السبت, تشرين الثاني 23, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, تشرين الثاني 23, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

نكبــة عبـــد الله ابـــن المقفّــــــع

نكبــة عبـــد الله ابـــن المقفّــــــع

خصومــه اتهمــــوه بالتقيــــة فــي إسلامــــــه
و«رسالة الصحابة» استثارت حفيظة المنصور

يعتبر ابن المقفّع من آباء الأدب السياسي في التاريخ العربي الإسلامي، فهو الأب الرّوحي المؤسّس للآداب السلطانيّة، تلك الكتابات التي تزامن ظهورها مع ما يدعوه الجميع بحدث “انقلاب الخلافة إلى مُلك”
وكانت في جزء كبير منها نقلاً واقتباساً من التراث السياسي الفارسي والحكم اليونانيّة والتّجربة العربيّة الإسلاميّة، وتهدف هذه الآداب إلى حسن تدبير أمور الدولة الإسلامية الوليدة وتقوم على مبدأ نصيحة أولي الأمر في تسيير شؤون سلطتهم تتضمن موادّها مجموعة هائلة من النّصائح الأخلاقيّة والقواعد السلوكيّة الواجب على الحاكم اتباعها بدءاً ممّا يجب أن يكون عليه في شخصه إلى طرق التعامل مع رعيّته مروراً بكيفيّة اختيار خَدَمِه واختبارهم وسلوكه مع أعدائه1. ويرى محمّد عابد الجابري أنّ ابن المقفّع أوّل من دشّن القول في هذا الباب، فأوضاع المجتمع العربي في العصر العبّاسي الأوّل كانت تتطور في الاتّجاه نفسه الذي تطوّرت فيه أوضاع المجتمع الفارسيّ من قبل وذلك عبر عمليّة انتقاله من دولة الدّعوة والخلافة إلى دولة السّياسة والسلطان2.
لكن قدر ابن المقفع أنه عاصر زمن صراعات عنيفة على السلطة بدأت بانتصار الثورة العباسية واهتمام أعلامها بتوطيد سلطاتها وقهر خصومهم وفرض الطاعة على المجتمع وقمع الثورات وأعمال الفوضى، وكان من الطبيعي أن تورث تلك الفترة لدى الحكام حذراً طبيعياً شديداً وميلاً للقسوة في التعامل مع معارضيهم، ويعتبر الخليفة أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية وأحد أعظم خلفائها وأقدرهم على إدارة شؤون الدولة المترامية الطرف التي تعتمل فيها على الدوام عوامل الفتن والتمرد، لذلك أوعز أبو العباس السفّاح لوزيره أبي مسلم الخراساني أن “اقتل من شَكَكتَ فيه”. وغدت هذه الوصيّة سيفاً مُسلطاً على الرقاب إذ استعان بها أبو مسلم لقتل بعض نقباء الدّعوة العبّاسيّة نفسها من الذين شاء التخلّص منهم سواء لعطفهم على العلويّين أو لعلوّ شأنهم “ وأصبح العلويّون ــ وهم ذريّة علي بن أبي طالب ــ هم الخصوم الجدد لبني العباس الذين سرقوا منهم دعوة الخلافة والثورة على الأمويين بالخديعة والعنف”3.
في ذلك الزّمن المفعم بالقمع، زمن الخليفة المنصور باني العاصمة بغداد؛ قدم إليه رسول لملك الروم، فكلّف الخليفة أحد أتباعه الخلصاء “عُمارة بن حمزة” لمرافقة الرّسول المهتم بزيارة بعض معالم المدينة الناشئة، وعندما كان الرّجلان يعبران على جسر الرّصافة استرعى انتباه الرّومي فقراء يستعطون (شحّاذون)، فقال لِعُمارة “إنّي أرى عندكم قوماً يسألون، وكان يجب على صاحبك أن يرحم هؤلاء ويكفيهم مؤونتهم “4.
وقد عرفت بغداد في تلك الفترة عدداً لا يحصى من طوائف العيارين والشطّار والصّعاليك5 وأهل الكدية وهم نتاج لفساد الحياة الاقتصادية والاجتماعيّة والسياسية في العصر العباسيّ.
ولئن كان الناس قد أمِلُوا خيراً بالخلاص من دولة بني أميّة فقد

رسم تخيلي لإبن المقفع
رسم تخيلي لإبن المقفع

خابت آمالهم في الدولة الجديدة وحَنّوا لمظالم الأمويين حيال ما نالهم من خيبة في ظلّ بني العباس حتى قال الشاعر في ذلك:
يا ليتَ ظُلمَ بني مروانَ دامَ لنا وليتَ عدلَ بني العباسِ في النار

مولدُه ونشأتُه
لا يوجد دليل يقيني يوضح تاريخ مولد ابن المقفع، وبحسب البلاذُري أنه، ولد عام 80 هـ في قرية جور (فيروز أباد الحاليّة) القريبة من مدينة شيراز، ومعنى اسمه بالفارسيّة “المبارك.
لقِّب والده بـ “المقفع” لأنه اتهِم بِمّدَ يده واختلاس أموال المسلمين والدولة الإسلامية، لِذا نكّل بِه الحجاج بن يوسف الثقفي وعاقبه فضربه على أصابع يديه حتى تشنجتا وتقفَّعتا (أي تورمتا واعوجت أصابعهما ثم شُلَّت). وقال ابن خلكان في تفسيره: كان الحجاج بن يوسف الثقفي في أيام ولايته العراق وبلاد فارس قد ولّى داذويه خراج فارس، فمدّ يده وأخذ الأموال، فعذبه فتقفَّعت يده فقيل له المقفع[3]، وقيل انه سمي بالمقفع لأنه يعمل في القِفاع[3] ويبيعها، ولكن الرأي الأول هو الشائع والمعروف وعلى أساسه عرف روزبه بابن المقفع4.
وهكذا ورث الابن اسم عاهة أبيه وإليها نُسِب. وفي رواية البلاذُري أنّ ابن المقفّع في شبابه المبكّر عمل على خراج بعض كُوَرِ (نواحي) دجلة في خلافة سليمان بن عبد الملك (عصر بني أميّة) الذي امتدّت خلافته من عام 96 إلى عام 99هـ وهذا يدلّنا على أن روزْبِه كان يتمتّع بمواهب خوّلته لعمل يجمع بين مهارة الحساب ومهارة الكتابة، كما عمل كاتباً لـ يزيد بن عمر بن هُبيرة، وكان والياً على كِرمان في عهد مروان بن محمّد، آخر خليفة أموي ثم كتب بعد ذلك لابنه داود الذي قُتل في خلافة السفّاح، كما قُتِل أبوه يزيد وأخوه إبراهيم ووجوه قادتهم على الرّغم من الأمان الذي منحه الخليفة المنصور لآل هبيرة، وكتبه بخط يده وجعل قُوّاده شهوداً عليه6.
ويعقّب أحمد عُلَبي على مقتل كثيرين ممّن شغلوا أعمالاً لدى بني أميّة ومنهم صديق ابن المقفّع الحميم عبد الحميد بن يحيى الكاتب، ونجاة ابن المقفع فيقول: “أمّا كيف سَلِمَ ابن المقفّع فهذا من جملة الأمور التي لم تنفرج لها شفتا التاريخ عن جواب مقنع يشفي منّا الغليل”.

صفاته
عُرِف عبد الله بن المقفع بذكائه وكرمه وأخلاقه الحميدة، وكان له سعة وعمق في العلم والمعرفة، ما جعله من أحد كبار مثقفي عصره، حيث تقوم معارفه على مزيج من عدة ثقافات هي العربية والفارسية واليونانية إضافة إلى الهندية، ولا يخفى الأثر الطيِّب لهذه الثقافة الموسوعية إذا تصفّحتَ مؤلفاً من مؤلفاته، إذ تنهال عليك الحكمة من بين الأسطر، وتنعم بالأسلوب السلس، والذوق الرفيع.
وكان ابن المقفع ملماً بلسان العرب فصاحةً وبياناً، وكاتباً ذا أسلوب، وذلك لنشأته في ولاء آل الأهتم، ووصف بمنزلة الخليل بن أحمد بين العرب في الذكاء والعلم، واشتهر بالكرم والإيثار، والحفاظ على الصديق والوفاء للصحب، والتشدد في الخلق وصيانة النفس. ونستطيع أن نعرف عنه صدقه من خلال كتاباته وحبه للأصدقاء حتى قال: “إبذل لصديقك دمك ومالك”.

إسلامه
اتصّل ابن المقفّع برجال الدّولة الجديدة بعد سقوط الأمويين، وكتب لعيسى بن عليّ عمّ المنصور، ولزم بعض بني أخيه إسماعيل ــ عم آخر للمنصور ــ يؤدّبهم ويشتغل بتعليمهم وتثقيفهم ثمّ كتب أيضاً لسليمان بن عليّ عمّ المنصور واعتنق الإسلام، وقد روي في ذلك أنّه بينما كان يمشي ذات يوم في طريق ضيّق إذ سمع صبيّاً يتلو بصوت مرتفع قوله تعالى: “ألم نجعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، وخلقناكم أزواجاً، وجعلنا نومكم سباتاً…” فوقف مُنْصِتاً حتى أتمّ الطفل قراءة السورة، ثمّ قال في نفسه: “الحقّ أنه ليس هذا بكلام بشر”، ولم يلبث بعدها أن ذهب إلى عيسى بن علي وقال له: “لقد دخل الإسلام في قلبي وأريد أن أسلم على يديك”. فقال له عيسى: “ ليكن ذلك بمحضر من القوّاد ووجوه النّاس، فإذا كان الغد فاحضر”، ثمّ حضر طعامٌ لعيسى عشيّة هذا اليوم، فجلس ابن المقفّع يأكل ويزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: “أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟” فقال: “كرهت أن أبيت على غير دين”، فلمّا أصبح أسلم على يده ــ وسمّي عبد الله ــ وصار كاتباً له واختصّ به7.

هل كان زنديقاً؟
لم تثبت تهمة الزندقة بأي حال على عبد الله ابن المقفّع، ولا يوجد في كل آثاره المكتوبة ما يدل دلالة صريحة عليها، لكن كثيرين أظهروا شكوكاً في صدق إسلامه فهو قلما يعود إلى أحكام الإسلام أو إرثه الواسع في شرح أخلاقياته على رغم الثروة الهائلة التي تضمنها الإسلام في الكتاب والسنة وأخبار الصحافة والتابعين. وهو سئل مرة من أدبّك؟ فأجاب على الفور: “نفسي، إذا رأيت من غيري حسناً آتيه، وإن رأيت قبيحاً أبَيْته” وهذا من المفارقات لأن المسلم المؤمن غالباً ما يعتبر الإسلام الهداية التي بدلت حياته وأصبحت قانون سلوكه. واعتبر البعض أن ابن المقفع وإن لم يظهر الزندقة فإنه اعتنق الإسلام تقيّة ومن أجل تأمين حظ له في العهد العباسي الناشئ وإن قلبه بقي بالتالي متعلقاً سراً بالمجوسية، كما إن اهتمامه الشديد بالتراث الفارسي لم يكن سببه فقط انتماءه إلى ذلك التراث بل افتخاره الشديد به وشعوره الضمني أن الحضارة الفارسية التي تركها مكرهاً بسبب اعتناقه الإسلام وغيرها من المراجع اليونانية أو الهندية التي استعان بها ربما تفوق الإسلام في مضمونها، وبهذا المعنى فإن نشر ذلك الكم الكبير من التراث الفارسي كان من قبيل “المقاومة السلبية لصعود وغلبة الإسلام، وذلك عبر التذكير بمجد فارس وإظهار الحنين الضمني إلى تلك الحضارة التي قضى عليها الإسلام بعد الفتح.

نكبته
هناك إجماع على أنّ قاتله المباشر هو سفيان بن معاوية بن المهلّب بن أبي صُفرة والي البصرة من قبل الخليفة المنصور، وهو الذي خلف سليمان بن علي العباسي عمّ المنصور عليها، وكانت بين ابن المقفع وسفيان بن معاوية عداوة متأصلة نسجت حولها الأقاويل منها أن ابن المقفع كان يحتقر سفيان وأنه في مرة سبّ أمه، وأنه كان يسخر من ضخامة أنفه ويسلم عليه بالقول: السلام عليكما (أي السلام عليك وعلى أنفك الكبير) وغير ذلك لكن ابن خلّكان يعقب على هذه الروايات بقوله : “يخالجنا الشعور بأن ّهذه الرّوايات يخالطها الغلوّ، فكيف يعقل أن يصدر هذا الكلام عن إنسان عرف بأخلاقه الدمثة، ثم كيف يعقل أن يكون والي البصرة رجلاً حاكماً على هذا النّحو “الكاريكاتوري” بحيث يرضى الاستخفاف بشخصه وبالإهانة الواضحة تلحقه من غير أن يحرّك ساكناً في حينه؟” أي أن هذه الروايات تناقض أخلاق ابن المقفع واتزانه، لكن ربما نسجتها مصادر عباسية لتجعل مقتل هذا المفكر الجريء “حادثاً شخصياً” ناجماً عن ثأر أو ضغينة؛ وبذلك تخفي الأسباب السياسية لمقتله وتحطّ من قيمة موته في الوقت نفسه.
إن أكثر المؤرخين المتابعين يردون مقتل ابن المقفع لعلاقته بأعمام الخليفة المنصور الذين أعلن أحدهم وهو عبد الله بن علي الثورة على المنصور إثر موت السفاح معيناً نفسه خليفة للمسلمين، وقد سارع أبو جعفر المنصور إلى تجهيز جيش كبير فهزمه واضطره

كان ابن المقفع رغم إسلامه مبهورا بالحضارة الفارسية وعدل ملوكها وعظمتها الإدارية- هنا مشهد من آثار برسبوليس
كان ابن المقفع رغم إسلامه مبهورا بالحضارة الفارسية وعدل ملوكها وعظمتها الإدارية- هنا مشهد من آثار برسبوليس

للإلتجاء إلى شقيقيه علي وعيسى في البصرة. تبعت ذلك مساع من عدة جهات لأخذ الأمان من قبل المنصور لعمه عبد الله وكان ابن المقفع يومها كاتباً عند المنصور وقد نسب إليه أنه هو الذي أعدّ كتاب الأمان الذي طلب من الخليفة إعطاءه لعمِّه والإشهاد عليه، وكان كتاباً محكماً مُلئ بالشروط القاسية.
وممّا جاء في كتاب المقالات للنّوبختي أنّ ابن المقفّع ردّ سبعين أماناً أرسلها المنصور لعمّه ناصحاً موكّله برفضها لمآخذه عليها ولعدم احتوائها على ضمان الأمان بصورة مرضية من المنصور، وقيل أيضاً إن أحد أسباب إيعاز الخليفة المنصور بقتل ابن المقفع كتاباته الجريئة ولاسيما كتبه “رسالة الصحابة” التي وجّهها ابن المقفع ضمناً إلى الخليفة المنصور محملاً إياها بالنصائح حول كيفية سوس الرعية وإقامة العدل وما إلى ذلك من أدبيات السياسة المستقاة من التراث الفارسي لكن التي وجد فيها المنصور تجرؤاً على سلطانه في مرحلة دقيقة كانت تشهد توطيد أركان الدولة العباسية والتعامل مع أعدائها الكثيرين.

نصّ الأمان الذي وقّعه المنصور لعمّه
ممّا جاء في نسخة الأمان التي وقّعها المنصور بخطّه: “وإن أنا نلت عبد الله بن عليّ أو أحداً ممن أقدمَهُ معه بصغير من المكروه أو كبير أو أوصلت إلى أحد منهم ضرراً سرّاً أو علانية على الوجوه والأسباب كلّها تصريحاً أو كتابة أو بحيلة من الحيل فأنا نَفِيٌّ من محمد بن علي (والد الخليفة) بن عبد الله مولود لغير رِشْدة (أي ابن زنا) وقد حلّ لجميع أمّة محمد خلعي وحربي والبراءة منّي ولا بَيعة لي في رقاب المسلمين، ولا عهد ولا ذمّة وقد وجب عليهم الخروج من طاعتي وإعانة من ناوأني من جميع الخلق ولا موالاة بيني وبين أحد من المسلمين إلخ…وكتبت بخطّي ولا نيّة لي سواه، ولا يقبل الله منّي إلاّ إيّاه والوفاء به”. وقد جاء عند ابن خِلِّكان أنّ من جملة فصول الأمان هذا القول: “ومتى غدر أمير المؤمنين بعمّه عبد الله بن علي، فنساؤه طوالق، ودوابه حُبُس (أي يبطل حقه في استخدامها لمصلحته الخاصّة وتصبح موقوفة في سبيل الله) وعبيده أحرار والمسلمون في حلٍّ من بيعته”.

المنصور يغضب على كاتب نص الأمان
يروي ابن النديم في كتابه “الفهرست” أنّ المنصور سأل عمّن صاغ نصّ الأمان، فقيل له “إنّه ابن المقفّع كاتب عمّه عيسى بن علي، فأحفظ ذلك أبا جعفر لأنّ ابن المقفّع تصعّب في احتياطه فيه، فقال أبو جعفر : “ فما أحد يكفينيه!” وهذا الكلام ظاهر في تحريضه على قتل ابن المقفّع.
ويرى أحمد علبي أنّه جدير بنا أن لا نبالغ في أمر هذا الأمان، بحيث نجعله السبب المباشر الوحيد لمصرع ابن المقفّع فإنّ تحرير الأمان حدث في السنة 139هـ وفيها عُزل سليمان بن علي عن ولاية البصرة وتولّى مكانه سفيان بن معاوية في حين أنّ ابن المقفّع قُتِل في السنة 142هـ.
ويعرض علبي لرأي باحث حديث هو محمد غفراني الذي يرى أنّه لو كان الأمان سبباً مباشراً لتبرير مقتل ابن المقفّع لما صبر المنصور عليه هذه السنوات، ثم إنّ المنصور يعلم أنّ ابن المقفع كان كاتباً منفّذاً لرغبات أعمامه، فالمنصور كان قادراً على الصّبر ثلاث سنوات حتى يتخلّص من ابن المقفع وقد صبر على عمّه عبد الله بن علي قرابة عشر سنوات حتى فاز به وقتله مع ما لهذا الرجل من خطورة عسكريّة، ثمّ إن الاجتهاد القائل بأنّ ابن المقفع كان مجرّد منفذ لرغبات غيره لا يحرّره تماماً من مسؤوليته في صياغة الأمان كما إنّ حاكماً شديداً كالمنصور لم يكن في نظرنا ليأخذ القضيّة بهذه السهولة المنطقيّة بأن ابن المقفّع كان مجرّد طائع لطلب أولياء نعمته، كما إنّ ابن المقفع لم يكن شخصاً مجهولاً لدى المنصور فقد اشتغل كاتباً عنده، وكان بعيد الشّهرة كمترجم وأديب، وهو رجل مجتمع ما دام أنّ جلساءه في البصرة كانوا من عيون القوم، لذا فالمنطق يقودنا إلى أن نحكم على مسؤوليّة ابن المقفّع في كتابة الأمان من خلال ماضيه كأديب منظور، لا أن نجعل من كتابة الأمان حادثاً منفرداً.

دور أبو أيوب المورياني
وهناك إلى جانب المنصور الذي لم يكن يقبل أيّة معارضة مهما كان شأنها، وفضلاً عن سفيان بن معاوية والي الخليفة، هناك شخص آخر ينبغي تسليط الضّوء عليه هو “أبو أيّوب الموريانيّ” وكان هذا رئيس الدواوين عند المنصور ثمّ وَزَر له، لم يكن عربيّاً وقد وصل إلى هذه المرتبة الكبرى في زمن قصير، وكان مُلِمّاً بعلوم كثيرة، إلاّ أنّ ثقافته الفقهيّة لا يؤبه لها. كان أبو أيّوب يخشى أن يزاحمه أحد على رئاسة الدواوين، وكان بطبعه متشكّكاً طمّاعاً وذا سطوة، فاصطدم بكتّاب كبار في الدّولة وسعى لإطاحة كلّ منافسٍ مُحتَمل كـخالد بن برمك. والواقع أنّ آل المورياني أضحَوْا عائلة حاكمة إذ تولّى أبو أيّوب وأخوه وأبناء أخيه المناصب الكبرى، وقد شُبّهت نكبتهم التي حدثت في السنة 153هـ بنكبة البرامكة، وكان من أبرز منافسي أبي أيوب كاتبنا ابن المقفّع.
وروي أنّ المنصور أنكر شيئاً على أبي أيّوبَ فقال له: “كأنّك تحسب أنّي لا أعرف موضع أكتب الخلق وهو ابن المقفّع مولاي؟” 8 فلا شك أنّ قولاً كهذا كان كفيلاً بإثارة حفيظة أبي أيّوب على ابن المقفّع الذي سبق له وشغل عند المنصور مركز الكاتب الخاص، وكان الخليفة شديد الإعجاب بمؤهِّلاته، وهذه، في رأينا شهادة لها قيمتها، لأنّ المنصور شخصيّة تدرك أقدار الرّجال، لذا كان أبو أيوب يتحيّن الفرصة للإيقاع بابن المقفّع، فكانت مناسبة كتابة ابن المقفع الأمان المعروف التي استغلّها أبو أيوب ليوحي إلى المنصور ويحبّب إليه فكرة قتل ابن المقفّع فرضي بها، وإذا بأبي أيوب يوصل بواسطة أحد مواليه إلى سفيان بن معاوية أنّ قتل ابن المقفع ليس بالأمر الذي يسيء إلى الخليفة، فوافى هذا الخبر لدى سفيان نفساً راغبة فيه فكان ما كان.
إزاء ما يولّده تعدد الرّوايات في السبب الرئيسي لمقتل ابن المقفع

رسم تخيلي لمدينة بغداد المسوّرة كما بناها المنصور
رسم تخيلي لمدينة بغداد المسوّرة كما بناها المنصور

يقول علبي: لنا أن نتساءل عن السبب الذي أدّى إلى مقتل ابن المقفّع: أهو كتابته الأمان الشديد اللّهجة المُحْكم الحلقات الذي دبّجه بناء على رغبة عيسى بن علي؟ أم هي الضّغينة المستعرة في صدر والي البصرة على كاتبنا الجريء؟ أم إنّها الرّسالة الخيّرة، “رسالة الصّحابة” التي خاطب بها أمير المؤمنين في كثير من الدّهاء والحِنكة والشّجاعة،؟ أم تُرى أنّها تلك التّهمة الموضوعة قيد الاستهلاك، تهمة الزّندقة التي كان يُرمى بها المُصلحون أحياناً في عصره، ولكلّ عصر تُهَمُه المجهّزة لمحاربة صُنّاع الفكر والحياة. ويقرر أحمد علبي فيقول: “الرّأي عندنا أنّ الموقف الإصلاحيّ الذي اضطلع به ابن المقفّع في حياته هو سبب مصرعه، وها هي مؤلّفاته ومن ضمنها “رسالة الصّحابة” تشهد أنّه لم يهادن، في وقت لملم فيه بعض الفقهاء البارزين أنفسهم وولّوْا منزوين في بيت أو صَومعة، ضنّاً منهم بأجسادهم من أن تُجلد، أو بأرواحهم من أن تُزهَق؛ لقد آثروا السّكوت على الجهر والمصانعة على الصّراحة، أمّا الزندقة فقد توسّل بها الحكّام أحياناً كتهمة للإيقاع بخصومهم السياسيين.
لقد وجد المنصور في سفيان بن معاوية بعد ذلك بسنوات كفاءة إجراميّة للتخلّص من رجل يزعج الدّولة بآرائه و”يحرّض” الناس على الفضيلة والاستقامة وطلب العدل وسيادة الشرف دون الغدر والاغتيال. إنّه عنصر غير مرغوب به! ولنا في التاريخ العباسي أمثلة منها ملاحقة المعتزلة بعد الخليفة المأمون وتعرّضهم للقمع والاضطهاد والقتل. وليس بغريب على المنصور أن يتخلّص من ابن المقفّع فهو صاحب تاريخ في هذا الميدان وروى الطبري في تاريخه “ج8 ص 86”، أن المنصور تخلّص من محمد بن أبي العباس بواسطة “الخصيب” المتطبب الذي سقاه دواء مسموماً، وتخلّص من الشاعر سُدَيف بأن أمر أحد عمّاله فدفنه حيّاً ولمّا مات المنصور ترك لابنه المهديّ مفاتيح أحد الأبنية وكان قد شرط ألّا يُفتح إلّا بعد موته، وعندما اخترم الموت المنصور فتح المهديّ باب هذا البناء الكبير فعثر فيه على جماعة من قتلاء الطالبيين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيهم أطفال ورجال شباب، ومشايخ، عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهديّ ارتاع لما رآه وأمر فحُفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها.
يقول محمد فريد بن غازي: “عرف ابن المقفع كيف يؤدّي على حساب حياته الخاصّة الرّسالة الفلسفية التي صاغها الفيلسوف الهندي بيدبا لعدة قرون قبله. لقد عرف كيف يؤدي هذه الرسالة حتى النهاية.

آثاره
إنّ الأثر الكتابيّ الوحيد الذي لا يخالطه اقتباس أو ترجمة لابن المقفّع هو “رسالة الصحابة” بالإضافة إلى متفرّقات ثانويّة من تحميد أو تهنئة أو تعزية، ولكنه خلّف لنا كتباً تترجّح بين الاقتباس والتّرجمة منها “الأدب الصّغير” و “الأدب الكبير” وهما عند التدقيق يتضمنان اقتباسات من الآداب القديمة الهنديّة والفارسيّة والإغريقيّة. ورسالة “الأدب الوجيز للولد الصغير” وكتاب “الدرّة اليتيمة”، وقد ضُرِب به المثل في البلاغة، ويعتبر ابن المقفّع في رأس الطّبقة الأولى من الكتّاب العرب والفرس الذين أدركوا دولة بني العبس، و”زعيم كتاب الفرس والعرب “9.
وهو لم يمارس التّرجمة في فنّ واحد، بل وَردَ غير ينبوع من ينابيع المعرفة فتعدّدت موضوعاته بين حِكَميّة وتاريخيّة وحقوقيّة ودينيّة وفلسفيّة. ففي الحكمة؛ وهنا لا بد من ذكر “كليلة ودمنة” و “كتاب مزدك”، الذي يبدو أنه نوع من الأمثال.
وفي التاريخ، نقل ابن المقفع كتاب “خداينامه”، ويتضمّن تاريخ إيران منذ البدء وحتى نهاية الساسانيين، ومن مترجماته “كتاب التاج في سيرة أنو شروان” وكتاب التاج أو “تاجنامة” يدور على أحوال ملوك الفرس وأساليبهم في الحكم، وأقوالهم ورسائلهم ومراسلاتهم، كما نقل كتاب “آيين نامة”، أي كتاب الآداب والقواعد

الحكيم زرادشت تأثر المقفع الفارسي الأصل بفلسفته رغم إعلانه لإسلامه
الحكيم زرادشت تأثر المقفع الفارسي الأصل بفلسفته رغم إعلانه لإسلامه

والتقاليد وتربية النفس وكتاب “السكيسران” وكتاب “تَنْسَر”، وهذا الكتاب أقدم نص عن النّظم الفارسيّة قبل الإسلام.
وينسب المسعودي إلى ابن المقفّع أنّه نقل إلى العربيّة بعض كتب “ماني” و “ابن ديصان” و “مرقيون” وهذان الأخيران من الفلاسفة القدامى وقد عاشا في إيران وبلاد ما بين النهرين، وهما على المسيحية المتلقّحة بأفكار الحكيم الفارسيّ “ماني” ولعلّ هذا ما سهّل على خصومه اتّهامه بالزندقة، كما قيل إنّ ابن المقفّع نقل بعض كتب أرسطو من البهلويّة إلى العربيّة، وذكر بعضهم أنّ ابن المقفع اختصر هذه الكتب اليونانيّة، وقد ذهب محمد بن غازي إلى أنّ ابن المقفّع عرف الفارسيّة والعربية والسّريانيّة والعبريّة وربّما اليونانيّة.
وعموماً، فإنّ الرّجل كان يعبر في كتاباته عن حسّ اجتماعيّ إصلاحيّ كما يرى أحمد علبي، فرسالته “رسالة الصّحابة” موجّهة بالنّصح رأساً إلى أمير المؤمنين وتتميّز بالبحث في أمور سياسيّة واجتماعيّة، فنحن حيال أدب سياسي وفكر اجتماعي وهو نوع مبتكر جريء لا نعثر على نظيره إلاّ في عصر تالٍ لعصر ابن المقفّع. ويرى طه حسين في “رسالة الصّحابة” أنّها توشك أن تكون برنامج ثورة10، ويرجّح أن تكون هي التي قتلته..
فالمنصور كان خليفة قاسياً وكان يهمّه أن تُغلق الأفواه فلا تمتد الألسنة إلى الجهر، ولا حرج في أن يتحدّث الأدباء بأخبار الجاهليّة وقصصها فهي تروق لأبي جعفر لأنّها تحمل سامعيها على المهاجرة والتعزّي وإغماض العيون عن الواقع الرّاهن والغيبوية طيّ ماض مُسَلٍّ! أمّا أن ينبري مفكّر كابن المقفع ليوجّه وينصح في مشاكل اجتماعيّة وقضايا فقهيّة وأمور سياسيّة فهذه جراءة لأنّه يمشي في سبيل غير مطروق ولربّما حملت العدوى غَيْرَه على أن يعبّروا.

