الأربعاء, آذار 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, آذار 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

وحدةُ الحقيقة

ميخائيل نعيمه

ميخائيل نعيمه الذي يعرفه جيّداً الوسط الأدبي والفكري والثقافي في غير جزء من هذا العالم، من الهند وموسكو إلى العراق ومصر وبلدان المغرب العربي إلى شمال أمريكا، ظلّ في وطنه من حيث الرعاية والتعريف بأعماله على «القائمة السوداء» السريّة تقريباً، ولأسباب غير معروفة تماماً. ورغم السمعة العالمية والعربية العالية، ورغم فوزه بجائزة الدولة اللبنانية سنة 1961، ثم تكريم رئيس الجمهورية له في مناسبة بلوغه التسعين سنة 1979 لم ينلْ نعيمه من مؤسسات وطنه الثقافية والتربوية الرسمية والخاصة من يوازي من حيث الاهتمام والتكريم الأعمال الضخمة والمبدعة وغير العادية التي أنجزها طوال سبعين سنة من عمره الذي امتد أكثر من تسعين عاماً، وإسوة بما قامت به بإزاء أدباء ومفكرين لبنانيين وغير لبنانيين آخرين كانوا دون نعيمه إبداعاً وغنًى فكرياً أو أنهم على الأقل ما كانوا بأعلى كعباً منه في أي باب من الأبواب. هذا في التكريم المعنوي، أمّا التكريم أو التقدير في المجال المالي أو المادي فكان معدوماً، وقد عاش نعيمه الشطر الأخير من سنوات عمره وفق ما أعرف من أكثر من مصدر من المردود المالي السنوي لمبيعات مؤلفاته من دار نشر لبنانية محترمة، مردود لم يكن ليتجاوز يومذاك- نهاية الستينيّات وسحابة السبعينيّات- بضع عشرات من آلاف الليرات اللبنانية سنوياً.

وعليه، يأتي تكريم البيت اللبناني في موسكو، ومؤسسات روسيّة أخرى، لنعيمه في ذكرى ميلاده الثاني والأربعين بعد المئة، لفتة علمية وإنسانية مهمة؛ في مكانها الطبيعي (لأن نعيمه خريج بولتافا الروسية يومذاك)، وفي توقيتها أيضاً: إذ العالم برمّته يشكو أزماته، ولا يخرج من أزمة إلّا ليدخل أزمة جديدة أشد وأدهى. وهو ما أشار إليه نعيمه في كتبه كافة، أي إنّ نوع المدنية التي نحياها مدنيةٌ مولّدة للأزمات، في ذاتها، وبطبيعتها. فلا نبحثنّ إذاً عن دواء لأزماتنا في ما هو الداء في الحقيقة، أي إن مدنيتنا عاجزة عن تقديم العلاج لمشكلاتها (كما يتبيّن بالملموس يومياً)، وإن العلاج، والكلام لنعيمه، إنّما يكون في بناء مدنية مختلفة تماماً في مبادئها وقيمها وأساليب إنتاجها وعيشها أيضاً.
المدنية العاجزة عن تقديم الدواء والعلاج لمشكلات البشر ومجتمعاتهم والتي باتت في ذروتها منذ بعض الوقت، هي المدنية «المادية»، وثقافتها المادية؛
فيما المدنية القادرة على تقديم الدواء والعلاج المطلوبَين لمشكلاتنا تلك هي المدنية «غير المادية» – ولا أريد أن أحصرها في شكل واحد ضيق حصراً. المدخل إلى حلّ مشكلات البشر التي تبدو اليوم ضاغطة بل مستعصية يكمن في الثقافات غير المادية، (ولا أقول بثقافة واحدة)، وبالمقاربات غير المادية التي تتبنّاها لمشكلات الإنسان والمجتمع. وهنا يكمن إسهام نعيمه الحاسم منذ بدأ يكتب قبل مئة سنة تقريباً، وإلى آخر كتاب كتبه؛ بل لكأنما كلّ ما كتبه كان كتاباً واحداً، وفيه فكرة واحدة، وقد حاول أن يوصلها إلى قارئه في أشكال مختلفة: من المقالة إلى الشعر فالمسرحية فالأقصوصة وأخيراً الرواية – كأتم شكل أدبي – إلى البحث الفلسفي الدقيق إنما بأسلوب رشيق سهل ومفهوم من أكثرية القرّاء. وقد أسميت ما تركه نعيمه من آثار فكرية بـ «الأدب الفلسفي»، أي هي فلسفة بالكامل لكنها صيغت بأسلوب أدبي، لأن الأدب الجميل أسرع إلى قلب الإنسان من المبحث الفلسفي الجاف كما يُظنّ عموماً.

هذا هو موقع نعيمه تحديداً: لم يكن يلهو، ولا يلغو، بل كان صاحب مشروع لتحرير الإنسان والإنسانية من مشكلاتهما الكثيرة، قدّمه على نحو واضح دقيق، ودافع عنه بأكثر من طريقة وأسلوب، في كل ما كتبه أو تركه من آثار فكرية تبلغ العشرات.
هوذا ما سأظهِره في محاضرتي، وسأختمها بتركيز إضافي على مسألة تعني هذه المناسبة كما أعتقد، وهي أن نعيمه لم يغادر ربما التأثير الروسي الذي اختبره في حقبة بولتافا، وإنما أضاف إليه لاحقاً التأثير الشرقي عموماً.

الملاحظة الثانية، وإن تكُ شخصية في الظاهر، فهي متصلة في الواقع بسؤال «هل نعيمه فيلسوف» موضوع هذه المحاضرة. كانت رسالة تخرّجي في الدبلوم من كلية التربية في الجامعة اللبنانية سنة 1973 (أي قبل ما يقرب من سبع وأربعين سنة) تحت عنوان: «مدخل إلى فلسفة نعيمه»، وأحسب أنه قُيِّض لي أن أكون بين أوائل من استخدموا تعبير «نعيمه الفيلسوف»! ولضخامة الإبداع الفلسفي الذي عثرت عليه في أعمال نعيمه لم أكتفِ بالمدخل، فكانت مباشرة أطروحتي في الدكتوراه والتي أشرف عليها مؤرخ الفلسفة المفكر اللبناني الراحل الدكتور خليل الجرّ والتي نوقشت سنة 1977، أي قبل حوالي ثلاث وأربعين سنة. الأكثر أهمية في الحدث هذا، بعيداً عن الجانب الشخصي، هو أن بعض أعضاء لجنة المناقشة رفضوا فكرة نعيمه الفيلسوف وجادلوني في الأمر لثلاث ساعات كاملة، وكانت حجتهم (الضعيفة كما فنّدت) أن نعيمه شخصياً لم يُسمّ نفسه فيلسوفاً فكيف يجرؤ الباحث على ما لم يُقدِم عليه نعيمه نفسه، ناهيك بالآخرين! أمّا ما كان مثيراً واستثنائياً بحق فهو أن ميخائيل نعيمه كان حاضراً شخصياً هذا النقاش الطويل الذي تناول أعماله: أهي أدب فقط، أم هي أدب، وفلسفة كذلك، ومن النوع الأصيل أيضاً؟ وكانت الذروة حين طلب الدكتور الجرّ (رحمه الله) من نعيمه أن يدلي بدلوه في المسألة موضوع الجدل، وأن يحسم النقاش بالتالي. فقام نعيمه إلى المسرح، وتحدّث لثلث ساعة – وقد نشرت الصحف في اليوم التالي الكثير الكثير من حديثه- ومن بين ما قاله: «رأيت نفسي ممدَّداً لثلاث ساعات على طاولتكم، وقد شرّحتموني وحللتم أعمالي وأفكاري…» ثم ليختم مداخلته بالقول: «إني أوافق على كل كلمة وردت في البحث موضوع النقاش.»

رغبت من هذه المقدَّمة أن أُدخِلكم مباشرة في جو النقاش الذي اشتعل في زمن انقضى بخصوص تصنيف أعمال نعيمه، وتصنيف نعيمه شخصياً، في خانة الأدب الرفيع فقط، أم في الخانة الصعبة الملتبسة: أدب وفلسفة معاً- وإسوة بأدباء كبار آخرين من المعرّي إلى غوته إلى سارتر وغيرهم من الشعراء والأدباء وكتّاب الرواية والمسرح من أرباب هذا اللون الرفيع من الأدب الفلسفي الذي ميّز معظم أعمال نعيمه والذي تمكن بمهارة واقتدار من التأليف (ولا أقول الجمع) بين بهاء الأدب وتفرّد أدوات التعبير فيه وبين عمق الفلسفة وتماسكها وشمولها!

أودّ أن أقول، وكما أشرت في مقدَّمه كتابي الصادر قبل أربعين عاماً، «فلسفة ميخائيل نعيمه»، (منشورات بحسون الثقافية) إن هذا النقاش (نعيمه أديب أم أديب وفيلسوف) لم يكن ليعني نعيمه في شيء، وهو الذي تجاوز أشياء كثيرة في حياته، وزهد، منذ عودته إلى كنف صخرته في الشخروب سنة 1932بُعيد موت صديقه ورفيقه جبران، في ما سعى كثيرون إليه، فبات لا يشغلُ باله لقبٌ أو جاهٌ من هنا أو تصنيف من هناك. كان الأمر يعنينا نحن، الباحثين في تراث نعيمه. بعضُ ما أدهشني إلى حد بعيد هو أن الداخل إلى حقل كتابات نعيمه يقعُ في المؤلفات تلك، وكيفما التفتَ في أرجائها، على صور جليّة من الفلسفة بأوسع معانيها، من المشكلات والإشكاليات، إلى عمق التحليل، ووحدة الخطاب وتماسكه وصولاً إلى استنتاجات وخلاصات جديدة، كلياً أو جزئياً كحال الفلسفة دائماً. كانت الأفكار أو المكوّنات تلك أشبه بحجارة وأعمدة وقباب وتيجان وزخارف مشغولة ومصقولة بكل مهارة ودقة، لكنها غير مرصوفة بل متناثرة في كل مكان. كان في وسع جميع الداخلين إلى حقل نعيمه ذاك أن يروا في المشهد ذاك آياتٍ من إبداعات نعيمه الجمالية، فناً وأدباً وشعراً، رواية ومسرحاً وإلماعات، وأساليب في الكتابة كانت تجديداً ذا شأن أدرك أهميته كتّاب وطالبو أدب كُثُر. إلاّ أنه كان في وسع زائرين أو متعبّدين آخرين في حقل كتابات نعيمه أن يروا في هذه الجماليات المتناثرة، أيضاً، ما هو أبعد أو أعمق من ذلك قليلاً. لم يكن الزائر أو المتعبّد في معبد نعيمه الجمالي يحتاج لأكثر من بعض التجربة وبعض القدرة على التحليل والمقارنة ليكتشف ودونما كبير عناء أنه بإزاء بنيان فلسفي كامل، هيّأ له صاحبه، في طولِ أناة وانتباه واضحين، كل ما يلزم من أفكار وتحليلات ومواقف بل وخلاصات، لكنه لم يدفع بها، بقصد أو بدون قصد، لتؤلف صرحاً أو مَعلماً فلسفياً واضحاً وكبيراً، وكما الصروح الفلسفية الشاهقة عند فلاسفة كلاسيكيين معروفين. كان الأمر يشبه إلى حد كبير حال نحّات أو بنّاء ماهر صرف عمره ليل نهار يهذّب أحجاراً بغير عدد، يصقلها أنواعاً وأشكالاً وتُحَفاً ليؤلِّف منها يوماً بناءً أو عمارة جميلة، ثم فجأة ترك ذلك كلّه، ودون أن يوضح لماذا. وكأنما نعيمه قد ترك لنا نحن، قارئي أعماله وقادري تراثه الجمالي والفكري، أن ننظر في ما تركَ، وأن نحاول من ثمة إعادة ترتيب بل تركيب عالم نعيمه الفلسفي. ذلك هو تحديداً حال الداخل إلى «همس الجفون» و«المراحل» و«مذكرات الأرقش»، وتحفته «مرداد»، و«اليوم الأخير» و«نجوى الغروب» وغيرها من إبداعات نعيمه والتي لا يخفى طابعها الفلسفي العميق على القارئ المُدرك للأبعاد الفلسفية الكامنة في ثنايا ذلك الأدب الجميل الذي قدمه أو رسمه نعيمه على نحو متناثر منذ بواكير إنتاجه الثقافي في العقد الثاني من القرن العشرين، وعلى نحو أكثر اكتمالاً في أعماله التي صدرت منذ أربعينيّات القرن ذاك.

حجة الفلسفة في أفكار الأعمال النعيمية بسيطة ومباشرة. إذا كانت الفلسفة- وهي ليست كذلك – مجرد براهين منطقية، رياضية، شكلانية، جافة، باردة، وتعني الخاصة فحسب، فميخائيل نعيمه وفق هذا الفهم ليس فيلسوفاً. هذا الفهم الأداتي الضيّق لا يستبعد نعيمه وحده من دائرة التفلسف والفلسفة، بل يستبعد معه أيضاً رهطاً غير قليل من الكتّاب في الفكر الفلسفي قديماً وحديثاً، منذ قصيدة الشمس/الإله لإمحوتب قبل نحو من أربعة الآف وخمسمائة سنة، إلى جلجامش وأعمال أخرى في ميسوبتاميا القديمة، إلى تجليات الفكر الفلسفي في أعمال علماء ومفكرين في اليونان القديمة والهند، إلى سلسلة طويلة من العلماء الفلاسفة والأدباء الفلاسفة في ثقافتنا والثقافة الغربية الحديثة وغيرهما من الثقافات. لم تستوِ الفلسفة اختصاصاً منهجياً منطقياً دقيقاً إلّا مع أفلاطون ثم تلميذه أرسطو، ثم مع فلاسفة العصر الوسيط العرب واللاتين، وحديثاً في مدرسة ممتدة من ديكارت إلى كانط وهيجل وصولاً إلى المناطقة التحليليين المحدثين، وآخرهم فيجنشتاين منتصف القرن العشرين. هذه المدرسة الصارمة في القول الفلسفي والتعبير الفلسفي ليست بالضرورة- وعلى أهميتها- الشكل الوحيد والمطلق للقول والتعبير الفلسفيين، وبخاصة بعد نقد كيركجارد الوجودي النافذ لها حين قال إنّ الفلاسفة هؤلاء يشبهون من يبني صرحاً معمارياً ضخماً لكنه ليس صالحاً للسكن، فيسكنون بدلاً منه كوخاً صغيراً خارج الصرح الذي ابتنوه أو اصطنعوه. هذا النقد، مع أسباب أخرى معرفية واجتماعية، هي التي تعطي التبرير والمشروعية لتجارب فلسفية شخصية، خلاّقة، وحرّة إلى حد بعيد، قبل أفلاطون وذروتها عند أستاذه سقراط، ومن بعد أفلاطون وأرسطو في سلسلة طويلة من الأعمال الفلسفية الإبداعية الحرّة عند عدد غير قليل من الفلاسفة وصولاً إلى كتّاب وفلاسفة ما بعد الحداثة.

في هذه التجارب الفلسفية الشخصية الحرّة يقع إسهام نعيمه الفلسفي، الأصيل والمبدع في آن معاً. التجربة النعيمية هذه هي أدبية فنيّة في أدواتها التعبيرية، وهي فلسفية بامتياز من حيث المضمون والفكر فيها. في الجانب التعبيري والأداتي استخدم نعيمه ما هو متاح من أدوات تعبير وإبلاغ، وبمقدار ما تحتاجه الفكرة لتظهر وتتبلور وتتطور إلى أقصى ما هي عليه من مكوّنات وإمكانيات، وبما يمكّنها من ناحية ثانية من الوصول السهل وربما الممتع أيضاً إلى القارئ، بل إلى أكبر عدد ممكن أو متاح من القرّاء. وهنا أيضاً موضع خلاف آخر بين نعيمه ومعه المدرسة الأدبية/الفلسفية وبين الفلاسفة المناطقة الصارمين وغير المعنيين- على حدّ زعمهم- بمسألة إيصال فكرة ما إلى القارئ والجمهور بعامة. أقول على حد زعمهم لأنّ هذه الدعاوى المزعومة مجرّدة وصارمة حتى منتهى التطرّف غالباً ما تحمل من الإيحاء ومن الإيديولوجيا بل ومن الهوى والميل ما يتناقض مع ما تزعمُه من نقاء فلسفي، وإحكام منطقي صرف.

ميخائيل نعيمه- حتى في تنسّكه صيفاً في الشخروب- كان بخلاف ذلك تماماً. لقد أظهر حرصاً واضحاً أن يكون خطابه الأدبي والفلسفي من ثمة خطاباً لقارئ، ولجمهور، بل لأوسع جمهور ممكن أو متاح. إلتزام نعيمه ذاك هو- إذا شئت- مظهر آخر لانتماء نعيمه لضفة الفلسفة بوضوح، أي الانتماء إلى فكرة، أو جملة أفكار، ثم الالتزام وعلى مدى عمره الأدبي المديد بإبلاغ أو إيصال الفكرة تلك، وجعلها خياراً متاحاً للقارئ، وعبر الوسائل والأدوات التعبيرية، وفي مقدّمها الفنون الأدبية والجمالية. لم يكنّ نعيمه في صف دعاة الفنّ للفن، أو نقاء الفن، ولا في صف أصحاب الفكر الجوّاني أو المنطقي الصّرف الخالص اللذين ينفيان عن الفلسفة والأفكار الفلسفية أية أدوار أو وظائف اجتماعية وإنسانية وتنويرية. نعيمه ليس في هذه الخانة أو تلك. هو ينتمي تحديداً إلى مدرسة ترى أن على الإنتاج المعرفي والثقافي برمّته- وبعضه الأدب والفلسفة- أن يكون له مضمون، وأن يكون فيه فكرة أو إشكالية أو تناول لمشكلة أو مشكلات، وأن يخدم في النهاية – بالمعنى المعرفي والأدبي لا النفعي المباشر- الإنسان، الغاية الأخيرة لكل معرفة وثقافة واجتماع بشري، والقضية الكبرى الجامعة، قضية تقدّم الإنسان، وتحرره، واكتشافه لوحدته الجوهرية وما يجمعه بكل إنسان آخر، ومساعدته من ثمة في إعادة اكتشاف وحدته تلك التي مزّقتها صراعات البشر ومصالحهم المادية، وحجبتها أقنعة مزّيفة بغير عدد. اكتشاف وحدة الإنسان الجوهرية تلك، عبر تحرره من كل ما يحجبها ويشوهها أو يعلق بها من أدران، يجري ترجمتها عند نعيمه في قضية واحدة، عنوان مشروعه الفلسفي: وهي كيفية تحقيق خلاص الإنسان كفرد، وخلاص الإنسانية كجنس ومجتمعات وحضارات بالتالي. تلك هي القضية الوحيدة الكبرى التي شغلت نعيمه دائماً وكانت المحور أو المضمون الأساسي لأعماله الأدبية كافة. هي المضمون الدائم بل الوحيد لأعماله الفنيّة الأدبية، وهي إلى ذلك نقطة البيكار في مشروعه الفلسفي، كما سنرى. فما هي المفاصل الأساسية في مشروع نعيمه الفلسفي؟

في مضمون كل مشروع فلسفي هناك مشكلة اجتماعية أو معرفية حقيقية، أي كبيرة إلى حد كافٍ، لتستحق الجهد المبذول في عرضها ونقاشها وتحليلها، وفي البحث عن حلّ لها، أو على الأقل التقدّم بها تحت ضوء أفضل وفهم أفضل، فتتجمّع وتتراكم في انتظار لحظة أخرى أو زمن آخر مستلزمات حلّها. ولا معنى في الواقع لبعض المزاعم الجوّانية الشكلانية أو المجرّدة التي لا ترى دوراً للتفلسف وللفلسفة في البحث عن حلول لمشكلات البشر المختلفة. وحقيقة الأمر أن الفلسفة نفسها، وبخلاف زعمهم ذاك، إنما نشأت تاريخياً من أولى محاولات الإنسان للعثور على حلول لمشكلاته الواقعية، ثم تطورت باعتبارها أرقى المحاولات العلمية والفكرية تلك وأكثرها منهجية في تصديه لمشكلاته الكثيرة حتى اليومي منها.

