الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

قصص الأمثال

قصص الأمثال

الموت ولا المنع بوجه طقيعان

وهو مثل يضرب للنفور من الخضوع للخسيس ولو كان دون ذلك الموت، ويقابله من الفصيح:” المنيَّة ولا الدنيَّة” . والمنع: الأسر . والمنع بوجه فلان: أي الدخول في ذمته ليحفظ له حياته. طقيعان : لقب يقصد به السخرية والتقليل من الشأن.

والحكاية أنه في إحدى الغزوات التي كانت تتم في المنطقة أيام الدولة العثمانية إذ السلطة غائبة والحكم للأقوى، أغارت مجموعة من فرسان الجبل على بعض القبائل البدوية، وغنموا مواشيهم، فساقوها أمامهم ومشوا لكن رجال القبيلة البدوية سرعان ما جمعوا شتاتهم، ولموا شعثهم، وهيأوا أنفسهم، وانطلقوا في هجوم معاكس استطاعوا به أن يتغلبوا على فرسان الجبل، ويستردوا مواشيهم، وأن يطاردوا الفرسان الذين بوغتوا بالهجوم المعاكس. وكان أن لاحق أحد فرسان البدو فارساً من فرسان الجبل بقصد منعه (أي أسره) واستمرت المطاردة إلى أن وصلا إلى مشارف واد سحيق، ولم يبق أمام الفارس المطارد إلا سبيلان: الاستسلام، أو الاندفاع إلى الوادي بفرسه حيث الموت المحتم، وأدرك الفارس البدوي مأزق خصمه، فاندفع يناديه :
– امنع يا ولد امنع . أي استسلم.
وكانت العادة إذا حدث أمر كهذا أن يطلب المغلوب على أمره الأمان، والدخول في ذمة خصمه . وكان يسأل عن اسم خصمه قبل أن يعلن استسلامه، كي يتأكد من أن هذا الخصم أهل للوفاء بالوعد. وعلى ذلك فقد سأل الفارس الجبلي خصمه البدوي، بعد أن ضاقت به سبل النجاة:
– يا ولد ! بوجه من امنع؟ .
فردّ عليه البدوي ساخراً ومستخفاً بالفارس الجبلي، إذ استطاع أن يأسره أخس الناس :
امنع بوجه طقيعان وعليك الله .
فلما سمع الفارس الجبلي ذلك أدرك مقدار الإهانة التي يوجهها إليه البدوي، فالتفت إليه قائلاً:
– خسيت ! الموت ولا المنع بوجه طقيعان .
ثم وجه فرسه باتجاه الوادي واندفع مسلماً نفسه للموت .

وانخلي له يا هلالة

مثل يضرب في تجاهل الهموم وتناسيها، وقد روى لي أحد الأصدقاء أن المثل كما يسمعه منذ خمسين عاماً يضرب عند استهجانهم لخبر غريب بعيد عن التصديق، غير إنني وقعت على حكاية هذا المثل في كتاب صور فكاهية من الأشعار الحموية لمؤلفه أحمد عكيدي .
وقد وردت قصة هذا المثل حين كان المؤلف يتحدث عن صحافة حماة الفكاهية التي سميت بأسماء تعطي معنى مضحكاً وساخراً ومنها صحيفة “ انخلي يا هلالة “ لصاحبها عبد الرحمن المصري وقد صدر العدد الأول منها يوم الأربعاء 20 تموز عام 1910 ولم تعمّر طويلاً .
والحكاية كما نقلها المؤلف أن أحد الأشخاص سرق في أيام القحط والجفاف والحرب كيساً من الطحين، وكان يعيل أسرة كبيرة، فوقع عليه الاتهام، وطلب إلى المحكمة . فمثل أمام القاضي، فأنكر ما فعله، فطلب منه القاضي أن يحلف اليمين، فسرّ وقال في قلبه : لقد جاء الفرج. فهذه من أبسط الأمور لديه. فأقسم وحلف كاذباً، فبُرِّئ . فعاد إلى البيت مسروراً، فخاطب زوجته وتسمى “هلالة “ وقال: “ إنخلي يا هلالة “، أي إنها قد فرجت. فصار مثلاً شعبياً يضرب لمن يستخف بالأمور، ولا يكترث بأهميتها وعواقبها2.
على أنني وقعت على حكاية هذا المثل في مصدر آخر برواية: “ وانخلي يا أم عامر “ وقد ذكره أحمد تيمور باشا في معجم الأمثال العامية، وقال :
“ أي قد وضح الأمر، ولم يبق سبيل إلى الكتمان وإخفاء الدقيق الذي سرقته فانخلي يا زوجتي وأعجني” .
ويضيف تيمور : “ وفي مثل آخر : “ قالوا لحرامي الدقيق: احلف، قال يا مره انخلي “ أي لا داعي للحلفان ثم توسعوا في معناه، فصاروا يضربونه لمن نال حظاً وتوفيقاً في أموره، داعياً إلى التبسط والتوسع في المعيشة . ويروى “ والله وانخلي3 “ .
وبذلك يتجه المثل إلى التعبير عن الغبطة بالنجاح والتوفيق .

الولد ولد ولو حكم بلد

يضرب هذا المثل في الولد الذي نتوسم فيه النباهة ، فنوكل له ما ليس من شأنه الاهتمام به، فلا يلبث أن يعود إلى طبيعته الطفلية .
وحكاية المثل كما يرويها سلام الراسي، أن والي مصر محمد علي باشا خرج يوماً يتنزه مع بعض حاشيته، فمروا بأولاد يلعبون بالكلل، وكان بينهم ولد يلبس طربوشاً جديداً، فتناوله محمد علي عن رأسه وقال له: “بكم تبيع هذا الطربوش ؟” فقال: “ طربوشي كان سعره عشرين مصرية قبل أن تمسه يدكم الكريمة، أما الآن فقد أصبح في يدكم أغلى من أن يباع بثمن”!
أعجب محمد علي بنباهة الولد، وقال لمن معه : “ هذا الولد ربما صار حاكماً عظيماً” ثم قال له: “ إذا أعطيتك ثمن الطربوش ألف مصرية فماذا تعمل بها؟ “ قال: “أشتري كللاً وألعب مع رفاقي”.
فضحك محمد علي باشا وقال: “الولد ولد ولو حكم البلد “ وجرى كلامه مثلاً تتناقله الألسن1 .
حقيقة الأمر أن محمد علي أخطأ في حكمه على الولد لأنه تصرف على سجيته وبما يلائم عمره وحاجته إلى اللهو والرفاق، ولو أجاب الولد بخلاف ما ذكر كأن يذكر أشياء لا قبل له بها لحقّ عندها القول أنه ليس عاقلاً.

يا مدبر العربان دبر حمارك

يضرب هذا المثل للرجل الذي يحاول تقديم النصح أو المساعدة للآخرين، وهو أحوج الناس لهذه النصيحة أو المساعدة .
وقد عالج المثل الشعبي هذه المسألة في أكثر من مثل ؛ كقولهم “ عجقة وبتطلع ببيت جيرانها كواير” .
وحكاية هذا المثل رواها سلامة عبيد فقال : “ أصل هذا المثل أن بدوياً ذهب يشكو إلى أحد قضاة البدو مظلمة، فأخذ يسأل عن بيت ذلك القاضي، وفي أثناء بحثه صادف شيخاً بدوياً يركب حماراً هزيلاً مقرحاً، فسأله عن بيت القاضي . فقال الشيخ : أنا القاضي. فاستغرب البدوي أن يهتم ذلك القاضي بشؤون العربان، ولا يهتم بحماره، فيتركه هزيلاً مقرحاً “ وقال في نفسه : “ يا مدبر العربان دبر حمارك4“.

ارجع لكارك لوّلي فاروعتك والمشحرة5

وهو مثل يضرب للرجل الذي يعزّ بعد ذلّ، ثم يذلّ ثانية . أو للرجل الذي يرتكب حماقة تفقده ما وصل إليه من شأن رفيع، فيعود إلى ما كان عليه من صغر شأن . والمثل فيه رائحة الشماتة .
يعود تاريخ الحكاية إلى أواخر العهد العثماني نهاية القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، وقد كان العثمانيون يستخدمون سلاح التفرقة، وبث الخلافات بين أبناء الوطن الواحد كي يحافظوا على مناخ الاضطراب وعدم الاستقرار الكفيل باستمرار سلطتهم، وإحكام قبضتهم على البلاد.
وكان من أساليبهم إشعال نار الضغينة بين سكان الجبل والسهل الحوراني ، حيث جرت سلسلة من المواجهات بين الطرفين، كان وراءها سلطة الوالي بدمشق . وإحدى حلقات تلك السلسلة بدأت من “ الشيخ مسكين حينما اجتمع أهل السهل الحوراني يريدون الإغارة على الجبل لإدراك ثأر سابق، فطالب المجتمعون زعيمهم “ابن مذيب” أن يخرج العطفة وهم كفيلون بحمايتها فاشترط ابن مذيب على رجاله أن يوافوه بمئة شاب يختارهم بنفسه لحماية العطفة وهكذا كان . وتوجّه المهاجمون من السهل الحوراني إلى الجبل، عبر قرية خربة غزالة فلاقاهم فرسان الجبل بقيادة الشيخ أبي علي قسام الحناوي .
ومما كان يهزجه فرسان العطفة قبل المعركة، وهم في طريقهم إلى الجبل أنشودة حماسية تقول :
يا دريزي وِش لك بالحرب فاعت عليك المدبـرة
ارجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع لكـــــــــــارك لــــــــــــــــولـــــــــي فاروعتـــــــــــــــك والمشحرة
والأهزوجة تخاطب الفارس الجبلي محبطة من عزيمته مذكرة إياه أنه لا قبل له بالحرب ومواجهة الرجال المهاجمين، الذين هم مثل الدبابير التي خرجت من “المدبرة” باتجاه هدفها . وفي البيت الثاني تذكر الأهزوجة مقاتل الجبل بأن الحرب ليست كاره “صنعته” بل صنعته قطع الحطب بالفاروعة لصنع الفحم، فعليه أن يرجع إلى صنعته الأولى، وإلى فاروعته ومشحرته.
وتنتهي الموقعة بهزيمة المهاجمين من السهل الحوراني، وأسر العطفة، واقتيادها إلى سهوة البلاطة، حيث نزلت ضيفة مكرمة على حرم الشيخ إبي علي قسام الحناوي . وتهرع أمها من الشيخ مسكين داخلة على الشيخ إبي علي قسام، طالبة ابنتها تحت أي شرط يريده، أو التعرف على قبرها إن هي قتلت . وتندهش الأم حين ترى ابنتها بكامل زينتها، ضيفة معززة حيث يعيدها الشيخ أبو علي قسام بحماية ثلة من فرسان الجبل، لتصل إلى “ الشيخ مسكين “ معززة مكرمة .
ورغم هذه النهاية المخيِّبة للهجوم الحوراني فإن البيت الثاني من أهزوجة فرسان السهل التي قالوها في مقاتلي جبل الدروز وهي “إرجع لكارك لولى فاروعتك والمشحرة “ تحوَّلت إلى مثل يضرب في الشماتة أو الاحتقار واستصغار الشأن6 .

عرس فهيدي

مثل يضرب في الأمر إذا طالت ذيوله وتفرع، وعجز الناس عن حسمه بالسرعة المطلوبة فتسبب ذلك في فتن واقتتال لا طائل تحته. وفهيدي امرأة من درعا عرض لقصتها الدكتور فندي أبو فخر في كتابه “ تاريخ لواء حوران الاجتماعي 1840ـ 1918” وقد جاء في الرواية أن بدوياً من الجوف قام باختطاف فهيدي من درعا، واحتمى ببيت الشيخ ياسين الحريري شيخ قرية بصر الحرير بقصد تزويجه إياها، وهي عادة متبعة لدى بدو المنطقة، لكن الشيخ ياسين قام بطرد البدوي، وهمّ بإعادة فهيدي إلى أهلها، وتزويجها من شخص آخر غير عريسها الذي خطفها .
فالتجأ البدوي بعد طرده من بصر الحرير، إلى قرية الدويرة القريبة والمتاخمة للسهل الحوراني، واستجار بشيخها حمود نصر، (وفي رواية أخرى سليمان نصر) لاسترجاع عروسه . وبادر الشيخ حمود نصر لمؤازرة مستجيره بالإغارة على قرية بصر الحرير . وكانت الحروب سجالاً بين الطرفين، ذهب ضحيتها عدد غير قليل من الجانبين، الأمر الذي سمح بتدخل الدولة العثمانية بحجة الفصل بين المتنازعين، وهي التي كانت تتحين مثل هذه الفرص وتغذيها .
ويورد الدكتور أبو فخر في المصدر نفسه ما قاله شبلي الأطرش في هذه المناوشات:
أول فتـــــــــــــــــــــــــوح الشرّ جازة فهــــــيـــــدي جرى عقبها عركات يابو الهمايم
جرى يوم قراصة الذي تخبرونه يــــــــــــــــــــــــــا ما فقدنا كل قرم مخاصــــــــم7
ولا يتابع الدكتور أبو فخر قصة فهيدي في المصدر المذكور. غير إنه نقل لي شفهياً لدى سؤالي له عن مصير فهيدي ونهاية الحكاية: إن الشيخ ياسين الحريري وضع خطة لخداع البدوي وجرّه إلى بصر الحرير بقصد قتله، وتقوم هذه الخطة على إرسال من يبلغ البدوي أن عروسه تنتظره على بركة بصر الحرير ساعة كذا ليلاً، وهناك ينتظر البدوي موته على يد مجموعة من المسلحين . وبذلك لا يضطر ياسين الحريري لفتح خلاف مع سكان الجبل، غير إن الخطة فشلت حينما رافق البدوي مجموعة من فرسان الجبل، وهناك دارت معركة، تلتها عدة معارك . وكان فرسان الجبل يرددون أثناء هذه الغارات مخاطبين أهل السهل الحوراني:
مــــــــــــــــــــــــــــــا دام فهيــــــــــــــــــــدي عنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدكم دفّــــــــــــــــــــَانكم مــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا يستــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــريح8
أما عن مصير فهيدي فقد كان مصيرها القتل على يد أهلها وذويها9. والله أعلم .
هذا، وقد ذكر المرحوم سلامة عبيد هذا المثل في مجموعته واكتفى بالقول: فهيدة امرأة خطفت فطالت المعارك بسببها، وخاطب شاعر المخطوف منهم قوم الخاطفين بقوله :
مــــــــــــــــــــــــــــــا طــــــــــــــــــــول فهيـــــــــــــــــــــــدة عنــــــــــــــــــــــــــــــدكم دفــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــانــــــــــــــــــــكم مــــــــــــــــــــا يستــــــــــــــــــــــــــــــريــــــــــــــــــــح
وأورد مثلاً آخر مشابهاً لهذا المثل في مغزاه : “عرس بالي ما له تالي10”
من جهة أخرى، بيّنت الكاتبة الألمانية بريجيت شيبلر في كتابها “انتفاضات جبل الدروز” النوايا العثمانية المبيتة لإحكام قبضة الدولة على الجبل من خلال استغلال هذه الحادثة واتخاذها ذريعة للتدخل وفرض سلطانها . ونقلت شيبلر أن الوالي العثماني مدحت باشا لم يكن مستعداً لقبول خروج الجبل عن سلطة العثمانيين، وقد صرّح علناً أن حالة نصف الاستقلال في جبل الدروز يستحيل أن تصنع “حكومة تنظيماتية مستقرة”، وطلب من الباب العالي السماح له بإخضاع هذه النواحي. ووجهت القوات العائدة من الحرب الروسية العثمانية سنة 1879 مباشرة إلى حوران، ولم يبق للسلطة العثمانية إلا الذريعة للتدخل، ولم يطل انتظارهم فالقضية موجودة .
هذا وتسرد السيدة شيبلر الحادثة على النحو التالي:
“ كان لدى بدو الجبل فتاة عزباء، ذات جمال مشهور، عزم بدو الجوف على اختطافها، ففرّ خطيبها معها إلى بصرى (كذا في المصدر، والصحيح بصر الحرير) عند الشيخ ياسين الحريري الذي بدوره أعجب بها، وطرد عريسها . وتبعاً للعادات ذهب العريس ودخل عند سليمان نصار (كذا في الأصل والصحيح سليمان نصر) في الدويري . لم يرغب سليمان في حرب بصر فأرسل ليلاً رجلين من الدروز ومعهما بدويان إلى بصر كي يسألا العروسة إذا كانت ترغب في الهرب، فقتل الدرزيان، وهكذا اندلعت الحرب لثأرهما11.
وتضيف شيبلر في نهاية الخبر: “خدم القتال بين بصر والدويري نوايا مدحت باشا المبيتة، واتخذ من هذه الحالات ذريعة للتدخل، وأبلغ العثمانيون الشيخ الروحي الحناوي الذي كان يسعى في التوسط شروط السلطة العثمانية12. “
ويبيّن الدكتور فندي أبو فخر مدى الروابط المتينة بين السهل الحوراني والجبل بالرغم من المشاحنات التي كان يصطنعها العثمانيون، فيورد ما نصه : “من النادر أن تجد قرية في لواء حوران لم تعبّر عن تضامنها مع الجبل، حتى شيوخ بعض القرى، التي شهدت مشاحنات ونزاعات بينها وبين قرى الجبل، فالشيخ ياسين الحريري ـ شيخ بصر الحرير ـ الذي تشاجر مع الشيخ حمود نصر، وبعض ساكني قرى الجبل، بسبب ما يعرف بـ “عرس فهيدة” خبأ أموال الشيخ يحيى الأطرش، ومفروشات داره، وأموال أهالي قرية عرى في بيته، كما أخفى سكان قرية خربا أموال أهالي قرية المجيمر والعفينة والقريا في بلدهم”13.

عرس-فهيدي
عرس-فهيدي

 

مآثـــر وعبـــر

مآثـــر وعبـــر

الدكتور محمد السماك في كلام بليغ
عن وحدة الإيمان الإسلامي المسيحي

نُعلي تعاليم المسيح لأجلِهم ويوقّرون لأجلنا الإســــــــــــلاما
الـــــــدين للدّيان جــــــــــــلّ جلالـــــــــــــه لو شاء ربك وحّد الأقوامــا

(أحمد شوقي في رثاء بطرس غالي)
في مطلع شهر كانون الثاني عام 2017، كانت دار حاصبيا على موعد مع محاضرة قيمة للدكتور محمد السماك الشخصية البارزة في الحوار الإسلامي المسيحي الذي دعي للحديث في هذا الموضوع بمناسبة تلاقي مناسبتي مولد النبي العربي (ص) وميلاد السيّد المسيح عليه السلام وكانت الدعوة والغداء الذي تبعها بمبادرة من سعادة النائب أنور الخليل.
يجب القول إنها كانت محاضرة قيّمة جداً لأنها لخصت بصورة خاصة نظرة الإسلام إلى النصارى منذ عهد النبي (ص) وكشفت مدى التزييف الذي قامت به جهات أصولية جاهلة أو سيئة النية بدسِّها في مبادئ التسامح الإسلامي، ومما قاله في هذا الصدد: “إن يكن النبي محمد (ص) هو خاتم المرسلين لا يعني أنّ ما جاء قبله من الرسالات السماوية أصبح لاغياً مَلغيّاً، فالنبي نفسه يقول: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، ولا تكون التتّمة إلا بإقرار ما قبلها وباستكمال ما دعت إليه رسالات الله تعالى جميعاً من إيمان ومن مكارم الأخلاق.
وأورد الدكتور السمّاك أمثلة كثيرة من التاريخ الإسلامي عن الرسول محمد (ص) وما بشّر به من قيم التسامح والمودة تجاه المؤمنين (اليهود والنصارى) كما يقول، ومن ذلك استقباله خلال الدعوة في بيته في المدينة وفداً من مسيحيي نجران برئاسة كبير أساقفهم حيث أحسن وفادتهم ثم استضافهم وكرّمهم بما يليق بمقامهم عارضاً عليهم رسالة الإسلام داعياً إياهم للدخول فيها. لكن وفد نصارى نجران أعرب للرسول (ص) عن احترامه للرسالة الجديدة لكنهم أبدوا رغبتهم في البقاء على إيمانهم المسيحي، وبعد نهارٍ كامل خرج ضيوف النبي النصارى من عنده بمثل ما استُقبلوا به من حفاوة وتكريم وهم على دينهم، وهو على دعوته مع تعهدٍ من قبله جاء فيه: “لا يُجبر أحدٌ من كان على ملّة النصرانية كُرهاً على الإسلام. لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وأخفض لهم جناح الرحمة وكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأين ما كانوا من البلاد، لا يُرفضوا ولا يُخذلوا ولا يُتركوا هملاً، لأنني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.”
وترجمة لذلك فقد أملى النبيّ في صحيفة المدينة التي تشكل النواة الدستورية الأولى للدولة التي أنشأها نصّاً يقول: “إن المسلمين والمؤمنين (يعني اليهود والنصارى) أمّة واحدة من دون الناس”، كذلك تنص العهدة النبوية على “أن المسيحيين إن احتاجوا إلى ترميم بيعهم وصوامعهم أو أيّ شيء من مصالح أمور دينهم إلى رفدٍ من المسلمين وتقوية لهم على ترميمها أن يرتدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك ديناً عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاءً بعهد رسول الله هبة لهم ومنّة الله ورسوله عليهم”.

عهد النبي للنصارى
توقّف الدكتور السمّاك أمام العهد النبوي للنصارى والذي لم يزل محفوظاً في المتحف الإسلامي في اسطنبول، وقد نقلها إلى هناك كوثيقة تاريخية السلطان العثماني سليم الأول العام 1517م.
حمل العهد الإمام علي بن أبي طالب(ع) بإسم النبي إلى دير القديسة كاترين في سيناء العام 620م، وقد جاء فيه:
“هذا كتاب محمد بن عبدالله عهد للنصارى إننا معهم قريباً كانوا أم بعيداً، أنا وعباد الله والأنصار والأتباع للدفاع عنهم، فالنصارى هم رعيتي والله لأمنع عنهم كل ما يضيمهم، فلا إكراه عليهم ولا يزال قضاتهم من مناصبهم ولا رهبانهم من أديرتهم، ولا يحقّ لأحد هدم دور عبادتهم ولا الإضرار بها ولا أخذ شيء منها إلى بيوت المسلمين، فإذا صنع أحدٌ غير ذلك فهو يُفسد عهد الله ويعصى رسوله، وإثباتاً للحق أنهم في حلفي ولهم عهدٌ عندي أن لا يجدوا ما يكرهون، لا يجبرهم أحد على الهجرة ولا يضطرهم أحد للقتال، بل يقاتل المسلمون عنهم، وإذا نكح (تزوج) المسلم نصرانية فلا يتم ذلك من غير قبول منها، ولا يمنعها من زيارة كنيستها للصلاة. كنائسهم يجب أن تُحترم، لا أحد يمنعهم من إصلاحها ولا الإساءة لقُدسية مواثيقهم، ولا يحق لأي من أمة المسلمين معصية هذا العهد إلى يوم القيامة.” ثم انتقل السّماك إلى ما يقوم به المُغالون والمدّعون، وفي طليعتهم المنظمات الأصولية اليوم قائلاً: “إن ما يشهده عالمنا اليوم من مآسٍ وفتنٍ هو عصيان فاجر لعهد رسول الله، ويعكس جهلاً تاماً بهذه المواقف المبدأية والتي تشكل ركناً أساسياً من أركان الإيمان الإسلامي” ويُكمل قائلاً: إن هذا الجهل الذي يظهره الإسلام تجاه المسيحية يتكامل مع الجهل الذي تظهره المسيحية تجاه الإسلام، وهذا محصور فقط بالمتطرفين من كلا الفريقين. وثمّن الدكتور السمّاك ما صدر عن المجمع الفاتيكاني الثاني العام 1965، والذي أصدر وثيقة تاريخية حول العلاقة بين المسيحية والإسلام جاء فيها ما يلي:
“تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحيّ القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، كما سلّم الله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالإنتساب إليه، وإنهم وعلى كونهم لا يعترفون بالمسيح إلهاً، إلا أنهم يُكرّمونه نبياً ويُكرّمون أمّة العذراء، ثم إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يُجازي الله فيه جميع الناس بعد ان يبعثهم حيّاً” وأشار المحاضر إلى ثلاثة مواقف سامية اتخذها الفاتيكان في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، والذي وصف لبنان بأنه “رسالة” وليس مجرد دولة، وأبرز تلك المواقف:
1. موافقة البابا (يوحنا بولس الثاني) على بناء المسجد الكبير في روما وعلى منح الأرض مجّاناً للمسلمين.

نُعلي تعاليم المسيح لأجلِهم ويوقّرون لأجلنا الإســــــــــــلاما الـــــــدين للدّيان جــــــــــــلّ جلالـــــــــــــه لو شاء ربك وحّد الأقوامــا (أحمد شوقي في رثاء بطرس غالي) في مطلع شهر كانون الثاني عام 2017، كانت دار حاصبيا على موعد مع محاضرة قيمة للدكتور محمد السماك الشخصية البارزة في الحوار الإسلامي المسيحي الذي دعي للحديث في هذا الموضوع بمناسبة تلاقي مناسبتي مولد النبي العربي (ص) وميلاد السيّد المسيح عليه السلام وكانت الدعوة والغداء الذي تبعها بمبادرة من سعادة النائب أنور الخليل. يجب القول إنها كانت محاضرة قيّمة جداً لأنها لخصت بصورة خاصة نظرة الإسلام إلى النصارى منذ عهد النبي (ص) وكشفت مدى التزييف الذي قامت به جهات أصولية جاهلة أو سيئة النية بدسِّها في مبادئ التسامح الإسلامي، ومما قاله في هذا الصدد: “إن يكن النبي محمد (ص) هو خاتم المرسلين لا يعني أنّ ما جاء قبله من الرسالات السماوية أصبح لاغياً مَلغيّاً، فالنبي نفسه يقول: “إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، ولا تكون التتّمة إلا بإقرار ما قبلها وباستكمال ما دعت إليه رسالات الله تعالى جميعاً من إيمان ومن مكارم الأخلاق. وأورد الدكتور السمّاك أمثلة كثيرة من التاريخ الإسلامي عن الرسول محمد (ص) وما بشّر به من قيم التسامح والمودة تجاه المؤمنين (اليهود والنصارى) كما يقول، ومن ذلك استقباله خلال الدعوة في بيته في المدينة وفداً من مسيحيي نجران برئاسة كبير أساقفهم حيث أحسن وفادتهم ثم استضافهم وكرّمهم بما يليق بمقامهم عارضاً عليهم رسالة الإسلام داعياً إياهم للدخول فيها. لكن وفد نصارى نجران أعرب للرسول (ص) عن احترامه للرسالة الجديدة لكنهم أبدوا رغبتهم في البقاء على إيمانهم المسيحي، وبعد نهارٍ كامل خرج ضيوف النبي النصارى من عنده بمثل ما استُقبلوا به من حفاوة وتكريم وهم على دينهم، وهو على دعوته مع تعهدٍ من قبله جاء فيه: “لا يُجبر أحدٌ من كان على ملّة النصرانية كُرهاً على الإسلام. لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وأخفض لهم جناح الرحمة وكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا وأين ما كانوا من البلاد، لا يُرفضوا ولا يُخذلوا ولا يُتركوا هملاً، لأنني أعطيتهم عهد الله على أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين.” وترجمة لذلك فقد أملى النبيّ في صحيفة المدينة التي تشكل النواة الدستورية الأولى للدولة التي أنشأها نصّاً يقول: “إن المسلمين والمؤمنين (يعني اليهود والنصارى) أمّة واحدة من دون الناس”، كذلك تنص العهدة النبوية على “أن المسيحيين إن احتاجوا إلى ترميم بيعهم وصوامعهم أو أيّ شيء من مصالح أمور دينهم إلى رفدٍ من المسلمين وتقوية لهم على ترميمها أن يرتدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك ديناً عليهم بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاءً بعهد رسول الله هبة لهم ومنّة الله ورسوله عليهم”. عهد النبي للنصارى توقّف الدكتور السمّاك أمام العهد النبوي للنصارى والذي لم يزل محفوظاً في المتحف الإسلامي في اسطنبول، وقد نقلها إلى هناك كوثيقة تاريخية السلطان العثماني سليم الأول العام 1517م. حمل العهد الإمام علي بن أبي طالب(ع) بإسم النبي إلى دير القديسة كاترين في سيناء العام 620م، وقد جاء فيه: “هذا كتاب محمد بن عبدالله عهد للنصارى إننا معهم قريباً كانوا أم بعيداً، أنا وعباد الله والأنصار والأتباع للدفاع عنهم، فالنصارى هم رعيتي والله لأمنع عنهم كل ما يضيمهم، فلا إكراه عليهم ولا يزال قضاتهم من مناصبهم ولا رهبانهم من أديرتهم، ولا يحقّ لأحد هدم دور عبادتهم ولا الإضرار بها ولا أخذ شيء منها إلى بيوت المسلمين، فإذا صنع أحدٌ غير ذلك فهو يُفسد عهد الله ويعصى رسوله، وإثباتاً للحق أنهم في حلفي ولهم عهدٌ عندي أن لا يجدوا ما يكرهون، لا يجبرهم أحد على الهجرة ولا يضطرهم أحد للقتال، بل يقاتل المسلمون عنهم، وإذا نكح (تزوج) المسلم نصرانية فلا يتم ذلك من غير قبول منها، ولا يمنعها من زيارة كنيستها للصلاة. كنائسهم يجب أن تُحترم، لا أحد يمنعهم من إصلاحها ولا الإساءة لقُدسية مواثيقهم، ولا يحق لأي من أمة المسلمين معصية هذا العهد إلى يوم القيامة.” ثم انتقل السّماك إلى ما يقوم به المُغالون والمدّعون، وفي طليعتهم المنظمات الأصولية اليوم قائلاً: “إن ما يشهده عالمنا اليوم من مآسٍ وفتنٍ هو عصيان فاجر لعهد رسول الله، ويعكس جهلاً تاماً بهذه المواقف المبدأية والتي تشكل ركناً أساسياً من أركان الإيمان الإسلامي” ويُكمل قائلاً: إن هذا الجهل الذي يظهره الإسلام تجاه المسيحية يتكامل مع الجهل الذي تظهره المسيحية تجاه الإسلام، وهذا محصور فقط بالمتطرفين من كلا الفريقين. وثمّن الدكتور السمّاك ما صدر عن المجمع الفاتيكاني الثاني العام 1965، والذي أصدر وثيقة تاريخية حول العلاقة بين المسيحية والإسلام جاء فيها ما يلي: “تنظر الكنيسة بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الواحد الحيّ القيوم، الرحمن القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس. إنهم يسعون بكل نفوسهم إلى التسليم بأحكام الله، كما سلّم الله إبراهيم الذي يفخر الدين الإسلامي بالإنتساب إليه، وإنهم وعلى كونهم لا يعترفون بالمسيح إلهاً، إلا أنهم يُكرّمونه نبياً ويُكرّمون أمّة العذراء، ثم إنهم ينتظرون يوم الدين الذي يُجازي الله فيه جميع الناس بعد ان يبعثهم حيّاً” وأشار المحاضر إلى ثلاثة مواقف سامية اتخذها الفاتيكان في عهد البابا يوحنا بولس الثاني، والذي وصف لبنان بأنه “رسالة” وليس مجرد دولة، وأبرز تلك المواقف: 1. موافقة البابا (يوحنا بولس الثاني) على بناء المسجد الكبير في روما وعلى منح الأرض مجّاناً للمسلمين. 2. تشجيعه عقد مؤتمرٍ إسلامي مسيحي في الفاتيكان بعد العملية الإرهابية في 11 أيلول 2001، التي استهدفت نيويورك وواشنطن حيث أعلن في نهاية المؤتمر أنه لا يوجد دين إرهابي بل يوجد إرهابيون في كل دين. 3. بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أن الحرب على العراق هي حملة صليبية جديدة، خالفه البابا الرأي قائلاً: “ إن هذه الحرب أميركية وليست دينية وهي غير مبررة”. ودان الدكتور السمّاك بشدّة نزعة العنف والإرهاب ضد غير المسلمين التي يبشر بها بعض المتطرفين من ذوي الأهداف والأجندات المشبوهة مذكراً بقول رسول الله محمد (ص) الذي وصف المسلم بأنه “من سَلِمَ الناس من يدهِ ولسانه” كما إن القرآن الكريم يصف السيد المسيح عيسى بالقول:}إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ{ (سورة النساء- الآية 171) كما يصف الإنجيل بأنه كتاب الله }وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ{ (المائدة: 46) ويضع السيدة مريم في أعلى مقام عندما يخاطبها بالقول }إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ{(آل عمران:42) يسرّني القول تعقيباً على هذا الفكر المستنير الذي يمثل حقيقة الإسلام إننا نعتبره في حاصبيا بمثابة دستورنا وخبزنا اليومي منذ الأجداد، إذ في حاصبيا وبين أفيائها تتواجد سبع كنائس لشتى الطوائف المسيحية الكريمة مع أربع خلوات للطائفة التوحيدية وجامع أثري تاريخي لا يماثله أي جامع للطائفة السّنية الكريمة، كذلك بقايا كنيسة للطائفة الموسوية، وأيضاً وأيضاً إن سكان قراها الـ 24 هم أنموذج في التنوع المذهبي ضمن وحدة المحبة والإيمان.
الأستاذ محمد السمّاك

2. تشجيعه عقد مؤتمرٍ إسلامي مسيحي في الفاتيكان بعد العملية الإرهابية في 11 أيلول 2001، التي استهدفت نيويورك وواشنطن حيث أعلن في نهاية المؤتمر أنه لا يوجد دين إرهابي بل يوجد إرهابيون في كل دين.
3. بعد إعلان الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أن الحرب على العراق هي حملة صليبية جديدة، خالفه البابا الرأي قائلاً: “ إن هذه الحرب أميركية وليست دينية وهي غير مبررة”.
ودان الدكتور السمّاك بشدّة نزعة العنف والإرهاب ضد غير المسلمين التي يبشر بها بعض المتطرفين من ذوي الأهداف والأجندات المشبوهة مذكراً بقول رسول الله محمد (ص) الذي وصف المسلم بأنه “من سَلِمَ الناس من يدهِ ولسانه” كما إن القرآن الكريم يصف السيد المسيح عيسى بالقول:}إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ{ (سورة النساء- الآية 171) كما يصف الإنجيل بأنه كتاب الله }وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ{ (المائدة: 46) ويضع السيدة مريم في أعلى مقام عندما يخاطبها بالقول }إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ{(آل عمران:42)
يسرّني القول تعقيباً على هذا الفكر المستنير الذي يمثل حقيقة الإسلام إننا نعتبره في حاصبيا بمثابة دستورنا وخبزنا اليومي منذ الأجداد، إذ في حاصبيا وبين أفيائها تتواجد سبع كنائس لشتى الطوائف المسيحية الكريمة مع أربع خلوات للطائفة التوحيدية وجامع أثري تاريخي لا يماثله أي جامع للطائفة السّنية الكريمة، كذلك بقايا كنيسة للطائفة الموسوية، وأيضاً وأيضاً إن سكان قراها الـ 24 هم أنموذج في التنوع المذهبي ضمن وحدة المحبة والإيمان.