يرجع كتاب كليلة ودمنة إلى تراث القصة الشعبية الهندية ويعتقد أنه كتب في القرن الرابع الميلادي باللغة السنسكريتية
يرجع كتاب كليلة ودمنة إلى تراث القصة الشعبية الهندية ويعتقد أنه كتب في القرن الرابع الميلادي باللغة السنسكريتية

المنصور وابن المقفّع، منطلقان ضدّان
لقد وافت رسالة الصّحابة لابن المقفّع رجلاً صعباً، شديد المراس لا يمكن أن يكون للشورى الحقّة سبيل إلى نفسه ومزاجه، فعداوته مُرّة ومن يدلي برأي فكأنّما يفتئت على سلطانه ويشجّع الآخرين على نقض طاعته والمنصور شديد الحساسيّة بالنسبة إلى موضوع الطاعة، فهو يرى أنّ الرّعيّة لا تصلح إلاّ بها، يقول المنصور في خطبة له عَقِبَ قتل أبي مسلم الخراسانيّ : “أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وَحشة المعصية… إنّه من نازعنا عُرْوة هذا القميص (يقصد سلطة الخلافة) أجزرناه خَبِيّ هذا الغمد (يقصد: قتلناه بنصل السيف).
وهكذا كان المنصور صارماً جادّاً، فهو من الرجال البناة، ويمتاز بصفات لا نعتقد أنّ ابن المقفّع يُغفل قيمتها، فهذا الخليفة لم يعرف اللّهو سبيلاً إليه قطّ، يأخذ الحكم مأخذ المسؤوليّة، وقد عزل أحد ولاته في حضرموت لأنّه كان يتلهّى بالصّيد! ، فهو حاكم يصرف وقته بالعمل وينظر في أمور هذه الدولة الكبرى فلا يهمل شيئاً من نفقاتها ومتطلّبات أمنها، ويذكر الطبري في تاريخه أنّ ولاة البريد كانوا يكتبون إليه كل يوم بأسعار المأكولات ويطلعونه على الأنباء السياسيّة والقضائيّة والماليّة والأحداث المختلفة وكان يكره التبذير، فحافظ على أموال الدولة لأنّها حصن السلطان ودعامة الدين والدنيا وعزّهم…
ولو قدّر لابن المقفّع أن يَلِجَ تلك الحُجَيْرة التي كان يبيت فيها المنصور لعجب من زهد صاحبها بمتاع الدّنيا، إذ لن يعثر فيها إلاّ على فراش المنصور ومرافقه ودثاره وهو سيزداد عجباً عندما يعلم أنّ المنصور لا يستنكف وهو الخليفة ظل الله على الأرض عن ارتداء جُبّة مرقوعة وقميص مرقوع، بل إنّه يأمر بضرب كاتب لأنّه يسرف على نفسه فيلبس سراويل من الكَتّان11..

رأس المنصور مؤسس الدولة العباسية يطل على بغداد
رأس المنصور مؤسس الدولة العباسية يطل على بغداد

وهناك صفة في المنصور قلّما وقف عندها الدارسون وهي أنّه خطيب من الطراز الأوّل مفوّه طلق اللسان قويّ العبارة حسن القافة وهو في رأينا تكملة عبّاسيّة لتلك السلسلة الذهبيّة من خطباء العهد الأموي. هذه الخصال لا نظنّ أنّ مُصلحاً كـ “ابن المقفّع” يتغافل عن جوهرها إذا ما تحلّى بها حاكم يسوس الناس ولا يغمض الجفن عن أشجانهم، لكنّه فضلاً عن هذه الصفات كان ثعلبة داهية ماكراً دمويّاً ونعتقد أنّ آراء صحابته الذين خبروه عن كثب قدّموا أوضح شهادة في شخصه. قال عثمان بن عُمارة “إنّ حشوَ ثياب هذا العبّاسيّ لمكرٌ ونُكرٌ ودهاء”. لقد كان ابن المقفّع يأمل أن يكون المنصور مُصلحاً اجتماعيّاً لهذه الإمبراطوريّة لكن الكثير من تلك المفاهيم التي طرحها ابن المقفّع في “رسالة الصّحابة” والتي اقتبسها من معين التقاليد الفارسيّة واقترحها على الخليفة المنصور في مطالع عهده كانت سابقة لأوانها بل ربما غير مناسبة لدولة في مرحلة التأسيس تعلي شأن الطاعة ومصلحة الدولة على هذا النوع من النصح أو الوعظ للسلطان.

شهادة في كليلة ودمنة
يقول الدّينوَري في “الأخبار الطّوال”، إنّ “كسرى أبرويز” بعث إلى “بهرام” الخارج على الدولة رجلاً من ثقاته ليستطلع أمره، فكان ممّا أخبره الرسول أنّ بهرام يطيل النظر في كتاب كليلة ودمنة فقال كسرى أبرويز: “ما خفت بهرامَ قط كخوفي منه السّاعة حين أُخبرت بإدمانه النّظر في كتاب كليلة ودمنة؛ لأن قراءته تفتح للمرء رأياً أفضل من رأيه، وحزماً أكثر من حزمه، لما فيه من الآداب والفطن”.

رسم فارسي حول إحدى حكايات كليلة ودمة
رسم فارسي حول إحدى حكايات كليلة ودمة

 

غزوة بدر

غزوة بدر الكبرى

الموقعة التي غيّرت وجه التاريخ

لا الله الا الله
لا الله الا الله

 

 

مهّدت لسقوط مكّة بعد ست سنوات وفارس والعراق بعد 10
وسقوط الحكم الرومي في بلاد الشام ومصر وفلسطين

الرسول أدخل في بدر لأول مرة تكتيك القتال بالصفوف
والدفاع بدل الهجوم وكان لقيادته أثر السحر في المجاهدين

توافق جميع المؤرخين، وليس المؤرخون المسلمون فقط، على اعتبار موقعة بدر أو غزوة بدر الكبرى التي حصلت في السنة الثانية للهجرة الحدث الذي غيّر وجه التاريخ البشري بكل معنى الكلمة. فلقد خرج الرسول (ص) والمسلمون إلى تلك الغزوة وهدفهم المباشر الإستيلاء على قافلة تجارية ضخمة لقريش عائدة من بلاد الشام ويقودها الزعيم القرشي أبو سفيان بن حرب، وخرج المسلمون لأول مرة بقوة كبيرة فاقت الثلاثمائة مقاتل بسبب المعلومات التي وصلتهم عن وجود 40 مقاتلاً من قريش يحرسون القافلة من أي اعتداءات محتملة، لكن قائد القافلة أبو سفيان كان من الخبرة والفراسة بحيث تمكّن من كشف نيّة القوة الإسلامية المغيرة وحوّل طريق القافلة ساحلاً وتمكن بالتالي من إيصالها بسلام إلى مكة، لكنه وبينما كان يناور بالقافلة بهدف

رسم فارسي لمعركة بدر وقد ظهر الرسول في عمامة بيضاء وقد جاءه الملاك جبريل بالملائكة لنصرة المسلمين وهم قليلو العدد ويبشر ال
رسم فارسي لمعركة بدر وقد ظهر الرسول في عمامة بيضاء وقد جاءه الملاك جبريل بالملائكة لنصرة المسلمين وهم قليلو العدد ويبشر ال

إنقاذها أرسل على عجل إلى مكة أحد رجاله لينذر أهلها بالخطر القادم ويحثهم على إرسال نجدة ضخمة يمكنها أن تواجه جيش المسلمين. وبالفعل استنفرت قريش وأرسلت جيشاً كبيراً يضم خيرة فرسانها وقادتها لمواجهة حاسمة مع المسلمين.
المفارقة هي أن أبا سفيان أرسل إلى قريش طالباً من القوة العودة إلى مكة على اعتبار أن القافلة وصلت الحمى بأمان، لكن أبا جهل كان مصراً على قتال المسلمين خصوصاً بعد أن بلغه الفارق الكبير في القوة بين الجيشين لصالح قريش، كما إن حكيم قريش عتبة بن ربيعة وافق أبا سفيان بضرورة عودة الجيش إلى مكة واجتناب سفك الدماء وهو حذر قومه بالقول: “يا قوم أطيعوني في هؤلاء القوم فإنكم إن فعلتم لن يزال ذلك في قلوبكم، ينظر كل رجل إلى قاتل أخيه وقاتل أبيه، فاجعلوا حقها برأسي وارجعوا”.
رغم كل تلك النداءات مضت قريش إلى المواجهة معتدّة بقوتها وفرسانها وأموالها لتلقى على يد المسلمين الفقراء هزيمة نكراء قضت على 70 من صناديدها وأعطت المؤمنين والرسول (ص) نصراً عزيزاً قلب موازين القوة ومهّد لانتصار المسلمين وانتشار الإسلام في زوايا المعمورة بأسرها.
لهذا السبب، اعتبرت غزوة بدر من الأحداث التي غيّرت مجرى التاريخ، أي أنها في حدّ ذاتها كانت غزوة عادية وموقعة بين المسلمين والمشركين لكنها بسبب التوقيت الذي حصلت فيه وحجم الهزيمة التي لحقت بقريش تحوّلت إلى شرارة لأحداث هائلة لم تكن ربما في حساب المسلمين أنفسهم. ومن الأمور اللافتة أن الله سبحانه أطلق على نصر بدر في القرآن الكريم وصف “يوم الفرقان” وهو اليوم الذي فرّق به الله تعالى بين عالم قديم متخلف وبين مشروع الدولة الإسلامية التي أرست غزوة بدر قواعدها على أسس من العزة والهيبة والثقة بالنفس.
ولنذكر أن غزوة بدر حصلت يوم 17 رمضان وبعد سنتين من هجرة الرسول (ص) والمسلمين من مكة إلى المدينة نتيجة اضطهاد لا يطاق من قريش وقيام المجتمع الإسلامي الصغير في مدينة يثرب وسط قبيلتي الأوس والخزرج وعشائر اليهود. يومها كان الرسول (ص) قد بدأ يشن من قاعدته في المدينة نوعاً من حرب استنزاف لقريش من خلال سلسلة من الغزوات التي استهدفت إرهاق تجارتها والاستيلاء على بضائعها بهدف تمويل اقتصاد المدينة المتواضع والقيام بحاجات المجتمع الإسلامي الناشئ، لكن تلك الغزوات كانت معزولة وضعيفة الأثر باستثناء غزوة مهمة حصلت قبل قليل من موقعة بدر وسميت “سريّة نخلة” وقد حصلت في آخر يوم من رجب للسنة الثانية من الهجرة على مسافة بعيدة من المدينة المنورة وقريبة من عقر دار قريش مكة، وقد تميّزت الغارة بجرأة كبيرة وأدت لأول مرة إلى مغانم مهمة للمسلمين وقتل فيها أحد الحراس الأربعة للقافلة وأسر اثنان وفرّ الرابع. وبالنظر إلى التحدي الذي حملته الغزوة فإنها أحدثت توتراً غير مسبوق في قريش ودخل اليهود الذين كانوا متضايقين من وجود المسلمين في المدينة على خط تحريض قريش على الانتقام للغزوة وإخراج محمد (ص) أصحابه منها.

وبصورة عامة، فإن وضع المسلمين في المدينة، بعد سنتين من الهجرة، لم يكن مستقراً لأنهم كانوا لا يزالون أقلية وسط قبيلتي الأوس والخزرج وقبائل اليهود، وكانت قريش في مكّة في أوج قوتها وقبائل الأعراب تحيط بالمدينة من كل جانب، وهذه الأخيرة كانت تعيش قبل ذلك على الإغارة والسرقة، إلا أن قيام مجتمع إسلامي في المدينة حدّ من نشاطها وأثّر عليها اقتصادياً.
وبصورة عامة، فقد كان المسلمون يتحلّون بإيمان لا حدّ له وولاء مطلق للرسول (ص)، لكنهم كانوا لا يزالون بعيدين عن أن يصبحوا قوة يحسب حسابها ويمكن أن تبدّل واقع الجزيرة العربية، لكن المسلمين حالفهم التوفيق بسبب غرور القوة الذي كان يسيطر على قريش باعتبارها القبيلة الكبرى في الجزيرة، وبسبب عدم تقدير تلك القبيلة المنيعة لخطر الثورة الأخلاقية والروحية التي كان يحملها الإسلام، لذلك استهانوا بالرسول (ص) وصحابته وقتاً كان كافياً لتعاظم قوة المسلمين وتحولهم في وقت لاحق إلى تهديد لم يعد في إمكان قريش ردِّه أو حتى إنقاذ نفسها من سيله العرم.

رسم توضيحي لغزوة بدر
رسم توضيحي لغزوة بدر

تكتيك حربي غير مسبوق

ابتكر الرسول (ص) في قتاله في يوم بدر أسلوباً جديداً في مقاتلة الأعداء، لم يكن معروفاً من قبلُ عند العرب، إذ قاتل بنظام الصفوف، وهذا الأسلوب أشار إليه القرآن الكريم في سورة الصف في هذه الآية: } إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ{ (الصف:4) وصفة هذا الأسلوب: أن يكون المقاتلون على هيئة صفوف الصلاة، وتقل هذه الصفوف أو تكثر تبعاً لقلة المقاتلين أو كثرتهم، وتكون الصفوف الأولى من أصحاب الرماح لصد هجمات الفرسان، وتكون الصفوف التي خلفها من أصحاب النبال، لتسديدها من المهاجمين على الأعداء، واتبع الرسولُ (ص) أسلوب الدفاع ولم يهاجم قوة قريش، وكانت توجيهاته التكتيكية التي نفذها جنوده سبباً في زعزعة مركز العدو، وإضعاف نفسيته، وبذلك تحقق النصر على العدو برغم تفوقه الكبير عدداً وعِدّة.

نصر يبدّل الموازين
لكن كيف تحول مشروع غزو لقافلة تجارية إلى معركة عسكرية تواجهت فيها لأول مرة على نطاق كبير جماعة المؤمنين المستضعفة مع سلطان قريش؟ لقد خرجت أكبر قبائل العرب بقضها وقضيضها لمواجهة المسلمين، أما هؤلاء فرغم أنه كان في إمكانهم حشد جيش كبير فإنهم قدموا في ثلاثمائة رجل فقط وفرسين على اعتبار أن ذلك العدد كاف للسيطرة بسهولة على قافلة أبي سفيان، كما إنهم اصطحبوا معهم سبعين بعيراً كانوا يتناوبون ركوبها بينما يتابع الباقون الرحلة سيراً على الأقدام. لقد جاء المسلمون للغزو ولم يكونوا يتوقعون مواجهة عسكرية مع أقوى قبائل العرب.

تفوق قريش عدداً وعدّة
علم الرسول الكريم بنجاة قافلة أبي سفيان كما إنه علم بأمر الجيش القادم لقتال المسلمين وكان يمكن للمسلمين في ضوء ذلك أن يقرروا أن الغزوة فقدت مبررها وأن يعودوا بالتالي إلى المدينة بدل المواجهة، لكن الرسول (ص).قرر استشارة أصحابه في الأمر وبدأ بالمهاجرين الذين أجمعوا على الفور على تأييد فكرة التقدم لملاقاة العدو، ومنهم أبو بكر وعمر بن الخطاب والمقداد بن الأسود، إذ قال المقداد بن الأسود (وهو من الصحابة المهاجرين) للرسول (ص): “يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: }قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ{ ولكن امضِ ونحن معك”. إلا أن هؤلاء القادة الثلاثة الذين تكلموا كانوا من المهاجرين، وهم أقلية في الجيش، فأحب الرسول (ص) أن يعرف رأي قادة الأنصار، لأنهم كانوا يمثلون أغلبية الجيش، فقال: “أشيروا عليَّ أيها الناس”، وقد أدرك الصحابي الأنصاري سعد بن معاذ (وهو حاملُ لواء الأنصار) مقصد الرسول من ذلك، فنهض قائلاً: “والله لكأنك تريدنا يا رسول الله”، فقال الرسول (ص): “أجل”، قال:“لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد”.

الرسول (ص) أمر بقتل اثنين من قادة قريش الأشد عداء للإسلام وقبل فدية أسرى آخرين ودفع بالباقين إلى أهل المدينة وأوصى بهم خيراً

وقام سعد بن عبادة، فقال: “إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا”، فقال الرسول(ص): “سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم”.

التحضير للمعركة
بعد قرار المسلمين مواجهة قريش بدأ الرسول (ص) الاستعداد للمعركة فدفع لواءَ القيادة العامة إلى مصعب بن عمير، وكان هذا اللواء أبيض اللون، وقسّم جيشه إلى كتيبتين: كتيبة المهاجرين، وأعطى علمها علياً بن أبي طالب (ع) وكتيبة الأنصار، وأعطى علمها سعداً بن معاذ وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام، وعلى الميسرة المقداد بن الأسود- وكانا هما الفارسين الوحيدين في الجيش- وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة، وظلت القيادة العامة في يده هو.
كان قوام جيش قريش نحو ألف مقاتل، وكان معه حسب بعض الروايات مئة فرس وستمائة درع، وجِمال كثيرة لا يُعرف عددُها بالضبط، وكان قائده العام أبا جهل وهو عمرو بن هشام المخزومي القرشي، وكان القائمون بتموينه تسعة رجال من أشراف قريش، فكانوا ينحرون يوماً تسعاً ويوماً عشراً من الإبل.1 وكانوا اصطحبوا معهم القيان يضربون بالدفوف، ويغنّين بهجاء المسلمين.
وقبل وصول قريش إلى بدر قرر الرسول بناء على نصيحة أحد أصحابه السيطرة على ينابيع الماء بهدف منعها عن المشركين ثم اقترح سعد بن معاذ عليه بناء عريش له يكون مقرّاً لقيادته ويأمن فيه من العدو، فأثنى عليه الرسول ودعا له بخير، ثم بنى المسلمون العريش للرسول محمد على تل مشرف على ساحة القتال، وكان معه فيه أبو بكر الصديق، وكانت ثلة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون العريش.
وبدأ الرسول بالتحضير للمعركة، فصفَّ المسلمين مستقبلاً المغرب وجعل الشمس خلفه فاستقبل أعداؤه الشمس، أي جعل الشمس في ظهر جيشه وفي وجه أعدائه حتى تؤذي أشعتها أبصارهم، كما أخذ يعدّل الصفوف ويقوم بتسويتها لكي تكون مستقيمة متراصة، وبيده سهم لا ريش له يعدل به الصف، ثم بدأ بإصدار الأوامر والتوجيهات لجنده، ومنها أنه أمرهم برمي الأعداء إذا اقتربوا منهم، وليس وهم على بعد كبير، فقد قال: “إن دنا القوم منكم فانضحوهم بالنبل”، كما نهى عن سلّ السيوف إلى أن تتداخل الصفوف، قال: “ولا تسِلّوا السيوف حتى يغشوكم”، كما أمر الصحابةَ بالاقتصاد في الرمي، قال: “واسْتَبْقُوا نَبْلَكم”.
وكان لتشجيع الرسول لأصحابه أثرٌ كبيرٌ في نفوسهم ومعنوياتهم، فقد كان يحثهم على القتال ويحرضهم عليه، ومن تشجيعه أنه كان يبشر أصحابه بقتل صناديد قريش، ويحدد مكان قتلى كل واحد منهم، كما كان يبشر المسلمين بالنصر قبل بدء القتال فيقول: “أبشر أبا بكر”، وقد دعا الرسول للمسلمين بالنصر فقال: “اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني”.

بداية المعركة
بدأت المعركة بخروج رجل من جيش قريش هو الأسود بن عبد الأسد المخزومي قائلاً: “أعاهد الله لأشربن من حوضهم، أو لأهدمنّه، أو لأموتنّ دونه”، فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة وأثخنه في ساقه وهو دون الحوض، فوقع على ظهره تشخُب رجلُه دماً نحو أصحابه، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه، يريد أن تُبَرَّ يمينُه، ولكن حمزة ثنى عليه بضربة أخرى أتت عليه وهو داخل الحوض.
وردّاً على ذلك، خرج من جيش قريش ثلاثة رجال هم: عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة، وطلبوا المبارزة، فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار وهم: عوف ومعوذ ابنا الحارث وعبد الله بن رواحة، ولكن الرسول أرجعهم؛ لأنه أحب أن يبارزهم بعض أهله وذوي قرباه، وقيل إن رجال قريش هم من رفضوا مبارزة هؤلاء الأنصار، فقالوا لهم: “من أنتم؟”، قالوا: “رهط من الأنصار”، قالوا: “أكفاء كرام، ما لنا بكم حاجة، وإنما نريد بني عمنا”، ثم نادى مناديهم: “يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا”، فقال الرسول محمد: “قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي”، وبارز حمزة شيبة فقتله، وبارز علي الوليد وقتله، وبارز عبيدة بن الحارث عتبة فضرب كل واحد منهما الآخر بضربة موجعة، فكرَّ حمزة وعلي على عتبة فقتلاه، وحملا عبيدة وأتيا به إلى الرسول محمد، ولكن ما لبث أن تُوفّي متأثراً بجراحه، وقد قال عنه الرسول محمد: “أشهد أنك شهيد”.
ولما شاهد جيش قريش قتل الثلاثة الذين خرجوا للمبارزة غضبوا وهجموا على المسلمين هجوماً عاماً، فصمد المسلمون للهجوم وثبتوا في صفوفهم الدفاعية، وهم يرمون المهاجمين بالنبل كما

موقع معركة بدر اليوم
موقع معركة بدر اليوم

أمرهم الرسول محمد (ص) وكان شعارُ المسلمين: “أَحَد أَحَد”،ثم أمرهم الرسول بالهجوم قائلاً: “شدّوا”، وواعداً من يُقتل صابراً محتسباً بأن له الجنة، ومما زاد في نشاط المسلمين واندفاعهم في القتال سماعهم قول الرسول محمد: }سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ{ (القمر:45).
ومن العوامل التي ساعدت المسلمين على النصر ما أوحى به الله من أنه ألقى في قلوب المشركين الرعب في غزوة بدر، وأنه أنزل ملائكة تقاتلهم إلى جانب المؤمنين، وقد جاء في سورة الأنفال: }إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ{ (الأنفال:12) وكذلك قوله سبحانه في سورة آل عمران:}وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون{َ ثم قوله }إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ{ كما قال الرسول (ص) يوم بدر: “هذا جبريل آخذُ برأس فرسه عليه أداة الحرب”،وروي عن علي بن أبي طالب (ع) أنه قال: “فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيراً، فقال العباس بن عبد المطلب: “يا رسول الله، إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح من أحسن الناس وجهاً على فرس أبلق ما أراه في القوم”، فقال الأنصاري: “أنا أسرته يا رسول الله”، فقال: “اسكت فقد أيدك الله بملك كريم”.

حال فشل واضطراب
وبدأت أمارات الفشل والاضطراب تظهر في صفوف قريش، واقتربت المعركة من نهايتها، وبدأت جموع قريش تفِرُّ وتنسحب، وانطلق المسلمون يأسرون ويقتلون حتى تمت على قريش الهزيمة.
وقُتل القائد العام لجيش قريش، وهو عمرو بن هشام المخزومي المعروف عند المسلمين باسم أبي جهل، فقد قتله غلامان من الأنصار هما معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح، ويروي الصحابي عبد الرحمن بن عوف قصة مقتله فيقول:
“بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: “يا عم هل تعرف أبا جهل؟”، قلت: “نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟”، قال: “أُخبرت أنه يسب رسول الله (ص)، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا”، قال: فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: “ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي

مقبرة شهداء بدر
مقبرة شهداء بدر

تسألان عنه”، قال: فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله(ص) فأخبراه، فقال: “أيكما قتله؟”، فقال كل واحد منهما: “أنا قتلته”، فقال: “هل مسحتما سيفيكما؟”، قالا: “لا”، فنظر في السيفين فقال: “كلاكما قتله”.

بعد المعركة
انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين على قريش، وكان قتلى قريش سبعين رجلاً، وأُسر منهم سبعون آخرون، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم، وقُتل من المسلمين أربعة عشر رجلاً، منهم ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. ولما تمّ النصر وانهزم جيش قريش أرسل الرسول (ص) عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بانتصار بدر وهزيمة قريش.
ومكث الرسول محمد (ص) في بدرٍ ثلاثة أيام بعد المعركة أشرف فيها على دفن قتلى المسلمين في أرض المعركة، ولم يُدفن أحد منهم خارج بدر. ووقف الرسول (ص) على القتلى من قريش فقال: “بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس”، ثم أمر بهم، فسحبوا إلى قليب من قلب بدر فطُرحوا فيه، ثم وقف عليهم فقال: “يا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، ويا فلان، ويا فلان، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً”، فقال عمر بن الخطاب: “يا رسول الله! ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟”، فقال: “والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم”.

أسرى قريش
لما انتصر المسلمون يوم بدر ووقع في أيديهم سبعون أسيراً، قال الرسول (ص): “ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟”، فقال أبو بكر الصديق: “يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم واستأْنِ بهم لعل الله أن يتوب عليهم”، وقال عمر: “يا رسول الله، أخرجوك وكذبوك، قرِّبهم فاضرب أعناقهم”، وقال عبد الله بن رواحة: “يا رسول الله، انظر وادياً كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم اضرم عليهم ناراً”، فقال العباس: “قطعت رحمك”، فدخل الرسول محمد (ص) ولم يَرُدَّ عليهم شيئاً، فقال ناس: “يأخذ بقول أبي بكر”، وقال ناس: “يأخذ بقول عمر”، وقال ناس: “يأخذ بقول عبد الله بن رواحة”، فخرج عليهم الرسول محمد (ص) فقال: “إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: “فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ” ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: “إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: “وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا” وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: “وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ”
لقد كانت معاملة الرسول محمد للأسرى بأساليب متعددة، فهناك من قتل، وبعضهم قبل فيهم الفداء، والبعض الآخر منَّ عليهم، وآخرون اشترط عليهم تعليم عشرة من أبناء المسلمين مقابل المنِّ عليهم. وكان الذين قتلهم المسلمون من الأسرى في بدر: عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، ويرى المسلمون أن قتلهم ضرورة تقتضيها المصلحة العامة لدعوة الإسلام الفتية، فقد كانا من أكبر دعاة الحرب على الإسلام، فبقاؤهما يعدّ مصدر خطر كبيراً على الدين الجديد، فقد كان النضر بن الحارث يؤذي الرسول (ص) وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفُرس وأحاديث رستم وإسفنديار، فكان إذا جلس الرسول محمد مجلساً فذكَّر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب قبْلَهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم قال: “أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلم إليَّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه”، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ثم يقول: “بماذا محمد أحسن حديثاً مني؟” فلما أسره المسلمون أمر الرسول محمد بقتله، فقتله علي بن أبي طالب (ع).
ولما رجع الرسول محمد (ص) إلى المدينة المنورة فرَّق الأسرى بين أصحابه، وقال لهم: “استوصوا بهم خيراً”، وقد روي عن أبي عزيز بن عمير أخي مصعب بن عمير أنه قال: “كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله (ص): “استوصوا بالأسارى خيراً”، وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر، وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله”.
وقال أبو العاص بن الربيع: “كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيراً، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل، والتمر زادهم، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ”، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد: “وكانوا يحملوننا ويمشون”.
وبعثت قريش إلى الرسول محمد في فداء أسراهم، ففدى كلُّ قوم أسيرَهم بما رضوا، وكان ناس من الأسرى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل الرسول فداءهم أن يعلِّموا أولاد الأنصار الكتابة، وبذلك شرع الأسرى يعلِّمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلِّم عشرة من الغلمان يفدي نفسه.