وليم جايمس

بعد استبعادنا للتعريف الشكلاني الصّرف باعتباره أحد تعريفات الفلسفة وليس تعريفها الوحيد، في وسعنا استذكار تعريفات عدة أخرى، بدءاً ممّا تعنيه ألفاظها في اليونانية أي «الحكمة»، إلى تعريف وليم جايمس أواخر القرن التاسع عشر، وصولاً إلى تعريف برتراند راصل أواسط القرن العشرين. إذا كانت الفلسفة هي محبة الحكمة، وفق أوّل تعريف يوناني، أو هي علم القوانين الكلّية والشمولية، حسب أرسطو، فنعيمه في الحالين فيلسوف بامتياز. فكل ما خطّه قلمه يندرج بعمق في خانة الحكمة ومن النوع المبرّر العميق الأثر. وإلى ذلك فنعيمه انتهى من أعماله إلى تصور شامل للقوانين الأكثر عمومية وشمولية والتي تحكم حركة أجزاء هذا الكون. وبحسب وليم جايمس، يقول:» لقد غدا اسم الفلسفة بعد أن انحصر مجالها نتيجة لتنحية العلوم الخاصة، أدلّ على أفكار لها نطاق عام فحسب، فأصبحت المبادئ التي تفسّر الأشياء جميعاً دون استثناء، والعناصر المشتركة بين الآلهة والبشر والحيوانات والأحجار، وأول تساؤل عن بداية الكون وآخر استفسار عن نهايته، وشروط معرفة الأشياء كلها، وأعمّ قواعد الفعل الإنساني. أصبحت هذه المسائل تزودنا بالمشكلات التي توصف بأنها مشكلات فلسفية في الحقيقة. والفيلسوف هو الشخص الذي في جعبته الكثير ليقول بصددها» ( Problems of philosophy,p.5). وبحسب برتراند راصل، فإن الفلسفة، وبعدما خرجت منها تباعاً التخصصات المعرفية المادية والكمية الدقيقة، فقد باتت تعني المقاربة التحليلية، النقدية، الموضوعية، لمشكلة ما وبما يقود إلى فهم شمولي أفضل لأبعاد المشكلة تلك من جهة، ولتوسعة قدرات العقل الإنساني من جهة ثانية وعلى نحو يساعده في اتخاذ مواقف عملية من المشكلات تلك. استناداً إلى هذه التعريفات وكثير مما يشبها، يمكن لقارئ نعيمه المدقق أن يستنتج وبكثير من الثقة والموضوعية أن إسهام نعيمه الفكري ينتمي تحديداً إلى تعريفات الفلسفة هذه، من حيث محبة الحكمة، والبحث عن قوانين تفسير عامة، ومن حيث طبيعة المشكلات التي ناقشها بل انكبّ عليها طوال عمره الأدبي، كما باعتبارها مقاربة تحليلية نقدية موضوعية لمشكلات محددة وبهدف اتخاذ أو تطوير موقف أو مواقف من المشكلات تلك. هنا يقع تحديداً إسهام نعيمه الموسوم بالفن والأدب والذي كان يقارب فيه ومن خلاله وعلى الدوام مشكلات حقيقية تسمى الآن فلسفية، وعلى نحو تحليلي نقدي وموضوعي، ولينتهي به المطاف إلى تطوير مواقف فكرية وفلسفية متماسكة، في وسعي الزعم وكما كان رأيي دائماً أنها تشكل نظرية أو منظومة فلسفية عامة وشاملة. ومع ذلك فإن رغب البعض في نفي حد النظرية الشاملة عن إسهام نعيمه الفلسفي، والاكتفاء بدلاً من ذلك باعتبار أفكاره مواقف تذهب في اتجاه فكري واضح، فلا ضير في ذلك إطلاقاً ولا يغيّر في النتيجة شيئاً- إذ إن بلوغ النظرية الفلسفية المتماسكة لم يعد اليوم حدّاً إلزامياً أو شرطاً في تعريف فعل التفلسف والفلسفة، ويبقى نعيمه حتى مع هذا الاستدراك كاتباً فلسفياً بامتياز على مستوى المشكلات التي عالجها والنتائج التي بلغها، بل وفي الطرائق المتعدِّدة التي قارب بها مشكلاته وموضوعاته.

المشكلة أو المشكلات المحرّكة لتفكير نعيمه، ولإسهامه الفلسفي من ثمة، هي المشكلات الواقعية التي ما انفك يعانيها الإنسان (كفرد وكنوع) في كل مكان وزمان وصولاً إلى زمن نعيمه غير البعيد عن زمننا ومكاننا الحاليين. عبّر نعيمه عن وعي أوّلي بالمشكلات هذه بدءاً من أولى أعماله (مسرحية الآباء والبنون سنة 1916)، ثم في «همس الجفون»، و«المراحل» وسواهما، ولينتهي من ثمة إلى وعي واضح مكتمل تقريباً تبدّى في أعماله المهمة المتقاربة زمنياً «البيادر» 1945 و «الأوثان» 1946، «مذكّرات الأرقش» 1949، والتي اكتملت كليّاً في «مرداد» الصادر بالإنجليزية سنة 1948 ثم بالعربية سنة 1952. عند هذه النقطة، أي بين أواسط الأربعينيّات ومطلع الخمسينيّات، كان البناء الفلسفي النعيمي قد اكتمل تماماً – أقول اكتمل لمن أراد أن يبصره خلف أو في ثنايا الأدب أو الفن الجميل الذي كان بمثابة القميص أو الجسد له. أمّا أعمال نعيمه المهمة التي تلت ( وبعضها «اليوم الأخير» سنة 1963، و«يا إبن آدم» سنة 1969، «نجوى الغروب» 1973 و«من وحي المسيح» 1974 ) فقد كانت تشرح، أو تتوسع، أو تقارب من زوايا جديدة، الأساس الفلسفي المتين الواضح المتماسك الذي كان قد اكتمل تقريباً مع «مرداد». وفي أهمية بل مفصلية المرحلة هذه أنقل عن نعيمه نفسه قوله لمجلة المجالس البيروتية في عددها الصادر بتاريخ 5/8/1955: « لقد أنفقت حتى اليوم أكثر من عشرين سنة من حياتي وأنا اشرح للناس الخطوات التي خطوتها قبل أن أصل إلى الفكرة التي تسيطر الآن على كل ما أكتب «! كان في وسع محاضرتي أن تكتفي بهذا النص الذي يظهر وعي نعيمه الكامل لما أنجزه أو كان في صدد إنجازه، وفي طبيعة «الفكرة» التي باتت مهيمنة على كل ما يكتب، ووعيه الدقيق لماهية مشروعه، وهل الفلسفة غير ذلك! ومع ذلك، فنحن لا نكتفي بالنص هذا، بل نستمر في الطريقة التي رسمناها في بيان أن نعيمه فيلسوف ومن النوع الأصيل، ثم في بيان طبيعة بنيانه أو على الأقل مشروعه الفلسفي. إذا كان كل مشروع فلسفي هو في النهاية تناولٌ أو مقاربة لمشكلة، فالمشكلة التي يقاربها إسهام نعيمه الفلسفي هي مشكلة الإنسان والإنسانية، في كل مكان وزمان، وفي زمن نعيمه على وجه التخصيص. يقدّم نعيمه مشكلات الإنسان تلك من خلال الصور الأدبية والفنية، شعراً أو نثراً، رواية أو مسرحاً أو شذرات أدبية، كما يقدّمها أحياناً (كما في «الأوثان») في صيغ نثرية تقارب حتى في الشكل لغة الفلسفة. واختيار نعيمه للصورة الأدبية مادة تعبيرية اختيار ليس بالسهل أو بالعارض، بل يعرف المشتغل بالأدب كما القارئ مدى قوّته ونفوذه. ولهذا كان اختيار نعيمه، أو فوق اختياره ربما، أن تكون الصور عنده مجبولة بالأفكار، وأن تكون الأفكار بدورها مصنوعة من صور، ولا يخفى ما في التلازم ذاك من كسب للأدب والفلسفة على حد سواء. قدّم نعيمه في عشرات الصور الأدبية والفنية معاناة الإنسان، الفرد، والمتجسدة في مظاهر الكراهية والتنازع والمعاناة والتمزّق والاغتراب والصداع وصولاً إلى الجنون؛ ومعاناة الإنسان، كجماعة وحضارة، في أشكال الصراعات والحروب والأزمات من كل نوع والناشبة أظفارها بين طبقات المجتمع الواحد أو ما بين المجتمعات والأمم والثقافات المختلفة – وذروتها المآسي التي جلبتها حروب القرن العشرين والتي حصدت ما يقارب المئة مليون قتيل، ناهيك عن الجرحى والمعوّقين والأرامل والأيتام، إلى الخسائر المادية التي تتجاوز كل وصف – وللعلم فقط فقد أُرسل نعيمه جنديَّاً إلى فرنسا وكانت الحرب العامة الأولى قد أشرفت على نهايتها. أبدع نعيمه في تصويره الأدبي والفني الجمالي – وتلك هي قوة الأدب- للمشكلات التي قوّضت استقرار الأفراد وفرص طمأنينتهم وسعادتهم، كما قوّضت بالقوة نفسها استقرار المجتمعات وفرص تطورها الصحيح. يقول نعيمه في «دروب»: «هذه الجريدة والآلاف منها في العالم، تنقل في كل يوم إلى الناس أخبار الناس…أحلاف عسكرية، قنابل جهنمية، سعايات ونكايات، عربدات ودعايات، تهويش وتهديد، تبجّح ووعيد، جرائم بالقناطير، وكذب بغيركيل أوميزان» (ص166). ويقول في «نجوى الغروب»:«لست غير واحد من ملايين أبناء الأرض، يمزّقني القلق والخوف من سوء المصير. ففي كل يوم، بل في كل ساعة، تتواثب عليّ مشكلاتي ومشكلات الناس، من أفواه الناس، ومن أعمدة الصحف، ومن المذياع، وشاشة التلفزيون، ومن أرصفة المدن، وشعاب الدساكر. فينبري العقل لحلّها، إلّا أنه لا يحلّ واحدة منها – أو يظن أنه حلّها – حتى يخلق اثنتين.

فمن شأن المشكلات أن تلد المشكلات، والمشكلات لا تلد إلّا التوائم، بل أكثر من توائم، وهكذا أعيش ويعيش الناس في دوّامة رهيبة « (ص31-32). ثم ما أشبه اليوم بالبارحة، ما أشبه كوارث بورصة «مادوف» سنة 2009 بما عاينه نعيمه شخصياً في أزمة سنتي 29-30 في نيويورك، وليكتب فيها بعيد عودته منها سنة 1932 يقول:» تركت نيويورك وفي أذني ولولة الإنسانية بأسرها. ولولة تكاد تحسبها حشرجة الموت. ولولة لا تسمع منها إلاّ كلمة واحدة: الأزمة، الأزمة، الأزمة!» (زاد المعاد، ص36). لكنها ليست أزمة هذا الفرد أوذاك، هذا المجتمع أو ذاك، بل أزمة مدنية برمّتها، حسب نعيمه، لكأنّما الأزمات وعدم الاستقرار ومعاناة الشر معها هي هوّيتها الحقيقية خلف ما تظهر من ألوان وأشكال وإغراء. يقول نعيمه: «مدنيّتنا تجرّ خلفها أثقالاً باهظة من الآثام والموبقات، وتحمل في قلبها من الضغائن والأحقاد ما لو دفن في جوف طود لحوّله إلى بركان، وصراخ الدماء المهدورة وعويل المشردّين والمقعدين والمشوهين ونوح الأيتام والأرامل والثكالى في مسامعها ليل نهار. إنّه لَعبء ثقيلٌ، ثقيل، ثقيل» (صوت العالم، ص178). أكتفي بهذه النصوص تختصر آلافاً من الوقائع العملية والحيّة الممسكة بإنسان المدنية التي نعيشها منذ فترة ومضمونها الجامع واحد كما رسم نعيمه: الأزمة، ثم الأزمة، ثم الأزمة، في كل مجال، وفي كل اتجاه. وهي مدنية ستنهار يوماً ما برأي نعيمه، يقول: «ستنهار هذه المدنية وسيكون لانهيارها دويٌ مروّع» (نفسه، ص182).

لكن السؤال العملي الذي لا بد أن يرتسم فوراً بعد أن نتحدث عن الأزمات التي لا تنتهي ومعاناة البشر من مدنية «محبتها في جيبها وخيرها في بطنها وإيمانها في مختبراتها»، حسب نعيمه، هو: ثم ماذا؟ لماذا لا يستطيع البشر وقد تعبوا من أزمات مولّدة لأزمات أن يأخذوا الخيارات الصحيحة؟ هنا تكمن متاهات البشر، وضياعهم، وعجزهم عن العثور على الطريق الذي يبتعد بهم عمّا يشكون منه، أو حتى عجزهم عن معرفة ماذا يريدون حقاً – غير الركض خلف إغراءات هذه المدنية ثم الموت في دخان فشلهم وإخفاقاتهم المرّة تلو المرّة. يصوّر نعيمه بالكلمات ويختصر حال معظم البشر في قصيدته التي منها:
نحن يا أبتي عسكر قد تاه في قفر سحيق
نرغبُ العودَ ولا نذكر من أين الطريق!

إذا كان حال الإنسان ومدنياته، بكل أبعادها، هي كذلك، فلا يستطيع بالتالي الأديب والفنان والمفكّر والمثقف، أو حتى الإنسان العادي الذي يمتلك الحد الأدنى من الشعور بإنسانيته، والحد الأدنى من الشعور بواجبه الأخلاقي، إلّا أن يقف مع ذاته للحظات على الأقل فيتساءل، ماذا بعد؟ إلى أين؟ هل نبقى صامتين في انتظار كوارث أعظم؟ ثم ما العمل للخلاص من ذلك كلّه؟ هي ذي المشكلة الأم أو الأصل التي حرّكت مشاعر نعيمه وتفكيره، والتي ردّ عليها في مشروع أدبي/ جمالي/ فلسفي لن تجد كلمة تصفه حق الوصف أفضل من القول إنّه مشروع نعيمه لخلاص الإنسان والإنسانية. محاور هذا المشروع وتفاصيله هي التي تشكّل البنيان الفلسفي النعيمي والذي لا يقصر شبراً واحداً عن أعلى الصروح الفلسفية الأخرى المكتملة النصاب والقوام والمشروعية.

لن أثقل على اسماعكم بتفاصيل مشروع نعيمه الفلسفي، فالأمر يستغرق وقتاً طويلاً وقد وقفت له مئات الصفحات في غير كتاب ومقالة ومحاضرة. ولكن في وسعي باختصار شديد أن أشير إلى المفاتيح والمحاور الرئيسة في بنيان نعيمه الفلسفي أو منظومته الفلسفية.

يبدأ مشروع نعيمه الفلسفي من رحم الرفض الإنساني اليومي والأخلاقي لواقع البشر المأزوم في كل جانب، وللخداع الذي ما انفكوا عرضة له باسم عشرات العناوين، والتفكير من ثمة في طريق تخرجنا من هذه المتاهة القاتلة. لكن الرفض هذا الذي يجعلنا نمسك بأوّل طريق الخلاص لن يكون ممكناً أو مُتاحاً لنا إذا استمرّينا لا نفكّر إلاّ بالطرائق الخادعة التي علمتنا إياها مدنية الأزمات التي نشكو منها، ولا نتعامل إلّا بالأدوات السامة التي أورثتنا إياها المدنية تلك. بكلام آخر، كيف نخرج من مدنية مادية نشكو منها ونحن لا نفكّر إلاّ بالطرائق التي تريدنا أن نفكّر بها، ولا نتعامل إلاّ بأدواتها ووسائلها؟ يجب إذاً، برأي نعيمه، إذا أردنا حقاً الخروج من متاهة الأزمات تلك أن نفكّر بطرائق أخرى، وأن نمتلك ونستخدم أدوات ووسائل عمل وسلوك أخرى؟

الطريق إلى البديل النعيمي هي المعرفة، وذروتها الوعي، وبعض ثمارها الحرية المفضية إلى أول الخلاص. المعرفة أو الوعي الحقيقي بالمعيار النعيمي تتبدّى عند مستوى معيّن في تجاوز ظاهر العالم كما يبدو من الخارج أو على السطح، إلى العالم كما هو حقاً تحت السطح الخادع، من الخارج والداخل معاً. العالم في صورته الأولية الخادعة عالم فردي، ثنائي، ومادي- وكمّا يتبدّى لطفل بدأ للتو رحلة اكتشافاته. ولأنّه كذلك فوعينا اليومي القائم على مثل هذا العالم وعي جزئي، قاصر، وعي شقِيّ منقسم، كما كان يقول هيجل. ولهذا تحديداً لا ينتج العالم ذاك إلّا الشقاء والآلام، يقول نعيمه في «المراحل»: «وهكذا يلتقط الإنسان العافية ومعها المرض، الحب ومعه البغض، الإيمان ومعه الإلحاد، القوة ومعها الضعف، الراحة ومعها التعب، الوفرة ومعها القلة، الفرح ومعه الحزن، الطمأنينة ومعها الخوف، الأمل ومعه اليأس، المعرفة ومعها الجهل، والنور ومعه الظلمة» (ص 134-135). ولأن الخلاص من المعلولات لا يكون إلاّ بالخلاص أولاً من العلل، يتوجب بالتالي البحث عن وعي مختلف بعالم مختلف لا يكون مادياً، أو ثنائياً، أو فردياً حتى درجة الأنانية القاتلة.

يجب إذاً تجاوز ظاهر العالم نحو حقيقته. ولا يكون ذلك إلاّ إذا مزّقنا القُمُط والحُجُبَ التي تخدع أبصار البشر، وتخلّصنا من القيود التي تثقل على وعينا وحريتنا وإرادتنا الخيّرة. إذا تجرّانا وفعلنا ذلك، وإذا تمكّنا من ذلك حقاً، لرأينا العالم على حقيقته، غير الظاهر الخادع الذي يعمي أبصارنا. العالم في حقيقته، إذا تمكنا من اكتشافه، ليس عالماً فرديّاً، تبدو الأنا فيه مطلقة نافية لكل ما سواها وقاتلة بالتالي. العالم في حقيقته هو عالم وحدة شاملة، لا وجود فيه لأنا فردية أنانية مطلقة وقاتلة. هذه الوحدة هي السمة الحقيقيّة للأشياء كافة، وللبشر أيضاً. يقول نعيمه في سبعون:« إذا شربتم قطرة من الماء فإنكم شربتم البحار كلّها». أو قوله في مرداد:» إن الكون جسد واحد»، أو قوله في مرداد أيضاً:« أذكروا أن الكلمة واحدة،…. وكمقاطع في الكلمة لستم غير واحد، إذ ليس من مقطع أنبل من مقطع آخر».

ومع بطلان الفردية تبطل الثنائية المتحكمة بكل شيء في ظاهر العالم والكون. يبطل العالم أسود أو أبيض، عقلاً أو جسداً، روحاً أو مادة …..إلى آخر السلسلة. أما الحقيقة فغير ذلك تماماً. العالم ليس ثنائيات ومتناقضات سرمدية: داخل/خارج، أنا/ألله، العالم/ألله، خيراً/شراً، إلخ. هذه الحدود والسدود والسياجات هي من نسجنا نحن نضعها لنشطر العالم أقساماً وأنصافاً وأجزاء وأفراداً. أمّا في الحقيقة فإنَّ «الذي داخل السياج والذي خارجه توأمان لا ينفصلان»(مرداد ص68). وإلى أن يكتشف الإنسان وحدته الجوهرية مع كل إنسان آخر، بل مع كل كائن آخر، فسيبقى ممزقاً ومعلّقاً على صليب آلامه ومعاناته. يقول نعيمه في «المراحل»: «في فجر الزمان الأول ولد للعالم ولد. ودعي الولد إنساناً. وكان الإنسان جميلاً وكاملاً، وكان واحداً مع العالم إلى أن سأله العالم مرةً: من أنت؟ فأجاب: أنا – أنا. فسأله العالم: ومن أنا؟ فقال: أنت العالم. حينئذ خلق الإنسان الشقاء لأنّه شطر نفسه شِطرين فدعا الواحد أنا، والآخر العالم» (ص131).

وإذ يكتشف الإنسان وهم القسمة بينه وبين العالم، تنهارمعها كل قسمة تبعد الإنسان عن الحقيقة، وتنهار أيضاً مزاعم الحظ العاثر، والقدر الغاشم، ومعها مظاهر التباغض والتنابذ والتحاسد بين البشر، وهم لو بلغوا الحقيقة لقالوا مع نعيمه في «همس الجفون»:
ذمّك الأيام لا ينفعُك،
إنما الأيامُ لا تسمعك،
هي منك الظلُ يا صاحبي،
عجباً ظلُّك كم يخدعك! (ص 82)
لكن نعيمه لا يتوقف عند المستوى العملي أو الأخلاقي فحسب، بل يتقدم أكثر باتجاه الأساس الأونطولوجي للوجود نفسه، أي للوجود الشامل والكينونة، وهي لبنة فلسفية إضافية في منظومة نعيمه الفلسفية. فحين تبطل من العالم في حقيقته الأنا الفردية وكل قسمة ثنائية، بل لكي يبطل كلاهما حقاً يجب أن يبطل معهما أيضاً وهم المادي كصنو أو أساس للحياة، أي المادة بمعناها الحسّي المباشر والمطلق. لنعيمه: «المادة وهم، هي من الروح ولا وجود لها إلّا بالروح» (يا إبن آدم، ص48). وبالمقابل فالروح هو الحقيقة الداخلية للكون: «الروح هو الحقيقة الأزلية الأبدية» (نفسه، ص48). وإذا أصرّ البعض على واقعية المادة كما هي أمامنا، فلا ضير في ذلك، لكنه لا يغيّر في المبدأ عند نعيمه، يقول: «يتكثّف الروح فيغدو مادة». ويبقى السؤال: ولكن أليس هناك محسوسات؟ نعيمه يجيب: بلى، لكنها عارضة ونسبية. هي موجودة في مستوى ما، على نحو ما، ولوعي ما، لكنه وجود عارض وليس جوهرياً، أو بلغة نعيمه «فقاقيع على وجه محيط اللاّمحسوس» (نفسه ص81). يجب عدم أخذ كلام نعيمه على نحو تصويري فحسب، بل هو يقدم في غير مؤلّف له تفسيراً علمياً حديثاً بل معاصراً في انتفاء حقيقة ما ندعوه توهماً مادة حسية صلبة متماسكة، بينما هي في حقيقتها «طاقة»، أو شكل من أشكال الوعي، أو الروح، أو العقل لا فرق. وهذا تفسير يعود إلى هيراقليطس، وتجده في الفلسفات الهندية، كما أنه تحديداً تفسير هيجل، ناهيك عن أنه تفسير علمي حديث ومعاصر.

