الجمعة, تشرين الثاني 22, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, تشرين الثاني 22, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الامير حسين الاطرش

وصفٌ حيٌّ لأيّامٍ عَنْزاويّة قبْل أكثرَ من تسعينَ عاماً

الأمير حسين الأطرش في مرآة رحالة أميركي

ويليام ب. سيبروك
ويليام ب. سيبروك

“أنت وأنا والقرية خَسرنا شرفنا
ولا يمكن أن نستردّه إلاّ بسفك الدّم”  (ويليام ب. سيبروك)

كان الفرنسيّون يعتبرونه “لصّاً فظّاً قاطع طريق” لأنّه كان مع سورية حرّة مستقلّة، وكان أحد قادة الثّورة العربيّة من بني معروف ضدّ العثمانيّين، فاوضَ وقاتل من أجل دولة عربيّة كبرى؛ غدر الإنكليز والفرنسيّون بمشروعها، وتخاذل العرب وملوكهم وحكّامهم دون ذلك الحلم العربيّ، ومن الجدير ذكره أنّ الأمير حسين الأطرش كان كريماً ــ طعّام عيش ــ وقاضياً يأتي النّاس إليه ليفضّ ما بينهم من خلافات من دون اللّجوء إلى المحاكم، وكان من مواليد 1880م وتوفّي عام 1967.
في ما يلي توثيق لأيام من عنز، ونماذج من قضاء بني معروف العشائري قبل نحو قرن من الزّمان، ذلك القضاء الذي رغم صرامته وقسوته ساعد على تثبيت الأمن والاستقرار في منطقة لم تكن لتعرف العمران والأمن، لو لم يعمّرها الدّروز بعد انتقالهم من لبنان الذي هجّرتهم منه السّياسة الفرنسيّة التي دعمت سياسة الأمير بشير الشهابي السني المتنصِّر في التنكيل بزعماء الدروز واغتصاب إقطاعاتهم الواسعة وقتل العديد منهم وتهجير أتباعهم، وقد استغلت الأمير بشير وحلفاءه الفرنسيين النّزاعات الدّاخليّة بين الزّعامات الإقطاعيّة الدّرزيّة، كما استفاد من سياسات التفرقة العثمانيّة التي استهدفت المسيحيين والدّروز معاً…
الرحالة الأميركي ويليام ب. سيبروك William Buehler Seabrook وزوجته (كاثي) زارا بلدة عَنْز في جبل العرب عام 1925، وقبل أن يصلا إليها كانا قد باتا في القريّا في دار سلطان باشا الأطرش، الدّار التي كان الفرنسيّون قد دمّروها بالطّائرات عام 1922 قبل ثلاثة أعوام من تلك الزّيارة. يقول سيبروك: “وفي إحدى غرف الدّار نِمْت أنا وكاتي على الطريقة الشّرقيّة، فُرْشاً مَحشوّة بالقشّ “.
بعدها بيومين توجّه سيبروك وكاتي إلى عَنْز ليقصدا على حدّ تعبيره: “زعيماً كبيراً من زعماء الحرب الدّروز من العائلة ذاتها (آل الأطرش)، وهو حسين باشا الأطرش، زعيم قرية عَنْز، وكان علينا أن نتخلّى عن الكاديلاك ونلجأ إلى الجِمال”.
كانت دار حسين باشا التي وصلناها بعد الغروب مَعْقِلاً حصيناً ضخماً على سفح تلّ، وقد تراصفت تحتها على المُنْحدر مئات المنازل ذات السّقوف المُسْتوية والجُدران الحجريّة السّميكة.

الترجمة الفرنسية لكتاب ويليام سيبروك -مغامرات في بلاد العرب-الذي وصف فيه مشاهداته في جبل الدروز
الترجمة الفرنسية لكتاب ويليام سيبروك -مغامرات في بلاد العرب-الذي وصف فيه مشاهداته في جبل الدروز

ضِيافة مُترَفة
إستقبَلَنا الخدم عند مدخل الدّار، وتبعونا قائدينَ جِمالنا إلى الباحة حيث الزّرائب ومخازن الحبوب. كانت درجات ضيّقة ومنحدِرة ومُستقيمة طولها أكثر من مئة قدم تؤدّي إلى مصطبة مُعَمّدة تشرف على الوادي، دخلنا من المصطبة إلى غرفة الاستقبال وكانت غرفة عالية السّقف ومُتْرَفة الفرش على النّمط الشّرقيّ إضافة إلى أثاث أوروبي مُنَجّد ومُزخْرف جُلِب خِصّيصاً على ظهور الجمال من دِمشق، وفي إحدى زوايا الغرفة وُضِعَ سرير أوروبيّ كبير فخم عالي القوائم تعلوه ظُلّةٌ مُتْقَنة الصّنع كان هذا أوّل سرير رأيناه في جبل الدّروز ولكنّه كان فخماً للغاية ولقد نمنا فيه تلك اللّيلة.
دخل حسين باشا إلى غرفة الإستقبال بعد لحظة من وصولنا، إنحنى لنا معيداً لكلّ واحد منّا: “أهلاً وسهلاً، شرّفْتم بيتنا”، كان رجلاً بديناً وقصيراً في منتصف العمر، ووجهه ينمّ عن قوّة عظيمة وكان يلبس على رأسه لباس أمير عربيّ: كوفِيَّة حريريّة بيضاء ثبّتتها في موضعها عقال مُزْدوج مذهّب، وعباءة سوداء مُطرّزة بالخيوط الذّهبيّة والفضية، وعلى كلّ حال اتّضح لنا في ما بعد أنّه قد ارتدى هذه الحُلّة الفاخرة كرامةً لنا ليس غير، إذْ إنّه لبس في الأيّام التّالية لباس العربيّ العاديّ وكان العبد الأسود الشابّ يقف على مقربة منه هو الأبهى على الدّوام.
خرجنا بعد غروب الشّمس وجلسنا على المصطبة الأكثر اعتدالاً، في حين كانت المصابيح والقناديل تُعَلّق، وما لبث أنْ أتى أولاد حسين باشا مُضطَرِبِيْن من الحَياء لاستقبال الضّيوف الغرباء، كان الإبن الأكبر ــ في السابع عشرة ــ مضفور الشعر، والابن الثاني صبيّاً في الثّانية عشرة شعره مُنْسَدل على كتفيه مثل شَعر غُلام الفارس في العصر الوسيط وكان لابساً ثياباً مُخملية حمراء، والثّالث في الخامسة، وكان يرتدي زِيَّ الجيش البَرِيطانيّ ، وقد فُصِّل على قَدِّه في القُدس، والرّابع كان طفلة في الثّانية أُحضرت للجلوس على ركبة حسين باشا قبل العشاء، وكانت مثل دُمْيَة، أو أميرة في حكاية من حكايات الجِنّ ثمّ إنّ عينيها كانتا مكحّلتين ووجهها مصبوغاً صبغاً دقيقاً، وفنّياً وشعرها مجدولاً مع قِطَع ذهبيّة، وجواهر لامعة، وأطراف أصابعها مُخَضّبة بحنّاء أكسبتها لون الفجر الورديّ وبالأصابع تلك كانت تشدّ شاربيّ والدها العاتي التي كانت تظهر تعلقاً شديداً به.

الأمير بين منظورين: فرنسي ــ إنكليزي
يتابع سيبروك روايته بهذه الكلمات: “وصف لي ضابط فرنسيّ في بيروت حسين الأطرش بأنّه قاطع طريق (لصٌّ فَظ)، أمّا تقدير الإنكليز له فكان مختلفاً، إذ إنّه ساعد في أواخر الحرب العالميّة على حشد ثلاثة أفواج من الخيّالة لدعم اللّنبي Allenby والحلفاء ضدّ الأتراك، وأصبح عقيداً في القوات المحلية التّابعة للجيش الإنكليزي، ونوّهت الرّسائل الإنكليزيّة الرسميّة بالشجاعة التي كان يتّصف بها.

الأمير على حقيقته
أمّا بالنّسبة لنا، فقد وجدنا “اللّص الفظّ” مُضِيفاً إنسانيّاً ورجلاً ساحراً. قدّم لنا العشاء على المصطبة عبدان أسودان كأنّهما قد خرجا من كتاب “ألف ليلة وليلة” بثوبيهما الواسعَين، وخِنْجرَيهما المُرصّعين بالجواهر، ولكن مع أنّهما شكّلا خلفيّة تاريخيّة ترجِع إلى عصر هارون الرّشيد، فإنّ الوجبة كانت “حديثة” حتى اللّمسة الأخيرة، كان على المائدة الطويلة غِطاء نظيف وكثير من الأواني الفضية وأكواب طويلة السّوق وخَزَف سيفر Sevres أمّا الشمبانيا فكانت كوردون روج Cordon rouge 1912.
ومن تأثير الشّمبانيا المُسْكر، أخذ حسين باشا يعيد مرّة بعد أُخرى بالإنكليزيّة والفرنسيّة معاً من أجل مساعدة كاتي على فهم حكاية مهذّبة كان قد حكاها بالعربيّة حول يهودي واثنتي عشرة بذرة بطيخ، قاطع الحكاية مؤقّتاً طبق حجل، وبما أنّ حسين باشا من أهل الدار، فقد قبض وهو شارد الذّهن أحد الطّيور بيد المُحارب القويّة، وقضم قطعة ملكيّة منه بكلّ لحمها وعظمها وغضاريفها.
لقد أحببته من تلك اللحظة، فبعد الإرتباك الذي انتابه، وفكّاه يمضغان تلك القضمة الكبيرة أخذ يبتسم معتذراً وقال: “ مُلتفتاً إلى كاثي: “أرجو ألّا تلوميني يا سيّدتي، لقد تعوّدت ذلك من طول مرافقتي للإنكليز الذين يأكلون الطّيور بالأيدي”.
إنّ الأيّام التي قضيناها في عَنز هي من أجمل ذكرياتنا عن بلاد العرب لقد أُتيحت لنا الفرصة خلالها أن نحتكّ أكثر بالحياة التي لم يطرأ عليها أيُّ تغيير في قرى الجبل النائية.

نموذجان من القضاء الدرزيّ
وفي عصر أحد الأيّام صَحبني حسين باشا إلى اللّجاة لأحضر محكمة قرويّة يُقام فيها العدل الدّرزيّ، جرى ذلك في مقعد شيخ القرية الذي كان هو نفسه القاضي، جلس معه شيوخ ووجهاء آخرون، والمدّعي الذي كان فلاّحاً مسيحيّاً من حوران وقف أمامه يندب حمولة أربعة جمال من الحبوب كانت قد سُلبت منه في اللّيلة السّابقة، سُمِح له بأن يقدّم شهوداً من الدّروز ليدعمَ أقواله، وبعد التّباحث، أصدر الشّيخ الكبير الحكم: “حتى لو لم يكن الذي سلبك قمحك دُرْزيّاً وحتى لو كان الجاني بَدويّاً أو أيّ رجل غريب آخر، فإنّ العيبَ يُنْسَب لنا، والمسؤوليّة تقع علينا، بما أنّك كنت ضيفاً في قريتنا. فمن مخازن القرية العامّة سيُعاد إليك قدر ما فقدت من الحبوب في الحال ونحن الآن نطلب منك رسميّاً أن تقبل اعتذارنا”.
وفي ما بعد حاول الشّيوخ أن يعثروا على اللّص، وكان واضحاً أنّ ذلك تفصيل لا أهمية له.
سألت حسين باشا عن العقوبات التي تُنزَل بالجناة في آخر الأمر.
قال: “ توجد في السّويداء سجون تخضع للقانون الفرنسيّ أمّا نحن فليس عندنا سجون، فإذا كان الجاني غريباً يُغَرّم ويُمْنع من الدّخول إلى جبل الدّروز مرّةً أُخرى، وإذا كان درزيّاً يُغَرّم أيضاً ويُعفى عنه إذا كان ذنبه بسيطاً، أمّا إذا كان الذّنب يتعلّق بالشّرف، فإنّ الخِزي والعار الدّائمين هما عقوبته الأشدّ.
قلت له: “ولكن هناك بالتأكيد جرائم لا يشكل العار عقوبة كافية عليها”.
فأجاب:”عقوبة ذلك هي الموت طبعاً”.
وفي طريق العودة روى لي هذه القصّة.
قال: “نحن الدّروز لانُحْسِنُ التّجارة. إنّ أكثرَنا لايُحْسِن إلّا القتال، ومن أجل بناء منازلنا نستقدم بنّائين من لبنان. منذ عامين قدم من الشّوير بنّاء مسيحيّ إلى قرية الشّيخ عامر ليبني منزلاً جديداً لأحد الأغنياء، أحضر هذا البنّاء معه زوجته الشابّة الجميلة التي لا تلبس الحجاب، شأن النّساء المسيحيّات جميعاً، ولمّا أوشك بناء المنزل أن ينتهي، ذهب شقيق الشّيخ عامر الأصغر ذات يوم إلى بيت البنّاء واعتدى على زوجته.
أخبرت المرأة زوجها في الحال فخاف الرّجل، وحزم أمتعته كلّها وحمّلها على حمارين، ورحل مع زوجته ليلاً. وفي صباح اليوم التّالي لحقه صاحب المنزل على حصانه، وسأله عمّا دعاه إلى الرّحيل قبل إنجاز العمل. ّفأجاب المسيحيّ: لقد خسرت شرفي، وإذا قلت لك السّبب خسرت حياتي أيضاً، والرّجل الذي أساء لي درزيّ يخشاه حتى الدّروز فما الذي في وسعي أنا المسيحيّ أن أفعله ردّاً على ذلك؟ فأرغم صاحب المنزل المسيحيَّ على إخباره بما حدث، ثمَّ عادا معاً إلى القرية.
مضى رأساً إلى الشّيخ عامر وقال: أنت وأنا والقرية خَسرنا شرفنا، ولا يمكن أن نستردّه إلاّ بسفك الدّم، وأعقب ذلك اجتماع كبير للزّعماء والمحاربين، وحضر الاجتماع الشّقيق المذنب نفسه، وكان شاكي السّلاح مثل الآخرين. وقف الفرسان مشكّلين حلقة كبيرة، في حين جلس في حلقة أصغر نحو أربعين شيخاً وزعيماً.، قدّم لهم القهوة خدم الشّيخ عامر الذي كان المُضيف، كان الاجتماع عُقِد خارج القرية.
وقف بعد ذلك الدّرزي الغني الذي لم يُنْجَز بناءُ منزله، وقال: “ يا شيخ عامر: افترض أنّك فقير، وقصدت قرية أنت وزوجتك للعمل بين الغرباء، وافترض أنّ رجلاً من القرية دخل، وأنت تعمل إلى مسكنك، واغتصب زوجتك!”.
هبّ الشيخ عامر واقفاً واستلّ سيفه بغية قتل المتكلّم ــ لا لأنّه ظنّ أنّ الأمر يخصّ شقيقه، بل لأنّ الإشارة إلى زوجته في سياق قبيح أغضبه، غير إنّ الشّيوخ الآخرين انقضّوا عليه، وأوقفوه، وقد فَهموا معنىً خَفِيّاً في كلمات صاحب المنزل.
إستأنف صاحب المنزل كلامه: “ اقتلني في ما بعد إذا شئت، ولكن أجب الآن على سؤالي: إذا وقعت هذه الكارثة، فما العقوبة التي يجب أن تنزل بالجاني؟”.
أجاب الشّيخ عامر: “ يجب أن يموت بلا ريب”.
ــ إفترض أنّ درزيّاً فعل فعلة مُماثلة؟
ــ يجب أن يموت حتّى لو كان إبني.
ــ هل تؤيّد هذا الحُكم؟
ــ أعيد: يجب أن يموت حتى لو كان من لحمي ودمي.

قلعة حسين باشا الأطرش كما شاهدها سبيروك في عشرينيات القرن الماضي
قلعة حسين باشا الأطرش كما شاهدها سبيروك في عشرينيات القرن الماضي

صاح المتكلّم : هل هذا هو حكم الجميع؟
فأجاب الشيوخ: أجل إنّه حُكْمُنا.
أُحْضِرَ المسيحيُّ وقد أُرتِج عليه من الخوف. فقال صاحب المنزل بعد أن روى الحكاية نيابة عنه: آمرُك أن تُشير إلى الفاعل”.
فأشار إليه البنّاء وهو يرتجف وانجلت الحقيقة. وبحسب التقاليد، فإنّ أسرة الجاني هي التي تُنزل به عقوبة الموت، لذلك قَتَل الشيخ عامر شقيقه هناك، وبذلك تحقّق العدل.

الأمير الحضاريّ
هذا الرّجل الذي روى لي هذه الحكاية الدّامية عن عدالتهم الفظّة، جلس بعد ساعة في بستانه، وعلى ركبتيه طفلان يتجاذبان عباءته، كان أحد العبيد قد تسلّق شجرة توت، وملأ بثمارها وعاء فِضياً، وكان حسين باشا يلقّم الطفلين قوتاً من ذلك الوعاء، كانت على إحدى ركبتيه ابنته الصغيرة، وعلى الأخرى طفل زنجيّ، هو ابن العبد.
لقد ملأ فَمَيهما المُتَلهّفَين من غير تمييز ومَسَح وجهيْهما المُلَطّخين بطرف ردائه.
ولمّا رجَعنا من البستان بعد غروب الشّمس، كانت الطّفلة نائمة على ذراعيّ كاثي، والطّفل الأسود جاثماً على كتف حسين باشا.

