوغوسلافيا سابقا إلى سورية.
ويضيف الدّكتور عبدي الأطرش أن المحسن الجرمقاني أوسع للوفد في بيته وخصّص لأعضائه جناحاً فسيحاً أقمنا فيه محاطين بالحفاوة والتّكريم من قبله وقبل عقيلته الفاضلة السيّدة ماجدة توفيق أبو مطر التي تجاريه إخلاصاً في العمل الخيريّ والعطاء الإنسانيّ. وبفضل مكانته هناك والقدوة الصّالحة التي يمثّلها فقد لقينا من جانب أبناء الجاليتين السّوريّة واللّبنانيّة تجاوباً واسعا وحققنا نجاحاً باهراً كان للمضيف الكريم الباع الطّويل فيه وفي تعظيم حصيلته. ونتيجة لتلك المبادرة ولنجاح حملة تعبئة التمويلات تَحدّد مكان هذا المركز في جبل العرب كمركز شامل لتدريب أعضاء وكادرات الجمعيّات الوطنيّة للصّليب الأحمر والهلال الأحمر وخصوصاً خدمات الإسعافات الأوّليّة ومواجهة الكوارث الطّبيعيّة أو الناتجة عن عمل الإنسان.
وقال الدكتور الأطرش إنّ مساهمات المحسن أنور الجرمقاني السّخيّة في دعم فرع الهلال في السّويداء لم تتوقّف، وهو قدِمَ العام 1996 من نيجيريا خِصّيصاً للمشاركة في حضور احتفال العيد الفضّي للهلال الأحمر في السّويداء، وكان المتبرّع الأوّل كشأنه دائماً، وفي ذلك الاحتفال نال التكريم الذي يستحقّه من قبل الحشد المعترف بجميله، وقُدِّم له سيفٌ عربيّ من قبل أهل الهلال الأحمر في السّويداء.
ونوّه الدّكتور عبدي الأطرش بدور المُحسن الجرمقاني في إطلاق ودعم مبادرة المِنَح الجامعيّة لأبناء المحافظة وهو الذي كان من أوّل المشجّعين لمشروع المِنح الجامعيّة التي دعوناها بـ “المنح الهلاليّة” المقدّمة إلى الطلاّب الجامعيين المتفوّقين والمحتاجين، وكان منذ الانطلاقة أكبر المساهمين في دعم هذه المبادرة، وهذا المشروع السّبّاق لتنمية الموارد البشريّة ليس له مثيل في غالبيّة الجمعيّات الوطنيّة في العالم وقد بلغ عدد المِنح الجامعية التي قدمها المحسن أنور الجرمقاني 100 منحة جامعية و25 منحة للمعاهد، وبفضله فقد خرّج الهلال الأحمر في السّويداء 180 خِرّيجاً وخِرّيجة حتى الآن ومن مختلف الاختصاصات في الجامعات السوريّة ناهيك عن الطلاّب والطّالبات المتخرّجين من المعاهد الأخرى المنتشرة في القطر.

من ذاكرة الجبل

شهامة معروفية

مأثرة إنسانية

من ذاكرة الجبل

مأثرة إنسانية

عنـــــدما تــــــواطأ الصّيّـــــاد مـــــع الذئبــــة

مأثرة إنسانية 3
“حدثت هذه الواقعة المؤثرة منذ نيّف وسبعين عاماً في زمن لم تكن فيه تشريعات ولا قوانين ناظمة للصّيد حينها سارية المفعول، القانون السّائد آنذاك كان قيم الفرد الذّاتية المتأثّرة بقسوة العيش وبغريزة البقاء التي لا ترحم ”.