من مآثر وعبر المُصلح الإجتماعي
عارف النكدي

عارف النكدي علمٌ من أعلام العروبة والتوحيد، ومنارة مشعّة وركن تليد.. وحصنٌ حصين للمعذبين واليتامى والمشردين لا يُماثله نديد.
حقاً إنه كان المُصلح الإجتماعي الكبير، وأحد العاملين لتأمين سلامة المجتمع ورُقيّه في هذه البيئة المعذبة من الشرق، في وقتٍ كان الفقر والعوز والتشرد سيد المواقف بين أبناء وطبقات المجتمع. وقد لمع اسمه هذا الرجل الكبير في عمله الوظيفي، فكان كالسيف القاطع بوجه الإنحلال والإنهيار كالرشوة وسوء المعاملة والإستعلاء واستغلال المواقع من قبل المفسدين.
من هنا كانت له تلك المكانة الرفيعة في نفوس أبناء طائفته وعارفيه ومقدّري فضله وعلمه، والمطّلعين عن كثب على أعماله الخيرية وفي طليعتها بيت اليتيم الدرزي، وكم كان لهذا العمل من أفضال على اليتامى والمشردين، وكم هم كُثر عند الطبقة الفقيرة من المجتمع الشرقي، وكم كان لهذا الميتم من رفع شأن طلّابه ونزلائه، والذين يفوق عددهم الألف نزيل كل عام، حيث توصل البعض منهم إلى أعلى المراتب والمواقع الإجتماعية والسياسية والعسكرية وسواء ذلك، ليصحّ به القول المأثور “الخلقُ كُلُّهم عِيالُ الله وأَحَبُّهم إليه أنفعُهم لعِيالِه”.
تقلّد النكدي العديد من المناصب والمواقع، إذ عمل قاضياً ثم محافظاً ثم مديراً عاماً لوزارة العدل السورية العام 1944، ثم رئيساً لمجلس الشورى السوري العام 1946، ثم مديراً عاماً للشرطة في تموز 1946 وبقي في موقعه هذا حتى تقاعده من الوظيفة العامّة ليعيّن بعدها بالوكالة محافظاً لجبل الدروز بالإضافة إلى تولّيه الأوقاف الدرزية منذ العام 1930. ومما قام به من خدمة مميزة إنشاءه فروعاً للمدرسة الداودية (عبيه) في 43 قرية درزية من قرى جبل لبنان ووادي التيم..
غير إن ما نحن في صدده هو مآثره ومواقفه أثناء حياته الوظيفية والإجتماعية والتربوية، ومنها أنه أثناء خدمته كمفتش عدليّ في وزارة العدل السورية إبان الإنتداب الفرنسي، يقصده يوماً “المسيو سيرو” أول مستشار فرنسي لوزارة العدل السورية، وقصده تأنيب أحد المفتشين لتقريره الشديد اللهجة ضد المستشار الفرنسي ذاته وعلى مرأى من السيد النكدي، لكن النكدي استهجن تصرف المستشار الفرنسي وتحركت حميته دفاعاً عن كرامة زميله المفتش فتوجّه إلى سيرو يخاطبه بحدّة قائلاً: “إنك لا تخيفنا لا أنت ولا دولتك، وإنني لن أتردّد عن طردك من هذا المكتب إن لم تتراجع عن تهديدك”.

عارف بك النكديّ
عارف بك النكديّ

وعندها أدرك المستشار الفرنسي خطأه وأن النّكدي جادّ في تهديده تراجع بانتظام ثم صافحه معتذراً.
ويوماً عمل النكدي على تسريح أحد القضاة، فحضر المستشار الفرنسي إليه وقال: “إنني لا أوافقكم على تسريحه، لأن السلطات الفرنسية راضية عنه تماماً. أجاب النكدي: كيف لا أسرّحه وهو يختلف مع الحاجب عنده في ما إذا كانت الهدية التي قُدّمت له أم للحاجب، وفي النهاية تمّ تسريحه عنوة عن المستشار.
في العام 1942 تقدم وزير العدل السوري بمشروع قانون يتضمن تسريح أربعين قاضياً من بينهم قاضٍ له نفوذ بين زعماء الأحياء في دمشق، وذلك بعد استشارة عارف النكدي ومباركته لهذه الخطوة. رئيس الجمهورية السورية آنذاك السيد شكري القوتلي استدعى السيد عارف النكدي ثم طلب منه أن يستثني هذا القاضي من قائمة المسرّحين لما له من حظوة وأنه يعده بأنه سيوقع هذا القانون فور وصوله إليه. وبعد أخذ وردّ بين الرئيس والسيد النكدي، أجابه الأخير: لقد وجدتُ لكم الطريقة لإنقاذ الموقف يا فخامة الرئيس، ثم تناول ورقة وقلماً وكتب استقالته وقدمها للسيد الرئيس قائلاً: في هذه الحالة يمكنكم الإحتفاظ بهذا التاجر..! لكن في النهاية تنبّه الرئيس القوتلي إلى صعوبة ما يطلبه فوقّع قائمة التسريحات ومن بينهم القاضي المشار إليه.
صديقه وابن موطنه لبنان، الرئيس فارس بك الخوري، وكان يومها رئيساً للمجلس النيابي السوري، اجتمع وإيّاه في أحد المنازل ثم فاتحه القول: يا صديقي عارف بك، إنني لا أوافقكم الأمر على ما تقومون به من تسريحات بين القضاة وسواهم من الموظفين، والواقع أنه لا يمكنني النوم إزاء ذلك. تبسّم عارف النكدي وأجابه : “أيضاً لا أقدر أن أنام إذا لم أسرّح مرتشياً أو فاسداً وخيرٌ لي ولك أن لا تنام أنت من أن لا أنام أنا”.
أحد رجالات التربية المرموقين في لبنان حدثني قائلاً : كنت العام 1956 في الصف الثالث التكميلي في المدرسة الداودية في عبيه، وقد حلّ عيد تأسيس الجامعة العربية في 22 آذار 1945 من كل عام، وكانت تلتزم بعطلة هذا العيد جميع المدارس الرسمية والخاصة في لبنان، غير إن إدارة المدرسة الداودية لم تلتزم بذلك، بل كان الدوام عادياً مما حملنا نحن الطلاب على الإحتجاج والإمتناع عن الدخول إلى غرف التدريس، فما كان من الإدارة إلا أن دعت المغفور له عارف النكدي كونه يتولى الأوقاف والرئيس الأعلى للمدرسة كي يساهم في حلّ هذه المشكلة بين الطلاب والإدارة.
أتى عارف بك ثم استدعى من كل صفّ تلميذاً، وكنت شخصياً ممثلاً لصفي، وعند الإجتماع معه قال: “أشكر غيرتكم من أجل العروبة والجامعة العربية، ولكن يا أبنائي الأعزاء لعلمكم أن هذه الجامعة عملت على إنشائها بريطانيا لتكون وسيلة للتفريق بين العرب والحؤول دون وحدتهم، ولو كان الواقع غير ذلك لكنتُ أوّل الدّاعين إلى الإحتفال بالعيد”. ثم خرجنا من لقائه ونحن مقتنعون وغير مقتنعين لكننا نزولاً عند رغبته (وهيبته) عدنا إلى صفوفنا لمتابعة الدراسة.
في العام 1969، وبعد مرور عامين على نكسة حرب حزيران 1967، أقام أساتذة مؤسسة بيت اليتيم الدرزي في عبيه، بالإشتراك مع طلاب وطالبات المدرسة، احتفالاً بالمناسبة استنكاراً للهزيمة وتنديداً بالعدو الإسرائيلي، وخلال الإجتماع وصل المُصلح الإجتماعي ورئيس المؤسسة عارف النكدي وجلس مع الحضور. وبعد أن ألقى بعض المعلمين والطلاب خطابات ملؤها الحماسة والحث على الدفاع والإستماتة في سبيل القضية العربية.. طُلب إلى السيد عارف بك أن يلقي كلمته، فصعد إلى المنصة ثم ارتجل الكلمة التالية: “أخواني وأبنائي الأعزاء، لو سُئلتُ عن إقامة هذه الحفلة قبل أن دُعيتُ لما وافقت على إقامتها، فالخطيبة الأولى وصفت إسرائيل بالدولة المسخ، فإن كانت دولة مسخاً فعلت بنا ما فعلت، فماذا كانت ستفعل لو لم تكن كذلك؟؟ لستم أنتم وحدكم من يُؤخذ عليكم هذا، فالحكومات العربية دأبت على إسماعنا مثل هذه الخطب الطنّانة أما أنتم فعليكم أن تكونوا مجتهدين أولاً بدروسكم وبأخلاقكم، لا يجوز أن نُكابر ونعمي أنظارنا عن الحقيقة رغم مرارتها، بل يجب علينا أن نعمل كل ما في وسعنا لتغيير واقعنا، وأعظم رجل إذا أراد أن يحكم أمّته يجب أن يكون خادمها وصادقها وأمينها. الرسول محمد بن عبدالله (ص) كان إذا عظّموه يقول: “أنا لستُ سوى ابن إمرأة كانت تأكل القديد”.. وإلا فإننا سنبقى مثل ذلك الأعرابي الذي جاء إليه اللصوص وسلبوه إبله فعاد إلى أبيه وقال: لقد ذهبت إبلي، فسأله أبوه: وماذا فعلت؟ قال: “لحقتهم بالشتائم” وأضاف النكدي مثل الخليفة عثمان بن عفان (ر) الذي وقف ليخطب فلم يطاوعه لسانه، فوقف وقال: “أنتم أحوج إلى إمام فعّال منكم إلى إمام قوّال، وبالفعل فقد تمّت أعظم الفتوحات العربية في زمن عثمان بن عفان (ر). ثم قال العرب يا أعزائي وصلوا إلى الأندلس ثم وصلوا هددوا أوروبا، لكن دبّ بينهم الخلاف فأضاعوا ذلك الفردوس. وإلى اللقاء في مرة قادمة في حفلة تكرّم فيها اليد وليس اللسان”.
في جلساته المتكررّة كان دائماً يردد ويقول: الشباب والعلماء مدعوون إلى العودة للماضي الغني جداً بالقيم والمآثر والبطولات للإستعانة بكنوزه في بناء الحاضر والمستقبل، وأن يفتحوا خزائن أجدادنا وما قدموا وما ضحوا في سبيل عزة العرب وكرامتهم، وليس ذلك بالمستحيل لأن باسقات النخيل عميقات الجذور، وما البحرُ إلا مجمّع للسواقي والأنهار، وما الزمان إلا الأيام والأسابيع والشهور والأعوام..
أتى لزيارته قبيل وفاته بيوم واحد الأستاذ زهير مارديني فدار بينهما حوار عن الحياة والموت نقله الأستاذ مارديني بهذه الكلمات:
سأل عارف النكدي جليسه قائلاً:
ماذا بعد الموت؟
أجاب الأستاذ مارديني: العدم
النكدي: هذا مستحيل.. فالعدم لا يؤدي إلى الوجود.
المارديني: ماذا قبل الوجود إذا؟
النكدي: وجود ينتهي إلى وجود
المارديني: ماذا بعد الحياة؟
النكدي: حياة
المارديني: ألا تؤمن بأن الحياة تفنى؟
النكدي: الحياة كالشمس، تغيب لتشرق..
المارديني: ألا يُساورك الخوف من الموت؟
النكدي: الموت ليس مشكلة، الحياة هي المشكلة.
بعد هذا الحوار ترك عارف النكدي بيروت وانتقل إلى بلدته عبيه، ثم قام بتفقد مؤسسته الشامخة، بيت اليتيم الدرزي، وبعد هذا أخذ يطوف على أقاربه وأصدقائه في البلدة ثم أوى إلى منزله وقال لزوجته: أشعر ببعض التعب، لقد تجوّلت اليوم كثيراً، ثم تمدّد على الفراش بعد أن أحسّ بألم طفيف في رأسه، فطلب إلى زوجته أن تهيىء له كأساً من الشراب الساخن، فذهبت الزوجة لتعدّ له ما طلب ثم عادت إليه بالكأس الساخن لتجده غافياً، وكانت تلك الإغفاءة الأخيرة.

التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي

مسؤولون وأكاديميون وخبراء يقيَّمون وسائل التواصل الاجتماعي

كيف تصدّ طوفانا؟

مؤتمر البلمند شخّص المخاطر لكن غابت الحلول

زين الدين: شبه مستحيل محاولة الرقابة عليها
رامي الريس: الأنباء أصبحت رقمية منذ 2012

كيف يمكن احتواء تسونامي الإنترنت وتفرعاتها في وسائل التواصل الاجتماعي والمقصود بها حسابات الفيسبوك وتويتر وإنستغرام والواتس أب وغيرها ومن التطبيقات التي جعلت التواصل بين الناس بالكلمة والصوت والصورة ممكنا في أي وقت من الأوقات وبتكلفة زهيدة؟ سهولة الاتصال والتواصل الرقمي قهرت الأسوار وكافة أشكال الرقابة وخلقت حرية تامة للمستخدمين للتعامل بالمعلومات والصور والفيديو وارتبطت هذه الثورة بشيوع الأجهزة المحمولة التي تصبح لصيقة بالمستخدم يحملها أين يشاء ويستخدمها كيف يشاء خارج أي رقابة. وهذه الحرية التي أتاحها التقدم التكنولوجي بدأت تعيد تشكيل القيم والعقول والعادات وتنخر في الثقافات بل وفي التقليد الاجتماعي وهي تلقي بثقلها بصورة خاصة على الأسر التي بدأت تعاني من مشكلات اجتماعية وسلوكية لأنها لم تعد هي السلطة الحقيقية في تنشئة الأولاد.
لكن الكلام عن الخوف الأسري صحيح بالمعنى النسبي فقط، لأن أرباب الأسر أنفسهم نساء ورجالا، أمهات وآباء وأولياء أمور دخلوا بدورهم في الدوّامة أيضا وباتوا من المستخدمين النشطين لوسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، وكثيرا ما يشتري الأهل الهواتف الذكية لأطفالهم الذين لم يبلغوا سن الخامسة أو يقدمونها لهم كهدية في عيد ميلادهم (!) وهؤلاء الأطفال يتربون في البيت على استخدام مختلف التطبيقات بإشراف من أهلهم . فالمشكلة إذن ليست في إدمان الأحداث والمراهقين على وسائل التواصل الاجتماعي بل في وجود الأهل داخل الدائرة نفسها وقبولهم بهذه الوسائل، ليس باعتبارها تهديداً، بل باعتبارها تمكيناً ومكونا أساسيا من مكونات الحياة المعاصرة. وهذا الاندماج بين وسائل التواصل الاجتماعي وبين حياة الأسرة هو الآن المشكلة الحقيقية.
في جميع الحالات فإن التحدي الذي أبرزته وسائل التواصل الاجتماعي كبير، وهو حتماً أكبر من قدرة الأهل أو المدرسة أو حتى الدولة على توفير الضبط المناسب. وربما بسبب الشعور العام بالعجز وبخطورة الظاهرة حظي المؤتمر الذي نظمته جامعة البلمند في سوق الغرب بالتعاون مع منتدى الفكر التقدمي بإقبال كثيف من أكاديميين وإعلاميين وسياسيين ورؤساء بلديات وقادة حزبيين وجمهور ووسائل إعلام.
المؤتمر الذي انعقد في قاعة الشيخ توفيق عسّاف في حرم الجامعة تصدى في جلسة أولى لموضوع “التأثيرات الاجتماعية لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي” وهذا الموضوع المهم كان

 

جانب-من-الحضور
جانب-من-الحضور

يحتاج إلى تركيز أوسع ومشاركة خبراء ونفسيين وأهالي ويتطلب بالتأكيد أكثر من جلسة، لكن المنظمين فضلوا تنويع البحث وأدرجوا موضوعاً ثان منفصلاً هو “مستقبل الإعلام في ظل حرية التواصل الاجتماعي”.
الموضوع الأول بدا تحديّا كبيرا للمتحدثين الذين كان معظمهم ملما بصورة عامة بالمحاذير والمخاطر ، لكن دون إحاطة كافية بأساليب المواجهة القانونية والتقنية لاحتوائها. وربما كان المجتمعون (المخضرمون في معظمهم) في حاجة إلى خبير في تقنيات وآليات عمل الإنترنت يكون أيضا مطلعاً على الحلول التي أخذت بها دول عديدة لجهة ضبط التداولات عبر الشبكة، كما كان من المفيد إشراك ممثل عن الشباب المنخرطين بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي لينقل للمشاركين بعض ما يحصل في كواليس هذا العالم الرقمي ويقدم ربما من وحي التجربة اليومية بعض النصائح والاقتراحات.
بسبب غياب المُكوِّنين التقني والشبابي (مع تمثيل طاغ للإعلام) استُغرِق البحث في التركيز على المخاطر، وهذا الجانب عبر عنه الدكتور هشام زين الدين رئيس منبر الفكر التقدمي الذي أقر بأننا “نقف عاجزين أمام التطور المتسارع الذي يأتينا في كل يوم بجديد ونحن لمّا نهضم قديمه بعد”. مشيرا إلى أن تقنيات التواصل الاجتماعي هي جزء من نتائج عولمة شاملة لسنا جزءاً منها بل تم إقحامنا فيها، كذلك الأمر بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي التي “فرضت علينا كقدر” بل أصبحت الشريك مع البيت والمدرسة والجامعة في عملية تربية الأجيال”.
وزير الإعلام ملحم رياشي الذي ألقى كلمته الأستاذ أنطوان عيد اهتم بإعلان موقف مبدئي في دعم الوزارة لحرية التعبير “وهي الرئة التي يتنفس منها لبنان” و”الميزة الأساسية للإعلام اللبناني” ولا خلاف بالطبع في ذلك لكن حرية الأعلام لم تكن هي الموضوع بل المشكلات الاجتماعية والأخلاقية التي يسببها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي. ولا خلاف أيضا حول تأكيد الوزير على ضرورة “المزاوجة بين الحرية والآداب العامة”. لكن كيف يتم ذلك؟ وما هي الإجراءات والقوانين التي تمتلكها الدولة للتعامل مع الإنترنت وشبكات التواصل؟
الدكتور هشام زين الدين تبنى في هذا المجال وجهة نظر واقعية تقول بأنه لا جدوى من محاولات فرض الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي لأن تحديد المعايير وضوابط الرقابة مهمة صعبة وتكاد تكون مستحيلة، وهو ما يعني أن الخيار الأفضل هو تركيز الجهود على التوعية والإرشاد من خلال التربية والإعلام.

تشخيص إعلامي
الإعلامي بسام أبو زيد أشار إلى أن وسائل التواصل أصبحت في حد ذاتها مصدرا لكثير من الأخبار، لكنه حذَّر من سوء استخدامها في نشر الأخبار الكاذبة والشائعات. كما حذرت الإعلامية ريما كركي من دور سلبي لوسائل التواصل الاجتماعي على الأسر وفي مجال نشر الشائعات. واعتبر الإعلامي وليد الداهوك إن الإفراط في استخدام تلك الوسائط أدى إلى تفكك الأسر وتشويه العلاقات وتدني التركيز الدراسي وتفشي أمراض نفسية واجتماعية.
الإعلاميان رامي الريِّس وجورج صليبي وخبير التواصل الاجتماعي في جامعة البلمند ركزوا في الجلسة الثانية على تقييم التأثير المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي على صناعة الإعلام، هذا التأثير الذي يجعل سياسيا مثل رئيس اللقاء الديمقراطي وليد جنبلاط يتحول إلى مصدر أول للأخبار والمواقف عبر استخدامه لخدمة “تويتر” الأمر الذي قلل حاجته لإجراء مقابلات مع وسائل الإعلام. بينما أكد الإعلامي رامي الريّس على أن انتقال الصحف والمجلات المطبوعة إلى الصحافة الرقمية “مسألة وقت” مذكرا بأن جريدة “الأنباء” التي يرأس تحريرها تبنت موقفا رائداً عندما أوقفت النسخة الورقية في العام 2012. ونوّه بالفعاليّة التي أظهرتها وسائل التواصل الاجتماعي في إسماع صوت الشباب المختلف والدور الذي لعبته في الحراك السياسي لعدد من المجتمعات العربية مثل تونس ومصر.

مؤتمر الازهر

الإعلان النهائي يكرّس مفهوم المساواة والدولة المدنية الدستورية
والحرية الدينية والتضامن بين الأديان في وجه التطرف والإلحاد

مؤتمر الأزهر حول الحرية والمواطنة حدث كبير بكل معنى الكلمة سواء بحجم الحضور الإسلامي المسيحي الذي شارك فيه من المنطقة ومن العالم أم في مناخات الصراحة والأخوة التي سادت المناقشات ومشاعر الوحدة التي عبّر عنها المشاركون في مواجهة التحديات المشتركة أم في الظروف الدقيقة التي انعقد في ظلها وأبرزها أحداث طائفية في مصر وفي المنطقة وموجة العداء للإسلام في المجتمعات الغربية، لكن ما يعطي للمؤتمر صفة الحدث المفصلي هو البيان الذي صدر عنه في نهاية يومين من المداولات والذي حمل في نظر المراقبين قفزة كبيرة في المفهوم الإسلامي للدولة الدستورية الحديثة وهي قفزة تزيح أهم العقبات من طريق التقارب والتضامن الإسلامي المسيحي وتعزّز الثقة المتبادلة وتنتزع من المعادين للإسلام آخر الحجج الواهية التي يتذرعون بها لاتهام الإسلام بالتمييز ضد الأديان الأخرى. وقد حضر المؤتمر نحو 200 شخصية دينية وفكرية من 60 بلداً لكن لفت الأنظار في هذا المجال الحضور اللبناني الكثيف إذ دعيت 50 شخصية لبنانية من المسلمين والمسيحيين للمشاركة في المؤتمر أكثر من نصفهم من رجال الدين، كما تميّز المؤتمر بحضور مصري كثيف من المسلمين والمسيحيين الأقباط وبرعاية شخصية من الرئيس السيسي للمؤتمر وبمشاركة ممثلين عن كنائس الولايات المتحدة ومجلس الكنائس العالمي والفاتيكان، وشاركت مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز في أعمال المؤتمر وانتدب سماحة شيخ العقل نعيم حسن القاضي غاندي مكارم لإلقاء الرسالة التي بعث بها إلى المؤتمرين.
تميّز المؤتمر أيضاً بالدور البارز الذي لعبه شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيِّب في الإعداد للمؤتمر والمشاركة في أعماله وجلساته وكذلك في إعداد البيان النهائي، كما لعب الرئيس الروحي لأقباط مصر البابا تواضروس الثاني دوراً مهماً في أعمال الجلسات وفي الإعلان النهائي الذي اعتبر منعطفاً كبيراً في صياغة المفاهيم الإسلامية للدولة وكذلك في صياغة العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر أو في خارجها.
ويتألف إعلان الأزهر حول الحرية والمواطنة من ستة بنود أساسية وهنا أهم النقاط والمبادئ التي تضمّنها:
أولاً: إن مصطلح “المواطنة” هو مصطلح أصيل في الإسلام، وقد شعّت أنواره الأولى من دستور المدينة وما تلاه من كتب وعهود لنبي الله – صلى الله عليه وسلم – يحدّد فيها علاقة المسلمين بغير المسلمين في أول مجتمع إسلامي أسسه، هو دولة المدينة. هذه الممارسة لم تتضمن أي قدر من التفرقة أو الإقصاء لأي فئة من فئات المجتمع آنذاك، وإنما تضمّنت سياسات تقوم على التعددية الدينية والعرقية والاجتماعية، وهي تعددية لا يمكن أن تعمل إلا في إطار المواطنة الكاملة والمساواة التي تمثلت بالنص في دستور المدينة على أن الفئات الاجتماعية المختلفة ديناً وعرقاً هم “أمة واحدة من دون الناس”، وأن غير المسلمين لهم ما للمسلمين،

مشهد-عام-لقاعة-المؤتمر-والمشاركين
مشهد-عام-لقاعة-المؤتمر-والمشاركين

وعليهم ما على المسلمين.
ثانياً: إن أول عوامل التماسك وتعزيز الإرادة المشتركة يتمثل في الدولة الوطنية الدستورية القائمة على مبادئ المواطنة والمساواة وحكم القانون، كما إن تجاهل مفهوم المواطنة ومقتضياته يشجّع على الحديث عن الأقليات وحقوقها والذي كنا نظن أنه ولى بتولي عهود الإستعمار، إلا أنه أعيد استخدامه أخيراً للتفرقة بين المسلمين والمسيحيين، بل بين المسلمين أنفسهم، لأنه يؤدي إلى توزّع الولاءات والتبعية لمشروعات خارجية.
ثالثاً: نظراً إلى ما استشرى في العقود الأخيرة من ظواهر التطرف والعنف والإرهاب التي يتمسح القائمون بها بالدين، وما يتعرّض له أبناء الديانات الأخرى والثقافات الأخرى في مجتمعاتنا من ضغوط وتخويف وتهجير وملاحقات واختطاف، فإن المجتمعين من المسيحيين والمسلمين في مؤتمر الأزهر يعلنون أن الأديان كلها براءٌ من الإرهاب بشتى صوره، وهم يدينونه أشدّ الإدانة ويستنكرونه أشدّ الاستنكار.
رابعاً: إن حماية المواطنين في حياتهم وحرياتهم وممتلكاتهم وسائر حقوق مواطنتهم وكرامتهم وإنسانيتهم، صارت الواجب الأول للدول الوطنية التي لا يصح إعفاؤها منها، ولا ينبغي بأي حالٍ من الأحوال مزاحمة الدولة في أداء هذا الواجب أياً كان نوع المزاحمة.
إننا اليوم مدعوون جميعاً بحكم الانتماء الواحد والمصير الواحد إلى التضامن والتعاون لحماية وجودنا الإنساني والاجتماعي والديني والسياسي، فالمظالم مشتركة، والمصالح مشتركة.
خامساً: إننا لنتطلع إلى إقامة المزيد من صلات التعاون بين سائر المؤسسات الدينية والثقافية والإعلامية في العالم العربي، من أجل العمل معاً في مجالات الإرشاد والتربية الدينية والأخلاقية، والتنشئة على المواطنة، وتطوير علاقات التفاهم مع المؤسسات الدينية العربية والعالمية، ترسيخاً للحوار الإسلامي المسيحي وحوار الحضارات.
سادساً: إن طموح الأزهر ومجلس حكماء المسلمين من وراء هذا المؤتمر هو التأسيس لشراكة متجددة أو عقد مستأنف بين المواطنين العرب كافة، مسلمين ومسيحيين وغيرهم من ذوي الانتماءات الأخرى، يقوم على التفاهم والاعتراف المتبادل والمواطنة والحرية. إن المجتمعين مسلمين ومسيحيين يجددون عهود أخوتهم، ورفضهم أية محاولات من شأنها التفرقة بينهم، وإظهار أن المسيحيين مستهدفون في أوطانهم، ويؤكدون أنهم مهما فعل – ويفعل – الإرهاب بيننا في محاولة للإساءة إلى تجربتنا المشتركة، واستهداف مقومات الحياة في مجتمعاتنا لن ينال من عزيمتنا على مواصلة العيش الواحد وتطويره والتأكيد على المواطنة فكراً وممارسة، وهو -سبحانه- من وراء القصد، وهو حسبُنا ونعم الوكيل.

شيخ-الأزهر-الدكتور-أحمد-الطيِّب-يلقي-خطاب-الافتتاح
شيخ-الأزهر-الدكتور-أحمد-الطيِّب-يلقي-خطاب-الافتتاح

مواقف بارزة في كلمة شيخ الأزهر

إفتتح شيخ الأزهر في مؤتمر الحرية والمواطنة بكلمة بليغة عبّرت عن أبرز الهموم الواقعية التي يواجهها الإسلام في علاقاته بالعالم وفي تعامله اليوم مع غير المسلمين، وتميّزت كلمة الدكتور الطيب بموقفها التقدمي والجريء من المسائل المثارة كما يبدو من المقتطفات التالية:
• إن رسالات الأنبياء التي تصطدم اصطداماً مدوياً بكل التفسيرات المغشوشة التي تتنكَّب بها طريق الأديان، بل وتُخطف بها النصوص المقدسة لتصبح في يد القِلَّة المُجرمة الخارجة عليها، وكأنها بندقية للإيجار، لِمَن ينقد الثمن المطلوب من سماسرة الحروب وتُجَّار الأسلحة، ومُنظِّري فلسفات الاستعمار الجديد.
• هل الإرهاب صناعة محلية، أو صناعة عالمية، أُحِكمَت حلقاتُها، ثم دُبِّرت بليل في غفلة، أو في تواطؤ مع كثير من الساهرين على حقوق الإنسان.
• إن هذه الشرذمة (التكفيريين) الشاردة عن نهج الدين كانت إلى عهد قريب محدودة الأثر والخطر، وكانت من قلة العُدَّة وضعف العتاد عاجزة عن تشويه صورة المسلمين، إلَّا أنَّها الآن، أوشكت على أن تُجيِّشَ العالَم كُلَّه ضِدَّ هذا الدِّين الحنيف.
• إن المتأمل المنصف في ظاهرة الإسلاموفوبيا لا تخطئ عيناه هذه التفرقة اللامنطقية، أو هذا الكيلَ بمكيالين بين المحاكمة العالمية للإسلام من جانب، وللمسيحية واليهودية من جانب آخر، رُغم اشتراك الكل في عريضة اتهام واحدة، وقضية واحدة هي قضية العنف والإرهاب الديني، فبينما مرَّ التطرُّف المسيحي واليهودي برداً وسلاماً على الغرب من دون أن تُدنَّس صورة هذين الدينين الإلهين؛ إذا بشقيقهما الثالث يُحبَسُ وحده في قفص الاتهام، وتجري إدانتُه وتشويه صورتهِ حتى هذه اللحظة.
• إن الإسلاموفوبيا إذا لم تعمل المؤسسات الدينية في الشرق والغرب معاً للتصدي لها، فإنها سوف تطلق أشرعتها نحو المسيحية واليهودية إن عاجلاً أو آجلاً.
• إن تبرئة الأديان من الإرهاب لم تعد تكفي أمام هذه التحديات المتوحشة، وأن خطوة أخرى يجب علينا أن نبادر بها، وهي: النزول بمبادئ الأديان وأخلاقياتها إلى هذا الواقع المضطرب، وأن هذه الخطوة تتطلَّب – من وجهة نظري- تجهيزات ضرورية، وأولها إزالة ما بين رؤساء الأديان وعلمائها من بقايا توترات وتوجسّات لم يَعُد لوجودها الآن أيُّ مُبرِّر، فما لم يتحقق السلام بين دُعاته أولاً لا يمكن لهؤلاء الدُّعاة أن يمنحوه للناس، وأنى لفاقد شيء أن يمنحه لغيره! وهذه الخطوة بدورها لا تتحقَّق إلَّا مع التعارف الذي يستلزم التعاون والتكامل، وهو مطلب ديني في المقام الأول.
• إن الأزهر حين يدعو إلى نشر مفهوم “المواطنة” بديلاً عن مصطلح “الأقلية والأقليات”، فإنما يدعو إلى مبدأ دستوري طبقه نبي الإسلام صلّى الله عليه وسلّم على أول مجتمع مسلم في التاريخ، وهو دولة المدينة، حين قرر المساواة بين المسلمين من مهاجرين وأنصار، ومِن اليهود بكل قبائلهم وطوائفهم بحسبان الجميع مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، وقد حفظ لنا تراث الإسلام في هذا الموضوع وثيقة مفصَّلة في شكل دستور لم يعرفه التاريخ لنظام قبل الإسلام.
• إن الإسلام ينبهنا إلى حق أصيل فطر الله الإنسان عليه، وهو حق الحرية والتحرر من الضغوط، وبخاصة: ما يتعلق بحرية الدين والاعتقاد والتمذهب: }لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ البقرة: 256، }وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ{يونس: 99، }لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ{الغاشية: 22، }إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ {الشورى: 48. وكان من بين البنود التي اشتمل عليها كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ، وأنه: “مَنْ كَرِهَ الْإِسْلَامَ مِنْ يَهُودِيٍّ، أَوْ نَصْرَانِيٍّ، فَإِنَّهُ لَا يُحَوَّلُ عَنْ دِينِهِ”، إلى آخر كل هذه النصوص الدينية المُؤسِّسَة لحقِّ الحُريَّة والتحرُّر.

سماحة شيخ عقل الطائفة في كلمة إلى مؤتمر الأزهر

الأزهر إستكمل دوره التاريخي التنويري
بدعم الدولة الدستورية الديمقراطية الحديثة

تلا فضيلة القاضي الشيخ غاندي مكارم كلمة سماحة شيخ عقل طائفة الموحِّدين الدروز الشيخ نعيم حسن أمام مؤتمر الحرية والمواطنة معبراً في البدء عن تثمين سماحة شيخ العقل لما يقوم به الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين عبر هذا النوع من الملتقيات الروحية الرفيعة المستوى، ملمحاً في البدء إلى “أنَّ المواطَنة مفهوم مدنيّ مرتبط بحقوق الإنسان، تأسَّس في الأفكار التي طرحتها الثورة الفرنسيَّة، ثم تطوَّر نتيجة بروز القوميَّات، وصولاً إلى تجسيده في نصوص عالمية أبرزها ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان”.
وأضاف سماحة شيخ العقل: “إن العدل ضرورة يوجبُها العقلُ النيِّر المسترشِد بحكمة الحكيم، وإنَّ مقاصدَ الشريعة كلّها تهدفُ إلى حفظ نظام العالم بتحقيق المصالح وإبطال المفاسد” مشيراً إلى أن “المصالح الضروريَّة” تتمثل بـالكلّيات الخمس وهي: حقّ الدّين (المعتقد) وحقّ النفس، وحقّ العقل وحقّ النسل وحقّ المال، وهذه الحقوق الطبيعية أكّد عليها الرُّسل جميعاً”.
ودعا سماحة شيخ العقل إلى التوقف مليّاً أمام ما حقَّقه الأزهر الشريف استكمالاً لدوره التاريخي التنويريّ، ولاسيما تصدّيه للمسائل الدقيقة، حين أصدر تباعاً (منذ العام 2011) الوثائق الهامَّة المعروفة حول “مستقبل مصر”، وفي مساندة حركات التحرُّر العربيّ، وفي بيان منظومة الحرّيات الأساسيَّة، وفي حقوق المرأة، آخذاً في الاعتبار الأبعاد الفقهيَّة والتاريخيَّة والحضاريَّة الإصلاحيَّة، وهو الذي تحدّث بشجاعة عن دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستوريَّة الديمقراطيَّة الحديثة، واحترام أدب الاختلاف، واحترام المواثيق الدوليَّة، كما أكَّد على حرِّيَّة العقيدة وحرية الرأي والتعبير، وحرية البحث العلمي”.
وقال سماحة شيخ العقل: “إنَّ مبدأ “المواطنة” علَّة وجود معظم ما تضَّمنته تلك الوثائق من مفاهيم ومقاربات، وهذا أمرٌ في غاية الأهميَّة من حيث إنجازه من قبَل مرجعيَّة هي مرجعيَّة الأزهر الشريف، ومن حيث إنه أرسى قواعد التطوير والتأصيل من دون أن ننسى بالطبع محطات التنوير التي يسعى المخلصون إلى انعقادها حول هذه المواضيع على امتداد العالم العربي والإسلامي”.
واستذكر سماحة شيخ العقل في سياق مخاطبته للمشاركين كلام الأمير شكيب أرسلان حين قال: “كما إنّ آفة الإسلام هي الفئة التي تريدُ أن تلغي كلَّ شيءٍ قديم، من دون نظر في ما هو ضارّ منه أو نافع، كذلك آفّة الإسلام هي الفئة الجامدة التي لا تريدُ أن تغيِّرَ شيئاً، ولا ترضى بإدخال أقلّ تعديل على أصُول التّعليم الإسلامي..”. ويعبِّر بشكلٍ رائع عن هذا الخلل بعبارة موجزة بالغة البيان: “أضاعَ الإسلامَ جاحدٌ وجامد.” وقد تساءل الأميرُ شكيب أرسلان وهو المؤمن العارف بالمضامين العميقة لكتاب الله وواقع المسلمين، قائلاً: “إنَّ الإسلامَ هو من أصله ثورةٌ على القديم الفاسد، وجَبٌّ للماضي القبيح، وقطع كلّ العلائق مع غير الحقائق، فكيف يكونُ الإسلامُ ملَّةَ الجمود؟” وختم سماحته الرسالة بالدعاء “أن يسدد الله تعالى خطانا ويوفِّقنا إلى ما فيه خير أمَّتنا وينوِّر بصائرنا بهداه”.