نتائج المعركة
كان من أهم النتائج المباشرة لغزوة بدر أن قويت شوكة المسلمين، وأصبحوا مرهوبين في المدينة وما جاورها، كما أصبح للدولة الإسلامية الجديدة مصدرٌ للدخل من غنائم الجهاد، وبذلك انتعش حال المسلمين المادي والاقتصادي بما غنموا من غنائم بعد بؤس وفقر شديدين داما تسعة عشر شهراً.
بالنسبة لقريش كانت نتيجة المواجهة في بدر هزيمة كارثية قُتل بنتيجتها أبو جهل عمرو بن هشام وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وغيرهم من زعماء قريش الأكثر شجاعةً وقوةً وبأساً، ولم تكن غزوة بدر خسارة حربية لقريش فحسب، بل خسارة معنوية أيضاً، لأنها كسرت شوكة أكبر قبائل الجزيرة في الحجاز، ونتيجة لذلك فإن المدينة لم تعد تهدد تجارة قريش فقط، بل أصبحت تهدد أيضاً سيادتها ونفوذها في الحجاز ككل.
تلك كانت النتائج المباشرة للغزوة لكن نتائجها البعيدة كانت استراتيجية بكل معنى الكلمة، فحسب المفكر الإسلامي د. راغب سرجاني فإن أيّ محلل عسكري في ذلك الوقت لم يكن ليرى في تلك المعركة أكثر من مواجهة بين قبيلتين أو مجموعتين من الناس، أو مشاجرة بين عائلتين، لا تحمل أيَّة خطورة على القوى العالمية الموجودة آنذاك. فقد كانت جيوش الروم في ذلك الوقت تقدَّر بالملايين، وجيش فارس يزيد على مليوني جندي، وكانت الدولتان البيزنطية المسيحية والفارسية المجوسية تشكلان إمبراطوريتين راسختي الأركان منذ مئات السنين..ولكن من الذي كان يمكنه أن يتوقع يومها وبعد بدر أن مكة ستفتح بعد ست سنوات فقط ويسود الإسلام في الجزيرة كلها وأن المسلمين سيفتحون فارس بكاملها بعد 12 عاماً من ذلك التاريخ وأن إمبراطورية إسلامية مترامية الأطراف ستقوم بعد أقل من 20 عاماً لترث ممالك الروم والفرس والرومان ولتجعل من الدين الجديد أقوى قوة على وجه الأرض. لقد أنتجت بدر أكثر من انتصار عسكري محدود فهي أسست لحضارة عظيمة ستغير مجرى التاريخ الإنساني إلى الأبد.

لبنانيون في اليمن

لبنانيون في اليمن

نجيب أبو عزّ الدين

في صيف 1934 نشبت حرب بمقاييس ذلك الزمان بين ملك المملكة العربية عبد العزيز آل سعود وإمام اليمن يحيى حميد الدين، وذلك في خلاف على منطقة عسير التي يعتبرها اليمنيون تاريخياً جزءاً من اليمن كونها ولاية من ولايات بلادهم أثناء الحكم العثماني وقبل أن يستقل بها فعلياً محمد الإدريسي. ووصل الأمير فيصل نجل الملك عبد العزيز ورجاله المزودون بعقيدة ناشئة وبأسلحة أكثر حداثة إلى ميناء الحديدة اليمني بعد تراجع قبائل ومقاتلي اليمن بقيادة الأمير أحمد ولي العهد اليمني. وتداعت القيادات والشخصيات العربية والإسلامية الناشطة آنذاك إلى تشكيل لجنة لإصلاح ذات البين بين العاهلين العربيين المستقلين عن الإنتدابين البريطاني والفرنسي، واللذين اقتسما القسم العربي من السلطنة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأُولى، وذلك بموجب اتفاق سايكس بيكو عام 1916.
وكان من بين أعضاء اللجنة (الرباعية) الأمير شكيب أرسلان المناضل العربي والإسلامي الذي كلفته مواقفه وسياسته ضد الانتداب، خاصةً الفرنسي، النفي إلى سويسرا حيث راح يتابع حياته السياسية من هناك، ويراسل زعماء حركات التحرر والإستقلال في كل من لبنان وفلسطين والمغرب والجزائر وتونس، ويعقد صداقات متينة ورصينة مع زعماء العالم العربي آنذاك، وقد نجحت هذه اللجنة في إيقاف الحرب بين الطرفين، وتمّ عقد اتفاقية الطائف عام 1934، وتراجعت القوات السعودية الى الحدود الحالية بين البلدين، وظلت اتفاقية الطائف تحكم العلاقات بين البلدين رغم عدم إقتناع حكام اليمن بها، إلى أن كرّس الرئيس السابق علي عبد الله صالح هذا الاتفاق بموجب اتفاق جدّة عام 1990.
وتعود علاقة الأمير شكيب باليمن إلى الفترة التي كان فيها نائباً في مجلس «المبعوثان العثماني» وصديقاً للأعضاء اليمنيين فيه، وهو كتب تقريراً وافياً عن رحلته إلى بلاد الحجاز، وقدّم إقتراحات مفصّلة عن وجوب تطوير علاقة السلطنة بولاياتها اليمنية البعيدة، ومن بين الاقتراحات تمديد خط سكة حديدية من ولاية الحجاز آنذاك إلى اليمن على إمتداد البحر الأحمر، حتى إن الموظف العثماني يوسف بك حسن من قرية بتلون الشوفية حين عيّن قائمقاماً على أحد أقضية اليمن ووصل إليها عام 1910 كان يقول إنه رسول سياسي وسري للأمير شكيب الى اليمن وإنه مبعوث الأمير اليها، كما قال الصحافي والمناضل عجاج نويهض. صحيح أن علاقة الأمير شكيب بالإمام يحيى كانت سبقت التوسط في إنهاء الخلاف بين العاهلين الجارين إلا أن اهتمامه باليمن قد زاد بعد ذلك، وقد صُدِم بتخلف هذا القطر وعزلته عن العالم،

نجيب أبو عز الدين باللباس الرسمي اليمني
نجيب أبو عز الدين باللباس الرسمي اليمني

 

 

ذهب إلى اليمن بتشجيع من الأمير شكيب أرسلان
فأمضى فيها عقدين كاملين ولعب فيها أدواراً مهمة

وكان القادة والمناضلون العرب والمسلمون يعولون أن يكون الإمام يحيى وعاصمته صنعاء منطلقاً أو مركزاً لكيان سياسي ما يجتمع العرب تحت ظلاله، خاصةً بعد فشل تجربة الهاشميين في الحجاز وسوريا. واقترح الأمير شكيب إطلاق نهضة عربية عن طريق الإستعانة بالشباب العربي الناهض المتعلم والمتخرج من الجامعات في كل من لبنان ومصر وفلسطين والعراق لإطلاق هذه النهضة، التي تشمل قطاعات الإدارة والتربية والتعليم والمواصلات والجيش أهم عوامل قيام الدولة الحديثة. ولهذه الغاية، إتصل الأمير بمعارفه في لبنان وخارجه من أجل تشجيع الشباب المتعلم للذهاب إلى اليمن، إلا أن الإمام يحيى خيّب أمل كل هؤلاء وآثر أن تبقى إمامته تطوق أراضي اليمن وتمنع عنها رياح التغيير المتمثل بالعوامل المذكورة، أو الإستعانة بالغرباء، مع ما قد ينتج عن هذه الرياح من فساد وإفساد خلقي وديني!!
هكذا كان قدر نجيب سعيد أبو عزالدين أن يكون من بين الذين دعاهم الأمير شكيب للذهاب الى اليمن رغم معرفته بصعوبة المهمة والتي اقترح الأمير أن تكون لمدة سنة على سبيل التجربة مشبّهاً إياها بـ “الخدمة الإجبارية” في بلد عربي!! والشاب نجيب المولود في 1909 تخرّج من الجامعة الأمريكية في القاهرة، وهو ابن سعيد الموظف الذي خدم في السودان التابعة آنذاك لراية ملك مصر (تحت الحماية البريطانية)، وشقيقه الأصغر حليم، السفير لاحقاً في وزارة الخارجية اللبنانية. هذه العائلة الدرزية من بلدة العبادية معروفة بعِلمِها وعملها في الإدارة والقضاء والشأن العام منذ عهد المتصرفية، ولما لم تعد المتصرفية ولبنان الانتداب لاحقاً، يستوعبان علم وطموح ونشاط أبنائها فقد وصلت بهم أقدارهم إلى السودان ومصر واسطنبول وكذلك سويسرا، حتى إن الشاب نجيب كان قد خرج من المساحة الضيقة للعمل في لبنان الانتداب وتوظّف في مشروع منتجع مياه الحمة في فلسطين، والذي كان يملكه متمول من لبنان من عائلة ناصيف من بلدة المختارة الشوفية، وخلال عمله هناك تلقى رسالة من والده نقل إليه فيها عرض الأمير شكيب عليه الذهاب إلى اليمن، ولو لسنة واحدة للتجربة، خدمة للعروبة التي كانت الأزمات التي أصابتها تؤرق فكر الأمير، ورغم أن معرفة نجيب باليمن كانت كمعرفة باقي المتعلمين قليلة جداً، ورغم استشارة بعض الذين التقاهم، ومن بينهم الناشط السياسي والمفكر أمين الريحاني الذي زار اليمن عام 1922 وقابل إمامها، والذين نصحوه بالصبر والاستعداد لتحمل المشقة، ورغم الرسالة المبهمة التي تلقاها الأمير شكيب من الإمام بهذا الشأن والتي تعطي إنطباعاً واضحاً عن عقليته وأسلوبه في إدارة البلاد، نقول رغم كل ذلك تحمس الشاب للذهاب مثل بعض أقرانه اللبنانيين العاملين في كل من العراق والمملكة العربية السعودية.

نجيب أبو عز الدين في مهمة في إمارة الضالع
نجيب أبو عز الدين في مهمة في إمارة الضالع

عشرون عاماً في اليمن
أمضى نجيب أبو عزالدين عشرين عاماً في اليمن بدأت في أيلول عام 1936 وانتهت في أواسط العام 1956، نصفها في اليمن الإمامي الشمالي على مرحلتين والنصف الآخر في عدن مع البريطانيين، وهي مدة تعتبر طويلة في الظروف التي كانت تمرّ بها اليمن آنذاك، ورغم أن جميع الأطراف التي عمل معها قد طلبت منه الاستمرار، إلا أنه آثر، بعد عشرين عاماً، الاعتذار عن عدم مواصلة عمله هناك والعودة إلى لبنان. وكان من بين الأسباب التي دعته إلى ذلك وفاة والده من جهة ثم اعتلال صحته من جهة أُخرى، وكان قد أجرى أربع عمليات جراحية وعانى الكثير حتى إنه إضطر أثناء الحرب العالمية الثانية ومن أجل العلاج أن يسافر إلى لبنان عن طريق الهند ثم البصرة ثم براً الى بيروت!!) وهو شكا يوماً أن كل أمراض اليمن استقرت فيه!

مع الإمام يحيى
دامت هذه المرحلة ثلاثة عشر شهراً فقط، من أيلول 1936 لغاية تشرين الأول1937، وتعتبر هذه المدة من أصعب المراحل في حياته المهنية. وكما كان مفترضاً فقد التحق بوزارة الخارجية والاتصالات، وفوجئ أن الوزارة تقوم على موظف واحد هو التركي محمد راغب الذي خدم السلطنة العثمانية كقائمقام في طرابلس الشام ثم كمتصرف في اليمن قبل أن يستدعيه الإمام يحيى للخدمة بعد سقوط السلطنة. وقد شكا هذا “الوزير” لاحقاً في عهد الإمام أحمد من ضعف دوره في مواضيع العلاقات الخارجية وإهماله من قبل الإمام وأبنائه. وكانت الوزارة تتألف من غرفة في المبنى الحكومي، وكان على الموظف الجديد “نجيب” أن يترجم كل ما يصل المملكة من تقارير وطلبات وعروض أسعار، إضافة إلى أمور ليست لها علاقة بالوزارة، لأنه كان المترجم الوحيد!! كان عليه أن يستقبل الفضوليين في المكتب، يأتونه دون موعد أو سبب، ومنهم من يأتي فقط كي يستمع إلى الراديو الوحيد الموجود والمسموح به. كان على نجيب أن يتابع ما أمكن من نشرات الأخبار، ومنها نشرة أخبار إذاعة برلين باللغة العربية، وان يقوم بإعداد تقرير شبه يومي عن أحوال العالم يرفعه للإمام!!
كانت جلسة العمل الحكومي تجري حين يصل الإمام الى الديوان، فيجلس على فراش أعلى من غيره يحيط به بعض “سيوف الإسلام” من أبنائه والمكلفين ببعض المهام، وبعض الموظفين الذين يعرضون عليه أعمالهم، حيث يقرأها موظف ويبت هو فيها ويوقّع عليها بخاتمه، ثم يستمع لبعض الحضور قبل أن يخرج الى قصره للغداء، وللإستعداد لجلسة القات عصراً التي تعتبر جزءاً من العمل كذلك.
كانت الآلة الطابعة التي استقدمها معه نجيب موضوع تعجب واستغراب من الإمام والحضور في المجلس، حتى إنه طلب منه مرة أمام حضرة الإمام أن يشرح كيف يضع أوراق الكاربون بين الصفحات ويطبع بسرعة دون النظر إلى مكامن الحروف، ثم يسحب خمس نسخ من أية صفحة يطبعها!! لا بل صدم مرة حين دخل إلى المكتب موظف لوضع قيد حديدي في رجليه مبلغاً إياه أنه معاقب مع زميل له لخطأ طباعي وقعا فيه! وهو الذي كان عليه أن يعمل مساءً على ضوء قنديل كاز (نمرة 4) لينهي ترجماته وتقاريره الفائضة عن عمله في المكتب.
بدأت الأحوال تسوء والشكوى من كثرة العمل والإرهاق تتسع، علاوة على أن الحذر الدائم منه والشك به وشعوره بقلة الثقة بشخصه جعلته يفكر بعدم تجديد العقد الذي كان مقرراً لسنة واحدة قابلة للتجديد، ولما نقل تبرّمه إلى ولي العهد مطالباً بتحسين أوضاعه الوظيفية والمادية ورغبته بالعودة الى وطنه، أجابه هذا ممازحاً أن عليه أن يختار بين المتابعة في العمل وبين دخول السجن!! لكن المرض وندرة الأطباء (طبيب إيطالي واحد) عجّلا في حسم خروجه من صنعاء مرفقاً بشهادة إنهاء الخدمة التي حملت عبارات عمومية وجافة أوحت له بنكران الجميل وقلّة التقدير.

الشقيقان نجيب (بالعمامة اليمنية) وحليم ابو عزالدين بالطربوش المصري
الشقيقان نجيب (بالعمامة اليمنية) وحليم ابو عزالدين بالطربوش المصري

 

في حكومة عدن
وعلى عكس الإحباط وعدم التقدير اللذين حملهما “نجيب” من تجربته مع الإمام يحيى وأولاده، عرفت حكومة عدن البريطانية قيمته، وقدرت الحاجة إليه، واستفادت من تجربته في الشمال، ومن معرفته بأطباع الإمام وسياساته، ومن إجادته للغات، وعيّنته ضابط ارتباط سياسياً وأُسندت إليه مهاماً تضخمت مع الوقت ومنها:
1. تسوية الخلافات القائمة بين السلطنات المتحالفة مع حكومة عدن، ومنها الخلافات حول توزيع المياه النادرة والاختلاف على المراعي.
2. تسوية الخلافات بين هذه السلطنات وحكومة عدن خاصةً تلك المتعلقة بتوزيع الرواتب على السلاطين وحاشياتهم والمخصصات التي كانوا يطالبون بها. وكم من مرة عبّر عن دهشته واستغرابه لشعوره أنه عاد الى القرون الوسطى خلال زياراته الى السلطنات من أجل حل بعض القضايا العالقة بين الحكام وأنسبائهم ورعاياهم.
3. تسوية الخلافات والتعدّيات الحاصلة بين السلطنات المحاذية لدولة اليمن الإمامية الشمالية، حيث اشتكى السلاطين غالباً من جور الإمام وتعديات عماله على أراضيهم خاصةً أن هؤلاء العمال كانوا يعيبون على السلاطين والتابعين لهم عمالتهم للمحتل البريطاني ويصفونهم بالخونة للإسلام والعروبة!!
ومن أفضل من هذا الضابط الأشقر البشرة والعربي اللسان ليتعاطى مع هذه الأزمات الدائمة الوقوع، التي يصعب على الضابط البريطاني التعامل معها! لا بل أصبح “نجيب” صلة الوصل بين مسؤولي حكومة عدن ومبعوثي الإمام العلنيين والسريين. ويكشف أبو عزالدين بعض السياسة السرية التي كان ينتهجها الإمام مع البريطانيين، فبينما كان يهاجم الإنكليز علناً وجهاراً لأنهم استعماريون ومحتلون، إذ به يرسل، قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، مندوباً رفيع المستوى بمهمة سرية إلى ضابط الإرتباط ليشجع الإنكليز على احتلال مضيق باب المندب خوفاً من أطماع إيطاليا الفاشية، والتي كانت تحتل أثيوبيا وأريتريا والصومال، وتحاشياً لسيطرتها على سواحل البحر الأحمر من جهتيه، غير إن مصالح الإنكليز آنذاك وبعد نظرهم الاستعماري جعلهم يرفضون هذا العرض حتى لا يستعدوا العالمين العربي والإسلامي.
كما إن بوادر العمل السياسي بدأت تظهر لدى أبو عزالدين. فنتيجة للسياسة القمعية للإمام يحيى وولده أحمد، حاكم تعز، تجاه العناصر المتنورة في البلاد وانتشار بعض الأفكار التحررية في بلدان العالم العربي ومقاومة الاستعمار وتأثر اليمنيين بهذا الجو، اضطر بعض المتعلمين في اليمن الإمامي لأن يلجأوا إلى عدن ويطالبوا بالإصلاح والديمقراطية، وطلب بعضهم

شيبام في حضرموت عام 1945
شيبام في حضرموت عام 1945

اللجوء السياسي رسمياً، ما جعل النفور يزداد بين حكومة عدن وحكم الإمام الذي طالب بإعادة هؤلاء المعارضين أو طردهم من البلاد. وبات أبو عزّ الدين يلتقي سراً أو علناً مع هؤلاء، أمثال محمد الزبيري الذي قتل في ما بعد والأستاذ أحمد محمد نعمان، وهذا ما جعل وضع أبو عزّ الدين حرجاً تجاه السلطتين الجنوبية والشمالية، حتى إن موظفي الاستخبارات البريطانيين لم ينظروا بعين الرضا الى لقاءاته التشجيعية لهذه العناصر التحررية المطالبة بالاستقلال والمتأثرة بالجو السياسي المتنامي.وكان “نجيب” يساعد هؤلاء العناصر على صياغة بيان سياسي أحياناً أو على تخفيف ملاحقة الإنكليز لهم احياناً أخرى. لقد استمرت صداقته لهؤلاء اللاجئين حتى عندما عاد لاحقاً للعمل مع ولي العهد سيف الإسلام أحمد، الذي لبّى رغبته بتخفيف الحكم عن المناضل الأستاذ أحمد محمد نعمان المسجون في سجن مدينة حجة (وكان اسم هذا السجن يوحي بالرعب) ثم بالإفراج عنه!! ورغم الاتكال عليه من قبل حكومة عدن كان أبو عز الدين يطالب بتحسين وضعه الوظيفي، خاصةً أن صحته تراجعت نتيجة لذلك العمل في المناخ اليمني المضني. ولهذا لبى دعوة وجّهها اليه ولي العهد أحمد، أثناء زيارة رسمية له إلى عدن، للعودة إلى العمل معه في تعز ثم في صنعاء، الأمر الذي اعتبره “نجيب” إعترافاً من ولي العهد بأهميته.

مع الإمام أحمد
فشل انقلاب 18 شباط عام 1948 بالتخلص من الحكم الإمامي، رغم مقتل الإمام الكهل والمريض يحيى وإثنين من أبنائه ورئيس وزرائه عبد الله العمري، وسارع الإمام أحمد بالعودة من تعز ليقضي، بالتعاون مع القبائل، على العهد الجديد قبل شهر آذار من العام ذاته، حيث نكّل بالانقلابيين وسجن بعضهم. تلقى السيد أبو عزّ الدين برقيتين متلاحقتين من شقيق الإمام أحمد يلحّ عليه بالعودة إلى تعز للعمل مع الإمام الجديد وكان قد طلِب منه قبل الاستدعاء بحوالي سنة الإلتحاق بالوفد اليمني الذاهب الى لندن لحضور الطاولة المستديرة حول القضية الفلسطينية، رغم أنه لم يكن مرتبطاً بالنظام الملكي، فإن الحاجة إلى مهارته وخبرته السياسية وقدراته اللغوية باتت ملحة أكثر من قبل ، خصوصاً بعد أن أبصرت الجامعة العربية النور وأصبحت القضية الفلسطينية الشغل الشاغل للعالم العربي، وبات الانفتاح أو الاهتمام بالشأن الإقليمي والدولي حاجة إضافية للنظام اليمني بعد أن أصبحعضواً مؤسساً للجامعة، مما حتّم خروج هذا النظام مما كان معتاداً عليه من عزلة وعدم مشاركة في القضايا العربية.
عاد أبو عزّ الدين إلى الشمال مقدَّراً ومستفاداً من خدمته وخبرته السابقتين للإمام الراحل ولولده الإمام الحالي، وقد تلقى عبارات التقدير والثناء من الإمام ومن كبار المستشارين، وأنزله الإمام في دار الضيافة في تعز ليظل قربه وليشرف على راحة الضيوف الرسميين، وليتابع جهاز راديو البطارية الوحيد الذي ينقل أخبار العالم ولتعود غرفته من جديد ملتقى الفضوليين ونزلاء دار الضيافة. وأُضيفت إلى مهامه وظيفة جديدة حساسة وهي تدريس ولد الإمام، الإمام البدر، اللغة الإنكليزية ومبادئ القانون الدولي على اعتبار ما سيكون له من دور في المستقبل، ولما رأى أن المسؤوليات التي باتت تلقى عليه بهذا القدر من الأهمية، طالب بالحصول على لقب “سفير”. ولعلّ السيد نجيب تمنى الحصول على هذا اللقب لوجود بعض أقرانه اللبنانيين يعملون كما أسلفنا في العراق والمملكة العربية السعودية، وحصلوا على لقب مماثل، كما هي الحال مع فؤاد بك حمزة اللبناني من بلدة عبيه، والذي حصل على ذلك اللقب في السعودية، علاوة على أن أخاه حليماً صار بمثابة قنصل عام لبناني في القاهرة، وقد التقى به نجيب مرة هناك أثناء مروره بالقاهرة.

مع الأمير شكيب أرسلان والوفد اليمني أثناء مؤتمر حول الوضع في فلسطين عقد في لندن عام 1946
مع الأمير شكيب أرسلان والوفد اليمني أثناء مؤتمر حول الوضع في فلسطين عقد في لندن عام 1946

دور سياسي ودبلوماسي
لم يلب الملك يحيى، الذي لم يكن متساهلاً كعادته رغبة نجيب وأقنعه بأن كونه المستشار السياسي الأوحد له يفوق هذا اللقب! وكانت وزارة الخارجية قد “ تضخمت” وباتت تضم حوالي عشرة موظفين ومن بينهم السيد سامي أبو عز الدين الذي استقدمه نجيب ليعمل معه في الوزارة لمدة يبدو أنها لم تطل كثيراً! وكون “نجيب” قد صار مسؤول المراسم وقريباً من الملك، فإنه بات يتابع معظم اللقاءات والزيارات والوفود التي كانت تزور تعز، ولقد روى بعض الأحداث الطريفة التي كان شاهداً عليها ومنها تقديم أوراق اعتماد سفير باكستان. كانت باكستان عضواً في رابطة دول الكمنولث في ذلك الحين، وكان سفراؤها يقدمون أوراق اعتمادهم باسم جلالة ملكة بريطانيا، وهذا ما رفضه الملك أحمد واعتبره إهانة للإسلام أن يقدم سفير مسلم أوراق اعتماده باسم ملكة بريطانيا!! عقد كبار رجال الخارجية إجتماعاً هاماً وزاروا الإمام راجين منه أن يقبل كتاب الرئيس الباكستاني بمثابة أوراق اعتماد والضرب صفحاً عن كتاب الملكة. “وقد ألهم الله جلالته قبول رجاء المسؤولين في الخارجية فقام السفير بمقابلة جلالة الإمام وقدم له أوراق اعتماده الرسمية” قبل أن يعود الى مقر إقامته في القاهرة!
هكذا صار الأستاذ نجيب جزءأً ضرورياً من الجهاز الإمامي الدبلوماسي اليمني يمارس البروتوكول والترجمة والعلاقات العامة والنصح للإمام الناشئ ولي العهد البدر، وكذلك عضواً في البعثات اليمنية التي ستنتدب الى خارج البلاد. ففي أواخر العام 1948 تشكل وفد يمني رفيع المستوى برئاسة الإمام البدر غايته التوسط في الخلافات وحل النزاعات الناشئة بين بعض الملوك والرؤساء العرب، وكذلك تدشين سياسة انفتاح يمني تحل محل سياسة العزلة التي تميزت بها السياسة اليمنية تقليدياً، واستهدف الوفد أيضاً التعرّف على ما كان يجري في العالم العربي، وقد شعر أبو عز الدين بالفخر لهذا الانفتاح واعتبره نتيجة تأثيره وتعاطيه الدائم مع الإمام البدر وشملت الزيارة، الرسمية والسياحية، كلاً من المملكة العربية السعودية والمملكة الأردنية الهاشمية وسوريا ولبنان ومصر ودامت مدة 125 يوماً قابل خلالها ولي العهد والوفد الرسمي كل المسؤولين في هذه البلدان، وكان للسيد نجيب دور في تكريم واستضافة الوفد في لبنان وفي عقد معاهدة سميت “معاهدة الصداقة والتجارة بين لبنان واليمن”، وجرى تعيينه لاحقاً مرافقاً للوفد اليمني إلى دورة الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك في أيلول 1949، وساهم في ما بعد في إنشاء المفوضية اليمنية المتوكلية في واشنطن عام 1951.

الإمام أحمد حميد الدين قال لنجيب أبو عز الدين يكفيك أنك مستشاري السياسي الأوحد
الإمام أحمد حميد الدين قال لنجيب أبو عز الدين يكفيك أنك مستشاري السياسي الأوحد

مديراً في هيئة الأمم المتحدة
استفاد السيد أبو عز الدين من وجوده في نيويورك لينتقل الى الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة بمنصب مدير مساعد لقسم الشرق الأوسط وأفريقيا، وقد أوصله هذا المنصب ليكون بين عامي 1954 و 1956 مستشاراً وضابط ارتباط في بعثة الأمم المتحدة في الصومال خلال فترة نقل هذا البلد من الاحتلال الإيطالي بعد الحرب العالمية الثانية الى أصحاب البلاد الشرعيين. هذا الانتقال للعمل في المنظمة الدولية لم يتم برضا الإمام، فإذا به يستدعيه لمرافقته إلى جدة لحضور جلسات الحلف الدفاعي الثلاثي الذي انعقد بين الملك عبد العزيز بن سعود والرئيس جمال عبد الناصر وإمام اليمن، وشارك “نجيب” في هذا الاجتماع الهام رغم كونه ما زال محسوباً على هيئة موظفي الأُمم المتحدة في الصومال.
لم يسمح إعتلال صحة “نجيب” بمتابعة عمله وتنقله في مناخ غير مؤات في اليمن أو الصومال، فآثر العودة رغم إلحاح الإمام احمد وولده البدر عليه بالبقاء ومحاولة إغرائه بتحسين وضعه الوظيفي والمادي، وقد تزامن اعتلال صحته مع وفاة والده عام 1956 فاستقر في لبنان نهائياً.

