الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

بين الرئيس الراحل بورقيبةَ والأمير شكيب أرسلان

بين الرئيس الراحل بورقيبةَ والأمير شكيب أرسلان
جهاد مشتركٌ في سبيل إسلامٍ مُستنير
يجهلُ كثير من التونسييّن، والعرب لا يختلفون كثيراً عنهم، صلات الصداقة الوثيقة التي شدّت الزّعيم الرئيس الحبيب بورقيبة رحمه الله، بالعديد من المفكّرين والسياسييّن والإعلامييّن المشارِقة، والتي تكونت سواء في فترة إقامة المجاهد الأكبر في القاهرة، التي قدم إليها عبر ليبيا سنة 1945، فارًّا من اتّهامات فرنسية بالتّعامل مع المِحور، أو من خلال مؤسّسات الكفاح الوطني ضدّ الاستعمار، التي أقامها الوطنيّون المغاربة والعرب في عدد من الدول الأوربية.
وقد حرص الزعيم بورقيبة على الوفاء لهذه العلاقات، حتى بعد تولّيه مهام رئاسة الدولة وتكاثر التزاماته وانشغالاته، إذ حرص على تكريم كثير من أصدقاء الأمس وشركاء الجهاد الأصغر، ممّن بقَوا على قيد الحياة، كما فعل على سبيل المثال مع الصحفي الفلسطيني المصري محمّد على الطاهر، وكنيته أبو الحسن الطاهر (1896-1974)، الذي كان أوّل من استقبل المجاهد الأكبر في المحروسة وبذل معه جهوداً في التعريف به لدى قادتها ونُخَبها و سائر الوافدين إليها طلباً للعَون والنّصرة، وكان ردّ الجميل بتقليده أرفع الأوسمة التونسية، واستغلال كلّ فرصة متاحة لاستقباله في القصر الجمهوري أو زيارته في بيته المتواضع، وتسمية أحد شوارع العاصمة التونسية باسمه.
الحبيب بو رقيبة (3 آب 1903 – 6 نيسان 2000)، الأب المؤسس وأول رئيس للجمهورية التونسية
ولمحمد علي الطاهر، الذي كان يقال في وصفه أنّ الشمس لا تغرب عن شيئين، الإمبراطورية البريطانية والجريدة التي يصدرها أبو الحسن، كتاب نادر لم يُعَد طبعه إلى حد الآن مرة ثانية، ضمّنه رسائل الزّعيم بورقيبة إليه خلال فترة الكفاح الوطني، رسائل تفيض بالمشاعر الإنسانية النبيلة، فضلاً عمّا تحتويه من توضيحات للمرجعية الفكرية والسياسية التي يستند إليها المجاهد الأكبر في حركته، وهي مرجعية مشتقّة بلا ريب من أدبيّات حركة الإصلاح العربية الإسلامية التي نهضت على أيدي الطهطاوي ومحمّد عبده وخير الدين التونسي و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وخلافاً لما يعتقد البعض في تونس وخارجها، من أنّ فترة إقامة بورقيبة المشرقية، كانت في خلاصتها سلبية، وأنها خلّفت في نفسه مرارة و موقفا معادياً للمشرق، فإن دراسة متأنيّة لوثائق ومصادر تلك الحقبة التاريخيّة، تثبت خلاف ذلك تماماً، بل لعلَّ العَتَب والتشويش الذي حصل في علاقة المجاهد الأكبر بالبلدان المشرقية، مرجعه الأزمة الناشبة بين الرؤيتين البورقيبيّة والناصريّة خلال الستينيّات، بعد خطاب أريحا الصريح، ولربما كانت لبعض المؤامرات الداخلية التي استهدفت الزعامة البورقيبية بتشجيع من بعض ساسة المشرق دور في توسيع الفجوة.

لقد كانت زعامة بورقيبة في القاهرة بَيِّنة، وقد قام بالعديد من المَهام الناجحة في التعريف بالقضيّة التونسية، وساهم في تأسيس مكتب المغرب العربي بمشاركة عدد من زعماء الحركة الوطنية المغربية والجزائرية، وعلى رأسهم الأمير محمّد بن عبد الكريم الخطّابي، كما كان أيضا محل إعجاب وتقدير لدى كثير ممّن عرفه عن قرب كما هو شأن محمّد علي الطاهر الذي قال إنه من أوائل من لحظ شخصيّة بورقيبة الفريدة ونظرته الثاقبة، فقد كان المجاهد الأكبر موسوعيّ الثقافة، نقديّ الرؤية، لمّاحاً وواثقاً من نفسه وقضيّته، مُتقنا للغتين العربية والفرنسية على حد سواء، ومستوعباً لنقاط القوّة والضّعف في الحضارتين الإسلامية والغربية.

غير أنّ أكثر الشخصيات المشرقية حظوة وتأثيرا لدى الزعيم الرئيس بورقيبة، كان المفكر والسياسي اللبناني الدرزي الكبير الأمير شكيب أرسلان، الذي كان أوّل من أولى عناية استثنائية للقضايا المغاربيّة، و قيل أنّه لعب دوراً رئيسيًّا من خلال علاقاته الوطيدة بقادة العمل الوطني المغاربي، في حسم إشكالية الهوّية التي أثارها المرسوم الاستعماري المُكَنَّى «الظهير البربري» (1930)، لصالح اعتبار الشمال الأفريقي مغربا للأمة العربية الإسلامية.

لقد التزم (بو رقيبة) سياسة آمنت بدور الدّين لصالح العملية التنمويّة.

ويعود أوّل لقاء للزعيم بورقيبة بالأمير شكيب أرسلان لسنة 1937، وكان ذلك على هامش مؤتمر لجمعية الطلبة المسلمين لشمال أفريقيا، التي كانت بمثابة الجناح الطلابي للحركة الوطنية المغاربية. وقد انعقد اللقاء بعد ثلاث سنوات فقط من تأسيس المجاهد الأكبر للحزب الحرّ الدستوري (الذي سيحتفل البورقيبيون بالذكرى الخامسة والسبعين له يوم 2 مارس القادم)، وجاء بمثابة اعتراف من أمير البيان وداعية العروبة والإسلام، بالحزب الجديد ممثّلا أساسيًّا للحركة الوطنيّة التونسية.

وبحسب المؤرّخ الأوربي «وليام كليفلند» صاحب كتاب « إسلام ضد الغرب، شكيب أرسلان ودعوته للقومية الإسلامية»، فإنّ إعجاب الزعيم بورقيبة بأفكار الأمير الإصلاحية كان كبيراً، كما أنّ الصلة التي قامت بينهما، وتخصيص المجاهد الأكبر عدداً كاملا من صحيفة العمل لسان حال الحزب الحرّ الدستوري، الصادر بعد لقاء باريس الآنف، كانت خير سند للدستوريين الجدُد في مواجهتهم السياسية والفكرية الحاسمة مع الدستوريين القدامى، وقد عاد زعيمهم الشيخ الثعالبي في حينها إلى البلاد بعد ما يقارب الأربعة عقود من المنفى.

ويشير المؤرّخون إلى أن الأمير شكيب أرسلان، الذي اشتُهر بعلاقات متميّزة مع قادة الرايخ الألماني و حلفائه الإيطاليين، قد تدخّل لدى قيادة المحور من أجل إطلاق قادة الحزب الحر الدستوري الجديد، وقد تحقق له ذلك أواخر سنة 1943، تماماً كما طلب منه الزعيم بورقيبة من أجل إقناع المحور باستصدار وعد لمنح تونس الاستقلال بعد انتهاء الحرب، من أجل كسب ثقة التونسيين، ونجح الأمير مرة أخرى في تحقيق الطلب، غير أن نهاية الحرب العالمية الثانية جاءت خلافاً لما ظهر في بدايتها، ولم يكن من بديل إلّا الصبر عقداً آخر من الكفاح حتى تتحقّق الرؤية.

إلّا أنّ أبلغ ملمح لتأثير الأمير شكيب أرسلان في شخصية الزعيم بورقيبة، كَمن بلا شك في النظرة للإسلام وتأويل نصوصه بما يتفق مع مصالح المسلمين ومتطلبات الحداثة، فقد التزم المجاهد الأكبر بعد نيل تونس الاستقلال وتسلّمه مقاليد الحكم، سياسة متميزة، آمنت بدور داعم يلعبه الدين لصالح العمليّة التنمويّة، وهي سياسة جعلت البورقيبيّة مختلفة عن الأتاتوركيّة التي عملت على إلغاء أي دور للدين، رغم التقائهما في الإيمان بضرورة التحديث، كما جعلها مختلفة عن السلفيّة، رغم انطلاق كليهما من النَّصّ المقدس. وقد نُقِلَ عن الزعيم بورقيبة قوله « أنه نجح في تشريع كل ما تقتضيه الحداثة، إلا مسألة المساواة في الإرث، لأنّه لم يجد مخرجاً لتأويل النّص الخاص به». وما يجدر ذكره هو أن المجاهد الأكبر لم يخطُ خطوةً تحديثية واحدة دون سند من الشريعة وتأويل للنص، بما في ذلك توصيفه لمرحلتي الكفاح ضد المستعمر والاستقلال بالجهادين الأصغر والأكبر، وإفطاره جهراً في رمضان عندما استشار العلماء فأجازوا له ذلك أسوة بالرسول (ص) الذي ثبت أنّه أفطر جهرا سنة الفتح وأمرَ أصحابه بأن يفعلوا. و البيِّنُ أنَّ شكيب أرسلان، ولم يكن في هذا الأمر شاذًّا عن بقية رواد الإصلاح، قد غذّى النزعة التأويليّة وعمّقها في نفس الزّعيم الشاب آنذاك، فقد كان الأمير المُنحدر من بيئة درزيّة يرى غالبية المسلمين أنّها خارجة عن المألوف والملّة، رمزاً للفهم العميق لجوهر الدين، ومثالاً لقدرة مجدِّد ديني ومفكِّر إصلاحيّ على تجاوز كلّ دوائر الحصار الفكري والعقدي المضروبة منذ قرون على بني قومه.

إنَّ هذا التوجه الواقعي والعملي المُلتزم بالنتائج، لا المتعصب للشعارات، في التعامل مع الإسلام، هو الجامع بين الأمير شكيب أرسلان والزعيم الحبيب بورقيبة، غير أنَّ وفاة الأول دون ممارسة للسلطة وتصدّي الثاني لمهام الحكم، جعل صورة كلّ منهما لدى العامة وبعض الخاصة، تبدو وكأنها متباعدة أو متناقضة، بل لعلّ حركات الإسلام السياسي المُهيمنة على الشارع حاليًّا، قد سعت جاهدة إلى أن تضم تراث الأمير إلى أعمالها، أو تجعل من نفسها امتداداً له، في حين ناصبت المجاهدَ الأكبر أشد العداء واشتغلت آلتها الإعلامية جاهدة لتشويه صورته الناصعة. والحاجة اليوم أكيدة، لاستئناف معركة التأويل، تلك التي آمن بها أرسلان وبورقيبة وبذلا عمراً في إدارتها والعمل على الظفر بها وآمنا بضرورة خوضها حتى لا يُترَك الدين الحنيف ونصوصه لأولئك الذين يريدون أن يشتروا به ثمناً قليلاً أو يعملون على أن يكون وسيلة لتعميق مشاعر الكراهية وأفكار الانغلاق والرّفض والظّلام ونشر الرّعب والموت والدمار والأزمات في كل مكان حلُّوا به. فلنقرأ من جديد إذاً السّيرة البورقيبية والأرسلانيّة ولنأخذ منهما عبقرية التأويل.

سيرة “أمير البيان، وشيخ العروبة والإسلام” المفكر المجاهد شكيب أرسلان

سيرة “أمير البيان، وشيخ العروبة والإسلام” المفكر المجاهد شكيب أرسلان
 
السيرة الذاتية والجهادية

نقول «الذاتية والجهادية» معاً، لأن شكيباً ومنذ بواكير العمر كان قد نذر نفسه لقضايا استقلال أمته، ووحدتها، وتقدمها، فغدت سيرته الجهادية سيرته الذاتية بكل ما للكلمة من معنى.

هو شكيب، ووفق النسب الذي يقدّمه الأمير في «روض الشقيق»، «إبن الأمير حمود… إبن الأمير حسن… إبن الأمير يونس…». وتعود جذور النسب ليبلغ أيام الإسلام الأولى «إبن الأمير بركات المتوفي سنة 106 هجرية، إبن الأمير المنذر الملقب بالتنوخي المتوفي سنة 78 هجرية، إبن الأمير مسعود المتوفي سنة 45 هجرية، إبن الأمير عون، شهيد معركة إجنادين التي جرت يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادي الأول سنة 13 هجرية». (روض الشقيق، ص 145-146 و 244). ولِد الأمير شكيب، وهو الإبن الثاني للأمير حمود بن حسن، وكما يؤكد في كتابه «سيرة ذاتية» في الخامس والعشرين من شهر كانون أول، (الموافق لأول ليلة من شهر رمضان، لسنة 1286 هجرية)، في بلدة الشويفات، وهي على مبعدة عشرة كيلومترات جنوب العاصمة اللبنانية، بيروت.

تتلمذ شكيب وأخوه نسيب في فترة مبكرة، في منزل العائلة أولاً، في الشويفات على يد الشيخ مرعي شاهين سلمان، وصيفاً في المنزل العائلي في عين عنوب على يد المربي أسعد فيصل، حيث تعلم عليهما القراءة والكتابة، ومبادئ اللغة العربية، وحفظ جانباً من القرآن الكريم. لكن الوالد سرعان ما ألحقه بعد ذلك في مدارس نظامية عدة. في المدرسة الأمريكية في حي العمروسية في الشويفات، حيث تلقن الحساب والجغرافية ومبادئ اللغة الإنجليزية. وفي سنة 1879، وكان شكيب قد بلغ العاشرة من عمره، أدخِل شكيب مدرسة الحكمة في بيروت، وكانت الحكمة يومذاك بإدارة المؤرخ والعالم واللاهوتي يوسف الدبس، وقد ضمت في فترات مختلفة أشهر معلمي العصر، من مثل الشيخ عبد الله البستاني، ثم مارون عبود، وكان للمدرسة تلك ومعلميها الأثر الكبير في تربية شكيب النحوية والأدبية والنهضوية عموماً.

صرف شكيب في «الحكمة» سبع سنوات (1879-1886) كان فيها شكيب مبرزاً، وطليعة أقرانه، ومن المصادفات أن يزور الشيخ محمد عبده، المنفي إلى بيروت بعد ثورة عرابي في مصر سنة 1882، مدرسة الحكمة، فقدّم شكيب الفتى في حضور الشيخ، الذي سيصبح بعد عودته من المنفى مفتي الديار المصرية، بوصفه مفخرة إخوانه، وكانت بداية معرفته بالشيخ عبده وانتقلت الصداقة إلى والده الذي استضافه في المنزل العائلي غير مرة وكلن شكيب يلقي أمامه بواكير قصائده، وكانت كلمة الشيخ المعروفة: «ستكون من أحسن الشعراء»، ولم يُخب الأمير توقع الشيخ عبده بالتأكيد، بدليل قول الأديب الكبير مارون عبود فيه بعد صدور ديوانه سنة 1935: «لو لم تشغله السياسة، لكان هو أمير الشعراء لا شوقي!».

في الحادية والعشرين من عمره، أي سنة 1890، وكان قد توفي والده قبل ذلك بزمن قصير، استقال شكيب من منصب مدير ناحية الشويفات التي كلفه بها متصرف جبل لبنان واصا باشا، يمّم شكيب شطر مصر، صرف فيها نحواً من عام كامل، فالتقي الشيخ عبده العائد من المنفي، وشخصيات سياسية وأدبية مصرية عدة، من أبرزهم الشيخ علي يوسف، صاحب جريدة «المؤيد» وأحمد زكي باشا، صاحب «الشورى» وآخرين، وحيث تأسست الخطوط الكبرى لحياته الفكرية والجهادية اللاحقة.

أواخر سنة 1890، سافر شكيب إلى فرنسا. ثم توجّه من فرنسا مطلع سنة 1892 إلى الأستانة، حيث التقى الداعية والمصلح العظيم جمال الدين الأفغاني، ولزمه فترة طويلة من الزمن وذلك قبل خمس سنوات من موت الأفغاني سنة 1897. عاد شكيب إلى بيروت أواخر سنة 1892، بعد سنتين من الترحال والاستشفاء والتعرّف إلى أحوال الشرق ومقارنتها بأحوال أوروبا. عيّن سنة 1908 قائمقاماً للشوف، فسلك المسلك الذي يرضي قناعاته لا العثمانيين، ما أدى إلى مواجهة المتصرفين العثمانيين الغارقين في فسادهم، وليستقيل من المنصب بعد أقل من سنتين. أختير في مجلس «المبعوثان» في الاستانة بعد إصلاحات سنة 1908 نائباً عن «حوران»، فكان مدافعاً نشطاً عن مطالب بلاده، آخذاً عليهم موجة التتريك المتصاعدة وتخليهم عن اللغة العربية لغة رسمية، ولكن من دون أن ينجر إلى الحملة الغربية المعادية للعثمانيين.