شمس العرب تسطع على الغرب

قراءة في كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكِه1

شمسُ العرب تسطعُ على الغَرب

مساهمــة العــرب الكبيــرة في انطلاقـة الحضــارة الأوروبيــــة

لم يبدأ خروج الغرب من الظلمات وازدهاره ونهضتــه
إلاّ بعـد احتكاكــه بالعــرب سياسيــاً وعلميــّاً وتجاريــّاً

بينمـــا كـــان العالـــم العـــربي يتّجـــه نحـــو ذروة عصـــره الذهبــــــي
كانـــت أوروبا منشغلة بعودة وشيكة للمسيح للإقتصاص من البشـر

“هكذا وجب أن يظهر الحقّ ويعلو، كما نجح في هذا مُحمّد الذي أخضع العالم كلّه بكلمة التوحيد»
(الشاعر الألماني غوته)

يعتبر كتاب المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه أحد أعظم الشهادات المنصفة التي جاءت من مؤلف أوروبي ليس فقط في عظمة الحضارة العربية الإسلامية فهذا الأمر يكاد يجمع عليه أكثر المؤرخين المنصفين بل في أثر هذه الحضارة العظيمة في نهوض وتقدم الحضارة الأوروبية، وكانت هونكه بذلك أول شخصية علمية أوروبية تسلط الضوء على أمر يميل الأوربيون إلى تجاهله والتغطية عليه وهو ما تعتبره هونكه الدَّيْن الذي يترتب عليهم للعرب والمسلمين في الكثير من مجالات العلوم والثقافة. يذكر أن الإسم الأصلي لكتاب هونكه هو “شمس الله تشرق على الغرب: أثر الحضارة العربية في أوروبا2 وهو يتناول بالإضافة إلى تأثير الحضارة العربية-الإسلامية وعلمائها واختراعاتهم على الحضارة الغربية تأثّر اللغات الأوروبية باللغة العربية وحضارة الأندلس.
وزيغريد هونكه مستشرقة ألمانية أحبّت العرب، وهي زوجة المستشرق الألمانيّ صديق العرب والمطّلع على آدابهم وآثارهم ومآثرهم الدكتور شولتزا، وقد عاشت مع زوجها سنتين في مرّاكُش وقامت بعدد من الزيارات للبلدان العربيّة دارسة فاحصة، وهي ردت في مقدمة كتابها قرارها إعداد مؤلفها إلى ما لحظته من تجاهل تام في الأوساط الغربية للإسهام الكبير العربي والإسلامي في الحضارة العالمية، وهو ما جعل قليلون خارج العالم العربي يعرفون فعلاً عن تلك الحضارة وأهميتها للتراث الإنساني. وقد جمعت الكاتبة مادة الكتاب على مدى سنوات طويلة أمضتها في رحلات متوالية إلى مختلف أنحاء العالم العربي حيث بنت شبكة واسعة من الصداقات وحققت بنفسها العديد من مواد كتابها، وهي أرادت لكتابها أن يكون بالفعل “سجلاً لماضي العرب العظيم وأثرهم المثمر على أوروبا والعالم قاطبة”.
صدرت الطبعة الأولى من الكتاب في العام 1964، وأعيد طبعه مراراً منذ ذلك الحين وصدرت طبعة ثامنة منه في العام 1986، وقد راج الكتاب بشكل متميّز بين الناطقين بالعربية فطُبع مراراً وتكراراً، وتحول إلى أهم مرجع جامع يعرِّف العرب بتاريخهم بأكثر ما يعرفونه هم، ويضع بين يديهم الحِجّة البالغة في أكثر ما يختصّ بماضيهم الزاهر وأسبقيتهم في الكثير من المجالات التي عادت أوروبا وبفضل جدها وتقدمها الاقتصادي والعلمي فسبقتنا فيها جميعاً.
فما الذي جاءت به زيغريد هونكه وأثار ذلك الاهتمام الكبير وشعور الاعتزاز في الأوساط العربية لكنه مع الأسف لم يلق الاهتمام نفسه من الأوساط الغربية السياسية والأكاديمية على السواء؟

1. – منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، الطبعة الثامنة 1986، نقله عن الألمانيّة فاروق بيضون و كمال دسوقي راجعه ووضع حواشيه: مارون عيسى الخوري

2. – بالألمانية Allahs Sonne über dem Abendland: unser arabisches Erbe)

قصر-الحمراء-الذي-بناه-العرب-في-الأندلس-ما-زال-يشهد-على-عظمة-الحضارة-الإسلامية
قصر-الحمراء-الذي-بناه-العرب-في-الأندلس-ما-زال-يشهد-على-عظمة-الحضارة-الإسلامية

تقول المؤلفة في مقدمة كتابها:”أردت أن أكرّم العبقريّة العربيّة وأن أقدّم للعرب الشكر على فضلهم الذي حرمهم من سماعه طويلاً تعصّب ديني أعمى أو جهل أحمق”.
تعرض هونكِه أولاً مئات المفردات والمصطلحات التي أخذها الأوروبيون عن العرب وتدل على مدى النفوذ الثقافي والعلمي العربي في أوروبا في العصور الوسيطة وهي تخلص إلى القول: ”إن في لغتنا كلمات عربية عديدة وإننا لندين ــ والتاريخ شاهد على ذلك ــ في كثير من أسباب الحياة الحاضرة للعرب، وكم أخذنا عنهم من حاجات وأشياء زيّنت حياتنا بزخرفة محبّبة إلى النفوس، وألقت أضواء باهرة جميلة على عالمنا الرتيب، الذي كان يوماً من الأيام قاتماً كالحاً باهتاً”.

العصور الوسطى إنفتاح عربي وانكفاء أوروبي
على أثر اندفاع الفتوحات العربية الإسلامية الأولى تقول هونكِه:” حين انطلقت من جنوب الجزيرة العربيّة جحافل العرب الرّحل، تحدوها قوّة عارمة، ويعمّها تنظيم مدهش بثها الرّسول محمّد (ص) في صفوفها فتصل إلى أطراف البحر الأبيض المتوسط على شواطئ الأطلسي وتسيطر على الشرق والجنوب والغرب، فتُخرج ذاك العالم القديم من بوتقته الثقافية السابقة، فإن الغرب كان قد أحاط نفسه إحاطة مُحكمة بستار حديديّ لمئات من السّنين خوفاً من هجوم الشرق عليه، وأمّا في الشرق فقد قامت الإمبراطورية العربيّة الجديدة لتفرض نفسها لأول مرة على الإطلاق بصفتها شرقاً في وجه الغرب مجبرةً إيّاه على أن يعزل نفسه”.

تسامح الرّشيد يقابله جحود أوروبي
أغلقت أوروبا على نفسها منافذ النّور والهواء أمام عينيها (ص25)، ولكنّ الحجّاج المسيحيين كانوا يتمكّنون من الحج إلى كنيسة القيامة من دون إزعاج أو خطر، ففي ذلك الوقت قدّم الخليفة هارون الرشيد مفاتيح المدينة المقدّسة وشرف الهيمنة عليها إلى القيصر شارل الكبير على يد بطريرك القدس الذي كان يتواجد في منصبه رغم الهيمنة الإسلاميّة، من دون أن يناله حيف أو مكروه ومع هذا، فإنّ الأوروبيين لم يحجموا عن إلصاق تهم انتهاك حُرمة المدينة المقدّسة نفسها من جانب “الكفّار” قصد إلقاء الذعر في نفوس المؤمنين والمسافرين لمنعهم من السّفر. ولعل مثل هذا الحقد الأوروبي كان في أساس تجريد الحملات الصليبية على الشرق.
أمّا الخليفة الفاطميّ المستنصر وصديق المسيحيّين فقد أمر بإخلاء قسم كامل من مدينة القدس للحجّاج والتجار الأوروبيّين.
وكان التجّار البنادقة يحملون لأوروبا القطن السّوري والتوابل والكافور والبخور والنيلة من مراكز التجارة المصرية (ص 35) وتمتع الغربيّون بأفضل التوابل والعطور وأردية المُخْمَل والحريرالناعمة، وعلى هذا فإن أساس كلّ رخاء في بلاد الغرب قد نبت في سلال التوابل العربيّة.
تقول هونكِه، (ص37) “إنّ مدينة البندقية لم تكن لتحقق ما حققته لولا تبادل التجارة مع العرب فلولا قرفتها وكراوياؤها وقرمزها ونيلتها لم يكن في وسعها بتةً أن تمثّل دور المسيطر وأن تظهر في مظهر أكبر قوة اقتصادية في الغرب”.

في مدرسة العرب
تؤكّد الباحثة أنّه بفضل العرب عرف الغربيون الورق الذي “وصل إليهم من الأندلس العربية” ففي عام 751 نقل العرب جماعة من أسرى الحرب الصّينيين إلى سمرقند، وكان بعضهم بارعاً في صناعة الورق، وهكذا انتقلت هذه الصناعة إلى بغداد، زمن الخليفة المنصور (754 ــ 775م) الذي اعتمد الورق ومنع استعمال ورق البردى المجلوب من مصر، أمّا في ظل ولده الرشيد فقد

ترجمة-كتاب-الحاوي-في-الطب-لأبو-بكر-الرازي-بقيت-لقرون-المرجع-الأول-لتدريس-الطب-في-أوروبا-
ترجمة-كتاب-الحاوي-في-الطب-لأبو-بكر-الرازي-بقيت-لقرون-المرجع-الأول-لتدريس-الطب-في-أوروبا-

ثبتت مكانة هذا الاختراع الجديد، الأمر الذي حدا بوزيره يحيى بن الفضل البرمكي (794)م أن يبني أولى مصانع الورق في بغداد.
أجل، لقد فتح ورق العرب هذا عصراً جديداً، لم يعد العلم فيه وقفاً على طبقة معيّنة من الناس بل غدا متاحاً للجميع ودعوة لكل العقول لأن تعمل وتفكر.
تنقل هونكه عن أبو بكر الطرطوشي رسول ملك الأندلس العربي إلى بلاد الفرنجة أنه صادفته أشياء اقشعرّ منها بدنه وهو المسلم الذي فُرض عليه الاغتسال والوضوء خمس مرات يومياً يقول: “ولكنّك لن ترى أبداً أكثر منهم قذارة ! إنّهم لا ينظفون أنفسهم ولا يستحمّون إلا مرّة أو مرتين في السنة بالماء البارد وأمّا ثيابهم فإنّهم لا يغسلونها بعد أن يرتدوها حتى تصبح خِرَقاً بالية مُهلهلة”… فيما كانت بغداد آنذاك “تزدحم في القرن العاشر بآلاف الحمامات مع المُولَجين من مدلِّكين ومزيّنين(حلاّقون) كانوا في الزبائن للإعتناء بأجسامهم وبراحتها أسبوعياً أو يومياً، وبفضل العرب عاد الاعتناء بالصحّة إلى بلاد الغرب عن طريق الصّليبيين والمسافرين القادمين من إسبانيا وصقلّية على الرغم من ضغط السلطة الشديد وتزمّت الكنيسة. وهكذا خُرق الحصار الذي فرضته المسيحية ضد الإسلام وأصبح سكان أوروبا عن طريق الإقتناع تلامذة الحضارة العربية.

البابا يحسب بالعربيّة
تتناول الكاتبة أثر العرب في علم الحساب، إذ لم يقتصر الخوارزمي على تعليم الغرب كتابة الأعداد والحساب، فقد تخطّى تلك المرحلة إلى المعقّد من مشاكل الرياضيات وما زالت القاعدة الحسابية (Hlgorithmus) حتى اليوم تحمل اسمه كعلم من أعلامها، أمّا الألمان فقد جعلوا من الخوارزمي “شيئاً” يسهل عليهم نطقه، فأسموه(Algorizmus) ونظموا الأشعار باللاتينية تعليقاً على نظريّاته.
وتذكر هونكِه أنّ البابا سلفستروس الثاني، قبل اختياره لمنصب البابوية، زار الأندلس نحو عام 970م، وتعلم أشياء لم يكن أحد في أوروبا ليحلم أن يسمع بها، وكان أهم ما تعلّمه نظام الأرقام والأعداد العربية، وكان عالماً بالرياضيات ومعلّماً لها.

العرب وعلم الفلك
تقول المؤلفة: “لم يأخذ العرب العلوم التي ورثوها عن طريق الاقتباس كما إنهم لم يأخذوا الآلات العلمية ومواد العلم القريب من دون مناقشة أو تحقيق، فمنذ البدء أدهشوا العالم بالانفتاح الموضوعي والشجاعة العلمية التي استقبلوا بها نتائج السالفين وآراءهم ليشبعوها بحثاً ونقداً وتفنيداً.. ولقد شهد الفرنسي سديوّ Sedillot بقوله “لقد توصّل فلكيو بغداد في نهاية القرن العاشرإلى أقصى ما يمكن أن يتوصل إليه إنسان في رصد السماء وما يدور فيها من كواكب بالعين المجرّدة من دون اللجوء إلى عدسات مكبّرة أو منظار. ومن بين العرب الذين وصلت آثارهم إلى مواطن العلم الغربي العالم الفرغاني الذي قام بقياس طول خط الأرض المستقيم، وكان أول من أدرك أن مدار الشمس والكواكب على مرّ الزمن يجري في اتّجاه خلفيّ، وكان يُسمىّ في القرون الوسطى Al- Fraghanus “ ومن المشتغلين بعلم الفلك ثابت بن قرّة الذي قام بقياس علوّ الشمس ومدة السّنة الشمسيّة ومن أولئك البتّاني 877 ــ 918م الذي قام بقياسات جنوح الشمس بشكل أدق، وكان كثابت بن قرّة من أتباع الصابئة، وقام بإكمال النتائج التي توصل إليها بقياساته الدقيقة لمُدد السنوات الاستوائية والقطبية المختلفة بعد أن قام بقياس دوران الأرض حول الشمس بطريقتين مختلفتين. أما الحسن بن الهيثم 965 ــ 1039م فكان أكثر معلمي العرب في بلاد الغرب أثراً وتأثيراً، وهو صاحب نظريّة انعكاس الضوء، والأهم اكتشافه القائل: إنّ كل الأجسام السماوية بما فيها النجوم الثابتة لها أشعّة خاصة ترسلها ما عدا القمر الذي يأخذ نوره من الشمس. وقد أعلن ابن الهيثم خطأ قول إقليدس وبطليموس أنّ العين المجردة ترسل أشعة إلى الأجسام التي تريد رؤيتها فقال “ليست هناك أشعة تنطلق من العين لتحقق النظر بل إن شكل الأشياء المرئية هي التي تعكس الأشعّة على العين فتبصرها هذه الأخيرة بواسطة عدستها”.
وابن الهيثم هو صاحب فكرة إقامة سدّ على نهر النيل موضع السد العالي، وقد استقدمه الخليفة الحاكم من البصرة لتنفيذ هذه الفكرة لكنه بعد درس أولي أدرك استحالة تنفيذ تلك الفكرة بسبب عدم توفر الوسائل التكنولوجية اللازمة لتنفيذ ذلك المشروع في ذلك العصر. أمّا العالم الأندلسي البطروجي فقد نقد نظريّة بطليموس الشهيرة في انحراف الكواكب ودورانها الدائري وبالتالي مهّد السبيل للعالم كوبرنيكوس.

النسخة الألمانية الأصلية لكتاب هونكه وهي بعنوان شمس الله تسطع على الغرب
النسخة-الألمانية-الأصلية-لكتاب-هونكه-وهي-بعنوان-شمس-الله-تسطع-على-الغرب-وتبدو-صورة-المؤلفة
النسخة-الألمانية-الأصلية-لكتاب-هونكه-وهي-بعنوان-شمس-الله-تسطع-على-الغرب-وتبدو-صورة-المؤلفة

 

“كان الأوروبيون لا يستحمّون إلا مرّة أو مرتين في السنة بالماء البارد، فيما كانت بغداد تعج بآلاف الحمامات العامّــــة والمسلمون يتطـــــهَّرون خمس مرات في اليوم”

أسبقية العرب في رصد الفلك
تشير هونكِه إلى أنّ الوسائل التي وضعها العرب في متناول الأوروبيين كانت أكثر أهمية في مجال رصدهم للسماء وحل أحاجيها، لقد كان العرب أساتذة خلاقين في علم الرياضيات على خلاف الرومان الذين لم يأتوا في هذا الميدان إلا بنتائج ضعيفة قليلة. كان الخليفة المأمون 786 ــ 833 قد ابتنى مرصدين على جبل قاسيون وفي الشماسية ببغداد، وفي عهده ومن بعده أنشئت عدة مراصد في البلاد الإسلامية، وأنشأ الفاطميون مرصداً على جبل المقطم عرف بإسم المرصد الحاكميّ وبنى نصير الدين الطوسي مرصد مراغة بأمر من هولاكو، وهو المرصد الأهم مما سبق ومنها مرصد الشاطر بالشام والدّيْنَوَري في أصبهان والبيروني وأولوغ بك بسمرقند والبتّاني بالشام وغيرها كثير في مصر والأندلس وأصبهان.
ومن العلماء العرب الرواد الطبيب الفذ والفيلسوف المشهور الشيخ الرئيس إبن سينا 980 ــ 137م، وأما الفارابي 780ــ 950م الملقب بالمعلّم الثاني بعد أرسطو” فقد كان فيلسوفاً فذّاً ذائع الصيت بالإضافة إلى كونه موسيقياً بارعاً .
إن أرقام العرب وآلاتهم التي بلغوا بها حدّاً قريباً من الكمال وحسابهم وجبرهم وعلمهم في المثلّثات الدائريّة وبصريّاتهم الدقيقة كل ذلك أفضال عربية على الغرب ارتقت بأوروبا عن طريق اختراعاتها واكتشافاتها الخاصة من أن تتزعم العالم في ميادين العلوم الطبيعية من ذلك التاريخ حتى أيامنا هذه.

“ابن الهيثم بيَّن خطأ قول إقليدس وبطليموس بأنّ العين ترى بواسطة أشعة ترسلها إلى الأشياء مؤكِّداً أن الأشيـاء هي التي تعكس الأشعّة على العين فتبصـــــرها”

عطّار مسلم يقوم بصنع الدواء لمريض مصاب بالحصبة أو الجدري - رثص
عطّار مسلم يقوم بصنع الدواء لمريض مصاب بالحصبة أو الجدري – رثص

الأيدي الشافية
في مجال علم الطبّ تخلص الباحثة إلى القول: “لذلك استقبلت كتب ابن سينا والرازي وابن رشد بالثقة نفسها التي استقبلت بها كتب أبوقراط وجالينوس ونالت حظوة قصوى عند الناس إلى درجة أنه إذا ما حاول امرؤ ما ممارسة الطبّ من دون الاستناد إليها اتّهم بالإضرار بالمصلحة العامّة.
كان طب الفرنجة مزيجاً من الممارسات البدائية والخرافات بينما كانت المشافي العربية في قرطبة وبغداد والقاهرة قبل ألف عام تشبه إلى حد بعيد ما كنا نراه في القرن العشرين. ويروى أن السلطان المنصور قلاوون بنى المستشفى المنصوري في القاهرة وعند إتمام بنائه قال: إنني قد وهبت هذا المستشفى إلى أندادي وأتباعي وخصصته للحكام والخدم، للجنود والأمراء، للكبار والصغار والأحرار والعبيد، للرجال والنساء على السواء.

أثر العرب في الطب الغربي
تذكر هونكِه أنّه “من المحاضر والتقارير في مستشفيات بغداد الكبيرة وغيرها خلال الربع الأول من القرن العاشر خرجت إلى الوجود موسوعة طبية ضخمة استعملها الأطباء الأوروبيون خلال مئات السنين ككتاب للتعليم استعان بها صاحبها في تصريف أموره الخاصة وتعليم تلاميذه وكان واضع تلك الموسوعة الهائلة رجل ذاعت شهرته في الآفاق حتى لقّب بأعظم طبيب في القرون الوسطى و” بأحد أطبّاء العصور كلّها” إنّه الرازي..!

أعظم أطباء الإنسانية إطلاقاً !!
قبل 600 عام كان لكلية الطب الباريسية أصغر مكتبة في العالم لا تحتوي إلاّ على مؤلّف واحد، وهذا المؤلف كان لعربي كبير، كان ملك المسيحية لويس الحادي عشر قد دفع ثمنه غالياً من الذهب والفضة وكان هذا الأثر الضخم يضم كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام 925 بعد الميلاد، وظل المرجع الأساسي في أوروبا لمدّة تزيد على الأربعمائة عام بعد ذلك التاريخ من دون أن يزاحمه مزاحم أو تؤثّر فيه أو في مكانته مخطوطة من المخطوطات الهزيلة التي دأب في صياغتها كهنة الأديرة قاطبة، وهو العمل الجبار الذي خطّته يد عربي قدير.
وقد اعترف الباريسيون بفضله فأقاموا له نصباً في باحة القاعة الكبيرة في مدرسة الطب لديهم، وعلقوا صورته وصورة عربي آخر في قاعة أخرى كبيرة تقع في شارع سان جرمان حتى إذا ما تجمع فيه اليوم طلاب الطب وقعت أبصارهم عليها ورجعوا بذاكرتهم إلى الوراء يسترجعون تاريخه. إنه الرازي أو Rhases كما سمّته بلاد الغرب، و أمّا اسمه الحقيقي فهو أبو بكر محمد بن زكريّا.
ومن هنا فلا عجب أن يشهد مؤرخ الطب نويبرجر Neuberger بـ “أن العرب هم الذين أدخلوا النور والترتيب على تراث القدماء الذي لطالما اكتنفه الغموض ونقصه التسلسل .. صنّف العرب كتباً مختصرة جامعة عظيمة التماسك صبّوا فيها كل المواد الدراسية الخاصة وعرفوا كيف يقدمون العلوم في أشكال سهلة وصاغوا في لغتهم الحيّة التي لم تمت فيها كلمة تعابير علمية مثالية”، لهذا كله، فضّلهم الغربيون أول الأمر على غيرهم فأصبح العرب أساتذتهم الذين أخذوا عنهم العلوم الطبّية أكثر مما أخذوه من كتب اليونان المبعثرة الغامضة، فكان العرب أعظم معلّمي الغرب خلال سبعمائة سنة!!
وفي نحو أواخر القرن الثاني عشر تدفق سيل الترجمة تدفّقاً متواصلاً لم يكن بوسع أحد أن يوقفه، وانطلق من إسبانيا وصقلية ومن شمالي إيطاليا. فمن مدينة بادوا جاءت ترجمة كتاب الكلّيات لابن رشد وكتاب التيسير لابن زُهَر الأندلسيّ الذي عُرِف باللاتينيّة بـ Avenzoar مرّتين على التوالي.
ومن صقلّية جاءت ترجمة أضخم كتاب للرازي”الحاوي” والمسمّى باللاتينية Continens Rhases عام 1279 وقد أمضى اليهودي ابن سليم المتعلم في سالرنو بصقلّية نصف حياته في ترجمته؛ وظلّت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية على أشدّها حتى القرن السادس عشر وأضيفت أشياء جديدة لم تكن معروفة، وأعيدت ترجمة كتب أخرى مرة ثانية ككتابي “القانون” و”زاد المسافرين” لابن الجزار وكتب أخرى للرازي ولابن رشد. وبهذا انطلقت حركة فكريّة جبارة لم يقدر أي من العلماء في القرون التي تلت إلاّ أن يتأثّر بها.
وفي ذلك الوقت، كان كل تفكير خلاق يقف عاجزاً أمام طريقة التفكير الجامدة للكنيسة والتي كان على الأجيال الانصياع التام لتعاليمها والخضوع لأقوالها بلا قيد أو شرط … كان رجال العلم الأوروبيون يتبعون رجال الكهنوت ويتقيدون بأوامر الكنيسة ماعدا جماعة سالرنو ــ صقلّية ــ وجماعة نابولي وذلك على عكس الأطبّاء والعلماء العرب الذين كانوا يقفون أحراراً في الحياة غير مقيّدين إلا بقيود الحقيقة والعلم. أمّا ابن سينا والرازي خاصة فقد امتدت شهرتهما حتى القرن السابع عشر وأصبحت نعوتهما Annma Avicenne أو Avicennista Insinis (روح ابن سينا) ألقاباً يفتخر بها كل طبيب غربي.
وتشير هونكه إلى أن فنّ الجراحة يدين بتقدّمه وصعوده المفاجئ من مرتبة المهن “الحقيرة” الدنسة التي تكاد تكون بمنزلة مهن الجلادين والجزارين إلى القمة التي عرفها على أيدي العرب، وكان مؤلف ابن سينا أكثر كتاب طبي درسه طلاب المعرفة في تاريخ العالم، أما شروحه والتعليقات عليه فقد كان لا يحصيها عدد.
وفي القرن التاسع الميلادي لمع نجم في سماء الحضارة العربية وسجّل لها أكبر الأثر في سجلّ الفتوحات العلمية في عصر طار فيه صيت الرازي، ألا وهو جابر بن حيّان الذي كانت له شخصية سياسية على قدر كبير من التأثير، إذ كان أحد القادة الروحيين للإسماعيلية وكتب مؤلّفات دعاوية في قالب فلسفي علمي بشكل يلفت الأنظار الأمر الذي اضطرّ أحد أعداء العرب أن يعترف بعظمته فقال: “ لقد كان عالماً عظيماً بالرغم من أنّه كان عربيّاً”.(ص 325 )
وبرع العرب كل البراعة بكل ما قدّموه من أنواع الضّمادات والمساحيق واللزوق وغيرها وقد كان اهتمامهم منصبّاً على معالجة الخراجات والدّمامل وإنضاجها ثم شقّها ومداواة كثير من الأمراض الجلدية والجروح، كما إنهم سعَوْا إلى تخفيف آلام هذه الأخيرة واجتناب تقيّحها باستعمال الخمرة المعقّمة التي يوازي تأثيرها تأثير البنسلين وغيره من المواد المضادة للميكروبات(ص328)

“كتاب الحاوي في الطب لأبو بكر الرازي بقي المرجع لتعليم الطبّ في أوروبا لمدة 400 عـام”

أول من أنشأ الصيدليات
كان العرب أوّل من افتتح الصيدليات العامة في ظل حكم الخليفة المنصور العباسي نحو 780م، وكان في كل مدينة مفتّش خاص يفتش تحضير الأدوية ويراقبها برفقة شرطة الصحة إلى جانب فحص المواد الغذائية.. في حين كانت الكنيسة في أوروبا ترفض مثل هذه الإجراءات وتعتبرها تعدّياً على مصالحها.
وفي عام 999 نشر أبو القاسم الزهراوي ـ (توفّي 1013) مبادئ الجراحة التي ظلت شائعة لقرون عدة، وشرح البيروني، “ارسطوطاليس العرب” ، للفكر العلمي دوران الأرض حول الشمس واكتشف الحسن بن الهيثم قوانين الرؤية وأجرى التجارب بالمرايا والعدسات المستديرة والاسطوانية المخروطية.
وبينما كان العالم العربي يتّجه نحو ذروة عصره الذهبي وقف الغرب مذهولاً وقد تولاّه الفزع يترقّب نهاية العالم عمّا قريب ويعظ القيصر الشاب أوتو الثالث وهو ابن العشرين ربيعاً الناس فيقول: “ والآن سيأتي المسيح ويحضّر الناس ليقتص من هذا العالم”.. وبينما أوتو الثالث يتشدّق بهذه الكلمات الجوفاء كان ابن سينا وهو حينذاك فتى في العشرين من عمره وقد بدأ يملأ الدنيا بأنباء فتوحاته العلمية الباهرة.
لقد أتى سادة الحضارة الجدد من قلب الصحراء الجدباء ليتبوّأوا فجأة مركز الزعامة بين حضارات العالم بلا منازع مدة ثمانية قرون وبهذا ازدهرت حضارتهم أكثر من حضارة الإغريق أنفسهم .
في ذلك الزمن كانت أوروبا تعلن أنّ الطريق الوحيد لتطهير الروح هو طريقها والضلال هو البحث عن الحقيقة في غير الكتاب المقدّس، لقد كان عالماً أدار ظهره للعلم، “فالإسكندريّة كنز المعرفة الإغريقية والتي أصبحت مركزاً للمسيحية إلى جانب روما حُرِقت فيها نفائس ثمينة لا تعوّض من الشعر والأدب والفلسفة والتاريخ والعلم والثقافة الإغريقية حرقتها وأبادتها جموع من المسيحيين المتعصبين”، أمّا ما اتّهم به عمرو بن العاص فاتح الإسكندرية عام 642م “فهو مجرّد اختلاق لا أساس له من الصحّة.. فهو قد ضُرب المثل بتسامحه طوال فتوحاته، إذ حَرّم النّهب والسّلب على جنوده، وعمل ما كان غريباً عن فهم الشرقيين القدماء والمسيحيين على السواء : لقد ضمن صراحة للمغلوبين حرّية ممارسة شعائرهم الدينيّة المتوارثة “.

امتلاك العرب لصناعة الورق لعب دورا كبيرا في ازدهار العلوم والثقافة ثم في حركة ترجمة التراث العربي والإسلامي إلى الممالك الأوروبية
امتلاك العرب لصناعة الورق لعب دورا كبيرا في ازدهار العلوم والثقافة ثم في حركة ترجمة التراث العربي والإسلامي إلى الممالك الأوروبية

“العرب أدخلوا النور على تراث القدماء الذي لطالما اكتنفه الغموض ونقص التسلسل، وهم صنّفوا كتباً جامعة عظيمة وعرفوا كيف يقدمون العلوم في أشكال سهلة صاغوها بلغتهم”

تسامح العرب
تقرّ هونكِه بتسامح العرب }لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ (البقرة: 256)، هذا ما أمر به القرآن الكريم وبناء على ذلك، فإن العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام فالمسيحيون والزرادشتيّة واليهود لاقَوْا قبل الإسلام أبشع أمثلة التعصّب الديني وأفظعها، وقد سُمِح لهم جميعاً من دون أي عائق بممارسة شعائر دينهم وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم من دون أن يمسّوهم بأدنى أذى.
طلب العلم عبادة
في ص 368 وتحت عنوان طلب العلم عبادة تقول هونكه:” لقد أوصى مُحمّد (ص) كل مؤمن رجلاً كان أو امرأة بطلب العلم وجعل من ذلك واجباً دينيّاً فهو الذي يقول للمؤمنين “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد” ويرشد أتباعه دائماً إلى هذا فيخبرهم بأنّ ثواب العلّم كثواب الصيام وأن ثواب تعليمه كثواب الصلاة”.

في السياسة، والعلم سفير للسلام تقول هونكه: لقد أحاط العرب الكتب بقلوبهم حتى المؤلّفات الفنيّة في الهندسة والميكانيكا والطب والفلك والفلسفة .. وهكذا طلب هارون الرشيد بعد احتلاله أنقرة تسليم المخطوطات الإغريقية القديمة وكانت الحركة الثقافية قد بدأت مبكرة أيام الأمويين على يد الأمير الأموي خالد بن يزيد الذي بدأ بدعوة المتعلّمين من الإغريق والعرب من الإسكندرية، وعهد إليهم  بترجمة أعمال يونانيّة ومصريّة إلى اللغة العربيّة.
وفي العصر العباسي ازدهرت حركة الترجمة على يد السريان أبناء موسى بن شاكر الثلاثة الذين خصصوا ربع أملاكهم الضخمة للترجمة وجمع الكتب فضربوا بذلك المثل لغيرهم أمثال الطبيب قسطا بن لوقا البعلبكي، وكذلك حنين بن أسحق الذي قال عنه يحيى بن ماسويه رئيس المترجمين في عصري الرشيد والمأمون: “إنّ الذي فعله لا يستطيع عقل بشري أن يصوغه تلك الصياغة الرائعة، إنّه والله الإلهام من الروح القديم”. وبأعمالهم تلك “حمى المترجمون العرب آثار القدماء العلمية من الضّياع والزوال”.

شعب يذهب إلى المدرسة
لو أردنا دليلاً على مدى الهوّة العميقة التي كانت تفصل الشرق عن الغرب لكفانا أن نعرف أنّ نسبة 95% على الأقل من سكان الغرب في القرون: التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر كانوا لا يستطيعون القراءة والكتابة، وبينما كان شارل الأكبر يجهد نفسه في شيخوخته لتعلّم القراءة والكتابة وبينما أمراء

الأسطرلاب-العربي-كان-أهم-وسائل-الملاحة-البحرية
الأسطرلاب-العربي-كان-أهم-وسائل-الملاحة-البحرية

الغرب %

حول نظرية الأصل الخزري لليهود

حـــــــول فرضيــــــــة الأصــــــــل
الخــــزري لليهــــود الغربييــــن

حـــــــول فرضيــــــــة الأصــــــــل
الخــــزري لليهــــود الغربييــــن

التوسّع الصهيوني إستند دوماً إلى الضعف العربي
أكثر من استناده إلى حقوق تاريخية مزعومة

لم تبرز نظرية تحدُّر اليهود الأوروبيين من الشعب الخزري الآسيوي إلا في النصف الثاني من القرن الماضي، لكن هذه النظرية التي لم يتبناها إلا عدد محدود جداً من الكتّاب وأحد علماء الجينات اليهود تحوّلت إلى أحد أكثر المواضيع إثارة للجدل والتعليقات داخل الوسط اليهودي وخارجه أيضاً واستقطبت النظرية بصورة خاصة إهتماماً واسع النطاق في العالم العربي حيث تحمّس لها كثيرون باعتبارها توفّر حجة بالغة في الجدل حول شرعية الكيان الصهيوني ودولة إسرائيل. وبالنظر إلى الحيز الذي احتلته في نصف القرن الماضي ثم تبني عدد كبير من المفكرين والمؤرخين العرب لها فإننا وجدنا من المفيد تخصيص هذا المقال لتمحيص هذه النظرية ومحاولة تحليل الحسابات والدوافع التي شجّعت على صياغتها وانتشارها.
رغم وجود بعض الآراء المتفرقة في الموضوع مثل أفكار بنجامين فريدمان في خمسينيات القرن الماضي فإن الفضل في الترويج لفكرة أن اليهود الأوروبيين ليسوا من أصل يهودي سامي يعود للكاتب اليهودي الهنغاري الأصل آرثر كوستلر ولكتابه الذي أصدره في العام 1976 ونال شهرة واسعة وهو بعنوان “السبط الثالث عشر”.
حسب كوستلر، فإن اليهود الغربيين (الأشكناز) لا ينتمون عرقياً إلى شعب إسرائيل التاريخي المذكور في الكتب المقدسة، بل هم متحدِّرون من شعب ذي أصول آسيوية تركية الذي كان يعيش في ما عرف بإمبراطورية الخزر التي قامت بين البحر الأسود وبحر قزوين والتي تبنّى شعبها اليهودية في القرن الثامن الميلادي، ثم نزح بعد ذلك، وبعد انهيار مملكة الخزر، إلى أوروبا الشرقية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر وخصوصاً إلى أوكرانيا وبولونيا وبيلاروسيا وليتوانيا وهنغاريا وألمانيا، وبناء عليه، اعتبر كوستلر ثم كتّاب آخرون يساريون مثل شلومو ساندز بأن الغالبية العظمى من يهود أوروبا يعودون في جذورهم إلى شعب الخزر وليسوا بالتالي ساميين.
هذه النظرية التي تعتبر “ثورية” فعلاً إن في مؤداها أو في نتائجها السياسية ضعيفة من الأصل وقد أسقطتها لاحقاً مختلف الدراسات الجادة التي قامت بها مجموعات من علماء وباحثين استخدمت أحدث تقنيات علوم الجينات البشرية (وسنأتي على ذكر بعض تلك الدراسات بعد قليل)، فآرثر كوستلر الذي كان له الدور الأهم في الترويج لهذه النظرية، رغم كونه مفكراً لامعاً، لم يكن مؤرخاً ولا عالماً طبيعياً وهو بنى نظريته على مصادر ثانوية وعلى إنتقائية إستخدم فيها ما يلائم النتائج التي يريد أن يتوصل إليها، وقد سُفِّهت نظريته على نطاق واسع لكنها مع ذلك حققت شهرة كبيرة بسبب طابعها المثير للجدل وترجمة كتبه إلى عدد كبير من اللغات بما فيها اللغة العربية، وانتشرت مقولات كوستلر

“من مفارقات نظرية الأصل الخزري لليهود الأشكناز الإقرار ضمناً بحق يهود الشتات بإستيــــــطان فلسطين”

في الصحف والإعلام العربي، وأفاض الكتّاب والمعلقون في استقراء النتائج السياسية التي تترتب على تلك النظرية وأبرزها دحض الإدعاء بأن اليهود الأوروبيين هم من مكونات الشتات اليهودي وهو ما يهدم “شرعية” الهجرة إلى فلسطين أو شرعية إدعاء اليهود حق العودة إلى فلسطين. وقد تبنّى هذا الموقف بصورة خاصة عالم ومؤرخ عربي كبير هو عبد الوهاب المسيري الذي أصدر في العام 2008 كتاباً بعنوان “ من هم اليهود، وما هي اليهودية”؟ يعتبر من أهم الكتب التي يجب قراءتها لفهم المسألة اليهودية والعوامل التي ساهمت في إطلاق الفكرة الصهيونية ومشروع الإستعمار الغربي لفلسطين. وفي كتابه يعتبر المسيري أن نشوء إسرائيل تمّ نتيجة توافق من أوروبا المسيحية على “تصدير المشكلة اليهودية إلى الشرق بإقناع الفائض البشري اليهودي بأن تهجيره إلى فلسطين ليس محاولة للتخلص منه وإنما هو عودة إلى أرض الميعاد إلى آخر هذه الترهات، وبالفعل قامت الإمبريالية الغربية بتأسيس الدولة الصهيونية لتستوعب هذا الفائض ولتكون قلعة أمامية تدافع عن مصالح العالم الغربي في المنطقة العربية”.
إن المسيري محق بالتأكيد في اعتبار إسرائيل واليهود الذين تبنوا التفكير الصهيوني مجرد “جماعة وظيفية” لخدمة مصالح الدول الغربية في تقسيم العالم العربي والسيطرة على هذه المنطقة التي أصبحت بلا مرجعية بعد انهيار السلطنة العثمانية، لكنه وهو المعروف بدقته التاريخية لم يستطع مع ذلك مقاومة إغراء العائد السياسي الجاهز لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين فمال بالتالي إلى تبنّي النظرية. ولأن دراسة إران الحايك، وهو عالم جينات إسرائيلي مثيرة للجدل1 لم تكن قد نشرت بعد، فإن ذلك يعني أن المرجع الأهم الذي قد يكون المسيري استند إليه هو كتاب آرثر كوستلر “السبط الثالث عشر.
لكن قبل الدخول في عرض النظريات والأبحاث الكثيرة التي تتناول الأصول الأثنية لليهود الأوروبيين من المفيد أن نعرض هنا إلى أن كوستلر نفسه إعترف في وقت لاحق لصدور كتابه أنه أراد منه خدمة هدف سياسي هو إلغاء الذرائع العرقية التي بنيت عليها معاداة السامية (أي معاداة اليهود) في أوروبا، فهو أخبر صديقه عالم البيولوجيا الفرنسي بيير دوبريه ريتزن بأنه “على يقين بأنه إن أمكنه أن يثبت أن غالبية يهود أوروبا (الأشكناز) هم متحدِّرون من شعب الخزر البائد وليس من بني إسرائيل التاريخيين فإن ذلك سيزيل الأساس العرقي الأهم لمعاداة السامية وبالتالي المشاعر المعادية لليهود في أوروبا”.

