قصص الأمثال
الموت ولا المنع بوجه طقيعان
وهو مثل يضرب للنفور من الخضوع للخسيس ولو كان دون ذلك الموت، ويقابله من الفصيح:” المنيَّة ولا الدنيَّة” . والمنع: الأسر . والمنع بوجه فلان: أي الدخول في ذمته ليحفظ له حياته. طقيعان : لقب يقصد به السخرية والتقليل من الشأن.
والحكاية أنه في إحدى الغزوات التي كانت تتم في المنطقة أيام الدولة العثمانية إذ السلطة غائبة والحكم للأقوى، أغارت مجموعة من فرسان الجبل على بعض القبائل البدوية، وغنموا مواشيهم، فساقوها أمامهم ومشوا لكن رجال القبيلة البدوية سرعان ما جمعوا شتاتهم، ولموا شعثهم، وهيأوا أنفسهم، وانطلقوا في هجوم معاكس استطاعوا به أن يتغلبوا على فرسان الجبل، ويستردوا مواشيهم، وأن يطاردوا الفرسان الذين بوغتوا بالهجوم المعاكس. وكان أن لاحق أحد فرسان البدو فارساً من فرسان الجبل بقصد منعه (أي أسره) واستمرت المطاردة إلى أن وصلا إلى مشارف واد سحيق، ولم يبق أمام الفارس المطارد إلا سبيلان: الاستسلام، أو الاندفاع إلى الوادي بفرسه حيث الموت المحتم، وأدرك الفارس البدوي مأزق خصمه، فاندفع يناديه :
– امنع يا ولد امنع . أي استسلم.
وكانت العادة إذا حدث أمر كهذا أن يطلب المغلوب على أمره الأمان، والدخول في ذمة خصمه . وكان يسأل عن اسم خصمه قبل أن يعلن استسلامه، كي يتأكد من أن هذا الخصم أهل للوفاء بالوعد. وعلى ذلك فقد سأل الفارس الجبلي خصمه البدوي، بعد أن ضاقت به سبل النجاة:
– يا ولد ! بوجه من امنع؟ .
فردّ عليه البدوي ساخراً ومستخفاً بالفارس الجبلي، إذ استطاع أن يأسره أخس الناس :
امنع بوجه طقيعان وعليك الله .
فلما سمع الفارس الجبلي ذلك أدرك مقدار الإهانة التي يوجهها إليه البدوي، فالتفت إليه قائلاً:
– خسيت ! الموت ولا المنع بوجه طقيعان .
ثم وجه فرسه باتجاه الوادي واندفع مسلماً نفسه للموت .
وانخلي له يا هلالة
مثل يضرب في تجاهل الهموم وتناسيها، وقد روى لي أحد الأصدقاء أن المثل كما يسمعه منذ خمسين عاماً يضرب عند استهجانهم لخبر غريب بعيد عن التصديق، غير إنني وقعت على حكاية هذا المثل في كتاب صور فكاهية من الأشعار الحموية لمؤلفه أحمد عكيدي .
وقد وردت قصة هذا المثل حين كان المؤلف يتحدث عن صحافة حماة الفكاهية التي سميت بأسماء تعطي معنى مضحكاً وساخراً ومنها صحيفة “ انخلي يا هلالة “ لصاحبها عبد الرحمن المصري وقد صدر العدد الأول منها يوم الأربعاء 20 تموز عام 1910 ولم تعمّر طويلاً .
والحكاية كما نقلها المؤلف أن أحد الأشخاص سرق في أيام القحط والجفاف والحرب كيساً من الطحين، وكان يعيل أسرة كبيرة، فوقع عليه الاتهام، وطلب إلى المحكمة . فمثل أمام القاضي، فأنكر ما فعله، فطلب منه القاضي أن يحلف اليمين، فسرّ وقال في قلبه : لقد جاء الفرج. فهذه من أبسط الأمور لديه. فأقسم وحلف كاذباً، فبُرِّئ . فعاد إلى البيت مسروراً، فخاطب زوجته وتسمى “هلالة “ وقال: “ إنخلي يا هلالة “، أي إنها قد فرجت. فصار مثلاً شعبياً يضرب لمن يستخف بالأمور، ولا يكترث بأهميتها وعواقبها2.
على أنني وقعت على حكاية هذا المثل في مصدر آخر برواية: “ وانخلي يا أم عامر “ وقد ذكره أحمد تيمور باشا في معجم الأمثال العامية، وقال :
“ أي قد وضح الأمر، ولم يبق سبيل إلى الكتمان وإخفاء الدقيق الذي سرقته فانخلي يا زوجتي وأعجني” .