كتابان عن أيامه اليمنية
أرّخ الأُستاذ نجيب أبو عزالدين تجربته اليمنية في كتابين: الأول بعنوان “الإمارات اليمنية الجنوبية 1937-1947” وصدر عام 1989، والثاني بعنوان “عشرون عاماً في خدمة اليمن” وصدر عام 1990. وفي حين اقتصر الكتاب الأول على تجربته وعمله ومغامراته في القسم الجنوبي من اليمن الخاضع للحماية البريطانية، صدر الكتاب الثاني بصورة أشمل وأعمق، ويبدو أنه كان يدون قسماً من مضمون الكتابين على شكل مذكرات كتبها أثناء عمله ثم عاد ليصيغها من جديد بأُسلوب فيه من السلاسة واللباقة، والسخرية أحياناً، للتعبير عن غرابة الموقف والحدث. وتنمّ تجربته عن الصدق والمثابرة والتواضع وحتى التفاني والصبر في ممارسة عمله، مما أكسبه تقدير وثقة من تعامل معهم في ناحيتي اليمن، ولو لم يكن يتمتع بهذه الصفات لما تحمّل ما تحمّله، ولما صار موضع ثقة الإمام وأبنائه رغم حذرهم منه غالباً، ومن كل غريب يتعامل معهم.
والى جانب الأحداث والمهام الموكلة إليه، جمع الأستاذ نجيب كمية كبيرة من الملاحق والوثائق ونصوص المعاهدات، كذلك أضاف الى تدوين تجاربه معلومات عن المحميات الجنوبية وطرق تعاطيها مع البريطانيين، كذلك عن عادات الأئمة وتاريخهم دون أن يتطرق الى مذهبهم الزيدي إلا لماماً، لذا يبقى هذان الكتابان مرجعاً لنصوص المعاهدات والاتفاقيات المبرمة آنذاك، وهي نادرة الورود في مراجع يمنية أُخرى. وهو لم يستند إلى تجاربه ومشاهداته فقط، إنما تزود بمعلومات قيمة من مراجع إنكليزية وعربية، ما زالت حاضرة في مكتبته، هذا الى جانب مجموعة من الصور النادرة عن بعض الأئمة أو الأمراء والسلاطين والضباط البريطانيين والشخصيات التي التقى بها.

دار الهجرة - وهو القصر الذي بناه الإمام يحي ليكون مقر إقامته الصيفي
دار الهجرة – وهو القصر الذي بناه الإمام يحي ليكون مقر إقامته الصيفي

لقد عزّ على الأستاذ نجيب ألا تنال هذه العشرون سنة من خدمة اليمن التقدير اللازم ومن التعويض المعنوي والمادي، كما لم يحصل على أي لقب يليق بما قدمه، مثل لقب سفير أو ممثل دولة أو ملك كما حصل على مثله بعض من خدم في عواصم أُخرى. ونحن حين نعود الى سيرة الأستاذ نجيب والكلام عن تجربته في اليمن، نكون قد أعدنا ذكراه إلى الضوء وأوفيناه بعض التقدير الذي كان يستحقه، لينضم الى قافلة عريقة من شخصيات عائلة أبوعز الدين، وليبقى علماً من أعلامها في الوطنية والخدمة العامة في لبنان والخارج.

تاريخ الموحِّدين الدروز والموارنة

تاريخ الموحِّدين الدروز والموارنة

في ضوء مؤلفاتهم القديمة

(القسم الثاني)

تاريخ بيروت لصالح بن يحيىإن صالح بن يحيى هو من الأمراء البحتريين التنوخيين. تاريخ ولادته وتاريخ وفاته مجهولان، إمَّا لأنه لم يقيّض له من يسجّلهما، أو أن هذين الأمرين دُوِّنا في أحد المستندات التي لم تصل إلينا. عُرف عنه توقُّفه عن الكتابة سنة 840هـ (1453م) مما يحمل على الربط بين ذلك وبين تاريخ وفاته، فيجعلها بعد هذه السنة بقليل.
سمّى صالح بن يحيى مخطوطه “أخبار السلف”، وشاءه في الأصل تذكرة نسب لأسرته جعلها “وقفاً على البيت لا يخرج عن الخلف، ولا تُعار لغيرهم، لأنه كتاب لا ينتفع به غير أربابها”، لذا كان ما كتبه لا يفيد، في رأيه، غير أسرته البحترية التنوخية، لكنه خرج من أيديها ليصبح تاريخاً يستفيد منه الجميع دون أسرته التي اندثرت مع الأيام بسبب قلة مواليدها وكثرة قتلاها في الحروب، حتى إن الذين يحملون شهرة “التنوخي” انقرضوا في المجزرة التي أجراها بهم الأمير علي علم الدين اليمني، في عبيه، سنة 1633، والذين بقوا منهم غيَّروا شهرتهم فأصبحت بأسماء الجدود والآباء الأقربين.
إن مخطوط صالح بن يحيى، المدوَّن بلغة عصر الانحطاط، يشتمل على أغلاط لغوية، وألفاظ وجمل أشبه بلهجة العامية حالت دون نشر المستشرقين له حين صمَّموا على ذلك، ولكن هذا الشكل غير السليم لغويّاً حوى مضموناً تاريخيّاً سليماً ودقيقاً وموضوعياً، ذلك أن صالح كتب بأمانة كلّية، معتمداً على ما عند البحتريين من مناشير أولي الأمر لأمرائهم، ومن أوراق أخرى ومستندات، ومعتمداً أيضاً على ما سمعه من الأقوال والروايات الصحيحة عن أسلافه بعد التدقيق فيها، وعلى ما شاهده وما قام به شخصيّاً. وإضافة إلى ذلك كتب العديد من الصفحات استناداً إلى المصادر التاريخية التي اطَّلع عليها.
كما عُثر على مخطوط كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” في مكتبة بلدية روان الفرنسية، هكذا عُثر على مخطوط صالح بن يحيى في مكتبة باريس العمومية، وهذا مما يدلُّ على أن الكثير من الأصول التاريخية المتعلِّقة بنا موجودة عند غيرنا، ولا سيما في مكتبات مدن الدول الأوروبية، وأن غيرنا حريص عليها أكثر منا، ولولا حرصه على مخطوط صالح بن يحيى لضاع، وضاع معه معظم تاريخ البحتريين التنوخيين وتاريخ “الغرب”. وقد عَثر على هذا المخطوط الأب لويس شيخو اليسوعي (1858-1927) في سنة 1894، فعمد إلى نقله ونشره تباعاً في مجلة “المشرق” في سنتَي 1898و1899، ثم أصدره كتاباً في سنة 1902، أُعيد طبعه في سنة 1927، وهو بعنوان “تاريخ بيروت وأخبار الأمراء البحتريين من بني الغرب”.
لكن تحقيق الأب لويس شيخو للمخطوط تضمَّن أخطاء كثيرة، وحُذفت منه مقاطع عديدة بما فيها معظم المقاطع الشعرية، لصعوبة قراءتها، وكان يتطلَّب المزيد من الإيضاحات والتفسيرات، مما استدعى إعادة تحقيقه من قبل الأب فرنسيس هورس اليسوعي الذي تعاون مع الدكتور كمال سليمان الصليبي، والأستاذ أنطوان مدوّر، والسيد بيار روكالف، والسيد أنطوان كوتان، والنقيب يوسف وهبه، وصدر الكتاب في سنة 1967 بعنوان “تاريخ بيروت وهو أخبار السلف من ذرّيَّة بحتر بن علي أمير الغرب”، وهذا الكتاب سنعتمد عليه.
وبما أن نسخ الكتاب من التحقيقَين فُقدت، ونظراً الى الطلب عليه بسبب أهميته كأحد المصادر التاريخية المهمة، قامت دار الفكر الحديث للطباعة والنشر سنة 1990 بإعادة طبع الكتاب الذي حقّقه الأب لويس شيخو، وقامت مؤسسة التراث الدرزي سنة 2015 بإعادة طبع الكتاب الذي حقَّقه الأب فرنسيس هورس اليسوعي بالتعاون مع الدكتور كمال سليمان الصليبي، وفي هذين الأمرين دليل إضافي على أهمّيّة هذا المصدر.

تاريخ مدينة بيروت إنّ الذين حقَّقوا مخطوط صالح بن يحيى، المسمَّى عنده أخبار السلف، أعطوه اسم “تاريخ بيروت”، وأضافوا إليه أخبار السلف، وما ذلك إلاَّ لأن صالح بن يحيى بدأ مخطوطه بالكلام عن بيروت وتحدَّث عنها في صفحات بلغت 31 صفحة في الكتاب المحقَّق للمرة الثانية، فقال: “ولما كان المكان متقدّماً على المتمكّن، فوجب المبتدى بذكر الوطن وإن كان الساكن أفضل من المسكن1.
تحدَّث صالح بن يحيى في 11 فصلاً عن بيروت، فذكر قدمها وإطارها الجغرافي وأخبارها ومشاهيرها وقواعدها وفتوحها الثلاثة، وهي فتح المسلمين الأول لها وأخذها من البيزنطيين سنة 636م عند فتحهم الشام، ثم أخذ الفرنجة لها من المسلمين، وفتح المسلمين لها للمرة الثانية سنة 1187م على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي ثم عودة الفرنجة إليها، وفتح المسلمين لها للمرة الثالثة سنة 1291م عند طردهم للفرنجة نهائيّاً من الشرق.
اعتمد صالح بن يحيى في ما كتبه عن بيروت على ما وصله من أخبار أسرته عن المشاركة في الدفاع عنها، والإسهام في إعمارها، كما اعتمد في كتابة سائر نواحي تاريخها وناحية آثارها على المؤرخين والجغرافيين العرب وهم: المسعودي، وياقوت الحموي، وأبو الفداء، والنويري، وابن سعيد، وأبو شامة المقدسي، وأحمد بن شاكر الكتبي. وبناءً على هذا، استطاع أن يكتب الأخبار الصحيحة، كما استطاع بالاعتماد على الجغرافيين أن يحدِّد طول بيروت وعرضها بدقة.
من الحوادث التي يذكرها صالح بن يحيى هجوم التعميرة الجنوية على بيروت بعد هجومها على صيدا في العشر الأول من جمادى الآخر سنة 784هـ (آب 1382م)، وتصدِّي والد صالح (الأمير سيف الدين يحيى) ومعه جماعة من المسلمين للمهاجمين من الفرنجة ونزعهم السنجق الذي ركّزه أحد قادتهم، وإنزال الهزيمة بهم. ومن الحوادث أيضاً هجوم الفرنجة على بيروت في 20 محرم من سنة 806هـ (آب فرنسيس هورس اليسوعي الذي تعاون مع الدكتور كمال سليمان الصليبي، والأستاذ أنطوان مدوّر، والسيد بيار روكالف، والسيد أنطوان كوتان، والنقيب يوسف وهبه، وصدر الكتاب في سنة 1967 بعنوان “تاريخ بيروت وهو أخبار السلف من ذرّيَّة بحتر بن علي أمير الغرب”، وهذا الكتاب سنعتمد عليه.
وبما أن نسخ الكتاب من التحقيقَين فُقدت، ونظراً الى الطلب عليه بسبب أهميته كأحد المصادر التاريخية المهمة، قامت دار الفكر الحديث للطباعة والنشر سنة 1990 بإعادة طبع الكتاب الذي حقّقه الأب لويس شيخو، وقامت مؤسسة التراث الدرزي سنة 2015 بإعادة طبع الكتاب الذي حقَّقه الأب فرنسيس هورس اليسوعي بالتعاون مع الدكتور كمال سليمان الصليبي، وفي هذين الأمرين دليل إضافي على أهمّيّة هذا المصدر.

شن-المماليك-حملات-على-إمارة-الغرب-وأوقعوا-فيها-خسائر-كبيرة(1)
شن-المماليك-حملات-على-إمارة-الغرب-وأوقعوا-فيها-خسائر-كبيرة)

تاريخ مدينة بيروت
إنّ الذين حقَّقوا مخطوط صالح بن يحيى، المسمَّى عنده أخبار السلف، أعطوه اسم “تاريخ بيروت”، وأضافوا إليه أخبار السلف، وما ذلك إلاَّ لأن صالح بن يحيى بدأ مخطوطه بالكلام عن بيروت وتحدَّث عنها في صفحات بلغت 31 صفحة في الكتاب المحقَّق للمرة الثانية، فقال: “ولما كان المكان متقدّماً على المتمكّن، فوجب المبتدى بذكر الوطن وإن كان الساكن أفضل من المسكن1.
تحدَّث صالح بن يحيى في 11 فصلاً عن بيروت، فذكر قدمها وإطارها الجغرافي وأخبارها ومشاهيرها وقواعدها وفتوحها الثلاثة، وهي فتح المسلمين الأول لها وأخذها من البيزنطيين سنة 636م عند فتحهم الشام، ثم أخذ الفرنجة لها من المسلمين، وفتح المسلمين لها للمرة الثانية سنة 1187م على يد السلطان صلاح الدين الأيوبي ثم عودة الفرنجة إليها، وفتح المسلمين لها للمرة الثالثة سنة 1291م عند طردهم للفرنجة نهائيّاً من الشرق.
اعتمد صالح بن يحيى في ما كتبه عن بيروت على ما وصله من أخبار أسرته عن المشاركة في الدفاع عنها، والإسهام في إعمارها، كما اعتمد في كتابة سائر نواحي تاريخها وناحية آثارها على المؤرخين والجغرافيين العرب وهم: المسعودي، وياقوت الحموي، وأبو الفداء، والنويري، وابن سعيد، وأبو شامة المقدسي، وأحمد بن شاكر الكتبي. وبناءً على هذا، استطاع أن يكتب الأخبار الصحيحة، كما استطاع بالاعتماد على الجغرافيين أن يحدِّد طول بيروت وعرضها بدقة.
من الحوادث التي يذكرها صالح بن يحيى هجوم التعميرة الجنوية على بيروت بعد هجومها على صيدا في العشر الأول من جمادى الآخر سنة 784هـ (آب 1382م)، وتصدِّي والد صالح (الأمير سيف الدين يحيى) ومعه جماعة من المسلمين للمهاجمين من الفرنجة ونزعهم السنجق الذي ركّزه أحد قادتهم، وإنزال الهزيمة بهم. ومن الحوادث أيضاً هجوم الفرنجة على بيروت في 20 محرم من سنة 806هـ (آب 1403م)، واشتغال أهل بيروت بترحيل الحريم والأولاد، وخُلوِّ المدينة من المقاتلين سوى بعض أمراء “الغرب” ومعهم بعض جماعتهم، فتملَّك الفرنجة بيروت وأحرقوا الدار التي يملكها والد صالح بن يحيى والسوق القريبة من الميناء.
ويذكر صالح بن يحيى طريقة إعلام المثاغرين في بيروت للجند الموجود في دمشق كي يهبَّ إلى الدفاع عن بيروت عند حصول أيّ غزو لها، وهذه الطريقة هي إشعال النار ليلاً من ظاهر بيروت، فتجاوبها نار في رأس بيروت العتيقة (بيت مري) ومنه إلى جبل بوارش (جبل الكنيسة) ومنه إلى جبل يبوس ومنه إلى جبل الصالحية (جبل قاسيون) ومنه إلى قلعة دمشق.

نسب البحتريين التنوخيين
من الأمور المهمّة التي أوردها صالح بن يحيى سلسلةُ نسب أجداده إلى الأمير بحتر المتحدِّر من الأمير تنوخ، المتحدِّر من الأمير تميم ابن الملك النعمان (أبو قابوس) اللخمي. وبهذا يكون التنوخيون كالأرسلانيين وبني فوارس وآل عبد الله لخميَّين، يلتقون معاً عند الملك النعمان (أبو قابوس)، وفي هذا أحد الأدلَّة على أن تنوخيِّي لبنان مناذرة ينتمون إلى الأمير تنوخ المنذريّ اللخميّ، ولا علاقة لهم بالتنوخيين الذين ينتسبون إلى قبيلة تنوخ أو حلف تنوخ، بحسب ما جاء عند الكثير من المؤرِّخين الذين خلطوا بين التنوخيين هؤلاء والتنوخيين أولئك. وكما ذكر صالح بن يحيى أن أسرته البحترية التنوخية لخمية منذريّة كالأرسلانيِّين، هكذا ذكر السجلّ الأرسلاني، وجعلهم الأمير شكيب أرسلان الذي قال: “إن الأمراء التنوخيين اللبنانيِّين والأمراء الأرسلانيّين من أصل واحد هو لخم ولا علاقة لهم بقبيلة تنوخ”2.
إن ما ورد عند صالح بن يحيى عن الأصل المنذريّ اللخمي للبحتريين التنوخيين، يؤكِّده ما جاء في وصية أحد أمرائهم، الأمير السيد عبد الله (قدَّس الله سرَّه) المدوَّنة في سنة 820هـ (1417م)، وهو التعريف به بأنه من نسل الأمير “جمال الدين حجى ابن أمير الغرب التنوخي الجميهري اللخمي”، كما يؤكِّده كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” المدوَّن في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وفيه إشارة إلى “الأمير ناصر الدين الجميهري اللخمي”، ويؤكِّده أول إثبات للسجل الأرسلاني بتاريخ 141هـ (758م).

ترجمة الأمراء البحتريين التنوخيين
خصَّص صالح بن يحيى معظم كتابه للحديث عن أسرته البحترية التنوخية، فترجم لأكثر من 60 أميراً منها، وأتى في ترجمتهم على ذكر الكثير من القادة وولاة الأمور وسائر من تعاطى معهم. وأورد حرفيّاً المناشير المرسلة إلى أمراء “الغرب” منهم، الذين لهم الأمرية الكبرى. وهذه المناشير تحدِّد إقطاعهم، والقرى التي يتضمَّنها والتي يمكن اعتبارها مع القرى والمزارع التي أقام فيها التنوخيون أطلساً تاريخيّاً جغرافياً لقسم من جبل لبنان.
ذكر صالح بن يحيى ولادات ووفَيات وزيجات الأمراء البحتريين التنوخيين، وذكر مراكز إقاماتهم وعلاقاتهم مع بعضهم بعضاً، وعلاقاتهم مع الآخرين، وما يتخلّل ذلك من نزاعات. وبالرغم من اتِّصافه بالموضوعيّة، فإنه كان مُحابياً لأبناء أسرته أحياناً، وذلك بمهاجمته لأخصامهم مثل بني أبي الجيش أو بني سعدان – وهم الأمراء الأرسلانيون- لأن هؤلاء يبغضون البحتريين وقد وشَوْا، بحسب ما ذكر، عليهم. وكان يمتدح محبِّي أسرته مثل آل علم الدين الذين هم أصلاً من آل عبد الله، لكنه ألحقهم بالنسب بالبحتريين التنوخيين، فيما الحقيقة أنهم اعتبروا من هؤلاء بالمصاهرة لا بالنسب3.
لم يقتصر صالح بن يحيى في ترجمته للأمراء البحتريِّين التنوخيين على ذكر النواحي السياسية والعسكرية والجهادية، بل إنه تطرَّق أيضاً إلى إلمامهم بالصناعة والحِرف على مختلف وجوهها المعروفة آنذاك كصناعة الأسلحة والحليّ، وإلمامهم بفنِّ الكتابة وتعلّمهم قواعد الخط الجميل، وتوصَّل أحدهم الأمير عزّ الدين جواد بن علم الدين سليمان الرمطوني إلى كتابة آية الكرسي على حبّة الأرز، وفعل ذلك مراراً وتكراراً حتى في اليوم الواحد. وقد ذكر صالح بن يحيى أنه كان للأمراء من أسرته اهتمام بالتجارة، ولبعضهم حوانيت في أسواق بيروت وأن هؤلاء الأمراء اهتمُّوا بالعمران فأنشأوا الأبنية في قاعدتهم عبيه، ومنهم الأمير ناصر الدين الحسين الذي أنشأ العليات، وجرَّ المياه بقناة الى الحمّام الذي أنشأه.
وتطرَّق صالح بن يحيى إلى النواحي الأدبيّة، فذكر الشعراء من التنوخيين، وأورد ما نظموه من قصائد كما ذكر ما قاله الشعراء في مدح التنوخيين، وهو في ذكره لصفات الأمراء ومناقبهم تكلَّم عن تقوى العديدين منهم وحِفظِهم للكتاب وانصرافهم إلى العبادة، مما يوحي أن بينهم كبار شيوخ الدين من الموحِّدين الدروز إضافة إلى كبار الرؤساء السياسيِّين4.

الإمارة البحتريّة التنوخيّة
ذكر السجلّ الأرسلاني ثلاث إمارات منذريّة لخميّة هي الإمارة الأرسلانيّة، وإمارة بني فوارس بأمير واحد، وإمارة آل عبد الله بأمير واحد أيضاً خلفه أمير أرسلانيّ انتهت به الإمارة الأرسلانيَّة. أمَّا الإمارة البحتريَّة التنوخيّة التي خلفت الإمارة الأرسلانيَّة، فقد توسَّع صالح بن يحيى في الحديث عنها وعن الأمراء البحتريِّين، وقد سميت بهذا الاسم نسبةً إلى مؤسِّسها الأمير بحتر المتحدِّر من الأمير تنوخ، وهي تُدعَى اختصاراً الإمارة التنوخيَّة

قبر-شمون-في-منطقة-الغرب
قبر-شمون-في-منطقة-الغرب

.بدأت الإمارة البحتريّة التنوخيَّة مع الأمير بحتر سنة 1137م، وتوطَّدَت دعائمها مع ابنه الأمير كرامة الذي أتاه مرسومان من الملك العادل نور الدين محمود زنكي، الأول بتاريخ 14 ربيع الأوّل سنة 552هـ (26 نيسان سنة 1157م)، وهو يخاطبه بالعبارات التالية: “مفيد الملك أمير الغرب”، ويسمِّيه “مملوكنا وصاحبنا” ويقول: “مَن أطاعه فقد أطاعنا، ومَن عاوَنه في جهاد الكفّار [الفرنجة] فقد عمل برضانا وكان مشكوراً منَّا. ومن خالفه في هذا الأمر وعصاه فقد خالف أمرنا واستحقَّ المقابلة والسياسة على العصيان”5. والمرسوم الثاني بتاريخ 17 رجب سنة 556هـ (12 تموز سنة 1161م)، وهو يقطعه إضافة إلى قرى “الغرب” القنيطرة في سورية اليوم وضهر الأحمر من وادي التيم، وثعلبايا من البقاع، وبرجا وبعاصر من صيدا، والمعاصر الفوقا من الشوف، والدامور من ساحل “الغرب”، وشارون ومجدل بعنا من الجرد6.
إن هذين المرسومَين سَمَّيا الأمير كرامة “أمير الغرب” وسيُسمَّى أبناؤه وأحفاده الذين تعاقبوا على الأمرية الكبرى “أمراء الغرب”. وكما أُقطِع هو قرى خارج الغرب سيُقطع بعضهم كذلك مثله، وقد أظهر صالح بن يحيى، وبكثير من التفصيل، علاقات هذه الإمارة مع الدولة الإسلاميَّة الحاكمة لبلاد الشام، أو التي كانت تدير شؤون هذه البلاد من القاهرة عبر ولاتها في بلاد الشام، وهي كسائر علاقات حكام الأطراف مع المركز.
تَوارَث الأمراء البحتريون إمارة الغرب بحسب ما يذكر صالح بن يحيى، واستغلُّوا ما لهم من حقوق في هذه الإمارة، وحين عدّل المماليك النظام الإقطاعي، وأحدثوا جند الحلقة، دخل الأمراء البحتريون التنوخيون فيه، وحافظوا على إقطاعهم مقابل تقديم أعداد محدَّدة من الرّجال لِتولِّي درك بيروت وطريق الساحل.
واجه البحتريون التنوخيون صعوبات عدة للحفاظ على إمارتهم، ومرُّوا بأزمات استطاعوا أن يتخطَّوها بحسن السياسة، وبالتضحيات الجسيمة، وخصوصاً في مواجهة الفرنجة، وهذا موجز للأزمات بحسب تسلسلها الزمني.
في سنة 1255م انتصر البحتريون التنوخيون في عيتات على حملة أيُّوبيّة مرسلة لإخضاعهم. وفي سنة 1260م تداولت أربع قوى حكم بلاد الشام، هي الأيّوبيون بقيادة الملك الناصر يوسف، والمماليك البحرية بقيادة السلطان قطز، وكانوا قد أسَّسوا دولتهم في مصر سنة 1250م، والمماليك البحرية بقيادة السلطان بيبرس، والتتار (المغول) الذين وصلوا إلى دمشق بقيادة هولاكو واحتلُّوها، ثم عاد منها هولاكو تاركاً الحكم إلى أحد كبار قادته كتبغا. وانعكس

صراع هذه القوى على التنوخيين الذين كان عليهم أن يحفظوا إمارتهم خلاله، ويذكر صالح بن يحيى أن الأمير زين الدين صالح بن علي بن بحتر اتفق مع ابن عمّه الأمير جمال الدين حجى بن محمد بن حجى، خلال الصراع بين المغول والمماليك، على اتخاذ موقف مزدوج بين الملك قطز صاحب مصر وبين قائد المغول كتبغا، وذلك بأن يكون جمال الدين حجى مع معسكر المغول، وأن يكون زين الدين مع المعسكر المصري الزاحف إلى قتال المغول والذي سيشتبك معه وينتصر عليه في معركة عين جالوت “ليكون أي من انتصر من الفريقين كان أحدهما معه فيسدّ خلة رفيقه وخلّة البلاد قصداً بذلك إصلاح الحال”7.
وفي سنة 1278م توجَّهَت حملة مملوكيّة إلى “الغرب” للانتقام من قتلة قطب الدين السعدي الذي أقطعه المماليك قرية كفرعميه، ولإخضاع “الغرب” لإشراف المماليك المباشر وقد أنزلت هذه الحملة، التي اشترك فيها العساكر والعشران من ولاية بعلبك والبقاع البعلبكي والبقاع العزيزي وصيدا وبيروت، ما لم تنزله أية غزوة أخرى في الغرب”8.
وفي سنة 1305م اشترك التنوخيون بالحملة المملوكيَّة المرسلة لإخضاع كسروان، وخاضوا المواقع ضد الكسروانيِّين، وقُتل منهم في إحداها، التي جرت بالقرب من نابيه في 28 تموز، أميران و23 نفرًا، وما كان بمقدورهم ألاَّ يشتركوا في هذه الحملة كي لا يستهدفهم المماليك بغزوة أخرى.
وبعد سنة 1305م ولَّى المماليك الأمراء التركمان على كسروان، وصار هؤلاء مشتركين مع التنوخيين في الدفاع عن بيروت والساحل، لكنهم غزَوا “الغرب” إبَّان غياب أمرائه التنوخيين عنه لمساعدة السلطان برقوق على إخماد الحركة المنطاشية التي قامت ضدّه، فهدم التركمان العديد من قرى “الغرب” ونكبوه بمثل ما نكبه به المماليك والفرنجة.