في سنة 1911، وفي إثر الغزو الإيطالي لليبيا، يقول الأمير في سيرته الشخصية: «لما شنّت إيطاليا غارتها على طرابلس الغرب، كنت في عين صوفر، وأخذت أكاتب أصحابي بمصر ومنهم الشيخ علي يوسف صاحب جريدة «المؤيد»، في إعانة السنوسية بالأموال من أجل المقاومة». لكن شكيب لم يكتف بالإدانة اللفظية، بل سعى إلى جمع عشرات المتطوعين من جبل لبنان، إن لم يكن أكثر، وسار بهم قاصداً الأراضي الليبية ليشارك في رد الغزوة الإيطالية، فبلغ ليبيا بعد صعوبات تسبب بها الإنجليز، وقضى فترة هناك مع قادة عثمانيين كبار من مثل مصطفى كمال وأنور باشا ونوري باشا، وقادة مصريين من مثل عزيز المصري الذائع الصيت. وحين سألته جريدة بمصر عن السبب الذي جاء به إلى ليبيا، كان جوابه الذي غدا مثلاً: «إن لم نقدر أن نحفظ صحارى طرابلس الغرب، لم نقدر أن نحفظ جنان الشام.»

“لقد مات الذي ليس فوقه فوق من رجالات العرب……” (الأمير عبد الله أمير شرق الأردن، من حفل تأبين شكيب في يافا سنة 1947)

استغل الأمير شكيب حظوته لدى القادة العسكريين العثمانيين الذين دخلوا لبنان مطلع الحرب العالمية الأولى في طريقهم للدفاع عن قناة السويس في وجه الإنجليز، لإنقاذ الكثير من القادة اللبنانيين من بطش جمال باشاً، وبينها نجاحه في منع جمال باشا من دخول البطريركية المارونية في بكركي. لم يسلم الأمير نفسه من كيد جمال باشا، لكن الأخير كان عاجزاً عن النيل منه نظراً لموقعه في الاستانة، فقال (جمال): «حاولت أن أطوّق رقبة شكيب بحبال المشنقة، فم أجد منها ما يحيط بعنقه.» وحين اتهمه «جوفنيل»، المفوض السامي الفرنسي بعد ذلك، أنه قاد متطوعة لبنانيين للقتال تحت أمرة جمال باشا، جاء رد شكيب في «اللومانيتيه» الفرنسية حاداً ومفحماً، قال: « … أما قوله أنني كنت على رأس المتطوعين اللبنانيين لمقاومة الدول التي اقتسمت بلادنا سراً فيما بينها، فهذا ما افتخر به ولست بنادم عليه، ولكن وجودي تحت أمرة جمال باشا، وهو قائد الفيلق الرابع، فلا يوجب أن أكون من أخصائه.»

أحمد جمال باشا (1873 – 1922)

بعدما استتب الأمر لفرنسا في لبنان وسوريا سنتي 1918-1919، اختار شكيب النفي الطوعي، فغادر إلى أضنة سنة 1919، ومنها إلى برلين، التي كانت قد خرجت مهزومة ومنهكة من الحرب العالمية الثانية، فأقام فيها حتى سنة 1925. في سنة 1922، اجتمع في القاهرة عدد من قادة العمل الوطني في سوريا وفلسطين، واختار المؤتمر بوضوح مطلب الاستقلال الوطني الكامل. ومن جملة قراراتهم تشكيل وفد يعرض مطلب الاستقلال أمام عصبة الأمم. لم يشترك شكيب في المؤتمر، إذ كان في منفاه وكان ممنوعاً عليه دخول مصر (وسائر البلدان المحتلة من إنجلترا وفرنسا) لكن المؤتمرين كلفوه وآخرين بتولي المهمة تلك، وأرسلوا إليه في برلين قرار تكليفه سكرتيراً أول للوفد، بل طلبوا إليه تأليف الوفد.

وفي أعقاب انتفاضة جبل العرب سنة 1925 ضد الاستعمار الفرنسي، ترك شكيب برلين إلى جنيف ليكون أقرب إلى مقر عصبة الأمم وأعمالها وليتمكن من الدفاع عن الحركات الاستقلالية العربية، في المشرق والمغرب، أمام عصبة الأمم (وكان يحمل تواقيع أربعين جمعية استقلالية عربية ليمثلها أمام عصبة الأمم).

في 14 شباط سنة 1926، سافر شكيب إلى روما مترئساً الوفد السوري أمام «لجنة الانتداب» التي نجح شكيب في جعلها تجتمع في روما التي لم تكن على وفاق مع فرنسا وإنجلترا، وقد نشر بياناً صحافياً مؤثراً حول همجية الاحتلالين الإنجليزي والفرنسي لاقى صدى واسعاً. وبسبب من خبرته السياسية الواسعة، وصفاء غاياته، نبّه الشريف حسين وأولاده من بعده أن لا يأخذوا الوعود البريطانية التي أغدقت له على محمل الجد، بل اعتبرها مجرد إسفين تدقه بريطانيا لشق العالم الإسلامي، وستتخلى عنه لاحقاً وهذا ما حدث فعلاً. ويقول الدكتور سامي الدهّان المحاضر في معهد جامعة الدول العربية للدراسات: «وقد عرف الملك فيصل إخلاص شكيب للقضية العربية وآمن بخدمته لها وسعيه في سبيلها…لذلك كان فيصل يعرف منه ما كان الناس يجهلون، ويقدره حق قدره، ويبادله الود والتحية.» وبعدما أزيح فيصل عن عرش العراق أرسل لشكيب رسالة تظهر تقدير فيصل وثقته العالية بشكيب وتحليله للأمور، ويختمها بالقول: «أشهد بأنك أول من تكلم معي من العرب في قضية الوحدة العربية.»

ومن باب تقدير شكيب لأهمية الرأي العام الأوروبي، وضرورته إعلامه بالحقائق التي لا يعرفها، أسس سنة 1930 من منفاه في جنيف مجلة La Nation Arabe «الأمة العربية»، كان يدفع تكاليفها من جيبه ومن خلال بيعه أراض له في لبنان، وغدت منبراً لكل الاستقلاليين العرب في المشرق والمغرب وكتب فيها أهم الاستقلاليين الذين سيصبحون لاحقاً قادة البلدان العربية المستقلة.بعد اندلاع النزاع الحدودي السعودي – اليمني، تشكل وفد عربي إسلامي ذهب إلى البلدين، وكان شكيب في طليعة الوفد، وقد تكللت مساعيه بوقف الحرب تلك والتحول إلى المباحثات المباشرة السلمية والأخوية. بنتيجة جهوده، ولسمعته التي كانت طبقت الآفاق، عرض عليه الملك عبد العزيز أي منصب وزاري أو سفارة يختارها، يقول رشيد رضا مؤسس المنار: «وقد علمت علم اليقين أن جلالته رغب إاليه أن يبقى لديه في الحجاز دائماً أو ما شاء وطابت له الإقامة ليقوم ما لا يستطيع غيره أن يقوم به من أعباء الإصلاح في حكومته فاعتذر… على أن يخدم القضية العربية بما شاء جلالته… إلا في الوظائف الرسمية.» كما يقول د. عبد العزيز المقالح الرئيس الأسبق لجامعة صنعاء أن شكيباً كان أول من حدّث إمام اليمن بضرورة التحديث وخروج اليمن من ظروف القرون الوسطى، بل جاء صنعاء ببضعة شبان لبنانيين (منهم نجيب أبو عزالدين) ليكونوا طليعة مشروع التحديث ذاك.

“أشهد بأنك أول من تكلم معي من العرب في قضية الوحدة العربية”. (الملك فيصل الأول)

بعد توقيع معاهدة 1936 بين الكتلة الوطنية السورية والانتداب الفرنسي، سمح له الفرنسيون بعودة قصيرة إلى سوريا، ليلقى والدته أولاً، وليتسلم رئاسة المجمع العربي العلمي بدمشق ثانياً، وليلقي محاضرات عدة في غير مدينة سورية حول مستلزمات النهضة واللحاق بالعالم المتقدم. لكن المقام لم يطل بشكيب في وطنه، إذا سرعان ما غدرت فرنسا بالوطنيين السوريين وألغت المعاهدة، فعاد شكيب إلى مناصبة الاحتلال الفرنسي كما الإنجليزي العداء الشديد. كان شكيب، ولموقفه المتصلبة ضد الاستعمارين الفرنسي والانجليزي، مطارداً من السلطات المحتلة، وكانت زياراته النادرة لدمشق والإسكندرية وطنجة، التي أخرجه الفرنسيون منها بالقوة، موضوع ملاحقة لصيقة من شرطة المحتل، وصودرت كتبه، بل كان في غير مرة موضع مؤامرات تدبّر في ليل لتنال من سمعته وسمعة مريديه وأصدقائه.

ولم يفت الصهاينة أن يلتحقوا بالفرنسيين والإنجليز في محاولة النيل من سمعة شكيب، إذ كانت صداقته ومفتي القدس الحاج أمين الحسيني وغيره من رجالات المقاومة الفلسطينية للمشاريع الصهيونية في فلسطين مصدر إزعاج دائم للسلطات البريطانية كمل للدوائر الصهيونية، ويشهد وايزمن في نص له بأن شكيباً كان أكثر العرب تصلباً في رفضه للمخططات الصهيونية في فلسطين.

تحققت أمنية شكيب بالعودة إلى أرض الأباء والأجداد وقد غدت مستقلة من كل احتلال أجنبي، فكانت عودته إلى مرفأ بيروت في الثلاثين من نوفمبر سنة 1946. كان شكيب قد بلغ السابعة والسبعين، وقد نال المرض منه كل منال، بفعل سنوات المنفى الطويل وأيام وليالي عمله الذي لم ينقطع في كل مجال، فلم يطل به المقام في بيروت حتى اشتد مرضه. وينقل عبد الله المشنوق عنه قوله وقبل أيام من رحيله: «إني مرض وأشعر بدنو الأجل، وأنا أحمد الله عز وجل الذي سهل لي أن أفارق الحياة على أرض هذا الوطن بعد أن أتم الله نعمته عليه فشهدته سيداً عزيزاً مستقلاً…».

أسلم شكيب الروح ولفظ أنفاسه الأخيرة في منزل عبد الله المشنوق ليلة الإثنين في التاسع من كانون الأول 1946، أي بعد أقل من أربعين يوماً من عودته من منفاه الطوعي. وكان آخر ما كتب قبيل وفاته، قصاصة ورق سلمها لعبد الله المشنوق والحاضرين وفيها: «أوصيكم بفلسطين». انطفأت بموت شكيب شموع سنواته السبع والسبعين، لكنها كانت قد حفرت عميقاً في الوجدان اللبناني، والعربي، والإسلامي. كان الأمير شكيب أرسلان شخصية طبّقت شهرتها الآفاق، وقويت بالتالي على صنوف النسيان عبر الزمن، ويستحق تراثه الذي نحتفي به أن يكون نبراساً لنا في هذا الزمن أيضاً.


السيرة العلمية والأدبية

 بدأ الأمير حياته شاعراً مجيداً وكان لم يبلغ السابعة عشرة من عمره، وبواكير شعره التي نشرت كاملة في مرحلة لاحقة تشير كما قال دارسو شعره أنها كانت عفو الخاطر، عن طبع ويسر لا عن اصطناع وتكلف. وهو ما جعل الناقد والأديب الكبير مارون عبود يقول فيه، «لو لم تشغله السياسة لكان هو أمير الشعراء لا شوقي».

استمر شكيب يقرض الشعر، ولكن على انقطاع، إذ أخذته مشاغل المهام العلمية والجهادية التي تصدى لها بعيداً عن الشعر. فقيل وبحق، بدأ شاعراً وانتهى ناثراً مترسلاً. تحول شكيب من الشعرإلى النثر لأنه لم يكن بوسع الشعر أن يقوم بالمهام الدقيقة الجسام التي كتب على شكيب أن يقوم بها، من إدارة إلى سفارة إلى وساطة إلى صحافة إلى تمثيل الجمعيات العربية الاستقلالية في جنيف وأوروبا إلى المحاضرات والخطب الدقيقة التي كان عليه أن يملأ بها فراغاً في الحركة العربية الوطنية مطلع القرن العشرين وصولاً إلى مرحلة مجلته «الأمة العربية» التي أصدرها في جنيف ثم نقلها لسنة واحدة إلى فيينا، بعدما ضاق الحلفاء ذرعاً بهجوم المجلة على سياساتهم في البلدان العربية المشرقية والمغربية، فضغطوا على حكومة سويسرا المحايدة آنذاك التي طلبت بدورها من شكيب إما توقف المجلة أو مغادرتها سويسرا وهكذا كان.

كذلك ابتعد شكيب أكثر عن الشعر نحو أنواع أدبية أخرى، من مثل المقالة، والخطابة، والرواية، والترجمة، وكانت كلها موقوفة للأغراض الوطنية أو السياسية أو الأخلاقية التي التزم شكيب بها طوال عمره. لكن الأنواع الأدبية تلك كانت مرآة أظهرت باعه الطويل في الفنون البيانية والبلاغية والتعبيرية بعامة، والتي ندر أن جاراه فيها معاصر، وكان أثر تتلمذه في «الحكمة» لكبار معلمي العربية في عصره بادياً بوضوح، إضافة إل تنقيبه في كنوز العربية، إلى ما حباه الله من مهارات وملكات جعلت اللغة والبيان طوع مشيئته، يجبل منهما خطابه فتأتي أفكاره على أعمق نحو وأدقه، وفي أعلى الصور البليغة المؤثرة. والباب الثالث والأخير، هو الجانب العلمي الدقيق في شخصيته والذي بدا جلياً في أعماله.

مارون عبود (1886-1962): كاتب وأديب لبناني كبير

رغم الجانب الأدبي المجلّي الذي لحظه كل متتبع لسيرة الأمير شكيب منذ بواكيرها (كما فعل الشيخ محمد عبده حين استمع إلى قصائده)، والذي عاد فلحظه كل قارئ لأعمال شكيب الفنية النثرية اللاحقة، لكن الأمير أظهر في السنوات اللاحقة روحاً علمية لها خصائص الروح العلمية الموضوعية والعقل العلمي البارد اللذين يتمتع بها العلماء المتخصصون في العادة. وتمثلت علمية الأمير شكيب في الأبواب التي طرقها:

1- التحديد الدقيق لموضوع البحث أو التحليل أو المراجعة،

2- منهجية المقاربة وموضوعيتها،

3- سعة الاسناد والمصادر والمراجع،

4- استعراض ما قيل في المسألة سابقاً،

5- الركون إلى الحجة والدليل القويين لا غير،

6- القدرة على المناقشة والجدل وتبادل الأراء والأفكار واحترام الرأي الآخر،

7- قبول النقد واحتمال الخطأ،

8- وبعد ذلك الدقة في العبارة العلمية التي يصوغ بها خلاصاته ونتائجه.

تلك هي متطلبات أي بحث علمي دقيق موثوق بنتائجه، كائناً ما كان موضوعه أو مادته، وقد أبدع شكيب في بحوثه العلمية أيما إبداع، فغدت أعماله مراجع لبحاثة آخرين في البلاد العربية كافة؛ وهو ما أهّله ليرشحه البعض لرئاسة المجمع العلمي العربي بدمشق وليفوز بالرئاسة، وهو مجمع علمي ضم خيرة بحّاثة العربية الموجودين في بلاد الشام يومذاك.

أما المجالات العلمية الدقيقة التي ترك الأمير شكيب آثاراً فيها مكتوبة وعالية المستوى وباتت مرجعاً للبحاثة كما للقراء، فهي مجالات متعددة، وأهمها: علوم اللغة العربية على أنواعها المختلفة من نحو وبيان وبلاغة وما إلى ذلك، علوم الفقه، علم التاريخ، تحقيق المخطوطات القديمة، الترجمة، علم الأصول والأنساب القبلية، الزوايا والتكايا في البلاد المغربية؛ ناهيك بمهنة الكتابة الصحافية التي مارسها حتى التخمة وفي أهم المجلات والجرائد من مثل «المؤيد»، «الشورى»، «الأهرام»، «الفتح»، «المنار»، وسواها في مشرق الوطن العربي ومغربه، إضافة إلى تحرير مجلته التي واضبت على الصدور منذ سنة 1930 وحتى سنة 1944، أي حين أخرج من جنيف وبدأت صحته بالتهور، عدا المشاكل المالية المتفاقمة. وسيظهر ثبت مؤلفات الأمير شكيب مقدار ما كتب وأنجز ونشر في المجالات تلك كافة. وفي وسع المرء أن يتخيّل الجهد الشخصي، العقلي واليدوي، الذي كان يبذله شكيب في تأليف وتحرير وكتابة مئات المقالات والمحاضرات، مع كاتب مساعد حيناً ومن دون كاتب يساعده أحياناً أخرى. ويروي الذين رافقوا شكيب في حله وترحاله أنهم كانوا لا يفارقونه مساء إلا وهو يكتب، ولا يأتونه صباحاً إلا وقلمه وأوراقه أمامه على طاولته يدبج مقالة أو نصاً.

أضف إلى الفنون تلك، إصرار الأمير على الرد الشخصي على كل كتاب أو مراسلة تأتيه، من علية القوم أم من عموم الناس. وهو ما جعل رسائله، وبخط يده في الغالب، تزيّن كل بيت في لبنان تقريباً كما في الكثير من بقاع العالم العربي. وبحسب الناقد الكبير جبور عبد النور، فلو جمعت رسائل شكيب لبلغ وزنها طنّاً من الورق! هي ذي بعض ملامح شخصية الأمير شكيب أرسلان الأدبية والعلمية المنقطعة النظير.