أجندة كوستلر السياسية
إن الواقعة السابقة توضح بأن كوستلر الذي لم يكن مجهزاً للكتابة في موضوع معقّد مثل الأصول العرقية لليهود الأوروبيين كان يتحرك بهدف سياسي هو رفع الضغط العنصري عن اليهود الأشكناز من خلال تبرئتهم من وزر أساسي هو تهمة صلب المسيح واضطهاد المسيحية وهو إرث جعل اليهود تاريخياً في موقع العدو للشعوب المسيحية..
كان كوستلر قد بدأ حياته شيوعياً ستالينياً ثم انقلب على الشيوعية وعمل مع الأجهزة الغربية2 وتحول إلى أحد أبرز مناهضي الشيوعية مع شيوعي سابق كسب شهرة أوسع هو جورج أورويل الذي صوّر بشاعة الدكتاتورية الستالينية في كتابه الشهير “مزرعة الحيوانات”، كما أصدر أشهر كتبه عن هيمنة الدولة على الفرد في كتابه الشهير الآخر “1984” ، وقد فوجئ كوستلر بأن نظريته التي أراد أن تخفف الضغط عن اليهود الغربيين تلقفتها على الفور الأوساط التي تعادي الدولة الصهيونية بإعتبارها تزيل أي شرعية عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقد أثارت هذه المضاعفات غضب الأوساط اليهودية التي اتهمت كوستلر بالتفكير المغامر والأخرق الذي أضرّ بالقضية اليهودية أكثر مما نفعها لذلك، سارع كوستلر للدفاع عن نظريته بالقول إنه لم يقصد بها نفي حق إسرائيل بالوجود معتبراً أن هذا الحق وبالتالي شرعية إسرائيل- لا يستندان إلى مبررات دينية أو عرقية بل إلى قرارات الأمم المتحدة وبالتالي فإن الجدل حول أصل اليهود لا يجب أن يكون له أثر على حق اليهود في الانضمام إلى المجتمع الإسرائيلي.
لكن، وفي جميع الأحوال، فإن احتفال الكتّاب العرب بنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين كان فيه استعجال لأن النظرية نفسها تنطوي على مزالق بل على فخ محكم لم يتنبه إليه المتحمسون لها وهذه المزالق تكمن في ما يلي:
1. إن نظرية الأصل الخزري ضعيفة جداً من الناحية العلمية وإن كانت مناسبة في نظر البعض من الناحية السياسية، وسنبيّن بعد قليل أن أكثر الدراسات الجادة كذبتها، فهي لذلك ليست أرضاً صلبة يمكن الوقوف عليها في مناهضة الصهيونية ومشروعها في إسرائيل..
2. إن بناء الحق الفلسطيني ليس على أن إسرائيل في حدّ ذاتها مشروع باطل وغاصب للحق بل على حجة فرعية هي أن اليهود الذين يهاجرون إليها من الدول الأوروبية لا يحق لهم ذلك لأنهم ليسوا من يهود الشتات، يعني الإقرار ضمناً بأن من حق يهود الشتات أي أولئك الذين ينتمون فعلاً إلى الشعب اليهودي الأصلي أن يطالبوا بحق العودة، وهذا من أغرب المفارقات.
3. إن أكثر من نصف السكان في إسرائيل اليوم هم من المزراحين Mizrachim أي الذين كانوا في فلسطين العربية أو هاجروا إليها بصورة خاصة من الدول الإسلامية والعربية التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية خصوصاً بعد حربي 1948 و1967. فما هو في نظر أصحاب نظرية الأصل الخزري لليهود الغربيين حكم هؤلاء اليهود (وهم بصورة أكيدة ينتمون إلى الشعب اليهودي الأصلي)؟ هل لأنهم كذلك يعني أن من حقهم الهجرة إلى إسرائيل؟
إن الواقع الديمغرافي للسكان في إسرائيل اليوم يشير بوضوح إلى أن الاستثمار في نظرية الأصل الخزري لليهود الأشكناز (الذين يمثلون اليوم أقل قليلاً من نصف سكان إسرائيل) لا فائدة منه لأنه حتى ولو افترضنا جدلاً أن قسماً كبيراً من هؤلاء لا يعودون بأصولهم إلى اليهود الساميين فإن ذلك لن يتناول إلا نسبة معينة من سكان إسرائيل اليوم، وسنكون قد وضعنا أنفسنا في مأزق كبير بحيث قبلنا بصورة غير مباشرة بشرعية إسرائيل ككيان، لكن مع الدخول في جدل بيزنطي حول من يحق له ومن لا يحق له الهجرة إليها واغتصاب حقوق سكانها الأصليين!

حقيقة اليهود الخزر
إن أسطورة الأصل الخزري لليهود الغربيين تقوم على مغالطة أساسية هي الخلط بين اعتناق خاقان (ملك) الخزر والنخبة المحيطة به لليهودية في القرن التاسع الميلادي لأسباب سياسية وبين الإدعاء بأن شعب الخزر جميعه إعتنق اليهودية وهو ادعاء تظهر كل البراهين التاريخية أنه باطل، لأن هذا الشعب الآسيوي كان في غالبيته الكبرى من المسلمين والمسيحيين وبعض الوثنيين، وقد كان الخزر جزءاً من الإمبراطورية التركية الغربية في آسيا الوسطى في حوالي منتصف القرن السادس الميلادي قبل أن تعتنق الشعوب التركية الإسلام.
ومن المتفق عليه بين المؤرخين أن الخزر حصلوا على درجة كبيرة من الاستقلالية في ظل الحكم العربي الإسلامي، وأقاموا دولة خاصة بهم وأن ملك الخزر (الخاقان) إعتنق الديانة اليهودية في القرن الثامن للميلاد وتبعه بعض حاشيته لسبب سياسي هو وقوع الخزر بين فكي صراع شرس بين الدولة الإسلامية العبّاسية في ظل الخليفة هارون الرشيد وبين الدولة المسيحية البيزنطية، فأراد الخاقان أن ينأى بمملكته عن الصراع ووجد في تبني الدين اليهودي الذي كان معترفاً به كدين كتابي حلاً يبرر له الوقوف على الحياد بين الإمبراطوريتين النصرانية والإسلامية، لكن تهوّد الخاقان وحاشيته لم يتجاوز نطاق الطبقة السياسية إلى الشعب الخزري الذي كانت تنتشر وسطه الديانتان الإسلاميّة والمسيحية إلى جانب بعض المعتقدات الوثنية، ولم يكن في وسع الخاقان –أو مصلحته- أن يجبر المجموعات الدينية المختلفة

آرثر كوستلر لعب الدور الأهم في الترويج لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين وأقر لاحقا بأن هدفه كان سياسيا
آرثر كوستلر لعب الدور الأهم في الترويج لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين وأقر لاحقا بأن هدفه كان سياسيا

في المملكة على تبني اليهودية بالقوة لأنه كان سيستفز بذلك العباسيين والبيزنطيين معاً. ويذكر الاصطخري3 أن دولة الخزر كانت تديرها “طبقة حاكمة” من اليهود، وأما شعوبها فأغلبهم من المسلمين والمسيحيين والوثنيين، وأن المساجد كانت تنتشر في أرجاء المملكة إلى جانب الكنائس المسيحية والمعابد، كما إن المحكمة العليا كانت مشكلة من أعضاء من المسلمين والمسيحيين والوثنيين، ورغم تعاظم الدولة الإسلامية وانتشار الدين الحنيف فقد هادنت الدولة الإسلامية مملكة الخزر وقامت علاقات قوية تجارية وثقافية بين الطرفين لكن قامت بعد ذلك حروب انتهت بزوال مملكة الخزر واستيلاء العرب المسلمين على معظم أقاليمها وتحول الخزر نتيجة لذلك إلى شعوب تعيش في ظل الدولة الإسلامية الواسعة المترامية الأطراف وعلى سبيل المثال، فإن أحد أبرز علماء المسلمين وهو أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، صاحب تفسير الطبري هو من طبرستان في مملكة الخزر.
إن الوقائع السابقة الواردة في روايات المؤرخين العرب خصوصاً تظهر أن شعب الخزر بقي رغم تهوّد الخاقان وحاشيته في أكثريته الساحقة من غير اليهود، وأن هذه الأكثرية كانت قد تحوّلت إلى الإسلام في القرن الثاني عشر. وقد لا ينفي ذلك هجرة فئة من يهود الخزر إلى أوروبا الشرقية أو الغربية، لكنه يظهر أن تلك الهجرات كانت محدودة وربما نتج عنها اختلاط بين اليهود الخزر وبين اليهود الذين كانوا قد قدِموا من الشرق الأوسط إلى أوروبا منذ أيام الرومان، لكن هذا التمازج كان محدوداً كما بيّنت لاحقاً الدراسات الجينية التي أثبتت أن العنصر الخزري لم يظهر إلا بنسبة ضئيلة في التكوين الجيني لليهود الأوروبيين، بينما

مملكة الخزر كانت تضم عشرات القبائل والأعراق والديانتين الإسلامية والمسيحية فضلا عن الوثنيين السلاف دخلت معظم شعوبها مع ال
مملكة الخزر كانت تضم عشرات القبائل والأعراق والديانتين الإسلامية والمسيحية فضلا عن الوثنيين السلاف دخلت معظم شعوبها مع ال

“خاقان الخزر وحاشيته تهوّدوا في القرن التاسع سعياً للحياد في الصراع بين بيزنطة والدولة الإسلامية لكن أكثرية الشعب بقيت على الديانتين الإسلامية والمسيحية”

تبين بوضوح أنهم يحملون بأكثريتهم البصمات الجينية لليهود الساميين المنتمين إلى بلدان الشرق الأوسط.
وسنسرد في ما يلي مقتطفات من أبحاث جينية تمت في العقدين الأخيرين في ما يتعلق بالأصول الأثنية لليهود الأوروبيين والتي تثبت جميعها عدم صحة فرضية الأصل الخزري.

1. في العام 1999 صدر بحث علمي بعنوان “يهود وشعوب الشرق الأوسط غير اليهودية يشتركون في مجموعة واحدة من الكروموزوم Y البياللي” لهامر وآل4 نشر في محاضر الجمعية الأميركية للعلوم وجاء فيه: “على الرغم من إقامتهم لمدة طويلة في بلدان مختلفة وبعزلة بين مجموعة وأخرى، فإن معظم السكان اليهود لم يظهروا اختلافاً كبيراً في ما بينهم على مستوى الخصائص الجينية”، وأضاف التقرير العلمي

الشعب الخزري من أصول تركية ويختلف كليا عن العرق اليهودي
الشعب الخزري من أصول تركية ويختلف كليا عن العرق اليهوديعن نتائج البحث القول:”إن معظم الجماعات اليهودية بقيت في عزلة نسبية عن محيطها غير اليهودي خلال الشتات وما بعده” و”إن اليهود الغربيين (الأشكناز) يشتركون في أصولهم مع الجماعات اليهودية الشرق أوسطية بدرجة أكبر من اشتراكهم في تلك الخصائص مع الجماعات غير اليهودية القاطنة في أوروبا الشرقية وألمانيا”.

2. أظهرت دراسة نشرت في العام 2006 بعنوان “التركيبة الثانوية للشعب الأوروبي : خصائص الأقوام الجنوبية والشمالية” أن اليهود الأشكناز (الأوروبيون) والسفارديم (الشرقيون) أظهروا أنهم يشتركون في ما لا يقل عن 85% من خصائص الجماعة الجنوبية وهو ما ينسجم مع القول بوجود أصل متوسطي مشترك للجماعتين.

البروفسور-إران-حايك-مروج-نظرية-الأصل-القوقازي-للدروز
البروفسور-إران-حايك-مروج-نظرية-الأصل-القوقازي-للدروز

3. في نيسان سنة 2008 بعنوان “ إحصاء الأسلاف: الخصائص الجينية المشتركة للشتات اليهودي” خرج الباحثون بنتيجة أن 40% من اليهود الأشكناز يتحدّرون من أربع جدّات نساء جميعهن من أصل شرق أوسطي.
4. في كانون الثاني 2009 صدرت دراسة حول أسلاف الشعب اليهودي في المجتمع الأوروبي الأميركي وانتهت إلى القول “إن الأفراد اليهود الذين أظهروا انتماءهم الكامل إلى سلالة يهودية شكلوا مجموعة مختلفة تماماً عن أولئك الذين لا ينتسبون إلى أصول يهودية” وأظهر البحث “أن اليهود الأشكناز والسفارديم أظهروا إنتماءهم إلى مجموعة أثنية واحدة” وهذا الافتراض سيكون مستحيلاً في حال الأخذ بنظرية الأصل الخزري لليهود الأشكناز.
5. في شهر كانون الأول 2009 خرجت دراسة حول الأصول المشتركة بين يهود الشرق الأوسط واليهود الغربيين5 بالاستنتاج التالي: “ إن المجموعات الأثنية اليهودية تظهر مستوى عالياً من التماثل الجيني في ما بينها، وهذه النتيجة تدعم القول بأن الجماعات اليهودية تشترك في أصول شرق أوسطية وأنهم حققوا خلال تاريخهم درجات مختلفة من الإمتزاج مع الأعراق غير اليهودية ذات الأصول الأوروبية”.
6. في دراسة صدرت في كانون الأول 2009 بعنوان “ التركيب الجيني للشعب اليهودي” انتهى الباحثون إلى القول: “إن العينات التي تمّ درسها من أوساط مختلفة من يهود الشتات أظهرت أن معظمها يعود بأصوله إلى بلدان المشرق”.
7. في حزيران 2010 أظهرت دراسة بعنوان6: “أبناء أبراهام في عصر الجينوم: “إن معظم جماعات الدياسبورا اليهودية ذات أصول شرق أوسطية” وقد جاء في الدراسة أن الأبحاث التي جرت على 7 مجموعات يهودية من إيران والعراق وسوريا وإيطاليا وتركيا واليونان واليهود الأشكناز (الأوروبيون) أظهرت وجود خصائص لكل من تلك المجموعات تعود إلى أصول شرق أوسطية لكن مع وجود درجات متفاوتة من التمازج مع العنصرين الأوروبي والشمال أفريقي” وتضمّنت الدراسة رفضاً صريحاً لنظرية الأصل الخزري لليهود الأوروبيين بالقول:”إن القرابة الجينية بين المجموعات المدروسة لا تتوافق مع النظريات التي تقول بأن اليهود الأشكناز متحدِّرون مباشرة من الخزر السلاف الذين اعتنقوا اليهودية”.
وهناك في الحقيقة مصادر عديدة وأبحاث لا يتسع المجال لذكرها في هذا المجال تظهر كلها أن لليهود الأشكناز جذوراً مشتركة مع يهود بلدان المشرق الذين عاشوا طويلاً في أنحاء الدولة الإسلامية واندمجوا بمجتمعاتها، كما إن الدراسات اللغوية (الألسنية) تظهر أن كلمات عديدة تنتشر بين اليهود الأشكناز والسفارديم على السواء وأن المفردات الخزرية تكاد تكون مفقودة من لغة اليديش (العبرانية-الألمانية) واللهجات العبرية الأوروبية الأخرى كتلك التي سادت بين يهود إسبانيا وشمال أفريقيا.
صك براءة لأوروبا؟
إن هناك حلقة مهمّة مفقودة في الجدل الذي أثارته نظرية الأصل الخزري لليهود الغربيين وهي حلقة تبيّن ربما لماذا سعى الإعلام الأوروبي للترويج إلى تلك النظرية، ولماذا حصل ذلك التبني للكاتب آرثر كوستلر إلى حدّ تحوله إلى نجم في المجتمع البريطاني؟ هذه الحلقة تتعلق بأن الأكثرية الكبرى من يهود أوروبا الشرقية لم يأتوا من بلاد الخزر بل من دول أوروبا الغربية التي قامت بتهجير الجماعات اليهودية على مراحل، الأمر الذي دفع بهم للتوجه إلى مجتمعات أوروبا الشرقية التي استقبلتهم للإستفادة من خبراتهم ومهاراتهم التجارية والحرفية. ومعروف أن أكثر اليهود الأوروبيين هم ساميون ينحدرون من أصول شرق أوسطية وكان معظمهم قد هاجروا على مراحل مختلفة من بلدان الشرق الأدنى ثم إبان الحكم الروماني خلال القرون الأولى للميلاد.
إن نظرية الأصل الخزري لليهود الغربيين فضلاً عن أنها في اعتقاد أصحابها تخدم أغراض اليهود في جعلهم من أصول غير سامية وتنفي بالتالي صلتهم باليهود الساميين الذين يتهمهم المسيحيون بصلب المسيح، فإنها تخدم المجتمعات الأوروبية من خلال التغطية على فصل مظلم في تاريخ تلك المجتمعات يتعلق بإضطهاد اليهود ودفعهم بالتالي الى الهجرة باتجاه أوروبا الشرقية التي أصبحت لهذا السبب (وليس لقدوم مزعوم ليهود الخزر) تضم النسبة الكبرى من اليهود الأشكناز والتي شكلت لاحقاً (مع روسيا) المصدر الأكبر للهجرات اليهودية إلى فلسطين.

خلاصة
إن الحماسة التي أثارتها داخل العالم العربي نظرية ضعيفة وتدحضها البراهين العلمية حول أصل خزري لليهود الأشكناز تمثل نموذجاً عن نمط في مواجهة التحديات الوجودية يتَّصف بالتسرّع والسهولة وإهمال واجب التمحيص والتدقيق في الوقائع قبل إصدار الأحكام، كما إنه انسياق وراء الأماني والآمال الخادعة في حرب وجود شرسة لم نستطع منذ البدء أن نكون في مستوى المسؤوليات التي تفرضها. إن التوسع الصهيوني في فلسطين والمنطقة يستند بالدرجة الأولى، ومنذ العام 1948 وحتى يومنا هذا، إلى ضعف العرب وتمزق صفوفهم وتخلّف حكوماتهم ولم تكن دعوى الحقوق التاريخية المزعومة فيها إلا حجة القوي الغاصب في وجه المغصوب الضعيف. وها نحن نمضي في إضاعة بلداننا التي تغتصب أو تنتهك تحت أنظارنا دونما حاجة للغاصبين حتى لتقديم حجة أو لتبرير أفعالهم بـ “حقوق تاريخية” أو ما شابه من الأعذار.

تاريخ الموحدين الدروز والموارنة

في ضوء مؤلَّفاتهم القديمة

تاريــــــخ الموحِّــــدين الــــدروز والموارنـــــة

السجل الأرسلاني – قواعد الآداب حفظ الأنســـــاب – تاريــخ بيـــروت تاريخ ابن سباط- زجليات ابن القلاعي

لا بُدّ من الإشارة أولاً إلى أن ما سيرد ذكرهُ ليس تاريخاً للموحِّدين (الدروز) والموارنة، نكتبهُ في ضوءِ المصادر والمراجع القديمة والحديثة، ونتطرّق فيه بالتالي إلى تاريخ سائر الطوائف التي سكنت معهم أو جاورتهم في المناطق اللبنانية، وإنما هو خلاصةُ قراءةٍ متأنّية ومعمّقة لما جاء في خمسةِ مصادر تاريخية دوّنها أبناؤهم في القرون الوسطى، مع ذكر بعض الإيضاحات والتصويبات والشروحات، من أجل وضع ما جاء في هذه المصادر في السياق التاريخي العام.
الموحِّدون (الدّروز) في لبنان
بعد أن انتشرت الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية كلها، إنطلق العرب المسلمون في الفتوحات لنشر الإسلام خارجها، فتمَّ لهم – وفي فترة قصيرة- انتزاع بلاد الشام ومصر من الروم البيزنطيين، وانتزاع العراق من الفرس، كما توسَّعوا خارج هذه الأقطار، وقد فتح القائد أبو عبيدة بن الجرّاح البقاع، وفتح يزيد بن أبي سفيان، بمعاونة أخيه معاوية، مدن الساحل اللبناني، لكن الجيوش العربية لم تتوغّل في المناطق الجبليّة اللبنانية، في البداية. ومن أجل ملء الفراغ السكاني الذي أحدثه جلاء الروم البيزنطيين وجلاء بعض السكان معهم، ومن أجل حماية سواحل بلاد الشام ومدنها من غارات الروم البيزنطيين الذين ظلوا يحاولون العودة إليها، أعاد العرب إعمار هذه المدن، وشحنوا السواحل بالمرابطين والمثاغرين.
وفي سنة 758م استقدم الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور المناذرة اللخميين للمرابطة في جبل بيروت المعروف أيضاً بـ”جبل الغرب” من أجل الدفاع عن بيروت وساحلها، من هجمات الروم البيزنطيين، ومن أجل حمايةِ الطرق البرية المؤدية إليهما من اعتداءات من سمّاهم المؤرّخ طنوس الشدياق:”المردة المتحصّنون في الجبال العالية”، ومنذ ذلك الحين أصبح المناذرة اللخميون: الأرسلانيون، والتنوخيون، وبنو فوارس، وآل عبد الله – وهم بعض أجداد الموحِّدين الدروز- النواة التي استقطبت جموع النازحين الدروز إلى جبل لبنان من مناطق حلب ووادي التيم وفلسطين، وأبرزهم النازحون الذين جاؤوا إلى لبنان في سنة 820م، بحسب ما يذكر أحد المصادر التي سنتحدّث عنها.

إن أصول الموحِّدين الدروز من عرب اليمن في جنوب الجزيرة العربية، ومن عرب نجد والحجاز في شمال الجزيرة، أي أن أصولهم عربية يمنية وقيسية كانوا على مذهب السُّنّة، وتشيَّع بعضهم عند سيطرة الدولة الفاطمية على بلاد الشام وغدَوا منذ النصف الأول للقرن الحادي عشر الميلادي على معتقد “التوحيد” أو “مسلك التوحيد” الذي هو أحد المذاهب الإسلامية، والذي اشتق اسمهم الحقيقي منه (الموحِّدون)، فيما اسم “الدروز” تسمية خاطئة لكنهم اشتهروا وعُرفوا بها عبر التاريخ.
توطّن الموحِّدون (الدروز)، من لبنان، جنوب كسروان ومناطق المتن والجرد والغرب والشوف ووادي التيم، وأسَّسوا في هذه المناطق إمارات امتدَّ نفوذها إلى غيرها من المناطق اللبنانية، وإلى خارج لبنان أحياناً كما في عهد الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني، وأكّدوا عروبة لبنان وإسلامه، ولم يتخذوا من مواقعهم فيه ملاجئ حصينة يحتمون بها فقط، بل أيضاً خطوط دفاع عن ساحل الشام وداخلها ضد غزوات الروم والفرنجة، مما جعلهم سيوفاً مشهرة للعروبة والإسلام.
شكَّل الموحِّدون الدروز مع جيرانهم الموارنة النازلين في جبل لبنان الشمالي، ثم المُساكنين لهم في مناطقهم منذ القرن السابع عشر، ثنائيّة صبغت بسماتها تاريخ لبنان الوسيط وتاريخه الحديث، وأسَّست لكيانه الذي عُرف من سنة 1861 وحتى سنة 1920 بـ”لبنان الصغير”، وعُرف بعد ذلك بـ”لبنان الكبير”.

الموارنة في جبل لبنان
الموارنة في المعتقد الديني هم أتباع القدّيس مارون الذي عاش في القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلادي، وتوفي سنة 410م، ويُقال إنه دُفن في براد في جبل نابو سابقاً الذي هو جبل سمعان في سورية اليوم. والموارنة من المسيحيّين القائلين بالطبيعتَين والمشيئتين للسيد المسيح، لذا بدَوا مختلفين عن اليعاقبة القائلين بالطبيعة الواحدة للمسيح، وعلى نزاع معهم، واضطرُّوا جرّاء اضطهاد هؤلاء لهم للنزوح سنة 669م من وادي العاصي، حيث يقيمون، إلى جبل لبنان الشمالي، ولحق بهم أخوان لهم في سنة 685 جرَّاء اضطهاد الروم البيزنطيين لهم.
تزامن قدوم الموارنة إلى جبل لبنان مع قدوم الجراجمة إليه، وهؤلاء نُسبوا إلى جرجومة في جبل اللكام، وقد سخَّرهم الروم البيزنطيون وأرسلوهم لإشغال الدولة العربية في بلاد الشام بعد جلائهم عنها، لذا سمّاهم بعض المؤرّخين المسلمين “خيل الروم”. وممن سخّرهم الروم أيضاً لإشغال الدولة العربية: المردائيون الذين عُرفوا باسم “المردة”. وقد بقيت أقلّيّة من الجراجمة والمردة متوطّنة في جبل لبنان بعد صلح الإمبراطور البيزنطي يوستنيان مع الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، واختلطت مع الموارنة، ومن هنا كان منشأ إشكاليّة الموارنة والمردة والجراجمة التي عالجها المؤرِّخون الذين تكلَّموا عن أصل الموارنة واختلفوا فيه.
إن أوّل من ذكر المردة –وبإسم المردائيتاي- هو المؤرِّخ البيزنطي تيوفانس المتوفَّى سنة818م، وهم من أصل فارسي. وأول من أطلق على الموارنة اسم “المردة” هو البطريرك إسطفان الدويهي (1630-1704) الذي قال إن الموارنة لقِّبوا بالمردة لأنهم تمرَّدوا على الإمبراطور البيزنطي يوستنيان. وبما أن المجال لا يتّسع هنا لذكر سائر المؤرِّخين وأقوالهم عن أصل الموارنة وعلاقتهم بالمردة والجراجمة، سنكتفي بذكر أسماء معظمهم مع مؤلَّفاتهم، وهم إضافة إلى البطريرك إسطفان الدويهي ومؤلَّفَيْه: “تاريخ الأزمنة” و”تاريخ الطائفة المارونيّة”، المطران يوسف الدبس في “الجامع المفصَّل في تاريخ الموارنة المؤصّل”، والأب بطرس ضو في “تاريخ الموارنة”، والخوري ميخائيل غبرئيل الشبابي في “موسوعة تاريخ الموارنة”، وميشال شيحا في “لبنان في شخصيّته وحضوره”، وبولس نجيم (جوبلان) في “القضيّة اللبنانيّة”، وكمال سليمان الصليبي في “بيت بمنازل كثيرة”، وعادل إسماعيل في مؤلَّفَيْه: “المردائيّون (المردة) من هم وما علاقتهم بالجراجمة والموارنة، و”انقلاب على الماضي”. وقد أوضح المؤرِّخ عادل إسماعيل أن المردة والموارنة والجراجمة شعوب مختلفة لغةً وعِرقاً ومذهباً، وأنّ الموارنة ساميّون من أصل عربي أو آرامي أو سرياني1.
كان الموارنة مع الدروز من أبرز مالئي الفراغ السكاني الذي حصل بعد الفتح العربي في لبنان عموماً، وفي جبل لبنان خصوصاً. وبما أن الموارنة لجأوا إلى جبل لبنان تجنُّباً لاضطهاد مخالفيهم في المعتقد الديني (اليعاقبة)، ولاضطهاد الروم البيزنطيّين لهم في فترة معيّنة، نشأت عندهم وتعزَّزت مع الزمن مقولة “لبنان الملجأ” التي يأخذ بها العديد من المؤرِّخين، ذلك لأنهم حمَوا أنفسهم من الاعتداء، وحمَوا معتقدهم من الأفكار الهرطقيّة اليعقوبيّة.
أقام الموارنة في مناطق بشرّي والبترون وجبيل، وجعل بطريركهم مار يوحنّا مقرّه في كفرحي، وكان عليهم حكّام منهم، لقبهم “المقدّمون”، وتوسَّعوا في السكن جنوباً حتى بلغوا نهر الجعماني (نهر بيروت) وهو الحد الجنوبي لكسروان سابقاً، وأصبحوا متجاورين مع أجداد الموحِّدين (الدروز) ثم مساكنين لهم، وشكّلوا معهم الثنائيّة التي وردت الإشارة إليها.

مؤلَّفات الدروز والموارنة القديمة
تكلّم الكثيرون عن تاريخ الموحِّدين (الدروز) والموارنة في معرض حديثهم عن التاريخ العامّ، أو تاريخ بلاد الشام عموماً، وتاريخ لبنان وسورية خصوصاً، كما أصدروا عشرات الكتب تحت عناوينهم، أو العناوين الخاصة بكل منهما.
وبناءً على ذلك، وعلى أن الحديث عن هذا التاريخ الطويل زمنيّاً،

دير مار مارون المحفور في الصخر في وادي نهر العاصي وقد هجره الرهبان بعض تعرضهم للاضطهاد
دير مار مارون المحفور في الصخر في وادي نهر العاصي وقد هجره الرهبان بعض تعرضهم للاضطهاد

والغنيّ بمواضيعه، لا تتَّسع له مقالة أو مقالتان، سنقصر الحديث فقط على مرحلة زمنيّة منه هي التاريخ الوسيط، وسنحصر تناوله في ضوء مؤلَّفات الدروز والموارنة التي تعود إلى العصور الوسطى.
وصلتنا من المؤلَّفات القديمة خمسة مصادر تاريخيّة من العصور الوسطى، هي السِّجل الأرسلاني، وكتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وتاريخ بيروت، وتاريخ ابن سباط، وزجليّات ابن القلاعي. وهذه المصادر تضيء على تاريخ الموحِّدين (الدروز) والموارنة منذ توطّنهم في جبل لبنان بعد الفتح العربي لبلاد الشام، وتسدُّ النقص الحاصل في الكتابة عن تاريخ هذا الجبل، ذلك أن المؤرِّخين العرب والمسلمين لم يتناولوه وسواه من المناطق الجبليّة إلاّ بالقليل من الإشارات، وركّزوا في كتاباتهم على الحواضر، كما إنهم لم يتناولوا جميع الأحداث التي جرت بين أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن السادس عشر الميلادي، وهي المرحلة الزمنيَّة التي شهدت انتقال بلاد الشام من المماليك إلى العثمانيِّين.
جاء معظم ما في المؤلَّفات الأربعة الأولى عن جبل لبنان الجنوبي، وعن مكوِّنه الرئيس الموحِّدين (الدروز) الذين أعطوه اسمهم لتكاثرهم فيه ولشهرتهم “جبل الدروز”، لكن هذه المؤلَّفات ركَّزت على بلاد “الغرب” وعلى الإمارات المنذريّة اللَّخميَّة التي قامت فيها، ولم تذكر سائر البلدان المأهولة بالدروز إلاَّ بإشارات قليلة، حتى إنها لم تتكلم عن الأمراء المعنيِّين، إلاّ بإشارات في تاريخ ابن سباط، وهم الذين كانوا مقدّمين في الشوف، ثم أسَّسوا أقوى الإمارات الدرزية. وجاء المؤلَّف الخامس عن جبل لبنان الشمالي، وعن مكوِّنه الرئيس (الموارنة)، فارتسمت به وبالمؤلَّفات الأربعة الأخرى صورة متكاملة لتاريخ هاتين الجماعتَين.
وبما أن المؤلّفات الأربعة الأولى مدوّنة من الموّحدين الدروز، كان هذا مما يخفِّف عنهم الملامة بسبب القول الشائع عنهم إنهم يصنعون التاريخ ويدَعُون لغيرهم كتابته. فإذا كان في هذا القول شرف صنع الحدث، وتطابقٌ مع قول بسمارك: “إن المهم صنع التاريخ لا الكتابة عنه”، فإن فيه خطأ إهمال الكتابة عنه، وترْك ذلك إمّا للضياع، وإمّا لكتابة الآخرين المشوبة أحياناً بالنّقص والأدلجة والتغرّض، كما إنه تجدر الإشارة هنا إلى أن قِدم المؤلَّفات المذكورة يدلُّ على أن الدروز كانوا أسبق من غيرهم في جبل لبنان إلى كتابة التاريخ إضافة إلى صنعهم لبعض أحداثه.
وفي ما يلي سنتكلَّم عن المؤلَّفات التاريخيّة الخمسة -وبإيجاز-وبحسب تسلسلها الزمني بادئين بالسِّجلّ الأرسلاني، محاولين ما أمكن التعريف بالمؤلِّفين وبالمخطوطات ونسخها، وذلك من قبيل إيفاء الموضوع حقَّه.