مرت أسابيع عديدة لم تطمئنّ أسرة على أغنامها وماعزها في قرية حوط التي تقع على السفوح الجنوبيّة الغربية الوعرة لجبل حوران، فبين ليلة وأخرى يسطو الذّئب على حظيرة أحدهم وينتهب خروفاً سميناً أوجَدْياً أو نعجة أو عنزاً، والذّئب وحش ماكر وماهر في التخفّي والسّطو النّهاريّ على قطعان الرّعاة، والليليّ على حظائر المواشي …
ولما كانت تلك المواشي التي يسميّها الفلاّحون بـ “الحلال” تمثّل جانباً من أرزاق الأسرة فقد كانت عملية السّطو الجريئة تلك تعتبر خسارة فادحة للرّزق. إذ إنّ تلك المواشي مصدر هامّ للّحم والحليب وصناعة اللّبن والسّمن والكثاً وكلّ هذا يشكل عنصراً مهمّاً من غذاء الأسرة وخصوصاً الأطفال، كما أنّه يشكّل العناصر الأساس من وجبة “المنسف1” التي كانت تقدّم للأضياف في زمان كانت فيه الضيافة قيمة اجتماعيّة عليا.
نشط الصيّادون في البحث عن المكان الذي يكمن فيه ذلك الذّئب الذي أقضّ مضاجع أهل القرية، وكمن كثيرون بالقرب من الحظائر المجاورة لبيوتهم وقد حشا كلّ منهم جفته أو مخزن بارودته بالخرطوش لينتقم من ذلك الوحش المعتدي الذي عكّر صفاء ليالي المزارعين…
ليلة من تلك الليالي، كان أحدهم قد اقتعد حجراً يرقب في سواد العتمة، سمع دبيباً خفيفاً على الأرض لم يتبيّن مصدره بالتّحديد، وفجأة لَحَظ جسماً يطوّح بخفّة فوق حائط الحظيرة التي يعلو أكثر من مترين وينقض إلى داخلها، حدثت جلَبة وضوضاء واختلط الحابل بالنّابل داخلها، وهُرِعت بعض الكلاب القريبة نابحة من حيث كان يشاغلها ذئب آخر في الجانب المقابل من موقع الحظيرة المُستَهدَفة، هي خطّة ماهرة يتقن الذّئاب ممارستها غريزيّاً.
في تلك الثّواني المتسارعة تبيّن الرّجل على ضوء النّجوم الخافت جسماً يطوّح في الظلمة إلى خارج الحَظيرة ثم تبعه جسم آخر لاحقاً به، أطلق رصاصة لم تُصب هدفاً، كان الذئب بغريزته الموروثة عبر آلاف السنين قد عرف أن يختار صيده، فقد قذف بجدي سمين إلى أعلى من فوق الحائط خارج الحظيرة بعد أن قطع حنجرته بأنيابه التي لا تخطئ هدفها، ثمّ تبعه سابقاً إيّاه ليلتقطه قبل وصوله إلى الأرض ويفرّ به يعدو بعيداً، ولم تنفع رصاصات عديدة أُطلقت عشوائيّاً في جوف الظّلمة سوى تهويش عبثي لكلاب القرية.
كان الذئب قد فاز بصيده ومضى، ولم تستطع الكلاب اللّحاق به، فهو يعدو لنفسه أمّا الكلاب فتركض لأسيادها…
***
في اليوم التالي جدّ الرّعاة والصّيّادون في تمشيط جرود القرية الوعرة بحثا عن الجحور التي يمكن أن تكون مخبأً للذئاب التي تتهدد “حلال” القرية.
أيام مرّت وجاء راع يقول إنّ ذئبة تكمن بجرائها في رجم من رجم أرض الخشاع، ممّا يعني أنّ هناك فرصة لقتل الوحش الذي عاث فسادا وقتلا في حظائر القرية. لكن الذّئب وحش شرِس بفطرته، وتصعب مهاجمته، وخصوصاً إن أُصيب بجرح ولم يُقتَل من الطلقة الأولى، إذ يشكّل على صائده في تلك اللّحظات خطراً قاتلاً، رغم هذا المحذور فقد تطوّع نوّاف العبد الله لقتل تلك الذئبة التي أمكن تحديد مكمنها، ونوّاف هذا من الصيادين المَهَرة في القرية ومن رجالها الأشدّاء.
ابتنى الرّجل “بنّوجاً”2 وكمن فيه بحيث تكون الطّريدة على مرمى مؤكّد من طلقات جفته ذي السّبَطانتين، وأخذ يرقب خروج الذّئبة من جحرها الكائن في الرّجم أو دخولها إليه.
مضى وقت من النّهار لم يرَ ما ينبئ بالهدف المرجوّ، وحَمِيت الشّمس، ولكن الرّجل كان صبوراً ورابط الجأش، مرّ وقت حسبه دهراً، ثمّ لحظات، ومن خلال الثّقوب بين الحجارة الجرديّة التي بُنِي “البنّوج” بها رأى الذّئبة قادمة تهرول باتجاه مكمن جرائها، فاستعدّ لإطلاق النّار عليها، تريّث قليلاً، دارت الذّئبة حول الرّجم، ثمّ أطلقت أصواتاً مختلفة لا تشبه الأصوات التي اعتاد سماعها من الذئاب عند عوائها، تريّث أيضاً، ثوانٍ مرّت، خرج على إثرها أربعة جراء من الجُحر داخل الرّجم ذي الحجارة المتراكمة على شكل هرم عشوائيّ الجوانب وعندما تدافع الجراء نحو الوالدة كانت قد اختارت صخرة أزليّة مسطّحة لها شكل بلاطة انبطحت عليها على ظهرها، ثم تقلّبت يمنة ويسرة وتقيّات من بطنها كومة من قطع صغيرة من لحم صيدها، كانت قد اختزنتها في جوفها وجاءت بها لتطعم صغارها، تكوّم اللّحم الطّازج الطّريّ على سطح البلاطة، وهُرِع الصّغار يتناغون فرحين وأخذوا يلتهمون بشراهة وجبتهم المُرتَقبَة التي طالما طال انتظارهم لها، ذُهِل نوّاف لمشهد الأمومة المؤثر هذا، رأى الذّئبة مخلوقاً مختلفاً عن الصورة المرعبة المختزنة في مخيلته، بدت له مخلوقا جميلاً من مخلوقات الله وجذبه مشهد الجراء الصغيرة بفرائها الرائعة، ثم رأى الجراء الجائعة وهي تُلحّ في طلب نصيبها من القوت، وأدرك أن ما كانت تصيبه من حلال القرية هو ذلك القوت. أعاد النّظر في المشهد المؤثر لأمومة الذئبة وفكر لنفسه: لو قتلت هذه الذئبة الآن، وهي في مرمى بندقيتي، فما الذي سيحدث لهذه الجراء البريئة؟ بالتأكيد فإنها لن تصمد للجوع أكثر من أيام معدودات وستموت بدورها، تراءى له أن هذه الجراء لا تختلف عن صغار بقية المخلوقات بما فيها صغار قريته وأطفالها، ثم جال في فكره أنّ الذئبة تتصرّف ليس بحب القتل بل بغريزة البقاء لكنه بالمقابل متربّص بهذه الأم ليقتلها فقط بسبب سعيها لكسب طعامها بالطريقة الوحيدة التي تملكها وهي صيد الأغنام أو الماعز أو ما تيسر لها من الطرائد السّارحة في البرية، فهذه الذّئبة تفعل ما أعدّتها الطّبيعة له وما على مالكي الماشية إلّا أن يحصّنوا حظائرهم ويهتمّوا بكلابهم وعندها فلن تجد إلى قطعانهم سبيلاً. كانت الصورة قد اتّضحت في ذهنه ولم يعد لديه أيّ شك بأنّه لا توجد لديه ذريعة حقيقيّة تبرّر له إطلاق النّار على هذه الذئبة الأم، شعر عندها براحة نفسيّة قلّما شعر بمثلها في السابق، تأبّط بندقيته وخرج بهدوء من البنّوج ومضى مبتعداً عن الذّئبة وجرائها، وبدورها كانت الذّئبة قد تنبّهت لتحرّكه مبتعداً عنها وعن جرائها، فأقعت على ذيلها مطمئنّة.
في ذلك اليوم تواطأ نواف مع الذّئبة ولم يخبر أحداً بما شاهده، وفي اليوم التّالي، داهم الرّجم مجموعة من الصّيادين، لكنّهم لم يعثروا على الأسرة التي ارتحلت عن المكان بحثاً مأوى سرّي جديد، وغارات ذئبيّة نهاريّة أو ليليّة أُخرى.

1. “المنسف” هو لون من الطعام اقتبسه أهل جبل العرب من تقاليد عرب البادية، يعد للضيوف على صدر من النحاس يملأ بالبرغل وحبات الكبة وقطع اللحم ثم يسكب عليه السمن العربي، ثم تسكب “الملاحية” المصنوعة من اللبن فوق صحن الضيف. وعادة توضع قطع اللحم الكبيرة على أطراف “المنسف” لتكون الأقرب لأيدي الضيوف

2. البنّوج: كلمة يقصد بها العامة بناء بسيط من الحجر الغشيم على شكل دائرة قطرها نحو متر بارتفاع قامة الصيّاد الذي يكمن فيه بقصد التخفّي عن طريدته