لن أثقل عليكم أكثر بهذه التفاصيل الفلسفية النعيمية، لكني أنتهي إلى القول إنّ تركيب ما رأيناه ورأيتموه عند نعيمه، ما ينفيه وما يدلل عليه، يشكّل منظومة فلسفية أطلقتُ عليها اسم الأحادية الروحانية الشاملة. لكن المثير في الموضوع أنك ربما تجد بعض أشكال هذه الأحادية في فلسفات ومعتقدات سبقت، لكنها كانت دائماً أحديات سكونية ستاتيكية. أمّا ما تفرّد به نعيمه فهو ربطه، بل إحكامه الربط، بين الأحادية وحركة الكون الجدلية أو الديالكتيكية، وجعله هذا الجدل أو على الأقل هذه الحركة المتداخلة الصاعدة جزءاً داخلياً من الأحادية الكونية ومكوّناً جوهرياً من مكوناتها. وهو ما جعلني أصنّف تلك الفلسفة باعتبارها: فلسفة مثالية- جدلية، واقعية، متعددة الأصول. وأعود عرضاً إلى سؤال المحاضرة الأول، فأقول، تكراراً، أن نعيمه لم ينجز فقط مشروعاً فلسفياً، بل كان كذلك ومنذ الأربعينيّات على الأقل مُدركاً بدقة لماهية ما ينجزه من عمل فلسفي، إلاّ أنه وعلى طريقة الزهاد والنسّاك، ونعيمه واحد منهم، لم يكن مهتمّاً جداً لا بالعناوين والأسماء الكبرى، ولا بحشر نفسه في اللائحة تلك. يقول نعيمه في لقاء صحافي أعاد نشره في كتابه «أحاديث مع الصحافة»: «… هذه الفلسفة (عندي) تبرز واضحة في أكثر من مقال أو كتاب وضعتهُ، وعلى الأخص في كتاب «مرداد»… فهناك أتكلم عن الإنسان كما لوكان إلها طفلاً ولكنه يملك جميع أسرار الألوهية وهو في سبيله لاكتشافها سرّاً سرّا… إلى أن تتحقق جميع أشواقه إلى المعرفة…. معرفة الله في ذاته، وحرية الله في ذاته».

هذا بعض ما يمكن قوله باختصار في «نعيمه فيلسوفاً»، وعلى سبيل الإجمال أنتهي الى القول وعلى مستوى العناوين إن فلسفة نعيمه الكونية تمتاز من حيث المضمون بما يلي:
1- الطاقة أو الوعي أو العقل هو جوهر العالم وطبيعته الأساسية،
2- الحياة – والطبيعة – هي لامادية في الحقيقة، والمادة ليست غير ظاهر الوعي أو تكثّفاته.
3- فلسفة نعيمه مثالية، أحادية، شمولية، في تجاوزها للمباشر والجزئي والفردي، من دون نفي وجودهم.
4- رغم الطابع النظري، فلسفة نعيمة أخلاقية، أي هي أفكار للعمل بها أو في ضوئها.
لكن المبادئ الفلسفية هذه وإن بدت مطلقة شمولية فهي لا تستبعد المباشر والجزئي واليومي والحسّي. هذه كلها موجودة، بل هي البدايات الضرورية التي لا بد أن نبدأ بها- وهنا تبدو واقعية نعيمه. لكن الأكثر أهمية هو أن لا نبقى في مستوى الظاهر هذا بل أن نتجاوزه إلى ما هو أكثر حقيقة منه. وإلى ذلك، فالكون ليس مجموع أجزاء عارضة مبعثرة ساكنة تأخذ مكانها وقيمتها على نحو أبدي وسرمدي. هو بالعكس كلٌ جوهري عضوي، متماسك، ترتبط مكوّناته بعلاقة حركية صاعدة، في وسع البعض أن يقول إنها حركة جدلية صاعدة، وفي وسع بعض آخر أن يقول إنها حركة متغيّرة صاعدة وليست بالضرورة جدلية. ويجوز الأمران.

منحوتة لميخائيل نعيمه من ابداع الاخوة عساف

وأنهي بالجانب الأخلاقي، وهو ركن أساسي في فلسفة نعيمه. ففلسفة نعيمه ليست نظرية فحسب، بل أخلاقية كذلك. فنعيمه يترجم المبادئ أعلاه برنامجاً عملياً جديداً ومختلفاً. هو يبدأ كما فِعْلُ التفلسف بالدهشة، ويتطور بالحدس كما لدى المتصوفة، وينتهي إلى الإيمان وكما الإيمان الديني الحقيقي المبصر. وهذه – لمن يرغب – ملامح واقعية أخرى عند نعيمه تخفف من غلواء المثالية التي ربما اتسم بها نظامه الفلسفي. وهو ما يسمح بالقول مرّة ثانية بمثالية-واقعية عند نعيمه، مختلفة عن المثاليات الطوباوية من جهة، وعن الواقعيات المادية الفجّة من جهة ثانية. وأخلاق نعيمه التطبيقية هي مجال عملي لترجمة أو تجسيد تلك المثالية الواقعية. فحين أتمكن من الوصول إلى الوعي الحقيقي أي إلى المعرفة الشاملة أتحرّر من جهلي وأتحرر من أناي الفردية وتسقط الحجب الخادعة، وتنهار الجواجز التي كانت تفصل بيني وبين البشر الآخرين، بل وكل جزء من الكون الواسع الأرجاء. تلك هي مفاتيح الخلاص – المُفضية إذا أردنا- إلى الحقيقة والوعي والحرية والسعادة بمعناها الرفيع الدائم، بل وإلى لحظات قصيرة أو طويلة من الأبدية نفسها. ننتهي مع نص من نعيمه، يقول:
يا إبن آدم!
حيث الموت بالمرصاد
لكل ما يولد وينمو،
ولكل ما تصنعه يداك،
وتضحكُ أو تدمعُ له عيناك،
جدير بك أن تفتّش عمّا لا يموت،
حتى إذا اهتديت إليه،
تمسكتَ بهِ،
تمسُّك الغريق بخشبة النجاة…
يا إبن آدم،
الحياة لا تموت،
الضمير لا يموت،
الإيمان لا يموت،
والذات التي هي أنت لا تموت
حتّى وإن ذابت في النهاية
في ذات أمك الحياة،
ففي ذوبانها حياتها!
(يا إبن آدم، ص 199- 200)

(أجزاء من محاضرة أُلقيت في موسكو في تشرين ثاني 2019 في الذكرى 130 لمولد ميخائيل نعيمه)

الحضارةُ والأخلاق

يقولُ كانط:»شيئان يثيران في نفسي الإعجاب والاحترام: السماء ذات النجوم من فوقي والقانون الأخلاقي في داخلي».
أجل.. ففي حياة الإنسان ما هو أعظم من الحسب والنسب والجاه والموقع، وأكبر من الكسب، وأسمى من العبقرية. ألا وهو الأخلاق..
فقد جعل الله مكارم الأخلاق وصلاً بيننا وبينه..
إذ لا صلاح لأُمّة فسدت منابت أطفالها، وهذه عبر التاريخ ماثلة لعيان لمن يريد أن يرى.. أفما كانت الأمم التي اندثرت واستُعبدت تمرُّ أوّلاً في مرحلة تدنّي الأخلاق، وانطلاق الشهوات، عابثة بأشرف ما خلق الله في الإنسان؟!.
إذن، فإنّ أشرف موازين الأمم أخلاقُها.. وأكمل الناس عقلاً أحسنُهم أخلاقاً..

وعليه فإنّ كل شريعة تؤسَس على فساد الأخلاق فهي شريعة باطلة، صحيح أنّ الأخلاق لا تقوم باشتراع الشّرع في الأمم، وإنّما هي المؤلّفه من مجموع نسيج الأخلاق لكلّ فرد.
لذا يمكننا القول :إنّ الأخلاق دعامة الحياة المُثلى، والقوانين الوضعية هي الإطار الخارجي لذلك…
أمّا مبدأ الأخلاق الرئيس.. فهو الحرص الدائم على أن نفكّر جيداً وتحت إشراف – حضور الله في الإنسان- أي الضمير..
فالضمير هو الحارس اليقظ الذي يقف لنا بالمرصاد. فلولا أن الضمير يمسك بنا ويشدنا، لارتكبنا كثيراً من الهفوات والآثام..
فالضمير والأخلاق هما العنصران الأبرز والأهم في مكونات عناصر الحضارة الإنسانية، ولهما الأسبقية على الدين..
فمن أعظم أضرار تفسخ الأخلاق وانحلالها، وانحطاط المناقب، وغياب الضمير، فساد الحقيقة، وذهاب الرجولة، وفقد الأهليّة، وتفكّك الاجتماع الإنسلني، وتهدم القضايا، وزوال الممالك والأنظمة، وركوب العار…
لأن أسمى الألقاب وأقدسها طُرّاً هو لقب الإنسان…
لذا تقتضي الأخلاق أن يكون الانسان «كائن» متعادل مادياً وروحياً، فهذا سرّ حياته، والاعتدال خيطٌ حريريٌ يربط كلّ لآلِئ الفضيلة، والخروج عن الاعتدال انتهاك لحرمة الانسانية، وإنما تُعرَف النفس الإنسانية بقدرتها على الاعتدال، لا بقدرتها على التجاوز.. الاعتدال أبو جميع الفضائل..
فبالاعتدال تأتي ثقافة المرء التي تحدّد سلوكه و مساره ومصيره وموقعه..

أجل: إنّ المدرسة الحقيقية للقيادة هي الثقافة العامة المُجَلْبَبة بالأخلاق. والمقرونة بالضمير، فبالثقافة العامة، يعمل العقل بانتظام، ويُميّز الجوهري من الثانوي، ويرتفع إلى مرتبة تتراءى له منها المجموعات منزّهة حتى عن الفروقات الصغيرة، وإنَّ القادة العظام الذين خلّدهم التاريخ كانوا يتذوقون التراث الفكري… فوراء انتصارات الإسكندر نجد دائماً أرسطوطاليس..
الثقافة هي طهارة العقل.. فالكبيرة منها لا تنتفخ ولا تتعصب، ولا تُقصي تُراثاً لأن شيئاً إنسانياً ليس عنها بغريب، إنّها تدرك أنّ المجد هو في كل أرجاء الأرض، وأنّ هذا المجد حقّ كل مواطن، وهو لن يكون صالحاً مالم يحبَّ كل خير أنتجه العالم منذ فجر التاريخ..

إيمانويل كانط

فالثقافة كما الأخلاق ليست ذلك البهاء الذي يهبط علينا من القمة، وهي لا تأتينا آلياً، ولكنها تؤهّلنا في ذراها للصدق الداخلي، ولتواضع الفكر، ولِصدقٍ كبير..
وما كانت هذه الفضائل والخصال والقيم لَتُتَناقل وتُتَداول بين الأمم لولا وجود- الكلمة – اللغة..
إنّ لغة الكلمات والأصوات هي بوابة الإنسان الرئيسة التي يصل من خلالها الى عقول وأذهان وأحاسيس أبناء جنسه في كل زمان ومكان، ليغترف مما تفيض به هذه العقول والأذهان والأحاسيس، ويشكّل بما يكتسبه منها ثقافته الخاصة، ويطوّر مهاراته اللاذعة، فعجزه عن إمتلاك هذه الوسيلة، أو السيطرة عليها، يعني عجزه عن اكتساب المعارف والخبرات الكافية، وتعثُّره في فهم وهضم ما يُنقل اليه من هذه المعارف والخبرات يعني عجزه عن تطوير ما يحتاج إليه من المهارات اللازمة، فالإبداع الفكري والفني لدى الانسان قائم أساساً على ما يجنيه من ثمار عقول وتجارب الآخرين، فذلك يصبح القاعدة الأولى التي ينطلق منها لإيجاد إبداعاته وابتكاراته ضمن منظومة الأخلاق، التي تعمل بإشراف الضمير..
إنها الخامات الأساسية التي يعمل فيها الفكر، ويصهرها الإحساس، وتصقلها الموهبة، ويبلورها الذهن، فيوجِد منها نتاجاً جديداً أصيلاً مطبوعاً بطابع شخصية وروح وعقل وإحساس مُنتجها.
هذا ما يقصده علماء النفس من تعريفهم للجهد الإبداعي بأنه « انتاج أفكار قديمة في ارتباطات جديدة»
فبروز شخصية الفرد وظهور مكانته يقومان بحسب المقياس الحضاري على أساس ما يسهم به من إنجازات مهمّة، وما يقدّم أو يبدع من نتاج فكري أو فني نافع أصيل.. وإنّ عظمة الأمم ومكانتها تعتمدان على ما لديها من تراث عقلي وروحي وأخلاقي، وما يصنع أفرادها من منجزات حضارية، وما تتمخض عنه مواهبهم عامة من إبداعات تساهم مساهمة فعّالة في التقدم الحضاري للإنسانية جمعاء.
لذلك فإنّ تراجع أفراد أمة من الأمم عن الإنتاج الفكري معناه الهبوط في مستوى مكانتها، والتقليل من شأنها ومن شأن ناسها..
فالمثقّف.في المجتمعات الممزّقة، إنّما هو شاهد عليها، ذلك لأنه استبطن تمزقاتها، فيكون والحالة هذه نتاجاً تاريخياً، فليس هناك بهذا المعنى، من مجتمع يمكنه أن يشتكي من مثقفيه وينتقدهم، دون أن يتهم هو نفسه بنفسه، ذلك لأن ليس له إلّا أن يتهم أولئك المثقفين الذين يصنعهم ويخلقهم على صورته..
المثقف العضوي.. هو ذاك الذي ينخرط في قضايا مجتمعه ويُعبّر عن تطلعات شعبه بالممارسة العملية والفعل اليومي.. فحذار أن يعيش مثقفو وطني على هامش الحياة، أو يتملقوا سلطاناً إرضاءً لأعناقهم أو لجيوبهم..

المثقف الفعلي الخلوق هو الذي يستبطن مشاكل مجتمعه وإنسانه، ذاك الدائمُ القَلَق، الدائب التنقيب والبحث والغوص خلف دُرٍّ ثمينٍ، أو تأميناً لاشعاع نوراني.. حتى ولو نظر الساسة إليه كمشعوذٍ أو كمشاكس في أحسن الأحوال!! ما من هَم..
فالثقافة عبر العصور خمير عجين المجتمعات والمثقف هو الخبّاز، والتثاقف خبز العقول، وماء النفوس، وإكسير الحياة.. وصاقل الأخلاق..
قَدَرُ المثقف العربي تحديداً، أن يعيش مخنوقاً في أجواء القمع، وكبت الحريات والتغريب، والفاقة.. وهذا ما يجعلنا في لُهاث دائم..
أجل إنه قدرنا العلمي الموضوعي، وعلى الرغم من هذه المرارة، علينا مواصلة الجهود لعلّنا نقدم شيئاً ذا قيمة!!
نعم نحن الآن بلا زمان، ولهذا أراني أمقت عصري الذي أعيش فيه، فنحن في الحق لا نتحرك، إذ ما من مَلأٍ بغير زمان، وما من زمانٍ بغير جوهر، والجوهر هو الهُوِّية بأم عينها – هو الانسان- صانع زمانه ومكانه..

لذا علينا الامتثال للعقل، للموضوعية.. وإلاّ فسيبقى الجوهر والزمن الى أجل غير مسمى، وسنبقى عاجزين عن تزمين الزمان، عن جعله زماناً، عن افتدائه، واستخلاصه من جوف الفراغ.
نحن شرقيون – آسيويون – وسنبقى كذلك، حتى لو امتلكنا التكنولوجيا والحضارة الحديثة والعلم الحديث، فالتاريخ برهة فرقٍ آبدةٍ، لأنّه ما من هُوِّية تدخل صلب الوجود، في سداه ولحمته معاً، برهة الفرق تماماً كبرهة الجمع، أو برهة الوحدة السرمدية.. وإلاّ صار الحجر والشجر سِيّان.. وعدنا الى الخواء البدعي وانطفأ نور العقل.
إنَّ ما يؤوب بنا الى اعادة امتلاك الجوهر والزمان، أوقل: التجوهر والتزّمن، هو الإنابة الى روح الشرق، إلى البوذا العظيم الصارخ قائلاً: «دامياتا» أعطوا، وإلى يسوع الهاتف بكل رقةٍ «أحبوا»، وإلى قرآن مُحمَّد القائل :»لتعارفوا».
نعم الإنابة الى آمون، وأخناتون، وحمورابي، إلى زرادشت، وكونفوشيوس، إلى الحلاّج والسهروردي، وابن عربي.. إلى كل ما في الشرق من إشراقٍ وحرارةٍ وقِيَم..
فنحن دون هذه الإنابة، لا صيرورة ما ولا مصير- كما أتصور – لا تجوهُر ولا جَوهر، وإنما انتصار الفراغ على الزمان، الخلاء على الملأ، على الروح الذي هو حضور الزمان وإرادة الزمان..
ثمة وحدةٌ، وثمة فرقٌ، والعاقل من فرّق ووحّد في آن معاً..
فنحن بشرٌ، عالميون أمميّون، ولكننا شرقيون في الوقت نفسه كما أننا عربٌ على وجه التحديد، لنا قضية تخصنا قبل سوانا من الأمم..
من دون الإنسان سوف نختنق في الخصوصية، ومن دون الخصوصية سوف نضيع في العالمية الأوسع منّا بالضرورة، فبسبب من سعتها أراها تمتلك القدرة على ابتلاعنا، إن لم نحرس هُوِّيتنا الخاصة.

إذن، فلنضرب جذورنا في تربة بلادنا وتاريخنا، ولكن لندع الأغصان تتنفس الأنسام من الجهات الأربع.
وما دمنا بغير زمان فنحن في الفراغ، نحن إذن، تعليق «إرجاء» ولسنا علاقة، وكل ما هو في التاريخ، أو الزمان، هو بالضبط علاقة، يمارس تبادل الفعل والانفعال، يمارس الحرارة..
نعم.. المثقف الخلوق هو المنافح دون الروح ضد تفسخ الروح، إنّه اذن سادن قيم الروح الجُلّى، القِيَم التي لا نصر لأحد من دونها البته.. إنّ هذا ما لا يستوعبه الاّ القلة، إذ الغالبية الساحقة في عصر التضخمات والكميات، لا تطالبك إلاّ بشيٍ واحد، بل بشيٍ واحد وحيد: أن تتنازل عن عقلك، والتنازل عن العقل هو الاسم الآخر للتنازل عن الحرية، عن العلو، عن السمو، عن القيم، عن إنسانك!!

الغالبية الساحقة تحدّد لك وظيفة واحدةً ليس إلاّ: أن تتكلم مباشرةً عن اليومي والآتي والمُلّح.
أمّا الدَّيمومي القادر وحده على أن يصنع الزمان، أن يجعل من أي عصر زماناً لا فراغاً – والقيم الكلية التي تظل هي إياها في كل زمان ومكان، والتي بها وحدها يتجوهر كل زمان ومكان- والتي بها وقبل سواها نملك ان نخلّص الزمان من أشواك الفراغ، فهذه لا تخصّ أحدا، إلاّ على ندرة أو قلة، وذلكم هو، على وجه التحديد والحصر، قلب أزمتنا الثقافية- الأخلاقية.

أخي في الإنسانية:
ما من سقوط ولا انحطاط، ولا أفولٍ سوى سقوط القيم وأفولها، وانحطاطها.. وما من خواء سوى استفراغ الروح لمضامينه الجوهرية…
أمّا الدَّيمومي… فسوف يتعذر علينا كعرب أن نستعيد مجدنا التليد من غير استعادة القيم والعمل بها.
بذلك يُستَعاد الجوهر، فيجري الزمن المتجمد ويسيل، ونخلص من لعنة الانحطاط الجديد.. بهذا نخرج من الخواء إلى الملأ، من الفراغ إلى الزمان…
أصدقُ الناس في زمن البوار هذا، نعم، أولئك الذين يسدنون القيم والفضائل، والفكر والتفكُّر، ويرون في الأدب والفن والفلسفة صوناً للأبدية التي منها وحدها يندلق كل زمان صيروري.

تحدّيات صفقةُ القرن

يبدو أنّ محدّدات العقل السياسي العربي: القبيلةُ والغنيمةُ والعقيدةُ كما نظّر لها محمّد عابد الجابري صحيحة ومعقولة تاريخيًّا في إطار التّراكمات التاريخيّة والأحداث التي لا زالت تغذّي هذا العقل في الفعل والسياسة وتشكيل العلاقات داخل المكان وخارجه.