السِّجلّ الأرسلاني الإثباتات
لا يقترن السِّجلّ الأرسلاني بإسم مؤلِّف ما، لأنه مجموعة إثباتات، أو سجلاّت، أو مضبطات شرعيّة، بلغت 21 إثباتاً حتى اليوم، طلبها أمراء أرسلانيُّون بغية الحفاظ على النسب وتسلسله، ومعرفة تواريخ الولادات والوفيات، أوّلها موقَّع عند قاضي معرَّة النعمان في 2 شعبان سنة 141هـ= 8 كانون الأوّل سنة 758م، وآخرها في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في بيروت بتاريخ 15 شعبان سنة 1419هـ= 4 كانون الأوّل سنة 1998م، بتصديق رئيس هذا المجلس سماحة آية الله الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين. وبين هذين الإثباتَين مجموعة من الإثباتات موقَّعة من قضاة الشرع في بيروت ودمشق وصيدا وطرابلس وقاضي جبل لبنان، منها 15 إثباتاً بين سنة 758 وسنة 1519م، مما يدلُّ على أن معظمها يتناول تاريخ ثمانية قرون تعود إلى العصور الوسطى، وهي المرحلة الزمنيَّة التي تعنينا، لأن سائر المؤلَّفات التي سنتكلَّم عنها موضوعة قبل سنة 1519.
نُقلت هذه الإثباتات في سنة 595هـ= سنة 1198م، من الخط الكوفي القديم إلى الخط المتعارف عليه، وجُعلت في سجلٍّ واحد جرى تجديده في سنة 1095هـ= سنة 1682م، وانتهى حديثاً سجلاً واحداً طوله بضعة أمتار.
أول من أخذ عن السِّجلّ الأرسلاني هو المؤرِّخ حيدر الشِّهابي المتوفَّى سنة 1835، وذلك في تاريخه المعروف أيضاً بإسم “الغرر الحسان في أخبار أبناء الزّمان”، ثم المؤرِّخ طنُّوس الشِّدياق المتوفَّى سنة 1861، وذلك في تاريخه المسمَّى “أخبار الأعيان في جبل لبنان”، كما أخذ عنه مؤرِّخون عديدون غيرهما، وبعد ذلك أورد الأمير شكيب أرسلان معظم نصوصه في تعليقاته على ما ورد في ديوان أخيه الأمير نسيب “روض الشقيق في الجزل الرقيق” الصادر في سنة 1935. وقد حقَّق الدكتوران محمد خليل الباشا ورياض حسين غنَّام السِّجلّ الأرسلاني، وصدر بكامل إثباتاته في سنة 1999.
وفي ما يتعلَّق بالمؤرِّخ طنُّوس الشِّدياق، فقد كتب فصلاً عنوانه “في نسبة الأمراء الأرسلانيِّين”، سمَّى في آخره السّجلّ بإسم “النسبة”، وقال إنها منقولة عن نسب قديم موجود بيد الأمراء الأرسلانيِّين، موروث عن الآباء والأجداد، مثبت عند القضاة والحكّام عصراً فعصراً2. وكتب فصلاً ثانياً عنوانه “في أخبار الأمراء الأرسلانيِّين” وسمّى في آخره السّجلّ “النسبة” أيضاً، وأعاد ما قاله عنها، مضيفاً تواريخ الإثباتات وأسماء القضاة الذين أثبتوها3.
تعرَّض السِّجلّ الأرسلاني للنّقد على أساس أن بعض إثباتاته تضمَّنت ألفاظاً لم تكن متداولة في زمنها، مثل “المرحوم” و”المردة” و”الفرنج” و”أرسلان”، كما تضمّنت أسماء وتواريخ للأحداث في غير مكانها، ومنها ما هو غير موجود في المصادر الإسلامية، وبلغ النقد عند من اعتمدوا على ذلك حدَّ القول إن السّجلّ من صنع الأمراء الأرسلانيين لأهداف سياسيّة هي إظهار أنفسهم متميِّزين عن الأمراء البحتريِّين التّنوخيّين، وتقديم الإمارة الأرسلانية على الإمارة البحتريّة التنوخيّة، في إطار التنافس على التاريخ الدرزي، وعلى تاريخ بيروت و”الغرب”.
ولسنا هنا في صدد مناقشة السّجلّ، ولا في صدد ذكر مناقشات الآخرين له، بعد أن قمنا بذلك في كتابنا “التّنوخيّون والمناذرة اللخميّون والمعنيُّون. الفصول الغامضة من تاريخهم والإشكاليّات”، وإنما لا بدَّ من القول إن السِّجلّ الأرسلاني ليس مصطنعاً، ولا يعود فقط إلى تاريخ حديث، وإنما هو معطيات تاريخيَّة قديمة وصحيحة أسقط عليها الناسخون الألفاظ غير المتداولة في زمن الإثباتات، وسقط منها، من دون قصد، أسماء بعض الأمراء الأرسلانيِّين فخلا السّجلّ المحقَّق منهم. وشأن السّجلّ في ذلك شأن سائر المصادر التي تعرَّضت نُسَخها المتعدِّدة للزيادة والنقصان جرَّاء النقل المتكرِّر.
صحيح أن هناك ما يدعو إلى نقد السجلّ الأرسلاني، وتكوين الملاحظات على نصوصه بالصيغة التي وصلت إلينا، ولكن الصحيح أيضاً هو أنه مصدر تاريخي قديم يشتمل على معلومات يؤخذ بها، ويُركن إليها، وتؤكِّد مصداقيّته، ومنها ما هو متوافق مع التاريخ العامّ أو مذكور فيه، ومنها ما فيه الدليل على أنه لم يوضع بهدف تحقيق المصلحة السِّياسيّة، بل من أجل ذكر الوقائع إذ ليست هناك من مصلحة في الأساس عند واضعيهِ سوى تدوين الولادات والوفيات وذكر الأعمال الحاصلة، وليس عندهم بالتالي ما يدعو إلى ذكر أشخاص ومواضيع لا صلة لهم ولها بالأرسلانيِّين – إذا كان القصد بحسب ما اتَّهمهم الناقدون- إبراز أهميتهم، وتأكيد أسبقيتهم على الأمراء البحتريِّين التّنوخيِّين.
وإذا كان المجال هنا لا يتَّسع إلاَّ لما ذكرناه عن السِّجلّ، فإنه من المفيد مناقشة الاسم الذي نسب إليه الأرسلانيُّون.

بين الاسم “أرسلان” والاسم “رسلان”
عُرف الأرسلانيُّون بإسم جدِّهم أرسلان بن مالك بن بركات، الوارد اسمه هكذا في جميع إثباتات السّجلّ الأرسلاني، إلاّ أنهم حملوا أيضاً اسم بني أبو الجيش، وحمل بعض أمرائهم الاسم “رسلان”، وذكروا في بعض النصوص بإسم “بيت رسلان” ومن ذلك ما يلي:
1. ورود اسم “رسلان” كجدٍّ أعلى للأمراء الأرسلانيِّين في كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وورود ذكره في الكتاب نفسه كأسرة بالصيغة التالية: “بيت الأمير رسلان”4.
2. ورود أسماء أربعة أمراء فيها الاسم “رسلان” في تاريخ صالح بن يحيى، هم: شجاع الدين رسلان بن مسعود، وجوبان بن رسلان، وعلي بن رسلان بن مسعود، وعماد الدين موسى بن حسان بن رسلان5.
3. وجود الاسم “رسلان” في الكتابة المدوّنة على مدخل السراي الأرسلانيّة المشادة في عين عنوب سنة 1117هـ= سنة 1705م.
الاسم “أرسلان”، وحاليّاً أصلان، هو في الأصل اسم فارسي معناه: الأسد، أخذه السّلاجقة الأتراك عن الفرس، وحمله القائد التُّركي أرسلان بن عبد الله المعروف بالبساسيري، الذي انقلب على الخليفة العبَّاسي القائم، وقُتل سنة 451هـ= سنة 1059م، وحمله ملك الدولة السّلجوقيّة الشهير ألب أرسلان ومعنى اسمه: المحارب الأسد، وهو الذي هزم إمبراطور الروم البيزنطيِّين هزيمة ساحقة في ملازكرد وأسرَهُ، وكان ذلك في سنة 463هـ= سنة 1071م، الأمر الذي أدَّى إلى وصول نفوذ الأتراك السّلاجقة إلى آسيا الصغرى وبلاد الشام.
والاسم “رسلان” هو إمّا تصحيف للاسم “أرسلان” بحذف حرف الألف منه، وإمَّا أنه اسم عربي من فعل “رسل” بحسب ما جاء في معجم “لسان العرب” لابن منظور، ومعجم “تاج العروس” للزبيدي، فهو إذاً على وزن الأسماء العربية التالية: عدنان وقحطان وغسَّان ويقظان ونعمان وغيرها من الأسماء، وقد ورد عند ابن ماكولا المتوفَّى سنة 486هـ= سنة 1093م، اسم لجَدّ أحد رجال الحديث، المتوفَّى في القرن الرابع الهجري، وهو أحمد بن صالح بن رسلان الفيُّومي، مما يعني أن رسلان من أبناء القرن الثالث الهجري.
حمل الاسمَ “رسلان” أشخاصٌ كثيرون غير الأمراء الأرسلانيِّين، وحملتْهُ أُسر عديدة، منها أُسَر في بعلبك عُرفت به منذ القرن الثالث عشر الميلادي، وهنا تبدو صعوبة معرفة ما إذا كانت أسماء هؤلاء الأشخاص وتلك الأُسَر أسماء عربيّة في الأصل أم هي تصحيف للإسم الفارسي (التُّركي السّلجوقي لاحقاً): أرسلان. وبالنسبة إلى الأمراء الأرسلانيِّين يقول أمير البيان شكيب أرسلان في تعليقه على ديوان أخيه الأمير نسيب: “روض الشقيق في الجزل الرقيق” ما يلي: “رسلان وأرسلان واحد وإنما رفعوا الألف للتخفيف وله نظائر”6، وهذا الكلام يعني أن الأصل هو الاسم “أرسلان” وأنه صُحِّف في بعض الأقوال والكتابات فغدا “رسلان”.
وبناء على قول الأمير شكيب أرسلان نرى أن الأمير الذي نُسب إليه الأرسلانيُّون حَمل الاسم “أرسلان” وحده، أو حَمل هذا الاسم، كلقبٍ يعني الأسد، بعد اسم سقط من السِّجلّ لاحقاً عند

الأمير شكيب أرسلان نشر القسم الأكبر من السجل الأرسلاني في تعليقه على ديوان شقيقه نسيب
الأمير شكيب أرسلان نشر القسم الأكبر من السجل الأرسلاني في تعليقه على ديوان شقيقه نسيب

نسخه، وذلك كما حمل الأمير مسعود بن عون لقب”قحطان”، وحفيده الأمير المنذر لقب “التنوخي”، وكما حمل قبلهما الملك المنذري اللخمي امرؤ القيس لقب “المحرّق”، والملك النعمان الأوّل لقب “الأعور”، والملك المنذر بن النعمان لقب “المغرور”، وفي كلتا الحالتين فإن الإسم لم يأتِ اقتباساً عن الأتراك السلاجقة وإنما عن الفرس الذين أخذه السلاجقة عنهم.
إن الاسم “أرسلان” في رأينا معروف عند المناذرة اللخميِّين قبل قرون من ظهور القائد التُّركي أرسلان بن عبد الله (البساسيري)، والملك السّلجوقي ألب أرسلان، وذلك جرَّاء احتكاكهم بالفرس الذين سادوا في العراق وتبعت لهم المملكة التي أنشأها المناذرة في الحيرة بالعراق ودامت 364 سنة، وانتهت بآخر الملوك المناذرة الملك المنذر بن النعمان (المغرور) الذي أسلم عند ظهور الإسلام، وقد شكَّلت هذه المملكة خط دفاع عن مملكة الفرس كما شكَّل الغساسنة خط دفاع عن الروم البيزنطيِّين أعداء الفرس، وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يتأثَّر المناذرة بالفرس في نواحٍ عديدة منها أخذ الاسم أرسلان عنهم.

نسب الأرسلانيِّين وسائر المناذرة
ركَّز العرب على معرفة أنسابهم، وحثُّوا على تعليم النسب وتعريف كل امرئ نسبه الذي يعود إليه لإيجاد الصلة بين الأجيال المتعاقبة، ولكي لا يكون هناك خطأ في التنسيب، فكانوا يحفظون أنسابهم كحفظ أرواحهم ما لم تحفظه أمَّة من الأمم. وكان الرسول (ص) يحضُّ على تعليم النسب، ونظراً الى أهميته والاهتمام به دوَّن النَّسَّابون الكثير من الكتب عنه بدءاً بأقدمهم ابن الكلبي المتوفَّى سنة 204هـ= 819م، ودوَّن الموحِّدون الدروز بعض أنسابهم في أربعة مؤلَّفات، هي السِّجلّ الأرسلاني، وكتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وتاريخ بيروت، وتاريخ ابن سباط، كما دوَّنوا مع هذه الأنساب بعض تاريخهم وحوادثهم وهم يفتخرون في دخولهم التاريخ بما صنعوا، ويفتخرون بأنسابهم المتوارثة، وأنسابهم الحاصلة بالأعمال والصنائع.
يرد في الإثبات الأول من السِّجلّ الأرسلاني، أن الأمير المنذر وأخاه الأمير أرسلان حضَرَا في سنة 758م إلى قاضي المعرَّة ليكتب لهما وفاة آبائهما في رق (سجلّ) “ليحفظاه عندهما من حوادث الزمان وتحفُّظًا من السَّهو والنسيان لأنهما عزما على الرحيل إلى جبال بيروت”. إن الأمير أرسلان الذي ينتسب إليه الأرسلانيُّون هو –بحسب ما جاء في هذا الإثبات- ابن مالك بن بركات بن المنذر بن مسعود بن عون ابن الملك المنذر (المغرور) ابن الملك النعمان (أبو قابوس) الذي يتَّصل عبر أجداده وأجداد أجداده بيعرب بن قحطان جد العرب العاربة7.
إذاً إن الأرسلانيِّين هم من نسل الملوك المناذرة اللّخميِّين الذين حكم منهم 17 ملكاً في الحيرة، وهذا النسب الرفيع الذي كان لهم بلقب “الملوك” استمرّ بعد ذلك، ولا يزال مستمراً حتى اليوم، بلقب “الأمراء”.
وبناءً على ما جاء في السِّجلّ الأرسلاني، وتقاطعه مع ما جاء في تاريخ بيروت لصالح بن يحيى، هناك ثلاثة فروع أخرى من نسل الملوك المناذرة اللّخميِّين توطَّنت مع الأرسلانيِّين في جبلَ بيروت بعد انتقالهم إليه من جهات المعرَّة، أوّلها بنو فوارس وهم من نسل فوارس بن عبد الملك، وعبد الملك هو أخو الأمير أرسلان، وثانيها آل عبد الله وهم من نسل عبد الله بن النعمان، والنعمان هو الأخ الثاني للأمير أرسلان، وثالثها التّنوخيّون الذين سنتكلّم عنهم عند الحديث عن تاريخ بيروت، والذين يلتقون مع آل أرسلان وآل عبد الله وبني فوارس عند الجَدّ الأعلى الملك النعمان (أبو قابوس).

الإمارة الأرسلانيّة في “الغرب”
أخذ المؤرِّخون – إلاّ قلّة منهم- بمقولة “حلف تنوخ” في الحديث عن المناذرة اللّخميِّين، أو عن أحد فروعهم المتأمِّرة في لبنان، فنسبوهم خطأً إلى التنوخيِّين بمعنى أنهم من حلف تنوخ الذي نشأ في البحرين أو من قبيلة تنوخ، فيما الحقيقة أنهم من سلالة الملوك المناذرة اللّخميِّين، كما أوضحنا في كتابنا:”التنوخيون والمناذرة اللخميون والمعنيون” وأن الشرف المتأتِّي لهم من هذه النسبة هو أكبر من شرف الانتماء إلى قبيلة تنوخ أو إلى حلف تنوخ. وجانَبَ بعض المؤرِّخين الحقيقة أيضاً حين جعلوا المعنيِّين تنوخيِّين منتمين إلى الحلف المذكور، ذلك أنهم ينتسبون إلى الأمير معن بن ربيعة، وهم قيسيُّون فيما المناذرة اللخميّون يمنيُّون. وبناءً على كل ما ورد صار الأرسلانيُّون في نظر هؤلاء المؤرِّخين تنوخيِّين، وضاع تاريخهم القديم، أو كاد يضيع في تاريخ التنوخيّين الذين سنتحدث عنهم والذين تأسّست إمارتهم في أواسط القرن الثاني عشر الميلادي، كما غابت الإمارة الأرسلانيّة التي تأسّست قبل هذا التاريخ.
اعتماداً على السِّجلّ الأرسلاني هناك إمارة أرسلانيّة منذريّة نشأت في بلاد “الغرب” بعد توطُّن المناذرة اللخميِّين فيها، وقبل قيام الإمارة البحتريّة التنوخيّة بقرون، عُرف أميرها بعدة تسميات، هي: أمير الغرب، وأمير الجبل أي جبل بيروت أو جبل الغرب، وأمير جبل الغرب وبيروت، وأمير صيدا وبيروت والغرب، وأمير بيروت وجبل لبنان، وقد وردت هذه التسميات في السّجل اعتماداً على عهدات أولي الأمر للأرسلانيّين بتسلّم الإمريّة على “الغرب” وعلى مدينتَي بيروت وصيدا8.

طلال ارسلان
طلال ارسلان

وبهذا، يصبح الأرسلانيون القادة الأوائل والأقدمين لأجداد الموحِّدين الدروز في لبنان، إلاّ أن قيادتهم هذه لم تكن إلغائيَّة لنفوذ أمراء أبناء عمومتهم من المناذرة (آل عبد الله وآل تنوخ وبنو فوارس) الذين كان في كل أسرة من أُسَرهم أمير مقّدم على سائر أمرائها، كالأمير الأرسلاني الأول المقَّدم على سائر أمراء أسرته، والذي له الإمرية الكبرى، ولم ينحصر نفوذ الأمير الأرسلاني في “الغرب” ومدينتَي بيروت وصيدا، بل إنه تعدَّى هذه المناطق إلى غيرها، إذ وُلّي الأمير النعمان بن عامر على صفد، والأمير رشد الدولة أبو الفوارس زنكي على اللجون وبعلبك وصفد وغيرها، والأمير تميم بن المنذر بن النعمان على طرابلس، والأمير هارون بن حمزة على صور9.
من وجوه تسلُّم الأمراء الأرسلانيين عهداتهم تسلّم الأمير ناصر بن منصور الأرسلاني العهدة على “بيروت وجبل لبنان” في سنة 383هـ= سنة 993م، من منجوتكبن الذي يذكر أحياناً بنجوتكبن، وكان والياً على الشام من قبل الخليفة الفاطمي العزيز بالله. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ورود لفظة “جبل لبنان” في هذه العهدة، هي مما يدلّ على أن هذه التسمية كانت تُطلق قديماً على جبل لبنان، ومما يدحض مقولة إن الموارنة نقلوها معهم بعد انتقالهم من جبل لبنان الشمالي إلى مناطق الدروز المسمَّاة “جبل الدروز”، والواقعة في جبل لبنان الجنوبي.

إمارة بني فوارس في “الغرب”
كانت الإمرية الكبرى، أو إمارة “الغرب” هي للأمير الأوّل والأكبر شأناً من بين الأمراء المناذرة اللخميّين، أنه كان المقدّم بين المقدّمين، وكما غُيِّبَت الإمارة الأرسلانيّة من التاريخ بالرغم من استمرارها من المنتصف الثاني للقرن الثامن إلى المنتصف الأوّل للقرن الثاني عشر الميلادي، هكذا غُيِّبت: إمارة بني فوارس على “الغرب”، وإمارة أخرى عليه هي إمارة آل عبد الله، وما كانت هذه الإمارات الثلاث عُرفت لولا السِّجلّ الأرسلاني.
جاء في السِّجلّ الأرسلاني أن أهل “الغرب” انقسموا، بعد موت الأمير مطوع الأرسلاني، إلى فريقين: “الواحد يطلب إمارة عماد الدّين موسى ابن الأمير مطوع، والآخر يطلب إمارة الأمير أبو الفوارس معضاد من بني فوارس، وهو ابن الأمير همَّام ابن الأمير صالح ابن الأمير هاشم الفوارسي، ثم ولّي الأمير موسى، وبعد سنة نزل عنها للأمير أبي الفوارس”10.
تسلَّم الأمير أبو الفوارس إمارة “الغرب” من سنة 1020 إلى سنة 1040م. وتشير أدبيَّات الموحِّدين (الدروز)، التي تعود إلى تلك الفترة، إلى بعض جهاتها، وهي فلجّين والبيرة وعين صوفر والمروج وعين عار11، وإذ انتهت إمارة بني فوارس على “الغرب” مع الأمير معضاد استمرَّ وجود بني فوارس كأُسرة ثم كأُسَر تفرّعت منها وحملت أسماء مختلفة، منها آل الخضر وآل المغربي في كفرسلوان، ومنها آل أبو اللمع الذين تحوَّلوا تباعاً من الدرزيّة إلى النّصرانيّة بعد موقعة عين داره سنة 1711. أمَّا السِّجلّ الأرسلاني، فهو يذكر عدا الأمير أبي الفوارس ثلاث أميرات وأميرين من بني فوارس.

إمارة آل عبد الله في “الغرب”
كما أدَّى انقسام الأمراء الأرسلانيِّين في سنتي 1019و1020م إلى تسلُّم الأمير أبي الفوارس معضاد إمارة “الغرب”، هكذا كان اندثارهم على يد الفرنجة سبباً في تسلُّم آل عبد الله هذه الإمارة بحسب ما جاء في السِّجلّ الأرسلاني الذي يرد فيه أن الأرسلانيِّين نكَّل بهم الفرنجة عند احتلالهم مدينة بيروت سنة 1110م ومهاجمتهم “الغرب”، وقد ذهب ضحية ذلك 21 أميراً أرسلانيّاً إضافة إلى غيرهم من أمراء سائر الأُسَر المنذريّة، وغيرهم من أهل “الغرب”.
لم يبقَ من الأمراء الأرسلانيِّين سوى أمير صغير اسمه بحتر، غير مؤهَّل لتسلُّم الإمارة، فتسلَّمَها الأمير مجد الدولة من آل عبد الله الذين هم أبناء عمِّ الأرسلانيِّين، وبقي متسلِّماً لها حتى مقتله سنة 1137م في إحدى المواقع مع الفرنجة. لم يذكر السِّجلّ الأرسلاني بعد هذا الأمير سوى ستّ أميرات من آل عبد الله مع الإشارة إلى أن منهم أسرة آل علم الدين التي تأمَّرَت مراراً على “الغرب” والشوف في عهد المعنيِّين، ومنهم أسرة آل تقيّ الدين.

ترجمة الأمراء الأرسلانيِّين
تَرجم السِّجلّ الأرسلاني لجميع الأمراء الأرسلانيِّين البالغ عددهم، من تاريخ الإثبات الأوّل في سنة 758م حتى الإثبات الأخير في سنة 1998، 356 أميراً، منهم أمراء لم تُعرف عنهم إلاَّ أسماؤهم وصلتهم بسائر الأمراء الأرسلانيِّين، ومنهم من بلغوا شأناً كبيراً، وقاموا بدور بارز في التاريخ كان القديم منه ضاع وضاعت أسماء القائمين به لو لم يحفظه السجلّ الأرسلاني.
وذكر السِّجلّ الأرسلاني أن الأمراء الأرسلانيِّين كانوا يتنافسون أحياناً على الإمارة، ويتصارعون على النُّفوذ، ويكيد بعضهم لبعض ويتآمر عليه، وقد تقاتلوا في سنة 838م في خلدة، وفي سنة 1002م في مرتغون الواقعة إلى الشمال من خلدة، كما إنهم تقاسموا الأراضي، وانقسموا بشأن الولاء للقوى المتصارعة في بلاد الشام، كالصراع بين الفاطميِّين والعبّاسيِّين واضطرار الأمير المنذر بن النعمان الذي تسلَّم الإمارة سنة 936م إلى مبايعة الخليفة الفاطمي12، وتأييد الأمير درويش بن عمرو للقائد العبَّاسي هفتكين وتأييد الأمير المنذر المذكور، في المقابل، لابن الشيخ وابن موهوب والي دمشق من قبل الفاطميِّين. وكان انتصار قوة على أخرى يؤدِّي إلى تسلُّم الأمير الذي يواليها إمارة “الغرب”، كمايذكر السّجلّ أيضاً تضرُّر الأرسلانيِّين من غزو التركمان (أمراء كسروان) للغرب.
وذكر السجلّ الأرسلاني إقبال الأمراء الأرسلانيِّين على التعلُّم والتفقُّه، مما يدلّ على أنهم منذ القدم كانوا أرباب العلم كما هم أرباب السيف، وقد كانت لهم مساهمة في إعمار “الغرب”، من وجوهها بناء قرية الشويفات على مجموعة تلال، واسمها عربي هو جمع شويفة أي تلّة مشرفة، وقد غدت اليوم مدينة، ومن أبرز ما يُذكرون به هو مشاركتهم في الجهاد الإسلامي.

المشاركة في الجهاد الإسلامي
ينفرد السِّجلّ الأرسلاني عن المصادر الإسلامية بذكر مشاركة أجداد الأرسلانيِّين في الفتوحات الإسلاميّة، فهو يذكر أن الأمير عون ابن الملك المنذر (المغرور) حضر مع المسلمين فتح بصرى، وشارك في وقعة أجنادين وتوفِّي بعد أيام قلائل بسبب جرحه فيها، وأن ابنه مسعود تابع مسيرته فحضر فتح دمشق، وكان أوّل من دخلها، ثم حضر وقعة مرج الديباج ووقائع اليرموك، وكان معه من لخم 1500 فارس. وحضر مع أخيه عمرو فتح بيت المقدس، ثم شارك في فتح حلب وقلعتها، وكان ممن شاركوا في فتح أنطاكية، كما إن الأمير عمرو، وابن عمه الأمير همّام ابن الأمير عامر ابن الملك المنذر (المغرور)، شاركا في فتح قيساريه وفي فتح مصر.
تابع الأرسلانيُّون هذا الدور الجهادي بعد قدومهم إلى لبنان، وقد كان قدومهم أصلاً إلى جبل بيروت أو جبل “الغرب” للقيام بهذا الدور، إذ استقدمهم الخليفة العبّاسي إلى جبل مدينة بيروت للدفاع عن هذه المدينة وعن ساحلها ضد اعتداءات الروم البيزنطيِّين.
من وجوه جهاد الأرسلانيِّين ضد الروم البيزنطيِّين تحصين الأمير النعمان بن عامر لسور مدينة بيروت وقلعتها، وانتصاره على الروم حين نزل جندهم في رأس بيروت. ومن وجوه جهادهم ضد الفرنجة تصدِّيهم لحملات هؤلاء عند نهر الكلب، وفي مدينتَي بيروت وصيدا، وفي منطقة “الغرب”، وتكبّدهم الخسائر البشريَّة الكبيرة في ذلك، مما أدَّى إلى اندثارهم كما وردت الإشارة إلى ذلك.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الأرسلانيِّين كانوا قادة أجداد الموحِّدين (الدروز) في هذه المحطَّات الجهاديّة، وكان معهم أبناء عمومتهم من المناذرة اللّخميِّين، ومن يتبعهم ويتبع هؤلاء من الأهالي، وأن جهاد الأرسلانيّيِن حديثاً هو استمرار لجهادهم قديماً، ويأتي في طليعة المجاهدين منهم حديثاً الأمير شكيب أرسلان، الملقَّب بـ”داعية العروبة والإسلام” لجهاده من أجل القضايا العربية والإسلاميّة، وأخوه الأمير عادل (أمير السيف والقلم) المناضل من أجل القوميَّة العربيَّة، كما تجدر الإشارة إلى أن هذا الجهاد الذي بدأ بقيادة الأرسلانيِّين واستمرَّ فصولاً معهم، استمرَّ أيضاً فصولاً بقيادة سواهم من أعيان الموحِّدين (الدروز).

قاوم أمراء الغرب المد الصليبي نحو السواحل اللبنانية وهنا بقايا القلعة الصليبية في بيروت
قاوم أمراء الغرب المد الصليبي نحو السواحل اللبنانية وهنا بقايا القلعة الصليبية في بيروت

الصراع مع المردة
يذكر السِّجلّ الأرسلاني قتال الأرسلانيِّين لمن يسمّيهم “المردة” و”أهل العاصية”، وهو لا يتكلَّم عن قتال الأميرَين المنذر وأخيه أرسلان، وقتال الأمير مسعود بن أرسلان، لهم، فيما يذكر المؤرِّخ طنّوس الشِّدياق ذلك، إمَّا نقلاً لمعلومات سجلٍّ لا ترد في نصّ السِّجلّ المحقَّق، وإمَّا اعتماداً على مصدر غيره، فهو يذكر موقعة جرت بين الأمير أرسلان والمردة عند نهر الموت بالقرب من سن الفيل حيث يقيم الأمير، وموقعة جرت بين هذا الأمير وأخيه الأمير المنذر وبين المردة في انطلياس، ويذكر انتصار الأرسلانيِّين فيهما.
لكن السِّجلّ الأرسلاني يذكر في الإثبات الثالث المؤرَّخ في 4 شعبان سنة 252هـ (سنة 866م) أن الأمير هاني ابن الأمير أرسلان حارب في سنة 845م “المردة وأهل العاصية لعنهم الله حروباً عظيمة حتى كاد أن يدمِّرهم” فلّقب بالغضنفر، وبلغ خبره الأمير خاقان التركي والخليفة العباسي المتوكِّل على الله، كما يذكر السِّجلّ الأرسلاني في الإثبات الرابع المؤرَّخ في 10 شوال سنة 269هـ (سنة882م) أنه كان في سنة 262هـ (سنة 875/876م) “بين الأمير النعمان والمردة الحروب العظيمة التي أهلكهم فيها وبلغ خبرها أمير المؤمنين المعتمد على الله، رحمه الله، فكتب له كتاباً بخطّه يقرّره على إمارته هو وذرّيته”.
استطاع الأرسلانيُّون إبعاد خطر المردة عن طريق بيروت دمشق، وذلك بزحزحتهم نحو الشمال إلى أنطلياس ثم إلى نهر الكلب، إلا أن شوكة هؤلاء لم تنكسر بل ظلُّوا يشكِّلون خطراً على الأرسلانيِّين، وكانوا رجال حرب وأحياناً هم المهاجمون والمبادرون إلى القتال كما جرى عند مهاجمتهم للأرسلانيِّين وخوض موقعة نهر الموت معهم، وكما جرى بعد ذلك عند هجومهم مع الفرنجة على “الغرب”، وهذا الهجوم لا يذكره السِّجلّ الأرسلاني فيما يذكره الشّدياق إمَّا نقلاً لمعلومات لم ترد في السِّجلّ المحقق، وإمَّا اعتماداً على معلومات وردت في غيره من المصادر.

كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
إن مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” مجهول، إمَّا لأنه لم يشأ ذكر اسمه، أو أن اسمه دُوِّن في الأصل لكن الذين نسخوا مخطوطه لم يذكروه.
وإذا كان اسم هذا المؤلِّف مجهولاً، فإن أصله ومنطقته وصفته أمور نستشفّها من عبارات كتابه، وهي أنه من “الغرب”، ومن الموالين لأمرائه البحتريِّين التنوخيِّين، وهو من الموحّدين (الدروز) بناءً على أدلة كثيرة، أبرزها ما يلي:
1. تكلَّم عن جدود أُسَر الموحِّدين (الدروز)، وعاش بينهم، وسمّى بعض المناطق المسكونة بغيرهم، أي بالسُّنَّة والشِّيعة.
2. أورد عبارات من أدبيات الموحِّدين (الدروز)، ومنها قوله عن حصول بعض الأمور قبل ما سمَّاه “الكشف”، وحصول بعضها الآخر بعد “الكشف”13.
3. أظهر حبّه للأمراء البحتريين وموالاته لهم وقربه منهم بذكر مواضيع وردت عند صالح بن يحيى البحتري التنوخي، وبقوله إن “أمراء عبيه”، وهم الأمراء البحتريُّون، يبغضون بني أبو الجيش الأرسلانيِّين “وهم وإيَّاهم على السيف”، وبوصفه بني أبو الجيش بأنهم ثقال الطبع.

نِسَخ مخطوط “قواعد الآداب حفظ الأنساب”
يعود تدوين مخطوط “قواعد الآداب حفظ الأنساب” – بالصِّيغة التي وصلت إلينا- إلى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وتحديداً إلى ما بعد سنة 1389م بقليل، لأن فيه إشارة إلى قريتَي البيرتَين اللَّتَين خربتا في هذه السنة، وهما البيرة التحتا والبيرة الفوقا الواقعتان بين بلدتَي بيصور وكيفون، يضاف إلى ذلك ذكر سنة 785هـ= سنة 1383م في المخطوط.
عُرف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” بإسم آخر هو “النسبة” ذلك لأنه متعلِّق بالنسب، ولأن مدوِّنه سمّاه “النسبة” فقال: “ نقلتُ هذه النسبة المباركة عن نسبة نُقلت في شهر رجب سنة 505هـ. [وهذا التاريخ يوافق يناير سنة 1112م]، مثبتة عند قضاة الشرع في دمشق وحلب” بدءاً بسنة 710هـ (سنة 1310م) وانتهاء بسنة 785هـ (سنة 1383م)
إن أول من أشار إلى كتاب “قواعد الآداب …” هو القنصل الفرنسي في لبنان هنري غيز الذي نشر ذلك بين سنتَي 1843و1847، ثم الأمير شكيب أرسلان، وكان منه خمس نُسَخ أو نسب، هي النسخة الموجودة في مكتبة بلدية روان الفرنسية، ونسخة عند المؤرِّخ عيسى إسكندر المعلوف، ونسخة عند المؤرِّخ سليم أبو إسماعيل، ونسخة مجزوءة ملحقة بتاريخ الأمير فخر الدين الذي وضعه الشيخ الخالدي الصفدي، وقد ألحقها محقّقا هذا التاريخ به، وهما الدكتور أسد رستم والدكتور فؤاد إفرام البستاني، وهي خمس صفحات مخطوطة وثلاث صفحات مطبوعة، والنسخة الخامسة هي بإسم “كتاب العجائب والغرائب في ذكر الحوادث والنوائب”.
اطَّلع بعض الباحثين على نسخة مدينة روان الفرنسيَّة، ونقل المستشرق جان سوافاجيه – وهو أستاذ التاريخ الإسلامي في كوليج دي فرانس- نسخة عنها وأهداها إلى حسن قبلان المحامي العامّ في محكمة التمييز اللبنانيّة، وقد حقَّق الدكتور الياس القطّار نسخة مدينة روان في سنة 1986 وهي النسخة التي سنتكلّم عنها، والتي وصلتنا مكتوبة بلغة عصر الانحطاط، فيها الكثير من الجمل الغامضة والركيكة، وفيها العديد من الأخطاء، لكننا قبل أن نتكلَّم عنها، نرى من المفيد التكلُّم عن النسخة الخامسة، أي “كتاب العجائب والغرائب في ذكر الحوادث والنوائب”14.
إن النسخة المذكورة منقولة عن نسبة كُتبت سنة 940هـ (سنة 1533م)، منقولة بدورها عن نسبة كُتبت سنة 890هـ (سنة 1485م)، وقد أضاف ناسخ النسبة المسماة “كتاب العجائب…” إلى النسبة الأصليَّة قصة سيلار نايب كرك الشوبك، التي جرت في سنة 710هـ (سنة 1310م)، وأخبار فيضان نهرَي الصفا والباروك في سنة 963هـ (سنة 1556م)، وأضاف إليها أيضاً ذمَّ بني أبو الرجال الذين يكرههم لأسباب شخصيَّة، فيما هم ممدوحون في المخطوط الأصل، ومحمودون عبر العصور، ومنهم شيوخ دين ثقات بينهم الرئيس الروحي للموحِّدين (الدروز) الشيخ عزّ الدين أبو الرجال، ومنهم الصدر الأجلّ الشيخ سليمان، ورجل اسمه غازي هو أحد أبدال الحراسة على ثغر بيروت في النصف الأوّل من القرن الرابع عشر الميلادي، وهذا مما يدلّ على أن مخطوط “قواعد الآداب” تعرَّض للتهديم والزيادة والنقص والتعديل على يد بعض ناسخيه، وقد حقَّق المحامي سليمان تقيّ الدين بالاشتراك مع الأستاذ نائل أبو شقرا، النسبة المسمّاة “كتاب العجائب..” بعنوان “الأُسَر في جبل الشوف من خلال مخطوط قديم، وصدر هذا الكتاب في سنة 1999.