ويضيف تيمور : “ وفي مثل آخر : “ قالوا لحرامي الدقيق: احلف، قال يا مره انخلي “ أي لا داعي للحلفان ثم توسعوا في معناه، فصاروا يضربونه لمن نال حظاً وتوفيقاً في أموره، داعياً إلى التبسط والتوسع في المعيشة . ويروى “ والله وانخلي3 “ .
وبذلك يتجه المثل إلى التعبير عن الغبطة بالنجاح والتوفيق .
الولد ولد ولو حكم بلد
يضرب هذا المثل في الولد الذي نتوسم فيه النباهة ، فنوكل له ما ليس من شأنه الاهتمام به، فلا يلبث أن يعود إلى طبيعته الطفلية .
وحكاية المثل كما يرويها سلام الراسي، أن والي مصر محمد علي باشا خرج يوماً يتنزه مع بعض حاشيته، فمروا بأولاد يلعبون بالكلل، وكان بينهم ولد يلبس طربوشاً جديداً، فتناوله محمد علي عن رأسه وقال له: “بكم تبيع هذا الطربوش ؟” فقال: “ طربوشي كان سعره عشرين مصرية قبل أن تمسه يدكم الكريمة، أما الآن فقد أصبح في يدكم أغلى من أن يباع بثمن”!
أعجب محمد علي بنباهة الولد، وقال لمن معه : “ هذا الولد ربما صار حاكماً عظيماً” ثم قال له: “ إذا أعطيتك ثمن الطربوش ألف مصرية فماذا تعمل بها؟ “ قال: “أشتري كللاً وألعب مع رفاقي”.
فضحك محمد علي باشا وقال: “الولد ولد ولو حكم البلد “ وجرى كلامه مثلاً تتناقله الألسن1 .
حقيقة الأمر أن محمد علي أخطأ في حكمه على الولد لأنه تصرف على سجيته وبما يلائم عمره وحاجته إلى اللهو والرفاق، ولو أجاب الولد بخلاف ما ذكر كأن يذكر أشياء لا قبل له بها لحقّ عندها القول أنه ليس عاقلاً.
يا مدبر العربان دبر حمارك
يضرب هذا المثل للرجل الذي يحاول تقديم النصح أو المساعدة للآخرين، وهو أحوج الناس لهذه النصيحة أو المساعدة .
وقد عالج المثل الشعبي هذه المسألة في أكثر من مثل ؛ كقولهم “ عجقة وبتطلع ببيت جيرانها كواير” .
وحكاية هذا المثل رواها سلامة عبيد فقال : “ أصل هذا المثل أن بدوياً ذهب يشكو إلى أحد قضاة البدو مظلمة، فأخذ يسأل عن بيت ذلك القاضي، وفي أثناء بحثه صادف شيخاً بدوياً يركب حماراً هزيلاً مقرحاً، فسأله عن بيت القاضي . فقال الشيخ : أنا القاضي. فاستغرب البدوي أن يهتم ذلك القاضي بشؤون العربان، ولا يهتم بحماره، فيتركه هزيلاً مقرحاً “ وقال في نفسه : “ يا مدبر العربان دبر حمارك4“.
ارجع لكارك لوّلي فاروعتك والمشحرة5
وهو مثل يضرب للرجل الذي يعزّ بعد ذلّ، ثم يذلّ ثانية . أو للرجل الذي يرتكب حماقة تفقده ما وصل إليه من شأن رفيع، فيعود إلى ما كان عليه من صغر شأن . والمثل فيه رائحة الشماتة .
يعود تاريخ الحكاية إلى أواخر العهد العثماني نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وقد كان العثمانيون يستخدمون سلاح التفرقة، وبث الخلافات بين أبناء الوطن الواحد كي يحافظوا على مناخ الاضطراب وعدم الاستقرار الكفيل باستمرار سلطتهم، وإحكام قبضتهم على البلاد.
وكان من أساليبهم إشعال نار الضغينة بين سكان الجبل والسهل الحوراني ، حيث جرت سلسلة من المواجهات بين الطرفين، كان وراءها سلطة الوالي بدمشق . وإحدى حلقات تلك السلسلة بدأت من “ الشيخ مسكين حينما اجتمع أهل السهل الحوراني يريدون الإغارة على الجبل لإدراك ثأر سابق، فطالب المجتمعون زعيمهم “ابن مذيب” أن يخرج العطفة وهم كفيلون بحمايتها فاشترط ابن مذيب على رجاله أن يوافوه بمئة شاب يختارهم بنفسه لحماية العطفة وهكذا كان . وتوجّه المهاجمون من السهل الحوراني إلى الجبل، عبر قرية خربة غزالة فلاقاهم فرسان الجبل بقيادة الشيخ أبي علي قسام الحناوي .