فبالنظر إلى السياسة أصبحت بنية العقل العربي منغلقة وثابتة في الميل للقواعد السياسية القائمة على التحالفات القبَلية والمذهبية والطائفية، والتوجّه نحو المكاسب والغنائم من خلال رؤية الفاعل السياسي للسياسة العالمية والنظام العالمي الذي ترسمه أمريكا في إرادة الأقوى وتحديده وفق منافع وغايات استراتيجية، تُبقي على التفوّق من جهة وتترك الكيانات العربية في تبعية دائمة للغرب من جهة أُخرى.

في مخطّطات سايكس بيكو الثابتة وتعميم الفكرة على الجميع في دخول الوطن العربي للحداثة والتغيير عبر القطع مع الفكر السياسي التقليدي ونزعة العداء للكيان الصهيوني وللغرب لا بدّ للعقل العربي أن يستوعب مُقتضيات العصر ومستجدّاته والقبول بحل المشاكل والأزمات العالقة بالتنازل وبالشروط المُملاة. لابدّ أن يحتوي العقل على المبادئ والحقائق والذكريات والآمال للمستقبل: في تطلّعات الجماهير العريضة التي تؤرّخ للحدث بالذاكرة والتذكّر، والتي ستلعنه في التاريخ على الفعل السياسي والفاعل الذي قبل الصفقة نتيجة ضيق الأفق في قضية مركزية في الصراع على الارض والوجود.
العقل العربي الذي يتغنّى بالماضي والتاريخ ويتحايل ويتمايل بالمكاسب والمغانم لن يحصل من صفقة ترامب – كوشنر – نتنياهو إلّا على تصفية لقضيّة ليست قوميّة فقط وإنما عالمية وإنسانية من الدرجة الأولى.

في صفقة القرن، التي من أهم بنودها ضمّ كلّ المستوطنات، ضم الضفّة الغربية للكيان الصهيوني، والقدس غير المقسّمة عاصمة له، والدولة الفلسطينية المستقبلية منزوعة السلاح لا حدود لها، وغَور الأردن خاضع لسيادة الكيان الصهيوني، ودولة الكيان هي للشعب اليهودي. فالتصريحات العربية هنا وهناك،جميعها، تنطوي على التناقض بين القول والفعل، بين الرفض والإذعان، بين المشاركة والتفرُّج. فالأهداف واضحة لأن الغنيمة التي لا تاتي إلَّا عبر القوّة وغلبة المنتصر، وغنيمة البلدان في مساعدات مالية لاستمالة العرب بالإغراء الاقتصادي ستصبح فلسطين غنيمة اقتصادية، وهذا تعبيرعن فَهم العقل السياسي الإسرائيلي والغربي للعقل العربي. فهو، أي العقل الإسرائيلي، من شدَّة الذكاء لم يفاوض وإن فاوض فبدون تنازلات منه..

صفقة القرن قديمة بلباس جديد، كانت فاتحتها اتفاقية أوسلو وعرّاب الصفقة كوشنر الذي جال الدول العربية وجمع المعطيات الكثيرة عن رغبة الأطراف بقبولها في إنهاء الصراع الذي رسم معالم المنطقة منذ زمن بعيد، ولا زالت قضية فلسطين حاضرة وباقية في نهاية غير محسومة.

في صفقة القرن والشقّ الاقتصادي غير منفصل عن الشق السياسي، ففلسطين أرض عربية، دولة للفلسطينيين، أمّا تهويد الأرض وسلب الإنسان الفلسطيني حق العودة وتنمية وطنه بدون الحاجة للمساعدات الغربية وخنق الإرادة إنَّما هو تصفية القضية بأدوات عربية. فأين معيار القبيلة ودور القرابة الذي ينبغي أن تشد الناس إلى بعضهم بعضاً في المجال السياسي والاجتماعي؟ هل يُعقل أن يساوم العقل السياسي العربي على فلسطين؟
العقل العربي يعلوه الصَّدأ، يقوم أساسا على الاعتقاد وليس
على البرهان وليس عقلاً جدَلياً، عقل جماعة وليس عقل فرد، يتأسّس على رموز مخيالية تؤسّس الاعتقاد وليس الجدل والبرهان، لا يستقر على مبادئ خالصة، فهو عقل تبريري وتقريري، يسكنه التناقض، ويستبق الوقائع والأحداث وفق ما يرسمه الآخر من مخططات، ولا يقرأ ردود الأفعال ومشاعر الملايين من الناس الذين يعتبرون قضيّة فلسطين قضيتهم.

ربما لصفقة القرن أتباع ومريدون في الوطن العربي، لكن هؤلاء يجب الا يرضوا ضياع حقوق الشعب الفلسطيني في ارضه، ان لم يكن من موقع سياسي، فمن موقع اللحمة العاطفية ورابطة الدم داخل الجماعة الوطنية الواحدة. كما أنه من المعروف أنّ العقيدة سواء كانت على شكل دين أو أيديولوجيا أن تحرّك الأفراد والجماعات وتؤطرهم داخل ما يشبه القبيلة الروحية وتشدهم بعضاً إلى بعض لدفع الضّرر وإنصاف المظلوم، والشدّة على المعتدي والرّحمة بين الاشقّاء والأخوة.
في ضوء ما تقدم يبدو أنّ محدّدات العقل السياسي العربي مفكّكة بفعل التغيير الذي أصاب بنية هذا العقل. فهل هذه المحددات صادقة ويمكن تعميمها أم إننا بحاجة إلى مُحدّدات جديدة في عالم سياسي تغيرت فيه الأيديولوجيات ؟.

إنّ العقل السياسي العربي وليد ترسّبات الفعل التقليدي ووليد الصراعات والنزاعات على الفكرة ووليد الصراعات على السلطة ووليد الجدل السياسي مع الاخر. والمجتمعات هي التي تخوض تجارب، ويخوض عقلها هذه التجارب ويعيش مخاضاً في ولادة رؤية جديدة في السياسة تقود المجتمعات إلى العدل والحق وترغم الآخر أن يحترم منطق الشعوب من باب المصالح المتبادَلة. وصفقة القرن هي برنامج أو خطّة محفوفة بالمخاطر من كل الانواع، هي عرس بدون عريس، وحفل زفاف بدون أصحابه، وهي صفقة تسعى إلى إزالة الحواجز وتؤسّس إلى علاقات جديدة تتضمن في المحصلة خطر تصفية القضية الفلسطينيّة من منظور أحادي في السياسة الخارجية الأمريكية. إنّها في المحصلة تصفية للقضية الفلسطينية، على الشعوب العربية والفلسطينيين، وبالأخص: دفنها

مَلَح،

بلدة كبيرة؛ هي اليوم مركز ناحية تتبع لمنطقة (قائمقاميّة) صلخد، يتبع لها عدد من القرى هي: خازمة والشعاب، وقيصما والهويّا والحريسة وشعف وبَهَمْ وأبو زريق وتل اللوز وطليلين. ارتفاعها عن سطح البحر 1360 م.

وقيل في سبب تسميتها أنّ المَلَح في اللغة بياض يخالطه السواد، ومَلُح الشيء، أي حَسُنَ وبهج منظرُه (1)، تقع البلدة فوق أرض صخرية بازلتية ضيقة على شكل جزيرة بين فرعي وادي راجل الغربي ووادي راجل الشرقي (وادي أبو الدجاج) تحيط بها سهول خصبة وتكثر في أراضيها الزراعية الحجارة التي تحافظ على رطوبة التربة صيفاً، تبعد 14 كلم باتجاه الشرق من صلخد، مساكنها القديمة مبنية من الحجارة البازلتية وتعود إلى عصور الأنباط والسلوقيين والرومان والبيزنطيين أما البيوت الحديثة فمبنية من الإسمنت المسلّح وتمتد البلدة الحديثة بكافة الاتجاهات حول القرية الأثرية القديمة (2).

وتشكل بموقعها عقدة مواصلات تصلها بالعديد من القرى المجاورة فإلى الغرب منها طريق رئيس مُسَفلت لم يُرَمَّم منذ نحو25 سنة، يصلها بعرمان، فصلخد، فالسويداء، فدمشق. وإلى الشمال الغربي طريق يصلها بقرية قَيْصَما فـمزرعة احْبِكة وقرى الجبل العالية، وإلى الشمال طريق يصلها بالهويّا فالحريسة فشعف..، وإلى الشرق طريق يصلها بقرية الشعاب البدوية فالبوادي باتجاه الأردن والعراق… وإلى الجنوب طريق يصلها بقرية خازمة الغنية بالمياه الجوفية. وقد كانت ملح قديما مُنْطَلقاً ومَلفى لقوافل الجمال التجارية التي تصلها بالعراق ونجد والحجاز في العصور العربية الغابرة.

يقول الباحث الآثاري، د.علي أبوعساف: «إنها من القرى الهامة في المنطقة وتُعرف باسم ملح الصّرّار، مركز إداري قديم تتبعه الخِرَب المنتشرة حوله، وقد ترك الأنباط كتابة منقوشة في ساكف (عتبة أو حِنْت) وأخرى في تمثال، وفي العصر البيزنطي الغساني نقش الصليب وغيره في سواكف الأبواب أيضاً وفيها البرج، وهو الأهم، وكذلك البِرَك (3)
زارها الرحالة والمبشر الأيرلندي وليم رايت عام 1874 فقال: «إنها على شكل مربع غير منتظم تحيطها أسوار جزء منها َمُهدّم وعلى هذه الأسوار بعض الأبراج العظيمة… وترتفع إلى ستين قدماً.. خمسة من هذه الأبراج كانت بحالة مقبولة.. كانت الخرائب محشورة بعضها ببعض.. وهناك عدد من القناطر العالية جداً بين الخرائب.. رأينا على كثير من السواكف صلباناً يونانية.. أحد النقوش مُهدى للإله ذي الشّرى أحد الآلهة (النبطيّة) التي كانت تُعْبَد في باشان.. يسكن خرائب ملح الصرّار عدد كبير من الدروز وبعض المسيحيين. كان شيخهم أبو محمّد حسين بن نجم الأطرش شيخ عرمان (4)…».
ومن الخِرَب التابعة لملح حالياً مزرعة مَجدل الشّور: موقع قديم كان يحيط به سور، أي إنّه موقع حصين وقد أُطلق عليه اسم مجدل أي حصن. تستند البيوت على السور أي أن الجدار الخلفي لبعض البيوت هو السور. البيوت القديمة متهدمة أو مُجدّدة وتوحي بأن الموقع كان هامَّاً ويعود إلى العصر النبطي، ويذكر الباحث الجغرافي الأستاذ فوزي الباسط أنَّ فيها آثاراً لمعبد روماني تحول إلى كنيسة مسيحية في عهد الغساسنة (المتداخل مع العصر البيزنطي). وقد تحولت الكنيسة إلى مسجد في العصر العربي الإسلامي وهي الآن آثار خربة (5).
ومن المواقع التي كانت تتبع لمَلَح فيما مضى:
خازمة: يبدو أنها كانت قرية أثرية مزدهرة ذات شوارع مستقيمة متقاطعة على جوانبها الأرصفة وفيها أطلال بيوت جيدة مزخرفة وكنيسة مزدوجة تدل على أنّها من العصر الغساني.
دير النصراني: حصن عسكري بيزنطي تحوّل إلى دير مازال فيه برج إلى الشرق من ملح.
صافية ملح: خربة قديمة تتبع لملح، تقع بين بلدتي ملح وامتان وتحت آثارها أطلال تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد وما قبله، فهي من المستوطنات القديمة وقد بقيت مأهولة في العصور التي تلت…
براق: جنوب ملح على وادي أبو الدّجاج مسافة 4 كلم خربة أثرية هامة تم تدميرها من قبل لصوص الآثار والباحثين عن الذهب مطلع الثمانينيات وفيها العديد من الآبار المحفورة في الصخر التي لم تزل قيد الاستخدام إلى زمننا هذا وفيها مغاور طبيعية في الحجر الرملي.وقد أنشئ فيها سد حديث فاشل بسبب سوء التقدير الهندسي لبنائه.

إحياء عمران ملح على يد المعروفيين

شهدت المنطقة في القرنين الأخيرين من العهد العثماني تدهوراً في التحضُّر فقد أدى ضعف الدولة العثمانية في تلك الفترة إلى عيث شديد للقبائل البدوية فيها بحيث خلت تقريباً من السكان قبل قدوم العائلات والعشائر المعروفيّة إلى الجبل.
وقبيل الثلث الأخير من القرن التاسع عشر نحو عام 1866 أخذ العمران ينتشر فيها وأولى العائلات الدرزية التي أحيت عمران ملح ، كانوا سلمان بَلَّان وأسرته وسليمان الملحم وأسرته ومحمّد أبودهن وأسرته وآل الباسط والحسن من الدروز وآل أبو جمرة من المسيحيين قدموا إليها من قريتي عرى والمجيمر الواقعتين جنوب غرب السويداء ببضعة عشر كيلو متراً، (وقد لحق بهم آل رزق فيما بعد، قادمين من قرية عنز) (5).وصادف وصول العائلات الأولى إلى مشارف القرية الخربة آنذاك مع أول الليل، فلم يجرؤوا على الدخول إليها خيفة من أرجال الغزو البدوية الذين كانوا يتخذون الخرائب مكمناً لهم، فحرسوا موقع مبيتهم الليلي جيداً وانتظروا حتى الصباح، وبعثوا بالرّواد لاستكشاف المكان أوّلاً، وأوصَوْهم أن لا يدخلوا الخرائب إن كانت أعالي الأبراج خالية من الطيور التي اعتادت أن تحطّ عليها لأن ذلك يعني وجود كمائن في المكان…
كانت ملح في قديمها بلدة عامرة ذات شأن، وكان فيها سبعة أبراج أثرية تعود لأيام الرومان، لمراقبة البادية المترامية الأطراف إلى الشرق والجنوب منها. كانت الطيور هاجعة في أعالي أبراجها، فدخلوا إليها يجوسون في خرائبها ليتأكدوا من خلوّها من الكمائن، ومن ثم عادوا يبشّرون ذويهم بأمان المكان؛ فدخلوها مع أسرهم آمنين، وتوزّعوا في دورها الأثرية التي لم ينل منها الخراب بعد!…

ملح؛ فتيل الثورة العامية وبيرق النصر في حروب الجبل
وثيقة رومانيية على شكل نقش حجري

ولم تلبث ملح نحو عشرين عاماً حتى غدت تلعب دوراً اجتماعيّاً وسياسيّاً رائداً في حياة مجتمع جبل الدروز (كما كان يدعى آنذاك)، فبنتيجة نشاط مزارعيها وفلّاحيها ومرابعيها من العامة أولئك المتضامنين مع سائر نظرائهم من المقرن القبلي ومعظم قرى الجبل انعقد أوّل اجتماع للعامة في جبل الدروز بهدف تشاوري ثوري ضد هيمنة مشايخ الإقطاع في نيسان عام 1888 في خربة المجدل المجاورة والتي لم تزل إلى اليوم تحمل اسم مجدل الشَّوْر، وقد نتج عن ذلك المؤتمر ما دُعي بـ: «الثورة العامِّيَّة»؛ التي شملت معظم حواضر الجبل ومُنِع مشايخ الإقطاع على إثرها من ترحيل الفلاحين وتم انتزاع نصف مُلكيتهم التي وزعت على الفلاحين الثائرين بحيث لم يبقَ لهم سوى ثُمن مساحة كل قرية بدلاً من الرّبع، وإلى ذلك يشير الأديب الأستاذ عادل رزق فيذكر بأن «صالح غزالي وصالح رزق من ملح، وصالح الحلبي وإسماعيل العطواني من عرمان وحمد العيسمي وقاسم الدبيسي من امتان كانوا من اللجنة الممهّدة لذلك الاجتماع ومن مجموعة وجهاء العامة الـ 82 الموقعين على بيان انتفاضة العامية»…

كما ساهمت ملح إلى جانب أهالي عرمان وصلخد وغيرها من قرى المقرن القبلي والشرقي في دحر الحملة العثمانية في ما عُرف بموقعة خراب عرمان عام 1896،.وتتالت بعدها مساهمات فرسان ورجال ملح في معارك الجبل ضد العثمانيين والفرنسيين حتى لُقِّب بيرق ملح بنتيجة بطولات فرسانها ورجالها بـ «بيرق النصر!». كان بيرق ملح في طليعة بيارق المقرن القبلي التي اكتسحت حملة القائد الفرنسي «مارتان» في موقعة الكفر عام 1925 وأبادتها في وقت لا يتجاوز الـ 45 دقيقة وقد أذهلت العالم حينها؛ لسرعة المقاتلين في تحقيق نصر ساحق على قوة عسكرية منظمة من قبل مقاتلين بأسلحة تقليدية خفيفة معظمها سيوف وبلطات وفؤوس…

وقد بلغ عدد شهداء ملح في معارك الثورة السورية الكبرى عام 1925 ـ 1927 وحدها 107 شهداء، وفيهم يقول الشاعر الشعبي صالح عمار أبو الحسن:

سربةْ ملَـحْ تشبه ليــوث القَسْوَرَة باب الكرم والجود ينبوع الفِــرا
في كل عَركَه في مُقَدّمة الرِّجال خَلُّوا ينــابيـــع الــدِّما تتفـجَّــــرا
بيرق ملح عَ الكَفِر لمَّا انُّو مشى لوحوشها وطيورها اِرموا العشا
وبْيارق المقرن القبلي تصاولوا حـالاً بقلب فرنسا كان سـمّ وفشـا (6)
السكّان في بلدة ملح:

يبلغ عدد السكّان حاليّاً حسب سجلات البلدة 15000 ألف نسمة لكن عدم وجود تنمية متوازنة دفع نحو أكثر من 46 بالمئة من السكان إلى النزوح والهجرة، فالمقيمون فيها عددهم 8000 نسمة، يتوزّعون على (74) كنية، غالبيتهم من الموحدين الدروز، وهم:
آل أبو إسماعيل، وأبو زيدان وأبو ترابة وأبو رافع وأبو معلّا وأبو دهن وأبو شهدا وأبو علوان والبيّاع وأيوب والأطرش وبلّان والباسط (أصلاً أبو خزام)، والتيماني، وجودية، والجبر، والجمّال (زين الدين)، وجابر، وجمول، وحامد، والحاصباني والحكيم، والحلبي، والحلح، وخشيفي، وخير، وذياب ، والذيب، ورستم، والسكّر، والسلمان، وسيف، والشاهين، وشروف، وشهاب الدين، والشوفي، وصافي، والصالح ، وصعب، وصيُّور، والصفدي، وطلب، والطير، وعبد الباقي، والعطواني، والعربيد، وعظيمي، وعقل، وعلّوم، وعماشة، وعيد، وغزالة، والغزال، والقنطار، وكمال، وكيوان، وكحّول، ومسعود، ومعروف، والملحم، وملّاك، ومنذر، وذياب، ورزق ومكنّى، وهذبا، ونخلة، وفرج وقد خرج منها إلى خازمة آل رزق (بعد أن هدم الفرنسيون بيت المجاهد يحيى رزق ومضافته كما هدموا بيت المجاهد علي الملحم ومضافته) وتبعهم العديد من عائلات ملح على أعقاب وقائع الثورة السورية الكبرى أواسط ثلاثينيات القرن العشرين.
وهناك عائلات مسيحية هاجر قسم منهم من ملح عام 1951 بسبب المحل، وبقي منهم في ملح آل أبو جمرة وبديوي، والبسِّيط والحداد.وعددهم نحو 70 نسمة(7).

وكان بين السكان شخص سني واحد يعمل بيطاراً للخيول أصله من حي الميدان في دمشق هو إبراهيم القسطي، (وله موقف مُشرِّف في ملح إبّان حملة الشيشكلي على الجبل عام 1954 إذ صرخ بوجه العقيد صلاح الشيشكلي الذي وجه الرشاشات لقتل عدد من رجال ملح محتجّاً على ذلك العمل الإجرامي، وبالفعل استجاب الشيشكلي لطلبه على مضض، وتوقف عن تنفيذ نيته بذلك..) وشخص يهودي واحد كان يتعاطى التجارة، ويُدعى بـ: حسين اليهودي، هجر البلدة عام 1948 ولم تزل دكّانه إلى الآن خَرِبة في الشارع العام من ملح.

وممّا يجدر ذكره أنّ نحو 80 بالمئة من سكان ملح تعود بأصولها لأسر مهاجرة من لبنان خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين.

الدوائر الرسمية في ملح:

البلدية:
يعود إنشاء البلدية في ملح إلى عهد الانتداب الفرنسي أواخر العشرينيات من القرن العشرين المنصرم، وتبلغ مساحة المخطط التنظيمي الحالي للبلدة 500 هكتار أي (5000 دونم)، منها ثمانية حدائق مساحتها الإجمالية 21 دونماً
ويعمل في البلدية 24 موظفاً وموظفة بين مهندسين ومساعدين فنيين وإداريين لمتابعة شؤون البلدية …
وتبلغ أطوال الشوارع المعبدة 39 كلم،.وشبكة مياه الشرب في البلدة 43 كلم، أمّا شبكة الصرف الصحي فطولها 24 كلم.