معركة الكفر

الإنتصارُ الذي أذلّ الفَرَنسيّين
وأشعلَ نيران الثّورة السّوريّة الكُبْرى

أرسل سلطان من ينصح الضابط نورمان بضرورة مغادرة الكفر
فاستهزأ قائلاً: اذهب وأبلغه أنني أنتظره هنا على أحرّ من الجمر

بدأ القتال بالسلاح الأبيض وقتل نورمان قائد الفرقة
وفي ساعتين قضي على الحملة الفرنسية عن آخرها

تُعتَبرُ معركة الكفر والإنتصار الحاسم الذي حقّقه الثّوّار على القوّات الفرنسيّة شرارة الثّورة السّوريّة الكبرى ونقطة التحوّل التي مكّنت سلطان باشا الأطرش من تعزيز قيادته وتعبئة الألوف من قوّات المجاهدين وفرض هيبة الثّورة على معظم قرى جبل العرب في تحدٍّ زعزع معنويّات السّلطات الفرنسيّة المُنتدبة.

إستفزازٌ فرنسيّ
كانت شرارة المواجهة في الكفر بين القوات الفرنسيّة وبين مجاهدي جبل العرب قد انطلقت عندما قامت السّلطة الفرنسيّة في 12 تموز 1925 بإلقاء القبض بأسلوب الغدر على ثلاثة من أصل خمسة من كبار زعماء آل الأطرش، كانوا موجودين في دار مفوّضيّة الجبل في حيّ القزّازين بدمشق، تلك الدار التي كان يشغلها ممثّلون من آل الأطرش منذ أيّام العثمانيين، وهم عبد الغفار ونسيب وحمد، وذلك بعد دعوتهم إلى دمشق بدعوى مفاوضات للنّظر في شكاوى مقدّمة ضدّ الحاكم العسكريّ الفرنسيّ لجبل الدّروز، الكابتن كاربييه، وكان بالمصادفة موجوداً عندهم ليلتها برجس الأطرش شيخ قرية المجيمر ويوسف الأطرش أخو متعب وعبد الكريم الأطرش. كان المندوب الفرنسيّ في دمشق، شوفلر، حريصاً على أن يبقى أمر الاعتقال سرّاً ليتمكّن من القبض على متعب وسلطان المعتصمين في الجبل، لكنّ الذين نفّذوا أمر الاعتقال في دمشق لم يعتقلوا حسن وكان حينها فتى صغير السنّ، فما كان منه إلاّ أن غيّر ملابسه ولبس ثياباً ملطّخة بالزّيوت لسائق سيّارة، وخادَعَ خادم الدار (راغب) الذي كان يقوم بدور جاسوس للفرنسيّين؛ إذ أخذه بسيّارته مسافة بعيدة عن المدينة وتركه ليعود وحيداً وهو يدرك أنّه سيصل إلى الجبل قبل أن يصل راغب ويخبر الفرنسيين بأنّ سرّ الاعتقال سيفتضح… تجاوز الفتى حسن المخافر على طريق سهل حوران إلى الجبل، بمهارة ووصل إلى قرية رساس في الجبل وأخبر الأمير متعب بالذي حصل.
كان متعب وسلطان قد رفضا الدّعوة إلى دمشق بعد أن توجّسا من نوايا الفرنسيّين، وما إن انتشر خبر اعتقال الزّعماء الأطارشة وكان فريق آخر قبلهم من قادة وشبان الدّروز رهن الاعتقال حتى بدأ سلطان حملة لتعبئة الرّجال في قرى الجبل للانضمام إلى الثورة. ومن الدّلائل البليغة على قِصَر نظر الفرنسيّين وغرور القوّة الذي كان يحكم تصرّفاتهم أنّهم أرادوا باعتقال زعماء آل الأطرش إجهاض أيّ احتمال لانتفاضةٍ على الحكم الفرنسيّ في الجبل، وهكذا كان اعتقال هؤلاء الزّعماء عمليّاً الشّرارة التي أشعلت نيران الثّورة.

النصب التذكاري للمعركة في مدينة الكفر1
النصب التذكاري للمعركة في مدينة الكفر1

فشل محاولة القبض على سلطان
يقول الأستاذ سلامة عبيد إنّ سلطان كان في سبيله مع فريق من الأهالي في يوم الرّابع عشر من تموز لمعايدة القومندان تومي مارتان رئيس قلم الاستخبارات المكلّف بمهمة الحاكم بالوكالة في دولة الجبل في السّويداء بمناسبة عيد الحرّيّة الفرنسي، وكان في نيّتهم طلب إطلاق الرّهائن من الشبّان المُعتقلين، لكنه في قرية رساس شعر بشيء من الرّيبة إزاء نوايا القائد الفرنسي، فأرسل ابن عمّه المقرّب منه صيّاح الأطرش إلى صديقه ورفيق جهاده علي عبيد في السّويداء يستشيره فنصحه بعدم الحضور، وأدرك الفرنسيّون أن علي عبيد أفشل خطّتهم فألقَوْا القبض عليه وساقوه مخفوراً في سيّارة شحن عسكريّة مع زعماء آخرين إلى المنفى في الحسكة. أمّا الزّعيم المسيحيّ عقلة القطامي فقد كان معتقلاً بأمر ساراي من قبل.. ومع افتضاح غدر الفرنسيّين باعتقال أولئك الزّعماء، غيّر سلطان ومن معه من الرّجال وجهتهم من السّويداء إلى المقرن القبلي وهم ينخّون ويَنتخون ويحثّون على الثورة مردّدين الحداء التالي:
حَــــــــــرايباً وِدْهــــــــا تصيـــــــــــــــــــــــــر ماهي على جــــال الخَفا
العام في بطــــــن الشِّعِيب واليــــــــوم عَ رُوْسِ الشَّــــــــــفا

ليلة المبيت في القريّا
سار سلطان بجماعته القلائل من رساس باتّجاه المقرن القبلي الذي كان أكثر استعداداً لتقبّل الثّورة، فمرّوا بالقريّا، وباتوا ليلتهم فيها، ليلة 17 تموز 1925. يقول سلطان في روايته لأحداث الثّورة وقد أدرك أنّ عواملها قد توفّرت “كان علينا أن نستمدّ قوة العزيمة والجرأة في إعلان الثورة من الله عزّ وجل، ومن شعبنا المؤمن الصّبور، كان شعورنا بمسؤولية ما نحن مقدمون عليه يتملّكنا ويأخذ بمجامع أفكارنا للسّببين التّاليين :
الأوّل: ما كان يدخل في تقديرنا من فارق كبير بين ثورات محلّية اعتاد آباؤنا أن يعلنوها ويخوضوا معاركها ضدّ سلطة أعجميّة متخلّفة تنتابها الفوضى ويستشري في كيانها الفساد، وبين ثورة وطنية نعلنها بوسائلنا القديمة ذاتها على دولة كبرى حديثة من أعظم دول أوروبا الاستعماريّة التي كانت تزهو بانتصاراتها السّاحقة على الجيوش الألمانية في الحرب العالميّة الأولى.
الثاني: بما أنّ تفكيرنا بالثّورة لم يكن محصوراً في نطاق الجبل، كما توهّم قصيرو النّظر وأصحاب الأقلام المغرضة والآراء الخاطئة، فقد كان من العيب جدّاً علينا أن نحقّق فكرة تعميمها ومدّ نشاطها إلى سائر أنحاء الوطن إلّا إذا نلنا في معاركها الأولى من هيبة السّلطة الفرنسيّة وأنزلنا بقوّاتها العسكريّة ضربة قاصمة تنتشر أخبارها في كلّ مكان”.

مشايخ عقل الموحّدين يؤيدون سلطان باشا
في ساعة متأخّرة من تلك الليلة 17 تموز، حضر وفد من رجال الدّين يتقدّمهم الشّيخ أبو هاني علي الحناوي من السّهوة والشّيخ سعيد الحجلي من عرمان، فَسُرّ سلطان بقدومهم غير المتوقّع وقد أبلغوه تأييدهم للثّورة المُزمع القيام بها، وتأييد الشّيخ أحمد الهجري في قنوات والشّيخ حسن جربوع في السّويداء، بعد أن أصرّت السلطة الفرنسيّة على عنادها في تطبيق الأساليب المذلّة في الحكم. وفي تلك الزّيارة نلمس عمق إيمان سلطان باشا الذي طلب من المشايخ ان يعظوه ويرشدوه في ما هو مقدم عليه من أمر جلل، فقال له الشيخ الحنّاوي: أمّا ما نعظك فيه ونرشدك فلا نزيد فيه على ما جاء في كتاب الله العزيز من آيات بيّنات تدخل الطمأنينة إلى قلوبنا وتهدينا سواء السبيل كقوله تعالى: }إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ{ (الحجرات: 15) وشدّد المشايخ الأفاضل على التعليم الصريح بهذا الصدد مرددين صفات الشجاعة وعدم الخوف التي يتحلى بها الموحِّد الديّان.
يقول سلطان باشا إن موقف مشايخ العقل “كان فصل الخطاب وكان به زادنا المعنويّ الذي لم ينضب له معين وسلاحنا الأقوى الذي خضنا به معارك الثورة”.

“مشايخ العقل زاروا سلطان باشا وأبلغوه تأييدهم للثّورة المُزمع القيام بها، وتأييد الشّيخ أحمد الهجري في قنــــوات والشّيـــخ حسن جربوع في السّــــويداء”

نبوءة زوجة
فجر اليوم التالي استيقظ سلطان على صهيل الخيل وحداء الفرسان وقد كانوا على علم مسبق بإعلان الثّورة. يقول سلطان: “وقد لفت نظري الحماسة الكبيرة التي كانت تبدو على أخي مصطفى في ذاك اليوم إذ إنّه بكّر على غير عادته وارتدى أجمل ما عنده من ثياب وتقلد سيفه وحمل بندقيته على ظهره وتمنطق بجناد ذخيرته وأخذ يجول وهو على صهوة جواده بين الفرسان، يحدّث هذا ويمازح ذاك ورائحة العطر تفوح من ظفائر شعره الأشقر المسترسل تحت كوفيته البيضاء وعقاله الأسود، وقبل خروجنا من ساحة الدار اقتربت منه زوجته وقالت له وهي تجهش بالبكاء “ألا تودع ابنك محمداً يا أبا مصطفى”.
وناولته إيّاه وهو لم يبلغ بعد شهره السادس ثم أسرعت نحوي وقالت: “وديعتك مصطفى يا سلطان قلبي يحدثني بأنّني لن أراه بعد الآن”.
فهدّأت من روعها وطلبت من نساء العائلة الحاضرات لوداعنا أن يأخذن بيدها ويدخلنها برفق إلى غرفتها. ولم أدر أن شعورها بالخوف عليه كان صادقاً وأننا سنفقده مع من سنفقد من مجاهدينا الأبرار في أوّل معركة ضارية تدور بيننا وبين المستعمرين الفرنسيين”.
في الثامنة صباحاً غادر سلطان القريا ومعه خمسة عشر فارساً هم: جاد الله شلهوب وداود طربيه ودرويش طربيه وسليم شقير وعبطان النّجم وعلي الملحم وغازي العبد الله وفارس الدّبس وفارس مفرّج وفرحان زيتونة وهاني أبو هدير ويوسف البلعوس وزيد ومصطفى شقيقا سلطان وأبناء عمه نواف وهايل، وبقي في القريّا أخوه علي وفرسان ورجال آخرون لإنهاء أعمال الموسم الزراعي واستطلاع تحرّكات الفرنسيين وتزويد الثوّار بتحرّكاتهم..
وصلوا بكّا حيث كان صياح الأطرش ينتظرهم وقد انضم للحملة من فرسان بكّا بهاء الدين ورشراش مراد وجدعان المعّاز ومن ثم تابعوا مسيرهم إلى أم الرمّان فباتوا ليلتهم فيها وانضم إليهم من رجالها نصّار ومحمّد ومحمود وحامد وحمّود البربور وحمد النّبواني وقد وعد الكثير من محاربيها بالانضمام إلى الثّورة بعد الانتهاء من أعمال الموسم الزّراعي، وإلى أم الرّمان انضمّ للثّوّار وفد من قرية حوط هم فرحان وعبد الله وحسن وحسين وحمّود العبد الله أمّا حمد البربور فقد كان لديه ما يشغله أيضاً ثم التحق بنا في صلخد إثر دخولنا إليها.

إستعراض قوّة في مَلَح
مرّ موكب الثوّار بالغاريّة ثم “عنز” فـ “المشقوق” فـ “صمّا البردان” فـ “متان” حيث أيّدهم فيها المجاهد يوسف العيسمي وشيخها الفتى علي الأطرش وهيّجوا أهل القرية فقاموا بعراضات حماسيّة في الساحة العامة وقد تمّ لقاؤهم مع الثّوار في اليوم التالي في عرمان. وانتقلوا بعدها إلى مَلَح، هناك لم يكن عدد الثوّار قد تجاوز الثلاثين فارساً وقد استقبلهم عند مدخل البلدة علي الملحم وخليل الباسط فأبلغوا سلطان أنّ سريّة من الحرس السيّار التابع للفرنسيين تعدادها نحو مائة خيّال موجودة في القرية فقام سلطان ومن معه بإرهاب القوة بعقد حلبة سباق في ميدان القرية وراح بعض الفرسان يتصايحون أثناء الطّراد ويطلقون الرصاص في الهواء وفي دقائق معدودة خرج رجال القرية ونساؤها لاستقبالهم وبيرق ملح يخفق بألوانه الزّاهية فوق حامله البطل شهاب غزالة، وفي بيت خليل الباسط في ملح بات سلطان وكتب رسائل عديدة لأعيان المقرن الشّرقي وشرح أحوال البلاد العامّة وبيّن أسباب القيام بالثّورة. وفي صبيحة 20 تمّوز انتقلوا إلى عرمان فاستقبلهم أهلُها في السّاحة العامّة بالأهازيج الحربيّة وقد أصبح عددهم نحو مائتين وخمسين فارساً، وهناك حلّقت فوق جمعهم طيّارتان للاستكشاف والإرهاب فأمطرهما الثوّار برصاص بنادقهم وأسقطوا واحدة منهما هبطت في قرية امتان واقتيد طيّاراها أسيرين بأمان إلى بيت الشيخ علي الأطرش، وقد ظلاّ في حمايته وضيافته إلى أن جرت مبادلتهما في ما بعد مع السلطات الفرنسية.
وفي عرمان، وقبل الزّحف إلى صلخد، حضر سليمان نصار وحمزة درويش ومعهما عدد كبير من فرسان المقرن الشرقي فكانوا في طليعة المجاهدين الذين لبّوا نداء الثّورة من تلك الجهات. ومن عرمان في اليوم نفسه، تابع الثوّار طريقهم إلى صلخد وكان استقبال أهاليها لهم مثيراً للنّخوة وقد تقدّم إبراهيم الشّعار أحد وجهاء المدينة وربط منديلاً أخرجه من جيبه في رقبة فرس سلطان إشارة منه إلى أنه يرغب في استضافته في بيته، ولم يلبث الثوّار أن استولَوْا على القلعة ودار الحكومة من دون مقاومة إذ إنّ أفراد السّلطة والموظّفين الكبار فيها فرّوا من المدينة عندما رأَوْا جموع الثوّار قادمين إليهم من جهة عرمان.
دخل الثوّار دار البعثة الفرنسية وأحرقوا محتوياتها وهي الدّار التي كانت تدار منها أعمال السخرة وإهانة وجهاء الدّروز أيام حكم كاربييه.

رسم توضيحي لمعركة الكفر
رسم توضيحي لمعركة الكفر

مقدّمات المعركة
فرض تحرير صلخد من قبل الثوّار تعديلاً على حركة القوّة الفرنسيّة التي كان يقودها نورمان باتجاه القريّا والمقرن القبلي فتوجّه شرقاً مارّاً بقريتي العفينة وحبران، ونزل عند الظّهر في البساتين الواقعة بجوار نبع عين موسى، ليقطع على الثوّار طريق السويداء، ومن ثمّ ضربَ خيامه على الهضبة الوعرة إلى الشّرق من عين العليقة وكان نورمان قد تفقّد الموقع وعمل على بناء متاريس وتحصينات حوله طوال الأيام السّابقة ليوم الواقعة.

سلطان يحذّر الفَرَنسيين
نزل الثوّار في خربة العيّن شمال غربي صلخد ببضعة كيلومترات، وفيها نبع غزير كان الهدف إقامة مخيّم كبير ينطلق منه المجاهدون بحسب ضرورات المواجهات المرتقبة، وكان سلطان باشا في اليوم السابق قد أوفد رسولين إلى الكفر هما قاسم الأطرش وعبد الله العبد الله بمهمة مقابلة قائد الحملة ونصحه بإخلاء الطّريق والانسحاب بجيشه قبل فوات الأوان وتسليمه كتاباً موجّهاً إلى السّلطة الفرنسيّة بالسّويداء يحمّلها مسؤولية عدم الاستجابة لمطالب الشّعب الحقّة واستمرارها على النّهج الاستبداديّ الموروث عن كاربييه، بالإضافة إلى السياسة الاستعماريّة التي انتهجتها المفوضيّة الفرنسيّة في بيروت بتقسيم البلاد إلى دويلات مجزّأة محكومة حكماً عسكريّاً مباشراً قائماً على الظلم والإرهاب وإثارة الأحقاد الدّينية والطائفيّة.