ومما كان يهزجه فرسان العطفة قبل المعركة، وهم في طريقهم إلى الجبل أنشودة حماسية تقول :
يا دريزي وِش لك بالحرب فاعت عليك المدبـرة
ارجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع لكـــــــــــارك لــــــــــــــــولـــــــــي فاروعتـــــــــــــــك والمشحرة
والأهزوجة تخاطب الفارس الجبلي محبطة من عزيمته مذكرة إياه أنه لا قبل له بالحرب ومواجهة الرجال المهاجمين، الذين هم مثل الدبابير التي خرجت من “المدبرة” باتجاه هدفها . وفي البيت الثاني تذكر الأهزوجة مقاتل الجبل بأن الحرب ليست كاره “صنعته” بل صنعته قطع الحطب بالفاروعة لصنع الفحم، فعليه أن يرجع إلى صنعته الأولى، وإلى فاروعته ومشحرته.
وتنتهي الموقعة بهزيمة المهاجمين من السهل الحوراني، وأسر العطفة، واقتيادها إلى سهوة البلاطة، حيث نزلت ضيفة مكرمة على حرم الشيخ إبي علي قسام الحناوي . وتهرع أمها من الشيخ مسكين داخلة على الشيخ إبي علي قسام، طالبة ابنتها تحت أي شرط يريده، أو التعرف على قبرها إن هي قتلت . وتندهش الأم حين ترى ابنتها بكامل زينتها، ضيفة معززة حيث يعيدها الشيخ أبو علي قسام بحماية ثلة من فرسان الجبل، لتصل إلى “ الشيخ مسكين “ معززة مكرمة .
ورغم هذه النهاية المخيِّبة للهجوم الحوراني فإن البيت الثاني من أهزوجة فرسان السهل التي قالوها في مقاتلي جبل الدروز وهي “إرجع لكارك لولى فاروعتك والمشحرة “ تحوَّلت إلى مثل يضرب في الشماتة أو الاحتقار واستصغار الشأن6 .
عرس فهيدي
مثل يضرب في الأمر إذا طالت ذيوله وتفرع، وعجز الناس عن حسمه بالسرعة المطلوبة فتسبب ذلك في فتن واقتتال لا طائل تحته. وفهيدي امرأة من درعا عرض لقصتها الدكتور فندي أبو فخر في كتابه “ تاريخ لواء حوران الاجتماعي 1840ـ 1918” وقد جاء في الرواية أن بدوياً من الجوف قام باختطاف فهيدي من درعا، واحتمى ببيت الشيخ ياسين الحريري شيخ قرية بصر الحرير بقصد تزويجه إياها، وهي عادة متبعة لدى بدو المنطقة، لكن الشيخ ياسين قام بطرد البدوي، وهمّ بإعادة فهيدي إلى أهلها، وتزويجها من شخص آخر غير عريسها الذي خطفها .
فالتجأ البدوي بعد طرده من بصر الحرير، إلى قرية الدويرة القريبة والمتاخمة للسهل الحوراني، واستجار بشيخها حمود نصر، (وفي رواية أخرى سليمان نصر) لاسترجاع عروسه . وبادر الشيخ حمود نصر لمؤازرة مستجيره بالإغارة على قرية بصر الحرير . وكانت الحروب سجالاً بين الطرفين، ذهب ضحيتها عدد غير قليل من الجانبين، الأمر الذي سمح بتدخل الدولة العثمانية بحجة الفصل بين المتنازعين، وهي التي كانت تتحين مثل هذه الفرص وتغذيها .