“كان والدي من أشد محبّي المِير شأن أبناء جيلِه ممّن فتحوا أعينهم وعقولهم على كتاباته، بوصفه واحداً من الروّاد العظام.” (د. عبد العزيز المقالح الرئيس الأسبق لجامعة صنعاء في اليمن)


خاتمة

لو أردنا سرد كلّ ما قيل في الأمير شكيب أرسلان، لاحتاج الأمر إلى مجلّد كبير مستقل، لذلك نكتفي بعينات من مشرق العرب ومغربهم:

هذا الـــــــذي رفـــــــــع اليـــــــراع منــــــــارة غمــــــــرت سمــــــــــاء الشـــــمــــــس بالأنـــــــوار
لــــــــــــو دان أحــــــــــرار البــــــــلاد لــــــسيّد نــــــــــاديتــــــــــه يـــــــــــا ســــــــيّد الأحـــــــــرار

بشارة عبدالله الخوري (الأخطل الصغير)

 

«بوركت أرض الإسلام التي أنجبتك يا شكيب» المصلح السيد جمال الدين الأفغاني

 

«أمير العروبة الكبير، وطنه الصغير بلاد الشام، ووطنه الأكبر بلاد العرب قاطبة» السيد عبدالله بن علوي الجعفري

 

هذا نزر يسير من الكثير الكثير الذي قيل في ما صنعه وأنجزه وتركه من آثار باهرة وأعمال جسام، أمير البيان، شيخ العروبة والإسلام، المفكر والمجاهد: الأمير شكيب أرسلان.


المؤلفات المنشورة وغير المنشورة [su_list icon_color=”#c5143f”]

 

  • بواكير شعر الأمير شكيب أرسلان
  • المختار من رسائل أبي إسحق الصابي
  • الدرر اليتيمة لإبن المقفع، تحقيق الأمير شكيب
  • آخر بني سراج، رواية شاتوبريان، ترجمة الأمير شكيب
  • روض الشقيق، ديوان أخيه نسيب، تحقيق الأمير شكيب
  • حاضر العالم الإسلامي، جزءان، تعليقات وحواشي من الأمير بلغت ضعفي الأصل
  • أناتول فرانس في مباذله، لبروسون، ترجمة الأمير شكيب
  • مقدمة الأمير شكيب لكتاب «النقد التحليلي» لمحمد أحمد الغمراوي وقد بلغت 56 صفحة
  • الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف،
  • محاسن المساعي في مناقب الإمام أبي عمرو الأوزاعي، تحقيق الأمير شكيب
  • ديوان الأمير شكيب أرسلان، حققه السيد محمد رشيد رضا
  • الحلل السندسية في الأخبار والأثار الأندلسية، في ثلاثة أجزاء
  • شوقي أو صداقة أربعين عاماً
  • السيّد رشيد رضا، أو إخاء أربعين عاماً
  • تاريخ غزوات العرب في فرنسا وسويسرا وإيطاليا وجزائر البحر المتوسط
  • تعليقات على إبن خلدون
  • النهضة العربية في العصر الحديث
  • لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم
  • مجلة الأمة العربية
  • عروة الاتحاد بين اهل الجهاد
  • رسالة البلاشفة او رحلة روسيا
  • رسالة رحلة المانيا
  • رسالة عن ضرب الفرنسيين لدمشق
  • المسألة السورية
  • مقالات أخرى منشورة في كثير من صحافة زمنه الأدبية والسياسية
مخطوطات لم تنشر حتى الآن [su_list icon_color=”#c5143f”]
  • بيوتات العرب في لبنان
  • البيان عما شهدت بالعيان
  • تاريخ بلاد الجزائر
  • ما لم يرد في متون اللغة
  • حياة شكيب (بقلمه)
  • حث في طرابلس وبرقة
  • الحلة السنية في الرحلة البوسنية
  • اختلاف العلم والدين (ترجمة)
  • مدنية العرب
  • الجيش المعبا من تاريخ أوروبا
  • قضيتنا مع سمو الخديوي
  • تاريخ لبنان
  • إصلاح العامية
  • التعريف بمناقب سيدي أحمد الشريف السنوسي
  • رسائل الأمير التي لم ينشر كثير منها حتى الآن

رابطة العمل الاجتماعي… تقديمات سخيّة في الزمن الصعب

بو نصّار للضحى: الرابطة ساعدت أكثر من ٣,٣٠٠ طالبة وطالب جامعي والمساعدات تخطت ٧ مليون دولار أميركي

توجّهت مجلّة الضّحى في إطار خطّتها الدائمة في الإضاءة على مؤسّسات طائفة الموحّدين الدروز، إلى رابطة العمل الاجتماعي حيث أجرت مقابلة مع رئيس الرابطة الحالي الدكتور مكرم امين بو نصار، حضر اللقاء كل من رئيس لجنة الاعلام والمعلوماتية في الرابطة السيد رضا عاطف سعد ومدير مركز الرابطة السيد مجدي قباني.

بداية، توجّه الدكتور مكرم بو نصّار بالشكر إلى مجلّة الضّحى لمبادرتها الكريمة وجهدها الكبير في إصدار هذه المجلّة العابرة للطوائف والمناطق، والمُلتزمة بمضمون مُتَميّز، وأثنى على جهود ورعاية سماحة شيخ العقل ودور المجلس المذهبي وأسرة الضّحى الجديدة المتجدّدة. تمنّى بو نصّار أن تتحوّل الضّحى داخل صفحاتها إلى مركز تلاقٍ وتواصل وحوار للشباب المعروفي واللبناني لطرح مشاكلهم وهمومهم وأفكارهم على منبر كبير كمجلّة الضّحى ثمّ جرى الحوار التالي:

ما هي أهم إنجازات الرّابطة؟ وما هي قيمة المساعدات الماليّة التي تقدّمها وهل يمكن ذكر الأرقام؟

إنّ كلّ الأعمال التي نقوم بها موثّقة ومعروفة بالأرقام والأسماء، ونقوم بنشر ما تقدّمه الرابطة بالتفصيل في نشرة سنويّة لمجلّة الرّابطة والتي تُوزّع مجّاناً على الجميع، نعرض فيها تفاصيل نشاطات الرابطة من حيث النشاط الاجتماعي والثقافي والخيري، ونعرض فيها سنويًّا كيف تتوزّع المساعدات بالأرقام والمناطق بكل شفافية ومصداقية. وكلّ موازنات الرّابطة وقَطْع الحساب وأسماء المتبرّعين ستجدونها في مضمون المجلّة دائما.

هل هناك مساعدات من قِبَل الدولة اللبنانية، أو الوزارات المختصّة أو مساعدات دولية عبر جمعيات تعنى بهذا الشأن؟

نحصل على مساعدات رمزيّة من قبل بلدية بيروت وبعض المؤسسات، والمدخول الأهم الذي يغذّي أعمال الرابطة هي الصناديق الداعمة التي أصبح عددها 12 صندوقاً عبارة عن مبلغ مالي يحدد لدعم الطلاب باسم صاحبه أمثال (الشيخ كميل سريّ الدين والشيخ جمال الجوهري وقبلهم أشخاص كثر… والمسيرة مستمرّة مع أصحاب الأيادي البيضاء والمعطاء) ويتم تبليغ صاحب الصندوق بالمستفيدين ليعرف المتبرّع إلى أين تذهب الأموال.

وأمّا بالنسبة للمساعدات من قبل الوزارات لا يوجد أبداً، ومن الخارج أيضا شبه معدومة إذا استثنينا العمل الكبير الذي يقوم به بعض الأخوة في الجالية اللبنانية في دول الخليج عبر دعمنا بإرسال مساعدات مادية لدعم صندوق الرابطة. ونخصّ بالشكر أهلنا في أبو ظبي، ونودّ عبر منبركم أن نعلن عن استقبال التبرّعات والمساعدات من الأهل في دول الاغتراب ونتمنّى أن يصل صوتنا عبر هذا الصرح المنتشر على مساحة الوطن والخارج، وخاصة أنّ الحاجة في ازدياد والطّلبات أيضاً.

كيف تقوم الرابطة بالتواصل مع الجمعيات وما مدى العلاقة التي تربطكم بها؟

نحن على مسافة واحدة من الجميع بل أكثر من ذلك إنّ الرابطة تُعتبر ملتقى للجمعيات والروابط الأهلية وتاريخها يشهد على ذلك إذ إنها أقدم رابطة اجتماعيّة تأسّست سنة 1958. واسمحوا لي أن أسرد بعض التفاصيل عن اعمال الهيئة الادارية للرابطة في سنة ونصف على استلام مهامها:

  • تمديد البروتوكول بين الرابطة وإدارة بنك بيروت والبلاد العربيّة، والمستمر دون انقطاع من العام 2011 وبقيمة خمسمائة مليون ليرة لبنانية سنويّاً لتأمين قروض ميسّرة للطلّاب الجامعيين.
  • تجديد البروتوكول بين الرابطة وبنك الموارد وبقيمة إجمالية تبلغ ملياري ليرة لبنانية ذلك لمدة ثلاث سنوات.
  • إعطاء قروض مباشرة من الرابطة لـ 50 طالباً متفوّقاً وذلك بعد دراستها من قبل هيئة تشجيع التعليم العالي التي تُشكر على جهد أعضائها جميعاً وأمينها الزميل عادل حمدان. أمّا باقي الطلبات والبالغ عددها 61 طلباً، فقد تم تحويل طلباتهم إلى كلّ من بنك بيروت والبلاد العربية وبنك الموارد للبتّ بها وتمَّت الموافقة على معظمها.
  • أقامت اللجنة الاجتماعية في الرابطة برئاسة السيدة هيام الحلبي العديد من النشاطات الاجتماعية الناجحة أبرزها عشاء بيتي في مقر الرابطة وحفل إفطار وحفل العشاء السنوي في فندق “الحبتور”، إضافة إلى العشاء التّكريمي في فندق L’ Heritage. كذلك أقامت اللجنة نشاطاً خيريًّا لأطفال بيت اليتيم الدرزي في مجمّع الـ ABC الأشرفية.
  • أمّا اللجنة الثقافية برئاسة المهندسة دنيا لبو خزام فأقامت العديد من الندوات المميّزة نذكر منها ندوة في قصر الأونيسكو حول كتاب العمليات المصرفية للدكتور وائل الدّبيسي وندوة حول “المؤشرات الأولى للإدمان” بالتعاون مع جمعية جاد وندوة بعنوان “عن الصحافة قبيل الغروب”، حاضر فيها الصحافي طلال سلمان وندوة بعنوان “التحديات التي تواجه الاقتصاد اللبناني” حاضر فيها معالي وزير المالية علي حسن خليل.
  • أمّا لجنة شؤون الخريجين برئاسة السيد ايهاب ذبيان فأقامت بالتعاون مع المكتبة الوطنية نشاطاً لتعريف البلديات والجمعيات والخرّيجين على الرّابطة ونشاطاتها المتنوّعة. وأقامت مؤخّرا ندوة حول أهميّة LinkedIn حاضرت فيها السيدة سالي عادل حمدان.
  • وعملت لجنة الإعلام والمعلوماتية برئاسة السيد رضا سعد على تعزيز صفحة الرابطة على الفيسبوك بحيث أصبح عدد المتابعين لها نحو 2500 شخص. وقامت الرابطة عبر لجنة الإعلام بالتعاون مع جمعية “بيروت ماراتون” وذلك بالمشاركة في نشاط ماراتون بيروت حيث تم مشاركة 110 مشتركين تحت اسم الرابطة برعاية من بنك بيروت والبلاد العربية.
  • استقبلت الرابطة اجتماع “تجمّع الجمعيات النسائية لطائفة الموحدين الدروز ” الذي عُقد نهار الاثنين في ١٢ آذار ٢٠١٨ بحضور أكثر من ١٠٠ شخصيّة نسائية رائدة في العمل الاجتماعي والثقافي وبدعوة من جمعية بيت الطالبة الجامعية. ناقش المجتمعون عدداً من الأمور التي تهم المرأة والمجتمع واتخذوا عدداً من المبادرات الهامة.
  • عُقِد اجتماع المجلس الاستشاري للرابطة بتاريخ ١٨ حزيران ٢٠١٨ بحضور كلٍّ من الأعضاء السادة: د. رؤوف الغصيني، والسيدة حياة المصفي، و د. شوقي غريزي، والشيخ عصام مكارم، والمحامي غاندي الحلبي، والشيخ منير حمزة، والسيّدة منى ابراهيم، والأستاذ رامي الرّيس والشيخ محمود عبد الباقي ود. فاروق أبو خزام إضافة إلى الهيئة الإدارية للرّابطة. وقد هنَّأ أعضاء المجلس الاستشاري الهيئة على إنجازاتها وتمّ البحث في عدد من النقاط التي من شأنها تفعيل دور الرابطة الاجتماعي والثقافي ووعدت الهيئة الاهتمام ومتابعة أفكار واقتراحات أعضاء المجلس الاستشاري.
  • وقّعت الرابطة اتفاقية تعاون مع الجامعة اللبنانية الكندية – LCU تهدف إلى التنسيق بين الفريقين من النواحي التربوية والأكاديمية، والرياضية والثقافية. تتضمن الاتفاقية تقديم دعم خاص وتخفيض كبير من كلفة الدراسة للطلاب المتفوّقين التي تسميهم رابطة العمل الاجتماعي.
  • وقعت الرّابطة مؤخّراً اتفاقية تعاون مع بنك الموارد مشكوراً الذي تبرّع ب 75 ألف دولار للرابطة ونشاطاتها في السنوات الخمس المقبلة.
  • شاركت الرابطة في المؤتمر الدولي الذي تنظّمه الجامعة الأميركيّة في بيروت حول تاريخ الدّروز ودورهم الاجتماعي والثقافي، وذلك في شهر تشرين الأوّل 2018. ووجّه رئيس الرّابطة في المؤتمر تحية خاصة للرّؤساء السابقين وقد كان معظمهم حاضراً في المؤتمر وهم د. رؤوف الغصيني، الشيخ سليم خير الدين، القاضي عباس الحلبي، السيدة ماوية الزّهيري والسيد فؤاد الرّيس، ود. شوقي غريزي ود. فاروق أبو خزام وللرئيس الأوَّل د. عاطف سعد. وقال أيضا إنّ هذه الأرض الخصبة التي يقام عليها المؤتمر هي الحرَمُ الجامعي الاوَّل في الشرق الأوسط وتوزّع محصولُها التعليمي على صعيد الوطن بأطيافه كافّة، وكان لمسلك التوحيد الدورُ الأبرزُ في توحيد المسلك نحو التعلّمِ والانفتاح دون تمييزٍ بين إنسانٍ وآخر… وللرابطة الجامعة في حرم هذه الجامعة الرابطة بين أبناء الوطن، مكانٌ ومكانة، وبين الاثنتين قصّةُ التزامٍ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، التزامٌ من الرابطة بتأمين الإمكانيّة للطالب والتزامٌ من الجامعة بتامين التعليم الأنسب له وبعد التمكين والتعليم تكون للطلاب حياة أفضل….ولا حلَّ للتطرّف والإرهاب إلّا بتشجيع العلم والثقافة والحوار.
  • قامت الهيئة الإدارية بإجراء بعض التحسينات الإدارية واللوجستية لمركز الرابطة شملت جردة بموجودات الرابطة وإعادة ترتيبها وتنظيمها وبعض أعمال الديكور وتجديد المفروشات بهدف إبراز وجه الرابطة بشكل أفضل وذلك بإشراف ومتابعة من أمينة السرّ.
  • يسعدنا أيضا إبلاغكم عن تحقيق الرابطة لوفر ماليٍّ صافٍ بلغ نحو 100 مليون ليرة في العام 2017، يضاف إليها تحصيل أكثر من 90 مليون ليرة من القروض المستحقّة لتاريخه وذلك بمتابعة من مدير مركز الرّابطة السيّد مجدي قباني.
  • استفاد من قروض ومساعدات الرّابطة خلال الأربعين سنة الماضية أكثر من ٣٣٠٠ طالبة وطالب جامعي بمبلغ إجمالي تخطّى ٧ مليون دولار.

ختاماً، نحتفل هذه السنة بالعيد الستّين للرابطة التي أثبتت نجاحها وتميّزها طوال هذه السنين، هذا النجاحٍ ما كان ليتمّ دون مساندتُكم المستمرّة، وكلّما وَثقتُمْ بنجاحنا زادت الشهادات وزخر المجتمعُ بمثقفين وخرِّيجين وحقّقت الرابطة غايتَها. واسمحوا لنا أن نوجّه تحيّةً لكلّ شخص أو مؤسّسة دعمت الرابطة في مسيرتها، وإلى كلٍّ من رؤساء وأعضاء الهيئات الإداريّة الذين تولَّوْا إدارة الرابطة خلال هذه السنين. وكلّنا أمل أن تستمرّ الرابطة بأداء رسالتها ومواكبة التطوّر مع التمسك بجذورنا وتراثنا وقيمنا.

لا يَسَعُنا إلّا أن نشكر في الأوّل وفي الختام بنك بيروت والبلاد العربيّة وبنك الموارد وإدارتهما الحكيمة الدّاعمة والرّاعية لهذه الرابطة وهي العامود الفقري لأعمالنا والقروض التي تقدمها بفوائد وتسهيلات مميّزة جدًّا. نشكر أيضاً الذين أطلقوا مشروعاً جديداً للقيام بدورات تعليميّة مجانية للّغات الأجنبية الإنكليزية والفرنسية في العديد من المناطق وقد يصل عدد الطلّاب إلى 300 طالب وطالبة وهذا سيسهم بشكل كبير في عملية التوظيف وعملية خلق فرص عمل وكلّ هذا مجّانا من قبل الرابطة. وقد وقّعنا وبروتوكولات مع بعض الجامعات لا سيما جامعة LCU التي قدّمت تخفيضاً يصل إلى 60% من القسط من أجل تلبية أكبر عدد ممكن من طلبات الطلّاب. ونتمنّى أخيراً من الذين استفادوا من تقديمات هذه الرابطة وتخرّجوا من الجامعات أن يدعموا الرابطة وخاصّة الأشخاص الذين تفوّقوا وأصبحوا في مراكز مهمّة ومتقدمة، ويقدّموا المساعدة لإخوانهم الذين يمرّون الآن بالحاجة نفسها.