نورمان يرفض النصيحة
وصل الرسولان إلى أسعد مرشد شيخ القرية، فارتأى أن يقوم هو نفسه بالمهمّة فاصطحب بعض وجهاء الكفر إلى معسكر نورمان، ولما أذن لهم بالدخول إلى معسكره وجدوه منبطحاً في خيمته ومعه بعض ضبّاط الحملة وترجمانه السّوري يوسف صايغ، ولما سلّموه رسالة سلطان الخطّيّة ونُصْحه له بمغادرة المكان، أجابهم بتهكّم واستخفاف: “سألقي القبض على سلطان وأعوانه وأعيد الأمن إلى نصابه في سائر أنحاء الجبل خلال بضعة أيّام”، حاول أسعد مرشد أن يكرر نُصحه للقائد الفرنسيّ بقوله: “إنني أنصحك يا حضرة القائد بصدق وأمانة بأن تغادر المكان قبل وصول سلطان لأنّ قوتك هذه لا تستطيع أن تصمد طويلاً في وجه الثوّار”.
ثارت ثائرة الضّابط وقال: “ألا تعلم أنّ عندنا من السلاح والذخيرة هنا ما نحارب به الدروز ثلاثة أشهر؟! من هم هؤلاء العصاة الذين تخوّفنا بهم؟! ــ وأشار إلى مترجمه ــ إن الملازم يوسف صايغ هذا يستطيع أنْ يسوق الدّروز بعصاه من الصورة الكبيرة شمالاً إلى العانات جنوباً” ثمّ التفت إلى أعضاء الوفد وقال لهم”اذهبوا إلى سلطان وقولوا له: إنّني بانتظاره على أحرّ من الجمر في هذا المكان”.
رجع رسولا سلطان باشا وأبلغاه جواب نورمان، فغضب الثوّار لسوء جوابه، وفي تلك اللّحظات وصل بيرق ملح قادماً من الشّرق، فلم يتريّث حامله شهاب غزالة لدى سماعه بجواب نورمان، فمضى مندفعاً باتّجاه الكفر وانطلقت بيارق القرى من خلفه، وترك الجميع موقعهم في العيّن هائجين تتقدمهم بيارقهم الخفاقة، كان عددهم دون الخمسمائة مقاتل أكثرهم لا يحمل من السلاح سوى السّيوف والمُدى والبلطات أمّا البنادق فكان أحدثها من النوع الإنكليزي والألماني الطويل والقصير العثماني بأنواعه. كان حَمَلَةُ البيارق ومن خلفهم الفرسان والمشاة يتقدّمون في زحف سريع يتنافسون على نَيل شرَف السّبق إلى ميدان المعركة.

المدفع الذي غنمه المجاهدون من الفرنسيين -مع ما غنموا- في معركة الكفر
المدفع الذي غنمه المجاهدون من الفرنسيين -مع ما غنموا- في معركة الكفر

بَدْو الجبل يقاتلون فَرَنسا إلى جانب الدّروز
شارك في معركة الكفر فرسان من بدو الجبل من عشيرة الشّنابلة وعودة السّرور شيخ عشيرة المساعيد وكاين القنيص ــ وهو شريك سلطان في تربية أغنامه ومواشيه ــ وكان القنيص صديقاً وفيّاً لسلطان باشا وللدّروز، وهو من كان له الفضل في اشتراك شيخ المساعيد بتأييد الثوّار، إذ قال له: “أنصحك أن تحارب مع الدّروز فهذه الثّورة هي أوّلاً ضدّ أجنبي وثانياً أنت ترى أن الذين قاموا بها هم الطّرشان وأنت ترى نفسك معزوزاً مُحترماً منهم فاستحسن عودة السّرور هذا الرّأي واشترك في المعركة وأعلن أنّ البدو هم أيضاً مع الدّروز ضدّ الأجنبيّ” .

المعركة
في صبيحة 21 تموز 1925 قامت طائرة يقودها الكابتن (دي بويسون) بإستطلاع طريق (السويداء – الكفر – صلخد) فلم يلحظ ما يثير الريبة في نفسه، ما جعل نورمان يتجه إلى الكفر ظهر ذلك اليوم ويتمركز حول نبعها عند هضبة صخرية، وقد فصل المشاة عن الخيالة فسهل على الثوار القضاء على كل فئة منفردة على التوالي. وكان المجاهدون في حماس بالغ لأن يوم الكفر كان يصادف الذكرى الثالثة لثورة سلطان الأولى على الفرنسيين.
قبل أن يبدأ سلطان الهجوم أرسل لنورمان كتاباً يستنكر فيه عملية الغدر التي قامت بها السلطة الفرنسية بإعتقال الزعماء ونفيهم إلى الحسكة وتدمر وطلب المفاوضة، لكن نورمان رفض بسبب اعتداده بقوته وانه قدم لإخماد فتنة الدروز. وبعد انسحاب المجندين الدروز العشرة من جيش الحملة الفرنسية بدأت المعركة ظهراً حسب الخطة التي وضعها سلطان باشا فاستولى الثوار على رشاشين كانا يحميان زوايا المخيم الفرنسي وحالت سرعة هجوم الثوار وهول المفاجأة بين الفرنسيين وأسلحتهم، وبدأ القتال بالسلاح الأبيض حيث تمكنوا من قتل نورمان قائد الحملة والكابتن (هلم جيزون)، ودامت المعركة ساعتين قضى الثوار فيها على الحملة كلها تقريباً، بينما كانت خسائر المهاجمين أربع وخمسين شهيداً من بينهم شقيق سلطان الأطرش (مصطفى الأطرش) و(إسماعيل الأطرش).
يذكر سلامي عبيد في كتابه “الثورة السورية الكبرى” (ص 125) أن الحملة الفرنسية كانت تتألف من 300 جندي وثلاثين خيالاَ مسلحين بالرشاشات، وقد قتل أغلب أفراد الحملة وضباطها. ويذكر الجنرال أندريا في مذكراته أنه لم ينج من معركة الكفر من الجنود الفرنسيين إلا خمسة.
غنم الثوار في هذه المعركة جميع الأسلحة والذخيرة الفرنسية التي استخدموها في المعارك التالية كما غنموا الخيول والمؤونة، إلا إن أبرز النتائج هي عودة الثقة إلى نفوس المواطنين في قدرتهم على المقاومة كما كانوا في العصر العثماني، وجعلت من الثورة أمراً واقعاً بيد الثوار أمر المبادرة وسرعة الانقضاض، حتى إن حامل راية قرية ملح وهو الشاب (شهاب غزالة) قد غرس سارية البيرق في ظهر رامي الرشاش الفرنسي فصرعه ولكنه استشهد في نفس المعركة، ودخل غزالة سجل الثورة السورية كأحد أول وأشجع أبطالها وله نصب بارز في مدينة الكفر التي كانت ساحة استشهاده.

aسلطان باشا الأطرش قائد معركة الكفر ومطلق شرارة الثورة السورية على الاحتلال الفرنسي
aسلطان باشا الأطرش قائد معركة الكفر ومطلق شرارة الثورة السورية على الاحتلال الفرنسي

خطة سلطان
قام سلطان بتقسيم المجاهدين إلى فرقتين، الأولى من المشاة وعليها أن تجتاز طريقاً وعرة عبر كروم القرية لتقوم بحركة التفاف على معسكر العدوّ من جهة الشرق، والثّانية يتألّف معظمها من الفرسان وقد اندفعت بسرعة نحو مواقع العدو لتصعد إليه مواجهة من الجهة الغربيّة في جبهة ضيّقة فرضتها على القيادة طبيعة الأرض الجبليّة يبلغ عرضها نحو مائتيّ متر وما هي سوى دقائق معدودة حتى أصبح العدوّ مطوّقاً من كلّ جانب.
يقول سلطان واصفاً مشاهد المعركة “رأيت شيوخاً وفتياناً يقتحمون المراكز الدّفاعية الحصينة أو يخترقونها هبوطاً من الجهات المرتفعة لا يحملون بأيديهم سوى عِصيّ السّنديان الثّخينة أو الأسلحة البيضاء المتنوّعة التي كان يشاهد لبعضها بريق خاطف عندما تنعكس عليه أشعّة الشمس الوهّاجة، وسمعت بأذني نخوات مقاتلينا وصيحاتهم المرعبة بعد أن توسّطوا المعسكر الفرنسيّ ثم لم أسمع بعد قليل سوى صرخات ألم متتالية تنبعث من أولئك الجنود التّعساء الذين مالت على رقابهم السّيوف الباترة وهوت على رؤوسهم وأجسادهم الفؤوس القاطعة ولم يكن ضبّاط الحملة وجهاز القيادة أسعد حظّاً وإنّما لقَوْا المصير نفسه وكتبت النّجاة لأفراد قلائل تمكّنوا من الوصول إلى قلعة السّويداء بكل صعوبة”.

نتائج النصر
أحيا نصر الكفر المؤزر الثّقة في نفوس الثوّار واكتسب العُزّل منهم أسلحة حديثة وذخائر ثمينة ليخوضوا بها معارك مُقبلة وانضمّت أكثريّة من المتردّدين إلى صفوف الثّورة.
كانت خسائر الثوّار في تلك المعركة جسيمة في أول معارك الثورة على الفرنسيين، ولكنّ الانتصار السّاحق كان له أثر فوري في استقطاب المجاهدين والمتطوعين وهو فرض على سلطان والثوّار بالتالي الانتقال إلى المرحلة التالية من الثورة، إذ إنه كان قد سدد طعنة كبيرة للوحش الفرنسي ولم يعد في إمكانه بالتالي التوقّف. لقد اشتعلت الثورة وأصبح على جميع الأطراف التعامل مع الواقع الجديد وترقب تبعاته والتعامل معها.
سلطان يجند الجبل
من قنوات عمل سلطان على استثمار نصر الكفر السّاحق فراح يكاتب القرى ويشرح المبادئ الأساسيّة التي قامت عليها الثّورة وكانت الأجوبة التي ترد إليه من شيوخ القرى وأعيانها تنطوي على التّأييد المطلق والوعود القاطعة بإرسال النّجدات السريعة.
وفي قنوات أخذت وفود من الجبل ونواحيه تأتي إلى سلطان للتّعزية باستشهاد أخيه مصطفى وإعلان الولاء للثّورة وقد أجابهم “مصطفى راح في يومه فداء للوطن، وإنّني لم آسف على فراقه أكثر ممّا أسفت على فراق الشّهداء الآخرين الذين ضحّوْا بأنفسهم في سبيل حرّية بلادهم واستقلالها، واعلَموا أنّنا سنفقد الكثير من أبنائنا وأخواننا في معارك قادمة لنتخلّص نهائياً من ظلم الأجنبي واحتلاله لبلادنا”.
وقد عزّز انتصار سلطان باشا والثوّار في الكفر من شعبيّته في الجبل فبدأ الرّجال بالانضمام إلى الثّورة بحيث تمكّن في غضون أسبوع من استقطاب ألوف المتطوّعين من جميع قرى المنطقة وتحوّلت فرقته الصّغيرة إلى قوّة ضخمة تضمّ ما يتراوح ما بين ثمانية آلاف وعشرة آلاف مقاتل سيطروا على كافّة مناطق جبل الدروز، وكانوا في ما بعد النواة التي ألهبت نيران الثورة السوريّة الكبرى على المحتل الفرنسي في سوريا ولبنان.

فَضْلُ الله باشا

فَضْلُ الله باشا هنيدي

شهيــــــد جهــــاد حرفتــــه البطولــــة

«كــان من بني معروف الأشـــــاوس، باسلاً في وثباته، عظيماً في حــملاته»
(محي الدين السفرجلاني)

إحتل المجاهد فضل الله باشا هنيدي موقعاً في الثورة السورية الكبرى جعل منه أحد أبرز أركانها وأمضاهم جهاداً وأشدّهم في المواجهة مع القوات الفرنسية التي لفرط كرهها له سارعت بعد إصابته بقليل برمي المناشير من الطائرات لتعلن لثوار الجبل عن وفاته ولم يكن قد توفي بعد وذلك على أمل أن يؤدي خبر استشهاد هذا البطل إلى زعزعة معنويات الثوار وإضعاف إرادتهم في القتال. فمن هو هذا المجاهد الكبير وما هو الدور الذي لعبه في الثورة السورية الكبرى؟

يعتبر آل هنيدي (هُنَيديّ) من الرّواد الأوائل الذين سكنوا جبل حوران قبيل عام 1685، وذلك استناداً إلى ما يشير إليه صاحب الأصول والأنساب يحيى حسين عمّار، وهو يشير أيضاً إلى أنّهم يعودون بأصولهم مع أبناء عمومتهم آل المصري إلى آل خير الدّين القحطانيّين من عرب اليمن.
ويتّفق صاحب الأصول والأنساب مع الرّحالة حنّا أبو راشد الذي زار الجبل في فترة الإعداد للثّورة السوريّة الكُبرى ووثّق تاريخ الكثير من عائلات الجبل في كتابه “جبل الدروز” على أنّ آل هنيدي يعودون في أصلهم إلى بلدة صليما المتن من أعمال جبل لبنان، وأنّ أصلهم من عائلة المصري المعروفة فيها حتى الآن، وكُنية هنيدي تعود إلى لقبٍ رجوليّ ــ فُرُوسيّ، حمله جدّ الأسرة هَزيمة بن اسماعيل المصريّ وكان” يعدّ من الأبطال المشهورين، إذ كان يحمل سيفاً ثقيلاً فاشتُهر بصاحب المُهنّد، وغلب اللّقب على الأصل ثم تحوّر المهنّد إلى هنيدي، وعُرف بـ :”هزيمة الهُنيَدي”.
وفضل الله باشا موضوع بحثنا هو أحد أحفاد هزيمة المذكور وُلِدَ في قرية مَجْدل الهنيدات في المقرن الغربيّ من الجبل عام 1876، وفيها تعلّم القراءة والكتابة ثم درس في الآستانة. عاش فضل الله هنيدي مُعظَم سِنيِّ عمره في العهد العثمانيّ، إذ كانت دراسته في الآستانة ، ثم أنه عاش مرحلة أفول السلطنة العثمانية وصعود النزعة الطورانية المتعصِّبة للزمرة العسكرية الماسونية التي استولت على السلطة بانقلاب عسكري كان من نتائجه خلع السّلطان عبد الحميد الثاني.
نتيجة لتلك التطورات، إنضم هنيدي مع العديد من الشباب إلى التيّار الإصلاحي فانتسب إلى جمعيّة “العربيّة الفتاة”، وكانت هذه تعمل بادئ الأمر من أجل حقوق العرب في إطار الدّولة العثمانيّة، ثمّ انتقلت إلى العمل على استقلال العرب عن تركيا بعد أن اتّضحت نوايا جماعة الاتّحاد والتّرقّي المعادية للشّعوب غير التّركيّة، وتأثر هنيدي الشاب بقوة بالحملة العثمانيّة الظّالمة على جبل الدروز بقيادة الجنرال سامي باشا الفاروقي عام 1910 والتي عاثت دماراً وقتلاً في سكان الجبل، وكان من الأسباب المباشرة لتلك الحملة إقدام الدّروز على الثّأر من أهالي قريتيّ غصم ومعرّبة لقتلهم ثلاثة من التجار الدّروز العابرين كانوا ضيوفاً لديهم، ويذكر سلطان باشا الأطرش في كتابه (أحداث الثّورة السورية الكبرى)،”أنّ العثمانييّن كانوا يروّجون في أوساط مواطنينا (يقصد الجوار الحوراني والدّمشقي والبدو) دعاياتهم الكاذبة المُغرضة ويستفزّونهم ضِدّنا بالتّهم الباطلة التي كانوا

فضل-الله-هنيدي-١
فضل-الله-هنيدي

يوجّهونها إلينا كالكُفر والإلحاد والزّندقة والتمرّد على الخلافة، وذلك بواسطة الفتاوى الصّادرة عن بعض المشايخ المأجورين في الحواضر الكبرى التي تُبيح لهم قتلنا وتدمير قُرانا وحرق بيوتنا ونهب أرزاقنا ومواشينا، فذلك ما حصل بالفعل أثناء حملات عديدة جُرِّدت علينا، وعلى أبناء طائفتنا بلبنان في أزمنة سابقة”.

مجاهداً في الثّورة العربية
لعب المجاهد فضل الله هنيدي دوراً مهماً في الثّورة العربيّة، إذ كانت دارته في قريته “المجدل” مَقصداً لأعضاء الحركة الاستقلالية عن تركيا، وممّن قَدِموا إليها من وجهاء دمشق محمّد وجميل وعبد القادر الجزائري، وعمر وسعيد أحفاد الأمير عبد القادر الجزائري، وشارك هنيدي في اجتماع مهم عُقِد في منطقة الكراع وهي منطقة وعرة شرقي الجبل وبعيدة عن أنظار الرّقيب التركي ودَعا إليه سلطان باشا الذي اختير في ذلك الاجتماع قائداً عاماً لثوّار الجبل، بينما اختير فضل الله هنيدي قائداً للمنطقة الشّماليّة والغربيّة وحسين الأطرش قائداً للمنطقة الجنوبيّة.
عند نشوب الثّورة العربيّة الكُبرى التي قادها الشّريف حسين بن علي سنة 1916، كان فضل الله هنيدي في الطّليعة من فرسان الجبل الذين توجّهوا لملاقاة القوّات العربيّة الثّائرة في مدينة العقبة جنوب الأردنّ تمهيداً لدخولها إلى سوريا وتحرير دمشق، وهكذا ففي الثّلاثين من أيلول 1918 كان الرّجل في مُقَدَّمة فرسان الجبل الذين دخلوا دمشق بقيادة سلطان باشا الأطرش قبل دخول الجيش العربيّ الذي يقوده فيصل بن الحسين، وقبل دخول الجيش البريطانيّ الذي يقوده الجنرال البريطانيّ، اللّنبي.

موقعة دامية مع العثمانيين
يذكر حنّا أبو راشد في “حوران الدّامية” (ص 137ــ 138) إلى أنّ فضل الله هنيدي ونسيب بك نصار ومتعب بك الأطرش ورجالهم من الدّروز اشتبكوا عند وصولهم قرب قرية الدّير علي التي تبعد عن دمشق مسافة ثلاث ساعات “في موقعة دمويّة” قُتِل فيها عدد كبير من الأتراك، وقد غَنِم فيها المجاهدون بقيادة سلطان باشا 21 مدفعاً مع ذخائر حربيّة كثيرة، وساقوا الأسرى أمامهم، ودخلوا بعدها دمشق ظافرين في 29 أيلول 1918، وبعد انفتاح أبواب دمشق ودخول الأمير فيصل إليها “نال كلّ من الزّعماء الآتية أسماؤهم لقب البَاشويّة وهم: سلطان باشا الأطرش وحسين باشا الأطرش، وفضل الله باشا هنيدي وأمّا عبد الغفّار باشا الأطرش ونجم باشا عزّ الدين وعبد المجيد باشا عزّ الدّين الحلبي وطلال باشا عامر، فنالوها قبلاً من جمال باشا، ونالها أخيراً متعب بك الأطرش من السّلطان (الشّريف) حسين سنة 1924، ولكنّه لم يعلنها “اجتناباً من جواسيس الحاكم الفرنسي كاربييه”.