المشاركة في الجهاد الإسلامي
بدأ صالح بن يحيى حديثه عن أخبار السلف من أسرته بالافتخار بهم، فقال: “مناقبهم موصوفة ومآثرهم معروفة كما قيل آثارهم تُنبيك عن أخبارهم حتى كأنك بالعيان تراهم. تالله لا يأتي الزمان بمثلهم ولا يحمي الثغور سواهم”. ولم يكن مبالِغاً في كلامه لأن هناك الأدلة العديدة التي تثبت ذلك والتي أعطى بعضها.
ارتبط نشوء واستمرار الإمارة البحترية التنوخية بالجهاد ضدّ الفرنجة تحت لواء الأتابكة والأيوبيين والمماليك كما ارتبط من قبل نشوء واستمرار الإمارة الأرسلانية بالجهاد ضد الروم البيزنطيين تحت لواء الخلافة العباسية.
بعد أن ولَّى الملك العادل نور الدين كرامة بن بحتر على “الغرب” أبدى كرامة الاستعداد للخدمة والجهاد تحت لوائه، وانتقل إلى حصن سرحمور (سرحمول) ليتحصَّن فيه ضد هجمات فرنجة سنيوريتَيْ بيروت وصيدا، وليواصل الجهاد ضدهم. لكن سنيور بيروت اندرونيكوس كومنينوس دبَّر مكيدة له بأن دعا أبناءه الثلاثة إلى عرس ابنه في بيروت، وحين حضروا غدر بهم، وهاجم في اليوم التالي حصن سرحمور بغتة. ويذكر صالح بن يحيى أن ذلك جرى في أواخر دولة الملك العادل، أي في حدود سنة 1173م التي توفي فيها وقد هدم الفرنجة الحصن وأحرقوا القرى وأسروا من تخلّف عن الهرب9. وأشار إلى هذه الحادثة مؤرِّخ كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” كما وردت الإشارة. وأيضاً، كما أشار صالح بن يحيى، إلى مكافأة السلطان صلاح الدين لابن كرامة الرابع الذي نجا من المكيدة.
عهد المماليك إلى الأمراء التنوخيين درك بيروت والساحل، ولصعوبة هذه المهمَّة تعبوا من الركوب ليلاً ونهاراً كما يذكر صالح بن يحيى، وذلك لقلة عددهم قياساً الى الأمراء التركمان الكثيري العدد الذين شاركوهم هذه المهمة، ثم عرضوا أنفسهم ليكونوا البدائل عنهم.
ومن فصول الجهاد التنوخي اشتراك صالح بن يحيى نفسه مع مائة رجل في غزوة قبرص الأولى سنة 1425م، وقد ذكر ذلك تحت عنوان “لمع من فتوح قبرص” وهو لم يشترك في غزوة قبرص الثانية سنة 1426م، لكنه وصفها وصفاً دقيقاً وأسهب في وصف الاحتفال الذي جرى في القاهرة عندما جيء بملك قبرص أسيراً وسار في شوارع القاهرة وسط مظاهر الخضوع والإهانة، فيما كان المسلمون يحتفلون بالنصر وسط مظاهر الزينة.
ومما يذكره صالح بن يحيى هو أنه أثناء عودته من مصر عن طريق البقاع، حذر من أمير حاج، وحاد عن طريق البقاع إلى صغبين الواقعة في اللحف الشرقي لجبل نيحا، وكان سبق لهذا الأمير أن نزل إلى بيروت وكبس من فيها، وقتل متولِّيها الأمير عزّ الدين صدقة البحتري التنوخي وجماعة من رجاله لكن أمير حاج لم يجرؤ على مهاجمة صالح بن يحيى في صغبين، لأنه حضر إلى هضابها “جماعة كثيرة من الشوف لملاقاته حتى خاف مَن بِصغبين من اجتماع الناس حولها”10.

لم يُسمِّ صالح بن يحيى أيًّا من أفراد جماعة الشوف الذين أنجدوه، ولا أية قرية من قراه، لكننا نرجِّح أن يكونوا، من القرى الواقعة في بداية اللحف الغربي لجبل نيحا، أي قرى مرستي وجباع ونيحا، وقد يكون معهم أيضًا أفراد من قرى المعاصر وبعذران والخريبة وهذا يدل على نصرة الدروز لبعضهم وتعاضدهم المتبادل، وخصوصًا أن مَن ينصرونه آنذاك هو أمير تنوخي.

تاريخ ابن سباط
ابن سباط وتاريخه
ابن سباط هو أحد أبناء أسرة “سباط” واسمها هذا تصحيف للفظة “شباط”، وأصلها من بلدة عيحا في وادي التيم. وابن سباط هو حمزة ابن الفقيه أحمد بن سباط بن عمر بن صالح بن سلطان بن أبي المواهب. لا يُعرف تاريخ ولادته وإنما من المرجَّح أنه من مواليد أواسط القرن الخامس عشر الميلادي ولا يُعرف بالضبط تاريخ وفاته وإن كان البعض يجعله في سنة 1523م، بعد توقّفه عن الكتابة في سنة1520.
كان أحمد معلِّماً وإماماً في جامع عبيه، ومن تلاميذ الأمير السيد عبد الله التنوخي (ق). وقد عُرف بـــ “ابن سباط”، وبهذا عُرف أيضاً ابنه المؤرِّخ حمزة، كما عُرف حمزة أيضاً بالغربي نسبة إلى بلاد “الغرب” التي عاش فيها، وفي إحدى بلداتها عبيه. ولقّبه البعض بـ”العاليهي” نسبة إلى عاليه التي سكنها بعد سنة 1493، وكان سبق له أن أقام في عبيه وظل فيها حتى وفاة والدَيه سنة887هـ (1482م)، ولربما حتى وفاة آخر أخوته سنة 899هـ (1493م). انتقل إلى دمشق سنة 909ه(1503/1504م). ولا يُعرف مدى إقامته فيها.
عمل ابن سباط كاتباً عند الأمراء البحتريين التنوخيين، وكان موالياً لهم، وهذا ما جعله على صلة بهم، وعلى اطّلاع على ما كتبه المؤرِّخ صالح بن يحيى. مال إلى الأدب، ونظم الشعر لكنه لم يبرع فيه، وله في رثاء الأمير السيد (ق) ستّ مَراثٍ لتاثُّره بوفاته، كما له مَراثٍ في غيره من الأمراء التنوخيين وكان عنده ميل إلى الآثار وإلى الكتابة عن المواقع الجغرافية، فألَّف كتاباً اسمه “نزهة المشتاق في بعض جوانب المعمور من الآفاق”، فُقِد ولم يبق منه سوى بضع صفحات. أمَّا ميله الرئيس، فكان إلى التاريخ، وقد كتب فيه مؤلَّفَه الذي سمَّاه “صدق الأخبار” لكنه اشتهر باسمه “تاريخ ابن سباط”.
أول من اعتمد على تاريخ ابن سباط، وهو مخطوط، البطريرك اسطفان الدويهي (1630-1704) في كتابه “تاريخ الأزمنة”، فالأمير حيدر الشهابي، المتوفَّى سنة 1835، في كتابه “الغرر الحسان في تواريخ حوادث الزمان”، فالشيخ طنّوس الشدياق، المتوفَّى سنة 1861، في كتابه “أخبار الأعيان في جبل لبنان”. فُقِدت النسخة الأصلية من المخطوط وبقيت بضع نسخ منقولة عنه، هي نسخة الشيخ نادر بن نوفل الخازن المحفوظة في المكتبة الوطنية بباريس، ونسخة مصوّرة ونسخة أخرى خطّيّة في مكتبة الجامعة الأميركية ببيروت، ونسخة في دار الكتب الوطنية ببيروت، ونسختان في مكتبة الفاتيكان، ونسخة كتبها الشيخ ناصيف اليازجي موجودة في كلية اللاهوت للشرق الأدنى ببيروت.
ضاع المخطوط الأصلي، وما جرى نسخه هو جزء منه، وما فُقد يتعلَّق بتاريخ تنوخ ولخم، وتاريخ العهود التي سبقت العهدين: الزنكي والأيُّوبي، وهو الأبواب الستّة الأُولى وبعض الباب السابع، فيما بقي جزء من الباب السابع والأبواب الأربعة الأخرى التي تنتهي بالباب الحادي عشر، وهذا يعني أن ما فُقِد هو أكثر مما وُجد.
حقَّقت الدكتورة نائلة تقي الدين قائد بيه الباب العاشر والباب الحادي عشر، وصدر في سنة 1989 بعنوان “تاريخ الدروز في آخر عهد المماليك” على اعتبار أن ما حقَّقَته يتعلَّق بأواخر العهد المملوكي وبداية العهد العثماني، ثم حقَّق الدكتور عمر عبد السلام تدمري كل المخطوط، بعنوان “صدق الأخبار. تاريخ ابن سباط”، وصدر في جزءَين في سنة 1993.
اعتمد ابن سباط على مجموعة من المصادر الإسلامية، ذكرها وذكر مؤلِّفيها. ومن المرجَّح أن يكون معظمها موجوداً في مكتبته وفي مكتبات الأمراء البحتريين التنوخيين. ولرُبَّما اعتمد على المصادر الموجودة في مكتبات دمشق عند ذهابه إليها. لم ينقل حرفيّاً عن المصادر، باستثناء الضروري منها، مثل نقله عن صالح بن يحيى في كتابته عن البحتريين التنوخيين. ولم يتوسَّع إلا عند الضرورة وكان أسلوبه في الاجتزاء وعدم الإطالة بدافع الاقتصار على الفكرة والمغزى، وقد أوضح ذلك بقوله عند الاستشهاد بأحد المصادر ما يلي:
“اقتصرنا على ذكر شرحه خوف الإطالة لأنّ الغرض في هذا الكتاب الاختصار…وأن نذكر من كل شيء جزءاً يفهم اللبيب الحادق، والعلم بالبعض خير من الجهل بالكل”11.
وهو لم يذكر في تاريخه مراثِيه الستّ في الأمير السيد عبد الله (ق) خوف الإطالة بحسبما ذكر.

التاريخ العامّ
أرَّخ ابن سباط للأمم والخلفاء والسلاطين والملوك، وتكلَّم عن مجريات الأمور في دول العالم الإسلامي، وبين هذه الدُّول

المطران القلاعي كتب تاريخه زجلا ويعتبره الكثيرون بمثابة أحد رواد الزجل اللبناني
المطران القلاعي كتب تاريخه زجلا ويعتبره الكثيرون بمثابة أحد رواد الزجل اللبناني

والفرنجة. واعتمد أسلوب الحوليَّات، أي كتابة ما يجري في كل سنة هجرية، بادئاً بسنة 526هـ (1131/1132م)، وبذكر أول حوادثها، وهو الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجر، منتهياً بسنة 926هـ (1520م)، وذكر انقراض دولة المماليك. وبهذا تناول بعض ما جرى في فترة انتقال بلاد الشام من سلطة المماليك إلى سلطة العثمانيين، وقد بلغ مجموع سنوات المرحلة التي أرَّخ لها 388 سنة ميلادية، لكن حوليّاته لم تكن متعاقبة.
في حديثه عن مجريات التاريخ العام، يتناول ابن سباط ما جرى في المناطق المأهولة بالموحِّدين (الدروز) وما جرى مع الفئات المجاورة لهم. ففي حديثه، مثلاً، عن الحملات المملوكية الثلاث على كسروان بين سنتَي 1292و1305م، يذكر مشاركة الأمراء التنوخيِّين فيها، معتمداً على معرفته بتاريخ هؤلاء وعلى ما نقله عن صالح بن يحيى، لكنه لا يكتفي بما جاء عند صالح بن يحيى بل إنه يضيف إليه ما ورد عند المؤرِّخين عن هذه الحملات، وينفرد عن سائر المؤرِّخين فيذكر أن العسكر المملوكي أحرق 4 قرى في بلاد الجرد هي عين صوفر وشمليخ وعين زونيه (العزّونيّه) وبحطوش وغيرها من بلاد الجرد.
وفي حديثه عن فتح قلعة الشقيف يتوسَّع ابن سباط في ذلك، فيصف كيفية فتح الملك الظاهر بيبرس لها، ثم يصفها وصف شاهد عيان، إذ إنه كان يتنقل في ربوع الشوف، وقد وصل إلى هذه القلعة التي يميز بينها وبين قلعة شقيف أرنون في جنوب لبنان، فيسمِّيها قلعة شقيف تيرون “الواقعة في بلاد جزِّين” والمجاورة لقرية نيحا، ولها عين كانت جارية إليها من أعلى الجبل، وهو لم يذكر ذلك نقلاً عن الكتب وإنما بناءً على مشاهداته، التي تظهر ميله إلى الجغرافيا الموازي لميله إلى التاريخ. فالقلعة بيوت مبنيّة وسط صخر شاهق، لا يمكن الوصول إليها من فوق ولا التسلُّق إليها من تحت. ومما قاله فيها ما يلي:
“ولما ملكها الظاهر بيبرس بنى لها برجاً –كما ذكرنا- على الباب، والباب في الصخر ليس بالبرج. وركن البرج قريب الباب، وعلى البرج صورة سبعَيْن مُتقابِلَيْن زنك [شعار] الملك الظاهر وهي بين صيدا ودمشق. وتحت القلعة المذكورة مروج، وبها أثر عماير عظيمة وأقبية وأعمدة عظيمة جدًّا بين نهرَي جزِّين وصيدا، بمكان يقال له مرج بسراء”12.
والمقصود عند ابن سباط بمرج بسراء: مرج بسري، والمقصود بالعماير والأقبية فيه الهيكل الروماني الذي لم يبقَ ظاهراً منه إلى اليوم سوى أربعة أعمدة.
لا يخفي ابن سباط ميوله أحياناً، فقد أبدى، مثلاً تعاطفه مع ابن بشاره حاكم بلاد بشاره في الجنوب اللبناني، وذلك عند وصفه لتصدِّي هذا الحاكم لابن الحنش أمير البقاع، كما إنه تكلَّم عن الملك العادل نور الدين محمود زنكي في أربع صفحات. وامتدحه وذكر ما كتبه عنه المؤرِّخ شمس الدين الجزري القرشي في “تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفَيات الأكابر والأعيان من أبنائه” وميله إلى الملك العادل مشابه لميل مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” الذي أشرنا إليه، وهو لم يأت من صلاح هذا الملك فقط، بل أتى أيضاً من علاقته الحسنة مع الأمراء البحتريين التنوخيين، وإقراره لكرامة بن بحتر على إقطاعه وزيادته، وميل كرامة له بالمقابل، ووقوفه معه في صراعه ضد الفرنجة.

تاريخ التنوخيين
بدأ ابن سباط الحديث عن التنوخيين في معرض الحوادث التي جرت في سنة 542هـ (سنة 1147م)، مشيراً إلى أنه تكلَّم عنهم في الجزء الأول ذاكراً آل تنوخ ولخم وتحالفهما13، وقد وردت الإشارة إلى أن هذا الجزء فُقِد مع غيره من الأجزاء أو الفصول ولو لم يُفقد لكان ابن سباط أضاء على تاريخ التنوخيين غير اللبنانيين وعلاقتهم بالمناذرة اللخميين ملوك الحيرة، ولكان، في رأينا، أوضح العديد من الإشكاليّات التاريخية حولهما، لأنه أشار إلى تكلُّمه في الجزء المفقود عن جذيمة الأبرش ملك الحيرة14.
نقل ابن سباط ما كتبه صالح بن يحيى عن التنوخيين وأورد ذلك في 29 حاشية في معرض حديثه عن الحوادث وأُولِي الأمر، التي جرت في السنوات التي أرَّخ لها. وكان أوضحَ من صالح بن يحيى في تنسيب آل علم الدين – وهم من آل عبد الله- إلى التنوخيين، إذ قال إنهم صاروا مع التنوخيين واحداً بالزواج، أي بالتصاهر المتبادل في ما بينهم ولا حاجة لذكر ما كتبه ابن سباط عن التنوخيين لأننا تكلَّمنا عن ذلك في معرض الحديث عن صالح بن يحيى، وإنما لا بد من القول إن صالح بن يحيى لم يكتب عن الأمير السيد عبد الله التنوخي (ق) المعاصر له، لكن ابن سباط استفاض في الحديث عنه، فبلغ مجموع الصفحات التي تناوله فيها أكثر من 22 صفحة، أخذها عن كاتب سيرته، الشيخ سليمان بن حسين بن نصر. وقد تحدَّث عن نشأته ونسبه وصفاته، وانشغاله بالعلم، وحفظه للكتاب العزيز، واهتمامه بعمارة المساجد، وتشدّده في تطبيق مفاهيم المعتقد، وتعليمه للتلامذة المقبلين على الاستفادة منه، وأحكامه ونواهيه وامتثال الناس لها، وعنايته بأخبار الزّهّاد، ووفاته ومأتمه.
أرَّخ ابن سباط للأمراء البحتريِّين التنوخيين الذين عاشوا في زمنه، وتحديداً بعد سنة 1453 التي توقَّف فيها صالح بن يحيى عن الكتابة، وذكر وفَيات معظمهم، وهم: زين الدين عمر، وسيف الدين يحيى بن عثمان، وعلم الدين سليمان بن أحمد، وبدر الدين حسين، وسيف الدين زنكي بن صدقة بن عيسى، وسيف الدين عبد الخالق ووالده الأمير السيد عبد الله (ق) الذي سبق الحديث عنه، وصالح بن يحيى (المؤرِّخ) لكنه لم يذكر وفاته، وشرف الدين  والفرنجة. واعتمد أسلوب الحوليَّات، أي كتابة ما يجري في كل سنة هجرية، بادئاً بسنة 526هـ (1131/1132م)، وبذكر أول حوادثها، وهو الحرب بين السلطان مسعود وعمه السلطان سنجر، منتهياً بسنة 926هـ (1520م)، وذكر انقراض دولة المماليك. وبهذا تناول بعض ما جرى في فترة انتقال بلاد الشام من سلطة المماليك إلى سلطة العثمانيين، وقد بلغ مجموع سنوات المرحلة التي أرَّخ لها 388 سنة ميلادية، لكن حوليّاته لم تكن متعاقبة.
في حديثه عن مجريات التاريخ العام، يتناول ابن سباط ما جرى في المناطق المأهولة بالموحِّدين (الدروز) وما جرى مع الفئات المجاورة لهم. ففي حديثه، مثلاً، عن الحملات المملوكية الثلاث على كسروان بين سنتَي 1292و1305م، يذكر مشاركة الأمراء التنوخيِّين فيها، معتمداً على معرفته بتاريخ هؤلاء وعلى ما نقله عن صالح بن يحيى، لكنه لا يكتفي بما جاء عند صالح بن يحيى بل إنه يضيف إليه ما ورد عند المؤرِّخين عن هذه الحملات، وينفرد عن سائر المؤرِّخين فيذكر أن العسكر المملوكي أحرق 4 قرى في بلاد الجرد هي عين صوفر وشمليخ وعين زونيه (العزّونيّه) وبحطوش وغيرها من بلاد الجرد.
وفي حديثه عن فتح قلعة الشقيف يتوسَّع ابن سباط في ذلك، فيصف كيفية فتح الملك الظاهر بيبرس لها، ثم يصفها وصف شاهد عيان، إذ إنه كان يتنقل في ربوع الشوف، وقد وصل إلى هذه القلعة التي يميز بينها وبين قلعة شقيف أرنون في جنوب لبنان، فيسمِّيها قلعة شقيف تيرون “الواقعة في بلاد جزِّين” والمجاورة لقرية نيحا، ولها عين كانت جارية إليها من أعلى الجبل، وهو لم يذكر ذلك نقلاً عن الكتب وإنما بناءً على مشاهداته، التي تظهر ميله إلى الجغرافيا الموازي لميله إلى التاريخ. فالقلعة بيوت مبنيّة وسط صخر شاهق، لا يمكن الوصول إليها من فوق ولا التسلُّق إليها من تحت. ومما قاله فيها ما يلي:
“ولما ملكها الظاهر بيبرس بنى لها برجاً –كما ذكرنا- على الباب، والباب في الصخر ليس بالبرج. وركن البرج قريب الباب، وعلى البرج صورة سبعَيْن مُتقابِلَيْن زنك [شعار] الملك الظاهر وهي بين صيدا ودمشق. وتحت القلعة المذكورة مروج، وبها أثر عماير عظيمة وأقبية وأعمدة عظيمة جدًّا بين نهرَي جزِّين وصيدا، بمكان يقال له مرج بسراء”12.
والمقصود عند ابن سباط بمرج بسراء: مرج بسري، والمقصود بالعماير والأقبية فيه الهيكل الروماني الذي لم يبقَ ظاهراً منه إلى اليوم سوى أربعة أعمدة.
لا يخفي ابن سباط ميوله أحياناً، فقد أبدى، مثلاً تعاطفه مع ابن بشاره حاكم بلاد بشاره في الجنوب اللبناني، وذلك عند وصفه لتصدِّي هذا الحاكم لابن الحنش أمير البقاع، كما إنه تكلَّم عن الملك العادل نور الدين محمود زنكي في أربع صفحات. وامتدحه وذكر ما كتبه عنه المؤرِّخ شمس الدين الجزري القرشي في “تاريخ حوادث الزمان وأنبائه ووفَيات الأكابر والأعيان من أبنائه” وميله إلى الملك العادل مشابه لميل مؤلِّف كتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب” الذي أشرنا إليه، وهو لم يأت من صلاح هذا الملك فقط، بل أتى أيضاً من علاقته الحسنة مع الأمراء البحتريين التنوخيين، وإقراره لكرامة بن بحتر على إقطاعه وزيادته، وميل كرامة له بالمقابل، ووقوفه معه في صراعه ضد الفرنجة.

تاريخ التنوخيين
بدأ ابن سباط الحديث عن التنوخيين في معرض الحوادث التي جرت في سنة 542هـ (سنة 1147م)، مشيراً إلى أنه تكلَّم عنهم في الجزء الأول ذاكراً آل تنوخ ولخم وتحالفهما13، وقد وردت الإشارة إلى أن هذا الجزء فُقِد مع غيره من الأجزاء أو الفصول ولو لم يُفقد لكان ابن سباط أضاء على تاريخ التنوخيين غير اللبنانيين وعلاقتهم بالمناذرة اللخميين ملوك الحيرة، ولكان، في رأينا، أوضح العديد من الإشكاليّات التاريخية حولهما، لأنه أشار إلى تكلُّمه في الجزء المفقود عن جذيمة الأبرش ملك الحيرة14.
نقل ابن سباط ما كتبه صالح بن يحيى عن التنوخيين وأورد ذلك في 29 حاشية في معرض حديثه عن الحوادث وأُولِي الأمر، التي جرت في السنوات التي أرَّخ لها. وكان أوضحَ من صالح بن يحيى في تنسيب آل علم الدين – وهم من آل عبد الله- إلى التنوخيين، إذ قال إنهم صاروا مع التنوخيين واحداً بالزواج، أي بالتصاهر المتبادل في ما بينهم ولا حاجة لذكر ما كتبه ابن سباط عن التنوخيين لأننا تكلَّمنا عن ذلك في معرض الحديث عن صالح بن يحيى، وإنما لا بد من القول إن صالح بن يحيى لم يكتب عن الأمير السيد عبد الله التنوخي (ق) المعاصر له، لكن ابن سباط استفاض في الحديث عنه، فبلغ مجموع الصفحات التي تناوله فيها أكثر من 22 صفحة، أخذها عن كاتب سيرته، الشيخ سليمان بن حسين بن نصر. وقد تحدَّث عن نشأته ونسبه وصفاته، وانشغاله بالعلم، وحفظه للكتاب العزيز، واهتمامه بعمارة المساجد، وتشدّده في تطبيق مفاهيم المعتقد، وتعليمه للتلامذة المقبلين على الاستفادة منه، وأحكامه ونواهيه وامتثال الناس لها، وعنايته بأخبار الزّهّاد، ووفاته ومأتمه.
أرَّخ ابن سباط للأمراء البحتريِّين التنوخيين الذين عاشوا في زمنه، وتحديداً بعد سنة 1453 التي توقَّف فيها صالح بن يحيى عن الكتابة، وذكر وفَيات معظمهم، وهم: زين الدين عمر، وسيف الدين يحيى بن عثمان، وعلم الدين سليمان بن أحمد، وبدر الدين حسين، وسيف الدين زنكي بن صدقة بن عيسى، وسيف الدين عبد الخالق ووالده الأمير السيد عبد الله (ق) الذي سبق الحديث عنه، وصالح بن يحيى (المؤرِّخ) لكنه لم يذكر وفاته، وشرف الدين تاريخ أواخر العهد المملوكي
وبداية العهد العثماني
تناول ابن سباط هذه المرحلة وتكلَّم عن سلاطين المماليك بدءاً بـ”الملك الظاهر جقمق” وانتهاء بـ”الملك طومان باي” الذي هو التاسع والأربعون من سلاطين المماليك بالديار المصرية. وتكلَّم عن السلطان سليم العثماني الذي انتصر على السلطان قانصوه الغوري المملوكي في معركة مرج دابق سنة 1516، وملك الديار الشاميّة والديار المصرية، كما تكلَّم عن خير بك أمير الديار المصرية وجان بردي الغزالي أمير الديار الشاميّة، وما قاما به في هذه المرحلة الانتقالية.
وتوسَّع ابن سباط، خلال تناوله هذه المرحلة، في الحديث عن الأمير شرف الدين يحيى ابن الأمير سيف الدين أبو بكر التنوخي، فذكر إقدامه أمام “الملك الأشرف قانصوه الغوري” بقلعة الجبل بمصر، وحضوره على “الملك المظفَّر سليم شاه”، كما ذكر ما يُستشفّ منه استمرار موالاة التنوخيين للمماليك، وذلك حين قبض جان بردي الغزالي على الأمير المذكور بعد إخماده “عصيان الأمير ناصر الدين محمد بن الحنش صاحب صيدا والبقاعين على الملك المظفّر سليم شاه”، وقبض أيضاً على الأمير زين الدين والأمير قرقماس والأمير علم الدين سليمان أولاد معن ووضعهم في السجن، ثم أطلق سراحهم بعد مقتل الأمير ناصر الدين بن الحنش. وذكر ابن سباط أيضاً تقرب الأمير شرف الدين يحيى التنوخي، بعد إطلاق سراحه، من جان بردي الغزالي الذي كتب له المناشير على جهات إقطاعه السابقة، كما ذكر سوء الأوضاع الاقتصادية الحاصلة في البلاد عموماً وفي مناطق التنوخيين تحديداً، جرَّاء الفتن والحوادث المذكورة.
وأرَّخ ابن سباط لبعض أعيان الموحِّدين (الدروز) من غير التنوخيين، وذكر بعض الظاهرات البشرية الغريبة، والفتن، والغلاء، والسيول والفيضانات في بلاد الشام. وقد ساعده على ذلك كتابته بأسلوب الحوليات. وأبرز ما ذكره الفناء العظيم الذي حصل في سنة 897هـ (سنة 1487/1488م) والوباء في بيروت سنة 904هـ (سنة 1498م)، وعمارة جسر الدامور سنة 863هـ (سنة 1459م) وحصول الفيضانات والسيول في بلاد الشام سنة 909هـ (سنة 1503م) وفيضان نهري الصفا والكلب في هذه السنة، والفتنة بين أهل صحنايا والأشرفية وبين أهل داريّا، والفتنة في قرية بتاتر.
وأبرز ما ذكره ابن سباط عن الأعيان ووفَيَاتهم هو مقتل علم الدين الصوَّاف ووفاة ابنه، ووفاة شيخ المختارة وقاضيها، ووفاة شيخ جديدة الشوف وابنه، والقبض على الأمير فخر الدين عثمان المعني وموته، ووفاة شيخين من كفرا (الغرب)، ووفاة الأمير يونس المعني.