مركز ثقافي في البلدة

الوحدة الإرشادية الزراعية:
لما كانت الزراعة بالأصل تشكل المصدر التقليدي لاقتصاد البلدة قبل الاغتراب وقبل الوظائف الحكومية التي تشكل روافد إضافية للحياة المعاشية فيها، فقد عَنيت الحكومات المتتابعة في العمل على توجيه المزارعين إلى الأساليب الحديثة في الزراعة فأُنشئت الوحدة الإرشادية الزراعية في البلدة التي تقدم:
1ـ الخدمات الاستشارية المجانية للمزارعين.
2ـ تقوم بإحصاء الثروة النباتية من أشجار مثمرة وغيرها.
3ـ تَرْفع الخطة الإنتاجية لمديرية الزراعة وتتضمن الخطة المساحات المزروعة بالمحاصيل الحقليّة والخضار من مروية وبعلية.
4ـ إعطاء شهادات المنشأ لتسويق محصولَيِّ القمح والشعير.
5ـ إقامة ندوات زراعية لتوعية المزارعين وتقديم الإرشادات الزراعية بشكل موسمي ودوري لمواعيد الرش ومكافحة أمراض وآفات الأشجار والمحاصيل.
6ـ العمل بموجب خطّة نشاطات موسمية خلال العام من حيث توجيه المزارعين إلى مكافحة أمراض وآفات النباتات والتوجيه باستخدام المبيدات بشكل علمي.
إقامة بيانات عملية تدريبية (يوم عمل) على تقليم وتطعيم الأشجار بشكل عملي للمزارعين المدعوين في مواعيد زمنية مناسبة.
7ـ وفي المجال البيطري يقدّم الطبيب البيطري المختص في الوحدة استشارات مجانية لمربي الأبقار والأغنام والماعز والمواشي والطيور..
8ـ تنفيذ حملات لقاح للأبقار والماعز والأغنام مجّاناً.
9ـ إقامة ندوات بيطرية وتنفيذ بيانات عمليّة تدريبية لمعالجة أمراض الحيوانات.
مكافحة الطفيليات الخارجية التي تصيب الأغنام والماعز لمزارعي البلدة في مغطس الوحدة الإرشادية…
وتتألف الوحدة الإرشادية الزراعية في ملح من مبنى حكومي خاص مُخدّم بالكهرباء والماء ووسائل الاتصال يعمل به ثلاثة عشر موظفاً وموظفة منهم: 3 مهندسون زراعيون وطبيب بيطري وآخرون مساعدون فنيون في التخصصات الزراعية.
المستوصف: يعمل به 19 موظفاً بين طبيب وممرضين لتقديم الخدمات الطبية مجاناً للمواطنين من البلدة وسائر قرى الناحية بالإضافة إلى سائقين للمناوبة على سيارة الإسعاف العاملة في المستوصف، ويقدم المستوصف خدمات طبيّة متنوعة تتعلق بتقديم اللقاحات المجانية والتضميد وتنظيم الأسرة ورعاية الحوامل ومتابعة مرضى السكري…
مركز الهاتف: ويتضمّن 2344 خطّاً للهاتف، منها 1943 خطوط مركبة و115 بوابة انترنت، ويرأسه مهندس اتصالات وموظف جباية واثنان من عمال التركيب والصيانة ومستخدمة للعناية بالمركز.

المدارس:
الشيخ المرحوم أبو حسن عارف حلاوي معلّماً في ملح
يذكر المعمرون من أهالي البلدة بمودّة أنّ الشيخ المرحوم أبو حسن عارف حلاوي كان من قدامى المعلمين في ملح خلال الثلث الأول من القرن الماضي وكان قد اشترى أرضاً في ملح استفاد منها فترة من الزمن ومن ثم باعها لآل رزق قبل عودته إلى لبنان…
حاليّاً؛ توجد في البلدة مدرسة ثانوية صناعية وثانوية عامة وإعدادية وثلاثة مدارس وروضة أطفال عامة وروضتا أطفال قطاع خاص.
وفي البلدة مكتبا تكسي للخدمات داخل وخارج البلدة، عدد السيارات العاملة فيها 15 سيارة تكسي خدمات أجرة.

الزراعة في بلدة ملح:

بلغ المساحة العقارية الإجمالية لأراضي البلدة 147000 دونم ومتوسّط أمطارها في السنوات العشر الأخيرة نحو 220 ملم3.
ويغلب على الزراعة فيها نمط الزراعة المعيشية الاستهلاكية، فما من تصنيع زراعي بالمفهوم الحديث للمنتجات الزراعية فيها، إذ يزرع منها سنوياً 13300 دونم بالقمح غرب وشمال البلدة ممّا يلي الجبل، و20000 دونم بالشعير شرق وجنوب البلدة ممّا يلي البادية، كما يزرع الحِمَّص في 2400 دونم،
الأشجار: الزيتون 2800 شجرة، العنب 6480 شجرة وقد تراجعت زراعة العنب في الكروم بعد عام 1976 إثر إنشاء سد أبو زريق الذي تسبب بحجز مياه الأمطار عن وادي راجل ممّا جعل الأهالي يقتصرون على زراعة العنب في الحدائق المنزلية، بعد أن خسروا المياه التي كانت تصلهم عبر الوادي..
أشجار متنوعة: التين: 445 شجرة، اللوز والتوت وغيرها 2000 شجرة.

الجرارات في البلدة:

يبلغ عدد الجرارات في البلدة 145 جرّاراً متوسط قدرات الجرار الواحد 70 حصاناً بالإضافة إلى 60 فرّامة (عزَّاقة)، و20 مرشَّة ميكانيكية.
تربية الحيوان: الأبقار الحلوب: 175 رأساً، منها ما يربى في 3 مزارع تستوعب 110 بقرات، والباقي تُربَّى في حظائر قرب المنازل.
الأغنام: عددها 1500 رأس منها نحو 900 رأس تُربّى في مزرعتين، والباقي في حظائر فردية داخل البلدة.
الماعز: 800 رأس تربى في حظائر فردية داخل البلدة.

المياه في ملح:

كانت ملح؛ القرية النبطيّة ـ السلوقيةـ الرومانية ـ البيزنطية ـ الأثرية الأولى التي يُرجّح أنّ عمرانها الأوّل يعود لما قبل الأنباط كما يشير الأستاذ الجغرافي الباحث فوزي الباسط أبو خزام؛ تعتمد على مياه الشتاء بالدرجة الأولى التي يتم جمعها في الآبار والبرك، التي عُرِف منها سبع برك أهمها مطخ الحداد ومتوسط عمقه نحو أربعة أمتار، وقد شوهدت فيه بقايا أعمدة وأحجار منحوتة يُرَجّح أنها بقايا لمعبد آلهة المياه، بالإضافة إلى بركة الغنم والبركة المالحة وبركة السورية وبرك أُخرى صغيرة يُرجّح أنها كانت أصلاً مقالع لحجارة البناء…
كما كانت ملح قبل إنجاز سدّ جبل العرب عام 1976 تستقي بالإسالة السطحية من مياه وادي راجل الذي يأتيها من القمم الجبلية العالية إلى الشمال الغربي منها ومن مسيل مياه ينابيع مزرعة «احبكة» (التابعة لبلدة الهويا) على مسافة نحو 5 كلم، فتفيد في سقاية الكروم والمحاصيل الحقلية، ولم تزل بقايا الأقنية الرومانية في خراج البلدة ماثلة إلى الآن في العديد من المواقع، ولكن مياه الإسالة انقطعت عنها بسبب شح كميات الأمطار في معظم سنوات القرن العشرين، يضاف إلى ذلك انخفاض مناسيب المياه الجوفية السطحية التي تغذي ينابيع احبكة، وزيادة الاستهلاك المائي من قبل أهالي الهويا وقيصما الذين أخذوا يحفرون آباراً جوفية حول الينابيع الأمر الذي أوقف تدفق المياه من احبكة باتجاه ملح.

وإلى أن أعيد إعمارها على يد عائلات الموحدين الدروز عام 1866، هناك ما يدل على وجود بقايا من ينابيع قديمة تغلب عليها الملوحة في الجانب الشرقي من القرية القديمة، تمتد على خط يتجه شمالاً إلى قرية قيصما على مسافة نحو 2 كلم منها، فموقع ينابيع «احبكة» النقية على مسافة نحو 3 كلم.من قرية قيصما شمالاً…
أما اليوم فإنّ البلدة تعتمد على تأمين مياه الشرب من الآبار الجوفيّة في قرية خازمة المجاورة لها ومن سد أبو زريق عند اللزوم.

كنيسة حديثة في البلدة
التنمية الزراعية وآفاقها في البلدة:

بالنظر لوقوع أراضي ملح في منطقة الاستقرار الثانية الصالحة للزراعة من جهة الشمال والغرب بينما تقع معظم أراضيها الشرقية والجنوبية في منطقة الاستقرار الثالثة التي تصلح للرعي أكثر منها للزراعة، وخاصة فإن الآلاف من الدونمات من تلك الأراضي تتصل بالبادية شرق وجنوب ملح ومنها أراضي قرية خازمة (بنت ملح) وهي أراضٍ غنية بالمياه الجوفية ممّا يفتح أفقاً واسعاً لزراعة مروية وتربية أغنام على نطاق واسع وبالتالي إنتاج زراعي وخضري قابل للتصدير وإنتاج حيواني من تربية الأغنام والأبقار والماعز ينتظر الاهتمام من الجهات الرسمية المعنية في الدولة ومن المستثمرين في القطاع الخاص ممّا يحسن مداخيل المزارعين ويرفع من مستوى معيشتهم، كل هذا ينتظر توفر النوايا الحسنة لتثبيت الإنسان في منطقة يتهددها التهجير وغياب الأمن وعدم الاهتمام بحاجات المواطنين الحيوية.
دور العبادة: في البلدة مجلس / مسجد عبادة للموحدين المسلمين الدروز، وكنيسة للروم الأرثوذكس.

مبنى مجلس الموحدين المسلمين الدروز من الخارج

المراجع:

1. الصغير، سعيد، بنو معروف في التاريخ، ص:381.2.
2. نصر، إسماعيل متعب، السويداء بين الزمان والمكان، ص 204.
3. أبو عساف، علي، الآثار في جبل حوران، ص 164.
4. رايت وليم، مغامرات بين خرائب باشان، ص 133ـ 134، تر: كمال الشوفاني.
5. رزق، عادل، مقابلة في 20 تموز 2020.
6. عْمار أبو الحسن، صالح، ديوان شعر شعبي، ص 9.
7. الأطرش، يوسف حسن، مقابلة 15 حزيران 2020.

الرؤية العِرفانيّة في فكر سامي مكارم

الرؤية العِرفانيّة في فكر سامي مكارم

د.نجوى حسيكي العنداري

لعلّ أعظمَ ما في الوجود، وأخطرَ ما في الوجود، وأجملَ ما في الوجود: الكلمة!
فلنتّقِ الله في الكلمة.
جميعنا يتعطّشُ للكلمةِ الجميلة، والكلمةِ الصافية، والكلمةِ التي ترقى بنا إلى مصافِّ السّببِ الذي كنّا لأجلِهِ على هذه البسيطة… ولعلّ مَكارم من الرّجالاتِ القلائلِ الّذين بذلوا الكثيرَ، فهو اجتهدَ في استثمارِ ما حباهُ الله من قدراتٍ في سبيلِ ما أسماه «تحقيق الكمال الأخص»، والمجتهدُ له الأجرُ سواءَ أخطأ أم أصاب… تبقى النوايا وراء القصد، وتبقى الوِقفةُ الصّادقة أمام النّفس خيرَ مُعين …

وللأمانة، لا تسعُنا بضع كلمات للتعبير عمّا كان فيه سامي مكارم مُجَلّيًا، وهو العرفانيّ والفنّان والشاعر والأستاذ والمفيد وهو الّذي عشق الحرف وعشق الكلمة وسافر فيها وبها ومعها ولها … وما زلت أذكرُه يوم بارك لي العمل قبل رحيلِه، وبدأت مسيرة بحثي، وكان نتاجه «الرؤية العِرفانيّة في فكر سامي مكارم» … لسنا بصدد تكريمِه فهو لا يحتاج لذلك، لكنّنا بحاجة أن نكرّمَ الخيرَ فينا كلٌّ من حيثِه، وكلٌّ من منطلقِه.
في هذا السّياق تتأسّس فكرةُ معرفتنا لمنبعِ آلامِنا، وأُسِّ أحزانِنا، وأصلِ سعادتِنا، ومُنطلقِ حرّيتِنا، تتأسسُ معرفةُ الإنسان لنفسه! ولعلّ هذه الفكرةَ، مع كثرةِ المفكّرين والمتنوّرين الذين تناولوها، تبقى تحمُلُ فرادةَ كلِّ نفسٍ، بما فيها من خصوصيّةٍ وجمالٍ. من هذا المنطلقِ، كان هذا الكتابُ الموسومُ بـ»الرؤية العرفانيّة في فكر سامي مكارم». وهو كتابٌ أُعِدَّ ليكونَ أطروحةَ دكتوراه، وقد تمَّ تلخيصُ بعض أقسامِه والتعديلُ عليها ليصبحَ مناسبًا لكلِّ قارئٍ مثقّفٍ، وليس حصرًا بالمتخصّصين.

ولتقديم لمحة عنه نتساءل:
ما انعكاسُ التجربةِ العرفانيّةِ على الواقعِ المُعاشِ حسب مكارم؟ أيمكن اختزالُها بالقول إنّها عيشُ حالٍ من الصفاءِ والطهرِ، في عالمٍ مترفّعٍ عن الماديّات؟ أم إنّه إشراكُ العرفان بنبض الحياة اليوميّة؟ ما الخصوصيّة التي ميّزت الرؤية العِرفانيّة في تجربة سامي مكارم، من ناحيةِ الأخلاقِ والدينِ والتصوّفِ؟ هل يتّصلُ، بحسب تجربةِ مكارم، العالمُ الأكبرُ – الله وعللُ الكائنات- بالعالمِ الأصغر – الإنسان، فيشكّلان عالمَ الوحدة؟ وهل انفصلا حتّى يتّصلا؟ وبأيٍّ من العالَمين يتحدّدُ موقعُ الضدِّ أو إبليس في هذه المعادلة؟ ومن ثمّ أينتفي دورُهُ؟ أم يُسَخَّر للخدمة؟ وما الذروةُ الروحيّةُ التي يصلُها الإنسانُ؟ وهل هي واحدةٌ أم أكثر؟ أم يتوقّفُ الأمرَ على قدرةِ الإنسان نفسه؟ وإلى أين وصل مكارم في تجربتِه ورؤيته؟
وبعد، ما هي أبرز المشاربِ الفكريّة التي استقى منها مكارم حتّى كوّنَ رؤيتَه العرفانية؟ وكيف تجلّى الإله الخفي في تجربتِه؟ وما هي النظريّةُ الأساسيّة التي انبنت عليها رؤيتُه؟ وهل قدّمت رؤيته في مختلف زواياها فرادةً وخصوصيّة أم كانت في بعضِها انتقاءٌ لما يتلاءمُ مع بعض الثوابتِ أو امتدادٌ لرؤيةٍ ما؟ هل هناك جوانبُ متناقضةٌ في تجربتِهِ؟
هذه الأسئلةُ وغيرُها تمَّت الإجابةُ عنها في هذا الكتاب الذي استُهلّ بمدخلٍ قدّم العرفان ومصدريّته ومعراج الترقّي ونهج المساررة، كما ألمحنا إلى أبرز مدارسه، وذلك من منظور التمايز والخصوصيّة. وفي الأبواب السّتّة تدرّجنا من دراسة رؤية مكارم للبنى الاجتماعيّة ثم رؤيته للبنى الأخلاقيّة، بعد ذلك درسنا رؤيته للعالم الأصغر – الإنسان، ثمّ تتبّعنا رؤيته للعالم الأكبر، ما سنح باستنباط رؤيته المعرفيّة للوحدة، بعد ذلك تجلّت رؤيته للثورة وصولا إلى كيفيّة تحقيق الإصلاح المؤدّي إلى تحقيق المدينة الفاضلة.

نضيف إلى ذلك ما قدّمته الدراسة في مجال تحديد الإله الخفيّ في فكر مكارم، والمشارب الفكريّة التي غذّت تجربته، والعرفان النظري العملي الذي تبلور في تحقيق الكمال الأخصّ، كذلك تحديد خلاصة الوعي الممكن وهو البراءة من الأنويّة، بالإضافة الى الجوانب المتناقضة لديه، زِد إلى ذلك ملحق معجم الرّموز الذي أظهر فرادة تجربة مكارم، وغيره ممّا لا يتّسع المجال هنا للحديث عنه.
ختامًا، يبقى للكلمة وقعها حسب تربة كلّ نفسٍ وحسب صفاء توقِها وقوّة شوقها وحثيث سعيها.

قراءة في كتاب «بشتفين في صفحات من تاريخها»

قراءة في كتاب «بشتفين في صفحات من تاريخها»

د.عبد الله سعيد (2)

يقول مثل قديم، ثلاثةٌ لا يموتون أبداً: واحدٌ زرع شجرةً، وواحدٌ خلّف ولداً، وشخصٌ ألّف كتاباً. من هذا المنطلق أحيا المؤلفان الماضي الريفي، عبر قرية بشتفين، بكل تفاصيله؛ الزراعية والحرفية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، حتى الدقيقة منها. فتُعجب لسير أحداث وحياة بلدة ريفية منسية في جبل لبنان تقع على كتف جسر القاضي الأثري، ووادي نهر الدامور، كعقدة مواصلات هامة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
إنّ الكتابة في التاريخ الاقتصادي الاجتماعي، تعني أنك تؤرخ لصالح وحدة المجتمع بكل عناصره وفئاته، وبكل تفاعلاته الجغرافية والحضارية والسياسية والنفسية والثقافية. وتعني أنّك أخذت جانب منهج التأريخ العلمي الذي يرصد حراك المجتمعات البشرية وفقاً لقوانين تطورها الطبيعية بمعزل عن ميول ونزعات الباحثين والدارسين… فالتاريخ الاجتماعي الاقتصادي هو تأريخ توحيدي تطوّري، بينما التأريخ السياسي الطوائفي، هو تأريخ تفتيتي تصادمي يحمل، غالباً، في طياته بذور الإقتتال والضغينة.
إن ما قام به المؤلفان هو قمة الإلتزام بمنهج البحث التاريخي العلمي للتاريخ الاجتماعي من حيث العودة إلى الوثيقة الأصلية والمقابلات الشفوية الحيّة المعاصرة للحدث، التي لا تقلّ أهمية عن الوثيقة المكتوبة في القراءة العلمية للتاريخ وأحداثه… كما أنهما قاما بالمهمة التأريخية بأفضل ما يكون من حيث ربط الجغرافية بالتاريخ، واتباع التسلسل التاريخي السليم في كل فرع من فروع التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والإداري لبلدة بشتفين.
إنه كتابٌ يسجّل تاريخ كل شخص في القرية صغيراً كان أم كهلاً أو شيخاً، شاباً أو فتاة أو إمرأة، عاملاً أم تاجراً أم شاعراً وأديباً وموظفاً وضابطاً، أم سفيراً أو مدرساً ومدرّسة، وطالباً وطالبة. ويخصص حيزاً هاماً لمكانة المرأة البشتفينية في الأسرة والمنزل والعمل الزراعي والحرفي والصناعي، والتعليم والتمريض والطب والوظيفة الخاصة والعامة، إلى جانب ممارستها حق الملكية الخاصة وتصرّفها الحر بحيازتها الشخصية بيعاً وشراءً وإرثاً.
من هنا، فالكتاب هو كناية عن دراسة ميدانية، ومسحٍ اجتماعي اقتصادي كاملٍ لقرية بشتفين الشوفية كمحاولة جريئة لالتقاط صورة حية للقرية اللبنانية المكافحة في صمودها أمام غضب الطبيعة، وإهمال السلطات المتعاقبة منذ عهد المتصرفية حتى الآن. فالكتاب أشبه بلوحة فنيّة بيانيّة لطبيعة ومعالم بشتفين الجغرافية وأراضيها الزراعية والمشاعية والحرجية وينابيعها ومياهها، وأحياءِها وطرقاتها المنبسطة والوعرة.
إنّه دراسة علميّة قيّمة لسكّانها وتحركاتهم ونشاطهم، ولمؤسساتهم الإدارية المحلية من شيخ الصلح والمختار إلى رئيس البلدية وأعمال المجالس البلدية المتعاقبة. كما أساليب أعمالهم الزراعية، والمهنية والصناعية، وتحرّكاتهم السكانية المحليّة والاغترابية، ونشاطاتهم الثقافية والأدبية والحزبية والكشفية.
فهكذا خلّد المؤلفان من خلال كتابهما هذا، بلدة بشتفين، حيث يمكن لكل شخص فيها أو قريب من أهلها، أن يعتزّ بصدور هكذا كتاب خالداً أبداً عن قريته، فهو طال الجميع بدون استثناء من خلال الحديث عن مجمل نشاطات القرية، وانضواء معظم أهاليها أفراداً وجماعات في تلك النشاطات.
وأخيراً، إن كتاب «بشتفين في صفحات من تاريخها»، لا يمكنه أن يشيخَ أو يموت، فهو يصلحُ لكلّ زمانٍ ومكانٍ، ولكلّ عصرٍ أو جيلٍ جديد يريد الإطّلاع على تراث الأجداد وأنماطِ معيشتهم السابقة، وتطوّر ثقافتهم في الوجود والحياة، والعمل والتفكير. إنه حقاً كتابٌ يُقرأ بإمعان، وفي كل مرة تقرأه تستفيد من معلوماته وكأنك تقرأه للمرّة الأولى.