أنساب العشائر وصفاتها
وُضِع كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” من أجل معرفة أنساب الطوائف (العشائر) وتحديد صفاتها، لحفظ ذلك والعمل بقواعده، وورد فيه أن بعض هذه الأنساب مثبت عند قضاة الشرع في دمشق وحلب، وهو في هاتين الناحيتَين يلتقي مع السِّجلّ الأرسلاني الذي وُضع من أجل الحفاظ على النسب، وعدم ضياعه مع الزمن وتقلّبات الحوادث، كما يتقاطع معه، ومع ما ورد عند صالح بن يحيى عن تاريخ أسرته البحتريّة التنوخيّة في القول التالي: “فأول النسب الشريف الطاهر العالي الأمير نعمان الجميهري اللَّخمي بن لخم ابن أبيت اللعن ابن قابوس ابن ماء السماء ابن المنذر ابن النعمان الأكبر…الذي هو أكبر الملوك وأكبر البيوت وأكبر أهل الزمان من الجاهليّة إلى الآن”15. وهنا تجدر الإشارة إلى أن سلسلة هذا النسب وصولاً إلى آدم عليه السلام تختلف في “قواعد الآداب…” بعض الشيء عما جاء في السِّجلّ الأرسلاني، وفي تاريخ بيروت لصالح بن يحيى وفي المصادر الإسلاميّة.
إن عدد الطوائف (العشائر) المذكورة في كتاب “قواعد الآداب..” هو في الأصل 12 طائفة عربيّة يمنيّة، ثم بلغت في جبل لبنان مع فروعها ومع من انضم إليها من العشائر 111 عشيرة. أمّا العشائر الاثنتا عشرة فهي تعود إلى ثلاثة أمراء، وتسعة أسياد، مما يعني أن لقب “السّيِّد” دخل في أدبيّات الموحِّدين (الدروز)، وهو يعطَى لأعيان القوم من روحيِّين وزمنيِّين، وقد أُعطِي لأكبر وأقدم وأشهر أولياء الموحِّدين وعلمائهم ورؤسائهم الروحيِّين، الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي (ق)، والأمراء هم الأمير شهاب، والأمير مسعود بن رسلان بن مالك، والأمير فوارس، والسادة هم السيد عزايم، والسيد عبد الله، والسيد عطير، والسيد حصن، والسيد هلال، والسيد كاسب، والسيد شجاع، والسيد نمر، والسيد شرارة.
إن هذا النسب الرفيع لأجداد الموحِّدين (الدروز) هو – مع المفهوم التاريخي لعقيدة التوحيد التي اعتنقوها- محل فخرهم واعتزازهم، وهذا حمل أحد رؤسائهم الروحيِّين، الشيخ أبا علي قسّام الحنَّاوي من جبل العرب، على القول التالي:
أفضل نسب في الأرض تلقى نسبنا متـــــجنّــــــــــــــــــــبين العــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــار والمعيــــــــــار
إن صفات الطوائف (العشائر) بحسب ما جاء في “كتاب قواعد الآداب..” هي التالية:
• بنو فوارس: شجعان وأصحاب غيرة وكرماء وأوفياء وفصحاء، لا يفوقهم أحد في ذلك، ولا يتزوَّجون إلاَّ من بعضهم، وهم يُعرفون بالنعمانيّة نسبةً إلى معرّة النعمان.
• آل عبد الله (العبادلة): علماء وصادقون وحلماء.
• بنو أبو الرجال: خيَّالة ورجال، ولا أخيل ولا أرجل منهم.
• بنو أبو الجيش (آل أرسلان) وبنو حرب: ثقال الطباع.
• بنو الشويزاني وبنو فضل وبنو الشاعر وبنو نمرو وبنو روق: شعراء وحلفاء وجمَّاعون للمال.
• بنو الحصن وعمّار وأبو النصر وأبو الفتوح: علماء وحلماء وصادقون وأدباء.
• بنو ملهم وبنو عجل: أخَّاذون بالثأر.
ومن سائر الطوائف (العشائر) التي لا شأن لها كالطوائف المذكورة، يسمِّي مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب..” بني صيدان وبني طرطور وبني قبع، ويصفهم بأنهم “جلب” أي جيء بهم بعد العشائر الأولى الرئيسة.

قواعد الآداب حفظ الأنساب 2
قواعد الآداب حفظ الأنساب

برز المواضيع
يتضمّن كتاب “قواعد الآداب…” مواضيع كثيرة بالرغم من قلة عدد صفحاته وخلوِّه من العناوين. ومن المواضيع ما يلتقي فيها مع السِّجلّ الأرسلاني ومع تاريخ بيروت لصالح بن يحيى، ومنها ما ينفرد به كالحديث عن أسرة بني الشويزاني، ومنها ما هو خاطئ كالقول إن عمارة حصن الأكراد هي من شغل أجداد الأمراء بيت معن الذين يتحدَّرون “من سلالة بني أيوب سلاطين بغداد وثغورها وحلب وثغورها والشام وثغورها ومصر وثغورها”. وبما أن المجال لا يتّسع لذكر جميع مواضيع الكتاب نكتفي بذكر أبرزها.
• أسباب قدوم العشائر إلى لبنان: يرد في “كتاب قواعد الآداب…” قدوم اثنتي عشرة طائفة، أي عشيرة، من اليمن إلى العراق، ثم انتقالها منه إلى معرَّة حلب بسبب قتل الملك كسرى للنعمان، وبما أن حكم الملك كسرى للفرس بدأ في سنة531م، فإن نزوح هذه الأُسَر هو بعد هذا التاريخ وهذه الأُسَر عادت وانتقلت من معرَّة حلب، أي معرَّة النعمان، إلى “بلد بيروت” بسبب اعتداء مشدّ المغل على إحدى نسائها، مما دفع بأحد أبنائها (نبا) إلى قتله والخروج من جهات حلب مع بعض النساء والأولاد إلى كسروان ولحق بهم أقاربه. وكان خروج هذه الطوائف من المعرَّة بتاريخ شهر المحرّم سنة خمس ومايتي سنة” وهذا التاريخ يوافق شهر حزيران820م.
• توطُّن العشائر: ورد في كتاب “قواعد الآداب…”أن نبا كان أوّل القادمين من معرَّة النعمان إلى جبل لبنان، ثم قدمت إليه سائر الطوائف (العشائر) عبر المغيثة، أي ضهر البيدر، ومنها من نزل أوّلاً في حصن أبي الجيش في وادي التيم. وقد توطَّنت العشائر الاثنتا عشرة مناطق المتن والجرد والغرب والشوف، وتقاسمت بعض قراها. وورد في الكتاب أيضاً اسم المكان الذي نزلت فيه كل عشيرة من العشائر القادمة أوّلاً، ومن العشائر التي تفرّعت منها أو لحقت بها، فبلغ مجموع هذه الأمكنة 140 قرية، أكثريتها الساحقة في جبل لبنان الجنوبي، ولا يزال منها 121 قرية عامرة حتى اليوم، فيما هناك 19 قرية دارسة، وهذا مع توطُّن العشائر التي قدمت إلى لبنان في سنة 758م، ساهم في إعماره، وملء الفراغ السّكَّاني الذي حصل فيه بعد الفتح العربي له وجلاء الرومالبيزنطيين عنه، كما ساهم في نشر الدين الإسلامي فيه، واللغة العربية التي حلّت مكان اللغة السّريانية، مع بقاء آثار الأخيرة ظاهرة في العديد من أسماء المكان القديمة.
إن مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب…” الذي هو من الموِّحدين (الدروز) لا يكتفي بذكر القرى التي يقيمون فيها، بل يذكر المقيمين بينهم، أو بالقرب منهم، من أصحاب المذاهب الإسلاميّة الأخرى، فيقول إن السُّنَّة موجودون في قرى سبلين والوردانيَّة والجيّة وشحيم ومزبود وعانوت والناعمة وبطلّون وبحمدون ومجدل معوش، وإن الشِّيعة (المتاولة) موجودون في البرج القريبة من بيروت، وفي إقليم الخرُّوب وجبل عامل، لكنه لا يذكر شيئاً عن النصارى، لأنهم كانوا في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي مقيمين في جبل لبنان الشمالي.
ذِكْر الملك العادل نور الدين محمود زنكي: يرد في كتاب “قواعد الآداب..” أن أحوال المسلمين والبلاد تغيَّرت في عهد الملك العادل الذي قهر الفرنجة وكان “أعدل الرعية وفتح بعض البلاد وعمّر القرايا”، والذي نادى في الناس “من أراد السكن بالحماية والرعاية والعزّ والعدل والقوة عليه بكنيسة حمام [الكنيسة في وادي التيم] فانبث الخبر في البلاد” ورحل بعض المتوطِّنين في جبل لبنان إلى الكنيسة16.
والملاحظ أن مدوِّن كتاب “قواعد الآداب..” يُطلِق على الملك العادل نور الدين لقب “سيدي”، ويترحَّم عليه بقول: “قدّس الله روحه”، وهذه عبارات معتمدة عند رجال الدين من الموحِّدين (الدروز) يعطونها للرجل التقيّ الصالح، وقد كان الملك العادل ديِّناً وصالحاً، جاء عنه في تاريخ ابن سباط، الذي سنتكلَّم عنه لاحقاً، ما يلي:

كفرمتى وعبيه وقرى الغرب
كفرمتى وعبيه وقرى الغرب

“كان نور الدين لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس إلاَّ من ملك اشتراه من خالص ماله ومن عمل السكاكر [الأقفال] للأبواب… وكان يستفتي الفقهاء في ما يحلُّ ويحرم، ولم يلبس حريراً ولا ذهباً ولا فضة، ومنع بيع الخمر في بلاده، وكان يحدُّ شاربَها”.
• غَدْر الفرنجة بأبناء الأمير كرامة بن بحتر التنوخي: إن قصّة غدر صاحب بيروت الفرنجي اندرونيكوس كومنينوس بثلاثة من أبناء الأمير كرامة بن بحتر واردة عند المؤرِّخ صالح بن يحيى في تاريخ بيروت، وهذه من المعلومات المتقاطعة بين مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب…” وبين صالح بن يحيى البحتري التنوخي الذي كتب بعده، مما يدلّ على أن هذا المؤلّف كان على صلة بالبحتريين، ويعرف تاريخهم كما وردت الإشارة إلى ذلك. ومفاد قصة الغدر هذه أن صاحب بيروت الفرنجي دعا أبناء كرامة إلى عرس ابنه في بيروت، فنزلوا من حصن سرحمور، وحين أصبحوا داخل بيروت ووسط الفرنجة غُدر بهم وقتلوا، وعندما فتح السلطان صلاح الدين بيروت، وكان معه الأخ الأصغر الرابع للمغدورين، أمر السلطان بالإحسان عليه وأقرَّه على أملاك أبيه وأقاربه.
• أسرة بني الشويزاني: المتداول عن تاريخ هذه الأسرة في لبنان، قبل تحقيق كتاب “قواعد الآداب…” ونشره، معلومات قليلة، منها أنها أصل أربع أُسَر درزيّة، هي: آل عبد الملك، وآل أبو هرموش، وآل حماده، وآل أبو حمزة ومنها إهمالها الحراسة في ثغر الدامور سنة 1302م مما تسبّب في قتل أمير بحتري تنوخي وبعض المرابطين معه، ومنها اسم منطقة في الشوف هو الشوف السويجاني، واسم حصن هيلنستي فيه هو قصر السويجاني. ولفظة “السويجاني” هي تصحيف للفظة “الشويزاني”17.
إلاَّ أن كتاب “قواعد الآداب..” أضاء على أسرة بني الشويزاني، حين تحدَّث عنها في 4 صفحات كاملة، وأشار إليها في 3 صفحات، من أصل الكتاب المطبوع الذي تبلغ صفحاته 24 صفحة ونصف. فلقد ذكر فروع هذه الأسرة، وأماكن نزولها. كما توسَّع في الحديث عن حادثة جرت بينها – حين كانت في تيروش إلى الشمال الشرقي من عين داره- وبين الدرغام (مقدّم سبعل القريبة من بحمدون) والبقاعيّين، وتحدَّث عن انتصارها على البقاعيِّين، وعن تسمية بني نمر وبني روق للقائد المنتصر (فهد الشويزاني) بالمقدام (المقدّم) والعقيب18.

سماحة الشيخ نعيم حسن يلقي كلمته

سماحة الشيخ نعيم حسن يلقي كلمته

سماحة شيخ العقل يضع النقاط على الحروف
في الاحتفال الحاشد تكريماً للشيخ محمد أبو شقرا

أقول للبعض حسِّنوا نواياكم

نحن طائفةُ العقل المنفتح على كلِّ ما من شأنه حفظ لبنان
ولا يمكن لأحد أن يقيسنا بالعدد والنسب الكمية

تنشر “الضحى” في ما يلي نصّ الكلمة المهمة التي ألقاها سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن في الاحتفال الوطني الحاشد الذي أقيم في قصر الأونيسكو يوم 20 أيار الماضي إحتفاء بذكرى مرور 25 عاماً على غياب الشيخ محمد أبو شقرا الذي شغل منصب شيخ عقل الطائفة لأكثر من 43 عاماً بين سنة 1949 وحتى سنة 1992.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله في كل بدءٍ وختام نحمدك ونستغفرك ونستعينك يا رب العالمين،
وصلى الله وسلّم على نبينا محمد سيد المرسلين وعلى آله وصحبه الطاهرين الطيبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين

وبعد
إنّنا إذ نكرِّمُ اليوم كبيراً من رجالات لبنان، نُكرِّمُ فعلًا، في الآن عينِه، معنًى أساسيّاً من معاني كينونةِ وطنِنا العزيز. لقد كان بلدُنا الغالي على الدوام بيئةً خصبة لكبار الرِّجال، وفي ذاكرةِ كلّ منّا مثالٌ، بل مثالات لهؤلاء الّذين تميَّزوا بفسحة العقل والرُّوح، فكرَّسوا حيواتِهم للتأسيس والبناء من دون أن يغيبَ عن بالِهم، في عمق مقاصدِهم، الصَّرحُ الوطنيُّ من حيثُ هو غاية تسمو في قيمتها وجدْواها على كلِّ المصالحِ الفئويَّة الضيِّقة.
عندما نذكرُ سماحةَ الشيخ محمّد ابو شقرا، فإنّنا في الحقيقة نستحضرُ شيخاً وقوراً وحضوراً وازناً في التقاليدِ الوطنيَّة تُرجَّحُ كفَّتُه على أيّ حضورٍ آخر.
من بناء دار طائفة الموحدين الدروز في بيروت التي أرادها أن تكون مدماكاً وطيداً ثابتاً في بنيان وطننا لبنان الى المؤسّسة الصِّحيّة في عين وزين، مسيرة توحيدية وطنية مثمرة رسَّخت علاقاتٍ وطيدة، خصوصاً بين القادة الروحيّين مُسلمين ومسيحيّين، وهو ما تمَّت ترجمتُه لاحقاً في سياقيْن مُهمَّيْن في إطار تأكيد الثوابت الوطنيَّة الجامعة، والثوابت الإسلاميَّة التي يُمكنُ أن نراها اليوم مقدِّمات باكرة وضّاءة لما نشهده في وقتِنا هذا من حيويَّة فكريَّة في إطار التعاطي مع مفاهيم المواطنة والحرّية والاحترام المتبادَل ودعم كلّ ما من شأنه تثبيت قواعد الدولة العادلة القويَّة والحاضرة بكلّ مقوِّمات الفاعليّة في العالم المعاصِر.
كان سماحتُه مسكوناً بـإرادة الإصلاح الاجتماعي على قاعدة أنَّ الخيرَ أفعالٌ وإنجازات وليس مقصوراً على هاجس خلاص الذات وحسْب، وتلك إرادةٌ استندت إلى إيمانٍ بضرورة التفاهُم على المبادئ لتكونَ أساساً متيناً لوحدةِ الصّفّ، فكان المبادر الى مأسسة القضاء المذهبي الدرزي ومشيخة العقل وإنشاء المجلس المذهبي. ومِن حسِّه التاريخيّ بالتقاليد المعروفيَّة عزَّز الموقفَ السياسيّ العام، وطنيّاً، بالشعور العميق أنَّ تاريخَ الجبل يحفظُ لبنِيه الأشاوس أنَّهُم مُكوِّنٌ ذو عراقة من مُكوِّنات لبنان الوطن، وعموماً بأنَّهُم معتزّون بعروبتِهم، متجذّرونَ في تراثِهم الإسلاميّ الحضاريّ المتنوِّر، وبأنَّ حضورَهُم الجوهريّ هو في المدى الإنسانيّ الفسيح بما يحملونه والحمد لله من فضائل وتقاليد شريفة وأخلاق حميدة يحافظُون عليها كلَّما لاقَت بهم الحياة.
هذه كلُّها ثوابت في الوجدان والضَّمير والذاكرة.

سماحة الشيخ نعيم حسن يلقي كلمته
سماحة الشيخ نعيم حسن يلقي كلمته

الحضور الكريم
في ذكرى الشيخ الجليل، نتطلّع الى واقعنا اليوم والأسى يعتمر القلب على كل حال، وبكل صراحة، نحن في طائفة الموحدين الدروز يمتلكنا الحسِّ السياسيّ الوطني الجامع الذي كوّن لبنان والّذي أثمرَ لنا ذات يومٍ مضى ما اتَّفق الوطنيُّون على تسميته آنذاك بـــ”الميثاق الوطنيّ”. نحنُ نتمسَّكُ، ليس بالميثاق تحديداً وحسْب، بل بروحِه، وبفلسفته، وبمقاربتِه الفذَّة التي مكَّنتِ اللبنانيّين من بناء وطن ذي “رسالة” وقناعتُـنا المستندة إلى قراءة التاريخ برويَّةٍ وتبصُّر، تدعونا إلى القوْل إنَّه ما من ظرفٍ زمنيّ ملتبس اهتزَّت به أركانُ الوطن بالأزمات والصّراعات، إلَّا وكان ذلك نتيجة إهمال روح الميثاق، والمكابرةِ على النصوص الدستوريَّة بما يتجاوزُ مقاصدَها الوطنيَّة التي من أجلِها اعتُمِدَتْ، والذّهاب بعيداً في لعبة المصالح السياسيَّة الفئويَّة.
إنَّ العالمَ من حولِنا يعبُر الآن في فترةٍ يتسارعُ فيها إيقاعُ التاريخ، ونرى عبر ذلك أنَّ دولًا كبرى تعبِّرُ عن مخاوف ومخاطر وتهرعُ إلى لعبة الحفاظ على مصالحها بأيّ ثمن في حين أنَّ منطقتَنا العربيَّة والإسلاميَّة تحدق بها الأزمات المعقَّدة من كلِّ اتّجاه. علينا أن نحصِّنَ بلدَنا حماية وصوناً لأهلِنا وشعبنا. إنَّ المسارعة في وضع حركةِ الحُكم ومؤسَّساته في الطريقِ الدستوريّ السليم هو طريق النجاح للعهد الذي نريد له النجاح وللحكومة التوفيق، أولاً في تحصين جيشنا الوطني الذي يتصدى لأكثر المهمات بنجاح والحمد لله، ولاستقرار الوضع الاقتصادي الذي يرهق كاهل المواطنين.
لقد عبرنا مرحلةَ التعطيل والجمود بفضل شجاعة الإقدام على تفاهمات مشترَكة. إن علينا، وأعني هنا القادة السياسيّين خصوصاً، الدَّفـع بهذه التفاهمات إلى فسحة المناعَة الميثاقيَّة التي لا يقوم بلدُنا إلَّا بها سالمًا من أيّ انتكاس، ولكن إذا كان قانون الانتخاب مدخلاً لتصويب الحياة الديموقراطية وتجديد المؤسسات بقرارٍ من الشعب، فإن ما شهدناه في بعض الطروحات ليس إلا مزيداً من الفرز والتقسيم، بدل الجمع والتقريب.
في مسلكنا التوحيدي ما من ميزان راجح بالخير دون نيّة طيبة معقودة به. أقول للبعض حسِّنوا نواياكم، وتابعوا التواصل والحوار فلا بدّ بعد العسر يسرَ.
أما لجهة مجلس الشيوخ، وللتاريخ ومع ارادتنا بالترفّع عن أي سجال طائفي، نذكِّرُ توضيحاً للحق، أنه بتاريخ 21/4/1983، وبمبادرة آنذاك للخروج من التجربة المفجعة ومرارة القلب الى رحاب الحقل الإنساني الجامع، وقّع كل من المرحومين الشيخ محمد أبو شقرا والأمير مجيد أرسلان مع قائد المسيرة الأستاذ وليد بك جنبلاط مذكرة بالمطالب الوطنية والسياسية والأمنية للموحدين الدروز، وزِّعت على المراجع المختصّة في حينه، وتضمنت مطالبة بإنشاء مجلس للشيوخ مع تفصيل لصلاحياته وأن تكون رئاسته للطائفة الدرزية، ونحن نعتبر مع عموم أبناء الطائفة أن مجلس الشيوخ قد أوجد في رحم الطائف وأن ولادته مرتبطة أصلاً بإلغاء الطائفية السياسية، ونرى ان أي خطاب لإدخال هذا الموضوع في جدليات، يكون بداية تخلي عن المبادئ العامة والأساسية بوجه طائفةٍ تأسيسيةٍ تاريخيةٍ في وطننا لبنان.
إننا نرى ان اللّحمة الحقيقية لهذا البلد هي في المصالحة الوطنية والعيش المشترك والثوابت الميثاقية التي نادى بها القادة الروحيون على الدوام، وفي المبادئ الدستورية المتجددة في الطائف، وروحها الميثاقية، ونحن ننادي بها أيضاً كي يكون لكل ملامح الشعب اللبناني ملاذ عزيز قوي مصان للعيش المشترك، والمساحة الحرة التي نحافظ بها على قيمنا ومثلنا الإسلامية – المسيحية المبنية على الإيمان بالله الرحمن الرحيم، بالله المحبة، بالنعم التي أوجد بها الإنسان، قادراً على معرفة الآخر ليكون له مرآة روح، وإمكان شراكة في الوجود الحي، على النقيض تماماً من كل نوازع النفس الأمَّارة بالسوء والعنف والبغضاء.
لا بدّ لنا في هذا اليوم المشهود من أن نذكِّر بأنَّ طائفةَ الموحِّدين الدّروز، هي الخميرةُ الطيِّبة التي بها نضجَ كيانُ لبنان كما يعرفُ ذلك (اذا اراد) كلُّ من له متابعة تاريخية وثقافة وطنيَّة، ولا يُمكنُ أن يُقاس تراثها بالعددِ والنّسبةِ الكمِّيَّة بل هي طائفةٌ في موقعِ الإتزان الوطنيّ والميثاقيّ، إذ كان مشروعُها على مرّ التاريخ هو الوطن بعيداً عن كلِّ تعصُّبٍ طائفيّ. همُّها الأساسيّ هو كيان الدَّولة بكلِّ مؤسَّساتها. إنَّها طائفةُ العقل المنفتح على كلِّ ما من شأنه حفظ لبنان بعيداً عن أخطار التشرذم والفئويَّة والإنعزال والتمترس الطائفيّ. إنَّها طائفةُ المصالحة والحوار والعيش المشترك. يدُها على الدّوام ممدودةٌ بشجاعةٍ لتبقى جسورُ الألفة والتفاهُم والوحدة الوطنيَّة ضمانة ضروريَّة لحرِّيَّة كلّ اللبنانيّين وكراماتهم. إنَّها طائفةُ مهيَّأةٌ بقياداتها ورجالاتها وكبارها لكلِّ ما من شأنه أن يعزِّز الرُّوحَ الميثاقيَّة اللبنانيَّة كما عبَّر عنها الدّستور، وكما عاشها رجال الاستقلال. هكذا كنا وهكذا نكون.

معكم يا أصحاب السماحة والغبطة، لنزرع جميعاً في كل خطبةٍ وعِظةٍ بذور التعاضد والتلاقي والمحبة والتكافل والتضامن والمواطنة، لأن هذا دورنا وهذه رسالة أدياننا السماوية، وبذلك فقط خلاصنا وخلاص الوطن، ونتوجَّه بالدُعاء لله عزَّ وجلّ أن يحفظ بلداننا وشعوبنا، وأن يمنَّ على أقطارنا العربية بالاستقرار والسلام، مؤكِّدين تضامننا مع القضية الفلسطينية، وخاصة موضوع الأسرى الفلسطينيين، والرفض القاطع لتهويد القدس الشرقية، وأن يمنّ المولى بالسلام على أرض السلام، إنه هو السميع المجيب.

 

لبنان يكرِّم الشيخ محمد أبو شقرا

لبنان بأسره التقى يوم السبت 20 أيار في قصر الأونيسكو لإحياء الذكرى 25 لرحيل شيخ العقل الشيخ محمد أبو شقرا . كان الاحتفال حاشداً تمثلت فيه الرئاسات الثلاث والقيادات الروحية للطوائف الإسلامية والمسيحية كما حضره ممثلون عن القيادات السياسية الحزبية والمدنية وحشد كبير من المشاركين غصت بهم قاعة الاحتفالات الكبرى لقصر الأونيسكو.

الافتتاح
قدّم الحفل رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي الدرزي الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، الذي تحدث عن مسيرة الشيخ الراحل، مستذكراً مواقفه الوطنية والعروبية فاعلاً ومتفاعلاً مع أخوانه القادة الروحيين، حريصاً على الوحدة الوطنية، ضنيناً بوحدة الصف الدرزي، وهو القائل في وداع الأمير مجيد أرسلان في العام 1983: إن إقامة حفل الصلاة في قصر المختارة العامر، يثبت أننا كلنا واحد، وأن موقف الطائفة عزيز بوحدة صفها قوي باتحاد كلمتها، ثم ألقى رئيس بلدية عماطور وليد ابو شقرا، كلمة قال فيها: “علمتنا سيرته من خلال مسيرته، ألا نقول سنفعل، بل أن نقول فعلنا، وقد علّمتنا مسيرته أن نكون حكماء”. وتبع ذلك عرض فيلم وثائقي يروي سيرة حياة الراحل، من إعداد دائرة الإعلام في مؤسسة العرفان التوحيدية.

ممثل الراعي: مصالحة الجبل أنهت عقدة الحرب
وألقى ممثل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي المطران بول عبد الساتر كلمة قال فيها: لقد واكب سماحة الشيخ الراحل الأحداث اللبنانية، وكانت له المواقف الواضحة، التي شدّد فيها على ضرورة ترسيخ الروح الوطنية والمساواة بين المواطنين، فلبنان وفق ما صرّح به في العام 1986 “هو وطن لجميع اللبنانيين وسيبقى للجميع، وبالتالي لا للدولة المسيحية ولا للدولة الإسلامية، نعم لدولة تضم جميع اللبنانيين”.
ونوّه المطران عبد الساتر بالمصالحة التاريخية في الجبل التي أرسى مداميكها غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، مع معالي الأستاذ وليد جنبلاط في آب 2000 والتي حرّرت الوطن من عقدة الحرب “داعياً للمحافظة على الميثاق الوطني وصيغته الفريدة التي جعلت من لبنان بلد الرسالة كما سماه البابا القديس يوحنا بولس الثاني، إبان زيارته التاريخية إلى لبنان سنة 1997” وحذّر عبد الساتر من استمرار التجاذب حول قانون الانتخاب والذي قد يؤدي إلى “انهيار الهيكل على رؤوس الجميع لا سمح الله”.

حضور كثيف رسمي وشعبي
حضور كثيف رسمي وشعبي

ممثل مفتي الجمهورية: سنبقى معكم في السرّاء والضرّاء
وألقى ممثل المفتي عبد اللطيف دريان الشيخ خلدون عريمط كلمة حيّا فيها “ هذه المشيخة الوطنية الإيمانية والعربية، التي يقودها الآن سماحة الشيخ نعيم حسن” مشدداً على أن لبنان وطن العروبة والإنسان والإيمان، لا يمكن أن يعيش إلا بجميع أبنائه مسلمين ومسيحيين، شعباً واحداً متساوياً في الحقوق والواجبات أمام القانون. واعتبر ذكرى الوفاء لسماحة الشيخ الراحل محمد أبو شقرا، مناسبة لتسليط الضوء على “صفحة مشرقة من التعاون بين المراجع الدينية الإسلامية والمسيحية، للحفاظ على عروبة لبنان ووحدة شعبه وإبعاده عن المحاور الإقليمية والدولية وبناء الدولة الوطنية القوية والعادلة” وقال إن الشيخ محمد أبو شقرا بقي رغم الصراعات وفوضى السلاح ومآسي الحرب “كبيراً في مواقفه الإسلامية والوطنية، رافضاً كل تقسيم أو تجزئة لأن لبنان كما كان يراه مع الكبار، لا يمكن أن يقسّم أو يبتلع، ولا يمكن أن يكون إلا سيداً حراً عربياً مستقلاً محباً لأشقائه العرب ومحتضناً لقضاياهم العادلة ولاسيما قضية فلسطين”.

الإرهاب عدوّ للإسلام والمسيحية
وأضاف: “في ذكرى الوفاء هذه، نقول لسماحة الشيخ نعيم حسن وأركان طائفة الموحدين الدروز الأشقاء لنا، كنا وسنبقى معاً في السراء والضراء، ومعاً ومع المراجع الدينية والقيادات السياسية الأخرى المخلصة والصادقة سننهض بلبنان الدولة والمؤسسات الشرعية، ومعاً يداً بيد لبناء الدولة الوطنية، دولة المواطنة والحرية والعدالة والمساواة، حيث لا سلطة على الأرض اللبنانية إلا سلطة الدولة، ولا قوة إلا قوتها، ومعكم يا صاحب السماحة ومع كل الأخيار في هذا الوطن، لا نريد لبنان أن يكون ساحة صراع لتوجيه الرسائل إقليمياً أو دولياً، معتبراً “أن الإرهاب هو عدوٌ للإسلام ولكل الأديان وأنه بضاعة مستوردة إلى شرقنا العربي، وهو مستمرّ بدعم من أعداء العرب والإسلام لضرب الوحدة الوطنية في كل قطر عربي وإسلامي، فلا مكان للمذهبية والطائفية والعصبية والغلو في عقيدتنا الإسلامية”.

قبلان: لا للفراغ والطائفية
ثم تحدّث رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير قبلان، المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان مذكراً بأن الشيخ محمد أبو شقرا توفي وبين شفتيه “إياكم والفتنة، فإنها تبدأ بالسياسة وتنتهي ببحر من الدم الطائفي الكفيل بإغراق لبنان”. وقال قبلان:”ليست السياسة أن تربح لأخسر، بل السياسة أن نربح معاً، ليبقى لبنان، داعياً إلى قانون انتخاب لا ثأر فيه ولا تشفياً ولا حقداً، لنضمن عدالة التمثيل الوطني ونلحظ الهواجس، على قاعدة “لبنان لكل اللبنانيين” ودعا إلى توفير أطر سياسية تشريعية تمنع الاستبداد بالسلطة والجموح بالمركز والاستغلال للطائفة، والاستئثار بالمال، مشدداً على رفض الفراغ والمغامرة بالبلد وإسقاط شرعية المؤسسات. وأكّد قبلان على أن المطلوب دعم الشرعية ومنع الفراغ، وتأكيد الوطنية لا الطائفية، مطالباً الرئيس ميشال عون بـوقفة وطنية يعبّر عنها بقانون انتخاب وطني يربح فيه لبنان، ليمنع الطائفية من إحراق هيكل هذا البلد”.
وفي الختام، ألقى شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز كلمة جامعة مهمة نفرد لها حيزاً خاصاً إلى جانب هذا الموضوع ، وبعد الكلمات، توجّه الحضور إلى ساحة وطى المصيطبة، حيث تمت إزاحة الستار عن النصب التذكاري للراحل الشيخ محمد أبو شقرا وهو من تصميم المهندسة هلا أبو شقرا وتنفيذ النحات الشيخ صلاح نبا.

تيمور بك جنبلاط ووزير الصحة وائل أبو فاعور

تيمور بك جنبلاط ووزير الصحة وائل أبو فاعور

النائب أكرم شهيب1
النائب أكرم شهيب

«الضّحى» فـي أيـدي الجميــع

مجلة النُّخبة الإجتماعيّة والسياسيّة والشخصيّات والقيادات

للإشتراك ولتأمين وصولها إلى عنوانك، إتصل الآن على الرقم: 81-777612

للنهضة للأرض للمعرفة

اتّصِلوا بنا!

إذا كانت لديكم مساهمة حرة تودّون عرضها للنشر..

إذا كانت لديكم صورٌ أو وثائق تاريخيةٌ تريدون مشاركتِنا بها..

إذا كانت لديكم تعليقات أو آراء أو مقالات مفيدة

إذا كانت لديكم اقتراحات بمواضيع وجيهة ترغبون في تغطيتها..

إذا كان لديكم إبداعات أدبية أو شعريّة

مهما كانت المشاركة التي تودّون المساهمة بها

تواصلوا مع رئيس التحرير
على العنوان التالي:
mail@dhohamagazine.com

كمال جنبلاط

 

 

[su_accordion]

[su_spoiler title=”رئيس التحرير” open=”yes” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

40 سنـــــة حضـــــور

كمال جنبلاظ

قبل 40 سنة سعوا لتغييبه
وهاهو حاضر مهيمن وهم الذين غابوا .
من طبيعة أجساد جميع الآدميين أن تعود إلى التراب
لكن الفكر لا ينزل مع الشهيد إلى التراب.

هو بكل بساطة عصيّ على كل فنون التدمير لأنه لا يسكن مكاناً ولا يُقارب من مكان وليس شيئاً يمكن أن تطاله المكائد والرصاص الجبان، لكنه نور ساطع محفوظ للأجيال في مشكاة العقل الخلاق وذخائر الحضارة وفي تضاعيف الأفئدة والحكايات وفي أعمق طبقات الوعي والهوية وهو شعلة الفخار وهو غذاء البقاء والصمود.
كمال جنبلاط بعد 40 سنة من تغييبه حاضر ويسدّ عليهم الجهات.
بمناسبة مرور 40 سنة على استشهاده تقدم مجلة “الضحى“ لقرائها هذا الملف الخاص ليكون تأكيداً على حضور كمال جنبلاط في الأفكار وفي التحرك وفي الجهاد المستمر من أجل لبنان لا طائفي ديمقراطي لجميع أبنائه، وليكون في الوقت نفسه احتفالاً بأربعين سنة من قيادة وليد جنبلاط الحكيمة والشجاعة للمسيرة الوطنية وكذلك احتفالاً بتقدم تيمور جنبلاط لتسلّم الأمانة الجليلة لمسيرة كمال جنبلاط ومسيرة وليد جنبلاط.