كلمة أخيرة

سلاحنا هو العلم، فهيّا نَبْنِ معاً مجتمعاً متعلِّماً، مثقّفاً، مُبْدِعاً، وطنيًّا، محاوراً وقويّاً يملك السلاح الوحيد الذي يستطيع من خلاله الدفاع به عن نفسه وتاريخه وأفكاره.. ويستطيع من خلاله فعل الخير وبناء وطن سليم مبدع، وكما يقال ليس لنا عدو، فعدوُّنا الوحيد هو الجهل. شكراً لكم دكتور مكرم بو نصار، وتحية تقدير ومحبة من اسرة الضحى الى رابطة العمل الاجتماعي. وصفحات الضّحى مفتوحة دائما لإبراز أنشطتكم الخيريّة والاجتماعيّة والثقافيّة.

التّحنان لِصِلَة أمير البيان بجبل عامل

لأمير البيان شكيب أرسلان في ذاكرة جبل عامل مكانة خاصة؛ لا زالت محفوظة في وجدان الناس تترى، فوق الموجود والمحفوظ في التراث المكتوب١. باكراً توطّدت العلاقة بين الأمير شكيب أرسلان مع معظم علماء وأعلام جبل عامل، وأدبائه وسياسييّه، حتى الجماهير، لِما كانت لزيارات ولقاءات الأمير من شغف في اللقاء والتوادّ والحميميّة وأنس في الرأي، وتطابق في الموقف والتوجّه العربي الإسلامي نحو الحريّة والاستقلال، والنضال في كافة أنواعه وأشكاله الفكرية والأدبية، والمقاومة للمستعمر الأجنبي.

تظهر صداقاتُ أمير البيان مع أعلام عاملييّن – إذا عزّ اللّقاء – بالمراسلة فيما بينهم، وما حوته من عناوين في الوحدة واللّحمة الاجتماعية والسياسية، وإن بدا
بعض خلاف بالرأي، فهو التنوّع في الوحدة والغنى في التنوّع. فشكلت قِمّة في تراث الأدب العربي وتلاوينه من الشعر والسياسة والدين والتاريخ… وفي طليعة هؤلاء الشيخ أحمد عارف الزّين صاحب مجلة «العرفان» التي كانت إحدى منابر وصدى رأي وفكر الأمير شكيب أرسلان والتي كَتَبَ فيها وكُتِبَ فيها عنه وعن مآثره. وكوكبة ممن جمعتهم الزمالة في المجمع العلمي العربي في دمشق ومنهم الشيخ أحمد رضا أحد أعلام اللّغة العربية٢، والشيخ سليمان ظاهر الشاعر والأديب والصديق الحميم للأمير، والسيد محسن الأمين نزيل دمشق وكبير فقهاء سوريا ولبنان وصاحب موسوعة أعيان الشيعة٣. والمجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين والعلّامة السيد حسن يوسف مكي، وزعيم جبل عامل كامل بك الأسعد زميله في مجلس المبعوثين. والنائب الدكتور علي بدر الدين طبيب الفقراء، والشاعر محمّد علي الحوماني صاحب جريدة العروبة، والشاعر محمّد كامل شعيب، والمؤرخ محمّد جابر آل صفا مؤلّف تاريخ جبل عامل… وغيرهم كثر.

أُولى الوثائق التي أود طرحها ويظهر فيها سمو أدب وأخلاق وفكر ومواقف أمير البيان في المناظرة والحوار والبحث التاريخي، لمّا كتب الشيخ أحمد رضا عام 1910 في مجلة المقتطف المصرية٤؛ ومصر تشكل ملتقى أو واسطة العقد٥ بين أعلام بلاد الشام وغيرها من البلدان العربية والإسلامية وأرض الكنانة. والمقال بعنوان: المتاولة أو الشيعة في جبل عامل.

أُعجب الأمير بالمقال فعقّب عليه ببحث حمل نفس العنوان «المتاولة أو الشيعة في جبل عامل»٦، وبدأه بالقول: «اطّلعت في المقتطف على ما كتبه حضرة الفاضل الشيخ أحمد رضا من أدباء جبل عامل…»، وكان جل النقاش يدور حول تقدّم التشيّع في بلاد الشام عنه في بلاد العَجَم/إيران، وذلك على يد الصّحابي الجليل أبي ذر الغفاري منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام، واستتبابه فيها منذ ظهوره إلى الآن٧. ثم أردفه ببحث آخر حمل عنوان: التشيّع أيّهما أقدم الشام أم العجم؟٨، بدأه بالقول: « طالعت ما ورد في المقتطف من أحد فضلاء تبريز جوابا على ما سبق لي ولأحمد أفندي رضا من أدباء جبل عامل بأن التشيّع هو في الشام أقدم منه في كل قطر حاشا الحجاز»٩، حشد فيه الأمير أرسلان الكثير من حيثيّاته ودلالاته، وذلك بعد أن ناظرهما من تبريز في إيران «المجتهد الكبير ثقة الإسلام – علي بن موسى – التبريزي الذي استُشهد بيد الروس [شنقا يوم عاشوراء]١٠ عندما دخلوا أذربيجان بعد ذلك التاريخ بأشهر قلائل»١١.

ثم أعادت مجلة العرفان نشر المقالات١٢، وكذلك أدرجها الأمير شكيب أرسلان ضمن تعليقاته على كتاب حاضر العالم الإسلامي١٣. الذي أشار فيه إلى مقالة « الأستاذ الشيخ أحمد رضا في [موسوعة] خطط الشام بعنوان: «الشيعة»١٤ بلا توقيع١٥. ليدعم موقفه بالتأكيد القاطع على «رواية مسندة إلى [الصحابييّن الجليلين] عمّار بن ياسر وزيد بن أرقم تدلّ على أنه كان زمن خلافة علي عليه السلام قرية في الشام عند جبل الثلج [جبل الشيخ أو جبل حرمون] تسمى «أسعار»١٦ أهلها من الشيعة١٧. وأسعار هذه خرابة بين مجدل شمس وجبّاتا الزيت، وهناك نهر يعرف بنهر أسعار، وهي على طريق القادم من الشام إلى جبل عامل»١٨.

وتظهر رسالة مؤرخة في لوزان 5 نوفمبر/ت2 1929، وجّهها أمير البيان إلى صاحب مجلة المنار رشيد رضا مدى متانة أواصر الصداقة والاحترام الذي يكنّه للعاملييّن وعلى وجه التحديد للشيخ أحمد رضا الذي انتقد الأمير في مجلة «العرفان»، والتي يبدو فيها جدل لغوي فيقول: «[…] فأنا موافق للشيخ أحمد رضا تجويزه مناولة الطعام ومظاهرة الشعب، ومخالف للشيخ المنذر في منعها، لا بل متعجّب من قول فاضل مثله بعدم جوازهما، فقال أحمد رضا: والصواب حذف لا، لأن كليهما حرف عطف…»١٩.

والحقيقة هي أنّ الأمير ردّ من على صفحات مجلّة المجمع العلمي العربي بدمشق تحت عنوان «مطالعات لغوية»٢٠ على «كتاب المنذر» وملاحظات الأستاذ أحمد رضا٢١، مبتدئاً كلامه بالقول: «كل من الجهبذين المنذر ورضا من فرسان العربية المجلّين، وإني لَأوافق الأستاذ رضا على ما وفّره من حق الأستاذ المنذر وما نوّه به من فضله، وأضع ختمي في هذا التنويه بجانب ختمه»٢٢. هذه المطارحات والمطالعات التي تتدفق منها روح الأخلاق والنبالة هي من صفات رجالات كان أميرها شكيب أرسلان. خصوصا إذا ما لاحظنا رد الأمير على انتقادات الشيخ أحمد رضا له بالقبول حينا واستخدامه مصطلح «فأعترض»٢٣ حينا آخر، ولم يقل أرفض أو كلاما آخر. يبقى القول أن اجتماعاً في دارة الأمير خالد شهاب في بيروت، وبحضور الأمير عادل أرسلان، طلب من الشيخ أحمد رضا كتابة ترجمة مفصلة لفقيد الأمّة العربية، نظرا للصلة والصداقة والزمالة التي
كانت تجمعهما، لكنه اعتذر لأنّ الكتب التي دارت بينه وبين الأمير فقدت من أيام عاليه٢٤، وهي بيت القصيد بكل أسف٢٥.

ولما انتقل الأمير إلى لوزان كتب إلى الشيخ أحمد رضا طالباً منه نسخة عن مقالات المقتطف أو العرفان، فوصلته وأدرجها في الطبعة الجديدة من حاضر العالم الإسلامي. وحيث من الثابت أن أمير البيان كان همّه الوحدة العربية والإسلامية، ولمّا قرأ للشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء كتابه «أصل الشيعة وأصولها» أبدى إعجابه وكتب له رسالة بتاريخ 5 محرّم 1352هـ/1933م، يثني عليه بالقول: «ثم إنّكم باجتهادكم تقرّبون بين الفريقين (أهل السنة والشيعة) وتضيقون فرجة الخلاف». وأرفق بالرسالة المجلدات الأربعة من الطبعة الجديدة لحاضر العالم الإسلامي٢٦.والجدير ذكره هنا أن أمير البيان كان قد أثنى على الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء لحضوره المؤتمر الإسلامي في القدس عام 1931، وعبّر عن بالغ سروره «أن تكون أول صلاة أقيمت [في المسجد الأقصى] بجماعة المؤتمر قد كانت بإمامة الشيخ الأكبر محمّد الحسين آل كاشف الغطاء، كبير مجتهدي الشيعة، فإنّ هذا ما كنّا دائما نتمناه من الاتحاد…»٢٧. مثنياً على الشيخ ظاهر ورضا لحضورهما المؤتمر الذي كان الأمير ممّن أعدّ لانعقاده مع الحاج أمين الحسيني٢٨. وما كان تخلف الأمير عن حضور هذا المؤتمر «إلا لحيلولة السلطة البريطانية»٢٩.

وجاء في رسالة من الشيخ أحمد رضا للأمير بتاريخ 16 شعبان 1354هـ/ 13 ت2 1935م مطلعها:

سيدي المجاهد الكبير والعلَّامة النّحرير أمير البيان الأمير شكيب أرسلان حرس الله مهجته وأطال للأمة بقاءه. لقد طلع عليَّ كتاب الأمير من البدر في النصف من شعبان، فكان الكتاب أزهر، ونوره أكثر، ولا عجب فالأمير أعزه الله واحد الدّهر، ونادرة الفلك في غرّ صفاته، وزاكي أخلاقه وأعراقه. من غير منتقدة في سياسة حكيمة، إلى علم جمّ في أدب رائع… وقد قرّت عيني بما أسبغ الله على الأمير أعزّ الله به العرب والإسلام من نعمة الصحة، فلا يبالي معها بكيد الكَيَدة، ولا بحسد الحَسَدة…

أن يحدوني على أن لا نظير لهم         وهل رأيت عظيماً غير محسودِ

وقد سمعنا ما لقي المرسلون وهم رسل الإصلاح، وما لقي سيدنا المصلح الإلهي الأعظم سيد العرب والعجم من قومه حتى في أمسّ الناس به رحماً… ورأيت أيّدك الله ما لقي نابغة العرب في السياسة والأخلاق الملك فيصل رحمه الله. وما كان يفضي به إليك، فصبراً صبراً يا سيّدي على كيد الكائدين، فالحقّ أحقّ بالإشراف والباطل أولى وأجدر بالإزهاق، والعاقبة للمتقين. وإنّ ما جاء به الأمير – حيّاه الله – من إيضاح سياسته الحكيمة المؤسسة على الغَيْرة الفاضلة، والحمية الباسلة في سبيل أمته ووطنه، في هذه الفتن الضاربة بأطنابها العالقة بأنيابها لم يزدني إلّا علما بأصالة رأيه، وسعة اختباره، وجَوْدة طريقته في جهاده…»٣٠.

من علماء جبل عامل الأجلاء في مطلع القرن الماضي: (من اليمين إلى اليسار) الشيخ احمد رضا , السيد حسن يوسف مكة، والشيخ سليمان ضاهر.

ويبدو من طيّات الرسالة أن الأمير كلّف الشيخ بأمور ثقافية أو علمية لصديق مشترك هو نجيب الريّس صاحب «القبس» الدمشقي. ويشكره على إرساله له كتاب حاضر العالم الإسلامي بالقول: «فقد قبلته وقابلته بالشكر والدعاء»، ويختم بتحيات من الشيخ سليمان ظاهر «الذي ملأت محبّة الأمير قلبه، وأثني بسلام صهري أبي حسن كامل الصبّاح»٣١ وكلّ إخوانه وأصدقائه في جبل عامل.

ثم اشتدّت على الأمير المصائب التي مرّت بها الأمّة، فدعا للجهاد والمقاومة في سبيل عزتها واستقلالها ضد المحتل الأجنبي، ورأيه: «إن الذي نحن فيه هو جهاد، والجهاد هو الحرب…»، والجمعيات أو التشكيلات هي طريق الخلاص؛ سواء كانت سرية أو علنية قانونية في فلسطين وكل العالم الإسلامي «فالتشكيلات هي قوة كل أمة فقدت حكومتها وكيانها السياسي. وهي الزعيمة، مع الثبات والعزم وإتقان العمل وروح التضحية، بإعادة ذلك الكيان السياسي»٣٢. ويسجل الأمير عتبه لجهة «الواجب الذي تقتضيه الأصول الاجتماعية»، على أبناء بعض البيوتات العاملية التي كانت تربطه بهم علاقة محبّة وود وصداقة واحترام، متأسّفاً حيث لا يجد «منهم خلفاً يشبه سلفاً»٣٣.

الأمير شكيب أرسلان ودوره في النهضة الحديثة لليمن

بداية العلاقة

تعود علاقة الأمير شكيب باليمن إلى زمن اختياره عضواً في مجلس «المبعوثان» عام 1913م عن حوران وفي فترة إعادة العمل بالدستور العثماني.

فقد بدأ المندوبون العرب ومنهم مندوبو اليمن يلتقون ويتعارفون ويتبادلون هموم الواقع العربي في ظل سلطنة وخلافة عثمانية في طريقهما إلى الزوال. صحيح أن عمل المجلس لم يكن فاعلاً ولم تدم أعماله طويلاً ولكن العلاقات بين أعضائه استمرت خاصة أن هؤلاء النواب «المبعوثين» كانوا نخبة العالم العربي والإسلامي في الأراضي التابعة للسلطنة.

وفي عام 1911م عقد اتفاق بين ممثل السلطنة العثمانية في اليمن رئيس الأركان اللواء أحمد عزت باشا وبين الإمام يحيى بن محمد حميد الدين اعترفت بموجبه السلطنة للإمام بسلطته على المناطق الجبلية في اليمن وعلى أبناء الطائفة الزيدية المتواجدة في ولاية اليمن. وكان هذا الاتفاق بداية اعتراف بأول استقلال ذاتي لليمن وبداية مسيرة سياسية وعسكرية تكرست بعد انهزام تركيا في الحرب العالمية الأولى.

ومن المعروف أن الأمير بقي إبناً باراً للسلطنة والخلافة العثمانية وظل يدافع عن وحدتها وينادي بضرورة بقاء منصب الخلافة الإسلامية جامعاً للشعوب العربية والإسلامية التي كانت في كنف السلطنة. وراح يقارع إخوانه العرب طلاب الاستقلال أو اللامركزية وكتب موضوعاً مطولاً أثناء رحلته إلى المدينة المنورة قبل الحرب العالمية الأولى وذلك رداً على المؤتمر الذي عقدته الجمعيات والشخصيات العربية في باريس 1913م وقد صدر هذا الرّد في كتاب عن الدار التقدمية عام 2009م. وفي هذا الكتاب يفرد الأمير لليمن صفحات كثيرة وأهمية غير قليلة سواء من حيث الموقع والرجال والإنتاج الاقتصادي والتاريخ.

وفي رسالة مطولة كتبها الأمير شكيب من المدينة المنوّرة إلى وزير داخلية السلطنة طلعت بك في عام 1915م وموجودة نسخة منها في مركز الوثائق في صنعاء وبعد اجتماعه بمندوب الإمام يحيى شرح ولاء الإمام للسلطنة مقابل إغراءات من خديوي مصر لباقي أمراء القبائل في الجزيرة العربية وذلك مقابل مساندته للحصول على منصب الخليفة. فقد كان الخديوي ينافس الشريف حسين بن علي أمير الحجاز على الفوز بالمنصب قبل أن تحسم إنكلترا موقفها لصالح الشريف حسين وذلك في طور التحضير لمّا أصبح يسمّى فيما بعد بالثورة العربية ولما يتمتّع به الشريف حسين من مركز ديني في الأماكن المقدسة.