المراجع:

1. مداخلة أُلقيت بمناسبة حفل توقيع كتاب “بشتفين في صفحات من تاريخها” في دار بلدة بشتفين بتاريخ 18/9/2020.
2. أستاذ متقاعد في الجامعة اللبنانية وعميد سابق لكلية السياحة فيها، له مجموعة مؤلفات وأبحاث في التاريخ الريفي الاقتصادي والاجتماعي.

جمال الدين جنبلاط، تاريخ الأسرة الجنبلاطية السياسي، 1185-1977

النّوع: باب التاريخ، الوسيط والحديث.
كتاب ضخم لجهة الحجم (ثمانية عشر فصلاً في 848 صفحة من القطع الكبير).
هو بالغ الأهمية لجهة المحتوى، إذ يغطي تاريخ أُسرة معروفيّة عريقة لعبت دون انقطاع أدواراً حاسمة، في شمال العراق، وجنوب غرب تركيا، وشمال سوريا، واستقرّت أخيراً في جبال الشوف اللبنانية بدءاً من القرن السابع عشر، ولتتحوّل ولأكثر من ثلاثمئة سنة دون انقطاع حجر الرّحى في الأحداث السياسية والتاريخية المتصلة بجبل لبنان، وربما بلبنان عموماً أيضاً. لم يسبق لي، في حدود معرفتي، أن توفّر للمكتبة العربية أيُّ مرجع تاريخي تمكّن من الإحاطة الشاملة بتاريخ الأسرة الجنبلاطية السياسي لفترات تاريخية امتدت لثمانية قرون (منذ نهاية القرن الثاني عشر الميلادي إلى نهاية القرن العشرين الميلادي).
وإلى وَجْهَي الأهميّة أعلاه، اتَّسم عمل المؤلف، الباحث التاريخي جمال الدين جنبلاط، بالحِرَفية البحثية الواضحة، لجهة الإسناد المرجعي الشامل، من الوثائق والمصادر التي تُعْتَبَر من الدرجة الأولى، من الأرشيف العثماني في اسطنبول إلى مكتبات مهمّة أخرى، إلى الموضوعية والدقة في متابعة المعطيات والأحداث، إلى اللغة الباردة في نقل الأحداث أو مقاربة مكوّناتها المختلفة، (وعلى سبيل المثال، فقد غطّت مكتبة البحث والملاحق والخرائط والصور التوضيحية أكثر من 50 صفحة ختامية من الكتاب).

ميزة أخرى لافتة في عمل جمال الدين جنبلاط الضخم هي عدم أخذه (وكما يجب أن يفعل كل مؤرِّخ مدقّق وفق نصائح إبن خلدون) بسيل المعطيات التي تَرِدُه كما هي من دون تمحيص ومقارنة. إنّ قارئ الكتاب ليلفته حقاً أمران – بين أمور أُخرى كثيرة – الأوّل، تلك المروحة الواسعة جداً من المصادر والوثائق القديمة والحديثة التي أتيح للمؤلف أن يصل إليها، ولا أظن عملاً آخر في الموضوع أبداً أتيح له ذلك، والثاني، تعامله العلمي بل المحايد إلى حد كبير مع ما تضمنته المصادر والوثائق تلك من روايات ومعطيات ومعلومات، إذ إنّه أَعمل عقله البحثي النقدي في غربلة الروايات والأخبار، مقارناً بعضها بالبعض الآخر، وبسواها من مصادر معرفية، مُسْقطاً ما لا ينسجم مع ما هو مستقر وعليه إجماع من معطيات، ومفضِّلاً حين لا تكون الأمور بالوضوح البحثي ذاك إحالة الرواية إلى المزيد من التدقيق، بل وتعليق حكمه أحياناً. اتساع مروحة المصادر والمراجع والوثائق على نحو كبير جداً، من أكثر من بيئة ثقافية ومعرفية، وتدعيمها أحياناً بمشاهدات عيانية لأمكنة الأحداث في كردستان وتركيا وقبرص ولبنان وسواها، يجعل العمل وثيقة لا تُقَدّر بثمن، ومن النوع العلمي والبحثي الذي يصعب غالباً الحصول عليه.
تتوزّع فصول الكتاب على أبواب ثلاثة: الأوّل، بدايات التمركز الجغرافي للأسرة الجنبلاطية في الهكاري والعمادية؛ الثاني، الجنبلاطيون حكّام كيليس وحلب؛ والثالث، دور الأسرة الجنبلاطية في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر – وهو الأضخم لناحية الحجم إذ يقع الباب هذا في 500 صفحة تقريباً.
لا يغيب عن البال بالتأكيد أن العمل هذا هو ثَبْتٌ عائليٌّ – كما يظهر صراحة من العنوان – أي تاريخ الأسرة الجنبلاطية، وأعلامها البارزة، والوقائع الأكثر أهمية التي انخرطت فيها طيلة ثمانمئة عام؛ وعلى نحو لن يتمكن من إنجازه كما أعتقد أيُّ مؤرِّخ آخر من خارج الإطار العائلي والثقافي الذي أتيح للمؤلف. وعليه، يجب أن لا يتوقّع القارئ مباحث تاريخيّة شاملة للعصور التي تضمنتها الحقب الطويلة تلك: لجهة السياق التاريخي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو العمراني، أو العلمي والثقافي وما شابه. ربما يَرِدُ بعضٌ من ذلك في سياق التأريخ لهذا العَلَم الجنبلاطي أو ذاك، في هذه الحقبة أو تلك، ولكن من دون أن يخرجنا الأمر عن سياق الكتاب الأصلي وهو التأريخ للأسرة الجنبلاطية السياسي حصراً – وقد أحصيت على وجه تقريبي ورود توثيق تاريخي لأكثر من 30 عَلَماً جنبلاطيّاً سياسيّاً لعبوا أدواراً بارزة من حكم الهكاري والعماديّة إلى حلب وحمص وحماه والساحل وقبل أن تبدأ مرحلة تاريخ الأسرة الجنبلاطية في جبال الشوف اللبنانية. وأقول، مرّةً أخرى، إنّ ذلك لم يكن ليتاح لأكثر المؤرخين خبرة لو لم يكن الباحث من داخل الأسرة الجنبلاطية والمُناخ المعرفي والثقافي تحديداً – أي امتداداً لتراث رشيد جنبلاط – والد المؤلف – صاحب السيرة البارزة بأهمية حدثانها ومتابعته السياسية اللّصيقة. والراوي الضمني أحياناً، على نحو أو آخر.

جمال الدين جنبلاط

ليس سهلاً اختصار 800 صفحة في 800 كلمة، وعليه أترك للقارئ بل أنصحه أن يقرأ بإمعان هذا السفر التاريخي الممتاز، لطوفان من المعلومات التي لم نكن نعرفها، وللتوثيق العلمي الدقيق، الذي يعطي العمل المكانة العلميّة التي يستحقها. وعليه، أختم هذه المراجعة السريعة بما بدأ به المؤلف من مقدمات، كتب:

«لا أنكر أن اختياري لتاريخ الأسرة الجنبلاطية، موضوعاً للدراسة، كان استجابة لهوى في النفس. ولا أنكر أيضاً أن ذلك الهوى وليد عصبية لا وليد تعصّب….حين كنت أستمع وأنا في مقتبل العمر إلى ما رواه المرحوم والدي وآخرون من أفراد عائلتي، كانت تنتابني مشاعر شتّى يتداخل فيها الفرح والاعتزاز والخوف والدهشة والفضول المعرفي الذي كان له بعض الأثر في التخصص الجامعي واختياري لمادة التاريخ. أذهلني وأنا أطّلع على تاريخ الأسرة الجنبلاطية ما أدّته من أدوار كان لها تأثيرها في منطقة الشرق الأدنى على مدى قرون عدّة. وهي أدوار يمكن ربطها بجملة من العوامل أهمُّها: بروز زعماء ذوي قدرات هائلة أنجبتهم تلك الأسرة والتلازم الدائم بين السياسة والحرب، امتياز الدروز بكونهم طائفة محاربة، واستمرارية الزعامة الجنبلاطية باعتبارها ملازمة للكيانية التوحيدية الدرزية، المتغيرات السياسية والعسكرية الناتجة عن الأحداث التي عصفت بمنطقة الشرق الأدنى….وهنا يبرز تساؤل منهجي: ما الجديد في هذا المؤلَّف على صعيد التأريخ للأسرة الجنبلاطية؟ ذلك أنّ الدراسات السابقة اقتصر كل منها على دراسة شخصية واحدة من شخصيات تلك الأسرة كالدراسات التي تناولت كلاً من الشيخ بشير قاسم جنبلاط وسعيد بك جنبلاط والمعلّم كمال جنبلاط…. أمّا هذا المؤلَّف فإنه يضمّ بين دفتيه دراسة جامعة شاملة للأسرة الجنبلاطية وزعمائها منذ مهد عهدها بالحكم… ليست الدراسة سجّلاً لأحداث وسيراً لأشخاص على الرّغم من كون ذلك يشكل بعضاً من جوانبها. بل هي مرآة تعكس الواقع بكل جوانبه من خلال تصويره ونقله نقلاً لا تفوته التفاصيل والجزئيات المتعلّقة بالحياة اليومية…..يمكن القول إنَّ هذا المؤلف يشكل مرجعية وحيدة من حيث طبيعته ومادته وموضوعه، هي خطوة أولى يؤمل أن تكملها وتعقبها على هذا الصعيد خطوات لاحقة يخطوها ذوو الباع الطويل من الباحثين والمؤرخين…..» (من مقدمة العمل، ص 7-12)

هكذا يفتتح جمال الدين جنبلاط ثَبْتَهُ التاريخيّ المميّز، مرجعاً ثرّاً لا غنى عنه لفهم تعقيدات السياسة والحرب في لبنان والمنطقة.

طارق آل ناصر الدين

الشعرُ حياةٌ لحياة، ظِلٌ أزليٌّ يحمي شمس الرؤيا، ويحوِّل صحراء اللغة إلى واحات. هكذا تحت عنوان: أنا والشعر، في مُقَدَّمة كتاب: «شهاداتٌ فيه ومختاراتٌ من شعره» كتب الشاعر طارق آل ناصر الدين مُفصحاً عن ذاته الأدبية بصدق، بما لا يستطيع غيره إدراكه أو التعبير عنه بنقاء «لم يجدني الشعر ضالاً فهداني أو يتيماً فآوى، بل كان قَدري أن أُولد في (بيت الشعر).. والدي نديم الأديب، والعالم اللُّغَوي، والجدّ أمين من كبار شعراء النهضة وعلمائها، ربياني طفلاً وزرعا في طفولتي جناحين: العربية والعروبة»: شاعر غزير الإنتاج، يكتب الشعر بجميع أنواعه الموزونة والحرّة، ويكتب المحكية، والزجل والنثر، إلّا أنه كان يربأ بنفسه في آن تقديم تنازل لشاعر أو رشوةٍ لناقدٍ أو هوية جديدة لمحتل. كان يرى أن الشاعر لا يستطيع تطوير نفسه وشعره وفكره وثقافته خارج انتمائه، وخارج هموم أمته، ولذلك كان يقاوم الحداثة الوافدة بالحداثة المقيمة، ويقاوم التغريب بالتعريب!!
عشق المنابر والخطابة والغناء كما يقول: «لأنّه من أمةٍ ما زال قرآنها يُرتّل ترتيلا، وما زال جرسُ كنيستها يَسْبقها إلى الصلاة». آمن بالحداثة إيمانه بالشعر نفسه، بدأ كتابة شعر التفعيلة (الحر) منذ الستينيّات. وحين بدأت الهجمة الثقافية الغربية تحاول تدمير اللغة والهوية، رَجَعَ إلى التراث راضياً مرضياً، فالمهم كما يقول: أن تبقى اللغة ليجري تحديثُها، والحداثة عنده تبدأ بالذات قبل الموضوع، وهي تُعمِّق الانتماء ولا تستبدله، ولا تعني استيراد الأعمال الأدبية الأجنبية وترجمتها، وتسمية ما نفعله أدباً حديثاً، ما زال الشعر عنده أقصى ما تصل إليه اللغة، وما زالت اللغة أقصى ما يصل إليه الوجدان.

نبذة عن الشاعر طارق آل ناصر الدين
الشاعر طارق آل ناصر الدين

الولادة والنشأة
وُلِد في كفر متى من جبل لبنان عام 1943، وينتسب إلى عائلة الأمراء التنوخيين. تلقّى علومه الابتدائية والمتوسطة في مدرسة «الداودية» في «اْعبيه» وأكمل دراسته الثانوية في كلية المقاصد، بيروت. في الثانية عشرة من عمره ترأس الجمعية الخطابية في المدرسة الداودية، نظراً إلى تفوقه اللافت في الخطابة، والأدب والشعر. وفاز عام دخوله كلية المقاصد بالمرتبة الأولى في مباريات الشعر والخطابة.

الأنشطة الوطنية والأدبية
من بوابة «فاطمة» في أقاصي الجنوب، إلى «وادي خالد» في أبعد شمال الوطن، وقف الشاعر طارق آل ناصر الدين على منابر المقاتلين والصامدين داعيةً متطوعاً من أجل وحدة الوطن وعروبته وسلامه الداخلي… مئات الأمسيات الشعرية، مئات المحاضرات والندوات والمهرجانات… وأكثر من مرّة تعرّض الشاعر لمحاولات اغتيال.

مؤلفات الشاعر
له ستة دواوين شعرية مطبوعة هي:
1- العائد من كلّ الأشياء.
2- قصائد مؤمنة.
3- تابعوا موتنا.
4- أماكن الروح.
5- حبٌ وحب.

أنشطة متنوّعة
‌أ- مستشار ثقافي للمؤتمر الشعبي اللبناني.
‌ب- مستشار الحركة الثقافية في لبنان.
‌ج- مستشار في منتدى «شهريار» الثقافي.
‌د- رئيس «جمعية أبناء العربية».
‌ه- من مؤسسي «بيت الشعر».
ولكي نعرف جيداً قيمة شعر طارق آل ناصر الدين، ومكانَتَهُ بين الشعراء، فهو كما وصفه أمين عام اتحاد الكتّاب اللبنانيين د. وجيه فانوس: يتعملق شعراً بموضوعات وقضايا ورؤًى وفنون بناءٍ وتشكّلٍ بين ما يمكن اعتباره من الأساسيات العامة العظمى في العيش الإنسانيّ، وبين ما يمكن النظر إليه على أنه من الخصوصيات المرتبطة بالحضور الذاتي، بيد أن كل هذا لا يصدر في شعر هذا الشاعر إلّا بعمق رؤيوي، جمالي إبداعي، ولغةٍ صافيةٍ رائعة تراعي مناحي المعاصرة، ولا تخون جذور الأصالة، أدخل الشعر في نسيج السياسة الوطنية والقومية في آن:

صُوفيُّ شعرٍ بِرُوحِ الحَرْفِ ممتزِجُ مصنَّفٌ فيه من أَهلِ الكفايات

في شمولية شعره من الوطني إلى العاطفي إلى الاجتماعي ما جعل منه حالةً ناضجة في موسم المحل الشعري… هذا الممسك بالقلم، بالريشة بالوتر، بالإزميل، يتعاطى الكلمة خلقاً، لوناً، نغماً نحتاً يسكب في عروقها نسغ دمه:

عَرَفَتْهُ أَرضُ الشام فهو منارُ والشعرُ من فمِهِ حُلَى وشِفارُ
فإذا أَرادَ سَبَا الحِسَانَ قريضُهُ أو ثارَ شَبَّتْ في الحروفِ النارُ
هذا أمير الشعر، مِنبرنا له ولشعره فلتخشع الأبصار

جَمَعَ الفكر والفلسفة في شعره، شأنه شأن المصلحين الكبار، متناولاً مشاكل الفردِ والمجتمع والدولة، ولم يترك حالةً ظالمة إلا وتدخَّل بشعره الحر، لأنه يعتبر ذاته معنياً بقضايا التحرر:

من أين جئنا من التاريخ من غدنا من طُهر أمٍ ومن إبداع أجدادِ
وَجَوَّعُونا وما جاعَتْ إرادتنا خبزُ الكرامة قد يُغني عن الزادِ
هي العروبة آختنا على قَسَم وَرِثْتُهُ من أبي إرثاً لأولادي
والدَعْشُ والفَحْشُ والبَطْشُ المُبرمَجُ هل من صُنعِ رَبِّكِ أو من ربِّ أَحقادِ
فلا عليُّ يَرْضاهُ ولا عُمَرُ سيفانِ للحق ما كانا بأضداد
لبنانُ ماذا جَرَى ماذا أرى، وغداً ماذا أقولُ لأبنائي وأحفادي
فَكَيْفَ يحكمُ لبنانَ الفسادُ وقد أعطى العروبة يوماً خَيْرَ روَّادِ
اليازجيان والشدياقُ أعمدةٌ حَمَتْ رسالةَ أهلِ الضادِ بالضادِ

في أوائل الخمسينيات دخل جمال عبد الناصر إلى حياة الشاعر طارق آل ناصر الدين، مُلهِماً ومثالاً فأصبح وما زال مِحور قصائده الوطنية، يومها صرّح: أن فلسطين والوحدة والتقدم والعدالة أصبحت كل أحلامه:

الثورة الأم مُذْ أعطيتها اللقبا لم تَنْسَلِخْ عنكَ يا إبناً لها وأبا
أَلَذُّ من عُمْرِكَ الدامي نهايتهُ وقد كَتَبْتَ بها أَغلى الذي كُتِبا
لمن تَرَكْتَ ملاييناً، على غدِها حَفَرْتَ قلبَكَ مجروحاً ومضطربا
ويسترد صَلِيلُ السيفِ نشوتَهُ وتُبْصِرُ النجمَ من أقدامِكَ اقتربا
صَلُّوا على القبر يُنبِتُ أَلفَ عاصِفةٍ ويستحيلُ به دمعُ الأسى لهبا
أين الشعاراتُ؟ أين المالئون بها الدنيا، لَكَم زوَّروا التاريخ والكُتبا
فلا اليسارُ يساراً في مصائبنا ولا اليمين يلبي الحق إن طُلِبا…

تقرَأُهُ، تُحِسُّ به في أعلى شجرة الإبداع، خُلِق عبقريَّ فنٍ، تتسقَّطُ عليه الرؤى صوراً من نقاء الروح، تغزلُها النفس قطراتٍ من مسك وعَنْبَر، لأنّ الشعر لديه لا يحتملُ، خصوصاً في الغزليات والوطنيات إلّا التصديق مع المُصدِّقين، إنّه أمير شعراء العروبة، حقّاً، يجري ومن الصعب أن يُجرى معه.

قرأْتُكَ شاعراً… أدباً وفكراً فأدهشني تَفَوُّقَكَ الكبيرُ
فَأَنْتَ بِمُلْهَمٍ سَطَعَتْ رُؤاهُ فمـا لَكَ طارقٌ أحَدٌ نَظِيرُ
على سَنَنِ الأُلَى بَدَعُوا فَصَاغوا قلائدَ (1) نَسْجُها ذَهَبٌ نَثِيرُ (2)
أميرُ أَصَالةٍ وَوَفًا وَصِدْقٍ فَضَائِلُ زَانَها عِلْمٌ غَزيرُ
لَكَ الرَجَحُ المُعَلَّى بغِيرِ فَنّ تَدَارَسَهُ (3) وَأَنْتَ به خَبيرُ
فَأَرْقَى ما يُرى الإنسانُ حُرًّا له حُلُمٌ وَعَقْلٌ مُسْتَنيرُ

 

الشاعر سعيد عقل

ومن أجمل وأروع ما كتب، قصيدتهُ: «دمعة على البردوني» في الثامن من أيلول عام 2011 في ذكرى الشاعر سعيد عقل، قصيدة وقف لها الحاضرون، وصفقوا طويلاً، نقتطف منها هذه الأبيات:

جَفَّتْ ليالٍ لنا ظلَّتْ لياليها… مخضرةً ترتوي منها وترويها
وكلَّما خَمَدَ الحِمرُ العتيقُ بنا توهج الجمرُ في فينيق ماضيها
يا للحبيبةِ كم أحبابها رحلوا وراسياتٌ كما الدنيا رواسيها
غاوون هِمنا بوديان الجمال وما قلناهُ نِلْناهُ، واختالَ الغوى تيها
يا زَحْلُ شبنا وما تِبْنا، ومن عَلَقتْ عليه جَمْرَةُ شِعْرٍ كَيفَ يطفيها
فذكريات الصِبا صارت أماكنُنا ودندناتُ الهوى صارتْ مقاهيها
جئنا إليها بشكوانا وقد سَمِعَتْ وكم غَفِلْنا، ولم نسمع شكاويها
هي المدينةُ ظَلَّ النهرُ يحملها حتى تلاشتْ وَحَلَّتْ روحُهُ فيها
فزحْلَةُ الحسنُ، رَبُّ الحُسْنِ توَّجها مليكةً والبوادي من جواريها
إيماءةٌ.. فملوكُ الأرضِ زاحفةٌ وهي التي أحْصَنَتْ، سبحانَ باريها
وزحلةُ اللغةُ الفُصحى وما نَطَقَتْ إلا وطأطأ شعري في معانيها
تأتي القوافي إليها وهي طائِعَةٌ وكيف لا، وقوافيها دواليها
فيها معالِفَةٌ دان الزمانُ لهم فيها السعيد غَوى فيها ليغويها
همُ النجومُ وليلُ الوحي مُنبسطٌ هُمُ الكلامُ متى السُمّار ترويها
يا بُحتريُّ تأكَّدْ إنّها فلكُ عالٍ، وأنَّ سماءً رُكِّبَتْ فيه
قِيلَ العجائبُ سَبْعٌ مَنْ يُصَنِّفُها وزحلةُ أينَ؟ إن الله بانيها
هنا أسُودٌ وغزلانٌ تعيش معاً وتستقي الحُبَّ من يُنبوع ساقيها
فالحبُّ مهنتها والشعرُ مهنتنا بالروح بالدم ها جئنا نلاقيها
وليس يحمي حماها غير عاشقها فإن تهاونَ، فالعذراءُ تحميها

 


المراجع:

1. قصائد لا تُنسى لنفاستها.
2. تَدَارَسَهُ: تتدارسُهُ.
3. المنثور “كلامه درٌ نثير.