الدكتور كمال الصليبي ساهم مع فريق مؤرخين بإصدار نسخة عن تاريخ بيروت بتاريخ 1967 صححت العديد من الأخطاء التي تضمنها كتاب الأب
الدكتور كمال الصليبي ساهم مع فريق مؤرخين بإصدار نسخة عن تاريخ بيروت بتاريخ 1967 صححت العديد من الأخطاء التي تضمنها كتاب الأب

زجليَّات ابن القلاعي
ابن القلاعي وبيئته
إن ابن القلاعي هو جبرائيل بن بطرس اللحفدي الماروني. وُلد في قرية لحفد من بلاد جبيل في حدود سنة 1447م، ولُقِّب بابن القلاعي لأنه كان لوالديه بيت مبنيّ بين القلاع في مزرعة من أرض لحفد اسمها “غوريا”. انضمَّ سنة 1470 إلى الرهبان الفرنسيسكان العاملين في الشرق (بيروت والقدس) باسم “أخويَّة الأرض المقدسة”، وكان أحد ثلاثة شبّان أُرسلوا سنة 1471 من القدس إلى مدرسة الرهبان الفرنسيسكان في روما للتعلُّم فيها، وعاش، بعد تلقِّيهِ العلوم، في الأديرة التابعة لهم، وعاد إلى لبنان سنة 1492 حيث عمل لمدة في خدمة البطريرك الماروني كمستشار له، ثم عُيِّن أسقفاً (مطراناً) في نيقوسيا على أبرشية قبرص المارونية، وظل هناك إلى أن توفِّي سنة 1516. وكان بعض الموارنة قد لجأوا إلى جزيرة قبرص القريبة من لبنان “مفضِّلين اللحاق بالفرنجة المنهزمين، رابطين مصيرهم بهم”15وتكاثروا فيها، وبنَوا القرى والأديرة.
عاش ابن القلاعي في زمن أولَتْ فيه البابويّة اهتماماً بالموارنة، بعد عقدها مجمع فلورنسا سنة 1438م، وإخفاقها في تقريب الكنيسة البيزنطية إليها، إذ أعطى البابا تعليمات خاصة لرعاية الكنيسة المارونية، وصار غريفون أحد رهبان “أخوية الأرض المقدسة” مستشاراً مقيماً لدى البطريرك الماروني من سنة 1450 إلى سنة 1475، وهو الذي أرسل ابن القلاعي والشابَّين المارونيَّين الآخرَين إلى روما.
بلغ اهتمام البابويّة بالموارنة حدَّا كبيراً ففي سنة 1456 تلقَّى البطريرك الماروني بياناً من البابا يخاطبه فيه – ولأول مرة في تاريخ البطريركية المارونية- بلقب “بطريرك أنطاكية” وهو لقب كان محصوراً برؤساء الكنيسة الملكية في أنطاكية. وفي سنة 1510 استهلّ البابا ليون العاشر كلامه للبطريرك الماروني بطرس الحدثي بشكر العناية الإلهية لأنها شاءت أن تستمرّ في رعاية الشعب الماروني في أحلك الظروف “وهو المزروع بين أهل الكفر والانشقاق والبدع كما في حقل من الأخطاء” فتحفظه متألِّقاً في بيئته “كالسوسنة بين الشوك”16، فكان هذا اعترافاً من البابويّة بشرعيّة البطريرك الماروني كبطريرك على كرسي أنطاكية وسائر المشرق، كما كان تكريساً جديداً لالتحاق هذه البطريركية بالكرسي البابوي، على أساس الإيمان بالطبيعتين والمشيئتين للسيد المسيح.
إن توجُّه البابويّة نحو الموارنة وسعيها لاحتضانهم، قابلهما الموارنة بتوطيد علاقتهم بها، وبمزيد من التأكيد على تبعيتهم لها. وكان من الطبيعي أن يتأثر ابن القلاعي المرسل للتعلُّم في روما بهذه الأجواء، فيؤكد في أدبيّاته (زجليّاته) على قِدَم علاقة الموارنة بالكرسي البابوي في روما، وعلى أن الموارنة ليسوا من أصحاب الطبيعة الواحدة للمسيح، وهم بخلاف ما اتَّهَمهم به أساتذته وزملاؤه، ليسوا من أصحاب المشيئة الواحدة. وقد أظهر تميُّز الموارنة عن سائر مسيحيِّي الشرق وخصوصيّتهم، كما إنه أظهرهُم في أدبياته التاريخية وكأنهم شعب الله المختار الذي يدافع عن عقيدته إزاء العقائد المسيحية المخالفة لها، وخصوصاً إزاء أفكار “الهرطقة اليعقوبية” القائلة بالطبيعة الواحدة، ويدافع أيضاً عن بلاده (جبل لبنان) ضد هجمات المسلمين.

كتاب-تاريخ-بيوت-كما-حققه-الأب-لويس-شيخو-اليسوعي-وقد-نشر-في-العام
كتاب-تاريخ-بيوت-كما-حققه-الأب-لويس-شيخو-اليسوعي-وقد-نشر-في-العام

زجليَّات ابن القلاعي التاريخية
تُعتبر زجليّات ابن القلاعي أُولى الزجليّات اللبنانية التي وصلت إلينا، وقد نظمها في مواضيع مختلفة، هي التاريخ والدين والعلوم والقصص وغير ذلك، وبلغ عدد المصنَّفات التي تركها 26 مصنَّفاً17، إلا أن ما يعنينا هنا هو الزجليَّات التاريخية المعروفة بأسماء عدة، أشهرها “مديحة على جبل لبنان”. أما الأسماء الأخرى، فهي حروب المقدّمين- مديحة كسروان- مؤلّف من كتاب التواريخ– على النصارى.
بلغ عدد نُسَخ مخطوطة “مديحة على جبل لبنان” ستّة، هي البورجاني العربي- الفاتيكاني السرياني- مخطوطة المكتبة الشرقية- مخطوطة دير مار ضومط (فيطرون)- مخطوطة البطريركية المارونية في بكركي- مخطوطة دير الكريم (غوسطا). وأول من نشر هذه المخطوطة هو المؤرِّخ بولس قرألي، وكان ذلك في المجلة البطريركية، ثم شرحها المؤرِّخ كمال سليمان الصليبي، ونشرها مؤخراً كاملةً بطرس الجميل.
إن “مديحة على جبل لبنان” منظومة كسائر زجليَّات ابن القلاعي بالشِّعر العامِّي، على وزن القرّادي”، عدد أبياتها الشعرية 590 بيتاً، وعدد رباعيّاتها 295 رباعيّة ليست فيها عناوين، ولا تسلسل واضح. بعض أبياتها، كما سائر الأبيات العامّيَّة، يتضمّن المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، وقد اضطرّ ابن القلاعي من أجل توضيح مقاصده، استعمال عبارة “جبل لبنان” 16 مرَّة لذا لا يمكن شرحها، ولا يمكن الحديث عن كل المواضيع التي تتناولها، وعن جميع أمراء الموارنة (المقدّمين)، ومعاصريهم من الملوك والسلاطين، في مرحلة زمنية تمتد ستة قرون، وتتضمّن أحداثاً كثيرة، وإنما يمكن التحدّث عن أبرز المضامين والمحطّات والأفكار، وعن قصد ابن القلاعي منها وخلفيّته، مع الإشارة قبل الحديث عن ذلك إلى أنها أولى المحاولات لكتابة تاريخ الموارنة، تلَتْها بعد ما يقارب القرن ونصف القرن كتابة البطريرك اسطفان الدويهي لهذا التاريخ.

تاريخ الموارنة في جبل لبنان
بدأ ابن القلاعي زجليَّاته التاريخية في سنة 1494، وقال إنها كتبت عن ستمائة عام من تاريخ الموارنة في جبل لبنان، وبهذا يعيد وجودهم إلى حدود سنة 900م فيما هو في الحقيقة قبل ذلك، أي في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي. ويذكر ابن القلاعي أن سبب قدوم الموارنة إلى جبل لبنان هو تهجير المسلمين لهم من وادي العاصي، فيما الحقيقة أنهم انتقلوا منه على دفعتين، أولاهما في سنة 669م بسبب نزاعهم مع اليعاقبة وتغلُّب هؤلاء عليهم، وثانيتهما في سنة 685م جرَّاء اضطهاد الروم البيزنطيين لهم، كما وردت الإشارة إلى ذلك.
لم يستعمل ابن القلاعي لفظة “المردة” بل استعمل لفظة “الموارنة”، والموارنة عنده هم أتباع القديس مارون، وهم شعب الله، وجبل لبنان الذي أقاموا فيه هو “جبل الله” لأن الله “كان ساكناً معهم يحمي القرايا والمواطن”، وقد سكنوا في المنطقة الممتدة من الدريب (عكَّار) إلى بلاد الشوف، وكانت حدودها الجنوبية تصل إلى بيروت العتيقة (بيت مري) وإلى زرعون وترشيش، وتُجاور تبعاً لذلك المنطقة المسكونة بالموحِّدين (الدروز)، وكان عندهم العديد من القواعد، وعليهم البطريرك، والمطارنة الذين يبلغ عددهم 40 مطراناً، وعليهم – بحسب أقوال ابن القلاعي- “أمراء وحكَّام وملوك” وهم الذين عُرفوا بـ”المقدّمين” وقد لُقِّبت منطقة كسروان باسم أحدهم كسرى.
اتَّخذ الموارنة من جبل لبنان، في نظر ابن القلاعي موطناً خالصاً لهم، وملاذاً للمؤمنين بعقيدتهم، وعاشوا عصرهم الذهبي فيه يوم كان خالياً من المسلم والهرطقي، ومن اليهودي الذي إذا وُجد تكشف الغربان قبره بحسب تعبيره الذي يقول:
وهــرطيــــــــــــــــــــقي ليـــــــس يـــــــوجـــــــد فيـــــــه ولا مســـــــلم كـــــــــــــــان يـــــــــــوجـــــــد فيه
يهـــــــــــــــــــــــــــودي إن كــــــــان يوجــــــــــــــــــد فيـــــــه قبـــــــــــــــــــــــره تكشــــــــــــــــــــــــفه الغــــــربــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان18

أمَّا جيران الموارنة: (الدروز)، فبعضهم كتبة حروز، أي كتبة التعاويذ والطلسمانات، كما يصف ابن القلاعي أحدهم المسمَّى “جوكان الدرزي”:
ابــــــــــــــــن جوكــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــان الــــــــدرزي كــــــــــــــــــــــــاتب ســــــــــــــــاحر الحــــــــــــــــــــــــــــــــــــرزي19
ويذكر ابن القلاعي أن الموارنة استطاعوا بسيف الإيمان أن يحموا حدود جبل لبنان من المسلمين وأن يرموا الخوف والوسواس في نفوس الدروز، وقد أقاموا للدفاع عن بلادهم قلعة في أنطلياس سمَّوها “القلعة الحجرية”، وقلعة أخرى في بحرصاف التي جعلوها كرسياً للمطران، وهي واقعة بالقرب من بكفيا، وقلعة ثالثة عند نهر الكلب. ومن الأماكن التي أقاموا فيها يُسمِّي ابن القلاعي ما يقارب الخمسين قرية ومكاناً، هي اليوم مسكونةٌ بهم، بعد أن تركوا بعضها على أثر الحملات المملوكيّة على كسروان، ثم عادوا إليها، كما إن معظمها يشتمل على أديرة كبيرة.
إن اسم جبل لبنان قديم جدًّا يعود إلى أربعة آلاف سنة، ويشمل المنطقة الجبلية الممتدة من النهر الكبير شمالاً إلى نهر الليطاني جنوبًا وهو قسمان رئيسان: جبل لبنان الشمالي حيث نزل الموارنة، وجبل لبنان الجنوبي حيث نزل الموحِّدون (الدروز) وأعطَوه لتكاثرهم فيه اسمهم (جبل الدروز)، لكن جبل لبنان، بحسب ما يُستنتج من زجليَّات ابن القلاعي، يمتدّ من جهات بشرِّي شمالاً إلى نهر الجعماني (نهر بيروت) جنوبًا. وقد جانب بعض المؤرِّخين الحقيقة حين قالوا إن اسم “جبل لبنان” أُطلق على جهات بشرِّي والبترون وجبيل حيث أقام الموارنة بعد تركهم لكسروان، وإن هؤلاء حملوا معهم هذا الاسم إلى جبل لبنان الجنوبي بعد انتقالهم إليه في القرن السابع عشر.
إن تاريخ الموارنة في جبل لبنان حافل عند ابن القلاعي بالصراعات بين الموارنة والمسلمين، وبصراعات الموارنة الداخلية بين المتبعين منهم للإيمان الحقيقي، والمتأثِّرين بالأفكار الهرطقية، وكثيرًا ما تتقاطع الصراعات الأولى مع الثانية وحوادث هذا التاريخ ونتائجها مرتبطة بالإيمان وبعدمه.

حروب الموارنة
من الأسماء العديدة التي أُعطيَت لزجليَّات ابن القلاعي التاريخية اسم “حروب المقدّمين” لأن قادة الموارنة الزمنيِّين عُرفوا بـ”المقدّمين”، وقد وردت لفظة “المقدَّم” عند ابن القلاعي كلقب للحاكم الذي كان يقود جماعته في الحروب مع المسلمين ومع الدروز، إذ كان على كل قرية أو أكثر مقدّم، وقد استطاع معظم هؤلاء المقدّمين أن يحموا بلادهم – بحسب ما يذكر- من هذين الفريقين.
صاغ ابن القلاعي زجليَّاته بأسلوب ملحمي، وبعاطفة جيَّاشة آلَت به إلى المبالغة أحيانًا، كسائر شعراء الزَّجَل الذين تضجّ قصائدهم بقرقعة السيوف، وصهيل الخيول، ونخوة المقاتلين، لذا يصعب تلمُّس بعض الحقائق التاريخية من التعابير الإنشائيّة والوجدانيّة التي تحفل بها زجليّاته، والتي يصف بها الحروب.
من حروب الموارنة هجوم أمير منهم على البقاع، لا يذكر ابن القلاعي اسمه ولا تاريخ هجومه، لأنه لا يذكر أيًّا من تواريخ الحوادث، لكن اسمه عند المؤرِّخ البطريرك اسطفان الدويهي هو يوحنا20، وعند المؤرِّخ حيدر الشهابي هو الياس21. وقد دُفن في المكان الذي قُتل فيه، وأصبح اسم هذا المكان قبر الياس، أي قب الياس حاليًّا. أما تاريخ هجومه فهو في حدود سنة 752م. وقد تابع ابن أخته الأمير سمعان الحرب ضد المسلمين ثلاث سنين وانتصر عليهم وهاجم بعض أمراء الموارنة بعلبك من جهات بشرِّي والبترون وجبيل، وهاجم بعضهم الآخر وسط البقاع من جهات كسروان.
ومن حروب الموارنة اجتماع أمرائهم على دقّ النواقيس، بعد سقوط طرابلس وجبيل بِيَد المماليك، وكان اجتماعهم في المدفون وفيدار ولحفد، وهاجموا بثلاثين ألف رجل أعداءهم، واقتسم الأمراء (المقدّمون) الغنائم تحت نظر البطريرك، وأخذ كلٌّ منهم حقّه ما عدا مقدَّم بشري الساقط في الضلال والذي كان سبب هزيمة سابقة للموارنة. ومن مواقع الموارنة ما جرى لهم في كسروان إذ إن الله غضب عليهم بسبب سقوط راهبَين مارونيَّين في البدع والضلال، أحدهما من يانوح والآخَر من دير نبوح، فسمع بذلك الملك برقوق (سلطان المماليك) وأرسل عساكره إلى كسروان فأحرقته وخربته. وهذه الحوادث معروفة في التاريخ باسم الحملات المملوكية على كسروان التي استهدفت معاقبة الكسروانيِّين على مساعدتهم للفرنجة، وما كان الكسروانيون موارنة فقط، بل مجموعة من الأقليات أكثريّتها من الشيعة آنذاك، الذين لجأوا إلى مناطق أخوانهم وخصوصًا منطقتَي بعلبك وجزِّين22.
وما ورد ذكره في السِّجلّ الأرسلاني من مواقع بين الأرسلانيِّين والمردة، يرد مضمونه أيضًا عند ابن القلاعي بقوله إن الموارنة زرعوا الخوف في نفوس الدروز، وإنهم بنَوا للدفاع عن بلادهم ضدّ هجمات هؤلاء قلاعًا وردت الإشارة إليها.
وكما كانت هناك محطَّات من العداء والحروب بين أهل جبل لبنان، أي الموارنة، وبين الحكم الإسلامي الممثَّل أحيانًا بما سمَّاه ابن القلاعي “حكم حمدان، وحكم أحمد”، كانت هناك محطة من السلام أَرسَلَت فيها العناية الإلهية مقدَّمًا لبشري مطيعًا للبطريرك، وحاكمًا مسلمًا هو السلطان قلاوون الذي استضافه في فترة خلعه عن السلطنة، راهب ماروني في وادي قاديشا، فكافأ السلطان الموارنة بعد استعادته عرشه، بتقديم المال لهم لبناء أديرة الوادي.

رسالة إلى الموارنة
رأى ابن القلاعي أن الموارنة عاشوا في عزٍّ وطمأنينة وسلام وقوة، أيام اتِّحاد البطريرك مع الحاكم، وأيام كان البطريرك صاحب سطوة، والحاكم صاحب نخوة، وهما مثل الأخوة، وأيام الثبات على صخرة الإيمان وخُلوِّ مناطقهم من أي معتنق لمذهب مخالف لمذهبهم. ومن الأمراء الذين احترموا البطريرك وحافظوا على الإيمان وحقَّقوا الانتصارات، وثبّتوا الوجود: سمعان الذي وردت الإشارة إليه والذي تثبت على الخارجة أي على كسروان ببركة البطريرك ومساعدة ملك جبيل الذي لم يسمِّهِ ابن القلاعي، والأمير كسرى الذي كان صديقًا لملك جبيل وكريمًا في عين ملك الروم في القسطنطينية، والأمير نقولا الذي تتجسَّد فيه صورة البطل المدافع عن الحق والإيمان.
وبالمقابل، رأى ابن القلاعي أن ما حلَّ بالموارنة من نكبات يعود إلى عصيانهم أوامر الله، وعدم طاعة أمرائهم (مقدَّميهم) له، وظلمهم، ويعود أيضًا إلى السماح للهراطقة بالتواجد بينهم. وعلى سبيل المثال إن الأمير الذي هاجم البقاع خسر المعركة وقُتل لأنه عصى أوامر الله فشرب وسكر وشهد رقصًا خالعًا، وإن كسروان نُكبت بسبب الراهبَين اللذَين سقطا في الضلال والبدع، وإن المسلمين استفادوا من انشقاقات الموارنة فكرّروا الهجوم على لبنان وإن الموارنة ضعفوا لأخذ بعضهم بالبدع، ومنهم البطريرك لوقا البنهراني الذي نافس إرميا الدملصاوي، وقد ذهب الأخير إلى روما، وقدّم خضوعه للبابا فنصَّبه بطريركًا على جبل لبنان، وبعد عودته انضوى الجميع بإمرته تحت راية الإيمان الحقيقي، كما رأى ابن القلاعي أن طرابلس وجبيل سقطتا بيد المسلمين لأن الأمير سالم لم يكن تقيًّا وعادلاً، ولأن الله غضب على الشعب، وأن الشيطان يعود من حين إلى آخر فيوسوس في نفوس الموارنة فيتبع بعضهم الضلالة وينقسمون على أنفسهم، وقد حصل مثل ذلك حين اتّهم الضَّالُّون البطريرك جبرائيل بأبشع التهم، فاقتيد سنة 1367 إلى طرابلس بأمر من نائبها المملوكي، وأُحرق بالنار مظلومًا عند جامع طينال، وهو الملقب بجبرائيل الحجولاوي نسبة إلى حجولا من بلاد جبيل.
إن الرسالة المهمَّة للموارنة هي تلك التي قصد ابن القلاعي توجيهها إلى أهل بشري الذين جرى النزاع بينهم وبين أهل الضنّيّة المجاورين. وعن هذا الموضوع يذكر البطريرك اسطفان الدويهي أن الضّنية كانت منذ الفتح الإسلامي بِيَد السُّنّة، وأن هؤلاء خرَّبوا أديرتها وكنائسها وطردوا منها النصارى، وراموا فعل ذلك مع نصارى جبة بشري فهاجموها. وحين استنجد هؤلاء بمقدَّمهم خذلهم، فما كان منهم إلاَّ أن اتَّحدوا وأقسموا على الصمود وانقسموا إلى أربع فرق، ونجحوا في صدّ هجوم أهل الضنية23.
انطلق ابن القلاعي من هذا ليوجِّه رسالة إلى مقدَّم بشري في زمنة عبد المنعم أيوب، الذي كان أبرز مثل عن الحكَّام الظالمين، وأشدّهم شرًّا، وأبرزهم في حماية الضَّالِّين والهراطقة اليعقوبيِّين، وليحذِّره من أنه إذا لم يسلك الطريق القويم، ويتخلَّص من اليعاقبة الذين يبلبلون أفكار الموارنة، فإن الأمير أحمد كامنٌ له ولبشري بالمرصاد، منتظراً الفرصة للانقضاض على بشري وتدميرها، وهذا الأمير المسمَّى بأحمد ليس سوى شخصية وهميَّة القصدُ منها العدوُّ المتربِّض شرًّا ببشرِّي وأهلها. وقد كرَّر ابن القلاعي مناشدته لبشرّي أن تستفيق، وأن تتخلَّص نهائيًّا من اليعاقبة، وأن تبني من جديد على صخرة الإيمان الصلبة.
كتب ابن القلاعي زجليَّاته تلك بالدُّموع حسبما جاء في آخر أبياتها، ورمى منها عبر المشاهد التي رسمها عن ستمائة عام من تاريخ الموارنة في جبل لبنان، إبلاغ رسالة دينية سياسية إلى الموارنة بضرورة بقائهم مجتمعًا مغلقًا بوجه المذاهب والبدع الدينية وبوجه المسلمين، وبضرورة الثبات على الإيمان، والابتعاد عن البدع، وطاعة الحاكم للبطريرك وتعاونهما، وتوجَّه البطريرك نحو الكرسي الرسولي في روما لتقديم الخضوع، وطلب التثبيت، وحلّ خطايا رعيته.
إن زجليَّات ابن القلاعي تعبير واضح عن وجدان الموارنة التاريخي وخصوصيّتهم، وتباهيهم بانتصاراتهم وصمودهم في جبل لبنان، وهي ليست تاريخًا بالمعنى المعروف بل هي، بحسب ما جاء عند محقِّقها بطرس الجميِّل: “قصة شعب من زاوية دينية محضة، وهي أشبه بقصة الكتاب المقدّس منها بتاريخ مستند إلى البراهين والإحصاءات، غايته: كتابة تاريخ شعب الله (الموارنة بنظره) في ضوء الأحداث التاريخية”24.

الخلاصة
بعد الحديث عن المصادر الخمسة التي تؤرِّخ للموحِّدين (الدروز) والموارنة يمكن القول إن السِّجلَّ الأرسلاني، وكتاب “قواعد الآداب حفظ الأنساب”، وتاريخ بيروت لصالح بن يحيى، وتاريخ ابن سباط، هي سجلٌّ درزي، وإن زجليَّات ابن القلاعي هي سجلٌّ ماروني، وإن كلاًّ من السِّجلَّيْن يفيد عن منحى فكري، ومنطلق تاريخي، وموقع سياسي مختلف عن الآخر. فالمؤلَّفات الأربعة الأولى تندرج في إطار التاريخ العربي والإسلامي، ذلك أن الموحِّدين (الدروز) هم في المعتقد أحد المذاهب المتفرِّعة من الإسلام، وهم في الواقع السياسي والمسيرة التاريخية من أبرز الجماعات التي جاهدت تحت لواء الإسلام، وأسَّسَت إماراتها في ظلّ الدول الإسلامية الحاكمة، فجاءت الكتابات عنهم ترجمة لمبادئهم ومفاهيمهم، وتصويرًا لسلوكهم.
أما المؤلَّف الخامس، أي زجليَّات ابن القلاعي، فهو يندرج في إطار التاريخ الخاص، المكتوب بخلفية فئوية ومناطقية، لأنه يتكلم عن الموارنة كجماعة دينية لهم معتقد مختلف عن معتقدات سائر المسيحيين المساكنين لهم، يحرصون على صونه بتحصينه إزاء هذه المعتقدات، وبالتبعيّة إلى الكرسي البابوي في روما، كما لهم وطن مقدّس خاصّ بهم هو جبل لبنان الشمالي، يدافعون عنه، ويعملون على صونه من غزوات المسلمين باتحاد القيادة الدينية مع القيادة السياسية، وبالثبات على الإيمان، وبالتعاون أحيانًا مع الروم البيزنطيين أعداء المسلمين.

فيزياء الكوانتوم

فيزياء الكوانتوم

فيزياء الكوانتوم تجـــــــد الله!

كيف قوّضت الفيزياء الحديثة
النظرية الماديّة الساذجة للكون

رشيد حسن

فيزياء نيوتن وفّرت الأسس لانتشار المادية وفلسفات ا لإلحاد لاعتبارها الكون نظاماً ذاتي الحركة لا يحتاج إلى محرك من خارجه

قرر عباقرة فيزياء القرن العشرين استكشاف عالم ما تحت الذرة
فوجدوا عالماً عجيباَ يحكمه الوعي ولا يخضع لحتمية أو لقياس

“لابدّ أن يكون هناك كائن خارج الكون يراقبه لكي تنهار الحالة الموجّية للكون لتصبح الواقع الذي نشاهده، إذ إنه من دون هذا المراقب الخارجي سيتبخر هذا الكون إلى مجرد حالة احتمال”
(عالم الفيزياء والفلكي البريطاني العالمي ستيفن هوكنز)

كانت الفترة ما بين إصدار اسحق نيوتن لكتابه حول “الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية” سنة 1687 ونهاية القرن التاسع عشر العصر الذهبي للعلوم ولتطبيقاتها في كافة أوجه الحياة اليومية للإنسان، ولهذا السبب ربما فإن هذه الفترة المهمة من تاريخ الحضارة الإنسانية كانت العصر الذهبي للنظريات المادية التي أشاحت عن المسلمات الدينية وأهملت الفلسفة والميتافيزيقيا لتحتفل بالإنجازات المتوالية للعقل البشري. شعر الإنسان أكثر من أي وقت مضى بثقة كبيرة بالعقل الإنساني وأدى التقدم العلمي والمادي إلى تعزيز الفكرة القائلة بأن الإنسان هو الذي يصنع زمنه وظروف عيشه، وبينما أدى نمط الحياة الزراعية المعتمد بشدة على الظروف الطبيعية وصعوبة التنبؤ بها إلى الحفاظ على تقاليد الإيمان والعبادات برعاية مباشرة من الكنيسة والبنى السياسية لإقطاعية، فإن انحسار العمل في الزراعة والتركز المتزايد في المدن أدى على العكس إلى نشوء أجيال شديدة الالتصاق بظروف التمدن والصناعة وأكثر ميلاً الى تبني النظرة الواثقة للفلسفة المادية والتي باتت تعتبر الإنسان هو سيد نفسه وترى (كما رأى لوثر في ألمانيا الكاثوليكية) في الدين بصيغته الرعوية الخانعة عقبة أمام التقدم الاقتصادي والعلمي والاجتماعي.
هذا التقدم الاقتصادي والعلمي وهذا التنوير الثقافي الذي أعلى كثيراً من قدر الإنسان وطاقته العظيمة جاء بدوره على أثر ثورة علمية خطيرة تمثلت خصوصاً في انهيار بعض أهم المعتقدات البالية للكنيسة والتي رفضت القبول بالعديد من المكتشفات أو الحقائق العلمية مثل القول بكروية الأرض أو موقع الشمس في مركز المجموعة الشمسية وغير ذلك من نتائج العبقرية العلمية الإنسانية، وكاد العالم الفلكي الشهير غاليليو يخسر حياته على محرقة كنسية لولا أن قبل على مضض التراجع عن النتائج العلمية التي توصل إليها، لكن العقل البشري كان، بفعل التطور العلمي والاقتصادي قد شبّ على الطوق وبات مستعداً أكثر فأكثر، عبر مفكري وفلاسفة عصر الأنوار، لتحدي الأفكار الجامدة للمؤسسة الكنسية، وأدى الاستقطاب بين العلم من جهة وبين الجمود الديني إلى تصوير الفكر الديني باعتباره مناقضاً للعلم وعامل تأخير للنهضة العلمية وحركة التطور بصورة عامة، كما ساهم في صرف فئات من الرأي العام عن الدين دافعاً بها إلى أحضان الأفكار المادية التي لم تكن الماركسية في أواسط القرن التاسع عشر سوى ذروتها الطبيعية.

نيوتن والنظرية المادية للكون
وقبل الثورة الصناعية وظهور المدنية الغربية بقرنين تقريباً كان العالم شهد حدثاً علمياً كبيراً هو قيام الفيزيائي والعالم البريطاني اسحق نيوتن في تموز/يوليو من العام 1687 بوضع المبادئ الأساسية لعلم الميكانيكا الحديث ولقوانين الحركة والجاذبية الكونية، وأبرز ما جاء به نيوتن هو إثباته أن الأشياء على الأرض كما الأجرام والكواكب تحكمها نفس مبادئ الحركة والجاذبية بدقّة ومنذ الأزل البعيد، وأدى هذا الكشف إلى تعزيز الفكرة القائلة بأن الكون “نظام قائم بذاته” ثم وبالاستناد إلى مبادئ نيوتن طور العالم الفرنسي دي لابلاس نظريته عن “الحتمية العلمية” والتي تقول “إننا لو عرفنا مواقع وسرعات كل جسيمات الكون في أحد الأوقات فإن قوانين الفيزياء ستتيح لنا أن نتنبَّأ بما ستكون عليه حالة الكون في أي وقت آخر في الماضي والمستقبل”، فكل شيء قد تحدد مسبقاً في الزمن، والكون عبارة عن آلة ميكانيكية ضخمة تسير وفق قوانين حتمية وسببية.
بذلك، تحولت قوانين نيوتن مع الوقت إلى المرتكز الأهم للنظريات المادية التي تقول بأزلية الكون وقدمه وأنه مسيّر بقوانين طبيعية دقيقة وقديمة وإنه بالتالي لا حاجة لهذا العالم إلى قوة من خارجه تنظم حركته أو تحكم عالم الأشياء والأفلاك.
لا بدّ من التوضيح مع ذلك أن نيوتن على الرغم من أن وضعه لقوانين الحركة والجاذبية الكونية كان بريئاً من النظريات المادية التي وضعت بالاستناد إلى قوانينه، بل إنه حذر من استخدام تلك القوانين بهدف تصوير الكون كآلة، فقال: “إن الجاذبية تفسِّر حركة الكواكب، ولكنها لا تفسر من الذي يجعلها تتحرك. فالله يحكم كل شيء ويعرف كل شيء كان وما يمكن أن يكون.”