ومـــــا قتلــــوه يقينــــــــــاً

في الصبيحة الباردة للسادس عشر من شهر آذار 1977 أخمدت شعلة كانت ما زالت تعاند الأنواء وترسل بأنوارها الكاشفة فوق بحر الظلمات المتلاطم حولنا في هذه المنطقة التعسة من العالم. كان كمال جنبلاط تلك الشعلة التي تحلقنا حولها جميعاً بحثاً عن الأمل الغارب والصقيع المتسرب إلى أوصال الأمة، وكان هو وسط فوضى النكوص وزحف كائنات الظلام، بمثابة الحصن والملاذ الباقي الذي هرعنا إليه بعزيمة الرجال ليس خوفاً من بشر أو خطر بل تهيؤاً للصمود ولحماية المعلِّم ومشروعه التقدمي الإنساني حتى آخر نفس من أنفاسنا.
كثيرون كانوا يعرفون ما قد كتب، لكننا لم نكن عابئين بكل التحاليل والتنبؤات، فقد كان يكفي أن نجتمع إليه ونتأمل هدوء وجهه النوراني حتى تعترينا طمأنينة عجيبة وشعور يقيني بأن كل شيء سيكون على ما يرام. ولم نكن لنجتهد من أنفسنا فقد كان هو فكرُنا ومعينُنا ومرآة ذاتِنا، وكنا لذلك لا نرى حاجة لأكثر من أن نجلس في مواجهته في صبيحة كلِّ يومٍ جديد لنستمع مثل الحواريين إلى كل كلمة يقولها ونتابع بأعيننا لغة عينيه وجسده. أما هو فقد كان ينظر إلينا نظرات الحب الطويلة ويتفحص وجوهنا ويصغي إلى أسئلتنا، ثم – وعندما وجد ذلك مناسباً- لم يجد حرجاً في تنبيهنا إلى أن كل انتفاضة على الظلم وكل مشروع تغيير لا يتعدى كونه رهاناً قد يتحقق وقد لا يتحقق، وأن على المجاهد العاقل أن يتقبل النصر كما الخسارة بنفس حالة الرضا، لأنه يعمل بدافع الحب وليس بشهوة الإنتصار وقهر الخصوم.
قليلون كانوا يدركون المعاني البعيدة لهذا التعليم (اغفر لهم فإنهم لا يعلمون ما يفعلون) وأكثرنا لم يقرأ فيه تنبيه المعلم لنا بأنه سيكون علينا قبول ما لم نكن مستعدين لقبوله (ولم يكن يدخل حتى في أسوأ تصوراتنا) وهو أن مشروع الإصلاح التاريخي الذي ناضلنا معه لأجله قد لا يكتب له النجاح، وأن المعلم الذي كان قبلة آمالنا في تحقيق ذلك المشروع قد يصبح هو نفسه شهيد تلك الخاتمة الحزينة.
سقط كمال جنبلاط في الموقعة الفاصلة بين الحق المستضعف وبين القوة الغاشمة، وهو سقط وحيداً على منعطف عميق مع رفيقين من أصفيائه وتابعيه الأبرار شهيداً “حسينياً” بكل معنى الكلمة وفي ظروف تجعل ممكناً المقارنة في الكثير من الوجوه بين استشهاد الإمام الحسين (ر) وحيداً ضحية الخذلان وغلبة سلطان القوة وبين سقوط هذا الأمير الرفيع القدر شهيداً مظلوماً في المواجهة مع سلطان غاشم ليس انتصاراً لنفسه بل من أجل إحقاق الحق ووضع الأمور في نصابها الصحيح.
وقد كانت معركة كمال جنبلاط مثل معركة الإمام الحسين (ر) انتصاراً لمبدأ العدل وللفقراء والبسطاء المنسيين، وقد خاض الإمام الحسين معركته غير عابئ بالنتيجة أو بالمخاطر غير ملتفتٍ إلى المكاسب التي كان يمكن أن يحصل عليها لو أنه رضخ لأمر كان قد استتب، كذلك رفض كمال جنبلاط منطق المساومة مع ما كان يمكن أن يجلبه له من مكاسب السياسة والزعامة ومجد الدنيا، وقد قدمت له بالفعل إغراءات كثيرة إن هو قبل بقانون السجن الكبير وغض النظر عن أنظمة الأنانية والقهر والإفقار، لكنه أصرّ على التمسك بجانب الحق والعدل والكرامة الإنسانية، ورفض أن يحني الرأس للقوة الغاشمة وقبل بدلاً من ذلك أن يجعل من نفسه مثالاً للأجيال التالية يحبب إليهم الجرأة في الحق وبذل الذات وملاقاة الموت باعتباره خلاصاً وبشارة لا مصيبة.
أما الذين قتلوه، وهم يظنون أنهم يُخمِدون بذلك جذوة فكره ومثاله، فقد أثبتت الأيام أنهم كانوا في ضلال كبير ونحن نسأل: أين هم الآن؟ لقد زالوا واحداً بعد آخر ولن يبقى من أثرهم إلا صفحات سود في السجل الشامل لتاريخ البشر والمدنيات. }ولا يُحيقُ المَكر السيِّئُ إلَّا بأهلِه{ِ (فاطر 43)
أما المعلم، فإن الموت (وهو حقّ الخالق على جميع خلقه) فإنه خلده إلى الأبد في ذاكرة البشرية إرثاً فكرياً وأخلاقياً وسياسياً وغذاء لا ينضب للعقل والقلب والروح.
“وما قتلوه يقيناً” (النساء 157)

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”رشيد حسن” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

على العهد باقون
على العهد باقون

كمال جنبلاط: 40 سنة حضور

يوم البيعة والتذكير

إكتسب يوم المختارة في 19 آذار 2017 الماضي، بحشده غير المسبوق منذ ثورة الأرز في العام 2005 صفة حدث وطني كبير من النوع الذي يأخذ مكانه في كتب التاريخ كمحطة مهمة في مسار لبنان وهو حقق ثلاثة أهداف أساسية:
فهو أولاً كان احتفالاً بذكرى مرور أربعين عاماً على استشهاد المعلم كمال جنبلاط وقد كان إحتفالاً يليق بالزعيم الخالد ومناسبة مشحونة بالعاطفة والإعتزاز في آن بالنسبة الى الوطنيين عموماً وبالنسبة الى أكثر من مئة ألف مواطن ومواطنة تقاطروا بحماس إلى مكان الإحتفال من كل أنحاء لبنان مُتحدِّين المسافات والإزدحام والمشقة. نسبة كبيرة من هؤلاء الذين أحيوا الذكرى بالأمل والفرح لم يكونوا قد ولدوا يوم استشهاده وأكثرهم كانوا يافعين وأحداثاً عندما اختطفته يد الغدر في عزّ عطائه للبنان والعروبة والإنسانية.

بيعة واستمرارية
الحدث الكبير كان – ثانياً- يوم البيعة والولاء لتيمور جنبلاط الذي تسلّم رسميّاً كأس الزعامة المرّ وأمانتها الجسيمة من زعيم تاريخي فاق بحجمه وأثره البعيد الأمد حجم قاعدته الدرزية فهو أحد أبرز القادة الوطنيين الذين عملوا على دحر آثار الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 ومعه نظام التمييز والاستئثار، وكان لقيادته ولتضحيات رفاقه في الجيش الشعبي والحزب التقدمي الاشتراكي وصفوف المجاهدين والحلفاء من القوى والأحزاب الوطنية فضل كبير في توفير الظروف لإعادة صياغة النظام السياسي اللبناني وصولاً إلى اتفاق الطائف، وفضلاً عن دوره المفصلي في الأزمة اللبنانية فإن الدروز مدينون لوليد جنبلاط بقيادته الفذّة والشجاعة لهم وسط الأنواء والأخطار التي شكّلت في وقت معيّن تحدياً كبيراً لوجودهم ذاته. وتمثل مبايعة تيمور جنبلاط تعبيراً عن استمرارية لافتة في قوة وفعالية الزعامة الجنبلاطية على مدى قرنين ونصف قرن من الزمن، وهذه الفعالية التي لم تنقطع في أي من حلقات السلسلة الطويلة مثال نادر يصعب حتى على علم الجينات الحديث تفسيره، لذلك يعزوه الموحدون الدروز إلى كرامة خاصة للطائفة وأوليائها عند خالقهم، كما إنه واقع يُسفِّه بعض المتفلسفين حول “التوريث” إذ لولا استمرار الزعامة في هذه الأسرة الشريفة ودورها الكبير خصوصاً في المنعطفات الخطرة (وتاريخ المنطقة سلسلة لم تنقطع من المنعطفات الخطرة) لكان الوضع مختلفاً بل يصعب حتى مجرد التفكّر بنتائج الإحتمال المعاكس، ولا ننسى التذكير في هذه الذكرى الأربعين لاستشهاد المعلم كمال جنبلاط بأن الأسرة الجنبلاطية قدّمت معظم كبرائها قرابين شهادة في ذلك الجهاد البطولي الذي لم يفتر في الذود عن وجود الموحدين الدروز وأرضهم وكرامتهم.

وليد كمال جنبلاط ينقل الأمانة إلى تيمور
وليد كمال جنبلاط ينقل الأمانة إلى تيمور

بالخط العريض
الاحتفال يأتي، ثالثاً ، في ظروف غير عادية بل في سياق أزمة وطنية متمادية ولعب بالمواثيق بل وتحرش طائش وأحقاد ومشاريع فتنة، لذلك يمكن وصف هذه المناسبة الجماهيرية الكبرى أيضاً بـ “يوم التذكير” وقد صمم الإحتفال بالفعل، كما بدا من حجم التعبئة التي سبقته والسيل البشري الذي توافد إليه والتمثيل السياسي الرفيع والرسائل والإشارات التي رافقته، لكي يساعد جميع من يهمهم الأمر على الإستفاقة من الوهم والتنّبه لعواقب ما يدور في المخيّلات الجامحة، فكان الإحتفال بذلك رسالة بالخط العريض مكتوبة بالرجال وبذاكرة التاريخ القريب والبعيد، لكنه كان في الوقت نفسه إخراجاً مشهدياً راقياً ومبدعاً في الشكل والمضمون.
إن لبنان اليوم يعيش فعلياً على دستور معلّق ويغرق في مناورات استنزاف وسطحية تأكل ما تبقى من مرتكزات الإستقرار الهش، وقد أدى الظرف السوري (بدءاً بخروج قوات الردع ثم اندلاع حرب عالمية مصغرة على الأرض السورية) إلى فراغ فتح الباب للعبة لا تضبطها مرجعية، وهناك مناخ في المنطقة يشبه خيال الظل حيث يمكن لكل مشاهد أن يقرأ في الظلال المرتسمة واقعاً افتراضياً لا علاقة له بحقيقة ما يجري، وهو لذلك يعرّض المشاهد المحلل لإحتمالات الخطأ، والمَعنيّ هنا هو الخطأ في الحساب.
تيمور جنبلاط الذي يظهر الكثير من خصائص السياسة الجنبلاطية بصراحتها ونقدها الذاتي وروحها الساخرة وصف في أكثر من مناسبة السياسة اللبنانية بأنها “عصفورية” وهذا وصف مجازي لحالة التخبط واللاعقلانية وصعوبة الحوار وبناء شراكات حول أي شيء يدوم. في العصفورية كثيرون يظنون في أنفسهم القدرة والعبقرية وهم سعداء بما أوتوا ولا يشكلون مشكلة بل ربما كانوا موضوعاً للمرح طالما بقوا في عالمهم الخاص، لكن المصيبة تقع عندما يدخل بعض هؤلاء في التعاطي مع العالم الواقعي، ونحن نسوق هذا المثال كنوع من الوصف المجازي بالطبع.

مشكلة ثقافة سياسية
خلفية مهرجان 19 آذار تتعدى إذاً المناسبة نفسها إلى مستجدات وحوادث وأساليب تعاطي تجعل القائد وليد جنبلاط يقلق على مسار الأمور، وهذا السياسي المحنك الصبور والرابط الجأش لديه الكثير من الخبرة والنصح الثمين الذي يمكن أن يقدمه لساسة هذا الزمن المضطرب، إن هم تواضعوا واستمعوا، لكن مواقف النصح والتهدئة يقرأها البعض ضعفاً، والسياسة العاقلة هي فن الممكن وبناء الشراكة والتسويات، لكن في نظر هذا البعض السياسة هي فن المراوغة أو الأخذ بالتهويل، وهذا التخلّف في التعاطي السياسي يعكس طبيعة القوى نفسها وهي قوى مستحدثة لا تملك خبرة حكم تعدّدي ولم تتربّ في ظل عمليّة تكوّن الوطن بموازينه الدقيقة وثقافة المواثيق وبناء التوافقات. في مكان آخر إلى جانب هذا الكلام يكتب صحافي مخضرم هو الزميل سركيس نعّوم عن هذه العِلّة المتأصِّلة بالقول: “إن المسيحيين لم يفهموا كمال جنبلاط” وهو يقصد من ذلك أنهم لو فهموه لكان لبنان ربّما تمكّن من اجتياز امتحان 1975 بأقل تكلفة ممكنة، ولكان بُنِي على ذلك التفهّم ميثاق جديد للبنان عصري ومنيع للعواصف وللمؤامرات الأجنبية. المسألة الآن، هل سيفهمون وليد جنبلاط أم أن هناك أكثر من مؤلف منهمكون في كتابة سيناريو عبثي جديد؟

جنبلاط والحريري وسط أمواج من الناس والأعلام
جنبلاط والحريري وسط أمواج من الناس والأعلام

نهاية الشوط
وجد وليد جنبلاط في الرمزية المتعددة الوجوه لذكرى مرور 40 سنة على اغتيال المعلم الشهيد فرصة استثنائية للتعامل مع مأزق يوشك أن يدخل لبنان أتون محنة جديدة قد تقصر (إن جاءت كلمة السرّ) أو قد تطول، لكن مع فارق كبير هذه المرّة وهو أن لبنان دخل الأزمات السابقة برصيد المناعة الاقتصادية التي توافرت له بسبب ثروته المدّخرة وقوة اقتصاده، كما إنه دخلها في ظروف سورية وعربية ساهمت (وإن بعد عناء) في بلوغ محطة الطائف وإعادة صياغة الميثاق الوطني والنظام السياسي للبلد. وفي كل الأزمات التي تخللت تلك الحقبة الصعبة خصوصاً الاعتداءات الإسرائيلية المتوالية واجه لبنان تلك المحن في ظل تضامن عربي ظهر على سبيل المثال في الاستنفار غير المسبوق الذي تبع عدوان 2006 وفي المساعدات السخيّة التي تلقاها في عمليات إعادة البناء ودعم الوضع المالي وفي عمليات الإعمار مع استمرار المواطنين الخليجيين في الاستثمار في لبنان وإحياء موسم الاصطياف وقطاع السياحة.

خطورة العزلة
أما الآن، فإن الوضع مختلف تماماً، إذ إن لبنان استهلك الكثير من مناعته السابقة في توالي الأزمات والنزف وتردّي المالية العامّة وتفاقم الدين العام، وهو يعاني الآن من فقر دم يجعله معرضاً لخطر انهيارات مالية واقتصادية واجتماعية، وهذا الأمر شبه مؤكد في حال نشوب أزمة وطنية أو حصول عدوان إسرائيلي قد لا يوجد من يوقفه هذه المرة. فإن تحققت هذه المخاطر وتهاوت آخر الدفاعات فإن المحذور هو أن لا يجد لبنان الدعم اللازم سواء على الصعيد السياسي أم على الصعيد المالي والاقتصادي، وذلك بسبب فتور مشاعر التضامن العربي، وهناك أربع دول خليجية تمنع مواطنيها الآن من السفر إلى لبنان وهي عموماً لا تنظر إلى لبنان كبلد عربي حليف. أضف إلى ذلك، أن هذه البلدان دخلت بسبب تراجع أسعار النفط مرحلة اقتصاد تقشف وهي تريد الاهتمام بنفسها أولاً وبشعوبها وبمشكلة البطالة لديها.
وليد جنبلاط هو السياسي اللبناني الأبرز الذي يظهر في هذه المرحلة فهماً عميقاً لخطورة استمرار الأزمة السياسية على اقتصاد البلد ومستقبله ومستقبل أجياله المقبلة، وهو يدرك أن الانهيار الذي تمكَّن اللبنانيون من تأجيله أكثر من مرة لن يحصل بالضرورة نتيجة اقتتال اللبنانيين (فهذا مستبعد) بل نتيجة استمرار الشلل والتعطيل وإضاعة الوقت في العبث السياسي غير المسؤول.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”رامي الريّس” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أعلام-وحشود-وبوستر----سيبقى-فينا-وينتصر
أعلام-وحشود-وبوستر—-سيبقى-فينا-وينتصر

يست الكتابة عن كمال جنبلاط مهمة سهلة، فهو الفيلسوف والسياسي والمفكر والباحث والشاعر، هو الباحث أبداً عن العدالة الإجتماعية والمناضل في سبيلها وفي سبيل الحرية والديمقراطية والإعتدال، هو المؤمن بعروبة لبنان ووحدته والتصاقه بقضية العرب المركزية، قضية فلسطين، هو المنحاز إلى العمال والفلاحين الذين بسواعدهم سيغيرون هذا العالم.
كمال جنبلاط ناضل في سبيل التحرّر الإقتصادي والإجتماعي “لبناء مجتمع ودولة وحضارة، تنعكس فيها أكثر ما يمكن قيم الإنسان ومقاييس عقله وحقيقة طبيعته البشرية”.
عندما طرح كمال جنبلاط المشروع المرحلي للإصلاح السياسي في آب 1975 إلى جانب كوكبة من المناضلين في الحركة الوطنية اللبنانية، عكس رؤيته لإحداث التغيير السياسي الذي ينطلق من أسس المساواة بين اللبنانيين بعيداً عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية. وأن تمرّ كل هذه العقود على البرنامج المرحلي من دون أن يشقّ طريقه إلى التنفيذ، فإن في ذلك مؤشرات في غاية السلبية ودلالات قاطعة على قصور النظام السياسي اللبناني وعدم قدرته على استيلاد آليات التطوير الذاتي والتغيير السلمي الديمقراطي من دون السقوط في دورات من العنف ودورات من الحروب والنزاعات المسلحة.
إن قواعد الإمتيازات الطائفية الموروثة جعلت النظام السياسي في خدمتها وأقفلت كل مجالات التغيير والتطوير والإصلاح الحقيقي، وأفرغت كل البرامج السياسية الإصلاحية من قدرتها على التغيير مما هدّد أسس الديمقراطية اللبنانية، التي رغم هشاشتها ووهنها ومكامن ضعفها، ظلت متنفساً للبنانيين والعرب الذين عانوا من أنظمة القمع والإستبداد والقهر.

القائد وليد جنبلاط يلقي كلمته وإلى جانبه الرئيس سعد الحريري
القائد وليد جنبلاط يلقي كلمته وإلى جانبه الرئيس سعد الحريري

واليوم، يعود الخطاب الطائفي والمذهبي ليفرض نفسه في مختلف أوجه الحياة الوطنية والسياسية اللبنانية ويعيد فرز اللبنانيين وفقاً لطوائفهم ومذاهبهم بعيداً عن الإنتماء الوطني وحتى الإنساني. وكما حاول كمال جنبلاط طرح البرنامج المرحلي لتلافي الإنفجار الكبير، وهو ما لم يحصل نتيجة إجهاض البرنامج من أطراف محلية وإقليمية ودولية كما هو معروف؛ فإن ثمة حاجة اليوم لإعادة الإعتبار لما ورد في الدستور تحديداً إلغاء الطائفية السياسية.
إن التحوّل نحو نظام المجلسين، مجلس النواب (المفترض إنتخابه خارج القيد الطائفي) ومجلس الشيوخ (الذي تتمثل فيه الطوائف والعائلات الروحية) من شأنه أن يساعد على الخروج التدريجي من الواقع الطائفي المأزوم الذي يُطوى من خلال التوجّه نحو تفكيك عناصر النظام الطائفي وليس تكريسه كما يطرح من هنا وهناك!
إن تجاوز الصيغة الطائفية والمذهبية المتخلفة للنظام السياسي نحو نظام ديمقراطي عصري قادر على مواجهة التحديات المتنامية من كل حدب وصوب على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، بات حاجة ملحة لتلافي الإنهيار الذي تتصاعد المخاوف منه في ضوء التطورات الإقليمية الخطيرة والإنقسام الحاد بين المحاور الذي تشهده المنطقة فضلاً عن استمرار النزاع العربي- الإسرائيلي من دون أي أفق للحل بسبب سياسات الإحتلال الإسرائيلي في التوسع الإستيطاني وقضم الأراضي ورفض حق العودة وإجهاض كل محاولات التسوية السلمية منذ مؤتمر مدريد للسلام (1991) وحتى يومنا هذا.

ولكن، هل سيستطيع لبنان الذي يرتكز النظام السياسي فيه على الطائفية والمذهبية أن يحافظ على إستقراره وسلمه الأهلي في الوقت الذي تتصاعد فيه حدة الصراعات الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية والإسلامية؛ وهل يمكن له أن يشكل نموذجاً في صيغة التعددية والتنوّع والشراكة التي لطالما تميّز بها ولو أنه لم يحسن إدارتها في الكثير من المنعطفات والمحطات؟
إنها تساؤلات مشروعة، لكنها للأسف تبقى من دون إجابة! فلنعد جميعاً إلى كمال جنبلاط!

 

 

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” سركيس نعوم ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=””class=””]

 سركيس نعوم
سركيس نعوم

شهادة الصحافي والمحلل السياسي سركيس نعوم

كـان صاحــب موقــف وصاحــب رؤيــــــــة وصاحــــــب مشـــــــروع

فتح باباً لإنتقال لبنان من دولة الطوائف إلى دولة مدنية لكن اللبنانيين لم يصغوا إليه والمسيحيين لم يفهموه

قدّم المحلل الصحفي الواسع الاطلاع الأستاذ سركيس نعوم في مقال نشره في صحيفة “النهار” اللبنانية بتاريخ 20 آذار 2017 شهادة منصفة وشاملة في المعلم كمال نقتطف هنا أبرز ما جاء فيها:

أتاح لي العمل الصحافي متابعة أخبار كمال جنبلاط الذي كان يشكِّل وعدداً محدوداً من أقرانه لولب العمل السياسي في لبنان. وأتاح لي أيضاً التعرف عليه وخصوصاً بعد اندلاع الحرب الأهلية وغير الأهلية عام 1975، إذ صرت أرابط في منزله أحياناً لمتابعة نشاطاته واجتماعاته ولمحاولة الانفراد بأخبار منه شخصياً، وهنا لا أزعم أنني صرت ملازماً له وموضع ثقته، لكنني أقول وبكل ثقة إنه كان يستلطف هدوئي وتهذيبي وابتعادي عن الاشتراك في التدافع مع الآخرين للحصول على تصريح منه أو خبر! وسمح لي ذلك أكثر من مرة بأن أحظى بلقاء منفرد معه في غرفة قريبة من مطبخ بيته في محلة “فرن الحطب”، حيث كان يرتاح على كرسي طويلة (chaise longue) وكنت أجلس على كرسي بجانبه. كان أحياناً يفكر ويرتاح، وأحياناً يسأل مبدياً رغبته في معرفة مكان ولادتي وعائلتي. طبعاً كنت أسعد بذلك، لكن سعادتي كبرت يوم قال لي: أنت شاب “آدمي” يا سركيس. روح دبّر شي خمسة أو سبعة آلاف ليرة واشتر فيهم أسهماً في شركة سبلين (التي كان يؤسسها حينذاك أو يفكِّر في تأسيسها). ضحكت وقلت له: من أين يا حسرة؟
لم أتمكن من تعميق معرفتي الشخصية به أولاً بسبب الحرب، وثانياً لأن القدر والغدر لم يمهلانه فقضى شهيداً برصاص لم يعتقد يوماً أنه سيُطلق عليه. لكن أقول وبكل صدق ومن متابعتي نشاطه منذ بدايته انه كان مختلفاً عن زعامات لبنانية كثيرة، وكان مميزاً وصاحب موقف وصاحب رؤية وصاحب مشروع، فهو وُلد في عائلة حكمت جبل لبنان أي لبنان الصغير، أو شاركت في حكمه نحو قرنين من الزمن. ودفع ذلك بكثيرين إلى وصفهم بـ “الإقطاعية”. ولم ينتبه هؤلاء إلى أنه تلقى دروسه في لبنان ثم أنهاها في الخارج، وإلى أنه أصبح من أكثر السياسيين في البلاد ثقافة، وإلى أنه أسس ومنذ بداياته حزباً أراده عابراً للطوائف والمذاهب – وهكذا كان، وأراده عابراً للطبقات وبانياً لجسور في ما بينها، وأراده إصلاحياً في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع، وأراد بواسطته ومع أحزاب وشخصيات سياسية أخرى بناء دولة مدنية حديثة فيها مواطنون لا رعايا لإقطاعيين وطوائف ومذاهب وعشائر، وفيها الكفاءة والالتزام الوطني هما المعياران الأوّلان لشغل أي موقع أو منصب. أراده مُؤسِّساً مع آخرين لدولة ينتمي مواطنوها إلى وطنهم أولاً، وتسود فيها المساواة بين الناس والحرية للمعتقدات والاحترام لحقوق الإنسان، أراده شريكاً في دولة تحافظ على التنوع الطائفي والمذهبي لشعبها وتعتبره مصدر غنى واعتزاز، وتفتح في الوقت نفسه باباً على مستقبل ينتقل عبره اللبنانيون من دولة حصص طائفية متنوعة إلى دولة أو مزارع مذهبية إلى دولة لا طائفية أو مدنية. وهو لم يتحرَّج من استعمال كلمة علمانية لوصف دولة لبنان المستقبل كما يفعل الكثيرون اليوم خوفاً من اتهامهم بالإلحاد أو بالكفر، بعد تنامي الأصوليات في كل الأديان وفي كل المذاهب.
أحبائي مهما حَكِيت عن كمال جنبلاط لا أفيه حقه، فأنا لست مؤرخاً، لكنني مواطن شعر دائماً بالإعجاب بهذا الزعيم الذي أخذ من إقطاعيَّة عائلته الأصالة والتمسك بالأرض، والذي أخذ من الثقافة الغربية والمسيحية والثقافة العربية والإسلامية ومن الثقافات السياسية والدينية الآسيوية ومن التجربة الشيوعية الاشتراكية الروسية، أخذ منها العناصر التي كوّنت شخصيته وفكره ووعيه وطموحه الى التغيير، وبدلاً من أن يدمّر ذلك شخصيته ويوقعها في التناقض كما يحصل مع الضعفاء وأنصاف المثقفين فإنه صقلها، وجعل مواقفها من كل القضايا منسجمة صغيرة كانت أم كبيرة. فالاهتمام بالفقراء وبالعمال وبالحركة النقابية والتمسك بيسارية تقدمية غير شيوعية تشبه إلى حدّ بعيد اشتراكية دول اسكندنافيا الأوروبية، وإصراره على دولة مدنية علمانية حديثة في لبنان، وتمسكه بإلغاء الطائفية وفي الوقت نفسه بالمحافظة على “أدوار” الطوائف والمذاهب المكِّونة للبنان والعائشة فيه، واعتباره عن حق أن العروبة الحقّة تحمي لبنان أو تساعده على حماية نفسه لا عروبة التسلط والاستبداد، وأن إسرائيل عدو أو شرُّ يجب الانتباه منه، وخوفه من مخططات الدولة الكبرى ومصالحها التي غالباً ما تكون على حساب مصالح الدول والشعوب الصغيرة والفقيرة وأيضاً الغنية والأكبر حجماً، فكل ذلك يؤكد شمولية هذه الشخصية وإحاطتها الواسعة بكل شيء وصفاء صاحبها وقدرته اللامحدودة.
لن أسترسل في هذا الكلام. أودّ أن أقول أمراً واحداً فقط هو أنني كنت دائماً من الذين يلومون الزعامات المسيحية وخصوصاً التي وصلت منها إلى رئاسة الجمهورية والأحزاب المسيحية لأنها لم تبادر بعد تسليم فرنسا دولة لبنان للمسيحيين، وإن مع مشاركة مسلمة، إلى إقامة شراكة وطنية فعلية تضم المسلمين والمسيحيين، وتبني دولة يفتخر مواطنوها بالإنتماء إليها وبالتضحية في سبيلها، وتلغي المخاوف المسيحية من الذوبان في المحيط الإسلامي والغبن المسلم جراء الامتيازات والضمانات المسيحية التي لم تضمن مسيحياً ولم تميّز مسيحياً، ولو حصل ذلك لما كانت كل طائفة سعت ولا تزال تسعى إلى “تحالف” وهمي مع قوة كبرى إقليمية أو دولية من أجل تعزيز موقعها في الداخل وسلطتها على حساب الطوائف الأخرى، ولما كان سيشهد لبنان أول ثورة “بدائية” بعد قليل من الاستقلال عام 1958، ثم أول حرب أهلية ما بين 1975 و1990، بل أول حرب بين قوى إقليمية ودوليّة جنودها ووقودها اللبنانيون.
إنطلاقاً من ذلك، لا بدّ من القول إن الإنصات إلى الشهيد كمال جنبلاط منذ بدئه حياته السياسية كان يمكن أن يجنِّب لبنان الانحدار من نظام الحزبين (كتلويين ودستوريين) اللذين يضمّان مناصرين من كل الطوائف والمذاهب والمناطق إلى نظام الأحزاب الطائفية، وإن احتفظ بعضها بأسماء وطنية أو عربية أو اجتماعية، وإلى الحرب المسيحية – الإسلامية ما بين 1975– 1990، ثم إلى الحرب السنّية- الشيعية الباردة ما بين 1990 و 2005 التي تحوّلت حامية بعض الشيء بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري. وفي هذا المجال لا بدّ من الإشارة إلى أن البرنامج المرحلي “للحركة الوطنية اللبنانية” بقيادة كمال جنبلاط بمضمونه العملي والدقيق والموضوعي ولاسيما في شِقّ الإصلاح السياسي فيه، كان يمكن أن يجنِّب لبنان الأهوال الماضية والحاضرة والأهوال المستقبلية، ومن يدقق في هذا البرنامج يرى أنه يتقدم حتى على “اتفاق الطائف” في أمور عدة.
ويرى المدقِّق أيضاً أن مثله فتح باباً أمام انتقال لبنان من دولة الطوائف والمذاهب إلى دولة مدنية علمانية أي دولة المواطن.إن وقوع كمال بك جنبلاط ضحية مخططات إقليمية وربما دولية لا يقلِّل من أهميته وحجمه ووعيه المبكر للأخطار التي واجهها لبنان. فضله الدائم أنه حذَّر دائماً وقبل سنوات من الذي حصل، ودعا إلى التسوية الوطنية الشاملة، لكن أحداً لم يصغ إليه والإصغاء كان يجب أن يبدأ قبل 1969 تاريخ أول صدام فلسطيني – لبناني رسمي مسلح، إذ كان الصدام إيذاناً بأن تنفيذ مخطط الاستيلاء على الدولة أو نصفها أو تدميرها قد بدأ.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”طلال سلمان” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=””class=””]

طلال سلمان عن المعلم كمال جنبلاط

قال لي وقد أخذ بحماستي للعـــروبة
يا عمي، أقرن العروبة بالديموقراطية!

قال بعد وفاة عبد الناصر : خسرنا بطلاً عربياً عظيماً
لكن لو أن نظامه كان ديمقراطياً لما حصلت النكسة

طلال سلمان
طلال سلمان

كنت يافعاً حين التقيته أول مرة في دار المختارة، فبهرني بداية بتواضعه، سلوكاً ولباساً وصوتاً خفيضاً وابتسامة تلتمع بداية في عينيه قبل أن تضيء وجهه، ثم بقدرته على الجمع في الاهتمام بين بسطاء الناس المحتشدين في القصر ومن حوله الذين شدتهم الشعارات المدوية بوعدها المثير: “وطن حر لشعب سعيد”.. وبين كبار القوم، في الداخل والخارج، من ساسة ومفكرين ودبلوماسيين، يجيئونه للتشاور أو للإستنارة برأيه.
كنا نقطع الطريق إلى قصر الست شمس، متسلقين درج الدار نفسها لنبلغ مدرسة المعارف الإبتدائية الصغيرة تلك التي ألحّ المعلمون المعدودون فيها على تحدي أنفسهم وتحويلها إلى تكميلية، فكافأهم كمال جنبلاط بتقديم القصر ليكون المدرسة.
كنا، نحن الفتية الآتي بعضنا من البعيد إلى مدرستها الرسمية، نعبر متسلقين درج القصر، وقد غطته الشعارات التي لها في قلوبنا رنين: وطن حر شعب سعيد، والعلم الأحمر تتوسطه الكرة الأرضية وقد تقاطع فوقها المعول والقلم.
كان قبو ملحق القصر الذي غدا الآن متحفاً قد تحول إلى “سينما الشعب”، وكانت جريدة “الأنباء” أول طريقنا إلى القراءة السياسية المباشرة، وكانت بالنسبة إليّ أول منبر يتاح لي أن أكتب بتوقيعي، وفي بريد القرّاء، بعض الخواطر الوجدانية التي استولدتها الشعارات والأعلام وموقع القلم عليها، خصوصاً أنني لست على علاقة وطيدة بالمعول.
كنا ننتظره عصر كل خميس وهو قادم من بيروت بسيارته المرسيدس السوداء، ونسمع انه مُنع من قيادتها بنفسه لأن أفكاره قد تشغله عن الطريق.
وكنا نراه في الصباحات المشمسة لأيام الجمعة والسبت أحياناً وهو يضرب أرض الحديقة تحت القصر بمعوله، ووليد الطفل آنذاك يمسك بمعول صغير ويحاول أن يداري الشمس عن عينيه الزرقاوين بكفه اللدنة بينما تطارده مربيته السويسرية بالقبعة.
وكان يأتينا من يهمس في آذاننا أحياناً أن “كمال بك” قد قصد “كوخه” في أعلى المختارة، تحت بطمه مباشرة، ليختلي بكتبه وأوراقه وأفكاره، يقرأ ويفكر ويكتب، فنحرج من رفع أصواتنا، مهابة، بوهم أنها قد تزعجه!
من الصعب أن يتحدث جيلي عن كمال جنبلاط، السياسي والمفكر والكاتب والشاعر أحياناً، بلا عاطفة… حتى بين خصومه كان الإعجاب يخالط الإعتراض، وكان التقدير يحفظ للخصومة كرامتها، ذلك أن كمال جنبلاط كان صريحاً في خصومته أو معارضته السياسية من دون إسفاف، وكان حاداً في رفض ما لا يقتنع به لكنه لم يصل أبداً إلى رفض الآخرين ولم يخطر بباله أن يلجأ إلى غير الكلمة والموقف في حروبه التي نادراً ما هدأت.
في ربيع 1974 وعشية إصدار “السفير” ذهبت إلى كمال جنبلاط في منزله أشرح له تصوري للجريدة الجديدة.
قال لي وقد أخذ بحماستي للعروبة: يا عمي، أقرن العروبة بالديموقراطية. شرط انتصار الفكرة العربية أن تتواكب فتتكامل مع الديموقراطية. إن الأنظمة التي رفعت شعار العروبة قد حكمت غالباً بالقمع فأساءت إلى فكرة العروبة وشوّهتها ونفّرت الناس منها. صارت العروبة تشبه الحاكم الذي يدّعي تجسيدها والناطق بإسمها، فنفر منها الناس.
وافقته بطبيعة الحال وذكّرته بتجربة جمال عبد الناصر فقال جنبلاط بشيء من الحسرة:
خسرنا بطلاً عربياً عظيماً، وفي تقديري أن نظامه قد قتله. إن عبد الناصر أرقى من نظامه بكثير، ولكن نظامه كان لسنوات طويلة أقوى منه. لعله لم يتحرر من قيود النظام القمعي إلا بعد النكسة. لو كان نظام عبد الناصر ديموقراطياً لما توفّرت لإسرائيل فرصة ذلك الإنتصار الهائل الذي سيفرض علينا القهر لزمن طويل.
بعد صدور “السفير” إتصلت طالباً موعداً فقال: بل أنا سأجيء لزيارتكم…وجاء كمال جنبلاط فسمعنا منه امتداحاً لاتساع “السفير” للآراء المعارضة لنهجها السياسي. قال: هذه نبرة لبنانية تفيد العرب في تحركهم نحو المستقبل، لا تخافوا ممن يخاصمكم، الضعيف لا يخاصمه أحد.
يمكن القول بإمتياز إن كمال جنبلاط هو شهيد الديموقراطية بإمتياز، كما هو شهيد العروبة بإمتياز، بل إنه شهيد الغلط الذي أوقع التصادم بين شعار العروبة والديموقراطية.
وها نحن بعد أكثر من أربعين عاماً من الغياب نستمر في دفع ضريبة الدم الباهظة، نتيجة الافتراق بين الشعار العربي الذي رفعه الكثير من الأحزاب والحركات السياسية في ظل حدّ أدنى من الديموقراطية كانت تتمتع به في بلدانها ذات الأنظمة المدنية شبه الديموقراطية، وبين الممارسة القمعية التي لجأت إليها حين تسلقت الدبابة إلى السلطة بذريعة حماية العروبة… في حين أن الدبابة التي حمت السلطة قد سحقت أول ما سحقت العروبة ومعها الديموقراطية بذريعة حماية النظام من أعدائه الذين تحولوا فجأة من حلفاء وأصدقاء بل ورفاق في العقيدة، إلى عملاء للإستعمار والإمبريالية والصهيونية.
إن دماء كمال جنبلاط ترسم لنا الطريق إلى الغد: فلا مقاومة للإحتلال الإسرائيلي ومشاريع الهيمنة الأميركية التي بات لها الآن عنوان ناصع مكتوب بالنجيع العراقي، إلا بإعادة الاعتبار إلى العروبة لتكون حركة بناء الغد…
وإعادة الاعتبار تقضي أول ما تقضي بإنهاء الفصل التعسفي بين الديموقراطية والعروبة.
إن العروبة الآن في المعارضة..معارضة في الشارع لنظم الطغيان، ومعارضة مقاومة للإحتلال الأجنبي، لا فرق بين أن يكون أميركياً أو إسرائيلياً، وليس جديداً الاكتشاف أن الطغيان حليف موضوعي للإحتلال، يمهّد له ويحميه، وأن الاحتلال حليف موضوعي للطغيان يرعاه ويزينه للناس ويحميه.
وبين المزايا النادرة لهذا النظام اللبناني أن بقية من ديموقراطية فيه، بفضل التنوع، قد وفّرت مناخاً صحياً لمقاومة الاحتلال الصهيوني، بالسلاح كما بالعقيدة والصمود الشعبي… وهكذا تضم قوائم الشهداء مجاهدين من حزب الله وحركة أمل كما من الحزب الشيوعي والحزب القومي والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب البعث وتنظيمات أخرى تؤمن بأرضها وبشعبها.
إن كمال جنبلاط يسكن في الديموقراطية وفي العروبة وفي الشعار الذي استذكره بهياً مكتوباً بالأحمر على مدخل “سينما الشعب” في المختارة التي تعرفت فيها وعبر العلم الذي يتقاطع فيه المعول مع القلم، إلى كل لبنان: “وطن حر لشعب سعيد”.
لنواصل المسيرة نحو كمال جنبلاط الذي ينتظرنا في غدنا غد العروبة والديمقراطية والتحرر.