شهامة معروفية
شهامة معروفية

شهامة معروفية

متعب الأطرش وتاجر الحبوب الدمشقي

قبل نحو مئة عام، وفي الأعوام الأخيرة من العهد العثماني كان جبل حوران يُموّن الشام بالحبوب نقلاً على ظهور الجمال، وكان كل من تغضب عليه الدولة يلجأ إلى الجبل فتصان حياته ويعيش في أمان.
في تلك الفترة كان بين الشيخ متعب الأطرش شيخ قرية رساس الواقعة جنوب مدينة السّويداء ببضعة كيلومترات وبين تاجر الحبوب الدّمشقيّ عبد الله حبّاب تعامل تجاري، متعب يورّد له الحبوب إلى بادية الشام ليبيعها له، وحبّاب يسلّفه دراهم عن حبوبه ليتصرّف بها لسد حاجات بيته ومضافته المفتوحة على الدوام للضيوف.
عند تصفية الحساب في ذلك العام والبلاد على أبواب الحرب العالمية الأولى، وفي الوقت الذي كانت فيه تجارة الحبوب مزدهرة بين الجبل وبين عاصمة الولاية دمشق، والطلب عليها مرتفع بسبب من مصادرة الوالي جمال باشا للحبوب لتموين الجيش العثماني الذي كان يعدّه للهجوم على قناة السويس وتحريرها من قبضة المحتلّين الإنكليز، لم يرضَ الحبّاب بالربح المشروع الذي كان يحصّله من حبوب متعب الأطرش ، فما كان منه إلاّ أن زاد مبلغاً “هو بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف قرش فضّة (عملة عثمانيّة من عملات ذلك الزمان)، وكان المجموع الذي أراده التاجر سبعة عشر ألف قرش.
كتب الرّجل سَنَداً وقدّمه للشيخ متعب ليوقّعه، تمنّع متعب عن التوقيع بادئ الأمر، فقال له الحبّاب آمراً:
– احفظ كرامتك ووقّعه.
كان الشيخ متعب وحيداً في بيت الحبّاب، فقال له:
– أَترضى أن أوقّع مُجبَراً؟
– نعم وقّع مُجبَراً.
فما كان من متعب إلاَ أنْ قال لمن حوله:
– اشهدوا أنا أوقّع على هذا السند مُجْبَراً
قال الحبّاب بصلف المسيطر على الوضع:
– اشهدوا أنّه مغصوب على هذا التّوقيع.
وقّع الشيخ متعب على سند الحبّاب مُكرَهاً، ودفع لغريمه المبلغ المطلوب منه.
مرّت فترة قصيرة من الزمن تسلّط بعدها جمال باشا على أهل الشام (دمشق) بسبب الأوضاع الحربية الناشبة، وكان عبدالله حبّاب من جملة التّجار الذين نفاهم جمال باشا إلى الأناضول، لكن الرّجل تمكّن من الهرب من منفاه وعاد متخفّياً إلى الشام، غير أنّه لم يستطع البقاء فيها والرقابة العثمانية ترصد حركات وسكنات الناس في الشوارع والزواريب والبيوت، وهكذا وجد نفسه مضطرّاً للجوء إلى “جبل الدروز” كما كان يُدعى آنذاك.
كان الرّجل يريد أن يأمن على حياته، ولم يكن من مكان يحتمي فيه الدخيل في بلاد الشام غير الجبل في تلك الفترة، إذ كان جمال باشا آنذاك يعمل جاهداً على تجنّب خلق فتنة مع بني معروف لحساسية موقع جبلهم على قرب من طريق تحرّكات الجيش العثماني باتجاه الجنوب نحو فلسطين ومصر.
***
ثلاثة خيّألة نزلوا عصر ذلك اليوم في دارة الشيخ متعب، عرف الرّجل من فوره اثنين منهم، كانوا عبد الله حبّاب غريمه تاجر الحبوب الدمشقيّ الذي سبق له أن ابتزه عندما كان وحيداً في مدينته دمشق، مستغلاًّ انفراده به بعيداً عن قومه، وكان برفقته ابن أخ له اسمه كمال، ومعهما شخص ثالث قريب لهما.
استقبلهم الشّيخ متعب ببشاشة وترحاب وكأنْ لم يكن بينه وبين أحد منهم أيّة مشكلة تثير ضغينة ما!، وكان يعلم بقصّة نفي جمال باشا لعبد الله ولكنّه لم يكن يعلم بهروبه من المنفى، غير أنّه أدرك الآن أنّ صاحبه جاءه ناحراً يطلب اللّجوء والدّخالة1
قال له: لا يداخلك شك أنني أسلّمك لجمال باشا ولو خربت داري2، حياتك من حياتي وراحتك من راحتي.
وهكذا أفرد الأمير متعب لثلاثتهم غرفة في دارته الكبيرة، وطابت لعبد الله الإقامة في راحة وأمان في رساس، ولمّا اطمأنّ كمال على عمّه عبد الله تركه عند الشيخ متعب وعاد إلى دمشق.
بعد زوال غيمة جمال باشا عن البلاد وعودة الشام إلى حياتها الطبيعية رجع عبد الله حبّاب إلى مدينته وهو يقدّر حسن صنيع الشيخ متعب معه أحسن تقدير، وتوفي عن صداقة بينهما.

1. الناحر والدّخيل: أي من يطلب الحماية.

2. قام الفرنسيّون بتدمير دار الشّيخ متعب الأطرش في قرية رساس على أثر اشتراكه في المعارك الأولى من الثّورة السورية الكبرى.