طرائف الحرب

في معرِض حديثه عن الخطط والخِدع الحربيّة التي كان الدّروز يتّبعونها في مصادماتهم مع الفرنسيّين بهدف الإيقاع بقطار كان ينقل القوّات والعتاد والمؤن من دمشق إلى مواقع القوّات الفرنسية في سهل حوران، يورد مؤرّخ الثّورة حنّا أبي راشد هذه الحادثة فيقول: “إنقسم الدّروز في أوائل تشرين الأوّل 1925 إلى فِرقتين، فرقة مشت في جانب القطار الذي ينقل الجيش من دمشق إلى أزرع، وبعد أنْ وصل القطار إلى قرب الفِرقة الثّانية المرابطة في جهة أزرع وقف القطار بسبب الأحجار المتراكمة على الخط الحديديّ فرجع حالاً إلى الوراء خوفاً من الكمين الذي تأكّد وجوده! ولكنّه لم يرجع ثلاثة كيلومترات حتى اصطدم بأحجار ثانية على الخط، أي بعد مرور القطار، كانت الفرقة الثّانية قد نفّذت خطّتها، وتلك اللّعبة الشّيطانيّة قد ربّحت الدّروز جميع الذّخائر الموجودة في القطار، وبهذه المناسبة قال حمزة الدّرويش متسائلاً: “الذي يقوم بهذه الخطط الحربيّة هل يكون جاهلاً كما ادّعى كاربييه بأنّه جاء إلى الجبل ليهذّبنا؟ احكموا يا قوم، ألا يحقّ لنا أن نعيش أحراراً في عقر دارنا ومسقط رأسنا!”..
ولم يُنهِ كلامه حتّى قال فضل الله باشا هنيدي: “والدّهر دولاب، فيوم لك ويوم عليك، فاليوم الذي كان لكاربييه كان فيه مُهَذِّباً لنا طبعاً، أمّا اليوم فأظنّ بأنّنا نحن نُهذّبه بقوّة ساعدنا ومواضي سيوفنا”. فضحك سلطان باشا وقال: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما للنّار للنّار”.

في مواجهة الفرنسيين
كان فضل الله باشا هنيدي يدرك أهمّية العمل السّياسيّ قبل الإقدام على العمل الحربيّ، ومن هنا فقد “اقترح على سلطان باشا زِيارة الجنرال غورو على رأس وفد يمثل جبل الدّروز”لمعرفة مرامي السّياسة الفرنسيّة تجاه سوريّة، وذلك في عام 1919 قبل نشوب الثّورة بعدّة سنوات، ولكن غورو الذي قَدِم إلى الشّرق بعقليّة ملوّثة بالإرث الصّليبّي، صرحّ للوفد بكثير من العنجهية بأنّ “سورية هي من نصيب الفرنسييّن!!”.
على أثر ذلك حسم فضل الله هنيدي أمره بضرورة مقاومة الإحتلال الفرنسي، في ذلك الحين كان هذا المجاهد عضواً في المجلس الإسلاميّ الفلسطينيّ وعضواً في المؤتمر السّوريّ الفلسطينيّ، كما تسلّم منصباً كبيراً في إدارة العدليّة بدمشق.
وعندما تناقلت الأنباء توجّه جيش غورو نحو دمشق، دعا سلطان باشا إلى اجتماع في القريّا، وتوجّه على أثر ذلك نحو ثلاثة آلاف من الفرسان والمشاة إلى دمشق، وعند وصول الثوّار إلى قرية المزرعة بلغهم نبأ دخول الجيش الفرنسيّ العاصمة، وكان فضل الله هنيدي حينها على رأس خيّالة المقرن الغربيّ من الجبل، وذُكر حينها أنّ طلائع من أولئك الثوّار وصلت إلى بصر الحّرير في سبيلها نحو العاصمة دمشق.
وفي عام 1921 اختير عضواً في أوّل مجلس نيابيّ في دولة جبل الدروز وأمّا في نيسان 1925 فقد كان أحد أعضاء وفد الجبل الذي تشكّل برئاسة الأمير حمد الأطرش للمطالبة بتغيير كاربييه؛ الحاكم الفرنسيّ المستبدّ لدولة جبل الدّروز، وكانت المواجهة بين أعضاء ذلك الوفد وبين المندوب الساميّ الفرنسيّ على سورية ولبنان ساراي حادّة، إذ طالبوه بأنّه يتوجّب على فرنسا أن تحترم تعهّداتها للدّروز التي نصّت على أن يكون الحاكم من أبناء الجبل، لا فرنسيّاً، فأجابهم ساراي بأن تلك المعاهدة حبر على ورق، وهو لا يعترف بها، وأنذرهم بمغادرة دمشق أو يُنفَوْن، ولكنّه أمر بنفي رفيقهم الزّعيم الوطنيّ المسيحيّ عقلة القطامي إلى تدمر لاعتراضه على تنصّله (أي: ساراي) من تنفيذ الاتفاق المعقود سابقاً مع ممثّلين من مواطنيه الدّروز، إذ كان ساراي يرى أن واجب القطامي بإعتباره مسيحياً تأييد الفرنسيّين وليس أخذ جانب مع مواطنيه الدروز.
وقبيل نشوب الثّورة التي كان سلطان باشا يمهّد لها بتصفية الخلافات العائليّة والعشائريّة في الجبل، تشكّلت خمس لجان لهذا الغرض في مقارن الجبل، وكان فضل الله هنيدي بحكم مركزه الاجتماعي المرموق رئيساً للجنة الأولى. وقال في كاربييه قولة فصل في حاكم ظالم: “أنا أرغب السّلام ولكنّني لا أرغب الظّالم ولا أعلم ما هو سبب تمسّك الجنرال ساراي بأثواب كاربييه، مع أنّ الجبل بمن فيه طلب إبدال حاكم فرنسيّ ظالم بحاكم فرنسيّ عادل .. كان الأولى بالحكومة الإفرنسيّة أن تسمع صوتنا وتعمل بإرادتنا”.
وفي حزيران عام 1925، كان فضل الله هنيدي من ضمن وفد يمثّل وطنيّي الجبل إلى دمشق ضمّ نسيب ومتعب وصيّاح الأطرش ونجم وسعيد وفواز عز الدين وأسعد مرشد ويوسف العيسمي عقدوا اجتماعين سِرِّيّين في منزل عبد الرّحمن الشّهبندر، وتمّ الاتّفاق مع ممثليّ الحركة الوطنيّة في العاصمة على حشد القوى لمدّ يد العون ودعم الثّورة المنشودة. وفي ما بعد قَدِم وفد دمشقيّ من كلّ من أسعد البكري وتوفيق الحلبي وزكي الدّروبي إلى دارة فضل الله هنيدي في المجدل لتنسيق المساعي الوطنيّة ومجابهة المحتلّ.
ومن موقعه في المجلس النيابي آنذاك، كان فضل الله هنيدي على رأس الفريق المعارض لعودة كاربييه لحكم الجبل، ولئن فاتته المشاركة في معركة الكفر؛ إلاّ أنّه كان في طليعة الثوّار الذين تصدَّوْا لحملة الجنرال ميشو منذ عبورها قرية بصر الحرير الحورانيّة باتجاه الجبل، في 31 تموز، إذ كان على رأس المجاهدين الذين تعقّبوا مؤخّرة إمدادات وتموين الجيش الفرنسيّ، واستولَوْا عليها، وقد مثّلت تلك العمليّة الجريئة البادِرة الأولى في النّصر المؤزّر الذي تحقّق على جيش ميشو في معركة المزرعة في 2 و3 آب 1925، كما كان الرجل في طليعة فرسان الدّروز الذين هاجموا موقع نصبه الفرنسيّون في تلّ الخروف قبل نصر المزرعة بيوم واحد، وقد خسر الثوّار في ذلك اليوم نحو ثلاثين شهيداً من ألمع فرسانهم، وكان من بينهم حمد البربور رفيق سلطان باشا وساعده الأيمن في الثّورات السّابقة، غير إنّ فضل الله هنيدي كان واحداً من بين النّاجين القلّة في ذلك الهجوم الخاسر، لكنه في اليومين التّاليين كان ممن قاموا بأعمال بطولية خارقة في معركة المزرعة، وأصيب يومها بإصابة بالغة، وقد أشاد سلطان باشا ببطولته تلك في مذكّراته.
وفي 15 آب وعلى أثر اجتماع في قرية المجيمر اختير عضواً في لجنة مؤلّفة من سليمان عبدي الأطرش، وهايل عامر ومحمد باشا عز الدّين الحلبي وسليمان نصّار بهدف دراسة الشروط التي قدّمها الفرنسيّون بإسم الجنرال ساراي.

في هذه المواقع الوعرة من اللجاة دارت الحرب بين المجاهدين والفرنسيين
في هذه المواقع الوعرة من اللجاة دارت الحرب بين المجاهدين والفرنسيين

الحملة على دمشق
وبعد الهزيمة المدوّية للفرنسيين في معركتي الكفر والمزرعة شارك فضل الله هنيدي في محاولة لم يكتب لها النجاح لتحرير دمشق على يد مجاهدي الدّروز ومن شاركهم من مجاهدين من العشائر البدويّة في الجبل والأردن، وذلك بسبب فعالية سلاحي المدفعية والطيران الفرنسيين، وقد تجاوز عديد الحملة ثلاثمائة خيال وسبعمائة من الهجانة والمشاة، لكن المقاتلين الدّمشقيّين لم يظهروا -كما وعدوا- لملاقاة الثوّار ومشاركتهم في مواجهة القوات الفرنسية. وقد علّق سلطان باشا على نتيجتها بقوله: “وبذلك حقّق الفرنسيّون نصرهم الأوّل علينا في معارك الثّورة وأدّى فشل هذه الحملة إلى دفع الوطنيين في دمشق وغيرها من المدن السوريّة إلى الالتحاق بالثّورة في الجبل حيث ساهموا في صفوفها كلٌّ حسب طاقته وخبرته”.

عضواً في مجلس أركان الثورة
على أثر فشل حملة دمشق قَدِم ممثّلون عن الحركة الوطنيّة فيها وعقد مؤتمر ريمة الفخور، الذي اهتم المشاركون فيه (بمن فيهم ممثلو الحركة الوطنية الدمشقية) بوضع قواعد عامّة للتّعاون والتآزر بين جميع العناصر الوطنيّة في سورية ولبنان، لتقوية دعائم الثورة وتوسيع نطاقها، وإيجاد الوسائل الكفيلة بتمويلها وتأمين السلاح لها، كما رسمت الخطوط الرئيسية لنظام جهازها القيادي وشؤونها الإداريّة والسياسيّة والعسكريّة، وأنهى المؤتمر أعماله بإعلان قرارات مهمّة منها: متابعة الثّورة حتى تنال البلاد استقلالها التّام، وتسمية سلطان باشا الأطرش قائداً عامّاً للثّورة، وتولية الدّكتور عبد الرّحمن شهبندر إدارة الشّؤون السّياسيّة للثورة، وتسميته ناطقاً رسميّاً لها، وتشكيل أركان قيادة للثّورة من قادة الرّأي وذوي الشّجاعة في القتال من بني معروف ومن بينهم فضل الله هنيدي1، وفي مجريات التّمهيد لمعركة المسيفرة قاد هنيدي قوّة استطلاع عبر قرى صمّا الهنيدات وقرية علما وخربة غزالة الحورانيّـتين واشتبكت قوّته مع مخافر ودوريّات معادية مكلّفة بحماية خطوط تحرّك ومواقع الفرنسيّين. وفي يوم 17 أيلول كان وبحكم موقعه القياديّ من المشاركين في معركة المسيفرة الأسطورية وقد أصيب فيها2.
واستمرّ هنيدي يقاتل بعد شفائه من الإصابة قائداً في طليعة الفرسان المجاهدين الذين تصدّوا لزحف جيش الجنرال غاملان في محاولة لاحتلال السّويداء ثم في معارك قُرى المجيمر وعرى ورساس وكناكر والثّعلة وتلّ الحديد والمزرعة، وقد انتهت هذه السلسلة من المعارك بصد القوّات الفرنسيّة ونكوصها من دون تحقيق أهدافها في السيطرة على السويداء، وفي معركة تل الحديد أصيب المجاهد فضل الله هنيدي، وقد أشاد سلطان باشا به لبسالته في معركة رساس.
كان الباشا هنيدي ماثلاً دوماً في الثّورة، إنْ في الحضور الاجتماعي ــ السّياسيّ، أو في الميدان الحربيّ القتالي، ففي عام 1926 انتُخب عضواً في المجلس الوطنيّ، في اللّجنة الممثلة لقريته المجدل، كما عُهد إليه بقيادة المنطقة الغربيّة من الجبل وذلك بحكم وقوع قريته “المجدل” في تلك المنطقة وبالتالي خبرته الطويلة بها. وفي أوائل نيسان من عام 1926 كان من بين قادة الثّورة الذين قاتلوا في موقعة بقع جمرة وهم سلطان باشا والأمير عادل أرسلان، وصياح الأطرش وعلي عبيد ومحمود كيوان وسواهم، تلك المعركة التي كادت أن تكون مأساة على بني معروف، إذ تعرّض الفرنسيّون وعملاؤهم من بدو اللجاة لعشرة آلاف نازح من الرّجال والنّساء والشيوخ والأطفال من دروز إقليم جبل الشيخ ووادي التّيم كانوا قاصدين جبل الدّروز، وقد تمكّنوا على قلّة عددهم من دحر المعتدين وإنقاذ المحاصَرين في منطقة وُحُول ومستنقع ضلّلهم إليها العملاء بقصد الإيقاع بهم..
وعندما هاجم أندريا السّويداء في ما عُرِف بمعارك السّويداء الثّانية، ما بين 23 و26 نيسان سنة 1926، تلك المعارك التي انتهت

بلدة صميد التي اشتهد فيها المجاهد فضل الله باشا هنيدي
بلدة صميد التي اشتهد فيها المجاهد فضل الله باشا هنيدي

باحتلال السّويداء، كان المجاهد فضل الله باشا مشاركاً فيها، وينقل محمد جابر في كتابه “أركان الثّورة..” شهادة للسّوفياتي لوتسكي يشيد فيها ببسالة مجاهديّ بني معروف ويقول فيها: “انتظر الثوّار العدو عند مشارف السّويداء، فاحتشدت قوّات الدروز كلّها هناك وحُفرت الخنادق، ونُصِب المدفع الوحيد الموجود لديهم، وتخلّى الدّروز هذه المرّة عن تكتيكهم المُعتاد وقرّروا للمرّة الأولى خوض معركة دفاعيّة، فانقضّ الفرنسيّون عليهم بكلّ ما لديهم من قوّة مُجَهّزة بأحدث المعدّات الحربيّة، وتحوّلت المعركة إلى مجزرة، وصمد الدّروز بشجاعة وذلك باعتراف الأعداء أنفسهم، فقد أشار أندريا إلى القدرة الخارقة التي تُلْهِمُ هذا الشّعب الذي بالرُّغم من هزيمته وتكبّده خسائر فادحة لم تراوده فكرة إلقاء السّلاح، بل على العكس تابع القتال يحدوه الأمل بالنّصر النّهائيّ، لكن ورغم المقاومة البطوليّة التي أبداها الدّروز تمكّن الفرنسيّون من اقتحام السّويداء.
فعلاً لم يستسلم بنو معروف بعد اقتحام الفرنسيّين عرين الجبل الذي لطالما رَوَوْا ترابه بدماء شهدائهم، ففي شهر أيّار كان أندريا قد أرسل حملة توجّهت من السّويداء باتّجاه شهبا، عبر قرى عتيل وسليم، وفي طريق عودتها مرّت بقرى بريكة وكفر اللّحف وقريته المجدل فالمزرعة (السَّجَن سابقاً)، وكان فضل الله باشا مع فرسانه ورجاله يقوم بتعقّب تلك الحملة ويشنّ الهجمات عليها وعلى ذلك يعلّق أندريا: “في المجدل استسلم الوجهاء والفلّاحون مخالفين شيخهم فضل الله هنيدي، الذي كان يشغل وظيفة كبيرة في عدليّة دمشق، ويرأس اليوم عصابة، وهذا الشيخ عضو في اللجنة السوريّة الفلسطينيّة”3.
ولشدّة مقاومته وبسالته في جهاده الفرنسيين فقد فجّر الفرنسيّون داره التي شبّهها أندريا بالقلعة الإقطاعيّة، وفي مجال قيادته لعمليات الثّورة في المنطقة الغربية من الجبل فقد واجه الفرنسيّين في معركة نجران وكان أندريا بَرِماً بإخلاص وولاء فلاّحي بني معروف لقادتهم في الثورة فيقول:” علينا ألّا ننسى أنّ الفلاّحين الجاهلين يصعب عليهم الوقوف في وجهيّ الشّيخين القادرَين اللّذين يحرّكان ساعة يشاءان المقرن الشّمالي وهما فضل الله باشا هنيدي من المجدل ومحمّد باشا عزّ الدّين الحلبيّ من وادي اللّوى”.
ولشدّة حقد الفرنسيّين عليه فقد أشاعوا نبأ موته قبل استشهاده لأجل تثبيط معنويّات المقاتلين في اللّجاة، إذ كانوا يلقون المنشورات ملفوفة داخل مواسير يلقونها من الطّائرات لتعميم نبأ موته، وكان قد أُصيب في رأسه برصاصة من رشّاش طائرة خرقت رأسه، في الوقت الذي كان فيه يرصد المعركة بمنظاره في معركة قلاع الجفّ بتاريخ 4 أب 1926 بين قريتيّ المزرعة ونجران في اللّجاة،

قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش
قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش

وقام الدّكتور خالد الخطيب بإسعافه، ولكنّ الأجل المقدور تغلب في نهاية الأمر على كلّ شيء.
كان فضل الله باشا هنيدي من أركان الثّورة بطلاً ومقداماً، صبوراً على المكاره ذا بأس، وإليه يعود الفضل في الدّفاع والمقاومة في الموقعات الأولى التي جرت في نجران وعريقة ومجادل وأم الزيتون، وذكر حفيده فضل الله داود هنيدي أنّ الثوار أخلوا جدّه بعد أن أصيب من موقع قلاع الجفّ إلى قرية ريمة اللّحف ثمّ إلى قرية جديّة، فقرية صميد، وكان الذين نقلوه قد أوكلوا أمر رعايته إلى المجاهدة السيّدة بُسْتان شلغين وقفلوا للإلتحاق بالمعركة، وحينما فاضت روحه هناك لم تجد السيّدة شلغين قربها سوى أخيها الصّغير محمّد شلغين، فانتخت فوق رأس الشّهيد، ونخت أخاها فقاما بعملية دفنه في قريتهما صميد”4.
وأبّنه سلطان باشا بالقول: “فقدنا بإستشهاده أعزّ صديق وأوفى رفيق على طريق النّضال منذ أيّام الثّورة العربيّة الكبرى.”5
أمّا الدّكتور الشّهبندر فقد اعتبره “من فحول الثّورة السّوريّة الكبرى” ووصفه محي الدّين السّفرجلاني بأنّه “من بني معروف الأشاوس كان باسلاً في وثباته، عظيماً في حملاته، كبيراً إذا انقضّ على أعدائه، جمع بين المزايا الحسان جميعاً “ .
وفي قصيدة للشاعر المجاهد فارس سلامة النّجم الأطرش، أثبتها رفيق جهاده المجاهد علي عبيد في مذكّراته ينعته فيها بأنّه سليل البطل جدّه هزيمة هنيدي، وبأنّه مُضيف كريم يدفأ البردان في مضافته.. وأفعاله الخارقة تحقق الأهداف المطلوبة، يقول فيه:
خِلْفِةْ هَزيمة ياذِرا كُلّْ بَرْدان شِفْنا افعالك ماضْيَةْ بالمطاليب

لبنان يدخل ببطء عصر الطاقة الشمسية

لبنان يدخل ببطء عصر الطاقة الشمسية
والعقبة الأساسية غياب الرؤية الحكومية

لبنان ملتزم بخفض غازات الانحباس الحراري بنسبة 30%
ورفع الطاقة من المصادر المتجددة إلى 12% قبل العام 2020

مصرف لبنان: دور رائد في توفير التسهيلات المدعومة
وقروض الطاقة المتجددة فاقت الـ 500 مليون دولار

في لبنان نهضة متنامية في قطاع الطاقة المتجددة تحفّزها بالدرجة الأولى الأسعار التنافسية للطاقة الشمسية وروح المبادرة الشهيرة للقطاع الخاص في لبنان. من مظاهر هذه النهضة التوجه المتزايد لتركيب سخانات المياه على الطاقة الشمسية مع نحو 150 شركة عاملة في هذا المجال في مختلف مناطق لبنان، وهناك انتشار متزايد للشركات المتخصصة في تركيب الطاقة الشمسية وباتت وسائل الإعلام تحمل في كل يوم أخباراً عن تنفيذ مشاريع للطاقة الشمسية سواء على نطاق المؤسسات الخاصة أو الأفراد أو البلديات، وبدأ قطاع الطاقة المتجددة بذلك يخلق فرص عمل واسعة للمبادرين والعاملين مما يعد بجعله قطاعاً اقتصادياً مهماً ومساهماً بقوة في النشاط الاقتصادي.
الجدير بالذكر أن قطاع الطاقة المتجددة في لبنان يتحرك حتى الآن إلى حدّ كبير بزخم القطاع الخاص والمبادرات الفردية، لكن في غياب سياسة وطنية شاملة ومتسقة على مستوى الدولة، والاستثناء الوحيد هنا هو مصرف لبنان الذي تميز في السنوات الأخيرة بمبادرات عدة استهدفت التعويض عن الجمود الاقتصادي والشلل الحكومي كان من أهمها مبادرة تشجيع الأخذ بتقنيات الطاقة المتجددة من خلال توفير قروض من دون فائدة ولمدة قد تصل إلى 14 سنة. وقد تخطت الاستثمارات في “القروض الخضراء” المدعومة من مصرف لبنان في السنوات الثلاث الماضية الـ 500 مليون دولار، وأمّنت حسب بعض التقديرات نحو عشرة آلاف وظيفة عمل مباشرة وغير مباشرة في القطاع.

نتائج معاهدة باريس
لكن أحد الحوافز غير المتوقعة التي قد تساهم بتطوير قطاع الطاقة المتجددة قد يأتي من انضمام لبنان إلى معاهدة باريس لمكافحة التغيُّر المناخي والتي تفترض من كل دولة الالتزام بأهداف طوعية في نطاق تخفيف انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون والغازات الأخرى المتسببة بالاحتباس الحراري كما تتطلب أيضاً التزاماً من الحكومات الموقعة (ومن بينها لبنان) بوضع برامج للتحول إلى الطاقة المتجددة وتخفيف الاعتماد على الوقود الأحفوري (النفط والغاز) في توليد الطاقة الكهربائية أو غيرها من القطاعات.
وبالفعل فإن لبنان إلتزم، كدولة موقِّعة لمعاهدة باريس، بخفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (خصوصاً ثاني أوكسيد الكربون) بنسبة 30% بحلول العام 2030 ثم تمّ بعد ذلك وخلال منتدى للطاقة المتجددة عقد في بيروت في العام… إطلاق “ الخطة الوطنية للطاقة المتجددة للعام 2016 -2020” والتي وضعت هدفاً هو التوصل إلى إنتاج 12 في المئة من إجمالي استهلاك الطاقة في لبنان من الطاقة البديلة بحلول العام 2020، وهذه النسبة تعتبر متواضعة جداً بالمقارنة مع ما التزمت به دول متقدمة وصناعية، لكنها ستمكّن لبنان من تأمين نحو 20 في المئة من الطلب على الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة ولاسيما الطاقة الشمسية مما يرفع بعض الضغط عن مؤسسة كهرباء لبنان التي سيصبح عليها تأمين الكهرباء الـ 80 في المئة الباقية من الطلب الإجمالي، كما إن الهدف الأولي الذي وضع له أفق زمني قريب هو العام 2020 يمكن أن يتبعه وضع أهداف أكثر طموحاً ولاسيما مع تزايد الجدوى الاقتصادية كل يوم من الاستثمار في الطاقة المتجددة وهذا ما حصل فعلاً في الكثير من الدول لأن الإندفاعة نحو الطاقة المتجددة لا يمكن وقفها الآن وهي إندفاعة تتغذى من الوعي المتزايد بالخطر على المناخ والحياة على الكرة الأرضية، كما تتغذى بواقع أن الطاقة المتجددة باتت رخيصة الثمن إلى حدّ يجعل منها منافساً حاسماً لمصادر الطاقة المولدة من المصادر التقليدية.
ولبنان، إذا أراد أن يظهر بمظهر العضو المسؤول في المجتمع

نمو الاستثمار في الطاقة الئمسية في لبنان
نمو الاستثمار في الطاقة الئمسية في لبنان

الدولي والدولة التي يمكن الاعتماد عليها في الجهد الإنساني المشترك لإنقاذ مناخ الأرض، يحتاج لأن يجد الوسائل لتنفيذ إلتزاماته حول البيئة ولاسيما وأنه سيكون أحد أكبر المتضررين من تدهور المناخ الأرضي، وفي هذا الإطار يمكن أن نجد حافزاً خارجياً مهماً لدفع ملف الطاقة المتجددة إلى صدارة الأولويات السياسية في لبنان.

مؤسسة رعاية الأيتام في صيدا حوّلت سطح مبانيها إلى محطة لتوليد الطاقة الشمسية الرخيصة
مؤسسة رعاية الأيتام في صيدا حوّلت سطح مبانيها إلى محطة لتوليد الطاقة الشمسية الرخيصة

غياب حكومي
هذه التطورات الإيجابية المهمة في قطاع الطاقة المتجددة تواجه مع ذلك عقبة أساسية يمكن أن تؤخر تنفيذ الأهداف الوطنية والخطط الموضوعة وهي غياب الأطر القانونية والتنظيمية الواضحة التي تنظم العلاقة بين القطاع الخاص المنتج للطاقة وبين الدولة، وبالتحديد الأطر التي تسمح لأي مشروع خاص لإنتاج الطاقة الكهربائية سواء من المصادر المتجددة أم التقليدية ببيع الكهرباء لمؤسسة كهرباء لبنان. إن توضيح هذا الإطار يمكن أن يحدث فورة غير مسبوقة في الاستثمارات الخاصة في قطاع الطاقة المتجددة ويمكن أن يكون مقدمة حقيقية لحل أزمة قطاع الطاقة في لبنان. إن العديد من المؤسسات التجارية والمصانع اليوم لديها مولدات أكبر بكثير من حاجتها، لذلك فإن توافر الإطار القانوني الذي يسمح للمنتج المستقبل ببيع الكهرباء لمؤسسة كهرباء لبنان بحيث تحوِّل الشركات فائض الطاقة لديها إلى مؤسسة كهرباء لبنان التي تضعه بدورها على الشبكة، وهذا النقص يعتبر عقبة كبيرة لأنه يحول دون قيام مشاريع كبيرة للطاقة المتجددة على مستوى الصناعات أو المؤسسات، وحتى الاستخدام المنزلي للطاقة الشمسية يمكن أن ينمو في حال أمكن للأفراد بيع فائض الطاقة لديهم إلى الشبكة الحكومية.
يذكر أن مؤسسة كهرباء لبنان بدأت سلسلة من مشاريع الاستثمار التجريبي في الطاقة الشمسية أهمها مشروع نهر بيروت الذي يستهدف إنتاج 10 ميغاواط من الطاقة الكهربائية من الألواح الفوتوفولطية المركبة على شكل غطاء بمساحة 11 ألف متر مربع فوق نهر أصبح مشهوراً بكونه مكباً للنفايات، وهذا المشروع يهدف أولاً الى حماية مجرى النهر وتنقيته كما يهدف بالدرجة الأولى الى الاستفادة من القيمة العقارية لمساحة مجرى النهر المكشوفة على الشمس لإنتاج الطاقة الشمسية، وقد أنجز القسم الأول من المشروع وهو بطاقة 1 ميغاواط على أن يتم إنجاز الأقسام الباقية في المدى القريب.

توجّه-متزايد-من-البلديات-لإنارة-الطرقات-بالطاقة-الشمسية
توجّه-متزايد-من-البلديات-لإنارة-الطرقات-بالطاقة-الشمسية

فرص استثمار
وقدرت أوساط خبيرة أن لبنان في حاجة لإستثمارات لا تزيد على مليار و400 مليون دولار للحصول على 12% من الطاقة الكهربائية من الطاقة المتجددة على أن يساهم القطاع الخاص بنحو 50 إلى 60% من تلك الاستثمارات بينما يغطى الباقي منها بالتمويلات المسهلة والمدعومة التي يقدمها مصرف لبنان من خلال الآلية الوطنية لكفاءة الطاقة والطاقة المتجددة. وقد ساهمت التسهيلات التي يقدمها لبنان عبر المصارف بلا فائدة ولمدة تصل إلى 14 عاماً لتمويل الطاقة المتجددة في نمو مطرد في استخدام الطاقة الشمسية على نطاق الأفراد والمؤسسات. ومن أبرز مبادرات المؤسسات الخاصة في مجال الطاقة المتجددة مشروع تحويل كل محطات محروقات “IPT” وعددها 168 محطة إلى محطات خضراء تؤمن حاجتها من الكهرباء بواسطة الطاقات الشمسية، ومن شأن هذا المشروع أن يوفر عن طريق كهرباء لبنان حوالي 2 ميغاواط ونصف ميغاواط.
تعتبر الطاقة الشمسية المصدر الواعد الأول للطاقة المتجددة في لبنان بالنظر الى أن الشمس تسطع فوق لبنان لمدة تبلغ في المتوسط 300 يوم في العام، كما إن جو لبنان نقي نسبياً لا يشكو من مشكلة الغبار التي يشكو منها الخليج وتجعل استخدام الألواح الشمسية في حاجة إلى صيانة دائمة أو إلى وسائل للغسل الذاتي لتخليص سطح اللاقط الشمسي من الغبار الكثيف الذي يعطل طاقته على توليد الطاقة. أما طاقة الرياح فتأتي في ترتيب متأخر لأن لبنان لا يحتوي على مجاري رياح قوية تعزز جدوى مشاريع طاقة الرياح، فتيارات الهواء القوية والمتحركة بشكل دائم محصورة في منطقة في شمال شرقي لبنان وبالتحديد في عكّار وقرب الهرمل وفي منطقة جنوب نهر الليطاني.

“ميزات حاسمة للطاقة الشمســية
طاقة نظيفة صامتة مستمرة ومكفولة وخفيفة التكلـــفة و الصيانة ومصــــاريف التشـــــــغيل”

نمو مستمر
بلغ النمو السنوي في قطاع الطاقة المتجددة نحو 41 في المئة العام 2011 ليرتفع إلى 149 في المئة العام 2015. في المقابل حققت المشاريع الجديدة المعتمدة على الطاقة الشمسية نمواً بنحو 27 في المئة العام 2011 إلا أن معدل النموّ قفز إلى 72 في المئة العام 2015 وهذه القفزات الملفتة في معدل نمو استخدامات الطاقة الشمسية تعتبر في حد ذاتها مؤشراً على التحول المستمر – وإن المتواضع حتى الآن- في لبنان نحو الطاقة المتجددة.
إن الاستثمار في الطاقة المتجددة ولاسيما الطاقة الشمسية يقدم ميزات كبيرة في لبنان أهمها:
1. تحقيق الاستقلالية في الطاقة الكهربائية وبالتالي تخفيف الآثار الضارة للتقلبات التي يصعب التنبؤ بها في توافر التيار الكهربائي من الشبكة الحكومية.
2. توفير تيار كهربائي مستقر يؤمن الحماية للتجهيزات المنزلية والصناعية والزراعية لأن التيار الذي يمكن الحصول عليه من مشروع للطاقة الشمسية يتمتع بإستقرار تام على خلاف التقلب الشديد في الدفق الكهربائي على خطوط الدولة.
3. مشروع الطاقة المتجددة يمكن معرفة تكلفته الرأسمالية وفترة استرداد رأس المال منذ اليوم الأول، فهو مشروع من دون مخاطر ويمكن تصميمه وفق الحاجات المحددة للمنزل أو للمؤسسة والتنبؤ بتكلفته والمردود الذي يحققه لمدة 20 سنة.
4. يوفر قطاع الطاقة المتجددة في لبنان الفرصة للاستفادة من أشكال الدعم المتوافرة والمقدّمة من مصرف لبنان أو من مصادر عون خارجي، وهذا أيضاً يعزز الجدوى الاقتصادية من الاستثمار في الطاقة المتجددة.
5. من المتوقع أن يساهم ازدهار قطاع الطاقة المتجددة في خلق قطاع اقتصادي جديد يتمتع بتقنيات عالية ويحتاج إلى خبرات هندسية ومهارات، وهو لذلك سيفسح في المجال أمام قيام شركات عديدة تعمل فيه وتوفير فرص عمل بالألوف للشباب اللبناني وخصوصاً لأصحاب المهارات الهندسية.
6. تعتبر الطاقة الشمسية طاقة صامتة وغير ملوثة على الإطلاق فهي لا تصدر أي انبعاثات لغازات الاحتباس الحراري كما يحصل من خلال استخدام المولدات الخاصة أو التجارية.
7. يحتاج نظام العمل بالطاقة المتجددة إلى عمليات صيانة منخفضة الكلفة.
8. تتمتع معدات مشروع الطاقة الشمسية بكفالة طويلة على الألواح الشمسية تصل الى 25 سنة وبعض الألواح تستمر في إنتاج الطاقة لمدة 40 سنة، لكن الأمر المعروف هو أن قدرة الخلايا الفوتوفولطية على امتصاص الطاقة الشمسية تضعف تدريجياً مع الوقت مما قد يخفض تدريجياً طاقة التوليد النظرية المفترضة فيها، لكن مع التراجع الكبير في أسعار الألواح الفوتوفولطية فإن المستثمر يمكنه بتكلفة بسيطة تجديد الألواح أو الزيادة عليها بألواح جديدة بما يعوض النقص الناجم عن تراجع طاقة التوليد للألواح القديمة.
9. صُمِّمت بطاريات الخزن المعدة للاستخدام في نظام الطاقة الشمسية بحيث يمكنها أن تخدم لمدة خمس إلى سبع سنوات بكفاءة ممتازة وهذه البطاريات تباع بأسعار معقولة تقل عن دولارين للأمبير وأسعارها في انخفاض مستمر بسبب جهود الأبحاث الجارية على تطوير البطاريات الكهربائية، لذلك فإنه من المتوقع أن يستمر سعر بطاريات التخزين للطاقة المتجددة بالانخفاض المتسارع بحيث ستكون أسعارها في متناول الجميع وعمرها الزمني أطول فأطول وهو (إضافة إلى التراجع الكبير في أسعار الألواح الشمسية) سيمثل أحد أهم الحوافز الإضافية للاستثمار في الطاقة المتجددة في لبنان.