وفي جزء آخر من الرسالة يتمنى الأمير شكيب أن يكافأ الإمام على ارتباطه «ارتباط الصدق والجد والوفاء» بالسلطنة أثناء انعقاد مجلس المبعوثان، وذلك بمساعدته على أمير عسير آنذاك محمّد الإدريسي وإبعاد أمير مكّة عن الخديوي! كما يقترح مدّ سكة حديد الحجاز من المدينة إلى مكة ثمّ إلى اليمن. ومن المعلوم أن السلطنة كانت قوية آنذاك وطردت لاحقاً القوات البريطانية من لحج تمهيداً لإغلاق باب المندب وإشغال البريطانيين عن التوجّه إلى البحر المتوسط.

صنعاء، اليمن

ومن مؤشرات التفات الأمير شكيب المبكر إلى اليمن العلاقة التي جمعته بالموظف العثماني يوسف حسن ابن قرية بتلون من متصرفية جبل لبنان آنذاك. فقد التحق يوسف بك بوظيفة قائم مقام في متصرفية تعز إحدى ألوية اليمن في مطلع عام 1910م وكان قد التقى غير مرة بالأمير شكيب وشيخ العروبة أحمد زكي باشا المصري أثناء إقامته في اسطنبول وخاصة عام 1909م حين كانت عاصمة السلطنة تمور ‏بحركة ديمقراطية وليدة بعد إعادة إحياء الدستور وبشخصيات عربية متنورة أملت خيراً في تطبيق إصلاحات عثمانية تعطي لولاياتهم بعض الاستقلال والهوية، ولا ضرورة التوسع في هذه المرحلة.

ويقول يوسف بك في أوراقه ومذكراته الغنية عن التاريخ اليمني بين عامي 1910 و1921م حين خرج برتبة متصرف لواء الحديدة يقول عن الأمير شكيب «إنه أستاذي السياسي ودافعي إلى اليمن بمهمات سياسية». كما نعثر بين رسائل يوسف بك على رسالة من الأمير تعود إلى عام 1915م يهنئ فيها «ولده» يوسف بك بانتصار القوات العثمانية على البريطانيين وحلفائهم أتباع محميّة لحج في جنوب اليمن، وقد كان القائمقام أحد أفراد القيادة العثمانية في الحملة ويشرح‎ ‏ الأمير في كتاب آخر ليوسف بك عن حملته لمحاربة الطليان في طرابلس الغرب بعد احتلالها عام 1911م حين قاد مجموعة من المجاهدين الموحدين الدروز وتوجه من مصر غرباً إلى الحدود الليبيّة فتعرّف على القائد أنور باشا أثناء هذه الحملة وما تلاها من صداقة دائمة…

فمن وصل به حماسه واندفاعه لقيادة فريق مجاهد دفاعاً عن السلطة العثمانية ومركز الخلافة ليس من المستبعد أن يدفع مستنيراً إلى الذهاب إلى اليمن لتولي منصب يخدم فيه السلطنة ويحافظ على اعتبارها في تلك الولاية النائية وينقل عن المجاهد الصحفي عجاج نويهض المعاصر لتلك الفترة أن الأمير شكيب وأحمد زكي باشا كانا يعتبران يوسف بك رسولهما إلى اليمن وذلك من أجل الحصول على استقلال ذاتي لليمن تحت مظلة السلطنة، وقد لا يخلو الأمر من مبالغة في هذا التقدير.

الأمير شكيب أرسلان اللّغوي

يعتقد الأمير شكيب أرسلان اعتقاداً راسخاً بأن اللغة، أيّاً كان موطنها، تقوم على الحركة، وبالتالي فإن نموَّها يكون في مسالك الاستعمال. وهو يرى أن لهذا «الاستعمال اللغوي» مسلكين أو مظهرين اثنين : هما الكتابيّ والشفاهيّ. أما الأول فيشتمل على ما أثر وورد في الكتب القديمة شعراً أو نثراً، وكان عزوه، في النقل مباشرة، إلى أهل الجاهلية فالإسلام، وتدرّجاً إلى القرون التالية، تلك التي تميز نتاجها بمتانة التركيب، وفصاحة الكلمة، وأناقة الأسلوب. وأما الثاني فما يندرج في مسائل اللفظ المولّد، والعاميّ، أو ما روي عن الناطقين بالضاد، من أهل البوادي و سواهم، ودوّنه عنهم الكتبة.

ثم، إن مظهري هذا «الاستعمال» من الوجهة الغرضية، يعنيان الاهتمام باللغة، وهو مسلك إلى الحفاظ على شخصية مستعملي هذه اللغة، أو لنقل شخصية الأمة الناطقة بالعربية. ويمكن القول، إن هذا التوجّه يشكّل في عمقه دعوة إلى إحياء التراث، باعتباره المصدر الأصيل في تحقيق الأهداف التي تسعى إليها «الأمة» لتحديد معالم شخصيتها، وصولاً إلى مرحلة الرشد والإحياء. والأمير شكيب مؤمن أن بلوغ تلك المرحلة لا يمكن تحققه إلا بإيجاد الوسائل المفضية إليها، وأن الوسائل لا تخرج عن إطار الدراسات المباشرة لكنوز التراث، من قِبَل العلماء العرب، ﻓ «أسنى ما تخدم به هذه اللغة الشريفة، لهذا العهد، إثارة دفائن كنوزها، ونفض كنائن رموزها، واستخراج جواهرها التي أحرز منها النزر اليسير، وبقي الجمّ الكثير».

وهنا نتساءل: هل هذا التوجه، أو هذا الانصراف إلى الاعتناء بكنوز التراث، يتأتّى متوافقاً مع حالات الإحساس بالتحدي والشعور الذي كان يسري في داخل «الأمير» بأن هناك وضعاً غريباً تتعرض له اللغة العربية، أو لنقل «الأمة»، وأن أشكالاً دخيلة من الألفاظ، وصوراً من التراكيب، وأقداراً من التأثيرات تهدد كيان «الأمة»، وتعرّض وجودها للضياع أو الانحسار؟

في الإجابة عن هذا السؤال نعرض نصّين للأمير شكيب، عبّرا – بوضوح – عن مخاوف كبيرة يعيشها «الشرقيون» عموماً، سببها التوجّس من ناتج حملهم على «التغرّب».

“لو لم تشغله السياسة لكان هو أمير الشعراء لا شوقي.”
(الأديب والناقد اللبناني الكبير مارون عبود)

يقول في النصّ الأول: «فسواد الشرقيين ما برحوا، بالرغم ممّا يتدفق على الشرق من الغرب، منذ أول القرن الماضي من الأفكار والآراء والمناهج والأساليب والمؤثرات والعوامل المختلفة، يرتاحون إلى البقاء على القديم البالي، وإنهم يعتقدون فوق هذا، أن من أكبر مبتغيات الحكم الغربي حملهم على التغرّب عاداتٍ و مجتمعاً وعلى تبديل الموروث من منازعهم وأساليب معايشهم، الأمر الذي يحملهم على مقاومة التيار الغربي، ما استطاعوا إلى المقاومة سبيلا»1.

ويقول في النص الثاني، تعقيباً على مقال لمصطفى صادق الرافعي، عن «الجملة القرآنية»؛ بمقال عنوانه: «ما وراء الأكمة» : «منهم (أي المجدّدون) من يريدون هدم الأمة في لغتها وآدابها خدمةً لمبدأ الاستعمار الأوروبي، ومنهم من يشير باستعمال اللغة العامية بحجّة أنها أقرب إلى الأفهام. ولكن منهم من لا يحاول هدم الأمة في لغتها وآدابها، لا حبّاً باللغة والآداب، ولكن علماً باستحالة تنصّل العرب من لغتهم وآدابهم. ولذلك ترى هؤلاء دعاة إلى اللغة والآداب، على شرط أن لا يكون ثمة قرآنٌ ولا حديثٌ، وأن تكون الصبغةُ لا دينية. وحجتهم في ذلك حب التجدّد، وكون القرآن والحديث وكلمات السلف كلّها من القديم، الذي لا يتلاءم مع الروح العصرية في شيء (…)»٢.

ما حمله النصّان من توجّس تجاه ما يحمله «التغريب»، وما يدعو إليه «المجددون» من تغيير في ميادين أربعة، دار النزاع فيها، وهي : قضية تحرير المرآة، والزّي، والتعليم، والأدب واللغة، كل ذلك، غدا ينمو في أذهان «المحافظين» كصورة طموحة تغذّي خيالهم الاجتماعي للدفاع عن شخصية «الأمة» المهدّدة بالتغريب، ولا سيما الدفاع – بحماس – عن اللغة العربية، التي استُهدفت منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وتعرّضت إلى دعوات، يمكن حصرها في ثلاث مسائل: ونستعرض في الصفحات الآتية ما كتبه الأمير شكيب في ثلاث قضايا لغوية، هي:

  1. المطالبة بإصلاح قواعدها: ويطالب فريق آخر، بحجة صعوبتها بالتحول منها إلى العامية؛
  2. الكتابة: فيدعو البعض إلى إصلاح قواعدها، ويدعو بعض آخر، إلى التحوّل عنها إلى الحروف اللاتينية؛
  3. الأدب: فيدعو إلى تنشئة جيل يتذوق أساليب البيان الغربي وموضوعاته، في الوقت الذي يغضّون، فيه، من قدر التراث.

وهي، قضايا تندرج في إطار الدفاع عن التراث، وصون العربية، والعمل على ترقيتها، في آن.

  1. قضية تنقية اللغة من شوائب الزلل؛
  2. قضية «العامية»؛
  3. العمل على استثمار العاميات، من خلال الكشف عن جذورها، وتوظيفها في تيسير الفصحى من خلال كتابه «القول الفصل في ردّ العاميّ إلى الأصل»

بلدة رساسْ

هي «قرية هادئة تجمع في أحضانها جمال الرّيف وحداثة المدينة»١ وتقع جنوب مدينة السويداء بمسافة 5 كلم على الطريق التي تصل بين السويداء والقريّا على باحة جبليّة منبسطة تبلغ مساحتها12،730دونماً، تميل باتجاه الغرب ميلاً متموّجاً لطيفاً باتّجاه سهل حَوْران إلى الغرب منها، ويبلغ ارتفاعها من على مستوى سطح البحر 1040م، أمّا عدد سكانها فنحو أربعة آلاف وخمسمئة نسمة لكن العدد الفعلي للمقيمين فيها تنامى كثيراً عن الأصل بسبب النزوح إليها من العديد من قرى الجبل لقربها من السويداء مركز المحافظة وبؤرة الوظائف والأعمال والمهن، وبسبب الأزمة السورية منذ العام 2011.

تحدّها من الشمال أراضي السويداء، ومن الشرق أراضي بلدة سهوة بلاطة، ومن الغرب أراضي قرية كناكر ومن الجنوب الغربي أراضي بلدة عرى ومن الجنوب أراضي بلدة العفينة. وتبلغ مساحة مُخطّطها التنظيمي 3950 دونماً.

ولعلّ اسم القرية العربي مُسْتمد من غِناها القديم بالآبار/ الينابيع. فمن معنى الكلمة القاموسي؛ الرّسّ: البئر القديمة2. ويفيد الرحّالة حنا أبو راشد الذي أرّخ للجبل وأحداثه في كتابه «جبل الدروز ، حوران الدّامية، عام 1925»، أنّه وجد في بلدة رساس: «نبعان سايلان، تستفيد منهما بلدة جبيب بواسطة قناة…»3 (تقع جبيب في الجانب الشرقي من سهل حوران على مسافة نحو 14 كيلومتراً كلم إلى الغرب من رساس وكانت من ممتلكات دار إمارة جبل الدروز في بلدة عرى حينها). ويبدو أنّ رساس القديمة لم تُدرس آثاريًّا٤. عدد سكان البلدة الأصليين نحو 4500 نسمة، وهناك أكثر من ألفين وخمسمئة نسمة آخرين من الوافدين. وفي القرية الأولى بقايا عمران قديم تشهد عليه آثارٌ لمبان قديمة في دار آل الأطرش، وتتبع لها مزرعة «أمّ الشراشيح» إلى الشمال القريب منها، وقد وُجدت في تلك المزرعة آثار تعود لإنسان ما قبل التاريخ (أدوات صوّانية)، كما وجدت كِسَر فخّارية تعود لعصور لاحقة وآثار معبد وثني شُيِّد على أنقاضه مزار يحمل حاليّاً اسم النبي أيّوب5.

ومن الجدير ذكره أنّ قرية رساس كانت أوّل قرية تصلها المياه بواسطة الأنابيب بعد مدينة السويداء، منذ أربعينيّات القرن الماضي وكان مصدرها من مياه عين أمّ القصب الواقعة في أراضيها على مسافة نحو كيلو مترين ونصف من القرية. كان ذلك بتدبير من الأمير متعب الأطرش شيخ القرية وعمل جماعي إلزامي من قبل الأهالي بحيث وُزِّعَت المياه في ثلاثة طوالع وكانت مياهها تصب ليلاً ونهاراً بحيث يذهب الفائض عن حاجة الناس إلى الحدائق.

مقابلة مع معالي وزير الثّقافة الدّكتور غطّاس خوري

معالي الوزير، ماذا يعني لكم «عيد الاستقلال»؟

كلٌّ يتوق إلى التّحرّر، فرداً كان أم جماعةً، لا أحدَ يصبِرُ على التبعيّة، أو الظلم، أو الاستعمار، أو الهيمنة… كلّ إنسان يسعى لينال حقوقه كاملة، كذلك الشعوب. وقد مرّ لبنان بفترات صعبة في تاريخه، لكنّه كان يخرج منها مُنتصراً، عزيزاً، حرّاً…وهذا العيد «عيد الاستقلال» هو الحلقة التي نحتفل بذكراها اليوم، والتي توّج لبنان فيها حرّيته، بعد أن توافقت الدّول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى على «تقسيم» العالم الخاسر، وما تبعه من شعوب، إلى «حِصص» استعمروها، فكان لبنان «حِصّة» فرنسا.

هذه المناسبة الوطنيّة الكبرى، عندي، هي مفصل تاريخي في حياتنا كلّنا في هذا الوطن، مفصل أتاح لنا جميعاً أن نستعيد حقوقنا، فنعملَ على تحصينها سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، وهو عمل مُضْنٍ ما زلنا نتخبّط فيه، نُصيب ونُخطئ، ولكننا في الطريق الصحيح لنبني الوطن الذي حَلُم به رجال الاستقلال ونقلوا إلينا هذا الحُلم لنحقّقه كاملاً كما نرغب جميعاً، إن شاء الله.

إذاً، ليس هو استقلال ناجز تماماً؟

لو فلسفنا الكلمة، لَقُلنا إنّ الاستقلال هو جُهدٌ مستمرٌّ… لِنَكُن واقعييّن، ليس الاستقلال هو خروج «استعمار» أو هيمنة ما علينا، بل هو «قبول» و «إدارة» و»تخطيط» لبناء وطن مُتماسك، يرغب شعبُه، شعبُه كلُّه، بالبقاء فيه، والعمل على تطويره، ليعيشوا فيه جميعاً متساوين في كلّ شيء، عيشةً رضيّة هَنِيّة. وهذا فعلاً جهدٌ مستمرّ، تلزمه نوايا وطنيّة صادقة، وأفكار وسواعد وأخلاق وشرائع تؤمن بالانتماء إليه.

قلعة راشيا

فالاستقلال، استطراداً، ليس ذكرى فقط؟

هو ذكرى بطولة، هو لحظة اعتزاز، ولكنّه أيضاً دافع كبير لنتقدم، لنفكّر ونعمل، هكذا يجب أن «نتذكّر» الاستقلال، حرام، هؤلاء الأبطال الذين سعَوْا بكل إمكانيّاتهم لنحصل على هذه «الحريّة» أن لا نتابعها بحسّهم الوطني الجامع، فنخون «أماناتهم» التي أورثونا إياها، لِنَكُن أوفياء لهم، أوفياء لتطلّعاتهم، ونعمل بجد.

ما هي الأوجه الثقافيّة لحدث الاستقلال؟

لمّا كانت الثقافة هي أساس كلّ علم أو سلوك أو فكر.. يكون الاستقلال هو: انتماء إلى الوطن، ويكون محبّة، محبّة لجميع أبنائه، ويكون إخلاصاً للعمل العام والخاص بلا فساد أو مخالفة للنّصوص والأعراف، ويكون إيماناً بالله بلا تفرقة بين عباده، ويكون سلوكاً مدنيّاً راقياً، واندفاعاً للارتقاء بالأجيال القادمة علماً ومعرفة. في هذه الأوجه نجد نشر المعرفة بالاستقلال ومعانيه واجباً أوّل، والنشر كلاميٌّ، وفنّي على تنوّع الفنون، يتجسّد في الاحتفالات والمهرجانات واللقاءات، في المعارض والإصدارات والجوائز. لا حدودَ للثقافة، هي مجال الإبداع للجميع، الموهوبين والقادرين على العطاء، تشجيعنا لهم دائم، معنويّ وماديّ، ضمن طاقاتنا.

وهل هذه الأوجه كلّها ثقافيّة أم لها ألوانٌ أُخرى؟

بيت الاستقلال، بشامون

وكأنّك تشير إلى أنّ الجانب الترويجيّ، أو التجاريّ، أو غيره، يرافق هذه الأوجه، صحيح، لا غنى عن ذلك، فالمؤسّسات الماليّة والاجتماعيّة وسواها هي القطاع الذي يسهم في تمويل «الأوجه الثقافيّة»، وكلّه ينبع من رغبة صادقة – أرجو أن تكون دائماً صادقة – في نشر هذه المعرفة الوطنية المطلوبة.