اكتشاف الإلكترون يفتح أبواب المجهول
لم يؤدّ اكتشاف الذرة كجزيء متناه في الصغر إلى إضعاف النظرة المادية بل على العكس كرّسها لأن الماديين استعاروا فوراً من ديموقريطس تعريفه للذرة كأصغر جزيء للمادة باعتبارها اللبنة التي يتكون منها الكون، وقد اعتبر ديموقريطس أن كل شيء في العالم مكون من ذرّات ومن فراغ، وقد يظهر الشيء بلون معين أو بطعم معين لكن كل الاختلافات تعود إلى اختلاف في تراكب الذرّات.
لكن في العام 1897 حقق العالم البريطاني جوزيف جون طومسون كشفاً علمياً ثورياً باكتشافه للإلكترون، وبهذا الاكتشاف تأكّد أن الذرة ليست أصغر جزيء يتكون منه العالم الظاهر إذ إن محيط الإلكترون يقدر بنحو واحد من مليار مليار من الذرة (مليار مليار يجب أن يكتب على الشكل التالي:
1/1,000,000,000,000,000,000
أي واحد يتبعه 18 صفراً، مما يظهر الحجم اللانهائي في الصغر للإلكترون عند مقارنته بالذرة. وحرك اكتشاف الإلكترون طموحات فيزيائيي مطلع القرن العشرين لاستكشاف هذا العالم الجديد ومحاولة اختراق حجب المادة الكونية، لكن حتى في ذلك الحين، ورغم اكتشاف الإلكترون باعتباره جزيئاً للشعاع الكاثودي في اختبار العالم طومسون، فقد بقي الافتراض السائد في أوساط علم الفيزياء هو أن ما ينطبق على عالم الأجرام من مبادئ وقوانين نيوتن لا بدّ وأن ينطبق على عالم الجزيئات المتناهية الصغر الذي أصبح من الممكن استكشافه مع التطور الكبير في تقنيات المراقبة والاختبار والقياس.

عجائب العالم الخفي للجزيئات
بهذا الاعتقاد، بدأ هؤلاء العلماء إجراء أبحاثهم على عالم الجزيئات، لكنهم ما إن خطوا خطواتهم الأولى في هذا العالم حتى أصابهم الذهول مما شاهدوا وبدأوا يعتبرونه من الأسرار والأعاجيب.
اكتشفوا أنهم دخلوا عالماً لا يخضع إطلاقاً لقانون الحتمية أو السببية

 

مكتشف-الإلكترون-العالم-البريطاني-ج.ج.-طومسون-في-مختبره-في-جامعة-كامبردج
مكتشف-الإلكترون-العالم-البريطاني-ج.ج.-طومسون-في-مختبره-في-جامعة-كامبردج
نيلز--بوهر-قدم-مساهمة-مهمة-في-تطوير-فيزياء-الكوانتوم
نيلز–بوهر-قدم-مساهمة-مهمة-في-تطوير-فيزياء-الكوانتوم

 

“إن العِلم لا يمكنه أن يفكّ اللغز الكبير للطبيعة، لأننا وفي التحليل الأخير جزء من اللغز الذي نحاول أن نفكّ طلاسمه”

(ماكس بلانك مكتشف الكوانتوم)

وأن الانتظام البديع الذي أثبت نيوتن وجوده في سلوك الأجرام والأجسام الكبيرة غير موجود في عالم الجزيئات الغامض، وعند كل تقدم في البحث كان العلماء يفاجأون وتزيد حيرتهم، إذ يجدون أنفسهم في عالم لا يمكن التنبؤ بسلوكه، فهو عالم من موجات طاقة يمكن أن تنقلب إلى جزيئات أو جزيئات يمكن أن تنقلب إلى موجات طاقة، وهو عالم لا يمكن فيه تحديد موقع الجزيء أو سرعته في آن معاً وإنما وضع احتمالات فقط لمكان وجوده، وهو عالم يمكن للجزيء أن يكون موجوداً في أكثر من مكان في وقت واحد، كما إنه عالم ينتقل من الاحتمالية إلى الوجود الحقيقي بمجرد رصده من الإنسان، فالموجة تبقى موجة احتمالية حتى يبدأ العالِم رصدها وعندها فإنها تصبح جزيئاً يمكن التعرّف عليه، لكن ما إن يتوقف الرصد حتى يرجع الجزيء إلى حالته السابقة كموجة، كما لو أن قوة خفية هي قوة الوعي المطلق تلاعب العلماء وتخاطبهم أن ارجعوا عن أفكاركم المادية وثقتكم المطلقة بعلمكم وتقنياتكم لأن هذا الكون له أسراره وقد جاء في القرآن الكريم في هذا الموضوع قوله – جلّ من قائل:
}وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا{
(الإسراء:85)
وقد أدرك العلماء أنهم بتطفلهم على عالم الجزيئات المتناهية الصغر إنما دخلوا في ملكوت الخلق المبهر للخالق المطلق القدرة، مثلما حدث عندما اكتشفوا تمدد الكون وبالتالي كونه غير قديم بل محدثٌ ومخلوق.
وكان استكشاف العلماء لعالم الأجزاء المتناهية الصغر هو الطريق الذي سيقودهم إلى التأكّد علمياً من أن الوجود المادي ليس بالصلابة التي يظنّونها، وأن كل حركة في الكون وكل جزء وكل موجود إنما هو وجود لطيف في حقيقته وأنه يسير ويظهر كوجود صلب أو ظاهر بطاقة كامنة وواعية تظهره من عالم الاحتمال إلى عالم الوجود وإنه لا يمكن من دون هذا الوعي (أو “الراصد” كما أسماه علماء فيزياء الكوانتوم) لأي شيء أن ينتقل من عالم الاحتمال إلى الوجود العياني، أي أنه من دون عامل الوعي الذي يمكن اعتباره العقل الأرفع فإن الوجود سيتلاشى في لحظة ليعود إلى عالم الاحتمال. وقد أكّد ستيفن هوكنز أكبر فيزيائيي وفلكيي العصر الحاضر هذه الحقيقة عندما قال: “لا بدّ أن يكون هناك كائن خارج الكون يراقبه لكي تنهار الدالة الموجية للكون لتصبح الواقع الذي نشاهده، فبدون هذا المراقب الخارجي سيتبخر هذا الكون إلى مجرد دالة احتمال”.
المدهش أن الله تعالى خالق هذا الكون أنبأنا بهذه الحقيقة العلمية بوصف بات في إمكاننا أن نعي مغزاه الحقيقي اليوم عندما يقول – جل من قائل:
}إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ{
(فاطر:41)
ومن هذه الزاوية، فإن فيزياء الكوانتوم واكتشافاتها المدهشة جعلت عدداً من العلماء الصادقين يشعرون بالتواضع ومدى عجز الحواس والفكر البشري عن إدراك حقيقة الوجود وقد توصل أكثرهم وإن بطريقة غير مباشرة الى الاعتراف بوجود قدرة مطلقة تحرك الكون كما عثر بعض العلماء الذين كانوا من المؤمنين بوجود الخالق أدلة قاطعة تعطي للإيمان ولأول مرة براهين علمية لا يمكن الجدال فيها.

محاضرة-عن-فيزياء-الكوانتوم-في-إحدى-الجامعات-الأميركية
محاضرة-عن-فيزياء-الكوانتوم-في-إحدى-الجامعات-الأميركية

صَدَق الحكماء وأهل العرفان
بذلك، فإن فيزياء الكوانتوم في نظر الكثيرين أثبتت أن الحكماء والأنبياء عرفوا منذ ألوف السنين، وبالعلم اللدني والكشف العرفاني، الحقائق التي توصل إليها العلم الحديث بأسلوب الاختبار والبحث العلمي، وهؤلاء الحكماء الذين سبقونا بألوف السنين كانوا ومن دون حاجة لعلم الرياضيات أو تقنيات البصريات والفيزياء الحديثة، على اطلاع تامّ على العالم اللطيف الذي لا يختبر بالحواس وهم قاموا بوصف ذلك العالم وتحدثوا عنه.. لقد دار العلم دورة كاملة ليصل في نهاية المطاف إلى ما اختبره أهل الأسرار من حكماء العرفان، وتم بذلك وبفضل فيزياء الكوانتوم حل التناقص بين الاختبار العرفاني أو الروحي المباشر وبين العلم ، وبين الحدسي أو العرفاني وبين العقلاني.
لكن فيزياء الكوانتوم تسببت بصدمة كبيرة للفلسفة المادية التي وبالاستناد إلى فيزياء نيوتن ودي لابلاس أنشأت نظرة متكاملة عن عالم قديم غير مخلوق ويتحرك وفق حتمية مادية وقوانين ظهرت منذ الأزل، وقد تهاوت هذه المسلمات مثل بناء من ورق أمام الاكتشافات القاطعة علمياً لعالم فيزياء الكوانتوم (أو ميكانيكا الكوانتوم حسب تسمية أخرى) وكلما كان هؤلاء العلماء يتقدمون أكثر في استكشاف أغوار الجزيئات كلما كانوا يرون أمامهم عالماً لا يخضع للسببية أو للحتمية العلمية التي اعتادوا على التعامل معها في الفيزياء التقليدية. لقد اكتشفوا أن الجزيئات تتصرف بـنوع من “الحرية” وأنها لا تخضع لقانون السببية بقدر ما تعمل وفق مبدأ الاحتمالية، كما اكتشفوا – وهذا هو الذي أذهلهم- أن الجزيء يتصرف بأسلوب عندما لا يكون مراقباً لكنه يتصرف بأسلوب آخر إذا تمت مراقبته، وبدا لهؤلاء العلماء أن هذا العالم الذي يبدو صلباً وكثيفاً للحواس هو في حقيقته مؤلف من موجات طاقة لا كتلة مادية لها لكنها يمكن أن تتحول إلى جزيئات يمكن قياسها تحت ظروف معينة. وباختصار فلا شيء في عالم الجزئيات مقرّراً سلفاً مما يعني أن الحتمية العلمية التي استخلصها العلماء الماديون من قوانين نيوتن هي في عالم الجزيئات مجرد وهم، وأن عناصر الكون تتصرف وفق حكمة لا أحد يمكنه التنبّؤ بها، وهي حكمة خارجة عن أي نظام ميكانيكي مفترض يمكن قياسه أو توقع مساره المستقبلي. هنا بالتحديد طرح السؤال ما هي القوة التي تمسك بفعالية تامة وبصورة محكمة بالكون وبحركة الجزئيات والموجات وتنظّمها بصورة تعطي للأشياء والأجسام التي تبدو لنا صلبة هيئاتها وخصائصها ووظائفها؟ وهذه القدرة الذكية التي ظهرت في حركة الجزيئات وسلوكها ولاسيما صعوبة التنبؤ بما تقوم به أو بمكانها أو سرعتها أو غير ذلك من الخصائص، لا يمكن أن تكون قوة عشوائية أو عامل صدفة بل لا بدّ أن تكون قوة كلية القدرة تتخلل كل شيء وتتحكم بحركة كل شيء بدءاً باللبنات الأساسية للوجود وحتى أعظم الأجرام والأفلاك.

فيزياء الكوانتوم تجد الله
بذلك، وكما كانت قوانين نيوتن منطلقاً لازدهار التفكير اللاديني في الغرب، فإن مكتشفات علم فيزياء الكوانتوم فتحت عيون العلماء على حقيقة الغيب وأسرار الوجود وأطلقت تيارات فكرية بين العلماء أنفسهم تعتبر أن فيزياء الكوانتوم حققت التصالح بين العلم وبين الفلسفات الروحية حتى السحيقة القدم منها، ومن أجل إعطاء صورة عن حجم الصدمة التي وجهتها نظرية فيزياء الكوانتوم للنظريات المادية، يكفي استعراض القناعات التي عبّر عنها عدد من رواد ذلك العلم والذين ساهموا بصورة أساسية في تطوير فرضياته ومبادئه وقوانينه.
العالم الألماني ماكس بلانك الذي يعتبره البعض مكتشف عالم الكوانتوم في فجر القرن العشرين وبالتحديد في العام 1900 انتهى من تجاربه إلى هذا القول العميق : “إن العِلم لا يمكنه أن يفك اللغز الكبير للطبيعة، لأننا وفي التحليل الأخير جزء من اللغز الذي نحاول أن نفك طلاسمه”. ويقول بلانك أيضاً بما يدحض تماماً نظرية الحتمية العلمية “ليس من حقنا أبداً أن نفترض في عالم الفيزياء أي وجود لقانون محدد، أو أن وجود مثل هذا القانون في وقت معين يعني أنه سيستمر قائماً على نفس المنوال في المستقبل”.
فرنر شرودنغر العالم النمساوي الذي يعود له الفضل في تطوير نظرية المادة كموجات طاقة، انتهى في سنواته الأخيرة من نشر كتاب سماه “ما هي الحياة؟” وفيه توصل إلى استنتاج يتوافق مع التعليم التوحيدي الفيدانتي الذي يعتبر الروح الفردية جزءاً من “روح أوحد” هو في حقيقته أساس الحياة كلها.
أما نيلز بوهر الذي يعتبر من أبرز الذين ساهموا في تطوير فيزياء الكوانتوم فإنه تأثر بأفكار المفكر المسيحي الصوفي كيركغارد واختار لنفسه شعاراً مميزاً يمثل التفكير الفلسفي الصيني القديم للينغ واليانغ مع صورة فيل (مستوحاة من الإرث الهندوسي) وشعاراً يقول “المتضادات متكاملة في ما بينها”.
ماكس بورن العالم الألماني الذي ساهم في تطوير نظرية “عدم اليقين” في فيزياء الكوانتوم خاطب مستمعيه في حفل منحه جائزة نوبل في العام 1952 بهذه الكلمات:
“إنني أؤمن بأن أفكاراً مثل اليقين المطلق أو الصحة المطلقة أو الحقيقة النهائية الخ.. هي محض خيالات يجب عدم السماح بها في حقل العلوم، من ناحية أخرى فإن أي استنتاج حول احتمال معين يحتمل أن يكون صواباً أو خطأ من منظور النظرية التي يستند إليها. وهذا “التساهل” أو “الرخاوة الفكرية” هي في نظري أكبر نعمة منحتها العلوم الحديثة لنا، لأن الإيمان في حقل العلم بحقيقة وحيدة مطلقة وبامتلاك جهة واحدة لها، هو أصل كل الشرور في عالم اليوم”..
ويقول الفيزيائي الأمريكي فريد آلان وولف: “إن الوعي هو العنصر الخلاق في هذا العالم لكن ما هو هذا الوعي؟…إنه ذلك العنصر الذي يقع خارج العالم المادي والذي يقلص موجة الاحتمال مستخرجاً النتيجة المرصودة”.
ويقول الفيزيائي الأمريكي يوجين فيجنر: “عندما تم توسيع نطاق النظرية الفيزيائية لتشمل الظواهر الذرية من خلال استحداث ميكانيكا الكوانتوم عاد مفهوم الوعي إلى المقدمة، إذ لم يعد ممكناً صياغة قوانين ميكانيكا الكوانتوم بشكل متسق كلياً دون الرجوع إلى الوعي”.

لكن بينما أمكن تدريس قوانين نيوتن في المعاهد والجامعات وكذلك النظرية النسبية لأينشتاين فإن نظرية فيزياء الكوانتوم لن تكون في متناول الأفراد العاديين لأنها ليست نظرية بالمعنى المتعارف عليه في النظريات العلمية، بل هي “إطار” لمجموعة من النظريات والمكتشفات التي توالت وتكاملت في ما بينها بحيث كانت كل نظرية تبني على ما سبقها وتضيف إليها اكتشافات جديدة، وبهذا المعنى فإن فيزياء الكوانتوم لم تكن ثمرة عبقرية شخص واحد (كما كانت نظرية النسبية)، بل ساهم فيها العديد من العلماء خلال مدة ربع قرن على الأقل، وقد اجتمع على تطوير نظرية فيزياء الكوانتوم أعظم العقول الرياضية والفيزيائية في تاريخ البشرية وعمل هؤلاء خصوصاً منذ مطلع القرن العشرين على تطوير النظرية وعقدوا المؤتمرات العلمية لاستعراض نتائج عمل كل منهم إلى أن تمّ في مدينة كوبنهاغن العام 1925 ثم في مدينة سلوفاي في بلجيكا في العام 1927 التوصل إلى تفاهم عريض بين العشرات من علماء ذلك العصر على تعريف أهم مبادئ فيزياء الكوانتوم وقوانينها.
وبهذا المعنى، فإن علم فيزياء الكوانتوم الذي بدأ مع ماكس بلانك في العام 1900 لم تكمل ما سبقها أو تبني عليه بالطريقة التي تطور فيها تاريخ العلوم بل جاءت بفرضيات جديدة تنسف كل ما قبلها وتنسف بصورة خاصة أهم قواعد الفيزياء الكونية كما وضعها نيوتن والذين جاءوا بعده، ولهذا السبب فقد شكلت اكتشافات فيزياء الكوانتوم صدمة هائلة للعقل وحتى للتفكير العلمي، حتى إن عالماً فذاً مثل أينشتاين وجد في البدء صعوبة في القبول ببعض كشوفاتها التي بدت منافية للمنطق أو قانون السببية، وإن كان قد

التصرف الغريب لجزيئين متشابكين يظهر أنهما يتواصلان عن بعد وأن الكون كلٌّ مترابط وأن الرابط الخفي بين مختلف أجزائه هو نوع من الوعي الكوني الصــرف

أذعن لاحقاً بعد أن تم إثبات تلك النتائج التي قد لا يقبلها العقل بصورة علمية لا تقبل أي شك.
أدت ولادة فيزياء الكوانتوم إلى صدمة كبيرة للنموذج القديم للفيزياء الكلاسيكية وهي أجبرت العلماء على إجراء إعادة نظر جذرية بكل ما كانوا قد تعلموه عن الواقع من الألف إلى الياء، حتى أكبر علماء البشرية اعترفوا بأنهم لم يفهموا فيزياء الكوانتوم، ليس فقط لأن كل ما فيها لا يطابق البداهة الفكرية بل لأنها تخالف بعض أهم مرتكزات “المنطق الإنساني”. لقد أظهرت فيزياء الكوانتوم أن ما ينطبق على عالم الأشياء المنظورة أو الكبيرة لا ينطبق على عالم ما دون الذرة الذي تحكمه في الواقع قوانين مختلفة تماماً وهي قوانين تبدل فهمنا للعلاقة بين السبب والنتيجة ما هو هنا وما هو هناك مفهوم الحاضر والمستقبل. إن فيزياء الكوانتوم تدعونا لأن ندرك ليس فقط بأن حقيقة الأشياء تختلف عمّا تظهره للحواس بل إنها قد تكون أي شيء ومما لا يخطر على بال.
نأتي الآن إلى شرح فيزياء الكوانتوم محاولين جعل هذا الموضوع المعقد في متناول الناس قدر الإمكان، وسنبدأ بتعريف أساسي هو أن فيزياء نيوتن التي تلقيناها في المعاهد تهتم بالقوانين التي تحكم الأشياء الكبيرة الظاهرة للحواس مثل المجرات والأجسام والميكانيكا.. أما فيزياء الكوانتوم فإنها تهتمّ بدرس عالم الأشياء المتناهية الصغر مثل الإلكترونات والفوتونات، وعلى سبيل التبسيط وكمدخل للموضوع فإننا نعرض هنا لأهم المبادئ التي تحكم كلاً من هاتين المدرستين وتفرق بالتالي جذرياً بينهما:

أولاً: المبادئ الأساسية للفيزياء الكلاسيكية
1. العالم كله مصنوع من المادة
2. العالم يسير وفق قوانين لها طابع الحتمية
3. العالم مجموع لا نهاية له من أشياء منفصلة عن بعضها ولا يربط بينها سوى قوانين الجذب والحركة
4. العالم موجود ومستمر من تلقاء ذاته وباستقلال تام عن الوعي البشري

ثانيا: المكتشفات الأساسية لفيزياء الكوانتوم
1. العالم ليس مكوّناً من مادة صلبة بل هو عبارة عن طاقة وموجات من الوجود الاحتمالي
2. العالم ليس عبارة عن ساعة كونية دقيقة بل وجوداً تحكمه العفوية ودرجة كبيرة من الحرية في حركة عناصر هذا الوجود.
3. العالم ليس مكوناً من أشياء مستقلة تتفاعل في ما بينها في إطار الزمان والمكان بل من مكونات متشابكة من كلٍّ لا يتجزأ ويجمعها وعي واحد.
4. العالم لا يوجد بذاته كماهية مستقلة عن المراقب بل يبدل شكله وفقاً للطريقة التي يراقب بها من الوعي البشري، فالوعي إذاً ليس مجرد شاهد بل عامل فعل في الوجود.

العالم كله موجات طاقة
كان ماكس بلانك أول من لاحظ الخاصية المزدوجة للموجة- المادة وذلك عندما وجد في اختبار أجراه في العام 1900 أن توزيع الألوان المنبعثة من لهيب مضيء مثل المصباح الكهربائي يتبع نظاماً معيناً يشير إلى أن الضوء لا يأتي كموجة متواصلة كما يقول نيوتن وإنما في “كميات” Packs وبالتالي فإن الضوء يمكن أن “يتخذ صفة كمية” أي يصبح Quantized، ومن أجل إعطاء تعريف للوحدة من تلك “الدفعات” المتوالية من “كم” الضوء أطلق بلانك عليها اسم Quanta واشتّقَّ اسم فيزياء (أو ميكانيكا) الكوانتوم في ما بعد من تلك التسمية.
من دون أن يدري كان بلانك يكشف النقاب عن أحد أغرب الحقائق في تكوين الوجود والتي ستأخذ محاولة فهمها عقوداً من الزمن وهي مسألة الطبيعة المزودة للوجود كمادة وكطاقة في الوقت نفسه مع إمكان تحول المادة إلى طاقة والطاقة إلى مادة، وبما أن مادة الكون ليست في النهاية بالصلابة التي نظن وإنما هي موجة أو طاقة في الوقت نفسه فإن الاستنتاج الذي بني على هذا الكشف هو أن الوجود الظاهر بكامله ليس المادة التي نراها بحواسنا فلا الجبال جبالاً ولا البحار بحاراً بل الكلّ هو محيط لا نهاية له من تلك اللبنة الصغرى للكون وهي مجرد طاقة أو نور، لكنها طاقة لطيفة يمكن أن “تتكثف” وطاقة كثيفة يمكن أن “تتلطف” وقد فضل بعض العلماء القول إن اللبنة الأساسية للوجود لا هي طاقة ولا هي مادة بل هي شيء فريد يسمونه الكوانتوم Quantum للدلالة على تكوينه الهيولاني الذي تصعب الإحاطة به وبحقيقته.

إنهيار الحتمية المادية
لكن هدم الفرضية المادية لحقيقة العالم لم يكن سوى أولى وأهم النتائج التي توصلت إليها فيزياء الكوانتوم، ذلك أن اعتبار الوجود المادي مجرد محيط لا نهائي من الموجات الاحتمالية هدم أيضاً الحتمية المادية للفيزياء النيوتنية، فهذا التكوين المعقد الذي يمثل

أرفنغ-شرودنغر-قدم-العديد-من-أسس-ميكانيكا-الكوانتوم-وكتب-في-علم-الأكوان-والألكتروديناميكس-والألوان-واهتم-كثيرا-بالفلسفات-
أرفنغ-شرودنغر-قدم-العديد-من-أسس-ميكانيكا-الكوانتوم-وكتب-في-علم-الأكوان-والألكتروديناميكس-والألوان-واهتم-كثيرا-بالفلسفات-

بنية الوجود الظاهر لا يمكن التنبؤ بأي من سماته بيقينية علمية، وبدل النظر إلى المادة كبنية أو كنظام تحكمه قوانين دقيقة اكتشفت فيزياء الكوانتوم أن الآلة الكونية تتصرف، عند مستوى الجزيئات المتناهية الصغر بقدر كبير من العفوية وضمن حيز من الحرية يجعل من المستحيل التعامل معها وفق المعايير اليقينية للفيزياء النيوتنية التي بدت قابلة للتطبيق على الأنظمة الكونية الكبيرة.مبدأ عدم اليقين بحسب هذه الخاصية في طبيعة الجزيئات والتي اكتشفها هايزنبرغ في العام 1926 فإن هناك عدم يقين أساسي في جميع الكميات المتناهية الصغر التي نرغب في قياسها، فنحن لا يمكننا أن نحدد بدقة موقع جزيئات الكوانتوم بسبب طبيعتها الموجية الضبابية وغير المستقرة على حال، وحسب مبدأ عدم اليقين فإن من المستحيل على المراقب أن يكون متأكداً من مكان الجزيء particle ومن سرعة حركته في آن واحد، وبهذا المعنى كلما تمكّنا من إزالة عدم اليقين بالنسبة الى مكان الجزيء فإننا نزيد إلى الحد الأقصى درجة عدم اليقين بالنسبة الى سرعته والعكس بالعكس، وعندها فإن الدارس يمكنه فقط أن يحدد نسب احتمال معينة لكافة الأمكنة التي يمكن أن يوجد فيها الجزيء وللسرعة التي سيكون عليها، وقد تمكن العالم الألماني شرودنغر من وضع حل لهذه المسألة عبر ما سمّي بمعادلة الموجة Wave function.
هذه الخاصية في الجزيئات أمر محيّر فعلاً لأنه يناقض ما اعتدنا عليه في عالم الأشياء التي نتعامل معها، فنحن نعلم أن كل شيء يجب أن يكون في مكان معين يمكن أن نعلمه وأن يكون له وزن أو قيمة معينة يمكن قياسها ووضعية حركة معينة يمكن التثبت منها ووقت معين للحدوث. أما في مراقبة الجزيئات فإن هذه الأمور غير متوافرة بسبب مبدأ عدم اليقين، وقد توصل العالم الألماني ديفيد هيلبرت في العام 1904 إلى وضع معادلات رياضية احتمالية معقدة للتعامل مع هذه الخاصية في فيزياء الكوانتوم.