المعلم مع الرئيس عبد الناصر
المعلم مع الرئيس عبد الناصر

الدبابة التي حمت السلطة سحقت أول ما سحقت العروبة ومعها الديموقراطية بذريعة حماية النظام من أعدائه الذين تحولوا فجـأة من رفاق في العقيدة إلى عمـــلاء للإستعمار

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”عايدة الجوهري” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=””class””]

في أن تكون نائباً

الديمقراطية التمثيلية عند كمال جنبلاط

دعا إلى المساواة الطبيعية والجوهرية من دون تمييز
واعتبر هذا المبدأ مرتبطاً بتساوي البشر أمام الله

سعادة الإنسان وتفتّحه هما الغاية النهائية لكل جهد بشري

كلما تقدّم الزمن تفقد الديمقراطية التمثيلية في الأنظمة العربية معناها، لتتحول إلى خدعة لفظية وبصرية، لم تؤد ما يتوخى منها، ويتكشف فشل هذه الصيغة في التعارض الصارخ بين أداء معظم نواب الأمة في الواقع السياسي الفاسد مع واجباتهم المفترضة أو ما يوزعونه بسخاء من وعود وشعارات عند تقدمهم لنيل أصوات المواطنين. ومن واجبات النائب البديهية وفق تعريف نظامنا التمثيلي العمل من أجل الخير العام، أي من أجل خير الناخبين وبمقتضيات الوكالة التي حصل عليها عبر العملية الانتخابية. إن التجربة اللبنانية هي مثال بليغ على تخلف النائب المكلف أو الموكل عن تنفيذ موجبات وكالته، وهذا الفساد في العلاقة بين الناخب والمنتخَب يبلغ أوجه في لبنان بسبب النظام الطائفي والولاءات الشخصية وغياب الأحزاب السياسية الوطنية كما إنه يعود إلى فساد نظام التمثيل نفسه.

هل هناك أمل؟
فما العمل إذاً؟ وهل هناك أمل لبلدنا وغيره من البلدان النامية التي لا تمتلك تجربة سياسية وتاريخاً في النظام التمثيلي؟ هل نرضخ للمثل القائل:”كما تكونوا يولى عليكم” فنحَمِّل بالتالي أنفسنا كمواطنين جزءاً كبيراً من الوزر أو ربما الوزر كله؟ وهل يوجد نظام أفضل؟ ومن سيختاره ويقرّه؟ وهل يكفي النظام القانوني في غياب الوعي المدني وثقافة الشفافية والإفصاح والمساءلة ؟
مثل كثير من الناس شغلني دائماً الزيغ الحاصل في وظيفة النائب والتناقض في أغلب الحالات بين ماهية دوره والتي هي تمثيل مصالح الشعب والعمل للصالح العام، وبين دوره الفعلي على أرض الواقع وآثاره السلبية على المجتمع، وليست غايتنا هنا التعميم بالتأكيد، إذ شهدت الساحة النيابية في لبنان عبر عدة حقب بروز برلمانيين صادقين وقيادات شعبية سعت فعلاً إلى تمثيل المواطن وتوفير التشريع وأسلوب الحكم اللذين يراعيان مصالح الناس ويعبران عن تطلعاتها وتطلعات الأجيال الشابة، لكن وجود الإستثناء لا يلغي صحة القاعدة وظهور مصلحين أفراد لا يلغي الصورة غير المفرحة لطبقة السياسيين المحترفين في أغلبهم، مما يعني أن المشكلة قائمة وطويلة الأمد.
في ضوء هذا الواقع راعني دوماً الإبهام النظري في تعريف دور النائب ومسؤولياته واقتصار التعريف على مسألة التشريع، وتساءلت كيف يمكن لهذا النائب الذي ينتخب على أساس عائلي أو طائفي أو بسلطان المال أو بتدخل الأجنبي أن يقوم حتى بدوره المفترض كمشترع ناهيك بدور المصلح أو “:المنقذ” إلى ما هنالك من الصفات الطنّانة لكن المفتقدة لأي مصداقية في عين المواطن المحبط.

وثيقة تاريخية
خلال بحثي عن بعض أجوبة لهذه الإشكاليات وقعت على كتيّب للمعلم الراحل كمال جنبلاط، وهو كناية عن محاضرة ألقيت يوم 15 آذار 1947 ضمن سلسلة محاضرات الندوة اللبنانية حملت عنوان “رسالتي كنائب”. كان كمال جنبلاط قد انتخب نائباً في البرلمان اللبناني خلفاً لعمه حكمت جنبلاط وعمره لم يكن قد تجاوز الثلاثين عاماً، وقد فوجئت فعلاً بعمق هذا النص وما حمله من تعريفات ومن اقتراحات بشأن دور النائب ومسؤولياته، لذلك ومن أجل تسليط الضوء على ذلك النص القيّم سأورد هنا بعض أهم ما جاء فيه، إذ إنني وجدت في أجوبة كمال جنبلاط السياسي الشاب والمثقف التقدّميّ الذي كان قد تخرج محامياً من جامعة السوربون في باريس ما يساعد على التفكر في الموضوع الشائك للديمقراطية النيابية وأفكاراً جريئة وعملية قد نكون في أمس الحاجة إليها في هذه المرحلة التي نشهد فيها انهيار التقليد البرلماني والحكم المسؤول الذي عرفناه قبل دخول مرحلة التدهور التي دشنتها الحرب الأهلية.

كمال-جنبلاظ1
كمال-جنبلاظ

بين السياسي ..ومحترف السياسة
يبدأ كمال جنبلاط محاضرته في الاتجاه المعاكس، معبراً عن عدم حماسته للموضوع المكلّف بمعالجته، ليس من قبيل الاستخفاف بدور النائب، بل بسبب نفوره ممن يسميهم فئة السياسيين المحترفين أو محترفي السياسة، والكلمة الأخيرة هي ترجمة تقريبية لمصطلح Politique politicienne الفرنسي الذي لا توجد ترجمة عربية له، والذي يمكن أيضاً ترجمته إلى “سياسة سياسوية” والتي تدل في ما تدل على السياسي (رجلاً أو امرأة) الذي يستخدم الجماهير لأغراضه وطموحاته ولا يملك المعرفة ولا الترفع الضروريين لحسن إدارة الشأن العام. ولو قُـيِّض لكمال جنبلاط لكتب على باب الندوة النيابية “لا يقبل محترفو السياسة في هذه الندوة”، مثلما كتب أفلاطون على باب جمهوريته قاصداً الشعراء، فهذه الفئة من محترفي السياسة تستمدّ أساليبها من نفعية مركانتيلية إلى ميكيافلّية خطرة إلى علم ناقص وهو الأشد خطراً، لكن كمال جنبلاط لم يكن ليتشاءم من ديمقراطية ناقصة أو مشوهة حسب ما يعتقد لأن الديمقراطية بطبيعتها نموذج محكوم مثل كل الظواهر بالتطور والإرتقاء بتأثير التعلم من التجارب وحركة التاريخ وجدلية الأضداد مثل الشر والخير، والظلم والحرية، والرأسمالية والعمل، والجهل “والعلم الواعي، والضلال والحقيقة.

مرتكزان أساسيان للديمقراطية
بعد هذه المقدمة ينتقل جنبلاط إلى تعريف مصطلح الديمقراطية ممهداً لتعريف دوره كنائب، فيبدأ بسرد الأخطاء الدموية التي ارتكبت بإسم الديمقراطية أو “حكم الشعب” بدءاً من قادة الثورة الفرنسية وانتهاءً بهتلر وستالين، ليعرض ما يعتقده الأسس الأولية لتجسيد هذا المفهوم ويحصر هذه الأسس بإثنين:
أولاً: حرية الإنسان بالمعنى الفعلي
ثانياً: المساواة الطبيعية والجوهرية بين البشر من دون أي تمييز على أساس العرق أو الدين أو ما شابه من التصنيفات، وهو يعتبر هذا المبدأ مرتبطاً بالمساواة أمام الله، علماً أن المساواة أمام الله لا تقضي بالضرورة بتساوي البشر في الدنيا، ولكن القبول بحتمية وجود الفوارق الاقتصادية بسبب اختلاف الكفاءة والمهارة وغيرهما من العوامل يجب أن لا يغطي الحاجة الأخلاقية لحماية الضعفاء الذين لا يستطيعون مجاراة القوي في المنافسة القاسية التي تحكم أسلوب عمل النظام الرأسمالي.
ويعتبر كمال جنبلاط أن المساواة الجوهرية تجعل الإنسان غاية إزاء أخوانه وإزاء المؤسسات البشرية، والمهنة والدولة والعائلة، لأن الوظيفة الحقيقية لهذه المؤسسات هي خدمة الإنسان بما يتفق وتفتّح شخصيته وتحقيق غاياته الأساسية المادية والمعنوية، متبنياً كنه الفكر الإنساني التنويري الذي يجعل الإنسان وتفتحه وسعادته غاية كل جهد بشري.

“كمال جنبلاط قَبل بحتمية نشوء فوارق اقتصادية لكنه أصرّ على ضرورة حماية الدولة للضعفــاء “

ولا يفوت كمال جنبلاط المثالي الصوفي التوحيدي أن يرهن الديمقراطية بالحب لا الإلزام، إذ لولا هذا الحب الذي يعصف في عقل الفنان والشاعر ورجل العمل والمبدع إلى أي فئة انتسب، لما أمكن تحقيق ديمقراطية حقيقية. وتركيزه على لزوم المحبة للديمقراطية جعله يعرف فن الحكم كتوفيقٍ وجمع بين “تفهم محب وعمل كريم، بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين حالة الحق وحالة الواقع، بين القوة والفعل، وفق مثال يخطه الحاكم لنفسه”.
إلا أن جنبلاط لم يكتف بعامل المحبة في بناء الديمقراطية، فالقانون هو الوجه الآخر لروح المحبة والعدالة، ولروح التفهم العميق لقيم الشخصية والبشرية والمصلحة العامة والحق الطبيعي، وهو الحجر الأساس لترسيخ الديمقراطية وحماية المجتمعات من الاستبداد، لكن سلطة القانون التي تحمي الديمقراطية لن تجدي نفعاً، ما لم يواكب القانون وعي وسلوك عامان، فالحرية “إنما تكون في قلوب النساء والرجال، فإذا ماتت فلا الدستور ولا القانون ولا القضاء يسعه أن يضع شيئاً يذكر لمساعدتها”، أي أنه يراهن على شيوع ثقافة الديمقراطية والحرية أكثر من مراهنته على القوانين الرادعة والناظمة.

ماذا تعني الحرية لكمال جنبلاط؟
لا ينتمي كمال جنبلاط إلى أولئك الذين يقصرون الحرية على حرية التعبير وحرية الفكر والتجمع وحرية السلوك الاجتماعي والاقتصادي، أي الليبرالية بما هي إعلاء لقيم الفردية على حساب الجماعة. فحسب كمال جنبلاط إن الحريات الشخصية والاجتماعية والسياسية التي ينشدها المرء، تفقد معناها إذا اقترنت بفوضى إقتصادية لا تهتم بمصائر البشر، ولا تأخذ بعين الاعتبار مصائر مختلف الشرائح الاجتماعية ولاسيما الضعيفة منها. فإن حصل هذا التجاهل وأصبح كل فرد مهتماً فقط بنفسه وكل جماعة مهتمة بنفسها فإن “الحقوق الطبيعية” التي نصّت عليها شرعة حقوق الإنسان مثل الحقّ في الحياة والعمل والكفاية المعيشية والتعليم والتطبيب والراحة والتقاعد تصبح مجرد حقوق نظرية وفارغة من أي معنى، وهو لذلك يتساءل: “وما الفائدة من أن نُقِرّ للمرء حقه في الحياة والعيش عندما يصعب على فئة كبيرة من الشعب أن تعيش؟” و”ما الفائدة من حرية العمل، عندما يتعسر أو يستحيل وجود هذا العمل لملايين من العاطلين عن العمل؟” والقول نفسه يصح في حق الإنسان في الراحة، وحقه في التطبيب، وفي الإعانات العائلية وفي التقاعد وفي السكن وفي التسلية وفي التعليم إلخ….

رؤية سبّاقة
بهذه الطريقة يربط كمال جنبلاط بين الحقوق السياسية من جهة وبين الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إذ يعتبر هذه الحقوق متلازمة فلا حرية سياسية من دون إكتفاء إقتصادي وفرصة لعمل كريم ورعاية للأسرة وللصحة وفرصة للتعليم ولا معنى للكفاية الاقتصادية أو للعمل إذا كان الثمن الحرمان من الحريات السياسية كما حصل في الأنظمة الشيوعية أو الفاشية الإستبدادية، لذلك فإنه يدعو إلى استيعاب فكرة المساواة الاقتصادية التي تدعم المساواة السياسية أمام القانون، والعمل بمبدأ تكافؤ الفرص في سبيل تنمية مواهب الأفراد وثرواتهم، وهو بذلك يعبّر عن رؤية سبّاقة بكل معنى الكلمة، إذ إن هذه الأفكار التي عبّر عنها في العام 1947 هي التي قامت عليها “شرعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية” التي أقرّتها الأمم المتحدة في الستينات كمكمّل لشرعة حقوق الإنسان السياسية والفردية التي ترافقت مع تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.

“رسالتي كنائب”
بعد أن يعرّف كمال جنبلاط الديمقراطية، ينتقل إلى تحديد رسالته كنائب منطلقاً من تعريفه السابق للديمقراطية، تلك التي تجمع بين “الحرية” (أي الحريات السياسية) و”الطمأنينة” (أي الأمان الاقتصادي والمعيشي)، ووفق مفهوم خاص لدور النائب، يخرج عن إدعاء مجرد النطق بإسم الجماهير، والإنابة عنها لأنها اختارته، وهو يعرّف دوره كنائب على الشكل التالي:
“إن رسالتي كنائب تشمل في الجوهر تفهم وتفهيم الديمقراطية الصحيحة لمواطنيّ اللبنانيين، هي في أن أعكس لهم في تفكيري وشعوري وفي كتاباتي وفي عملي شيئاً من هذه الروح الإنسانية الخلقية البناءة…. فتجعل منهم جميعاً، أو من أكثريتهم الساحقة على الأقل، مواطنين أكفاء مخلصين لوطنهم، وكتلة واعية فاهمة تقدس الطبيعة الإنسانية”.
ويضيف: “رسالة النائب هي في أن يشع حوله هذا الإكتناه وهذا التكريم للشخصية الإنسانية من حيث هي غاية في حد ذاتها وللحريات العامة التي ترتكز عليها: حرية المناقشة، حرية الاجتماع، حق تكوين الجمعيات، حق العمل وحق العيش، تلك الحريات التي في صيانتها الأساس الوحيد لقيام وبقاء الديمقراطيات”.
وعلى الدولة بالتالي أن تصمم مؤسساتها وقوانينها ونهج الحكم بما يصون الحق الطبيعي في الحياة وفي الحرية وفي السعي وراء السعادة والطمأنينة لا أن تقوم بما يعاكس أو يحبط إمكان التمتع المسؤول بتلك الحقوق.

يوضح هذا العرض مصادر كمال جنبلاط المعرفية في تلك المرحلة المستقاة من الفلسفة الإنسانية Humaniste ومن منطلقات “ديكارت” ومن شرعة حقوق الإنسان ومن أسس الليبرالية الغربية السياسية لا الاقتصادية ومن الأفكار اليسارية الاشتراكية، ومن الروحانيات الشرقية التوحيدية، ومن نظريات برغسون، وفكرة المحبة وارتباطها بالديمقراطية وهو لا يكفّ في رسالته القصيرة هذه عن الاستشهاد بالدستورين الأميركي والانكليزي، وهو يحسم أمره في أن مفاهيم الديمقراطية والحريات العامة والقوانين المطابقة للحق الطبيعي ذات منشأ غربي، مشككاً في الدعوات السلفية، ودعوات الأفغاني ومريديه الذين اعتقدوا بإمكان إحياء مدنية شرقية سياسية مختلفة جوهرياً عن مدنية الغرب، التي هي “مدنية العالم”.

“استهجَن الديمقراطية اللبنانية التي تقوم على تقسيمات جغرافية وفئوية ولا تعير اهتماماً لمؤهلات النائــب الأخلاقية والتزامـه الديمقراطي”

كمال-جنبلاظ
كمال-جنبلاظ

النائب ليس مجرد ناطق بإسم ناخبيه!
ينتقل كمال جنبلاط للتأكيد على أن النائب “ليس محامياً عن مصالح معينة أكانت قومية أم سياسية أم إقليمية، وقبل أن يكون متزعماً لفكرة وممثلاً لصوفية خاصة ولمبدأ ولحزب” فإنّه “باني الديمقراطية ومؤسس الدولة”، مستخفاً بمفهوم “الوكالة” التي تفترض أن يمثل النائب وجهة نظر ناخبيه، أيّاً كانت، وهو الذي شكك في أكثر من مكان بالديمقراطية العددية، وروّج لنظرية النخبة والتفوق العقلي والأخلاقي والثقافي، أي لـ “أرستقراطية عقلية وأخلاقية”، ولكن هذا الطموح المثالي يطرح إشكالية التوفيق بين ضمان قيادة النخبة المتفوقة عقلياً وأخلاقياً ونظام الاقتراع العام حيث لكل شخص وبغض النظر عن مكانته أو تعليمه أو حسن اطلاعه صوت يساوي صوت فرد من النخبة المثقفة أو النخبة السياسية أو الحاكمة مهما كانت مكانته..إلا إذا افترضنا (على سبيل التهكم) أن الجماهير قد توصلت هي الأخرى إلى ثقافة ووعي إستثنائيين؟!.
نستعرض اليوم كيف فهم جنبلاط رسالة النائب، كان من الطبيعي لذلك أن يعرب عن تعجبه أو استهجانه لواقع الديمقراطية اللبنانية التي تحصر التمثيل النيابي في لبنان بتقسيمات جغرافية وتصنيفات فئوية مقنّعة (وإن كان القانون لا يشير إليها صراحة) تحتاج إلى مسّاح Topographe يحصي الكيلومترات، وإحصائي يحصي الأنفار في كل منطقة، مستغرباً أيضاً أن تكون هناك حاجة لاستخدام تعبير “نزاهة الانتخابات” وهي كلها معايير وتصنيفات لا تتصل بوظيفة النائب ولا تعير أي اهتمام لمؤهلاته الأخلاقية والفكرية والتزامه الديمقراطي الفعلي.
كم تبدو الرؤية السبّاقة للنائب الشاب كمال جنبلاط بعيدة اليوم عن واقع التمثيل النيابي في لبنان وواقع دور النائب وقد تدهورت صفة النائب مع الأزمات واندلاع النزاعات الطائفية لتصبح مجردة من أي معنى وبعيدة كل البعد عن التعريف الذي وضعه كمال جنبلاط وتمنّى أن يشهد تطبيقه في الحياة النيابية، مع ذلك، فإن تلك الرؤية التي مرّ عليها الآن سبعون عاماً بالتمام، ما زالت تنبض بالصدق والخيال السياسي للمصلحين الكبار أولئك الذين بذلوا قصارى طاقتهم للإرتقاء بزمنهم وبمجتمعهم والذين حتى عندما لم يتوصلوا إلى تحقيق كل طموحاتهم تركوا على الأقل للأجيال التالية دستوراً وشرعة سلوك واضحة كضوء النهار.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”المعلم في صبيحة يومه الأخير يصدح بنشيد «الذات الخالدة»” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

«لست خائفاً من الموت»

حياة كمال جنبلاط المعلم الكامل كانت بصغيرها وكبيرها حياة تجليات لم تتوقف وحياة جِدّة جعلت كل مقالة له وكل موقف إشراقة خاصة وحكمة لا تكرر نفسها إطلاقاً، وقد زخرت حياة كمال جنبلاط بما لا تسعه مجلدات من المواقف والأقوال لكن، قليل منا الذي يدرك أهمية المقال الذي ادخره المعلم لآخر يوم في حياته الحافلة وهو يوم كان متوجهاً فيه إلى ما نسميه نحن الموت والذي أسماه هو بكل بساطة ووضوح في ذلك اليوم بالذات “الخلاص”.
في ذلك اليوم الفاصل، اليوم العظيم، جلس كمال جنبلاط على سريره الخشبي البسيط في المختارة وهو في حال من الغبطة التي يصعب أن توصف. حرص يومها قبل ساعات من موعده الأخير على أن ينشد في حال من السرور والغبطة “نشيد الذات الخالدة” من تأليف فيلسوف التوحيد الهندي الكبير أدي شانكارا الذي يعتبر الشخصية الأبرز في تاريخ الأدفايتا فيدانتا الهندية وهي فلسفة التصوف الهندي الذي نهل منها شعراء العرب والفرس المسلمون وانتقل الكثير من مفاهيمها بل وتعابيرها إلى التصوف الإسلامي وإلى العديد من التيارات الروحية في العالم.
يعود هذا النشيد إلى القرن الثامن الميلادي ويعتبره حكماء الهند من الأناشيد الخالدة لأنه يلخص في ستة أبيات فلسفة التوحيد وخلود الذات الجوهرية في ما يتعدى الجسد وعالم الحواس والمفاهيم والصور. لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن يصدح المعلم أمام زواره في ذلك الصباح بهذا النشيد قبل ساعات من موعده المرسوم .
فلنتأمل ملياً في هذا النشيد ليس فقط لأنه الرسالة الأخيرة التي حملت تفسير كمال جنبلاط لوهم الجسد وخلود الذات بل لأنه أيضاً من أبلغ الدروس التي تركها لمحبيه وتابعيه والسائرين في طريقه كزاد روحي لا يفنى.

نشيد الذات الخالدة

أنا لست الفكر ولا الذهن ولا الأنا ولا الذاكرة
أنا لست الأذنين ولا الجلد، ولا الأنف ولا العينين
أنا لست الفضاء ولا الأرض ولا النار ولا الريح
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

أنا لست النّفّس ولا العناصر الخمس
أنا لست المادة ولا الحجب الخمس للوعي
أنا لست الكلام ولا اليدين ولا القدمين
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

ليس هناك ما أحب أو أكره ولا يأخذني جشع أو انخداع
ليس فيّ ذرة من افتخار أو حسد
لست مقيداً بواجب، ليست لي رغبة بثروة
لست تائقاً لشهوة ولا حتى للخلاص
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً
لا فضيلة هنا أو رذيلة، لا سرور أو ألم
لست في حاجة إلى مانترا أو إلى حج أو كتب مقدسة أو طقوس
لست أنا ما تختبره الحواس ولست أنا الاختبار ذاته
أنا الوعي المطلق بلا شكل، أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

ليس بي خوف من الموت، لا انتماء لي إلى طبقة أو عقيدة
ليس لي أب ولا أم لأنني لم أولدُ أبداً
لست نسيباً لأحد ولا صديقاً ولا معلماً ولا تلميذاً
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

أصبحت خالياً من كل ثنائية وشكلي لا شكل له
موجود في كل مكان، متخللاً لجميع الحواس
لست متعلقاً ولا حراً ولا أسيراً
أنا الوعي المطلق بلا شكل أنا الغبطة
أنا شيـﭬا الخالد أبداً

[/su_spoiler]

 

[/su_accordion]

 

كلمة سواء

غزو من الفضاء كيف المواجهة؟

من أعجب ما رأيت في ردود الفعل على حوادث الإنتحار المؤسفة التي حصلت مؤخراً هو هذا التعنيف الشديد من قبل كثيرين لهؤلاء المساكين المعاقين نفسياً وهم في الحقيقة ضحايا هشاشة شخصيتهم أولاً ثم ضحايا التردي الأخلاقي المنتشر على شبكة الإنترنت – وفي المجتمع- وكذلك ضحايا غفلة الأهل وغفلة المدرسة والمجتمع، فإن لم نكن لنرحمهم (على سبيل الإدانة لقتل النفس التي حرم الله قتلها) فإن علينا أن نفهم الظروف التي أحاطت بسقوطهم لأن المطلوب إلى جانب إدانة هذا التصرف فهم الأزمات العميقة التي تهدد التوازن النفسي والأخلاقي للشباب في هذه المرحلة بالذات والتي لا تقتصر على الشباب الدرزي بل تطال الشباب في كافة البيئات اللبنانية والعربية.

إن حوادث الانتحار هي عنوان فقط من عناوين عدة لأزمة شباب ينسلخ يومياً عن ثقافته وعن أسرته وعن تراثه ليهرب إلى عالم افتراضي ينشد فيه مسرات سطحية من دون أي خبرة أو توجيه. ونحن نثور على حوادث انتحار متفرقة لكن يجب أن نثور أيضاً على مئات وربما ألوف الحالات لشبان يعيشون في ظلمة المخدرات والشذوذ وقتل الوقت والوجود الهامشي وهؤلاء “أموات أحياء” ومنسيون ولا يجب بالتالي إهمال مأساتهم والانتظار لكي يحدث لهم سوء أو يتورطوا في مشكلات لكي نعلم بوجودهم والظروف القاسية التي يعيشونها.
والمهم هو مواجهة هذا التحدي الخطير لبيئتنا وقيمنا بعقلانية وروح مسامحة ومن دون ذعر أو تصرف عصبي لأن ردود الفعل العنيفة ستجعل الشباب يخاف التصريح أو التقدم لطلب المساعدة من مجتمع يعامله بالقسوة وعدم التفهم لمشكلاته أو لأخطائه وحتى انحرافه أحياناً على السلوك السليم.

جذور الأزمة
إن ثورة الإنترنت والتواصل الفوري تطور كبير في الحضارة الإنسانية لكنها تطور متعدد الوجوه وأحد هذه الوجوه هو في كونها تحت سيطرة الغرب المادي والقوى الغامضة الإلحادية وهي تمثل لذلك غزواً أخطر بكثير من غزو الجيوش لأنه غزو ينزل علينا من السماء عبر الأقمار الصناعية ويجتاح عقولنا وثقافتنا وهو غزو ممنهج هدفه تربية الأجيال الجديدة وفق ثقافات القوى الغربية وبأسلوب يجرد الشعوب العربية والإسلامية من شخصيتها وإيمانها ويهدم مجتمعاتها واحترامها لنفسها فتسقط أهم دفاعاتها وتصبح بالتالي ساحة مباحة لكل أنواع التدخل والسيطرة. ونحن نوجز أهم المصائب التي حملتها ثورة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي بالتالي:
1. الهجرة من ثقافة السلف وثقافة الأسرة والعائلة والقرية والجماعة إلى البيئة الفاسدة والمُفسِدة لشبكة الإنترنت والهواتف الذكية وتطبيقاتها التي لا تحصى، وهذه الهجرة تتسبب بانسلاخ تدريجي للشاب عن بيئته واندماجه في عالم افتراضي خيالي وغير موجود في الواقع، لكن بعض الشباب المنسلخ باتوا يعتبرونه العالم الجديد الذي يريدون العيش فيه باعتباره أفضل من العالم الواقعي الذي لا يعطيهم أملاً بحياة أو مستقبل.
2. الحرية الرقمية: إن أكثر مبادلات التواصل تحصل عبر أجهزة محمولة من الشباب لا يعلم إلا صاحبها ما يتم بواسطتها فإن الأهل غير مطلعين حقيقة على عمق الانسلاخ الحاصل ولا تتوفر لهم في أحيان كثيرة فكرة مبكرة عن الهوة التي تكبر مع أبنائهم وعن المشكلات التي تتجمع في الخفاء بعيداً عن أعينهم.
3. الصداقة والصداقة الرقمية : كانت الصداقة في الماضي صداقة لبناء الشخصية تزدهر في بيئة القربى أو الجيرة أو القرية أو صداقات الأهل أو المدرسة ولم يكن ممكناً لهذه الصداقات أن تستمر في غفلة عن الأهل الذين يختارون لأبنائهم من الرفاق من يساهم في صون أخلاقهم، وكثيراً ما منعنا والدانا من مخالطة شخص سمعوا أنه يسُبّ أو يشتهر بسوء المسلك. أما الصداقات الرقمية فتتم خارج أي اطلاع من الأهل أو اختيار منهم، وهي ليست صداقات بل “تسليات” سطحية يتنافس فيها الشباب عن جمع أكبر قدر من العناوين و”المعجبين” من دون معرفة الكثير عن خلفية الأشخاص. أما مضمون تلك الصداقات فليست كتاباً ينصح بقراءته أو مادة ثقافة أو دين أو نصيحة بل نكات و”نفايات” الإنترنت أو مقاطع فيديو صريحة يوجد الملايين منها في التداول غذاء مسموماً ومدروساً لإفساد الأجيال في أي مكان لا يزال فيه تراث أو حضارة أو دين.
4. الاختلاط الرقمي: إن الصداقات قبل مجيء العالم الرقمي كانت في كافة البيئات وعلى الأخص الدرزية بين ذكور أو بين إناث ولم تكن مختلطة إلا نادراً أما الآن فإن وسائل التواصل الاجتماعي تتيح تواصل الشباب والشابات من دون قيود كإمتداد لعلاقات التعارف في المجتمع أو على مقاعد الدراسة أو في مكان العمل وهذا من دون رقيب أو مرشد، وهذا النوع من العلاقات الرقمية الحرة يحتوي على مغريات ومنزلقات لا تحصى.
5. مخاطر ومنزلقات :إن الكثيرين ممن يدخلون عالم الفيسبوك أو الإنستغرام أو الواتس آب أو غيرها غير ملمين بصورة كافية بكيفية عمل تلك التطبيقات وهم غير ملمين خصوصاً بالثغرات الكبيرة التي قد تتيح تداول صورهم الشخصية أو أخبارهم أو أقوالهم وغيرها، كما إن العديد منهم قد يتحوّل إلى مادة استغلال من أشخاص هدفهم فتنة الناس وإشاعة الفضائح غير عابئين بمن ائتمنهم (بسذاجة) على أخص خصوصياته. وهذا الجهل أو ضعف الخبرة هو الذي سبّب لبعض ضحايا “الخيانة” والابتزاز الرقمي تلك الصدمة النفسية الساحقة كما لو أن السماء أطبقت بكل ثقلها على صدرهم فإذ بهم لا يجدون مخرجاً من العار الذي لاحقهم وإظلام الدنيا من حولهم إلا الفرار إلى عالم الأموات.

ماذا عن الحلول؟
من السذاجة الاعتقاد بوجود علاجات سهلة لهذا “الغزو الفضائي” المخيف الذي يجتاح البيوت ويدخل غرف النوم ويستولي على النفوس وعلى العقل والشعور والخيال ويدمر نواميس الآداب ويستلب الهوية. ولقد أصبح اقتناء الهواتف الذكية واستخدام تطبيقاتها وكذلك دخول الإنترنت بكل مفاسدها أمراً زهيد الثمن ومتاحاً لجميع الناس من كافة الأعمار بدءاً ربما من العاشرة أو ما دونها. وطالما وجد الفراغ أو البطالة وطالما أن الوصول الحرّ إلى شبكة الإنترنت الكونية متاح في أي وقت للصغير والكبير وبعيداً عن أي رقابة أو توجيه فإن المخاطر التي تهدد شبابنا وشاباتنا ومجتمعنا لا بدّ من أن تتعاظم مع صبيحة كل يوم جديد.
لكن، وبالرغم من ضخامة التحدي، فإن هناك متسعاً لاتخاذ مجموعة من المبادرات المنسقة والهادفة لاحتواء المخاطر ومعالجة المشكلات التي قد تنشأ بين الحين والآخر، ونحن نعرض هنا لبعض الأفكار من دون أن نعتبرها حلاً بل مجرد جدول أعمال يمكن للنقاشات اللاحقة والاقتراحات البناءة من مختلف الجهات التي أظهرت غيرة واهتماماً أن تغنيه وصولاً إلى حلول عملية ومبادرات على الأرض.
1. يجب على وزارة التربية والمدارس الحكومية والخاصة أن تدخل مقرراً أساسياً في برامج التربية يتناول التدريب على الاستخدام المسؤول للإنترنت ووسائل التواصل والتوعية بالمخاطر التي تحيق بالاستخدام الطائش أو غير المتبصر لتلك الوسائل.
2. يجب خلق “غروبات الصداقة” بمبادرة من ناشطين اجتماعيين يدعى إليها الشباب، سواء على مستوى المدرسة أو القرية أو العائلة أو غيرها على أن يتم اختيار موادها بعناية بحيث تجمع بين الترفيه وبين التوجيه.
3. يجب على المدارس والبلديات ومنظمات الشباب والجمعيات الشبابية التعاون في إنشاء “مخيمات الصداقة” خصوصاً في الصيف وبعد انتهاء المدارس وتعزيز النشاطات التثقيفية في الطبيعة كتلك التي تقوم بها محمية أرز الشوف أو غيرها من الجمعيات البيئية.
4. يجب إنشاء مؤسسة اجتماعية يتسجّل فيها الشباب الذين هم بلا عمل، بحيث يمكن الاتصال بهم لعرض أعمال موسمية أو جزئية في المواسم، أو دعوتهم للتسجيل في دورات تدريب على الزراعة أو بعض المهن والحرف.
5. يجب وجود خط ساخن يستعين بمرشدين نفسيين وتربويين يمكن لمن يواجه مشكلة من الشباب بسبب وسائل التواصل الاجتماعي أن يتصل به طلباً للمساعدة، ويجب أن تضمن هذه المنظمة للمتصلين السرية التامة لتفاصيل مشكلتهم وتطبّق احتياطات تحافظ على كرامتهم وتؤمنهم على خصوصيتهم.
6. يجب منع الهواتف المحمولة منعاً باتًا في المدارس خلال الصفوف والدوام الرسمي .
7. يجب تشجيع الشباب على العمل الاجتماعي والبيئي المباشر من خلال البلديات والأندية والمعاهد وإطلاق مبادرات التشجير والعمل الإنمائي والمدني بمختلف وجوهه.
8. يجب تنظيم لقاءات عامة في المدارس يتحدث فيها ناشطون في وسائل التواصل الاجتماعي من أجل تنبيه الشباب إلى مزالق الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
9. لا بد ّأخيراً من تنظيم دورات وورش عمل للتعريف بالفوائد الهائلة التي يمكن تحقيقها من الاستخدام المدروس للإنترنت مع التعريف بالمواقع الثقافية والتعليمية والصحية والتراثية وتدريب الشباب على الاستفادة الكاملة من الشبكة في أمور الدراسة والعمل والتكوين المهني والنفسي والروحي.
والله من وراء القصد

العدد 20