قصص الأمثال – الضحى 18

قصص الأمثال

كما تُدَيّن تُدان

نَعتبرُ هذه الحكاية المؤثّرة من الأمثلة العديدة المُتَداوَلة في الثّقافة الشّعبيّة حول أهميّة برّ الوالدين ومعاملتهما بإحسان خصوصاً عندما يتقدّم بهما العمر ويصبحان في حاجة إلى أولادهما حيث أفنيا العمر في تنشئهم وتأمين عيشهم، وقد جاء في الآية الكريمة }وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا{ (الإسراء: 23)
والحكايةُ أن رجلاً توفّيت زوجته وكان له ابن وحيد فأبى لذلك أن يتزّوج ثانية خوف أن يتعرض الابن لظلم “الخالة” (أي زوجة الأب) لاسيّما إنْ رزق وإياها أطفالاً. لذلك قرّر أن يهتمّ بنفسه بتربية ولده حتى يكبر، وعندما كَبُر الولد وأصبح في سنّ النضج اهتمّ الأب بتزويجه وأعطاه منزله للسّكن فيه مع عروسه واتّخذ لنفسه حَيّزاً من المنزل يتابع فيه حياته واهتماماته، وكان رجلاً يحب القراءة والاطّلاع.
رُزِق الابن وزوجتُه بنين وبنات فكبُرت الأسرة حتى ضاق البيت، فبدأت الزّوجة تتأفّف من الحالة وباتت تصوّر لزوجها أن استمرار سكن الوالد في المنزل لم يعد ممكناً وأنّ عليه أن يعمل على إخراجه من البيت. ولمّا لم يكن للوالد منزل آخر فقد كان الابن يستعظم موقف الزّوجة ويجيبها بالقول :
– كيف أقوم بهذا العمل فهو أبي ! ربّاني، وكبّرني، وزوّجني، كيف أتخلّى عنه وليس له مسكن؟! .إلى أين تريدين أن يذهب؟
وكانت تقول له :
– لكلّ ظرف أحكامه ونحن الآن عائلة كبيرة وقد ضاق علينا المكان ولم يعد البيت يسعنا معه
كان الابن يمانع دوماً ويذكّرها بأفضال والده عليه، لكنّها بقيت تُصِرّ إلى أن أنذرته يوماً:
– إمّا أن يخرج والدك من المنزل وإمّا أن أرحل أنا عنه!
أمام إصرار الزّوجة أخذ الابن يفكّر: إن هو تمسّك ببقاء والده فإنّه سيخسر الزّوجة وعندها لن يكون هناك من يعتني بالأولاد لذلك قرّر أنّه لا مفرَّ من أن يطلب من والده ترك المنزل، فجاءه وصارحه بأنّه إن لم يغادر البيت فإنّه سيخسر زوجته وأولاده.
لم يتذمّر الوالد الشيخ، وقال لولده:
– لا تحملْ همّي، أعطني شيئاً كي أتدثّر به، وبالله المُستعان.
أمر الابن العاق ولده الصّغير أن يأتي بغطاء قديم بال، ليقدّمه إلى جدِّه. فغاب الولد ثم عاد بالغطاء لكنّه قام أمام والده بقطعه إلى نصفين وأعطى جدّه نصفاً واحتفظ لنفسه بالنِّصف الثاني استغرب الأبُ هذا التصرّف من ولده، وسأله :
– لمَ فعلت ذلك ؟! .
أجاب الابن:
– إنّي أحتفظ بالنّصف الثّاني لك لعلّك ستحتاجه عندما تكبُر.
عندئذٍ استفاق ضمير الابن الشّاب على خطورة ما كان يقدم عليه وشعر بخجل شديد فاتّجه إلى أبيه الشيخ يضمّه ويعتذر منه، ثمّ توجه إلى زوجته بالقول: لقد خَيّرْتِني بين أمرين وأنا الآن اخترت. وعليك أنت الآن أن تختاري: إمّا أن تشاركيني بواجب البنوّة وتكوني معي لوالدي خير معين وإمّا أن تغادري هذا البيت غير مأسوفٍ عليك..
ومغزى القِصّة أنَّ من يكون عاقّاً لوالدَيْه سيأتيه أولاد يَعقُّونه بدورهم وصدق من قال: “ كما تُدَيّن تُدان”

لا خالتك قاتلتك ولا جحشك ضايع

تعبيرٌ يُطلقه من يقع في أزمة حادة ويأتي أحدٌ يريد أن يهوّن عليه دون أن يدري عمق الأزمة التي يغرق فيها، فهو يتعاطف معه لكنّه لا يملك ما يقدّمه له في محنته.., وربّما التقى هذا التّعبير مع أمثال شعبيّة أخرى مثل قولهم “يلّي بياكل العصي مش مثل يلّي بيعدّها” أو قولهم “ يلّي إيده بالمَيْ مش مثل يلّي إيده بالنار “ وهم يعنون أنّه لا يشعر بالوجع إلا صاحبُه .
تقول الحكاية أنّ ولداً يتيم الأم كانت خالته (زوجة أبيه) تظلمه. وحدث أن عاد والده من الحراثة في يوم ماطر غير أنّ الجحش الذي كان خلف أمّه لم يعد معها، ولم ينتبه الرّجل إلى فقدان الجحش إلّا حين وصل الدّار .
ووجدتها الخالة فرصة لتمارس ظلمَها على الولد، فأجبرته على الخروج للبحث عن الجحش في ذلك الطّقس العاصف.
خرج الولد مُرغَماً، وتمهّل قليلاً قبل أن يبدأ البحث لعلّ المطر يتوقّف والرّيح تخفّف من عصفها. انتظر وانتظر لكن الطقس لم يعطه فرصة إذ استمر المطر يهطل بلا انقطاع وبغزارة . أُسقط في يد الولد الذي تنتظر منه خالته أن يأتي بالجحش وألّا يعود إلى البيت إلّا وقد عثر على الحيوان الصّغير. فلا هو قادر على المضي في البحث عن الجحش في هذا الطقس الهائج، ولا هو قادر على الرّجوع إلى البيت دون الجحش مخافة أن تعاقبه الخاله. بلغ به الإحباط أشدّه ولم يجد في النّهاية من وسيلة إلا أن يرفع يديه وينظر في السّماء الماطرة محتجّاً بالقول:” شو هامّك ؟! شتي … شتّي ..لا خالتك قاتلتك، ولا جحشك ضايع. “

«عُمرك ما تقصّ ذيل حمارك قدّام اثنين»

يروي المثل حكاية من يطرح همومه ومشاكله أمام الناس، فيتلقّى حلولاً متناقضة، يَحار في الاختيار بينها، وقد صاغ الخَيال الشّعبي حكاية تتحدّث عن هذا الموضوع ؛ تقول إنّ رجلاً وولده أخذا حماراً في سفر، ورأى الأب أن يترك لولده اليافع فرصة امتطاء الحمار في الشّوط الأوّل من الرّحلة، ولما شاهد الناس ذلك بدأوا يعيِّرون الولد ويقولون: ما أسوأ هذا الولد ؛ يركب ويترك أباه المسنَّ يسيرُ على قدميه .
ترجّل الولد ودعا والده للرّكوب ومضى الاثنان في طريقهما. وبعد قليل شاهدهما جمع فبدأ أفراده يهمهمون بلهجة استنكار: ما أقسى هذا الأب، يركب ويدع ولده الصّغير يمشي على قدميه .
نزل الأب وقرّر الاثنان أنْ يتابعا الرّحلة سيراً على الأقدام لعلًهما ينجوان من آراء النّاس وتعليقاتهم التي لا تنتهي. لكن ما أن رآهما جمع من النّاس على هذه الحال حتى بدأوا يتهامسون ويتندّرون مستهزئين. يقولون: ما أغباهما! يسيران على الأقدام ويتركان الحمار بلا ركوب فلماذا يقتنيانه إذن؟!
ما أن ابتعدا عن الجمع حتى قرّرا أن يمتطيا معاً ظهر الحمار ويتابعا الرّحلة راكبَيْن هذه المرّة.
وما هي إلّا فترة حتى صادفهما رجل وقال:
– أما تخافان الله ! اثنان تركبان الحمار، أليس له روح؟ أليس من لحم ودم؟ أم تظنّان أنّه صُنِع من الحجر فلا يتعب ؟ .
ضاق الرّجل ذرعاً بكل هذه النّصائح التي يلغي بعضُها بعضاً، وأيقن أنّه لا فائدة من رأي العوام في أي مسألة، وأنّه لا يأتي منه إلا الحَيْرة والنّدم. تطلّع عندها إلى ابنه بشيء من الأسى وقال:
يا بنيّ! ما عمرك تقصّ ذيل حمارك قدّام اثنين، واحد رح يقول طويل، والثاني رح يقول قصير.