رسم يظهر لماذا يتحول العالم إلى الطاقة الشمسية
رسم يظهر لماذا يتحول العالم إلى الطاقة الشمسية

مشروع الطاقة الشمسية للحصول على طاقة كهربائية غير منقطعة أي 24 ساعة على 24 ساعة وسبعة أيام في الأسبوع، لكن يحتاج ذلك إلى الاستثمار الإضافي في بطاريات التخزين مما قد يرفع تكلفة المشروع. لكن يمكن في الوقت نفسه الجمع بين الحصول على التيار الكهربائي من مؤسسة كهرباء لبنان وبين تشغيل نظام للطاقة الشمسية بحيث يمثل النظامان نظاماً متكاملاً يؤمن الطاقة بلا انقطاع ويحقق الاستقرار في عمل المؤسسات كما إنه يخفض بصورة عامة التكلفة العامة لفاتورة كهرباء المؤسسة والتي تصبح مجرد ملاذ أخير في حصول عطل في نظام الطاقة الشمسية، وبهذا فإن نظام الطاقة الشمسية يحتاج الى دعمه بمصدر إحتياطي قد يكون التيار الكهربائي لمؤسسة كهرباء لبنان وقد يكون أيضاً مولد ديزل بطاقة مناسبة.

مشهد أصبح مألوفا في لبنان - الطاقة الشمسية بدأت تدخل مرحلة الاستخدام المنزلي
مشهد أصبح مألوفا في لبنان – الطاقة الشمسية بدأت تدخل مرحلة الاستخدام المنزلي

نهضة “شمسية” في الجبل
في بعقلين الشوف، برز بصورة خاصة مشروع شركة النهضة لتصنيع الرخام الذي تضمن تركيب 250 لوحاً فوتوفولطياً على سطح الشركة، الأمر الذي ساعد على خفض فاتورة الكهرباء بنسبة 50 في المئة مع توقع أن يصبح الوفر أكبر على المدى الطويل بعد استرداد التكلفة الرأسمالية للتجهيزات. وهناك في المناطق الجبلية في لبنان تسابق من البلديات لتركيز أنظمة إنارة لشوارع القرى والمدن بالطاقة الشمسية، وقد نفذت شركة الحلف الأخضر التي يرأسها برنار عمون مشاريع عدة للطاقة الشمسية في الشوف وعاليه والمتن وبالأخص في دير القمر، وبتلون، وعين زحلتا، وباتر وبحمدون وحمانا، وفي منطقة المناصف، ومعظم هذه المشاريع تمّ بالتعاون مع البلديات ، فضلاً عن العديد من المشاريع الخاصة.
في الوقت نفسه، تولى المهندس سامي عبد الباقي تنفيذ مشروع شركة النهضة وعدد من مشاريع الطاقة الشمسية في الجبل وهو يعمل في البقاع للمساعدة على استخراج مياه الآبار الارتوازية بواسطة مضخات تعمل على الطاقة الشمسية.
على صعيد آخر، تمّ ربط البئر الارتوازية في الشاوية في مرستي بالطاقة الشمسية تلافياً لانقطاع الكهرباء المتواصل، وتأميناً لعملية الضخّ الدائم للمياه من البئر التي تغذي قرى مرستي والخريبة وبعذران بمياه الشفة، فيما يذهب قسم من المياه إلى المزارعين. كما تمّ تزويد مشروع الآبار الارتوازية التي تمّ تدشينها مؤخراً في بلدات قرنايل وكفرنبرخ وديركوشة بالطاقة الشمسية، وهذا المشروع يغذي جميع قرى المناصف.
كما دخلت الطاقة الشمسية في العديد من المشاريع السكنية الجديدة في مناطق الجبل، كما هو الأمر في سائر المناطق اللبنانية، وزاد الاهتمام بها بعد توسّع استخدامها في إنارة الشوارع الرئيسية في العديد من قرى الجبل وخاصة مدن وقرى الاصطياف في عاليه والمتن الأعلى.
وتولت وزارة الأشغال العامة تنفيذ مشروع طموح لإنارة طريق قبر شمون- جسر القاضي، وأوتوستراد ديركوشة- كفرحيم في منطقة المناصف وأغلب طريق بيروت– دمشق، في منطقة ضهر البيدر بالطاقة الشمسية وتتولى فرق الصيانة التابعة للوزارة المراقبة الدائمة للخطوط وإصلاح الأعطال في حال وجودها.

مستقبل قطاع الطاقة

مستقبــل قـطاع
الطاقة في لبنان

الطاقة المتجدّدة باتت الخيار الاستراتيجي لدول العالم
لكننا ما زلنا نحاول تمديد صلاحية التخلف والفساد

لبنان ملزم بموجب اتفاقية باريس بخفض انبعاثات الغازات الملِّوثة
وزيادة حصة الطاقة المتجدّدة في إنتاج الكهرباء قبل العام 2020

يُعتبر الفشل الحكومي اللبناني في ملف الكهرباء من أوضح الأمثلة على مزيج التخبط والحسابات السياسية وسوء الإدارة والفساد المتفشي في القطاع العام. نتيجة لهذا الفشل المستمر، تحوّل لبنان من بلد مكتفٍ ذاتياً بالطاقة بل مُصدِّر لها إلى البلدان المجاورة في سبعينيات القرن الماضي إلى بلد لا يستطيع أن ينتج نصف كمية الطاقة التي يحتاجها اقتصاده ومؤسساته ومواطنوه، وهو ما انعكس بتراجع معدل التغذية بالتيار الكهربائي باستمرار إلى ما يقارب الـ 14 ساعة يومياً في المناطق الواقعة خارج العاصمة، كما انعكس في حالة عامة من سوء الإدارة وضعف الجباية وانتشار سرقة التيار من الشبكة وهدر الموارد وضعف الخدمات، وبرغم حلول القطاع الخاص بوسائل متعددة محل الدولة في سدّ الفجوة الكهربائية، فإن قطاع الكهرباء لا يزال المصدر الأكبر لعجز الميزانية الحكومية وتنامي عبء الدين العام بصورة مطردة على الأجيال المقبلة. ويُقدّر أن الدولة اللبنانية تكبدت ما بين العامين 2010 و2015 نحو 10 مليارات دولار نتيجة العجز المالي السنوي لمصلحة كهرباء لبنان، كما تقدّر الخسائر المتراكمة لقطاع الكهرباء منذ العام 2000 بنحو 29 مليار دولار أي ما يقارب نصف حجم الدين العام في ذلك التاريخ.
نتيجة لاستمرار الأزمة وتفاقمها سنة بعد سنة فقد اتجه اللبنانيون أفراداً ومؤسسات إلى ابتكار شتى أنواع الحلول من أجل سدّ النقص والتعويض عن الفشل الحكومي وتوفير وسائل لاستمرار الحياة الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية، وهو ما يعتبر مستحيلاً من دون التيار الكهربائي الذي يعتبر بمثابة شريان الحياة لأنظمة الاتصالات والاقتصاد الرقمي وأنظمة التعليم والصحة والأمن والصناعة والسياحة والخدمات والحياة اليومية، وقد تمّ حتى الآن سد النقص من خلال عدد يكاد لا يحصى من الحلول والمبادرات من أهمها نشوء قطاع كهربائي خاص بكل معنى الكلمة هو عبارة عن مولدات كبيرة أو متوسطة تتولى تأمين التيار الكهربائي في ساعات التقنين، أو مولدات خاصة وأنظمة تغذية مستمرة UPS استثمر فيها المواطنون من أجل تعويض نقص الطاقة الكهربائية. وحسب دراسة لمنظمة غرين بيس Green Peace فإن معدل انقطاع الكهرباء في لبنان يوازي 40 إلى 45% من الطلب العام، وهذا النقص تعوّض المولدات التجارية الخاصة نحو 70% منه، مما يعني أن النسبة الباقية يتم التعامل معها بواسطة مولدات الشركات والصناعات والمولدات المنزلية. ويكاد لا يخلو حيّ من أحياء المدن أو قرية لبنانية من المولدات التي ترتبط بشبكة

تطور انبعاثات الغازات الحرارية في لبنان
تطور انبعاثات الغازات الحرارية في لبنان
رسم يظهر لماذا يتحول العالم إلى الطاقة الشمسية
رسم يظهر لماذا يتحول العالم إلى الطاقة الشمسية

 

 

 

 

 

 

 

تغذية موازية من الكابلات ومن العدادات ومن خدمات الجباية والصيانة.. وبرغم انتشار المولّدات الخاصة ذات الهدف التجاري فقد تنامت مع الوقت المبادرات التي استهدفت تأمين مولدات للقرى عن طريق البلديات أو بعض الوجهاء المتبرعين أو الجمعيات أو الهيئات السياسية أو مصادر العون الخارجي، ونتيجة لذلك فقد اتسع قطاع المولدات ذات الغرض العام بصورة كبيرة على حساب المولدات التجارية الباهظة الكلفة.
لكن بغض النظر عن أهمية المبادرة الخاصة في التخفيف من أزمة الكهرباء فإن الحقيقة الأهم هي أن كل هذه المبادرات ما زالت تنتمي إلى العصر الآفل للطاقة المولدة من خلال حرق الفيول أو مشتقاته مثل المازوت، فلبنان ما زال متأخراً جداً في مجال استخدام الغاز الأقل تلويثاً في إنتاج الطاقة الكهربائية، كما إنه لا يزال في مرحلة البداية المتواضعة بالنسبة الى استخدام مصادر الطاقة المتجددة ولاسيما الطاقة الشمسية بمختلف تطبيقاتها الصناعية والمنزلية.
وبينما يتطلع العالم إلى يوم لا يعود فيه للطاقة الملوثة المستخرجة من النفط والغاز أو من الفحم الحجري سوى دور بسيط بالمقارنة مع الطاقات المتجددة، فإن الجدال في لبنان لا يزال محتدماً في الدوامة نفسها للنظام الكهربائي البائد الذي ما زلنا نحاول إحياءه أو تمديد صلاحيته، والسبب البديهي لهذه الغيبوبة هو بالطبع المصالح الكبيرة التي أصبحت متركزة في النظام الكهربائي المتخلف والعالي التكلفة، والجهات الكثيرة التي استثمرت فيه، وهذا يرشدنا إلى جواب على السؤال الدائم الذي يطرح وهو ما السبب في استمرار فضيحة الكهرباء طيلة ثلاثين عاماً منذ الطائف؟ وهذا الجواب البسيط هو أن التحالف الخفي الذي يستفيد من الأزمة وعلى رأسه السياسيون لا مصلحة له على الإطلاق في حل الأزمة وتنظيم القطاع على أسس التحديث والفعالية والشفافية. وعلى سبيل المثال، فإن الحلول المطروحة ما زالت تتراوح بين استئجار المزيد من البواخر التركية لتوليد الكهرباء أو تحديث المعامل الحالية التي عفا عليها الزمن لكن من دون أن نرى في السياسة الحكومية، سواء على مستوى مجلس الوزراء أو وزارة الطاقة، توجهاً جديداً يواكب التحولات الهائلة التي يشهدها العالم على صعيد الاستثمار في الطاقة المتجددة، فنحن في لبنان نعيش في زمن آخر.

المرحلة الإنتقالية
برغم أن التوجه الاستراتيجي للبنان يجب أن يكون نحو الطاقة المتجددة، وهو ما سنأتي عليه في الفصل التالي، إلا أن هذا التحول سيحتاج بالتأكيد إلى وقت لا يمكننا تقديره، لأن إنجاز هذا التحول يحتاج إلى بلورة الإرادة السياسية أولاً ثم إلى وضع الاستراتيجية المتكاملة للطاقة وبلورة الأطر القانونية والتنظيمية والهيئة الناظمة على المستوى الوطني وسياسات الاستثمار وأنظمة التشغيل والشراكات المحتملة بين القطاع العام والخاص أو بين البلديات والمناطق والقطاع الخاص وغير ذلك من الخطوات التحضيرية.
إن الخطة الانتقالية لتطوير وترشيد قطاع الطاقة في لبنان لا بدّ وأن تمرّ بإعادة هيكلة القطاع بمختلف مكوناته مع تعزيز التوجه الحالي الذي يدعو إلى خصخصة عمليات التوليد والتوزيع مع بقاء الدولة مالكة للبنية التحتية المتمثلة بالشبكات واضطلاعها بدور الناظم المسؤول عن التوفيق بين تحفيز المستثمرين للاستثمار في الطاقة وبين حماية المستهلكين. إن الهدف من الخصخصة هو قيام القطاع الكهربائي على أسس الفعالية والشفافية وحسن التشغيل التي يتميز بها القطاع الخاص، ورفع عبء كبير عن ميزانية الدولة اللبنانية يعتبر مكوناً أساسياً في النمو الكارثي للدين العام، علماً أن الدولة يمكنها ضمن أي خطة جدية للإصلاح أن تحصل على التشجيع والدعم على شكل قروض ميسرة تقدمها صناديق التنمية العربية ومؤسسات التمويل الدولية. أخيراً، فإن الاتجاه نحو خصخصة قطاعات الطاقة والمياه وغيرها ينسجم مع ما يتم العمل به اليوم في مختلف دول المنطقة بما في ذلك دول الخليج وكذلك مع النمط المعتمد أكثر فأكثر على النطاق العالمي.
إن إصلاح منظومة الكهرباء في لبنان يمكن أن يأخذ في الاعتبار زيادة الطاقة المولّدة محلياً عن طريق المحطات العاملة بالغاز، وهي الأقل تلويثاً مع تجديد القائمة حالياً على نفس الأسس أي على أساس التحول إلى الغاز الأرخص تكلفة والأقل تلويثاً، كما إن من بين الحلول المطروحة زيادة عدد بواخر توليد الكهرباء التي تتولى سد قسم من النقص الكبير في الطاقة المنتجة في لبنان كحلول مؤقتة بهدف وضع حد للتقنين وتوفير الطاقة الكهربائية بصورة دائمة للاقتصاد وللمجتمع. إن تنفيذ هذه الخطوات يمكن أولاً أن يضع حداً لعمل المولدات التجارية والمولدات الخاصة التي تساهم بصورة هائلة بإنبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وغيره من الغازات الملوثة، لكن هذه الإصلاحات يجب أن لا يكون هدفها تكريس العمل بالنظام الباهظ التكلفة والملوِّث الحالي بل التمهيد للتحول بصورة حاسمة نحو الطاقة المتجددة ولاسيما الطاقة الشمسية وطاقة الرياح.

لماذا الطاقة المتجددة؟
إن الاستثمار الكثيف في الطاقة المتجددة ولاسيما طاقة الرياح والطاقة الشمسية في لبنان هو استثمار في نفط لبنان الحقيقي الذي لا ينضب، وهو استثمار في المستقبل يجب أن يتحول إلى أولوية وطنية حقيقية ويجب العمل بالتالي لجعله أولوية حكومية وسياسية وشعبية وإعطاء المشاريع الخاصة به طابع الأهمية التي لا تقبل التأجيل أو التسويف. إن هذا التوجه المستقبلي ليس وليد أحلام أو طوباوية سياسية أو اقتصادية بل هو يستند إلى عوامل اقتصادية وتكنولوجية كما يستند إلى ميزات لبنان المناخية وإلى

صاحب مولِّد فتح شركة كهرباء خاصة والأرجح أنه يديرها بأفضل مما هي عليه الحال في المؤسسة الحكومية
صاحب مولِّد فتح شركة كهرباء خاصة والأرجح أنه يديرها بأفضل مما هي عليه الحال في المؤسسة الحكومية