مقاومة دروز الأرض المحتلة لقوانين التجنيد الإلزامي الإسرئيلية

«ظهرت البوادر الأولى لمعارضة قرار فرض التجنيد الإلزامي على الدروز مباشرة بعد صدوره في بداية سنة 1956، وخصوصاً عندما بدأ قائد وحدة الأقليات حملته في إسكات أصوات المعارضين التي ارتفعت في كل القرى الدرزية، كما أكد تقرير الحاكم العسكري في الشمال في 26 كانون الثاني 1956، أي بعد ثلاثة أسابيع من سريان القانون.
أبرزت نقارير الحاكم العسكري في الشمال دور الشيخ فرهود قاسم فرهود (1911-2003) أحد أبرز مشايخ الدين في الجليل الذي لم يترك مناسبة من مناسبات اجتماعات مشايخ الدروز من دون أن يرفع صوته ضد فرض القانون….وبعد أيام أرسل الشيخ فرهود عريضة موقعة من 42 شيخاً إلى رئيس الدولة طالب فيها بإلغاء القانون المفروض على الدروز. وفي نيسان من تلك السنة بادر الشيخ فرهود إلى عقد اجتماع عام في مقام الخضر في كفر ياسيف بهدف إعلان موقف موحد ضد التجنيد وعلى الرغم من الضغوط التي مارستها السلطات الإسرائيلية على الشيخ أمين طريف (الرئيس الروحي للطائفة الدرزية في فلسطين يومذاك) لإلغاء الاجتماع وإقفال باب المقام، فإن المجتمعين نجحوا في عقده وإصدار بيان مشترك دعوا فيه السلطات الإسرائيلية إلى التراجع عن قرارها. زد على ذلك، وجّه المجتمعون إنذاراً بأنهم سيدعون إلى إضراب في المدارس وإلغاء احتفالات النبي شعيب في حال رفضت السلطات الاستجابة، ثم هددوا بسحب اعترافهم بالقيادة الروحية إذا ما أحجمت عن الوقوف إلى جانب رافضي الخدمة العسكرية (1).
وفي إحدى الرسائل التي وقعها 55 من رجالات الدين والشبّان بعثوا بها إلى وزير الأديان وإلى رؤساء الطائفة، أعلن الموقعون يوم الاحتفالات في مقام النبي شعيب 25 نيسان يوم حداد (2).وفي 22 آذار توجه المحامي نمر الهوّاري باسم 16 شاباً درزيا من رافضي التجنيد في مدينة شفا عمرو إلى رئيس الحكومة برسالة مفصّلة شدد فيها على التالي: 1- يعتبر الدروز أنفسهم أبناء الأقلية العربية، وما دام لم يُدعَ أبناء هذه الأقلية إلى الخدمة العسكرية، فيجب عدم الفصل بينهم وبين وبين الدروز في الدعوة إلى الخدمة العسكرية. 2- ليس ثمة مبرر لتغيير كانتهم من متطوعين وتحويلهم إلى مجنّدين إلزاميين….يعتبر فرض الخدمة اإجبارية على الدروز، بالاستناد إلى طلب تقدّم به من لا يمثلونه، عملاً استبدادياً.
ونتيجة تعاظم حركة الرفض بين الشباب الدروز لجأ الحاكم العسكري في الشمال إلى الطريقة التي اتبعها أمنون يناي في سنة 1953 في الاستعانة بوجهاء الطائفة لكي يوزعوا أوامر التجنيد في القرى. ففي قرية يكا على سبيل المثال رفض 28 شاباً من أصل 93 استلام الأوامر، فاقترح الحاكم العسكري في الشمال معالجة حالة الرفض في يركا قبل انتشارها في القرى الأخرىعن طريق استخدام الشرطة ضد الرافضين. وفي مواجهة هذا الرفض طلب نائب رئيس أركان الجيش من الحاكم العسكري في الشمال عقد جلة في 7 آذار 1956 لأعضاء لجنة التنسيق العسكري ضمّت بالإضافة إلى الحاكم العسكري في الشمال ممثلين عن الشاباك والشرطة وقائد وحدة الأقليات. وبحسب المعطيات التي عرضها مكتب التجنيد أمام هذه اللجنة لم يوافق سوى 28% من المطلوبين للخدمة الإجبارية على تسلّم أوامر التجنيد، إذ رفض 291 شاباً من أصل 374 مطلوباً للخدمة العسكرية (146 شاباً من أصل 197 مطلوباً في قرى الجلي، و145 شاباً من 177 في قرى الكرمل) (3).
في ضوء هذه المعطيات، طلبت لجنة التنسيق اللوائية من نائب رئيس الأركان أن يصدر أمراً إلى مكاتب التجنيد في طبريا وحيفا يقضي باستخدام قوة الشرطة ضد رافضي التجنيد. وعلى الرغم من اعتقال العديد من الشبّان وفتح ملفات جنائية ضدهم، فإن عدد الرافضين لم يتناقص كثيراً، إذ مثل في مكتب التجنيد في حيفا 60 شاباً فحسب من أصل 141 مطلوباً من قرى الكرمل، ومثل في مكتب التجنيد في طبريا 74 شاباً من اصل 240 مطلوباً من قرى الجليل، وهو ما دفع لجنة التنسيق اللوائية إلى الطلب مجدداً من السلطات العسكرية تقديم المعارضين للمحاكمات وجلب الرافضين بالقوة إلى مكاتب التجنيد. ونتيجة هذا الرفض، عقد أعضاء هذه اللجنة جلسة ثانية، اعترف فيها ممثل الشاباك بفشل الإجراءات البوليسية في وقف حالة الرفض، وأشار أعضاء آخرون في اللجنة إلأى أن تدخل بعض وجهاء القرى وخصوصاً في دالية الكرمل وعسفيا وبيت جن كان محدوداً جداً.» (4) (ص 282-285)
هذه صفحة واحدة من صفحات مقاومة دروز الأرض المحتلة لقوانين التجنيد الإسرائيلية، ويمكن متابعتها وسواها في عمل المرحوم قيس فرّو المهم.


المراجع:

  1. أرشيف الجيش الإسرائيلي، ملف 72\70\752 تقرير نائب الحاكم العسكري في الشمال
  2. أرشيف الجيش، التقرير نفسه،
  3. أرشيف الجيش، الرقم نفسه، تقرير هيئة الأركان بشأن تجنيد الدروز، 11 آذار\مارس، 1956.
  4. أرشيف الجيش، الملف نفسه، ملخص جلسة لجنة التنسيق بشأن التجنيد الإجباري للدروز، 22 آذار\مارس، 1956

فيروس كورونا بين العدوى والعلاج

الهمُّ الأساسيُّ الوجوديّ للناس في هذه الأيام هو الصحَّة:

جائحة الكورونا وتأثيرها على نمط العيش، والواقع الاقتصادي المتردي، بالإضافة إلى كلفة الفاتورة الصحيّة من استشفاء وأدوية.
القطاع الاستشفائي الخاص والرّسمي يئن تحت وطأة فيروس الكورونا وغلاء المستلزمات الطبية والمعدات والأدوية التي يتم استيرادها من الخارج بالعملة الصعبة وعدم قدرة الهيئات الضامنة الرسمية والخاصة على تسديد ديونها للمستشفيات التي بدأت تُقفل بعض أقسامها وتعطي إجازات قسرية للموظفين والطاقم التمريضي وبعضها يهدّد بالإغلاق.
صعوبة استيراد الأدوية مثل السابق والتهديد برفع الدعم من مصرف لبنان وتوفير العملة الصعبة يدفع الوكلاء إلى عدم استيراد بعض أنواع الأدوية وتقليل كميات أخرى، أو تخزينها في المستودعات حتى ارتفاع أسعارها، لذلك نجد في الصيدليات مثلاً علبة واحدة من الدواء، والمرضى يتهافتون على شراء وتخزين الدواء خوفاً من انقطاعه أو غلاء سعره. بالنسبة إلى الاستشفاء حدِّث ولا حرج.
الخوف من الكورونا، والمستشفيات مُرهقة غير قادرة على تقديم خدماتها للمرضى كما من قبل. الكثير من المستلزمات الطبية بدأت تنفذ من الأسواق وغير متوفّرة، والنسبة المتوجّبة على المريض تبلغ الملايين من الليرات غير المتوفّرة لديه.
لذلك بدأنا نشهد حالات متقدّمة من المرض بسبب عدم علاج هذه الحالات في بداياتها. في الخلاصة. يجب إيلاء الصحة الاهتمام الأكبر.
– الإصلاح في وزارة الصحة وتعديل استراتيجية العمل أصبح حتميًّا أكثر من أي وقت مضى في قطاع الاستشفاء.
– تفعيل وتجهيز المستشفيات الحكومية، مع شبكة مستوصفات حكومية تابعة لها مناطقياً او جغرافياً.
– اعتماد سياسة مختلفة مع المستشفيات الخاصة لجهة الموازانات ودفعها كسِلَفْ مثل الضمان الاجتماعي مع مراقبة جديّة.
– إنشاء المختبر المركزي أصبح أكثر من ضروري.
– اعتماد سياسة جديدة في الشراء العام، وإجراء مناقصة عامة واحدة للمستلزمات الطبية والأدوية لجميع الجهات الرسمية الضامنة من عسكرية ومدنية.
– مناقصة لجميع المستوصفات والمستشفيات الحكومية.
– تشجيع الصناعة الوطنية للدواء.
– إعادة تنطيم الخدمات الصحية خارج المستشفيات (مراكز رعاية صحية أولية ـ مستوصفات ـ …
– البطاقة الصحية.
– تفعيل الهيئة الوطنية لسلامة الغذاء والدواء.
– تفعيل الطب الوقائي.
– هذه بعض الاقتراحات هي جزء من كل.


آخر الدراسات العلمية المختلفة أثبتت التالي:

– إنّ المصابين بفيروس الكورونا يكتسبون مناعة ضد الإصابة مرة ثانية مبدئياً، ولكن بعض الحالات ظهرت في عدة بلدان لدى مرضى أصيبوا سابقاً بالكورونا وتعافَوا أو أصيبوا مرّة ثانية ولكن نسبة الأعراض المرضية كانت أخف بكثير.
– أكثر اللقاحات والتي تخضع للمرحلة الثالثة من التجارب السريرية ستكون جاهزة في التداول في منتصف العام المقبل 2021.
– إنّ الكورونا سوف يصبح مرضاً فيروسياً دائماً ويجب التعايش معه وهو ليس مرضاً موسمياً لا يخضع للفصول في السنة.
– ما زالت مفاهيم الفيزيولوجيا المرضية Pathphysiology وآلية انتشار المرض في الجسم والأعراض تتغير باستمرار مع الاكتشافات والأبحاث الجديدة التي تقوم بها أحدث المختبرات في العالم،
وفي النهاية أسهل وأرخص العلاج «الوقاية»:
1) أقلّه لبس الكمامة،
2) التباعد الاجتماعي،
3) غسل اليدين باستمرار،
4) التصرف في المجتمع على اعتبار أنك المعافى، وكل المحيطين بك مصابين بالفيروس، وفي المنزل على اعتبار أنك المصاب أمّا الباقون فأصحّاء.


الكورونا:

يُعرف «كوفيد – 19» بأنّه مرض يضرب الرئتين بالدرجة الأولى، ويتعافى معظم المصابين بعد بضعة أسابيع من التقاط العدوى. إلّا أنّ البعض، وحتى أولئك الذين عانوا من إصابة طفيفة به، يستمرون بالشعور بأعراضه بعد تعافيهم.
أعراض مستمرة:
يعتبر مصابو «كورونا المستجد» الكبار في السنّ وأولئك الذين يعانون من مشكلات صحية خطرة، الأكثر عرضة لاستمرار الأعراض. أمّا أبرز تلك الأعراض التي لا تختفي حتّى بعد التعافي، فهي: الإرهاق، والسعال، وضيق النّفس، وألم الرأس وألم المفاصل.

ولكنّ فيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19)، قادرٌ أيضاً على إلحاق الضرر بأعضاء أخرى، ما قد يؤدّي إلى زيادة خطر الإصابة بأمراضٍ طويلة الأمد، كما يضرب هذا الفيروس المستجدّ أعضاء أخرى في الجسم؛ أبرزها:
القلب: حيث أنّه يتسبّب بضرر دائم في عضلة القلب.
الدماغ: قد يؤدّي «كوفيد – 19» إلى جلطات دماغية ونوبات صرع، التي يمكن أن تسبّب الشلل المؤقّت. كما يزيد هذا الفيروس احتمال إصابة الإنسان بمرضي «باركينسون» و«ألزهايمر».

الرئتان: يتسبّب نوع الالتهاب الرئوي المرتبط بفيروس كورونا المستجد في معظم الحالات بمشكلة طويلة الأمد في الحويصلات الهوائية في الرئتين تخلّف تشوّهاً في الأنسجة، يتسبّب بدوره بمشكلات تنفسية دائمة.
الأوعية الدموية: يؤدّي إلى زيادة خطر تخثّر الدم ومشكلات في الأوعية الدموية. وتسبّب تخثّرات الدمّ الكبيرة ذبحات قلبية وجلطات دماغية كما أنّه قد يساهم في إضعاف الأوعية الدموية، ويسبّب بالتالي مشكلات دائمة في الكبد والكلى.


مشكلات المزاج والإرهاق

الاكتئاب والإرهاق، ويحتاج الناس الذين يعانون من أعراض شديدة نتيجة الإصابة بـ«كوفيد – 19» إلى علاج في وحدة العناية المركّزة في المستشفى، وإلى مساعدات تقنية أبرزها أجهزة التنفّس الصناعية. ومرور الإنسان بهذه التجربة كفيل وحده بزيادة احتمال الإصابة باضطراب الكرب التالي للصدمة والاكتئاب والقلق. هذا الاضطراب المعقّد الذي يُشعر المرء بالتعب الشديد القابل للتفاقم، ويؤثر على النشاط النفسي والجسدي، والأخطر أنّ حالة المريض المصاب به لا تتحسّن بعد الرّاحة.

 


برنامج التلقيح العالمي

تقود اليونيسف الجهود لشراء وتوريد لقاحات كوفيد-19 في عملية قد تكون أكبر وأسرع عمليات شراء وتوريد اللقاحات في العالم، كجزء من خطة التلقيح العالمية الخاصة بـ مرفق الوصول العالمي إلى لقاحات كوفيد-19 (مرفق COVAX) بقيادة تحالف اللقاحات Gavi.

مع ظهور العديد من اللقاحات المحتملة الواعدة، ستقود اليونيسف، بالتعاون مع الصندوق المتجدد التابع لمنظمة الصحة للبلدان الأمريكية PAHO، الجهود لشراء وتوريد جرعات لقاحات كوفيد-19 نيابة عن مرفق COVAX في 92 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل سيتم دعم مشترياتها من اللقاح من خلال آلية Gavi COVAX AMC، بالإضافة إلى مخزون احتياطي لحالات الطوارئ الإنسانية. كما ستعمل كمنسق مشتريات لدعم مشتريات 80 بلداً من البلدان مرتفعة الدخل التي أعربت عن نيتها في المشاركة في مرفق COVAX وستموِّل ذلك من موازناتها العامة.
ستضطلع اليونيسف بهذه الجهود بالتعاون الوثيق مع كل من: منظمة الصحة العالمية، وتحالف اللقاحات Gavi، والتحالف من أجل ابتكارات التأهب للأوبئة CEPI، ومنظمة الصحة للبلدان الأمريكية PAHO، والبنك الدولي، ومؤسسة بيل ومليندا جيتس، وشركاء آخرين. إن مرفق COVAX مفتوح لجميع البلدان كي لا يتخلف أي بلد عن الوصول إلى لقاح كوفيد-19 المنتظر.

اليونيسف أكبر مشتر للقاحات في العالم، حيث تشتري أكثر من ملياري جرعة لقاح سنوياً لأجل التحصينات الدورية والاستجابة للفاشيات نيابة عن حوالي 100 دولة. وهي الشريك الرئيسي للمشتريات لتحالف اللقاحات Gavi، الذي قدّم على مدار العشرين عاماً الماضية لقاحات منقذة للحياة لأكثر من 760 مليون طفل ومنع بذلك أكثر من 13 مليون وفاة. ستستخدم اليونيسف خبرتها في تشكيل السوق وفي المشتريات لتنسيق شراء وتوريد لقاحات كوفيد-19 لمرفق COVAX. ومن شأن ذلك لوحده مضاعفة الحجم الإجمالي لمشتريات الوكالة من اللقاحات في عام 2021.

أظهر تقييم السوق الذي أجرته اليونيسف، والذي تم تطويره من خلال تجميع المعلومات المقدمة من مصنعي اللقاحات والبيانات المتاحة للعموم، أن المصنعين على استعداد لإنتاج كميات غير مسبوقة من اللقاحات في مجملها خلال العامين القادمين. ومع ذلك، فقد أشار المصنعون إلى أن الاستثمارات لدعم مثل هذا الإنتاج الواسع النطاق للجرعات ستعتمد بشكل كبير، على أمور عدّة منها مدى نجاح التجارب السريرية وإبرام اتفاقيات شراء مسبقة وتأكيد التمويل وتذليل العقبات القانونية وتلك المتعلقة بالتسجيل.
إن إطار تخصيص COVAX (الذي هو قيد التطوير حالياً من قبل منظمة الصحة العالمية) سيوفر التوجيهات بشأن كيف وأين ستقوم اليونيسف ومنظمة الصحة للبلدان الأمريكية وغيرهم من المشترين الذين يعملون نيابة عن البلدان المشاركة بتزويد لقاحات كوفيد-19 التي يقوم المرفق بتأمينها. من المتوقع توسيع نطاق مخصصات الجرعات الأولية لتمكين البلدان من تلقيح المختصين الصحيين والاجتماعيين، ثم تليها شرائح لاحقة من جرعات اللقاح ستمكن البلدان المشاركة من تلقيح السكان الأشد عرضة للخطر جراء الإصابة بكوفيد-19.
بدأت اليونيسف وتحالف اللقاحات ومنظمة الصحة العالمية ومنظمة الصحة للبلدان الأمريكية أعمالاً تحضيرية حاسمة تتعلق باستعداد البلدان للقاح وذلك بالتعاون مع الشركاء والحكومات الوطنية، ومن هذه الأعمال التحضيرية:
– العمل مع مصنّعي الأجهزة للتخطيط لتوافر معدات الحقن الآمن ومستلزمات سلسلة التبريد للقاح؛ تطوير توجيهات بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية وكذلك دورات تدريبية لدعم سياسات التلقيح والتعامل المناسب مع اللقاحات وتخزينها وتوزيعها؛
– العمل مع الشركات المصنّعة للتوصل لحلول فيما يتعلق بالشحن والخدمات اللوجستية لإيصال جرعات اللقاح إلى البلدان بأسرع ما يمكن وبأمان بمجرد أن تتوفر؛
– دعم البلدان في التخطيط لإيصال اللقاح، بما في ذلك عبر استهداف الأشخاص الأكثر عرضة للخطر والنقل والتخزين في نقطة تقديم الخدمة؛
– تكثيف الجهود بالتعاون مع المجتمع المدني والشركاء المحليين الآخرين لضمان أن يكون الناس على دراية جيدة بعملية التلقيح ضد كوفيد-19 ووضع تدابير لتعزيز الثقة والتصدي للمعلومات المضللة حول لقاحات كوفيد-19.


معلومات في موضوع الكوفيد 19:

قال رئيس شركة «سانوفي» الفرنسية أوليفييه بوجيو يوم السبت الواقع في 5 ايلول 2020، إنه من المرجح أن يكون سعر اللقاح المحتمل الذي تطوره شركته لمحاربة فيروس كورونا، أقل من 10 يورو لكل جرعة.
وأضاف بوجيو لراديو «فرانس إنتر»: «السعر لم يحدد بالكامل.. نحن نقيّم تكاليف الإنتاج للأشهر المقبلة.. سيكون أقل من 10 يورو (ما يعادل 11.80 دولار أميركي)».
وصرح بأن ملايين الأشخاص إن لم يكن المليارات يحتاجون اللقاح.

وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد زار في حزيران الماضي أحد مصانع شركة المستحضرات الطبية الفرنسية، حيث ذكرت «سانوفي» حينها أنها ستستثمر 610 ملايين يورو في الأبحاث المتعلقة بتطوير اللقاحات وإنتاجها في البلاد.
وفي تموز الماضي أعلنت شركة «سانوفي» الفرنسية ومنافستها البريطانية «غلاكسو سميثكلاين» أنهما اتفقتا على صفقة بقيمة مليار يورو مع الحكومة الأميركية لتطوير لقاح محتمل ضد فيروس كورونا.

وأخيراً نكرر التأكيد على قراء الضحى، والمواطنين عموماً، بأخذ جائحة الكورونا على محمل الجد والأهمية. على أمل أن تمرّ الشهور القادمة بخير على الجميع.

بكل تواضع كنّا بين اوائل مَن حذّر مِن خطر الفيروس لأننا رأينا خطر إنتشاره السريع اول ما بدأ في الصين وإنتقاله السريع الى اوروبا واميركا.
وبطلب من مرجعياتنا قمنا بتحضير الارشادات الوقائية العلمية التي يتوجب على الناس إتّباعها، كون الوقاية اسهل واخف كلفة من العلاج؛ واقمنا سلسلة محاضرات للاطباء والطواقم الطبية عبر تطبيق زووم على مساحة مناطق الجبل والبقاع وبيروت، واقمنا دورتين تدريبيتين في بحمدون وسبلين على سبل متابعة المحجورين صحياً .

إلا أن وضعنا اليوم هو التالي مع الأسف:

– عدم التزام الناس الارشادات الوقائية ادت الى تفشي الفيروس في كل المناطق ولم بعد محصوراً في منطقة واحدة.
– استهتار الناس ادى الى زيادة عدد المصابين بشكل كبير ليس من القادمين بل من المقيمين.
– ارتفع عدد الوفيات بشكل حاد.
– ارتفع عدد الحالات الحرجة بشكل كبير ادى الى إشغال أكثرية اسرّة العناية الفائقة.
– عدم وجود علاج او لقاح حتى اليوم.
– عدم جهوزية المستشفيات الحكومية والخاصة على نحو كاف لاستقبال المرضى، وخصوصاً الأكثر حرجاً.

يأتي الخطر راهناً من:

– بدء موسم الكريب /الانفلوانزا/ويتزامن مع ازدياد اعداد المصابين بالكورونا.
– الاعراض متشابهة. لا يوجد لقاحات كافية للكريب هذه السنة نظراً لتهافت الناس على اللقاح ولان المصانع مشغولة بانتاج لقاحات للكورونا. الاطباء لن يستطيعوا التمييز بسهولة بين المرضين.
– اعداد الاسرة في المستشفيات محدودة.
– لا يوجد موازنة كافية ولا مستلزمات طبية وادوية بشكل كاف للجميع.
– منذ اليوم يتهافت الناس على تخزين الدواء.
– الاطباء بدأوا بالسفر خارج لبنان وبدأت الاصابات ترتفع في صفوف الطواقم الطبية بشكل كبير.
– وعندما يرى الاطباء ان الناس مستهترة ولا تلتزم بالتعليمات الطبية، فعدد منهم لن يجد بعد ذلك مبرراً للمخاطرة بصحته في التواجد وعلاج مرضى الكورونا. الكثيرون سوف يضعون سلامتهم في المقام الاول بعدما تعبوا واُنهكوا.

الخطر الثالث:

ان الكورونا في حوالي ٨٠ بالمئة منه لا اعراض سريرية له، وحامل الفيروس مع ذلك قادر على العدوى.
والفيروس يؤذي الرئتين بشكل كبير مدى الحياة حتى لو تعافى المرء منه.
اللقاحات المنتظرة ستأتي متأخرة حسب خبراء منظمة الصحة العالمية لن يحصل الجميع في العالم على اللقاح قبل العام 2024 اي بعد اربع سنوات. والأولوية طبعاً للبلدان الغنية والصناعية التي أشترت مسبقاً اللقاح لمواطنيها. ماذا عنا نحن البلد المتعثّر إقتصادياً؟

من هنا ولكي لا يسبب اهمال الوقاية مرض احد افراد العائلة و تصيب العدوى الجميع والعيش يومياً مع مضاعفات الكورونا من ضيق دائم في التنفس والاحساس بنقص الاوكسيجين والهواء/عذاب المريض قوي جدا (مثل دارج نفسو مخطوف).


الحل الاذكى والافضل والارخص كلفة للجميع هو الوقاية:

– لبس الكمامة -غسل اليدين- التباعد الاجتماعي.
– تعامل مع الناس كأنهم مصابون.
– وتعامل مع نفسك كأنك مصاب.
– لا تنقل العدوى لعائلتك.

تذكّر:
– لا علاج حتى اليوم
– لا لقاح حتى اليوم
– لا امكنة شاغرة في العناية الفائقة.
– كلفة العلاج باهظة الثمن في ايام العوز والفقر.

نحن أهل العقل؛ فلنعمل بما يُمليه علينا.

الدافعيّةُ للتَّعلُّم

تُعْتَبر الدافعيّة من الشّروط الأساسيّة التي يتوقف عليها تحقيق الهدف من عملية التعلّم في أي مجال من مجالاته المتعددة، سواءً في تعلُّم أساليب وطرق التفكير، أو تكوين الاتجاهات والقيم أو تعديل بعضِها، أو تحصيل المعلومات والمعارف، أو في أساليب السلوك المكتسبة. وتُعَد الدافعية من مفاهيم علم النفس التربوي التي لا يمكن ملاحظتها بشكل مباشر إلّا من خلال سلوك الأفراد ضمن البيئة التي يعيشون فيها.

ولكن ما هي الدافعيّة؟

يمكننا تعريف الدافعيّة بأنها محرّك أو طاقة هدفُها تمكين الفرد من اختيار أهداف معينة والعمل على تحقيقها، ويمكننا القول بأنها عملية داخلية تَنْشَطُ لدى الفرد وتقوده وتحافظ على فاعلية سلوكه عبر الوقت. كذلك يمكن تعريف الدافعية للتعلم بأنها مجموعة المشاعر التي تدفع المُتَعلم إلى الانخراط في نشاطات التعلُّم التي تؤدي إلى بلوغه الأهداف المنشودة وهي ضرورة أساسية لحدوث التعلُّم، وبدونها لا يحدث التعلم الفعّال، وافضل المواقف التعليمية هي التي تقوم على مراعاة دوافع المتعلّمين وإشعارهم بأهميَّة استثارتها ودفعهم نحو التعلّم ومن هنا يجب أن ترتبطَ الموضوعات بمشكلاتهم ونواحي حياتهم بهدف تحقيق حاجاتهم.

ولهذا فان عملية التعلم وخاصةً على المستوى الإنساني تخضع لعديد من الشروط المميّزة التي تؤثر بشكل فعال على سلوك الفرد في الموقف وأهمُّها التخطيط لعملية التعلم Planning for Learning اذ يُعتبر التخطيط للموقف التعليمي من الشروط الهامة التي يتوقف عليها تحقيق الهدف من عملية التعلم، ويتضمن ذلك مجموعة وظائف منها:
– الحاجة إلى معرفة إمكانيات المتعلم، وخاصةً قبل حدوث التَّعلم وما هو مستواه حالياًّ وما هو المستوى المطلوب الوصول إليه ؟
– ماهي الشروط الأساسية المتطلَّبة في تحقيق تعلّم مهارة أو اكتساب عادة مُعينة، أو تنمية مستوى معيَّن من الأداء ؟
– ماهي المتغيّرات الرئيسة في الموقف التعليمي؟ سواءً المُتغيرات المستقلة وهي مجموعة المثيرات التي سيتعرض لها المتعلِّم، أو العمليات النفسية الوسيطة التي يرتكز عليها أسلوب التعلُّم.
– كيف يمكن تنشيط دافعية المتعلم لكي يبدأ ويستكمل تعلُّم المهارة أو اكتساب العادة ؟
– كيف يمكن توجيه ميول المتعلم واهتماماته حتى يكون السلوك مضبوطاً وموجَّهاً نحو الهدف المُحدد؟
– ماهي أساليب قياس الاستجابات الصادرة عن الفرد المتعلم؟
ويبدو واضحاً أنَّ الحاجة إلى تحقيق هذه الوظائف في أي نظام تعليمي يُعتبر ضرورة لكي يمكن تحقيق تعلّم فعال ويقع عبء ذلك على المعلم وضرورة فهمه لهذه الشروط المختلفة لأنّ معرفة هذه الشروط تمكنه من تحقيق الأهداف المطلوبة من عملية التربية.

ما الذي يؤثر في الدافعية؟

تهدف الدوافع بصفة عامة إلى خفض حالة التوتّر لدى الكائن الحي وتخليصه من حالة عدم التوازن، إذ إن الدافع هو حالة داخلية جسمية أو نفسية لا نلاحظها بل نستنتجها من الاتجاه العام للسلوك الصادر عنها. يؤثر في الدافعية نوعان من الدوافع وهما :
1- الدوافع البيولوجية:
وهي الدوافع التي تنتج عن حاجات جسم الإنسان الفيزيولوجية كالجوع أو العطش أو الراحة أو النوم وتكون على درجة كافية من القوة، فيترتب عليها حالة من عدم التوازن، أو حالة من التوتر الذي ينجم عن هذه الحاجات، و يتّجه السلوك بعدها نحو تحقيق إشباع الحاجة القائمة في وجهة معينة، بدرجة من النشاط تتكافأ ومستوى شدة الحاجة، حتى يتم إرضاؤها بالقدر المناسب، فيتم خفض التوتر والشعور بالارتياح ومن ثم استعادة التوازن.

وهذا النوع من الدوافع لا يتعلمها الفرد أو يكتسبها ولكنها موجودة فيه بالفطرة أي يولد مزوّدًا بها ويظهر بعضها بعد الولادة مباشرة ويتأخر البعض الآخر إلى ما بعد ذلك.

2- الدوافع الاجتماعية:
وهي التي تنتج عن تفاعل الإنسان مع المجتمع الذي يعيش فيه وتأتي نتيجة نمو الفرد واتصالاته بالآخرين واحتكاكه بظروف الحياة العامة وما تقتضيه هذه الظروف مثل الحاجة إلى التقدير الاجتماعي والى النجاح والشعور بالأمن، وتحقيق الإنجازات والتقدم، وغيرها.
وتتبدى أهمية الدافعية من الوجهة التربوية من حيث كونها هدفاً تربوياً في ذاتها، فاستثارة دافعية الطلّاب وتوجيهها وتوليد اهتمامات معينة لديهم، تجعلهم يُقبِلون على ممارسة نشاطات معرفية وعاطفية وحركية خارج نطاق العمل المدرسي وفي حياتهم المستقبلية، وهي من الأهداف التربوية الهامة التي يُنشدها أيُّ نظام تربوي كان.

كما تتبدى أهمية الدافعية من الوجهة التعلُّمية من حيث كونها وسيلة يمكن استخدامها في سبيل إنجاز أهداف تعليمية معينة على نحو فعال، وذلك من خلال اعتبارها أحد العوامل المحدّدة لقدرة الطالب على التحصيل والإنجاز (Gage and Berlinre,r1979)، لأن الدافعية على علاقة بميول الطالب فتُوجِّه انتباهه إلى بعض النشاطات دون أخرى، وهي على علاقة بحاجاته فتجعل من بعض المثيرات معزِّزات تؤثر في سلوكه وتحثّه على المثابرة والعمل بشكل نشيط وفعّال.
وإثارة دافعية التعلّم تمّ وصفها باعتبارها استراتيجية تحتاج فنّاً ومهارة من العلم، ذلك لأن الطلاب قد يأتون إلى المدرسة بمستويات دافعية مختلفه ومتنوعه فمنهم من يملك الدافعية والهمة العالية ومنهم من يملك الدافعية المتوسطة ومنهم من لا يهتم ولا يملك دافعية نحو التعلم.

Happy school teacher gives young schoolgirl a high five after getting a math question correct. The teacher is using flashcards to help the young student.
طرق إثارة دافعية الطلّاب نحو التعلُّم

الاهتمام بإشباع حاجات الطلاب النفسية و نذكر منها :
أ‌ – الحاجة للانتماء والحب: فكل طالب يحتاج للشعور بأنّه محبوب ومرغوب وسط زملائه، ومن هنا دور المعلم حين يبدأ العام الدراسي حيث يعرّفهم بنفسه ويتعرّف على طلابه في الصف الدراسي ويعرّفهم بالمادة التي سيقدمها لهم وأهدافها. كذلك يجب أن ينادي الطلاب بأسمائهم ويتفقد غيابهم وأن يشجعهم على العمل الجماعي التعاوني.

ب – الحاجة للشعور بالأمن والسّلامة: ويتحقق شعور الأمن والسلامة لدى الطلاب من خلال معلّمهم إذ عليه أن يتجنب استخدام الترهيب والتهديد بالرسوب وبخاصة للطالب الضعيف لأن ذلك سيشعره بالقلق ولا يثير دافعيته نحو التعلم بل على العكس وجب على المعلم معرفة نقاط الضعف في طلابه وعلاجها.

ج – مساعدة الطلاب على صياغة أهدافهم والعمل على تحقيقها: من هنا يأتي دور المعلم فعليه أن يكون مرشداً لطلابه ومساعداً في وضع أهدافهم وتذكيرهم الدائم بها ودفعهم لمحاولة تحقيقها دون كلل أو ملل.

د- تجنب الروتين، والتنويع في أساليب عرض المادة الدراسية: فمن العوامل التي تثير انتباه الطلاب التنوع في أساليب وطرائق التدريس والتقليل من استخدام طريقة الإلقاء كطريقة تدريس بل استخدام أساليب عديدة كطريقة المناقشة والتعلم التعاوني والصف المعكوس وغيرها.

هـ – تبسيط المادة العلمية وتوفير فرص النجاح لكافة الطلاب: إذ إنه ينبغي على المعلم أن يحاول جاهداً تبسيط مادة تخصصه للطلاب وأن يقلل من احتمالات الفشل قدر المستطاع، فمثلا أن يعطي الطلاب ذوي الدافعية المنخفضة للتعلم مهامّ يسهل تحقيقها والنجاح بها، أمّا الطلاب ذوو الدافعية المتوسطة والمرتفعة فيعطيهم مهامّ أصعب وفقاً لمستواهم .

و – استخدام «التعزيز الإيجابي» في كل حصّة دراسيّة: فمن العوامل الهامة لتحفيز دافعية الطلاب نحو التعلم هي كثرة تشجيع المعلم لطلابه بصورة مستمرة. والتعزيز الإيجابي نوعان:
مادّي: من خلال كلّ ما هو مادي كالجوائز والأموال .
معنوي: من خلال المدح والثناء وتصفيق الطلاب وغيرها .
وقد أكد الخبراء في المجال التربوي أنّ التعزيز يلعب دوراً مهمًّا في تحفيز الطلاب على التحصيل الدراسي، بل ويساهم في تكوين الطلاب صورة إيجابية تجاه أنفسهم.

أنواع الدافعية

ويمكن تصنيف الدافعية إلى نوعين:
«الدافعية الخارجية»: مصدر إثارتها خارجي كالمعلم أو أولياء الأمور، الأصدقاء أو الإدارة المدرسية وغيرها.
وهنا يُقبِل المتعلم على التعلًّم لإرضاء من حوله وكسب إعجابهم أو حتى من أجل الحصول على الجوائز من المسابقات وخلافه.
«الدافعية الداخلية»: مصدرها داخلي من المتعلم نفسه، إذ يُقبل المتعلم على التعلم لكي يرضى عن ذاته ويحقق ذاته دون أن يكون مدفوعاً من أحد ، فهو يميل لحب المعرفة والرغبة في التعلم وبالتالي فالدوافع الداخليّه للتعلم تعد شرطا من شروط التعلم مدى الحياة والتعلم الذاتي.

وتؤكد التربية الحديثة على أهمية نقل دافعية التعلم من المستوى الخارجي إلى المستوى الداخلي، مع مراعاة تعليم المتعلم كيفية التعلم وذلك منذ نعومة أظافره، في دور الحضانة ورياض الأطفال، وفي هذه الحالة يكون بمقدوره الاستمرار في التعلم الذاتي في المجالات التي تطوّرت لديه، مما يدفعه إلى مواصلة التعلم فيها مدى الحياة.

ختاماً

 يمكن تلخيص وظيفة الدوافع في عملية التعلّم بالنقاط التالية:

  1. توجد علاقة طرديّة بين قوة الدافع والطاقة التي يبذلها الإنسان في سلوكه.
    مثال: « كلما زاد إحساس الفرد بالجوع كلما زاد ما يبذله من الجهد للحصول على الطعام».
  2. وجود دافع هو أمر ضروري لعملية التعلّم وضعف هذا الدافع يؤدي إلى نقص الطاقة التي يبذلها الفرد في ممارسة أوجه النشاط التي تساعده على التعلّم. كلما ارتفع مستوى الطموح لدى الطالب كلما زاد ما يبذله من جهد وطاقة في دراسته، كما أن قوة الدافع تحدد درجة إصراره على الوصول إلى هدفه مهما قابله من صعاب مختلفة.
  3. توجد علاقة عكسية بين قوة الدافع ودرجة إشباعه وبالتالي فإن الدوافع التي يمكن إشباعها بعد فترة زمنية قصيرة لا تصلح لعملية التعلّم. مثال ذلك دافع الجوع الذي ينتهي تأثيره بمجرد تناول الفرد للطعام. أمّا الدوافع التربوية التي تصلح لعملية التعلم فهي تلك الدوافع التي تتحكم في سلوك الفرد والتي لا يمكن إشباعها إلّا بعد فترة زمنية طويلة ومن ثم يستمر الفرد في بذل أقصى طاقته لإشباعها. مثال ذلك، رغبة الطالب في الالتحاق مستقبلاً بكليَّة معينة حتى يُرضي ميوله ورغباته.
  4. لا يوجد دافع بمفرده بمعزل عن باقي الدوافع ولكن الفرد دائمًا مُعرَّض لضغط من عدة دوافع في الوقت نفسه ومعنى هذا أن الفرد لا يتعلم تحت تأثير دافع واحد بل غالباً ما يكون واقعاً تحت تأثير مجموعة من الدوافع.
  5. مبدأ الغرضية: تؤدي الدوافع إلى توجيه السلوك نحو غرض أو هدف معيَّن، حيث ينبغي أن يتبيّن التلميذ حقيقة الغرض ممَّا يتعلّمه، فكلّما كان الغرض واضحاً كلّما أدى ذلك إلى الارتفاع بمستوى الدافع إلى التعلم. فالطالب الذي يدرس مادةً معينة ويعرف جيداً الهدف من وراء دراسته لهذه المادة، عادة ما يكون مستوى الدافع للتعلم لديه مرتفعاً، وهذا يمكّنه من اكتساب الكثير من المعلومات والخبرات بأقل جهد ممكن. وتركز التربية الحديثة على أهمية وجود غرض واضح يدفع التلاميذ نحو التعلم، عن طريق إتاحة الفرصة أمامهم للمشاركة في اختيار الموضوعات والمشكلات والأنشطة التي تتصل بواقع حياتهم، وكذلك اشتراكهم في توزيع المسؤولية وتنفيذ الخطط وتوزيع العمل، وكلّما كان الغرض الذي يسعى إليه المتعلم قابلاً للتحقيق، كلما ازدادت فعالية الغرض وأثره في تحقيق التعلُّم.

مَلحمةُ الكَون

وعندَ الفجرِ
إذ تصحو،
لتعبُدَ
ربّك فيهِ،

وصدرُكَ
نحوَهُ تشرَحْ
بما ضمّ
وما فيهِ،

وقلبُكَ
مخلصاً يفتحْ،
جناحاً
كي يُلاقيهِ،

وعقلُكَ
إذ تجِدْ يسرحْ،
فسِرُّ الكونِ
يُدنيهِ

وكونٌ
لامرِىءٍ فكّرْ،
تبصّر
في أحاجيهِ،

عجائبُ
كيفما ينظرْ،
يقاربها
تناديهِ،

سماواتٌ
بغيرِ مدىً،
يخاطِبُها
فتأتيهِ،

وأنجُمُها
مناراتٌ،
شموعٌ
في حواشيهِ،

محيطاتٌ
تحِفّ بهِ،
ووسْطَ اليمِّ
تبقيهِ،

مجرّاتٌ،
وأنجُمُها ملايينٌ،
تسامِرُهُ،
تواسيهِ،

كواكبُ
قد جرتْ دوماً،
تقارِبُهُ،
تُدانيهِ،

تسبّحُ
خالقَ الأكوانِ
تعبُدُهُ
وترقى في مغانيهِ،

وإنسانٌ
سما عقلاً،
تناهى في معانيهِ،

وطَوعُ
بنانُهِ كونٌ،
يكَيّفُهُ
بما فيهِ،

وسِرُّ صنيعهِ
عِلمٌ،
تبحّرَ
في مراميهِ،

فصار الكون مطواعاً
وعبداً
في أياديهِ،

العدد 32-33