ما بْسَوِّد وجهي

هذه العبارة يستعملها الرّجل عند رفضه القيام بعمل مشين أو قيام أحد من أقربائه أو أصدقائه لحسابه بعمل يستحق الإدانة، فإن فعلوا يقول: “ سوّدوا وجهي “ .
وحكاية العبارة، كما يرويها أحمد أبو سعد، أنّ رجلاً زار يوماً أحد أصدقائه، فوجده قد طلى جداراً من جدران بيته بالأبيض، وترك الباقي، ولما سأله : فيمَ لم تطلِ البيت كاملاً ؟ . فأجابه:
– لم يبقَ معي دراهم .
فقال له :
– ولمَ لا تستدين ؟ .
فأجابه:
– أخاف ألا أستطيع ردّ الدين، أفي سبيل أن أبيّضَ حائط بيتي تريدني أن أسوّد وجهي؟!.
فذهب قوله مثلاً 1

لَحْمُ الحصيني اللّي اْنت خابره

خَبِرُ الشّيء: عَرفه حقّ المَعرفة، وخابْرُه (بالعاميّة) عارفُهُ.
ويُضْرَب هذا المثل للإشارة إلى أمرٍ ما حالته سيّئة. في حين كان الأمل معقوداً على تبدّله نحو الأحسن. وحكاية هذا المثل هو أنَّ أحدهم كان قد خرج لبعض شأنه خارج بلدة مَلَح. وصدف له أن اصطاد “حصيني” (وهو من نوع ثعالب الصّحراء الصّغيرة) فأعجبه اكتناز لحمه وكان جائعاً، فسلخه، وأوقد ناراً، وأخذ يشويه. وحينما اقترب اللّحم من النضوج جذبت رائحة شوائه التي ملأت المكان، أحدَ العابرين من البلدة نفسها، كان قد خرج لبعض شأنه أيضاً. فتقدم الرّجل يسأل الصّياد عن شوائه:
– شو هذا ؟
فأجابه :
– حصيني، أمّا شو حصيني ؟!. مثل الخروف، سلخته، ونظفته، وأقل من ساعة بيكون جاهز للأكل. شو رأيك ؟ .
تأفّف الرّجل وتمنّى أن يكون اللّحم لحم خروف أو غير ذلك، فقال له :
– حصيني ؟!. قول غير هيك يا رجل .
– ليش من شو بيشكي الحصيني خَيُّو؟! لحم أطيب من لحم الضّان.
قال له :
– حصيني يا رُجَّال ؟!..حصيني! حَدا بياكل حْصيني ؟
فأجابه :
– والله حَبَّك حَبَّك، ما حَبَّك على كيفك .
همّ الرجل بالانصراف ثم فطن إلى أمر فخاطب الصّياد بالقول:
– على كل حال أنا راح أُبرُم بَرْمة طُلّْ على الزَّرع، وبس إرجع بدّي إسألك: شو هذا ؟ . لا تقولْ لي حصيني. قولْ أرنب ! قول أيْ شيْ بيتَّاكَل! لكنْ لا تذكرْ لي اسم الحصيني، حتى يصير للواحد نَفْس ياكُل ولو لقمة! فقال له :
– اتَّكل على الله، وتيسّر .
انصرف الرّجل وفي نفسه شيء من الشّواء. وبعد أن أنهى جولته في الحقول عاد إلى الرَّجل صاحب الشّواء وكان يأمل أن يسمع جواباً مختلفاً هذه المرّة. سأله:
– شو هذا ؟! .
أجاب الرّجل من دون اكتراث:
– هذا لحم الحصيني الّلي انت خابره.
فذهبت مثلاً في عدم تغيّر الشَّيء الذي يُتَوَقَّع تَغيُّره .

مش رُمّانة، قلوب مَلْيانة

يُضرَب هذا المثل في ردّ الفعل الذي يفوق الفعل نفسه، فإذا وقع بين اثنين خلاف ما، وأبدى أحدّهما ملاحظة عاديّة على تصّف صاحبه، فسرعان ما يَعْتَبِرُ هذا الصّاحب أنّ الملاحظة كانت بسبب الخلاف القديم، وهي بالتّالي في غير محلّها.
وحكاية المثل أنَّ رجلاً ضبط جاراً له يقطف ثمرة رمّان من أرضه، وكان بين الجارين خلافات. فأمسك به، وأوسعه ضرباً .
اجتمع الجيران، وأخذوا يلومون الرّجل على فعلته. وأخذ الرّجل يحاول مُحْرَجاً تبرير فعله الشنيع مُدّعِياً أنّ جاره يسرقه. ولأنّ الجيران يعرفون قِصّة الخلاف بين الجارين قالوا للضّارب: “هذي مش رُمّانة، هذي قلوب مَليانة” أيْ أنك لم توسعه ضرباً بسبب رمّانة، وإنّما بسبب حقدك عليه للخلاف القائم بينكما.
ويُرجِع سلام الرّاسي المثل إلى عادة متّبعة منذ أيام العباسييّن وكانت تقضي أن يُجرِّب الرّجال نساءهم (مدى صبرهم وجلدهم على طلبات الزّوج) بواسطة الرّمّان، فيطلب الرّجل من زوجته أن تفقأ رُمّانة، وأن تنزع حبّاتها وتضعها في صحن دون أن تدع حبة واحدة تفلت من يدها وتقع على الأرض، فإن حدث العكس وسقطت حبّة أو أكثر تشاءم الرّجل وطلّق الزّوجة!
ومنذ ذلك الزّمن نشأت كراهية النّساء للرّمّان، وصار من دواعي تطمين العروس إلى عدم إخراجها من بيت زوجها أن تضع حماتها أمامها رُمّانة، فتدوسُها وتدخل منزل الزّوجيّة مطمئنّة إلى أنها في أمان في دار الزّوج.
ويروي سلام الراسي أن إحدى النساء كانت حاقدة على عروس ابنها التي تزوجها بغير إرادتها، ومن قلب مليء بالحقد وضعت أمام كنتها رمانة مهترئة، وحين داستها العروس فاحت منها العفونة، فقال أحد الحاضرين “هذي مش رمانة، هذي قلب مليانة ”.