ويورد الدكتور أبو فخر في المصدر نفسه ما قاله شبلي الأطرش في هذه المناوشات:
أول فتـــــــــــــــــــــــــوح الشرّ جازة فهــــــيـــــدي جرى عقبها عركات يابو الهمايم
جرى يوم قراصة الذي تخبرونه يــــــــــــــــــــــــــا ما فقدنا كل قرم مخاصــــــــم7
ولا يتابع الدكتور أبو فخر قصة فهيدي في المصدر المذكور. غير إنه نقل لي شفهياً لدى سؤالي له عن مصير فهيدي ونهاية الحكاية: إن الشيخ ياسين الحريري وضع خطة لخداع البدوي وجرّه إلى بصر الحرير بقصد قتله، وتقوم هذه الخطة على إرسال من يبلغ البدوي أن عروسه تنتظره على بركة بصر الحرير ساعة كذا ليلاً، وهناك ينتظر البدوي موته على يد مجموعة من المسلحين . وبذلك لا يضطر ياسين الحريري لفتح خلاف مع سكان الجبل، غير إن الخطة فشلت حينما رافق البدوي مجموعة من فرسان الجبل، وهناك دارت معركة، تلتها عدة معارك . وكان فرسان الجبل يرددون أثناء هذه الغارات مخاطبين أهل السهل الحوراني:
مــــــــــــــــــــــــــــــا دام فهيــــــــــــــــــــدي عنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدكم دفّــــــــــــــــــــَانكم مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا يستــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــريح8
أما عن مصير فهيدي فقد كان مصيرها القتل على يد أهلها وذويها9. والله أعلم .
هذا، وقد ذكر المرحوم سلامة عبيد هذا المثل في مجموعته واكتفى بالقول: فهيدة امرأة خطفت فطالت المعارك بسببها، وخاطب شاعر المخطوف منهم قوم الخاطفين بقوله :
مــــــــــــــــــــــــــــــا طــــــــــــــــــــول فهيـــــــــــــــــــــــدة عنــــــــــــــــــــــــــــــدكم دفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانــــــــــــــــــــكم مــــــــــــــــــــا يستــــــــــــــــــــــــــــــريــــــــــــــــــــح
وأورد مثلاً آخر مشابهاً لهذا المثل في مغزاه : “عرس بالي ما له تالي10”
من جهة أخرى، بيّنت الكاتبة الألمانية بريجيت شيبلر في كتابها “انتفاضات جبل الدروز” النوايا العثمانية المبيتة لإحكام قبضة الدولة على الجبل من خلال استغلال هذه الحادثة واتخاذها ذريعة للتدخل وفرض سلطانها . ونقلت شيبلر أن الوالي العثماني مدحت باشا لم يكن مستعداً لقبول خروج الجبل عن سلطة العثمانيين، وقد صرّح علناً أن حالة نصف الاستقلال في جبل الدروز يستحيل أن تصنع “حكومة تنظيماتية مستقرة”، وطلب من الباب العالي السماح له بإخضاع هذه النواحي. ووجهت القوات العائدة من الحرب الروسية العثمانية سنة 1879 مباشرة إلى حوران، ولم يبق للسلطة العثمانية إلا الذريعة للتدخل، ولم يطل انتظارهم فالقضية موجودة .
هذا وتسرد السيدة شيبلر الحادثة على النحو التالي:
“ كان لدى بدو الجبل فتاة عزباء، ذات جمال مشهور، عزم بدو الجوف على اختطافها، ففرّ خطيبها معها إلى بصرى (كذا في المصدر، والصحيح بصر الحرير) عند الشيخ ياسين الحريري الذي بدوره أعجب بها، وطرد عريسها . وتبعاً للعادات ذهب العريس ودخل عند سليمان نصار (كذا في الأصل والصحيح سليمان نصر) في الدويري . لم يرغب سليمان في حرب بصر فأرسل ليلاً رجلين من الدروز ومعهما بدويان إلى بصر كي يسألا العروسة إذا كانت ترغب في الهرب، فقتل الدرزيان، وهكذا اندلعت الحرب لثأرهما11.
وتضيف شيبلر في نهاية الخبر: “خدم القتال بين بصر والدويري نوايا مدحت باشا المبيتة، واتخذ من هذه الحالات ذريعة للتدخل، وأبلغ العثمانيون الشيخ الروحي الحناوي الذي كان يسعى في التوسط شروط السلطة العثمانية12. “
ويبيّن الدكتور فندي أبو فخر مدى الروابط المتينة بين السهل الحوراني والجبل بالرغم من المشاحنات التي كان يصطنعها العثمانيون، فيورد ما نصه : “من النادر أن تجد قرية في لواء حوران لم تعبّر عن تضامنها مع الجبل، حتى شيوخ بعض القرى، التي شهدت مشاحنات ونزاعات بينها وبين قرى الجبل، فالشيخ ياسين الحريري ـ شيخ بصر الحرير ـ الذي تشاجر مع الشيخ حمود نصر، وبعض ساكني قرى الجبل، بسبب ما يعرف بـ “عرس فهيدة” خبأ أموال الشيخ يحيى الأطرش، ومفروشات داره، وأموال أهالي قرية عرى في بيته، كما أخفى سكان قرية خربا أموال أهالي قرية المجيمر والعفينة والقريا في بلدهم”13.