طاقات شعبه ومؤسساته وإلى الخبرة الدولية المتنامية في هذا المجال. أهم الاعتبارات التي تجعل من الاستثمار الواسع النطاق في الطاقة المتجددة الخيار الاستراتيجي الوحيد لحل أزمة الكهرباء وتعزيز البنية التحتية للاقتصاد اللبناني هي التالية:
1. التقدم الهائل لتقنيات الطاقة المتجددة: شهدت السنوات الخمس الأخيرة قفزات مدهشة في تطور تقنيات الطاقة الشمسية وحجم الاستثمارات التي تستقطبها في العالم، وأدت القفزات التقنية إلى مضاعفة فعالية الطاقة الشمسية مثلاً مرات عدة مع خفض تكلفتها باستمرار بحيث بات متوقعاً أن تصبح قريباً جداً منافساً لا يضاهى لمختلف أنواع الطاقة التقليدية (الملوِّثة) ويظهر الرسم البياني أعلاه كيف أن تكلفة اللاقط الشمسي أو اللوحة الشمسية انخفضت في السنوات الأربعين الماضية بنسبة 99% عما كانت عليه في العام 1975، إذ كان اللاقط الشمسي يكلف أكثر من 20 ألف دولار عندما كانت تكنولوجيا الخلايا الفوتوفولطية في بداية تطورها، بينما أصبح هذا اللاقط (بطاقة 200 واط) لا يكلف في العام 2015 أكثر من 122 دولاراً، وتشير الإحصاءات الأخيرة إلى أن أسعار الطاقة الشمسية مستمرة بالهبوط بحيث وصلت تكلفة اللاقط إلى 0.49 سنت للواط (أي نحو 100 دولار للاقط بطاقة 200 واط) وقد باتت كل التوقعات تشير إلى أن الطاقة المتجددة ولاسيما الطاقة الشمسية وطاقة الرياح باتت خيار المستقبل للبشرية باعتبارها الأفضل للبيئة وفي الوقت نفسه الأكثر جدوى من الناحية الاقتصادية لذلك فإن جميع البلدان (المتقدمة والنامية) بدأت التحول إليها كبديل لمصادر الطاقة التقليدية المكلفة والملوثة على حدّ سواء.
2. فجوة الطاقة البديلة في لبنان: إن لبنان من البلدان الأكثر تعرضاً للشمس في العالم (نحو 300 يوم في السنة) كما إن في إمكانه توليد الطاقة من الرياح على امتداد شواطئه وبتكلفة تقل عن تكلفة المشاريع المتداولة لإنشاء محطات توليد جديدة تعمل بالفيول أو بالغاز. لكن لبنان هو من أقل البلدان استخداماً للطاقة الشمسية، ولم تضع الدولة اللبنانية حتى الآن استراتيجية تستهدف إحلال الطاقة المتجددة بصورة تدريجية محل الطاقة الملوثة التقليدية. وبرغم التوفير الذي تحققه في مصروف الكهرباء فإن الدولة لا تطبق سياسة فعالة لتعميم استخدام الطاقة الشمسية في تسخين المياه سواء على مستوى المنازل أو الأبنية السكنية أو المؤسسات. ولا توجد في لبنان أنظمة تجعل تركيب هذه السخانات بنداً إلزامياً للحصول على رخصة البناء، وعلى سبيل المقارنة فإن الجارة الصغيرة قبرص بدأت باستخدام أنظمة تسخين المياه على الطاقة الشمسية في العام 1961 وهي تعتبر اليوم من أكثر بلدان العالم استخداماً لهذه التقنية نظراً الى أن 95% من بيوتها مزودة بأنظمة تسخين المياه على الطاقة الشمسية في مقابل نسبة تغطية ضعيفة للمنازل في لبنان.
ويظهر تقرير أعدّه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في لبنان ضآلة الاستثمارات في قطاع الطاقة المتجددة، إذ لم تتجاوز الاستثمارات الإجمالية في هذا القطاع 30 مليون دولار في العام 2015 ولهذا السبب، فإن لبنان ما زال يأتي في مرتبة متأخرة جداً على صعيد استخدام الطاقة المتجددة في توليد الطاقة الكهربائية. ويعود هذا التأخر بالدرجة الأولى إلى عدم جديّة الالتزام السياسي للدولة اللبنانية بهذا الهدف كما يعود إلى غياب التوعية الواسعة التي تبيّن للمواطنين الجدوى الاقتصادية من التحول إلى أنظمة الطاقة الشمسية، وعدم تشجيع الاستثمار الخاص في قطاع الطاقة المتجددة عبر توفير الإطار القانوني والحوافز التشجيعية اللازمة مع توفير أنظمة تمويل تتجاوز من حيث الحجم والآليات برنامج الحوافز المحدود المقدّم من مصرف لبنان، أم من خلال إنشاء وكالة وطنية للطاقة المتجددة تعطى صلاحيات واسعة وميزانية كافية للعمل على إدخال لبنان عصر الطاقة المتجددة ونادي الدول الرائدة في هذا الميدان.
يبقى القول إنه وبرغم تأخير الدولة في تبني خيار الطاقة المتجددة فإن عوامل السوق نفسها ولاسيما تراجع تكلفة الطاقة الشمسية باتت في حدّ ذاتها محفزاً أساسياً لتحول الأفراد والمؤسسات في لبنان إلى أنظمة الطاقة الشمسية، وإحدى الظواهر الملفتة هو توجّه البلديات في العديد من

باخرة توليد الطاقة الكهربائية التركية أورهان باي التي تغذي معمل الجية
باخرة توليد الطاقة الكهربائية التركية أورهان باي التي تغذي معمل الجية

“المواطن في لبنان أسرع بكثير من الدولة في الأخذ بثورة الطاقة المتجددة وبلديات كثيرة أخذت المبادرة في تبني الطاقــة الشمسية للإنارة العامة”

المناطق إلى إنارة الطرق بواسطة الطاقة الشمسية بدعم من جهات العون الدولية. إن كل ذلك يظهر أن المواطن في لبنان أسرع بكثير من الدولة في الأخذ بثورة الطاقة المتجددة، كما إن الاستثمار في أنظمة التوليد بالطاقة الشمسية يعتبر أهم وسيلة لتحقيق “الاستقلال الكهربائي” من قبل المواطنين والمؤسسات والهيئات المدنية وبالتالي تأمين مصادر تغذية دائمة وفعالة بالتيار الكهربائي.
3. حماية البيئة: إن التبني الشامل لسياسات التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة تفرضها أيضاً إلتزامات لبنان البيئية كبلد موقِّع على معاهدة باريس للحد من إنبعاثات ثاني أوكسيد الكربون وغيره من الغازات التي تساهم في تسخين جو الأرض، وبموجب هذه الاتفاقية فقد التزمت كل دولة بأهداف كمية على صعيد خفض الانبعاثات وزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة ومن هذه الدول الاتحاد الأوروبي الذي التزم بأن يتوصل بحلول العام 2020 إلى خفض انبعاثات الغازات الحرارية بنسبة 20% (بالمقارنة مع معدلات 1990) ورفع الطاقة الكهربائية المستخرجة من المصادر المتجددة إلى 20% من المجموع وكذلك زيادة فعالية استخدام الطاقة الكهربائية بنسبة 20%. وبناء على معاهدة باريس فإن على لبنان أن يحدد لنفسه أهدافاً تتعلق بخفض تلك الانبعاثات وزيادة حصة الطاقة المتجددة وزيادة فعالية استخدام الطاقة ووقف الهدر. وكل هذه الالتزامات البيئية لا يمكن تنفيذها من دون سياسة وطنية شاملة لدخول عصر الطاقة المتجددة والخروج من مستنقع التقنيات البالية والهدر والفساد. والواقع فإنه وبالنظر إلى حجم اعتماد قطاع الكهرباء على الفيول وضعف السياسات المتعلقة بالحدّ من انبعاثات السيارات والمصانع والمولدات فإن لبنان أصبح من الدول الأكثر تلويثاً في العالم كما يظهر أعلاه التالي:
تحول استراتيجي: إن تبني لبنان للتوجه العالمي نحو مصادر الطاقة المتجددة لا بد وأن يقطع بصورة تامة مع النظام البالي الحالي لمفهوم احتكار توليد وتوزيع الطاقة من القطاع الحكومي، وهذا الاحتكار هو أحد أهم أسباب تخلف القطاع وتقادم التكنولوجيا وارتفاع التكاليف وتدهور الخدمات سنة بعد سنة. على العكس من ذلك، فإن قطاع الطاقة المتجددة يستند إلى مبادرات القطاع الخاص وإلى مهارة المستثمرين في الاستفادة من أحدث تقنيات الطاقة المتجددة التي تضمن لهم الميزة التنافسية للبيع بأفضل الأسعار مع تحقيق العائد على الاستثمار. إلا أن أهم ميزات الطاقة المتجددة هي في كونها نظاماً مثالياً لتطبيق اللامركزية في توليد وتوصيل الطاقة الكهربائية بحيث يمكن تصور قيام العشرات من الشركات الخاصة التي تتخصص كل منها في خدمة ناحية جغرافية ضمن القوانين الناظمة التي تصدرها الدولة، وهذا النوع من التوزيع الجغرافي لأنظمة الطاقة يساعد على بناء العلاقات بين المنتج وقاعدة العملاء وعلى تحسين الخدمات وترشيد الإدارة كما إنه ينهي مشكلة التسيّب والاعتداء على الشبكات في ظل النظام المركزي للكهرباء الذي نعيش في ظله حالياً.

 

 

سد بسري

أحدُ أكبرِ السّدود المائيّة في لبنان

سَدُّ بِسْرِي يُنهي عطش بيروت
ويعزّز السّياحة في الشّوف وجِزّين

مهندس المشروع إيلي موصلّلي لـ “الضّحى”

بُحيـــرة السَــد ستكــون بطــول 1000 متــر وعــرض كلــم واحــد
والمشاريــــع السّياحيــــــــة مُتاحــــــة ضمــــــن ضوابــــــط بيئيّـــة

ســــــــدّ بِســــري مقـــــــــاوم للــــــزّلازل بسبــــب تِقَنيّــــات بِنائِــــه
كســــدٍّ ركامــــــيّ مــــــــن الصّخــــــــور بــــــدلاً من الإسمنــــــــت

تغــــــــــــــــــذية بحيـــــــــــــــــرة بِسْــــــــــــــــــري من الميــــــــــــــاه
تصــــــــــل إلــــــــــــى 125 مليــــــــــون مــتــر مكعــــــــب سنــــوياً

بعد إقراره من قِبَل الحكومة، والمباشرة بتنفيذه من قبل مجلس الإنماء والإعمار، يكتسب سّد بسري أهمّية خاصّة، بالنّظر إلى وجوده في أهمّ وأجمل بُقعة جغرافيّة عرفها لبنان، على تخوم منطقتيّ الشّوف، وجِزّين على مُنْبَسط أرضيّ غنيّ عن الوصف فائق الرّوعة والجمال. أمّا المخزون الإجماليّ من المياه التي سيتمّ تجميعها بعد الانتهاء من تنفيذه، فسيتغذَّى من فائض الينابيع التي تجري في واديه والتي تشكل روافد نهر الأوّلي. وهذا النّهر الجميل الذي تغنّى به الشّعراء واجتهد في وصفه الرّحالة والباحثون، يصبّ شمالي مدينة صيدا مشكّلاً الحدّ الفاصل بين محافظتي الجنوب وجبل لبنان.
وتفيد المراجع التّاريخيّة أنّ ما يعرف اليوم بمرج بِسري كنقطة تلاقٍ لنبعيّ الباروك وجِزّين وما يتبعهما من روافد مائية كان يشكّل في ما مضى، الممرّ الآمن لجميع الجيوش التي غزت لبنان منذ عهد الإسكندر المقدوني، إلى عصر الرّومان، والآشوريين، والبابليين، والكلدانيين، مروراً بالفتح العربي الإسلامي، والصّليبيين، والفاطميين، وصولاً إلى حكم التنوخيين، والمعنيّين، والشهابيّين. هو المكان المُحدّد لإنشاء السَّدّ الذي يُعرف بسدّ بسري. وكلمة المرج تعني المنبسط الشّديد الخضرة، ومرج بِسري مشهور بخصوبة أرضه وبساتينه الغنّاء، وبآثاره الرّومانيّة، والصّليبيّة.أمّا ملكيته فتعود لمجموعة من المستثمرين من باتر ونيحا وعماطور ومزرعة الشوف. ويتوزّع عقاريّاً على تلك البلدات، وعلى بعض بلدات قرى قضاء جزين. وعبره كانت تمرّ ما يسمى بـ “طريق البلاد” التي كانت تربط إمارة الجبل بولايتيّ صيدا، وعكّا. ومن خلاله كانت تعبر قوافل المكارين والتجّار من البقاع والشوف وجزين إلى صيدا وبالعكس وبقي المرج يُستخدم حتى مطلع القرن العشرين. فهو يربط منطقة جزيّن بإقليم الخرّوب عبر بْسابا، ومزرعة الظَّهر، ويربط قرى وبلدات الشّوف الأعلى، عبر بوابة باتر الشّهيرة، وكلّ هذه الدّروب كانت تخضع لنقطة مراقبة أنشئت في شقيف تَيرون أو قلعة نيحا الشهيرة.
أما السّدّ الذي باشر مجلس الإنماء والإعمار بتنفيذه كما أسلفنا، فهو اليوم في مرحلته الأولى، التي تشمل حفر أنفاق بطول 20 كلم إنطلاقاً من الدامور، وصولاً الى الوردانية بنفق يبلغ طوله 15 كلم، وسيستكمل من الوردانيّة الى موقع السدّ في بِسري.
أمّا المرحلة الثّانية فتنطلق من الدّامور إلى خزّانات الحازميّة. وقد يستغرق تنفيذ هذه المرحلة 5 سنوات. ولمزيد من المعلومات وتسليط الضّوء على هذا المشروع القيّم التقت “الضّحى” المهندس المشرف على تنفيذ هذا المشروع الأستاذ إيلي موصلّلي،واطّلعت منه على المراحل التي قطعها إلى أن دخل أخيراً مرحلة التّنفيذ. وهنا نصّ الحوار:

> كيف وُلدتْ فكرة سَدّ بِسري، وما هي الجدوى المتوقّعة من هذا المشروع؟
سَدُّ بِسري ليس فكرة جديدة، بل فكرة قديمة يعود تاريخها الى العام 52 19 وذلك عندما اقترحت شركةUSBR إنشاء السدّ وأثبتت الجدوى من إنشاء هذا السّد في هذه المنطقة بالتّحديد. ثم جرى إدخال مشروع السدّ في منظومة مشاريع عبد العال التي نَفّذت ما يُعرف بمشروع اللّيطاني ونهر الأوّلي، وهي الشّركة التي أنشأت بُركة أنان وسَدّ القرعون.

> متى بدأت الدّراسات الهندسيّة تمهيداً لعمليّة التنفيذ؟
وُضِعت الدّراسات الأولى من قبل المصلحة الوطنيّة لنهر اللّيطاني في الثمانينيّات، وبعدها تم تحويل المشروع إلى مجلس الإنماء والإعمار، وذلك في العامين 1998 و1999. وكانت هذه الدّراسة عبارة عن استقصاءات جيوتقنيّة، بوشر بعدها بإعداد الدّراسات التّقنيّة. وكان هناك استحالة لتنفيذ المشروع نظراً لوجوده على الحدود بين الشّوف وجِزّين التي كانت تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي. فقد كان هناك صعوبة وصول المهندسين والخبراء إلى المنطقة، وخاصة لدراسة وضع التربة، فتوقف المشروع. وهذا من الأسباب، التي أخَّرت التّنفيذ الى هذا الوقت.
أمّا السّبب الثّاني للتّأخير فكان بالدّرجة الأولى ضرورة إيجاد التّمويل اللّازم لتنفيذه. وفي العام 2012 ومع بداية تنفيذ مشروع الأوّلي بتمويل من البنك الدّولي، أعطى البنك الدّولي الحكومة اللّبنانيّة وعداً بتمويل سَدّ بِسري. وبالمقابل قامت الحكومة بتأمين الدّراسات التّفصيليّة للمشروع، وأُقِرّ التّمويل في العام 2014 واليوم أنهينا إعداد معظم الدراسات تقريباً، وباشرنا التنفيذ.

ما هي المناطق التي تستفيد من هذا المشروع؟
تمتدّ المناطق المُستفيدة من الدّامور ساحلاً وإلى الجديدة ــ البوشريّة في قضاء المتن الشّمالي، مروراً بالعاصمة بيروت، والضّاحيتين الجنوبيّة والشّماليّة، وعدد من مدن وبلدات الشّوف الساحليّة، والبلدات المُماثلة في قضائيّ عاليه وبعبدا الساحليّة أيضاً، بما في ذلك الرّميلة، الجيّة، السعديّات، النّاعمة، حارة النّاعمة، الشويفات، كفرشيما، وادي شحرور، بطشاي، بعبدا، الحازميّة، المكلّس، الدّكوانة اللّويزة، الفيّاضيّة، سنّ الفيل، مار روكز، الفنار، الجديدة، والبوشريّة.

> كيف سيتمّ بناء شبكات جرّ المياه إلى هذه المناطق؟
عملية جرّ المياه ستتمّ عبر أنفاق تبدأ من منطقة جون– الوردانيّة، بطول 4 كلم. ونفق آخر من الوردانيّة الى خلدة، بطول 20كلم ومن خلدة يتمّ جر المياه الى خزانات الحازميّة، وبعد ذلك تُوَزّع المياه على المناطق الموجودة في الخارطة الخاصّة بالمشروع عبر قنوات توصيل وأنفاق تحت الأرض بعمق 40 م. والنّفق بحدّ ذاته عبارة عن قسطل مغلّف بالإسمنت من كل جوانبه. كما سيتمّ تمديد شبكات ثانويّة في المناطق المشمولة بالمشروع، مع إنشاء خزّانات صغيرة لتجميع المياه..

> كم سيستغرق تنفيذ المشروع؟
خمس سنوات، وعلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى تمت المباشرة بتنفيذها من الدامور إلى الوردانيّة، وهي كما أسلفنا تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: 10 كلم – 10 كلم – 4 كلم.

السّد يروي العاصمة
> ما هي كمية المياه المتوقّع تزويد العاصمة بها؟
في الوقت الرّاهن تتغذّى بيروت من محطّة ضبيّة بـ 250 ألف متر مُكعب يوميّاً أمّا الكمية المتوقّع الإستفادة منها من سَدّ بِسري فتصل إلى 500 ألف متر مكعب يومياً. أمّا عمليّة التّوزيع فتخضع لاستراتيجيّة خاصّة.

> كم تبلغ كُلفة المشروع الإجماليّة؟
نحو 474 مليون دولار تغطّي كلّ الاستثمارات.

> هل حدّدتم سعر متر للأراضي المُسْتملكة في المشروع؟
السّعر النّهائي لم يُحدّد بعد من قبل لجان الاستملاك المختصة، وهي عبارة عن محكمة في الوقت نفسه، مهمّتها البتّ بالأسعار، وجلسات التّحكيم بهذا الخصوص بدأت أعمالها.

> هل لديك فكرة كم سيتراوح السّعر؟
حسب شكل الأرض، وحسب التّصنيف، وهناك فرق بين الأراضي المغروسة والأراضي البور، والأراضي الحرجيّة.

> أين هو مكان السّدّ بالتّحديد؟
السَّدّ يقع ضمن خراج بلدة خربة بِسري، وبالتّحديد بمحاذاة كنيسة مار موسى قرب الجسر الذي يربط بسري بمزرعة الضَّهر وبسابا.
> ما هو إجمالي الاستملاكات؟
المساحة التّقريبيّة تصل إلى حدود 450 هكتاراً، ومع الاستملاكات تصبح 570 هكتاراً. أي أنّ مجموع الاستملاكات تبلغ 50 كيلومتراً مربّعاً.

> الى أين سيصل منسوب المياه وما هو حجم البحيرة التي يُتوقّع أن تنشأ خلف السّدّ؟
المياه ستصل شرقاً وشمالاً إلى بلدة باتر، وخراج عمّاطور ومزرعة الشّوف، بطول يبلغ 5 كلم، وعرض كلم واحد. أمّا ارتفاع السدّ فقد يصل بحسب الدّراسات إلى 73 متراً.