ماعز ولو طاروا

يروى أيضا: “عنزة ولو طارت” والمثل معروف في أنحاء الجبل ويضرب للرجل يصر على خطئه مع وجود الدليل الواضح والذي لا يقبل الجدل أنه على خطأ. وكأنما هو ترجمة للمثل الآخر الذي يندد بالإصرار على الخطأ : “نقول له: “أعزب” بيقول : “كيف حال أولاده” نقول له: تيس، فيقول احلبوه” .
والحكاية كما كان يرويها الكبار في الجبل أن رجلين كانا يسيران في البرية في طقس رملي يرافقه غبار كثير. وسط هذا “الضباب” الرملي تراءت لهما أشياء تتحرك في الأفق، فأخذا يجتهدان في معرفة حقيقة هذه الخيالات. قال أحدهما هذا قطيع ماعز ـ وقال الآخر بل هذا سرب من الحباري، واتفقا على أن يدفع من يخطئ الظن لمن أصاب مبلغاً من المال . ولما اقتربا من المكان انجلت الصورة فإذا بتلك الأشياء هي فعلا سرب من طيور الحباري ما لبثت أن طارت من أمامهما لدى اقترابهما . فقال الذي أصاب في توقعه: أصدقت الآن أنها حباري ؟ ها هي قد طارت . لكن الآخر بقي يُصرّ على أنها قطيع ماعز قائلاً : “ ماعز! ولو طاورا “ فغدت مثلاً يضرب في هذه الحالة .
وورد المثل في مجموعة سلامة عبيد بصيغة المفرد “عنزة ولو طارت”

المال بيجر المال

المال بيجر المال

جِدّي أبو عوّاد والكنز المفقود

عند الشدائد تعرف الرجال

مآثـــر وعبـــر

قِصصٌ عن الشّهامة والأمانة والطّمع الأحمق

جَدّي أبو عوّاد وصاحبُ الكَنزِ المَفقود

“كـــــلّ مستودِع تقبض منه وديعتــــه، وكل أمين لا يخون في ما ائتمن عليه”
(حكم توحيدية)
ما أحوجَنا في عصرنا الحاضر، عصرِ التّردّي الخُلُقيّ وعبادة المال، إلى التّمسك بقيم أجدادنا الأقدمين وعِفَّتهم وتقواهم، والتفاخر بالأجداد وبالقِيَم والعادات التّوحيديّة الشّريفة وهذا أصبح من أولى الواجبات هذه الأيام لأنّ أجيالَنا الشابّة في حاجة لأن تستخرج منها العِبرة وتتّخذها قدوة تنظّم سلوكها وتطهّر نفوسها. ولنا من عبرة جدّنا أبو عوّاد، ذلك الشّيخ التّقيّ الصّابر القانت درساً بليغاً في قِيَم العفّة والقناعة وحفظ الأمانة، وإليك الحكاية:
عاش في حاصبيا في النّصف الأوّل من القرن الماضي شيخ اشتُهِر بتسميته بين الناس (جدّي أبو عواد) لما كان له في نفوس الجميع من تقدير واحترام، لزُهده في دنياه، وتعلّقه بخالقه ورضاه.
عمله حراثة الأرض نهاراً، والانقطاع لعبادة خالقه ليلاً. يملك قطعة أرض تُعرَف (بالمقيل) نظراً لموقعها على الطّريق العامّ الذي يربط وادي التّيم بفِلِسطين جنوباً، وبلاد البقاع وسوريا شمالاً، حيث يرتاح بها المارّة قيلولة واستراحة.
كانت وسيلة النّقل الرّئيسة في تلك الأيّام هي الخيل أو الجمال أو الدواب وليس سواها. وذات يوم، بينما جدّنا أبو عواد يعمل في حراثة أرضه (المقيل)، إذ بأحد عابريّ السّبيل يترجّل عن جواده لأخذ قسط من الراحة، وما كاد يستلقي على الأرض حتى غلبه النّعاس تحت ظلّ شجرة زيتون وارفة الظّلال، فالهواء منعش، والرّجل مُتْعَبٌ من عناء السّفر الطّويل.
طالت فترة نومه، وإذا به ينهض مذعوراً ليجد الشّمس تميل نحو المغيب. اعتلى صهوة حصانه وحثّ الركب شمالاً نحو البقاع، لكن سرعته هذه، جعلته يغفل عن (خِرْج) يضمّ رأس ماله مع بعض الحوائج كان قد ألقاها بجانبه عند نومه.
غابت شمس ذالك اليوم، وانتهى الشّيخ من عمله، وبطريق عودته إلى بيته عثرَ على الخِرج المُلقى تحت الشّجرة فقرّر أنْ يحفظه في مكان آمن على أمل أن يظهر صاحبه في وقت قريب. وهكذا فقد ألقى بالخِرْج على بردعة دابته وعاد نحو منزله.
فور وصوله، أعلم زوجته بما وجد، ثم اتّفقا على وضع الخِرج ومحتوياته على الرّف، إلى أن يظهر صاحبه، طالت الأيام أم قَصُرت.
انقضى بعض الوقت، والخِرْجُ في مكانه الآمن، وصاحبه رغم مضي الوقت لم يظهر ولم يُعْرَف. لكن ذات يومٍ، وبينما شيخنا يعمل في أرضه، إذ به يسمع صوتاً ملهوفاً، التفت ليرى رجلاً لا يعرفه يندب حظّه، ضارباً كفاً بكف. سأله: “ ما بك أيها الرّجل؟
أجاب الغريب: لو عرفت قصّتي لزال استغرابك، وتأسّفت لحالتي، وعذرتني لما أنا فيه”.
– “ماذا بك يا أخي، تكلّم لعلّني أساعدك.”
قال الرجل موضحا قصّته: أنا رجل من التابعيّة التركيّة، ومهنتي تاجر غنم، أقضي السّنة في تسويق الغنم وجمعه من هنا وهناك، وفي فصل الّربيع آتي بها نحو فلسطين لأبيعها، وهذه السّنة وأثناء عودتي إلى بلادي بعد بيعها وجلب ثمنها، افترشت الأرض تحت هذه الشجرة لكنّي غادرت المكان دون أن أنتبه إلى أنّني نسيت الخرج الذي كان بجانبي مع محتوياته من مال وليرات ذهبية، وهي كلّ رأس مالي، فما عساك أن تفعل لمساعدتي وقد مضى على إضاعتي لمالي فترة من الزّمن؟”
رد عليه الشّيخ دون تردّد: كن مطمئنّ البال، فمالك محفوظ، وخِرْجك موجود.”
دُهش التاجر، وقال بلهجة غير المصدّق لما سمعه: “أصحيح مالي عندك كما تقول؟”
– “هوّن عليك يا أخي، نعم .. نعم”
تقدّم التاجر من الشّيخ بعد أن تيقّن من صدق حديثه وأمسك يده كي يقبّلها، لكنّ الشّيخ أبى قائلاً: “استغفر الله، نحن لم نفعل سوى ما يأمرنا به الدّين من حفظ العهود والأمانات” ثمّ دعاه إلى بيته ليستلم أمانته.
اعتلى كلّ منهما ظهر دابته واتّجها حيث أراد الشيخ. وكم كان تعجّب التّاجر عندما رأى بيتاً بسيطاً متواضعاً، مبنيّاً من الحجارة الخشنة (غير المقصوبة)، يسكنه الشّيخ وزوجته. دخل المنزل برفقة الشّيخ فاستقبلتهما الزّوجة بكل ترحاب، ثم قدّمت طعام العشاء بعد استئذان زوجها، ممّا حمل التّاجر على إكبار فعلهما متعجبّاً لكرمهما وحسن ضيافتهمها. لكنّه بات ليلته قلق البال حائر الفكر متسائلاً إلى ماذا ستؤول قصّة الخِرْج.
عند الصّباح، أتى الشّيخ بسلّم أسنده إلى حائط فوق رفٍّ، ثم طلب إلى التاجر ارتقاء السّلّم وإنزال الخِرْج الذي لم يزل في مكانه كما وُضع سابقاً.
تفقّد التاجر محتويات الكيس والدهشة بادية عليه بسبب ما رآه من الشيخ الفقير وزوجته من استقامة وفطرة سليمة. جثا على ركبتيه في ما بدا أنه محاولة لتقبيل الأرض بين يدي الشّيخ لكن الأخير استغفر الله واستنهضه قائلاً: “هذه أموالك، وهي ملكك، ونحن لم نفعل سوى ما يوحي به ضميرنا، وما يفرضه الواجب الدّيني”
كبُر ذلك الشيخ البسيط في عين التّاجر فإذا به يمسك بالخرج محاولاً أن يفرغ بعض محتوياته أمام الشيخ امتناناً وتقديراً، لكنّ الشّيخ بقي على إصراره ورفضه قبول أيّ شيء سواء كان كثيراً أم قليلاً ممّا جعل التّاجر يقع في حَيْرة من أمره، وكيف لا يكافىء من حفظ له هذا الكنز والثروة الكبيرة. ولمّا أعيته الحيلة ولم يجد سبيلاً إلى إقناع الشّيخ، ودّعه وانصرف مسرور البال، عائداً إلى بلاده محدّثا بقيم أهل المعروف وحفظهم الأمانات وصِدقِ حديثهم وكَرم ضيافتهم.