ووزارة الثقافة، طبعاً، تُسهم في كلّ ذلك؟

نعم، في حدود إمكانيّاتها، وزارة الثقافة ليست مموِّلة، أو منتِجة لأعمال ثقافيّة، بل هي راعية، تشارك جهات أخرى في التنظيم واستثمار العلاقات المحلّيّة والعالميّة، تُقيم المناسبات لمثل هذه الاحتفالات الثقافية، وكلّنا نعرف حجم موازنة وزارة الثقافة، منذ أشهر أطلقنا ثورة، نعم ثورة، أسميناها «الخطّة الثقافيّة الوطنيّة» تشارك في تنفيذها الوزارات كلّها، جَعَلْتُ الدولة اللبنانيّة تتبنّاها، وقد تكرّم الرئيس الحريري فرعى إطلاقها في السّراي بنفسه.

همُّنا الثقافيّ الكبير، سيجعل هذه الوزارة «سياديّة» بإذن الله، في نشاطاتها وأعمالها التي تخطّط لها.

واليوم، وأنتم الدكتور غطاس خوري، وزير الثقافة، ماذا تقولون لِلّبنانييِّن في هذه المناسبة الوطنيّة؟

نمرّ اليوم في أزمة، في لبنان، وفي المنطقة، ونحن جميعاً بحاجة إلى القدرة على الصمود، ولن يكون الصمود بدون تلك النوايا، وذلك السلوك الذي أشرت إليه، نحتاج إلى إخلاص الجميع وتضحيات الجميع، نحتاج إلى صدق مع النفس للالتقاء مع الآخرين، لا تدعني أتحدّث في السياسة الضيّقة، لِنَكُن على مستوى الحدث الوطنيّ المُشار إليه، نعم لنعمل جميعاً بصدق، فهذا وطننا لبنان، لنحافظ عليه، حتى يبقى الأجمل، والأفضل، والأنجح …ليعيش فيه أبناؤنا بروح هذا الاستقلال الذي نعيّد ذكراه.

الحَصيلةُ اللُّغَوِيَّة ولُغات الخِطاب الإعلاميّ

«اللّغة قدرةٌ ذهنيةٌ مكتسبةٌ، يمثّلها نسق، يتكوّن من رموز منطوقة، يتواصل بها أفراد مجتمع ما»1. وهي تنطوي في طبيعتها على الحقائق التالية2:

    1. إنّها مجموع المعارف اللُّغوية، بما فيها المعاني والمفردات والأصوات والقواعد التي تنتظمها جميعاً. تتولد وتنمو في ذهن الفرد ناطق اللّغة أو مستعملها فتمكّنه من إنتاج عبارات لغته كلاماً أو كتابةً، كما تمكّنه من فهم مضامين ما ينتجه أفراد مجموعته من هذه العبارات، وبذلك تُوجِدُ الصّلة بين فكره وأفكار الآخرين، وتتداخل في تكوين هذه القدرة عواملُ فيزيولوجية، تتمثّل في تركيب الأذن، والجهاز العصبي، والمخ والجهاز الصوتي لدى الإنسان.
    2. إنّ هذه القدرة تُكتسب ولا تُولَد مع الإنسان، وإنّما يولد ولديه الاستعداد الفِطري لاكتسابها، ويدفعه في العادة شعوره بالانتماء إلى مجموعته البشريّة، نفسيَّاً واجتماعيّاً وحضاريّاً، ورغبتُه في التعايش وتبادل المنافع والمصالح بينه وبين أفراد هذه المجموعة.
    3. تتمثّل هذه القدرة المكتسبة بطبيعتها في نسق مُتّفق، أو مُتعارَف عليه بين أفراد ما يُسمّى الجماعة اللّغوية، أو الجماعة الناطقة بلغةٍ ما. وتدخل في تكوين هذا النسق في العادة وحدات أو أنساق أخرى متفرّقة يرتبط بعضها ببعض وهي:

 أ) النّسق الصّوتي: وهو الذي يحدّد نطق الكلمات أو أجزاء الكلمات، وفق الأنماط المقبولة أو المتعارف عليها لدى الجماعة اللّغوية.

ب) النسق الدَّلالي: ويعني ترتيب الوحدات المعنويّة وفق سماتها الدلاليّة المعروفة أو المقبولة في اللغة.

ج) النسق الإعرابي أو النّحوي: ويعني ترتيب كلمات الجملة أو الجُمل في أشكالها المقرّرة في اللغة.

د) النّسق الصّرفي: وهو النّسق الذي تُعالَج فيه بُنى الكلمات وأنواعها وتصريفاتها أو اشتقاقاتها.

هـ) النسق المُعجمي: ويقصد به مجموع المفردات اللّغوية المتاحة للتعبير عن المعاني والمواقف المختلفة في إطار اللغة.


أهميّة اللغة وأنواعها:

إنّها وسيلة الإنسان للتعبير عن حاجاته ورغباته وأحاسيسه ومواقفه، وإرضاء غريزة الاجتماع لديه، وهي أيضاً وسيلته٣ إلى تنمية أفكاره وتجاربه، وإلى تهيئته للعطاء والإبداع والمشاركة في تحقيق حياةٍ مُتحضّرةٍ. ويزداد اكتسابه للمهارات والخبرات كلّما نمت لغته وتطورت وزادت علاقاته بالآخرين قوّةً واتّساعاً.

على الرّغم ممّا أسلفنا القول من أنّ اللّغة عبارة عن «رموز منطوقة أو كما عرّفها بعض العلماء «أصوات٤ يُعَبِّر بها كلّ قوم عن أغراضهم» فإنّ لِلُّغة بمفهومها العام مدلولاً أوسع من ذلك، إنّها وسيلة للتفاهم والتواصل والتعبير عن العواطف والأفكار العامة، لا يحدد مدلولها بالكلمات والعبارات، التي تصطلح على معانيها أو دلالاتها أمّة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات، إذ إنّها تشتمل على كلّ ما يمكن أن يعبر به الإنسان عن فكرة أو انفعال أو موقف أو رغبة معيَّنة، فالصورة لغة، والأشكال المرسومة لغة، والحركات الجسميّة لغة. إنّ كلّ أعضاء الحواس يمكن استعمالها في خلق لغة، فهناك لغة الشمّ ولغة اللّمس، ولغة البصر ولغة السمع، وهناك لغة كلّما قام شخصان فأضافا معنىً من المعاني إلى فعل من الأفعال بطريق الاتفاق، وأحدثا هذا الحدث بقصد التفاهم بينهما. فعِطرٌ يُنشر على ثوب، أو منديل أحمر أو أخضر يطلّ من جيب سُترة أو ضغطة على اليد يطول أمدها قليلاً، أو كثيراً، كلّ هذه تُكَوَّنُ عناصر من لغة، ما دام هناك شخصان قد اتّفقا على استعمال هذه العلامات في تبادل أمر أو رأي٥.

المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان

توطئة:

صُمِّمت السياسة الاقتصاديّة الرّاهنة التي بدأ تطبيقها في العام 1993 لتحقيق هدفين مترابطين هما تثبيت استقرار الاقتصاد الكلّي وإطلاق برنامج إعادة الإعمار وما تطلّبه ذلك من موارد ماليّة تخطّت وقتها حجم الادّخار الذي كانت متوفّراً. حقّقت تلك السياسة هدفيها جزئياً، غير أنّ الاستمرار باعتمادها لعقدين كاملين بعد فورة إعادة الإعمار التي شهدها لبنان بعد اتفاق الطائف أحدث انحرافات في الاقتصاد الحقيقي ودفع بالاقتصاد الكلّي نحو هشاشة متزايدة أضحت تهدد التوازن الاقتصادي غير المستقرّ أصلاً.

إنّ التحوّل نحو سياسة اقتصاديّة مغايرة لتلك التي سادت على مدى ربع قرن أكثر من مطلوب، بغية تقويض التّوازنات الهشّة على مستوى الاقتصاد الكُلّي و توزيع الثّروات والمداخيل بعدالة تصاعدية. من الضروريّ في هذه المرحلة اعتماد سياسة تهدف إلى تحقيق نموّ مبني على الاستقرار الناجز والرّفاه الاجتماعي و على ترشيد استهلاك الموارد الطبيعيّة.

يلعب المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان حاليًّا دوراً هاماً في محاولة صياغة سياسة اقتصادية اجتماعية و بيئيّة متكاملة للبنان لتحقيق النموّ و التنمية المُستدامة.


لمحة تاريخيّة عن الاقتصاد اللبنانيّ:

شهد الاقتصاد اللبنانيّ في العقود الثلاثة التي سبقت الحرب الأهلية فترة عُرفت بالفَورة الاقتصادية، وذلك بفعل استقطابه للحركة المرفئِيّة في المنطقة بدايةً وللرّساميل الساعية للأمان لاحقاً. لقد شكّلت مثلاً نسبة السّلع المصدّرة إلى السّلع المستورَدة 72% في العام 1973 بحسب مراجع البنك الدولي. هدفت الإجراءات النقديّة التي تمثّلت بإقرار تغطية ذهبيّة وازنة للنّقد والبدء بمراكمة الذهب احتياطاً نقديّاً إلى تعزيز الثقة بالعملة الناشئة بعد الانفصال الجمركي عن سورية ممّا أدّى إلى زيادة التدفّقات الماليّة إلى الدولة المستقلّة حديثا.

نشطت في أواسط خمسينيّات القرن الماضي قطاعات الخدمات ومن ضمنها قطاعات المال والسياحة والنّقل البحري والجوّي والبرّي على وجه الخصوص. تطوّرت هذه القطاعات متكاملةً مع الرّساميل الوافدة وأتى هذا النشاط مترافقاً مع دعم كبير من قبل السلطة السياسية عبر إقرار قانون السريّة المصرفيّة وتخصيص تلك القطاعات بالتسهيلات والاستثمارات، نذكر على سبيل المثال لا الحصر شركة طيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان.

كان من البديهي بسبب الازدهار الذي شهده الاقتصاد اللبناني في تلك المرحلة أن يسيل الحبر الكثير حول أهميّة هذا النموذج الاقتصادي ودور الاقتصاد اللبناني في المنطقة. ربطت معظم التحاليل هذا الازدهار بنموّ قطاعات الخدمات حصراً، واعتبرت بأنّه على قطاعات الإنتاج الحقيقي (الزراعي والصناعي) أن تتطوّر بمقوّماتها الذاتية من دون أيّة سياسة اقتصادية عامة ولا أيّة سياسة قطاعية حاضنة كما كان الحال في قطاع الخدمات.

إنّ النموذج الاقتصادي في تلك المرحلة، وإن شهد نموّاً منظوراً في المؤشّرات الاقتصادية، قد حمل خللاً هيكليّاً بسبب اعتماده على قطاعات غير حقيقية. أدى هذا النموذج أيضاً إلى إنماء غير متوازن وسبّب خللاً اجتماعيًّا فتفاقم الفقر في المناطق حيث لم ينشط قطاعا المال والسياحة، وكبر حزام الفَقر والبؤس حول العاصمة. ترافقت هذه المرحلة مع إهمال شديد للشأن الاجتماعي ما أدّى إلى تعميق الفروقات بين الطبقات الاجتماعية.


الهيئة العامة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان.

المؤشّرات الكُليّة في الاقتصاد:  عدم اسقرار في التوازن

يُجْمِع الاقتصاديّون في معظم دراساتهم المُعَدّة في العقود الثلاثة الأخيرة على غياب كامل للسياسة الاقتصادية أو شبه غياب، ولكن بالرغم من ذلك فإن الاقتصاد الكلّي كان ولا يزال بحالة من الاستقرار. في المقابل نرى في التقارير الدوليّة تنبيهات متكررّة تشير إلى دلالتي ضعف تقوّضان توازن الاقتصاد الكُلّي وهما عجز الميزان الجاري وعجز الموازنة العامّة، أو ما يُعرَف بالعجز المزدوج.

عجز الميزان الجاري

إنّ العجز في الميزان الجاري مُزمن ومُستدام، ولكنْ بالرغم من هذه الاستدامة لم تتوانَ التدفّقات النقدية عن تمويل هذا العجز. إنّ قدرة لبنان على استقطاب الموارد المالية لتمويل عجزه يظهر مدى مكانته لدى الدول من جهة، و مدى قدرة مُغْتَرِبيه ومكانتهم وانتشارهم في المنطقة والعالم من جهة أخرى ما يعزز قدراتهم التحويليّة التي تتخطى السبعة مليارات والنصف مليار دولار أميركي سنويّاً.

إنّ العجز الجاري يعكس أيضاً خللاً بنيويّاً يُضعف قدرة الاقتصاد على إنتاج سلع وخدمات تصديريّة ما يؤدي إلى عجز كبير في الميزان التجاري تجاوز الستة عشر مليار دولار في نهاية العام 2017 بحسب تقارير المصرف المركزي. كذلك فإنَّ التحويلات التي تموّل هذا العجز، جزئيًّا أو كلّيّاً، ليست تحويلات استثمارية طويلة الأمد تُراكم رأس المال وتعمل على تحفيز الاستثمار وتولِّد فرص عمل. هذه التحويلات هي بجزئها الأكبر تحويلات مصدرها الكفاءات اللبنانية الاغترابية التي دفعتها الأزمات السياسية والأوضاع الاقتصادية في لبنان الناتجة عن ضيق سوق العمل إلى الهجرة.

ممّا لا شكّ فيه بأنّ العجز المُزمن والمُستدام في الميزان الجاري يفرض توجّهات في السياستين المالية والنّقدية تهدف إلى الإبقاء على نِسب مُرتفعة من التّحويلات الماليّة بغرض تمويل العجز، مع ما يتأتّى من إجراءات نقديّة لها أثر على الاقتصاد برمّته. إن تمويل العجز الجاري برساميل مُسْتَقطَبة من الخارج يُعرِّض الاقتصاد عامّةً لتقلّبات دوريّة واسعة خاصةً إذا أتى جزء كبير من هذه الرّساميل بشكل استثمارات قصيرة الأجل كما كانت الحال خلال ربع قرن مضى. هناك تضارب بين التوجّهات النقديّة الهادفة إلى استقطاب ودائع لها دور في تمويل الدين العام من جهة، والتوجّهات النقدية والمالية الساعية إلى استقطاب استثمارات أجنبيّة مباشرة لها دور فاعل في خلق فرص عمل وتسريع معدّلات النموّ الاقتصادي من جهة أخرى. فالودائع من الخارج تجذبها نِسب الفوائد المرتفعة فيما الفوائد المتدنّية تساهم في جذب الرساميل المنتجة وتعزّز الدورة الاقتصادية وترفع نسب النمو.

عجز الموازنة العامّة

يكمن السبب الثاني في هشاشة الاقتصاد الوطني وعدم الاستقرار في التوازن في العجز المتمادي في الموازنة العامة وما ينجم عن هذا العجز من تسارع في وتيرة الدين العام. لا بدّ من الإشارة بأنّ الدول عامةً لا تفلس بالمعنى المالي الضيق للحالة، إلّا أنّ عدم قدرة المالية العامة بشكل دائم على ردم العجز إلّا من خلال اللجوء إلى المزيد من الاقتراض يؤدي إلى الإخلال في خدمة الدين و في القدرة على الاستمرار في الاقتراض. والحَرِيّ ذكره أنّ توجّهات السياسة النقديّة عامّة و بالتحديد في لبنان تُسَخّر مجمل إجراءاتها لتفادي الوقوع في هكذا خلل، مع ما نتج عن هذه الإجراءات من انعكاسات سلبيّة تراكمت على مدى عِقدين من الزّمن.

ممّا لا شكّ فيه أنّ هذا العجز أدّى إلى تعطيل دور أدوات السياسة المالية في إدارة الاقتصاد وإلى اضطلاع السياسة النقدية مُنفردة بمهام تلك الإدارة مع ما نعرفه عن محدودية السياسة النقدية في علاج هذا الخلل منفردةً. إنّ الاقتراض المتزايد بهدف إيفاء الفوائد على الدين العام لا يولِّد نمواً خلّاقاً لفرص العمل، لكنّه يساهم في توسيع الهوّة بين المداخيل و القطاعات ممّا يزيد من الفروقات الاجتماعية و يولّد مزيداً من التوتّر.

إضافةً إلى ذلك، فإنَّ ارتباط القطاع المصرفي برمّته بأدوات الدين العام يُضعف التصنيف الائتماني للبلاد و يؤثر على تصنيف القطاع رغم متانته من حيث معايير السيولة، والملاءة، ورقابة السلطة النقدية، والرقابة الذاتية، والتوجهات المُحافظة.


السياسة الاقتصاديّة في لبنان ما بعد الطائف:

إنّ السياسة الاقتصادية في لبنان بشقّيها النقدي والمالي، صيغت لتلائم حقبة اقتصادية محدّدة من تاريخ البلاد، فحقّقت أهدافها مرحليًّا وما لبثت أن أرخت بِوِزْرِها على الاقتصاد والمجتمع في مراحل لاحقة. يمكن إيجاز هذه الحقبة على الشكل التالي:

في مواكبة حقبة إعادة الإعمار وما بعدها

إنّ السياسة الاقتصاديّة التي واكبت وسهّلت عملية إعادة الإعمار في السنوات الخمس 1993-1997 نجحت في تجنيب الاقتصاد مخاطر عدم الاستقرار التي تولّدها ضغوط الإنفاق الإعماري على الموارد المالية كما على الأسعار بمفهومها الاقتصادي. ومن أهم ما حققته تلك السياسة من إيجابيات يمكن أن يتلخّص بالتالي:

أوّلاً، ساعد تثبيت سعر صرف الليرة تجاه الدولار الأميركي على استقرار نسبة التضخم على مستويات منخفضة فكان هذا التثبيت بمثابة المرساة التي كان يعوّل عليها لإحداث توازنات مستقرّة في كافة متغيِّرات الاقتصاد الكُلِّي.