> الدّراسات الجيولوجيّة حول خصائص تربة وادي السّد، هل جاءت مُرْضية هندسيّاً؟
كلّ الدّراسات التي أجريناها، أفادت أنّ هذا هو المكان المناسب من الناحية الجيولوجيّة، نظراً لوجود كميّة كبيرة من الطّمي في مجرى النّهر، ومعظمها طبقات دلغانيّة. كما أنّ تصميم السدّ يلحظ إقامة حائط من الباطون المسلّح بسماكة وافية لمنع تسرّب المياه. حتى في حالات الامتصاص تبقى بداخل التّربة في أرض البحيرة ولن تذهب إلى خارج السّدّ، وهذا الحائط يجب أن يكون بعمق يزيد عن سماكة الطّمي ليمنع تسربه الى خارج السّد. لأنّ الموقع مسطّح، والطّمي متراكم عبر السّنين. مع الإشارة إلى وجود فالق كبير بقلب النّهر، لكنّ ارتفاع الحائط الذي يصل إلى 100 متر، كفيل بمنع تسرّب المياه.

> كم يبلغ ارتفاع المنطقة التي سيقام عليها السدّ عن سطح البحر؟
420 متراً عند أرض البُحَيرة، ومع منسوب المياه سيصبح 500 م

ماذا عن مصادر المياه، وكم تبلغ كميّتها؟
مصادر المياه كما بات معلوماً، ستأتي بالدّرجة الأولى من نبع جِزّين، ومن نبع الباروك، وجميع الينابيع الصّغيرة التي تصبّ في الأودية المؤدّية الى مجرى النّهر، انطلاقاً من الباروك وصولاً إلى بسري. فالدّراسة تفرض حاجة المشروع إلى كميّات كبيرة من المياه، والدّراسة الهيدرولوجيّة تلحظ أنّ الحاجة السّنويّة هي بين 125 مليون متر مكعب إلى 130 مليون متر مكعب. المهمّ في البداية ملء السّدّ، لأنّ المخزون الاستراتيجي غير قابل للاستعمال، والمياه تتجدّد كلّ سنة، وليس لدينا فائض كبير، وبالمقابل لسنا بحاجة إلى مياه إضافيّة.
> كيف سيتمّ منع تراكم الصّخور والأتربة التي تجرفها السّيول إلى البحيرة؟

المهندس-إيلي-موصللي-مدير-المشروع
المهندس-إيلي-موصللي-مدير-المشروع

مصير الثّروة الأثريّة

> من المعروف أنّ مرج بِسري غنيّ بالآثار الرّومانية وغير الرّومانية وهناك كنيسة قديمة، ماذا سيكون مصير تلك الثّروة من الآثار والمواقع التّاريخيّة؟
الآثار، والكنيسة، سيتمّ نقلها إلى مكان قريب للاستفادة منها كمعالم سياحيّة، وهناك دراسة موجودة لدى مديريّة الآثار تشير إلى عمليّة مسح للمكان من قبل بعثة بولونيّة، قامت بتحديد المواقع الأساسيّة التي ستجري الاستقصاءات حولها من أجل إزالتها. وكلّ موقع أثريّ له خصوصيّته. بالنّسبة لكنيسة مار موسى، جرى التّنسيق مع المطرانيّة، والبلديّة، والمراجع الدينيّة في المنطقة لكي تُنقل إلى مكان يحدّد لاحقاً. وكذلك تمّ التّنسيق مع مديريّة الآثار لوضع آلية لنقل الآثار وحمايتها. نظراً لوجودها بقلب البحيرة، وفي خراج عمّاطور. وهذه الآثار عبارة عن أعمدة رومانية، ومعبد للقدّيسة صوفيا، أو سانت صوفيا.

> ماذا سيكون مصير البيوت السكنيّة الموجودة ضمن حَرَم البُحيرة، وهل ستصل المياه إلى مزرعة خَفيشة التابعة لبلدة باتر؟
لا أعرف ما إذا كانت المياه ستصل إلى مزرعة خَفيشة أم لا، لأنّ استملاك المنازل السكنيّة محدود جدّاً ضمن المشروع. ومعظم المنشآت العامّة هي أراض زراعيّة سيتمّ التعويض على مالكيها بالسّعر المناسب.

> ماذا سيكون مصير حُرج عمّاطور والمرامل المُستحدَثة في تلك المنطقة؟
إنّها من ضمن الأراضي المُستملكة لأنّ منسوب المياه قد يصل إلى خراج باتر وعمّاطور. وسنعوّض على البلديات بمبلغ مقبول. وكلّ الأراضي المُستملكة من المفروض أن ندفع ثمنها، والمبالغ الماليّة مقبولة جدّاً
> بماذا ستستفيد القرى المحيطة من السدّ؟
بعد سلسلة اجتماعات أجريناها مع البلديات في السّنوات 2012 و2013 و2014 طرحنا عليهم أن يتقدّموا باقتراحات للاستفادة من المشروع سياحيّاً، وبيئيّاً، واقتصاديّاً. البعض منهم كان متجاوباً، والبعض الآخر ما زال يدرس خياراته. ونحن من جهتنا رصدنا مبلغاً من المال مخصّصاً لإفادة تلك القرى عبر مشاريع صغيرة. ونحن نفضّل أن تتقدّم هذه البلديات باقتراحات بشأنها تكون ذات جدوى ومترابطة بالمشروع، مثل إقامة أماكن للأنشطة العامة، أو مشاريع السّياحة البيئية.

> ماذا سيكون مصير درب المرج الذي ينطلق من مزرعة الشّوف وعمّاطور، إلى مرج بسري؟
أعتقد أنّ هذا الطّريق سيُقفل أو يتحوّل إلى محيط السَّدّ من ضمن برنامج السّياحة البيئيّة

القرى المحيطة
> كيف سيكون مصير القرى المحيطة بالسّدّ التي تتغذّى من مياه الباروك؟
إنّ هدف المشروع هو توزيع المياه على القرى الساحلية الواقعة تحت منسوب البحيرة، لتجنب عملية ضغط المياه أما بسابا ومزرعة الظهر فهما أعلى من السدّ، وكلفة الضّخ من تحت إلى فوق مُكلفة، ونفضّل توزيع المياه بواسطة الجاذبية. وعندما تتغذّى القرى الساحليّة بالمياه بواسطة الجاذبية، نكون قد وفرّنا استهلاك المياه للمناطق العالية التي تتغذى من الباروك بشكل غير مباشر. كما إنّ توزيع المياه على البلدات الساحلية سيكون أفضل بكثير ممّا هو عليه اليوم.

مرج بسري
مرج بسري

هل يترتّب على مجلس الإنماء والإعمار دفع مبالغ ماليّة للقرى التي يتواجد فيها ينابيع تغذّي البحيرة، مثل الباروك، وجزين، والمختارة، وحارة جندل، وجبليه، وباتر؟
إذا وجدت ينابيع أو آبار مستثمرة سيتمّ التّعويض عليها بحسب مُلكيتها.

> هل يمكن توليد الطّاقة الكهربائيّة مستقبلاً؟ هذا الأمر ملحوظ بالدّراسة، وبتمويل مستقل من البنك الإسلامي، وهناك معمل لتوليد الكهرباء بقوة 12 ميغاوات، ويمكن الاستفادة من الفارق في مستوى المياه بين السّد ومعمل شارل حلو، أو ما يُعرَف بمعمل بول أرقش.

دة في معمل أرقش؟
سيتمّ الرّبط على الشّبكة مباشرة، مع زيادة التّوربينات على مجرى مياه مستقل عن المياه المأخوذة من السّد، فيصبح لدينا كما أشرت 12 ميغاوات، سيتمّ ربطها مباشرة بشبكة كهرباء لبنان بواسطة مشروع اللّيطاني. والمشروع خَصص القرى الواقعة في محيط البحيرة بزيادة التّغذية من كهرباء اللّيطاني.

خارطة-المشروع
خارطة-المشروع

لمشاريعُ السّياحيّة

سياحياً، ماذا سيقام على ضفاف السدّ شرقاً وغرباً، أم ستحوّل الأراضي إلى هامش للبحيرة كما هو حال بحيرة القرعون؟
من حيث الاستملاك، هناك منطقة بعمق 15 مترا غير مُستملكة وهي تتطلّب مخطّطاً توجيهيّاً، وقد ناقشنا مع البلديّات حول مصير الأراضي المحيطة بالسدّ من حيث انتشار نشاطات أو عمليات تطوير غير منظّمة، وذلك لمنع التلوّث الذي قد يصيب البحيرة ومياه الشرب. وسنلحظ أيضاً منفعة القرى المحيطة بالبحيرة، وطالبنا البلديّات بوضع تصوّر لذلك. فكانت مناطق جِزّين الأكثر حماساً. ومن بين الأفكار المقترحة، غرس الأشجار في محيط البحيرة. وفي النّهاية يتوجّب على البلديّات المعنيّة وضع الأفكار المناسبة لإقامة مشاريع على جانبي البحيرة تكون جاذبة سياحياً، وسليمة بيئياً. ونحن سسنساعدهم بدراسة المخطّط التوجيهي، لكنْ عليهم تقديم اقتراحاتهم أوّلاً.

هل يسمح لأصحاب الأراضي الخاصّة بإقامة مشاريع سياحيّة على جوانب السّواقي والينابيع التي تتغذّى منها البحيرة؟
هذا الأمر مسموح شرط عدم تلوث البحيرة.

البعض قد يلجأ لإقامة سدود صغيرة على مجاري الأنهر والسّواقي التي تؤدي إلى البحيرة، فهل سيسمح بها؟
كلّ شيء ممكن ضمن القانون. ومن يُرِدْ إنشاء مشاريع سياحيّة في أملاكه الخاصّة، فعليه الالتزام بالشّروط الصّحيّة والبيئيّة، ومنع تسريب المياه الملوّثة إلى قلب البحيرة..

دور مجلس الإنماء والإعمار

من هي الجهة المشرفة على التّنفيذ، وما دور مجلس الإنماء والإعمار؟
الجهة التي تتولّى تنفيذ العمل في السّد حالياًّ هي مجلس الإنماء والإعمار. ووفق العقد سيتولّى المجلس الإشراف على المشروع إلى ما بعد انتهاء العمل مدة سنتين. وفي مرحلة لاحقة يجري تسليم المشروع والسّد إلى مصلحة مياه بيروت وجبل لبنان. باعتبارها الجهة المسؤولة عن تأمين المياه لمنطقة بيروت وضواحيها. وكذلك إدارة كلّ المنشآت مثل محطّة التّكرير، وصيانة النّفق، وكلّ المكوّنات الأخرى، كلّ الإدارات الرّسميّة مَعنيّة بها، مثل وزارة البيئة، ومجلس الإنماء والإعمار المكلّف من قبل الحكومة بتنفيذ المشروع والتأكّد من صِحّة تشغيله.

متى تتوقع أن تتشكّل بحيرة السّدّ وتغمر الأراضي المُسْتملكة؟
بالتّحديد سيكون هناك بحيرة في مرج بِسري، أي في صيف العام 2020.

هل هناك عمليّات ضخ للمياه أم أنّ المشروع كلّه مبنيّ على التوصيل بالجاذبيّة؟
ليس هناك عمليّة ضخّ، وبمجرّد وجود السدّ أصبحت المياه خلفه تذهب بالجاذبيّة 24 / 24 ساعة.

معنى ذلك أنّ كلّ المياه في مجرى النّهر ستذهب إلى بيروت؟
هذا صحيح، لكنْ هناك فائض كبير من المياه في فصل الشّتاء لا يستفاد منه بل ينتهي مهدوراً في البحر، ومن هنا الأهمية الاقتصادية لإنشاء السّد. كما أنّ استخدام المياه في الشّتاء أقلّ بكثير منه في الصيف.

كيف ستتمّ حماية السدّ من الملوّثات ومن التعدّيات البيئية؟
سيتمّ ذلك بإنشاء شبكات ومحطّات تكرير مياه الصرف الصّحيّ.

هل محطات التكرير أصبحت موجودة في غالبية القرى؟
هناك جزء منها معطّل، ويلزمه إعادة تأهيل، وخاصة لجهة جِزّين. وهذه الصيانة سنقوم بها على نفقتنا كمجلس إنماء وإعمار. والمجلس بصدد زيادة محطّات التّكرير قي المختارة، وعين قني وباتر. ومن جهة جزّين في معظم القرى، وخاصة في الغباطيّة.

هل سيكون للبحيرة أهمية من الناحية الجمالية؟
وجود بحيرة في منطقة حُرجية تحيط بها من كافّة جوانبها، مع تنظيم لضفافها سيزيدها روعة وجمالاً. تماماً كما هي حال البحيرات في أوروبا. المنطقة جميلة وستصبح أجمل.

البعض يتحدث عن مخاطر بيئيّة قد تؤثر على سكّان القرى المحيطة بالبحيرة؟
فليطمئن الجميع، لا وجود للمخاطر البيئيّة في هذا المشروع لقد تمّت دراسته بعناية وليست هناك أيّة مخاطر، لا بيئيّة ولا صحيّة.لا معوقات والمال موجود

هل ذُلِّلَت كلّ المعوقات والعراقيل أمام التّنفيذ الكامل للمشروع بحيث لا نشهد مثلا تأخيراً في بعض المراحل أو نقصاً في التّمويل أو ما شابه؟
المعوقات الفنّيَّة تمت دراستها كلّها، وكلّ اللّقاءات مع رؤساء البلديّات تشير إلى عدم وجود أيّة عراقيل، وأكثر من ذلك كانوا جميعاً مُرَحّبين بالمشروع ويستعجلون تنفيذه. على الصّعيد المالي، المال أصبح موجوداً ومؤمَّناً، وعلى الصّعيد الفنّي تمّت دراسة المشروع بشكلٍ كافٍ ووافٍ، والآن نحن مهتمّون بإطلاق عمليّات التنفيذ.

ما هي الآلية المعتمدة في التّعويض على أصحاب الأراضي الواقعة خارج نطاق السدّ؟
كل الأراضي المُصابة بالتّخطيط سَيُعوّض على أصحابها. وسيشمل التّعويض كلّ المُنشآت القائمة. بالنّسبة لحقوق المياه، لدينا كميّة مياه ستبقى في النّهر لأسباب سيكولوجية، ولا يمكننا أن نقطع المياه من قلب النّهر. المياه تذهب إلى بيروت 24/ 24 ولكن بكميّات أقل، وما يتبقّى يمكن الاستفادة منه.

هل ستستفيد صيدا وبعض مناطق الجنوب من هذا المشروع؟
بالنّسبة لمشروع سدّ بِسري، هذا الأمر غير ملحوظ، ولكنْ تحت المنظومة التي تحدّثنا عنها وهي مشروع عبد العال، يمكن جرّ المياه مستقبلاً إلى صيدا ولكنْ تفاصيل ذلك غير واضحة

أعمدة-رومانية-سيتم-نقلها-قبل-ارتفاع-مياه-السد
أعمدة-رومانية-سيتم-نقلها-قبل-ارتفاع-مياه-السد

فالق روم وخطر الزلازل

في حال حصول زلازل أو كوارث طبيعيّة، كيف يمكن تجنّب المخاطر التي قد تنتج عن ذلك وخاصة “فالق روم”؟
هذا الأمر تمّت دراسته بعناية كبيرة، وخاصّة “فالق روم” بشكل خاص، وإنّ مجلس الإنماء والإعمار كلّف استشاريّاً محلّيّاً وآخرَ أجنبيّاً. كما أُجريت سلسلة دراسات قام بها خبراء من الجامعة الأميركيّة في بيروت وتمّ من خلالها تحديد “فالق روم”. ولدينا خبير تركيّ أيضاً يعمل ضمن لجنة خبراء مستقلّين، ولقد حُدِّدت العوامل ذاتها التي اعتُمِدَت في الدّراسات السابقة من قِبَل مكاتب مختصّة في فرنسا. وإذا رأينا حجم السدّ ونوعيّته باعتباره سَدّاً رُكاميّاً يتكّوّن من ردميّات للحدِّ من مخاطر الزّلازل، لأنّ سدود الباطون معرّضة لمخاطر الزّلازل، بينما سدود الرّدميات تبقى ثابتة مهما بلغت قوّة الزّلازل

ممّ تتكوّن الرّدميّات؟
الرّدميّات لها نُواة ترابيّة لجهة المياه، وفي الخارج من اليمين إلى الشّمال ردميّات صخريّة، بحسب المواصفات صخور كبيرة، وأخرى صغيرة. وهي مُتناسقة من أكبر إلى أصغر.
> هل يمكن المقارنة بين سَدّ بِسري، وسَدّ القرعون؟
في بسري الأمر مختلف تماماً، السدّ سيُنشأ من الرّدميّات. أمّا سدّ القرعون فهو من الباطون، وقائم على فالق شهير، لكن حتى الآن لم يحصل شيء. بالنّسبة لسدّ بسري الانحدارات الخفيفة زادت من حجم الرّدميّات في قلب السَدّ كلّه، وهو ما تم أخذه بعين الاعتبار للحدّ من مخاطر الزّلازل.

كم يبعد فالق روم عن السدّ؟
من 2 إلى 3 كلم، وبعد الدّراسة تأكّد لنا أنّ تأثيره ليس خطيراً. ولديه تفريعات قد تصل إلى 0.7 من التّسارع الأفقي للجاذبيّة على مقياس ريختر بمعدل 7.8 وهذا السّدّ مقاوم للزّلازل.

هل يوجد رابط بين بُركة أنان ومشروع السّدّ؟
بين بُركة أنان ومعمل بول أرقش يوجد نفق لجرّ المياه من اللّيطاني لتوليد الكهرباء، ولا علاقة بين المشروعين.

هل يَعِدُ مجلس الإنماء والإعمار القرى المجاورة للسدّ بتزويدها بالطّاقة الكهربائيّة؟
لسنا مُتَخَصّصين في هذا الأمر، ويبقى على شركة كهرباء لبنان النّظر بأوضاع هذه القرى.

العدد 20