عند الشدائد والمُلمّات
يُعرف أصحاب الشّرف والمكرُمات

الأريحيّة والشّهامة، وحق الجيرة، تتأصّل وتُعْرَف عند الشّدائد والضّيق مع أصحاب الضّمائر وشرفاء النّاس، هذا كان مثل العديد من أبناء شِبعا، وفي مقدّمتهم ذلك المقدام السيّد شاهين هدلا، أرثوذكسي المذهب، شريف الأخلاق، كريم المحتِد والمعتقد. بعدما طلب منهم القائد العسكريّ الأرناؤوطيّ (إبّان حملات ابراهيم باشا المصري ضدّ الموحّدين الدروز)، وكان ذلك القائد يقيم في بيت إبراهيم قاسم الخطيب، جلب بعض النسوة الدرزيّات باعتبارهنّ “سبايا” مبرراً ذلك بأنّه قانون الحرب بعد اندحار وانكسار قومهم”!!
بادىء ذي بدء، حاول السيّد المذكور مع مختار البلدة ردعه وردّ طلبه باللّين والعطف والمسالمة، وحتى التّرجي، إلا أن القائد الوقح بقي على إصراره وأمرهم بالنّتيجة بإحضارَ النّسوة.
إذ ذاك، انتفض الرّجل الشريف شاهين هدلا وصرخَ في وجه القائد قائلاً: “تهون علينا أيّة تضحية على أن نجلب نساء من هم أهل الكرامة والشّرف لينلن الإهانة على أيديكم، فأنتم ذاهبون، ونحن وإيّاهم جيرانٌ باقون، إفعل ما تريد بنا، ولن نسمح أن تُمَسّ نساؤهم مهما كان الثمن وعظمت النّتائج”
شعر الضّابط الفظّ الطّباع بشيء من الحرج والارتباك لهذا الموقف البطوليّ، وممّا زاد في تردّده أن الجيش المصري رغم مظالمه كان يطبق سياسة صارمة في تحريم الاعتداء على الأعراض وذلك لمعرفته بشراسة الموحّدين الدّروز في حال المسّ بأعراضهم واستماتتهم في الدّفاع عنها. ومن حسن الحظّ أن وصل القائد إبراهيم باشا بذاته إلى شبعا، فانفرجت الأسارير، وفرض الأمن، وضبط العسكر ولم تمسّ كرامة أيّ إنسان بعدها.
وأثناء وجود ابراهيم باشا في شِبعا، قدم إليه الشّيخ حسن البيطار، نيابة عن قائد الثّورة شبلي باشا العريان، يُرافقه الوسيط بين الفريقين، السيّد جرجس الدّبس، لإتمام عقد الصّلح بين المتحاربين. وكانت النّتيجة، إنهاء الحرب وتسليم السلاح من قبل الثوّار، مقابل السلام والاطمئنان. وهنا أيضاً يروي المؤرّخ أسد رستم في كتابه “بشير بين السّلطان والعزيز” إنه بينما كان السيّد جرجس الدّبس ذاهباً لإبلاغ الثوّار الموجودين في جبل الشّيخ نتيجة الاتّفاق بين إبراهيم باشا والشّيخ حسن البيطار، شاهد بالقرب من قرية شِبعا اثنين من العسكر الأرناؤوط ممسكين بامرأة درزيّة فرجع مسرعاً وأخبر الباشا بما شاهد، وعندها طلب الباشا من البورجي (لقب عسكري مصري) أن يردعهما فلم يمتثلا، بعدها ساق السّر عسكر بغلته بنفسه نحوهما، وما أن أو وصل إليهما حتى قتلهما بيده”
(بعض معلومات هذه القصة مستوحاة من كتاب “شِبعا نافذة على التاريخ” للأستاذ مُنيف الخطيب)

المالُ يجرُّ المالَ
والقمل يجرّ السيبان

(الناس فيك إذا التقوا فثلاثة: مستعظم أو حاسد أو جاهل)