ثانياً، أدّت سياسة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية على مدى عقدين ومن خلال أسعار فائدة مرتفعة مقارنة بالأسعار السائدة عالميًّا إلى استقطاب رساميل وودائع من الخارج، كان لها دور مساهم و فعال في الاقتراض العام والخاص.

ثالثاً، سهّل تزاوج سعر الصرف الثابت والفائدة المرتفعة على المصارف تحقيق نمو مؤثر ومضطرد في كافة بنود ميزانياتها وعلى مدى ربع القرن الفائت، هذا ما عزز متانة القطاع المصرفي، وقدرته على تمويل الاقتصاد خلال العقود اللاحقة.

بالرغم ممّا حقّقته السياسة الاقتصادية في تلك الحقبة من نجاحات إلّا أنها حملت وتحمل بعض المخاطر ومنها:

أوّلاً، من الناحية الاجتماعية، لم تَسْتَعِد الأجور والقدرة الشرائية إلّا جزءاً يسيراً ممّا كانت عليه في الحقبة التي سبقت سنوات الانهيار النقدي 1984-1992. كما أنَّ النموّ الاقتصادي، وعلى تفاوت وَتيرَتِه خلال أكثر من عقدين من الزمن، لم يُحدث تراجعاً موازياً في نسب البطالة والهجرة بل تسارعت وتيرة ارتفاع هذه النّسب خلال السنوات السبع الأخيرة رغم ما تحقّق في تلك الفترة من نموّ اقتصادي وإنْ بمعدّلات منخفضة. وقد نتج عن ذلك، مع غياب السياسة الاجتماعية، اتساعٌ متنامٍ للهوّة الاقتصاديّة الاجتماعيّة التي باتت تهدّد بتقويض الانصهار المُجتَمَعي وحتى الوطني.

ثانياً، إنّ ارتفاع نِسَب الفوائد أدّى إلى تراجع الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي المنتج (زراعة، صناعة) وإلى تراجع تراكم الرأسمال الحقيقي، ما انعكس على تراجُع في نسب العمالة.

ثالثاً، إنّ تثبيت سعر صرف العملة أدّى إلى ارتفاع كلفة الإنتاج المحليّة، ما أحدث تراجعاً في تنافسية الإنتاج.

سياسة اقتصادية ذات بُعد مُعطَّل ومُعطِّل

تقوم السياسة الاقتصادية، بتوجّهاتها التقليدية، على ركيزتين هما السياسة النقدية والسياسة المالية، وتسعى من خلال تلازمهما وتناسقهما إلى تحقيق هدفَيّ النموّ الاقتصادي والحد من البطالة في إطار من الاستقرار الكلِّي وهذا ما يُعرف بالمثّلث الذهبي في علم الاقتصاد.

لكنّ العجز في الموازنة العامة والنموّ المُتسارع للدَّين العام أدى إلى تعطُّل أدوات السياسة المالية أي: إنّها لم تعد قادرة على الاضطلاع بأيٍّ من أدوارها في إدارة الاقتصاد. فدور السياسة المالية في مواجهة التقلّبات الدوريّة للنشاط الاقتصادي معطّل لأنّ أدوات هذه السياسة أضحت مُسخّرة لتأمين خدمة الدين العام ولإبقاء عجز الموازنة على مستويات يحدّها انهيار الإنتاج في الاقتصاد الخاص، كذلك دورها معطل في إعادة التوزيع و في تمويل إنتاج الخدمات العامة.

أمّا السياسة النقدية الموكل إليها مهمّة الحفاظ على سعر الصرف ، فقد حُمِّلت منفردة مهام الإدارة الاقتصادية. غير أنَّ هذه السياسة بطبيعة أدواتها قادرة على الاضطلاع بأحد أدوار السياسة المالية فحسب ألا وهو دور مواجهة التقلّبات الدورية للنشاط الاقتصادي وذلك ضمن حدود ضيّقة. فالسياسة النقديّة هي أيضاً مُسخّرة لهدف تأمين التدفُّقات الماليّة التي تموّل المديونيّة العامّة والمديونية الخاصة. إنّها تبقي لذلك على شكل من أشكال النّمو الذي لا يترافق ونسب وازنة لتراكم رأس المال في قطاعات الإنتاج، كما لا يترافق مع تراجع نسب البطالة، لا بل يُسرِّعُها.


ضعف وانحسار التدفّقات الاستثماريّة

ترافقَ توجُّه السياسة النقديّة إلى جذب الودائع حصراً مع وجود معوقات منعت تدفق الاستثمارات الحقيقية الطويلة الأمد بالحجم الذي يتطلّبه النمو المولِّد لفرص العمل. يشكل الفساد أهمّ تلك المعوقات وأخطرها، يليه ضعف الإنتاجية في الإدارة العامة بسبب البيروقراطية وعدم تحديث الإطار التشريعي والإجرائي الملائم للاستثمار والمنافس للتسهيلات التي تقدمها اقتصادات أخرى، وتأتي بعد ذلك مُعدّلات الفائدة المرتفعة.

الفساد بمفهوم الاقتصاد السياسي وأثره على تدفّق الرّساميل الاستثمارية

إنّ التحديد الدقيق الذي يعتمده الاقتصاد السياسي لماهية الفساد يُظهر قدرة هذه الآفة على تقويض الأسس التي تقوم عليها الدولة. إنّ أساس الفساد هو جنوح الجشع عند من لديهم سلطة القرار وسلطة الإكراه، وهما سلطتان مستمدتان أصلاً من سلطات الدولة، بحيث يوظّفون هاتين السلطتين للاستحواذ على المال العام أو الموارد العامة أو لابتزاز المواطنين.

يُظهر هذا التعريف المُقْتضَب خطر الفساد على بنيان الدولة. فالعقد الاجتماعي بمفهومه المبدئي والمجرد أعطى الدولة حق اللجوء إلى الإكراه في حالات ثلاث أساسية أُضيفت إليها حالة رابعة فرضها التطور نحو اقتصاد السّوق. الحالات الأساسية للجوء إلى السلطة الإكراهية هي أوّلاً، واجب إحقاق الأمن والانتظام العام وفرض العدالة المُستمَدة من المبادئ الإنسانية والقوانين، ثانياً، واجب الحفاظ على الملكية الخاصة وضمان احترام الالتزامات التعاقدية، وثالثاً واجب فرض الرسوم والضرائب. أمّا الحالة الرابعة فتطال سلطة التدخل لتصحيح الاختلالات التي قد تُحدثها قُوى السوق في النظام الاقتصادي المبني على التبادل الحرّ.

هذا التعريف المُختَصر للفساد يُظهر السبب الأقوى لفشل السياسة الاقتصادية في استقطاب الرساميل الاستثمارية، فيما نجحت إلى حدٍّ ما في استقطاب الودائع. فالمُستثمر ينظر أوّلاً وأساساً لكيفيّة استعمال السّلطات لسلطتها، إذ إنّ ربحيّة الاستثمار أو عدمها تكمن في شرعيّة هذا الاستعمال أو عدمها، كما يكمن حق المستثمر في ملكيّة أصول استثماره وكيفيّة إدارتها، وعدم الخوف عليها. لذلك يأتي تقييم المُستثمر لمؤشّر الفساد في بلد ما في طليعة المُعطيات التي تُحْتَسب على أساسها المخاطر الملازمة لاستثماره.

ضعف الإنتاجيّة في الإدارة العامّة

تُعتبر البيروقراطيّة و غياب التشريعات الحديثة من معوقات الاستثمار في لبنان كونها تزيد من كلفة الاستثمار مالاً مبدَّداً ووقتاً مهدوراً. إنّ مرتبة لبنان المتدنِّية على سُلَّم سهولة الأعمال هي خير دليل على أنّ البيروقراطية هي أحد أسباب ضعف قدرته على جذب الاستثمارات. يتطلب استخراج ترخيص بناء في لبنان مثلاً ما معدله 244 يوماً مُقارنة بـ 49 يوماً في الإمارات بحسب تقرير ممارسة أنشطة الأعمال 2017 الصادر عن البنك الدولي. يُصَنّف لبنان بحسب هذا التقرير في المرتبة ما قبل الأخيرة بين الدول العربية يليه السودان. هنا نشير إلى أهميّة اتّخاذ الإجراءات التشريعية و التنفيذية اللازمة لتطبيق المشروع المُعَدّ من قبل حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في بداية تسعينيّات القرن الماضي لاعتماد ما يُعرف بالشبّاك المُوَحَّد لتأسيس الشركات one stop one shop. من الضروري أيضا إعداد المراسيم التطبيقيّة والمباشرة بتطبيق قانون الحكومة الالكترونية.

أسعار الفائدة المرتفعة

هي من معوقات الاستثمار كونها تدخل في صميم النموذج المتَّبع لتقييم جدوى أيّ مشروع استثماري، بحيث إنَّ الفائدة المرتفعة على القروض الاستثمارية تقود إلى استبعاد مشاريع استثماريّة قد تكون مجدية في ما لو قُورن المردود الاستثماري بنسبة فائدة أدنى على القروض.


المجلس الاقتصادي و الاجتماعي في لبنان:
نظرة جديدة للوضع الاقتصادي الاجتماعي و البيئي

إنّ الإنماء الذي ننشده كمجلس اقتصادي واجتماعي للبنان هو إنماء اقتصادي واجتماعي وبيئي. فالنّمو الاقتصادي في هذا الإطار الإنمائي هو هدف تحدّ بلوغه قيود ثلاث وهي: الاستقرار المالي، التقدم الاجتماعي المتمثّل بتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص عن طريق الإنفاق العام الرِّعائي، وحماية الموارد الطبيعيّة من الاستنزاف المُتَفلِّت. وما الإخلال بأيٍّ من هذه القيود سوى تقويض للأُسُسِ التي يُبنى عليها المسار الإنمائي المُستدام برمته.

من المُسَلَّم به أنّ التزام السياسة الاقتصادية المنشودة بالضوابط الصارمة التي يفرضها الإنماء المستدام سوف يكبت النمو الاقتصادي بالمقياس والقياس التقليديين. فالقياس التقليدي للنشاط الاقتصادي لا تشمل حساباته التقييم السلبي لمدى التدهور الاجتماعي والبيئي، ولا التقييم الإيجابي للتقدّم على هذين المَيدانين.

لذا تطوّرت أسُس احتساب النشاط الاقتصادي راهناً باتّجاه مقاربة تشمل الوقع الاجتماعي والبيئي للنموِّ الاقتصادي. فالموارد البشريّة والموارد الطبيعية هي بحق أصول رأسماليّة لها المساهمة الأكبر في النشاط الاقتصادي، والمحافظة عليها وتطويرها هي السبيل لتحقيق الإزدهار الحقيقي. وما هدف الحَوْكَمة الجيِّدة في هذا السِّياق إلّا التوصُّل إلى توازن مُستدام بين متطلّبات النُّمو من جهة، وبين الضوابط الاجتماعية والبيئيّة لذلك النموّ من جهة أخرى.

يتألَّف المجلس الاقتصادي و الاجتماعي في لبنان منذ تشكيله بنسخته الحالية الثانية في نهاية العام 2017 من 71 عضواً مُنتخباً يمثلون الهيئات الاقتصادية والنقابات العمالية ونقابات المهن الحرّة والخبراء في لبنان. انبثق عن الهيئة العامة هيئة مكتب مؤلّفة من 9 أعضاء بالإضافة إلى عشَر لجان متخصّصة هي التالية: لجنة القضايا الاقتصادية العامّة، ولجنة القضايا الاجتماعية العامّة، ولجنة التنمية البشرية وحقوق الإنسان، ولجنة النشاطات الإنتاجية، ولجنة العلوم والتكنولوجيا، ولجنة البيئة، ولجنة السياحة، ولجنة قضايا المناطق وشؤون الزراعة، ولجنة قضايا العمل والمهن والحرف، ولجنة الشباب والرياضة. يشكل هذا المجلس ذو الدور الاستشاري منصّة نقاش وتفاعل بين كافة قوى الإنتاج و تجمع خبرات تعمل جاهدة لصَوْغ رؤية اقتصاديّة اجتماعيّة بيئيّة مُتكاملة للبنان.

لم يكتف المجلس بانتظار أن تُبادر السلطتان التشريعية و التنفيذية و تطرح عليه قضايا للبحث، بل بادر إحساسا منه بدقّة الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و البيئية في لبنان و دعا أصحاب الشأن لتدارس سُبُل الخروج من الوضع الراهن.

في هذا السّياق، تنصرف اللجان بحسب اختصاصها إلى دعوة أصحاب الشأن في لبنان للنقاش بغية الوصول إلى رؤى مشتركة تسهّل عملية صَوْغ توصيات تُرْفَع للسلطتين التنفيذية والتشريعية في لبنان. كما أن أعضاء اللجان من أصحاب الاختصاص يعملون على تحليل الوضع ودراسة أنجع السُّبل للخروج من الأزمة.

المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و وثيقة الأحزاب

بادر المجلس ومنذ تشكيله في نهاية العام 2017 إلى درس خطوات متعدّدة للمساهمة في تقديم الأفكار والاقتراحات الهادفة إلى تحريك الدورة الاقتصادية واستيعاب الخلل القائم. من أبرز تلك الخطوات كانت دعوة الأحزاب اللبنانية الأساسية لتقديم الشقِّ الاقتصادي في برامجها الانتخابية إلى المجلس، بغية صياغة رؤية اقتصادية تتوافق عليها معظم القوى السياسية في لبنان. بناءً على ذلك، لبّى سبعة أحزاب تلك الدعوة، وأقيم في المجلس طاولة حوار اقتصادية جمعت حولها الأحزاب السبعة. بذل ممثِّلوا الأحزاب على مدار ستّة اجتماعات جهداً استثنائياً من أجل الوصول إلى حدٍّ أدنى مشترك على الرغم من تباين الخلفيّات السياسية والاقتصادية التي ينطلقون منها. كانت باكورة الاتفاق فيما بينهم إصدار وثيقة من اثنين وعشرين بنداً تهدف إلى خفض النّفقات العامة. تصلح تلك الوثيقة لأن تكون في صلب البيان الوزاري للحكومة المرتقبة لأنّها تساهم من دون أدنى شك، وعلى مدار ثلاث إلى خمس سنوات، إلى خفض العجز في الموازنة العامة إلى ما دون الخمسة بالمائة من الناتج المحلي، خاصةً وأنّ الأحزاب السياسية المساهِمة في إعداد الوثيقة والموافِقة على هذه البنود موجودة في السلطتين التنفيذية والتشريعية.

التحديات الأساسيّة الرّاهنة للاقتصاد وسُبُلُ معالجتها

يسعى المجلس الاقتصادي والاجتماعي في حركته باتّجاه الكتل النيابية وصحاب القرار السياسي، بالإضافة إلى القوى المشاركة في العملية الإنتاجيّة (أصحاب عمل وعمال)، إلى حثّهم على وضع سياسة اقتصادية ترتكز على تفعيل القطاعات الإنتاجية.

لقد أعَدَّت لجنة القضايا الاقتصادية العامة في المجلس ورقة إجراءات فوريّة وتوجّهات على المدى المتوسط لتحفيز النمو الاقتصادي، وتمت مناقشة هذه الورقة وأُقِرَّت من قبل الهيئة العامة للمجلس في أواسط تشرين الأوّل من العام 2018 الحالي. تهدف الورقة إلى تحفيز النمو الاقتصادي العادل والمُستدام و تلحظ نقاطاً عديدة ذات أبعاد اجتماعيّة وتنموية. كما تأخذ بعين الاعتبار معالجة هموم الناس وتحقيق آمالهم وتطلّعاتهم لتأمين نمو مُستدام لاقتصاد حقيقي مُؤَنْسن يرتكز على الإنتاج أوّلاً وهذا يتطلَّب رزمة من الإصلاحات البنيويّة على الأصعدة الاقتصادية والمالية والإدارية.


خُلاصة

يواجه لبنان حاليًّا تحدّيات ناجمة عن ضعف بنيوي في اقتصاده منها عدم وجود فرص عمل وعدم القدرة على توفيرها، والعجز المزدوج المتمثل بعجز الميزان الجاري وعجز الموازنة، إضافة إلى عجز كبير في الميزان التّجاري و ارتفاع حجم الديون الخاصة والالتزامات المترتّبة على القطاع الخاص (أسر، شركات). كلّ هذا بالإضافة إلى ثقل الدّين العام على الاقتصاد وعلى بنية الفوائد في السوق المحلّية، وضعف مستوى الخدمات العامّة. كما يعاني لبنان من تحديات ناجمة عن عوامل ظرفية مُتَمثّلة بأزمة النازحين السوريين والتراجع في قيمة التحويلات الماليّة والبطء في إنجاز المشاريع (استخراج النفط والغاز، الكهرباء، الخ). يواجه لبنان أيضا تحديات ناجمة عن غياب الحَوْكَمة منها عدم الالتزام بالقوانين والأنظمة، وضعف أجهزة الدولة وغياب هيبتها، وغياب دَوْر الهيئات الرّقابية. تدفع كلّ تلك التحديات إلى انخفاض نسبة النّمو الاقتصادي وارتفاع معدّلات البطالة.