التّاجر والوجيه نسيب زَهوي، من كبار تجّار حاصبيا أوائل القرن العشرين. بعد أن كبُرت تجارته، وازدادت أرباحه، أصبح غناه حديث المجتمع، ينسجون حول ثروته قصصاً وأخباراً منها امتلاكه آلاف اللّيرات الذّهبيّة عدا المجوهرات واقتناء المزارع، واستخدامه الخَدم في منزله، وما شابه ذلك من ضروب الوجاهة وآفاق الزّعامة.
يجاوره في السّكن رجلٌ فقير الحال، معدوم التّدبير، مقطّب السّعي، مكسور الخاطر. ليله مع عائلته شجار ونهاره مع الأرض نقار.
ذات سهرة من سهرات كانون الطّويلة تفتّقت مخيّلة الزّوجة المُغَفّلة عن بِدعة ظنّت أنّها العلاج الناجع لفقرها وطريق قصير إلى الثّروة السّهلة. كانت تمتلك ليرة ذهبية واحدة قدّمها زوجها لها كمهرٍ يوم زواجهما. اقترحت أن يأخذ زوجها اللّيرة الذّهبيّة إلى دكّان جارهم الثّري فيربطها بخيط من المصّيص ويدفعها تحت الباب كي تصل إلى ليرات التّاجر الموضوعة في صندوق خشبي خلف الباب، علّها تجرّ وراءها بعض ليرات وفق المثل المعروف بأنّ “المال يجرّ المال”، وكانت مقتنعة، بفضل خيالها الواسع أنّ اللّيرات “ممغنطة” وأنها تجرّ بعضها البعض.
عمل الزّوج الذي لم يكن أقلّ حماقة برأي زوجته، فأمسك اللّيرة وثقبها بمسمار ثم ربطها إلى خيط من المصيص المتين، وذهب رغم الطّقس العاصف الممطر إلى دكّان جاره الغنيّ. تقدم من باب الدكّان الخشبيّ، والذي يرتفع مقدار سنتيمتر واحد عن البرطاش، ثم تفرّس ذات اليمين وذات الشمال، وعندما لم يجد من حسيس أو أنيس، دفع بليرته إلى داخل الدكّان. انتظر برهة وبدأ بشد الخيط متوقعا أن تعود اللّيرة الذذهبيّة اليتيمة بليرات كثيرة معها، لكنْ كم كانت خيبته صادمة عندما انقطع الخيط وعلقت اللّيرة الذهبية داخل الدكان.
عاد الخائب إلى داره وأخبر الزّوجة بما حصل موجّها لها اللوم على مشورتها البائسة.سألها:
– ما العمل؟ أكملي مشورتك، كيف سنعيد اللّيرة؟”
أجابته بعد ذهول وتفكير: “رأيي أن تذهب وتنام أمام باب الدّكّان حتى الصباح، وعندما يأتي صاحب الدكّان تروي له بكلّ صدق ما حدث معك، لعلّه يشفق علينا، ويرثي لحالنا، ويعيد إلينا ما فقدناه”.
التحف ذلك المسكين بقايا فروة من جلد الضّأن، ونام ليلته تحت قصف الرّعد ووميض البرق، وزخّات المطر، تقيه بعضاً منها سقيفة صغيرة تظلّل باب الدكّان. وما أن انبلج شعاع الصّباح، حتى نهض المسكين وجلس القرفصاء ينتظر قدوم التّاجر. حتى إذا ما أطلّ، ركض إليه متوسّلاً قائلاً: “يا عمي أبو زهير، قاتل الله الطمع، حقيقة أنّ النفس أمّارة بالسّوء. أقسم لك بالله العظيم إنّ هذا العمل ليس منّي ولا من تفكيري، لكنّ الفقر والتّعثير وطمع زوجتي وانقيادي لرأيها جعلني أُقدم على ذلك “
دُهِش التّاجر لهذا الاستقبال الصّباحي سأل أبا يوسف عمّا حدث له.
روى أبو يوسف وقد اعتراه شعور عارم بالعار قصّته الغريبة وكيف سعى لجرّ بعض ليرات الجار الغنيّ بواسطة ليرة ربطها إلى خيط مبرراً ذلك بفقره وبرأي زوجته وحاجتهم إلى شراء بعض الحاجيّات والثّياب للعيد. ثم أخبره كيف انقطع الخيط وعلقت اللّيرة الذّهبيّة اليتيمة داخل الدّكان. وختم أبو يوسف روايته بالقول: تصديقاً لقولي، فإنك ستشاهد اللّيرة وقد رُبِط الخيط بها، وهي مرميّة قرب الصندوق.
هزّ التاجر برأسه، ثم طيّب خاطره، وربّت على كتفه بعد أن برد فكره لما حدث، ثم تقدّم من الباب وفتحه، فإذا ما تفوّه به المسكين حقيقة واقعة، فاللّيرة مربوطة بخيط، وقد علقت بجانب الصّندوق المشار إليه. أخذها ثم راح يقلِّبها. حقاً إنها ليرة إنكليزية قديمة، ويعود سكّها إلى أكثر من مائة عام، وتحمل صورة الملكة فكتوريا على أحد وجهيها.
صاح أبو يوسف متلهّفاً: “ هل تأكدت يا سيدي؟؟”
أجابه : “نعم، لكنّ الليرة فقدت قيمتها التّجارية بثقبك لها، وخسرت كثيراً من ثمنها، وهي لم تعد تصلح إلّا للكسر أي لتحويلها إلى سبيكة”.
ندب المسكين حظّه التعيس، ولعن السّاعة التي أطاع فيها رأي زوجته، ثم أردف قائلاً: “المنحوس منحوس” وأكمل حديثه : “ ما العمل يا عم أبو زهير …؟؟”
أجابه أبو زهير: “سمعت منك أنّك بحاجة إلى طَحين وسكّر ورز وزيت وثياب، فهل تأخذ بها ما تحتاجه؟ وأنا بدوري سآخذ هذه اللّيرة إلى الصائغ في بيروت وأبيعها للكسر”.
وافق المسكين بعد أسًى، ثم أخذ ما يحتاجه بثمنها من الحوائج ومن الثّياب أذرعاً من الكتّان والخام، وبعضاً من الحوائج المنزليّة، وقبل مغادرته الدكّان استودعه صاحبها قائلاً: “يا صاحبي المثل القائل بأن “المال يجرّ المال” صحيح، لكن غرُب عن بال زوجتك أنّ لهذا المثل تكملة وهي: إنّ الكثير يجرّ القليل وليس القليل هو الذي يجرّ الكثير”.

العدد 18