المطلوب لتفعيل الاقتصاد وزيادة النمو خطوات من شأنها توسيع قاعدة الاقتصاد الوطني وحجمه، بما يسمح بإعادة تكوين الطبقة المتوسّطة وتوزيع فرص العمل ومجالات الإنتاج على أكبر شريحة من المواطنين إضافة إلى تأمين شبكات أمان اجتماعي (ضمان اجتماعي، ضمان الشيخوخة، نظام تقاعد، إلخ.)

يشكّل إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته وزيادة فعاليته نقطة عبور إلى تحسين أداء مؤسسات الدولة، وضمانة للاستثمار المحلّي والاجنبي. المطلوب أيضا توفير البيئة الاستثمارية والبنية التمويلية، مع التنويع في سبل التمويل (توسيع نشاط بورصة بيروت)، وإشراك المواطنين في القاعدة الرأسمالية للقطاعات الاقتصادية. من المُهم أيضا الالتزام بالشراكة بين القطاعين العام والخاص والإسراع بإعداد المراسيم التطبيقية للقانون رقم 48 الصادر بتاريخ 7 أيلول 2017. من الضروري أيضا إزالة التعديات على الأملاك العامة وإدارتها بشكل فعّال لصالح الدولة، والحفاظ على التّراث الوطني واستثمار الموارد الطبيعيّة من أصول وموجودات لصالح الأجيال الحاضرة والمقبلة، من خلال إدارة شفّافة لصندوق سيادي بعد إنشائه.

47 عاماً على تأسيس دولة الإمارات العربيّة المتّحدة

احتفلَ شعبُ الإمارات العربيّة المُتّحدة في الثاني من كانون أوّل 2018 بمرور 47 عاماً على تأسيس دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، 1971- 2018.

قبل الحديث إيجازاً عن النجاحات الحديثة لدولة الإمارات العربيّة المتّحدة، وهو نجاح لكل عربيّ حقيقي مخلص، (وآخرها تصنيف جواز سفرها الأوّل على مستوى العالم)، ربّما يجدر تذكير الشباب اليوم أنّ دولة الإمارات العربيّة المتّحدة لم تولد بسهولة سنة 1971، وإنّما بعد مخاض طويل بل مواجهة حقيقيّة طرفاها المرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حاكم أبو ظبي ومعه حكّام الإمارات المُتَصالحة يومذاك من جهة، وقوى إقليميّة شاهِنشاهية عرقلت، بل هدّدت ما استطاعت، لمنع قيام اتّحاد الإمارات التّسع – ونجحت جزئيّاً بمنع قَطَر والبحرين من الانضمام للاتّحاد العربي العتيد. إصرار المغفور له الشيخ زايد، وحِنْكَته، في تحقيق وحدة الإمارات هو ما دفع الرّئيس عبد الناصر إلى القول سنة 1968 “وُلِد زعيم كبير في الخليج العربي”.

زُرْت شخصيّاً دولة الإمارات العربيّة المتّحدة أكثر من عشر مرّات – إذْ لنا فيها أبناء وأصدقاء وأكاديميّون زملاء ومعارف – قضيت فيها أسابيعَ طويلةً، وزُرْت معظمَ جهاتها ومناطقها، فشاهدت عياناً نهضة الإمارات بسرعة وكثافة ودقّة وتخطيط شمولي غير مسبوق: إذ من الصّعب أن تجد منطقة أخرى في العالم تحوّلت في عشرين سنة، إيجابيّاً وفي كلّ مجال، بالقدر الذي باتت عليه مناطق دولة الإمارات العربيّة المتحدة.

لم يكن النجاح المُذهل ذاك نجاحاً في “الحجر” فقط، وإنّما قبل ذلك في البشر، أي في الإنسان: إذ لم أرَ في أمكنة أخرى كثيرة وزيراً لـ”السّعادة”، أو “التّسامح”، كما في الإمارات، وعلى سبيل المثال لا الحصر. وإنْ دلّ ذلك على شيء، فعلى أنّ الإنسان، وقبول الآخر واحترامه، حاضران بقوّة في وعي قيادات الإمارات العربية، وفي خططها للمستقبل. هذا هو، في رأيي، جوهر النّقلة السياسيّة التي أحدثها المغفور له المؤسّس الشيخ زايد ورفاقه، وهذا الروح مستمرّ بوضوح في خطط الإمارات وسياساتها الرّاهنة، وهو ما اختصرته احتفالات الذكرى 47 لقيام الاتّحاد بكلمَتَي “روح الاتّحاد 47″، وفي ذلك ما يكفي من الدّلالات.

حضارياً وثقافيّاً وسياسيّاً في الإنسان قبل الحجر، بالفعل وليس بالكلام، تميّزت السنوات السبع والأربعون الماضية من عُمْر دولة الإمارات بالسّمات المفصليّة الأساسيّة التّالية:

  • وَحْدَةٌ داخليّة حضارية، غير إلغائية، تحفظ التنوّع ولا تلغيه.
  • الجمعُ بوعي كامل بين الأصالة والحداثة.
  • الإنسانُ وترَقِّيه، الفرديّ والاجتماعي، هو الهدف الأخير.
  • “مجتمع سعيد، مُتسامح”، شعار يتردّد في كلّ زاوية.
  • عروبة غير عنصرية.
  • إسلامٌ معتدلٌ، منفتحٌ، يقبلُ الآخرَ ويتكامل معه.
  • دولة مدنية بمؤسسات حديثة، دستوريّة وإداريّة وتنمويّة، وسواها.
  • المرأةُ شريك كامل.
  • الهدف هو المستقبل لا الماضي.
  • اعتماد العلم في التّخطيط للمستقبل.
  • تنويع في القطاعات الاقتصادية ومصادر الدخل.
  • لا أهدافَ مستحيلةً أو لا يمكن تحقيقها.
  • ما من عقدة نقص، أو تبعيّة، حيال الشّرق أو الغرب.
  • طموح بغير حدود (الحكومة الإلكترونية، مدينة المستقبل الذكية، مثالان فقط)،
  • التزام تام بمعايير الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية.
  • إخلاص ليس فوقه إخلاص، لشعب الإمارات، درسٌ حيٌّ برسم الكثيرين.
  • وأخيراً، يَدٌ خيّرة، معطاء، لكلّ محتاج، بمعزل عن لونه وجنسه ودينه وانتمائه، أطلقها المؤسّس الشيخ زايد قبل خمسين سنة وأصبحت مبدأً في سياسة الإمارات.

    “سعادتنا في قيام الاتحاد”، قالها ببساطة المغفور له الشيخ زايد، وهي تختصر النّظرية العربية القومية برمّتها.

في العيد السابع والأربعين لإعلان الاتّحاد، نتمنّى للإمارات العربيّة المتّحدة، شعباً ودولة، دوام الأمن والأمان والبحبوحة والازدهار والرّيادة في كلّ مجال، فتتحقّق نظريّة “المواطن الحرّ والشعب السعيد”. وهو عين ما نتمنّاه لكلّ الشعوب والدول العربية الشقيقة.

 وتُتَوِّج الضّحى ،التي تشارك الشّعب الإماراتي، واللبنانيين المقيمين في الإمارات، سعادتهم في الذكرى السابعة والأربعين، هذا الملفُّ الذي يلقي الضوء على احتفالات الثاني من ديسمبر في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، بلقاء مع سعادة سفير دولة الإمارات في بيروت، الدكتور حمد الشامسي، الذي ما انفك يمثّل روح دولة الإمارات العربية المتحدة في بيروت بثقافته العالية وعمله الخيري الإنساني الذي لم ينقطع لسنوات وفي المناطق اللبنانيّة كافّة، وفي حَضِّهِ على تعزيز روح المُصالحة والتّعارف والاعتراف بالآخر بين مكوّنات المجتمع اللبناني، وهي عناوين مؤتمر الحوار بين المكوّنات الدينيّة اللبنانيّة والذي دعا إليه سعادة السّفير وانعقد في فندق الحبتور في بيروت في أواخر كانون أوّل 2018 (وفي العدد كلمة سماحة شيخ العقل في هذا المؤتمر).

رئيس التحرير

لقاءٌ مع سعادة سفير دولة الامارات العربيّة المتّحدة في بيروت

نُهنِّئكم ودولة الإمارات العربية المتّحدة بالعيد الوطنيّ الذي نعتبره نحن مَعْلَماً أساسيّاً في الحياة العربيّة الحديثة:

سعادة سفير دولة الامارات العربيّة المتّحدة في بيروت الدكتور حمد سعيد الشّامسي.

• كيف تنظرون سعادة السّفير إلى العلاقات الإماراتيّة – اللبنانيّة وقد شهدت قفزةً كبرى مع نشاطكم الخيِّر الواسع في لبنان؟

نُولي العلاقات الثنائيّة بين البلدين أهميّة خاصّة ونسعى لتوطيدها وتعزيز روابطها بما يصب في صالح الشعبين الشقيقين. لدينا أجندة انسانيّة، تنمويّة وخيريّة ونعمل وفق سياسة خارجية واضحة تقوم على احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية.

منذ قدومي إلى لبنان، وضعت في سلّم أولويّاتي هيكلة المساعدات الانسانيّة استكمالاً لنهجنا السابق والذي طالما أولى الجانب الإنسانيّ حَيِّزاً مُهمّاً وذلك منذ ما قبل قيام الاتّحاد. وقد تمّ إنشاء “مُلْحَقيّة للشؤون الإنسانيّة والتنمويّة” هدفها دراسة المشاريع والعمل على تنفيذها وفق رؤية مُمَنْهجة تقوم على مساعدة جميع المناطق وكافّة الجنسيّات والفئات، لانّ العمل الإنسانيّ لا يمكن أن يتجزّأ. نعمل لخدمة الإنسان كإنسان بعيداً عن أيّة اعتبارات دينيّة، طائفيّة، عرقيّة، مذهبيّة…

لدينا مشاريع في كافّة المناطق اللبنانية لا سيّما في القرى والبلدات النائية والمهمشة من أجل تعزيز مبدأ التنمية المستدامة ومساعدة السكّان، كما أنّ حملاتنا الإنسانيّة مستمرّة على مدار العام للوصول إلى أكبر عدد مُمكن من المستفيدين. في أوقات الشدّة تجد سفارتنا في طليعة أعمال الإغاثة بالتّنسيق مع الحكومة اللبنانيّة والوزارات المعنيّة كما منظمات المجتمع المدني والجمعيّات المُرَخّصة من قبل وزارة الداخليّة والبلديات.

عَلّمَنا القائد المؤسّس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان “طيّب الله ثراه”، ونحن نحتفل هذا العام بمئويّته، أنّ العمل الإنسانيّ الجادّ هو الأساس لبناء المجتمعات وفق مبادىءأو ركائز تقوم على التسامح ونشر رسالة المحبّة والخير وإعلاء شأن الإنسان دون أيّة اعتبارات أخرى، ولهذا تبوّأَت دولتنا المركز الأوّل للعام الخامس على التّوالي في المساعدات الخارجيّة المُقدّمة إلى دول العالم.

حمّلتنا قيادتنا الرّشيدة مسؤوليّة كبيرة ونحن نعمل بجدّ ونجهد من أجل السّير على نفس النَّهج والخطى، بتنا في المركز الأوّل على عدّة أصعدة واحتلّ جواز سفرنا المركز الأوّل وقمنا بخطوات جبّارة في مجال التّسامح حيث نحن أوّل دولةٍ عربيّة تكرّس للتّسامح عاماً بعدما أطلق صاحب السّمو الشّيخ خليفة بن زايد آل نهيان “حفظه الله” على عام 2019 “عام التّسامح” وذلك يترافق مع الزّيارة التاريخيّة لبابا الفاتيكان إلى أبو ظبي في أوائل شهر فبراير المقبل، ما سيجعل الإمارات عاصمة للثقافة والأخوّة الإنسانيّة.

• ما الدروس التي تقدّمها تجربة الاتّحاد المُبارك في دولة الإمارات العربية المتّحدة إلى الشعوب العربية؟

أرسى الشّيخ زايد “طيّب الله ثراه” أسّس الاتّحاد الذي بات اليوم نموذجاً يحتذى به بعدما استطاع توحيد 7 إمارات وجعلها دولة واحدة، لدى كلّ منها مميّزاتها ومعالمها ولكنها تجتمع جميعًا تحت مظلّة واحدة وتسعى لتأدية دورها وواجبها في تلبية حاجات الناس ومصالحهم. القيادة والشعب الإماراتي يكمّلان بعضهما البعض، ولهذا الولاء مطلق للعلم والوطن والقيادة التي تبذل الغالي والنّفيس لتبقى رايتُنا شامخة ومرفوعة.

الوحدة والتعايش والانفتاح وقبول الآخر هي أهمّ السّمات التي ميّزت اتّحادنا الذي استطاع رغم عمر الدّولة القصير مقارنة بباقي الدّول أن يصبح قبلة أنظار العالم بعدما وضعنا خططاً استراتيجيّةً قصيرة وطويلة الأمد، وعزّزنا مفهوم المواطنة والانتماء وحوّلنا التسامح إلى ثقافة وكرّسنا المحبة والعطاء شعار. العام 2019 سيكون عاماً للتسامح بتوجيهات من صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد “حفظه الله” والذي سيستكمل ما بدأناه في عام الخير 2017 وعام زايد 2018.

المجتمعات القويّة هي التي توظّف في طاقات الإنسان ومهاراته وتبتعد عن الكراهية والغلوّ وتفتح الأبواب أمام التنوّع ومن هنا قوّة اتّحادنا بعدما شرّعنا قانوناً يحمي حريّة المُعْتقد وممارسة الشعائر الدينيّة ونظّمنا مؤتمرات عالميّة لنقول للعالم أنّ القضاء على الإرهاب والتطرّف يبدأ من الفكر، عبر جيل واعٍ ومثقّف ومتنوّع يكون عماد بناء الغد والمستقبل.

مدينة دبي | الإمارات العربية المتحدة.

• ما خططكم لزيادة وتفعيل شبكة تقديماتكم من أعمال خيريّة في لبنان خصوصا نحن نتذكر أنّه عام زايد الخير في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة؟

مساعداتنا الإنسانية مُستمرّة على مدار العام، تجد دَوْرَنا في الكنائس والمساجد، في رمضان كما في عيد الميلاد… لدينا خطط نعمل وفقها ونسعى لتنفيذها فنحن افتتحنا في هذا العام أكثر من 70 مشروعاً إنمائيّاً وتنمويّاً في عَكّار، وطرابلس والضنيَّة وإقليم الخرّوب وجميعها تساعد السكَّان كما النازحين السورييِّن.

في “عام زايد” أوْلَينا اهتماماً خاصّاً بالمرأة والشباب فكانت لدينا حملة للتّوعية ضدّ سرطان الثّدي جابت كافّة المناطق من خلال ندوات توعية وإرشاد وتوزيع قسائم لإجراء الصُّوَر الشُعاعيّة والصوتية، كما كانت لدينا نشاطات تربويّة للشباب ككأس زايد للتّحدِّي في طرابلس، وكأس زايد للرّماية في الصّفرا وتمَّ تتويج الفائزين.

نحاول أن تكون المشاريع والمساعدات في مختلف المجالات وأن لا نهمّش فئة أو منطقة. هذا من دون أن ننسى المساعدات الإنسانيّة للأفراد حيث واكبنا حالات تمّ من خلالها إعادة الأمل لهم عبر مساعدتهم طبّياً من خلال عمليّات وزراعة أعضاء بفضل المكرُمات للجهات الإماراتية المانحة.

هناك فكرة دائماً ما أُردّدها. إنّ العمل الخَيِّر لا بُدّ أن يعود بالحبِّ، وبالحبّ والعمل الصالح تبني الدُّولَ والأوطان. فنحن وجودنا ليس جديد في لبنان كانت لدى الشّيخ زايد “رحمه الله” محبّة خاصّة واستثنائيّة لهذا البلد وقد أمر بتنفيذ مشروع نزع الألغام في جنوب لبنان كما أنّه كان عَرّاب اتّفاق الطائف من خلال الدّعوة لِلَّجنة الرُّباعيّة حينها، وهذا ما تُرْجِمَ من خلال افتتاح شارع ودوّار ونصب تذكاري لـ “الشيخ زايد” في الرّملة البيضاء مقابل مبنى السفارة الذي وضعنا حجر الأساس له بحضور ورعاية الرّئيس سعد الحريري.

• هل من كلمة أخيرة مع شكرنا وتقديرنا دائما؟

تحتضن دولتُنا أكثر من 200 جنسيّة على أرضها وهم يعيشون جميعهم في رخاء وهناء وراحة، لأنّ هناك دولة قانون ومؤسّسات تعمل للصالح العام للمواطنين كما المقيمين. ونحن نُجَسّد هنا سياسة دولتنا التي تقوم على ركائز ومبادئ يعرفها الجميع، لأنَّ نشاطاتنا تعبِّر عن مفهومنا للعلاقات الثنائيّة. نحن دولة زَرَع فيها القائد المؤسّس “روح الاتّحاد” ونكمّل نفس المسيرة بفضل قيادتنا الرّشيدة. رسالتنا للسّلام نكمّلها في هذا البلد العزيز والشقيق الذي افتتحنا فيه سفارة هي الثانية بعد مصر وهذا دليل على مكانة لبنان واللّبنانييّن.

نهنِّئ العالم بعيد الميلاد والسّنة الجديدة، آملين أن تحمل للبنان رئيساً وحكومة وشعباً كلّ الاستقرار والخير وأن يعمَّ الأمن والأمان لأنّ لبنان الذي نعرفه هو صلة وصل، هو تاريخ وحضارة وثقافة…

صور من إحتفالات اليوم الوطني لدولة الإمارات العربية المتحدة.

العدد 26