ظاهرة التشابك Entanglement
أحد أغرب مبادئ فيزياء الكوانتوم هو المسمى مبدأ “التشابك” وبموجبه فإنه عندما يقترب جزيئان من بعضهما فإنهما يتشابكان، بمعنى أن خصائصهما تصبح مترابطة، وعندها فإنهما سيبقيان على ترابطهما حتى ولو أرسلنا كلاً منهما في اتجاه مختلف أو لو باعدنا بينهما بمسافات ضوئية!..بذلك وعند قياس زوج من الجزيئات تم تشابكهما فإن كل خاصية تظهر في أحدهما يظهر عكسها في الجزيء الآخر، وهذه الخاصية جعلت العلماء يعتقدون أن الجزيئين الذين قد تفصل بينهما مسافات خيالية لديهما وسيلة للتواصل عن بعد عبر الفضاء ويظهر من سلوكهما أنهما يعلمان كونهما يخضعان لعملية قياس، والأغرب أن كلاً منهما يقوم بتعديل موقفه بناء على “معرفته” بما يحصل للجزيء “التوأم” على الطرف الآخر وإن كان بعيداً جداً.
إن أي نقل معلومات مفترض من جزيء إلى آخر مترابط لا يفترض أن يتم بسرعة تفوق سرعة الضوء، فكيف يحدث أن يتمكن الجزيئان المتشابكان من التواصل الفوري رغم أن ما قد يفصل بينهما قد يكون مسافات فلكية؟ ألا يدلّ ذلك على أن هذا الترابط أو التناغم الفوري بين الجزيئين يدلّ على أن الوجود كله وبكل أجزائه متصل اتصالاً تاماً وأن هناك وعياً واحداً يدير جميع ذرّات وجزئيات الكون كما لو كانت كلاً واحداً؟
تعني ظاهرة “التشابك” أيضاً أننا بمحاولة قياس أحد الجزيئين المتشابكين إنما نُبدِّل حالة الآخر كما لو أن المسافة غير موجودة بينهما. ونظراً الى أن موقع الجزيئات لا يبدو قابلاً للتحديد أو التنبؤ به وبالتالي بسبب خضوع ذلك لمبدأ “عدم اليقين” فقد ذهب بعض علماء فيزياء الكوانتوم إلى حدّ القول إن الجزيئات لا تكون موجودة في مكان أو في حالة محددة قبل قياسها. بناء على ذلك، فإننا بمحاولة قياس الجزيء إنما “نجبره” على أن يتخلى عن كافة الأماكن (أو الحالات) التي يحتمل وجوده فيها وأن يختار مكاناً واحداً محدداً أو حالة معينة يمكننا أن نجده عليها. مثلاً قبل مراقبتهما فإن الجزيئين قد يبدوان وهما يدوران

 

الشعار-الرسمي-للعالم-نيلز-بوهر-ويظهر-فيه-كلمة-{المتضادات-متكاملة}-وعلامة-الين-واليانغ-الصينية-ثم-الفيل-المستوحى-من-الفسلفة
الشعار-الرسمي-للعالم-نيلز-بوهر-ويظهر-فيه-كلمة-{المتضادات-متكاملة}-وعلامة-الين-واليانغ-الصينية-ثم-الفيل-المستوحى-من-الفسلفة

معاً في اتجاه عقارب الساعة وفي عكسه في آن واحد وهو ما يسمى بحالة “التراكب” Superimposition لكننا ما إن نبدأ تجربة الرصد فإننا سنجد أن كلاً من الجزيئين سيختار مداراً معيناً فإذا بدأ أحدهما يدور في اتجاه عقارب الساعة فإن الآخر سيبدأ في الدوران في عكس اتجاهها.
هذه المفارقة المدهشة تكاد تقدم البرهان على أن هذا الكون الذي لا تبدو له بداية أو نهاية إنما هو كل مترابط وأن الرابط الخفي بين مختلف أجزائه هو نوع من الوعي الكوني الصرف.

دور المراقب
أحد أهم الاختبارات التي أجريت في نطاق استكشاف ثنائية الموجة-الجزيء هو المعروف باختبار الثقب المزدوج ‘double split experiment’. تم في هذا الاختبار إطلاق دفعات متتابعة من موجات الضوء (الفوتون) من خلال لوح معدني أحدث فيه ثقبان، وقد تبين خلال التجربة أنه وعند إطلاق فوتونات واحداً بعد الآخر فإن الفوتون كان ينقسم على نفسه ويمر من خلال الثقبين في وقت واحد مما يعني أنه كان في وقت واحد يتخذ شكل الموجة وشكل الجزيء.
المفاجأة الأهم في تلك التجربة كان ما اكتشفه العلماء من الدور المهم للمراقب في الاختبار إذ إن وضع جهاز مراقبة للفوتونات عند مرورها في الثقب يجعلها “تقرر” التحول إلى جزيئات وهو ما سمي بانهيار “موجة الاحتمال”.. وحتى ذلك الوقت فإن التجربة بالنسبة الى عالم الفيزياء هي مجرد ملاحظة للواقع وهو لا يفعل إلا متابعة التجربة وتسجيل النتائج وليس لوجوده بالتالي أي تأثير على نتيجتها، أما في فيزياء الكوانتوم فإن مجرد النظر إلى الفوتون أثناء درس سلوكه ليس فقط يبدل الطريقة التي نفهم بها التجربة بل يبدل سلوك الفوتون وبالتالي نتيجة التجربة ذاتها.
الفيزيائي البريطاني برايان غرين حاول أن يشرح مفارقة دور المراقب في كتابه “الحقيقة الخفية” بالقول :”إن التفسير المتفق عليه من قبل نيلز بوهر ورفاقه والذي سمي في ما بعد “تفسير كوبنهاغن” هو أنه في كل مرة يحاول المرء تتبع إحدى الموجات الاحتمالية للمادة من أجل درسها، فإن فعل التتبع في حدّ ذاته يحبط التجربة”، كأن هذه اللبنة الأساسية للوجود تعلم بأن بشراً يحاول كشف سرّها فتقوم بإحباط مسعاه، أو كأنما الوعي الكامن خلف هذا الكون يترك للإنسان أمر الدخول في ظاهر الوجود لكنه يبيّن له في الوقت المناسب أنه سيكون عاجزاً عن كشف حقيقة الوجود ولو باستخدام أحدث التقنيات والمعارف البشرية لان ذلك الجانب هو ما يصفه الله تعالى بـ :” عالم الغيب” كما يصف نفسه وحده بـ “عالِم الغيب” بكسر اللام كما في قوله – جلّ من قائل:
}وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ{ (الأنعام: 59)

العالم-الألماني-ماكس-بلانك-مؤسس-علم-فيزياء-الكوانتوم--اكتشف-في-العام-1900-أن-الضوء-لا-يتصرف-كموجة-متواصلة-بل-كدفعات-لها-كم-مع
العالم-الألماني-ماكس-بلانك-مؤسس-علم-فيزياء-الكوانتوم–اكتشف-في-العام-1900-أن-الضوء-لا-يتصرف-كموجة-متواصلة-بل-كدفعات-لها-كم-مع

العالم الظاهر قد يبدو صلبا وخاضعا لقوانين الجذب والحركة حسب فيزياء نيوتن لكنه حسب فيزياء الكوانتوم مجرد موج احتمالات وطاق

صعوبة التنبؤ بالنتيجة
إحدى النتائج الأخرى التي نجمت عن تلك التجربة هي أن العلماء وجدوا أنفسهم عاجزين عن التنبؤ أين يحتمل للفوتونات أن تستقر على الشاشة، وهذا مناقض تماماً لـ “الحتمية” التي تبنتها الفيزياء الكلاسيكية والتي تقول بأننا إذا عرفنا عدداً من المتغيرات في حركة الشيء مثل نقطة انطلاقه وسرعته عند الانطلاق واتجاهه وعوامل أخرى يمكن قياسها فإنه سيكون في إمكاننا أن نتنبأ بدقة بمساره وبالنقطة التي سيصل إليها وفي أي وقت. لقد تبين أن الجزيئات لا تخضع لتلك الحتمية وأنها تتصرف بقدر كبير من الحرية لأن الجزيء لا يتميز بخاصية يمكن تحديدها، فلا هو موجة بالمعنى المحدد ولا هو جزيء بل هو “موجة احتمال” تحتوي في داخلها على إمكان أن تكون في هذا المكان أو في مكان آخر، وبحسب فيزياء الكوانتوم فإن السؤال يكون عادة ليس “أين يوجد الجزيء الآن؟” بل ما هو احتمال أن نعثر عليه في الحقل المكاني الذي نبحث فيه؟ وبهذا المعنى فإن فيزياء الكوانتوم هي علم احتمالات وليس علماً تقريرياً كما هي الحال في الفيزياء الكلاسيكية.

بين نيلز بوهر وأينشتاين
إن تغيير الجزيء لحاله من موجة إلى جزيء عند النظر إليه يسمى “لغز الكوانتوم” وهو لغز لم يجد العلم له تفسيراً حتى الآن وقد استفز ذلك عالماً كبيراً ساهم في تطور الفيزياء الحديثة هو ألبرت أينشتاين الذي اعتبر “اللغز” دليلاً على أن فيزياء الكوانتوم علم غير مكتمل، وهو عبّر عن ذلك بالقول:”إنني أحب أن أفكر بأن القمر موجود حتى عندما لا أكون أراقبه، كما اشتهر بقوله أيضاً “إن الله لا يدير الكون بلعب النرد” وذلك إشارة إلى أن فيزياء الكوانتوم تقوم على علم احتمالات وليس على مسار مقرر سلفاً، وقد ردّ الرائد الأول لفيزياء الكوانتوم نيلز بوهر على أينشتاين بالقول:”صحيح يا ألبرت، لكن لا تقل لله ما الذي ينبغي عليه أن يفعله”..
وبسبب ذلك الإشكال أصدر ألبرت أينشتاين مع عالمين آخرين في العام 1935 ورقة بحثية اعتبر فيها أن ظاهرة التشابك تدل على أن نظرية فيزياء الكوانتوم ليست كاملة ويشوبها النقص، لكن مجموعة متتالية من الأبحاث والاختبارات أكدت مع الوقت أن ظاهرة التشابك صحيحة لأنها تتكرر في كافة الاختبارات، وكان آخر اختبار عملي أثبت الظاهرة بصورة تامة جرى في العام 2015.

الكوانتوم وخاصية اختراق الأشياء الصلبة
إحدى الخصائص الأخرى لسلوك الكوانتوم يدعى “سلوك الأنفاق” quantum tunneling والمقصود هنا هو قدرة الكوانتوم (أي الجزيء المتناهي الصغر) على إحداث “نفق” في حاجز واختراقه، وهي خاصية مناقضة لمبادئ الفيزياء الكلاسيكية. مثال على ذلك، لو تم إطلاق إلكترون باتجاه جدار سميك فإنه قد يتوصل إلى المرور عبر الجدار مع أن المنطق هو أنه لا يتمكن من ذلك، وأحد التفسيرات التي قدمها فيزيائيو الكوانتوم لذلك هو قدرة الإلكترون على “استعارة” طاقة من محيطه الفوري في الجدار مستخدماً تلك الطاقة كجسر يسمح له بعبور الحاجز ثم يقوم الإلكترون بـ “تسديد” الطاقة التي استعارها عند بلوغه الجانب الآخر. ومهما يكن التعليل العلمي لهذه الظاهرة فإنها قائمة وتمّ إثباتها علمياً وهي ظاهرة تناقض تماماً فيزياء نيوتن والأشياء الظاهرة أو الكبيرة وقد لا يكون للعلم حتى الآن تفسير مرض لها.
إن الموجات التي تكوِّن بنية المادة التي يتألف منها الكون ليست موجات عادية ، فمثلاً موجات الماء أو الصوت تتكون من ذبذبات لوسيط ذي حقيقة فيزيائية، لكن موجات الكوانتوم ليست ذبذبات لوجود فيزيائي أو مادي بالمعنى المتعارف عليه، كل ما هنالك أن المادة “ذابت” في موج غير مادي من الوجود الاحتمالي، فالكوانتوم لا يقدّم وصفاً للخصائص الفيزيائية للجزيء لكنه يصف فقط خصائصه الاحتمالية وبالتالي فإن المدار الذي يتخذه الجزيء ليس المدار الحقيقي بل فقط موجاً لاحتمال وجود الجزيء في عدد من الأمكنة، وبدلاً من وصف حركة تلك الجزيئات كما يحصل عند تطبيق قوانين نيوتن فإن قوانين الكوانتوم يمكنها فقط أن تصف موجات الاحتمالات التي يمكن لتلك الجزيئات أن تتبعها، فالجزيء الفعلي غير موجود. فقط إمكان وجوده في هذا المكان أو المدار أو ذاك هو ما يمكن أن نحصل عليه من المراقبة، وبهذا المعنى فإن الجوهر الصلب الذي بني عليه اليقين العلمي للفلسفة المادية تبخر تماماً في موج من معادلات موجية تصف فقط الاحتمالات القائمة لظهور الجزيء.

خلاصة: هل العالم متعدد أم وجود واحد؟
حسب التصور المادي الميكانيكي للكون فإن العالم مكوّن من عدد لا نهائي من الجزيئات المنفصلة عن بعضها والمستقلة لكن المرتبطة فقط بقوانين الحركة والجذب وغيرها من المبادئ التي بلورها اسحق نيوتن والذين جاءوا من بعده، لكن فيزياء الكوانتوم أظهرت من خلال ولوج “العالم التحتي” للجزيئات المتناهية الصغر وبالبرهان العلمي وجود وعي كوني خفي لا يخضع في سلوكه لقوانين سببية أو لحتمية بل يتصرف بحرية خلاقة ويرسل لنا الرسالة تلو الرسالة بأن هذا العالم الذي يبدو للحواس متعدداً ومجزّأً ليس في الحقيقة إلا وجود واحد لكنه وجود مهندس بأسلوب يجعلنا نطمئن على هذا الكوكب الصغير الذي لا يمثل حتى قترة غبار بالنسبة إلى الكون الشاسع، فنشعر بالثقة والأمان لأن أشياء العالم الخارجي التي نعتمد عليها يجب أن تظهر مستقرة وثابتة كما إن تمكين الإنسان في الأرض يتمثل في وجود قوانين دقيقة يمكنه بواسطتها أن يسخِّر الموارد لعيشه وحركته، لكن الوعي الذي يشكل مادة الكون الشاملة خبأ لهذا الإنسان آيات ومفاجآت مُعجِزة عندما أراد الانتقال من درس عالمه المباشر إلى تفحص كنه الوجود عبر درس الجزيئات المتناهية الصغر ، لأن الإنسان اقترب بذلك من ملكوت القدرة وسر الخلق فجاءته العبرة وأدرك أنه يقترب بذلك من الكنز المخفيّ الذي وصف الله تعالى به نفسه عندما قال حسب حديث قدسيّ
“ كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن اعرف فخلقت خلقاً فبيَ عرفوني ”
ولقد اقتربت فيزياء الكوانتوم من حمى الكنز المخفي فجاءها من الآيات المعجزات ما ردّ العلم إلى حدود قدرته الإنسانية وذكّر الإنسان باستحالة الدخول في غياهب الخلق بما يتعدى عتبة الدار. “فالإنسان، كما قال بلانك، لا يمكنه حلّ لغز هو نفسه جزء منه” مثلما أن من المستحيل للكمبيوتر أو أي آلة صنعها الإنسان أن تدرك حقيقتها هي أو سر الإنسان الذي صنعها ..
أخيراً، فإن فيزياء الكوانتوم، عدا عن هدمها للنظرية الساذجة حول مادية الكون وأزليته، أعادت فضيلة التواضع إلى ساحة العلوم وأعطت العلماء أول درس إيضاحي –وبالبراهين- عن حقيقة القوة الواعية التي تحرك الكون، مقدمة البراهين العلمية التي تؤكد ما جاءت به فلسفات التوحيد الفيدانتي أو الفيثاغورسي أو الهرمسي منذ ألوف السنين وهي أن الكون موجود واحد ووعي واحد وأن كل ما نراه من تعدد ما هو إلا أمثلة لتجليات الخلّاق العظيم في بحر القدرة اللانهائي والذي هو المصدر الواحد لجميع الموجودات في هذا الكون.

} مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ{(لقمان:28)
صدق الله العظيم

خلاصة: هل العالم متعدد أم وجود واحد؟
حسب التصور المادي الميكانيكي للكون فإن العالم مكوّن من عدد لا نهائي من الجزيئات المنفصلة عن بعضها والمستقلة لكن المرتبطة فقط بقوانين الحركة والجذب وغيرها من المبادئ التي بلورها اسحق نيوتن والذين جاءوا من بعده، لكن فيزياء الكوانتوم أظهرت من خلال ولوج “العالم التحتي” للجزيئات المتناهية الصغر وبالبرهان العلمي وجود وعي كوني خفي لا يخضع في سلوكه لقوانين سببية أو لحتمية بل يتصرف بحرية خلاقة ويرسل لنا الرسالة تلو الرسالة بأن هذا العالم الذي يبدو للحواس متعدداً ومجزّأً ليس في الحقيقة إلا وجود واحد لكنه وجود مهندس بأسلوب يجعلنا نطمئن على هذا الكوكب الصغير الذي لا يمثل حتى قترة غبار بالنسبة إلى الكون الشاسع، فنشعر بالثقة والأمان لأن أشياء العالم الخارجي التي نعتمد عليها يجب أن تظهر مستقرة وثابتة كما إن تمكين الإنسان في الأرض يتمثل في وجود قوانين دقيقة يمكنه بواسطتها أن يسخِّر الموارد لعيشه وحركته، لكن الوعي الذي يشكل مادة الكون الشاملة خبأ لهذا الإنسان آيات ومفاجآت مُعجِزة عندما أراد الانتقال من درس عالمه المباشر إلى تفحص كنه الوجود عبر درس الجزيئات المتناهية الصغر ، لأن الإنسان اقترب بذلك من ملكوت القدرة وسر الخلق فجاءته العبرة وأدرك أنه يقترب بذلك من الكنز المخفيّ الذي وصف الله تعالى به نفسه عندما قال حسب حديث قدسيّ
“ كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن اعرف فخلقت خلقاً فبيَ عرفوني ”
ولقد اقتربت فيزياء الكوانتوم من حمى الكنز المخفي فجاءها من الآيات المعجزات ما ردّ العلم إلى حدود قدرته الإنسانية وذكّر الإنسان باستحالة الدخول في غياهب الخلق بما يتعدى عتبة الدار. “فالإنسان، كما قال بلانك، لا يمكنه حلّ لغز هو نفسه جزء منه” مثلما أن من المستحيل للكمبيوتر أو أي آلة صنعها الإنسان أن تدرك حقيقتها هي أو سر الإنسان الذي صنعها ..
أخيراً، فإن فيزياء الكوانتوم، عدا عن هدمها للنظرية الساذجة حول مادية الكون وأزليته، أعادت فضيلة التواضع إلى ساحة العلوم وأعطت العلماء أول درس إيضاحي –وبالبراهين- عن حقيقة القوة الواعية التي تحرك الكون، مقدمة البراهين العلمية التي تؤكد ما جاءت به فلسفات التوحيد الفيدانتي أو الفيثاغورسي أو الهرمسي منذ ألوف السنين وهي أن الكون موجود واحد ووعي واحد وأن كل ما نراه من تعدد ما هو إلا أمثلة لتجليات الخلّاق العظيم في بحر القدرة اللانهائي والذي هو المصدر الواحد لجميع الموجودات في هذا الكون.

} مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ{(لقمان:28)
صدق الله العظيم

خلاصة: هل العالم متعدد أم وجود واحد؟
حسب التصور المادي الميكانيكي للكون فإن العالم مكوّن من عدد لا نهائي من الجزيئات المنفصلة عن بعضها والمستقلة لكن المرتبطة فقط بقوانين الحركة والجذب وغيرها من المبادئ التي بلورها اسحق نيوتن والذين جاءوا من بعده، لكن فيزياء الكوانتوم أظهرت من خلال ولوج “العالم التحتي” للجزيئات المتناهية الصغر وبالبرهان العلمي وجود وعي كوني خفي لا يخضع في سلوكه لقوانين سببية أو لحتمية بل يتصرف بحرية خلاقة ويرسل لنا الرسالة تلو الرسالة بأن هذا العالم الذي يبدو للحواس متعدداً ومجزّأً ليس في الحقيقة إلا وجود واحد لكنه وجود مهندس بأسلوب يجعلنا نطمئن على هذا الكوكب الصغير الذي لا يمثل حتى قترة غبار بالنسبة إلى الكون الشاسع، فنشعر بالثقة والأمان لأن أشياء العالم الخارجي التي نعتمد عليها يجب أن تظهر مستقرة وثابتة كما إن تمكين الإنسان في الأرض يتمثل في وجود قوانين دقيقة يمكنه بواسطتها أن يسخِّر الموارد لعيشه وحركته، لكن الوعي الذي يشكل مادة الكون الشاملة خبأ لهذا الإنسان آيات ومفاجآت مُعجِزة عندما أراد الانتقال من درس عالمه المباشر إلى تفحص كنه الوجود عبر درس الجزيئات المتناهية الصغر ، لأن الإنسان اقترب بذلك من ملكوت القدرة وسر الخلق فجاءته العبرة وأدرك أنه يقترب بذلك من الكنز المخفيّ الذي وصف الله تعالى به نفسه عندما قال حسب حديث قدسيّ
“ كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن اعرف فخلقت خلقاً فبيَ عرفوني ”
ولقد اقتربت فيزياء الكوانتوم من حمى الكنز المخفي فجاءها من الآيات المعجزات ما ردّ العلم إلى حدود قدرته الإنسانية وذكّر الإنسان باستحالة الدخول في غياهب الخلق بما يتعدى عتبة الدار. “فالإنسان، كما قال بلانك، لا يمكنه حلّ لغز هو نفسه جزء منه” مثلما أن من المستحيل للكمبيوتر أو أي آلة صنعها الإنسان أن تدرك حقيقتها هي أو سر الإنسان الذي صنعها ..
أخيراً، فإن فيزياء الكوانتوم، عدا عن هدمها للنظرية الساذجة حول مادية الكون وأزليته، أعادت فضيلة التواضع إلى ساحة العلوم وأعطت العلماء أول درس إيضاحي –وبالبراهين- عن حقيقة القوة الواعية التي تحرك الكون، مقدمة البراهين العلمية التي تؤكد ما جاءت به فلسفات التوحيد الفيدانتي أو الفيثاغورسي أو الهرمسي منذ ألوف السنين وهي أن الكون موجود واحد ووعي واحد وأن كل ما نراه من تعدد ما هو إلا أمثلة لتجليات الخلّاق العظيم في بحر القدرة اللانهائي والذي هو المصدر الواحد لجميع الموجودات في هذا الكون.

} مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ{(لقمان:28)
صدق الله العظيم

المؤتمر-الذي-كرس-فيزياء-الكوانتوم---سلوفاي 1927
المؤتمر-الذي-كرس-فيزياء-الكوانتوم—سلوفاي 1927

المؤتمر الذي أطلق فيزياء الكوانتوم

بلغ من أهمية الجهود التي تجمعت من كل أنحاء العالم المتقدم لتطوير أسس فيزياء الكوانتوم أن استقطبت إلى النقاشات العلمية بشأنها أبرز عباقرة العالم في ذلك التاريخ وعلمائه الأفذاذ وكان هؤلاء يعقدون اجتماعات سنوية بهدف استعراض التقدم الحاصل في الأبحاث التي يجريها كل منهم ومقارنة النتائج والإتفاق على المبادئ التي يتمّ التوصل إليها. وعقد أول لقاء بين عدد من هؤلاء العلماء في العام 2011 في معهد سلوفاي الدولي للفيزياء والكيمياء الذي كان قيد التأسيس في بروكسل بلجيكا وتناول الاجتماع موضوع الأشعة والكوانتوم. وعقدت اجتماعات لاحقة قطعتها الحرب العالمية الأولى، إلا أن الاجتماع الخامس الذي كان الأهم تاريخياً عقد في سلوفاي أيضاً في العام 1927 حول موضوع الفوتون والإلكترون. يومها كان علم فيزياء الكوانتوم قد حقق تقدماً كبيراً ونشر الكثير من مبادئه العلمية الثورية. والملفت أن 17 من أصل 29 عالماً حضروا لقاء سلوفاي الخامس كانوا حاملين لجائزة نوبل أو من الذين سيحصلون عليها في وقت لاحق. وقد قرر المجتمعون في تلك السنة أخذ صورة جماعية تذكارية في حديقة المؤسسة في بروكسل وهم خلّفوا لنا بذلك مستندا بالغ الأهمية عن العلماء الذين ساهموا في ولادة وتنمية علم فيزياء الكوانتوم. وهنا أسماؤهم وفق الترتيب الظاهر في الصورة وهو ترتيب يبدأ من اليسار إلى اليمين وابتداء من الصف الأخير ثم الثاني ثم الأول:
الصف الأخير (وقوفاً من اليسار): أوغست بيكار (سويسرا) أميل هنريو (فرنسا) بول أهرنفست (النمسا) إدوار هرزن (بلجيكا) تيوفيل دي دوندي (بلجيكا) أرفين شرودنغر (النمسا) جول أميل فرشافلت (بلجيكا) ولفغانغ بولي (النمسا-سويسرا) فرنر هايزنبرغ (ألمانيا) رالف هاورد فاولر (بريطانيا) ليون بريّوان (فرنسا)
الصف الثاني (وقوفا من اليسار) بيتر دبيبه (هولندة) مارتن كنادسدن (دانمارك) وليم لورنس براغ (بريطانيا) هانس كريمر (هولندا) بول ديراك (بريطانيا) آرثر كومبتون (الولايات المتحدة الأميركية) لويس دي بروغلي (فرنسا) ماكس بورن (ألمانيا) نيلز بوهر (دانمارك)
الصف الأمامي (جلوسا من اليسار): أرفنغ لانغموير (الولايات المتحدة الأميركية) ماكس بلانك (ألمانيا) ماري كوري (فرنسا) هندريك لورنتز (هولندا) ألبرت أينشتاين (ألمانيا) بول لانجفان (فرنسا) شارل أوجين غيي (سويسرا) شارلز تومسون ريز ويلسون (بريطانيا) أوين ويلانز ريتشاردسون (بريطانيا).

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ نعيم حسن

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

ترشيد النفوس مع
تعديل النصوص

إنّ طبيعةَ الاعتقاد الإيمانيّ التي تتميَّزُ بالثباتِ يجبُ أن تكونَ دافعاً إلى مواكبةِ الأوضاع المعاصِرة، عقلاً واجتهاداً حميداً، نحو تحوُّلات الواقع ومؤثّراتها في كافَّة الحالات الاجتماعيَّة.

موضوعان جديران بالاهتمام اليوم في المجتمع: رفع سن الحضانة، وجعل الابنة عصبة بنفسها إذا انفردت في الميراث. هذا التطور في انصاف البنت إذا انفردت او البنات عند انفرادهن هو الإنجاز الأفضل والأقرب إلى ميزان السَّويَّة بالمعنى الحقوقيّ العادل. أمّا رفع سن الحضانة فإننا نحذّر من استعمال مضمون القانون تعسفاً بعيداً عن روح الاعراف والتقاليد الاصيلة ومبادئ التآلف والتحابب وغاية الزواج التي هي شرعة من شرائع البقاء.
إنّ المهمة الأساسية التي اعدّتها الحياة لكل فتاة هي ان تكون “ أمّاً، ربّة بيت”. وهو دور طبيعي لا يستطيع أحد ان يبدّله، كما لا يبدّل الصدق بالكذب والخريف بالربيع، وهي المهمة التي يجب ان تعدّ كلّ فتاة نفسها من اجلها، ولا نقصد بقاء المرأة ضمن منزلها لواجباتها البيتية كالطبخ وغيره … بل ان تكون “ أمّاً، ربّة بيت” سواء عملت طبيبة او محامية او مدرّسة… او موظفة عادية. وبرأينا ان هذا اللقب يهتزّ عرشه إذا أصبحت فيما بعد مطلقة.
إنَّ رفع سنّ الحضانةِ يأتي من بابِ تقدير “الأمومة” ودورها الذي يقتضي من بابٍ أوْلى الحرص كلّ الحرص على حفظ كيان الأسرةِ وألفتها لأنه الضمانة الأغلى للتربيةِ السليمة وسلامة العائلة في مسارها الحياتي حاضرا ومستقبلا. والنظر إلى الطلاق بأنَّه “بغيض” وذي عواقب غير سليمة من عدَّة وجوه. ولا يجوز بأيِّ حالٍ من الأحوال اعتبار التعاطُف مع الأمومة في هذا التعديل مؤشِّراً لاستسهال الطلاق، وعاملاً من عوامل اتّخاذ خِياره ( دون ان ننسى عدم جواز رجوع المطلقة). وهذا يدفعُ بنا إلى طرح قضيَّة المسؤوليَّة في الإقدام على الزواج، وضرورة مقاربته بالوعي والتأنِّي والفهم الكافي للوقائع واستحضار العقل للحدِّ من سلطان العاطفة في هذه الخطوة المصيريَّة.
هذا من شأنه الحثّ على اغتنام فرصة الخطوبة لتسبق المصارحة الصادقة والتفاهُم المشترك بحُسن نيّة وإدراك واقع المستوى المادي قبل خطوة إجراء العقد. يدفعنا إلى هذا القوْل معرفتنا الوافية بأسباب حدوث التصدُّع العائلي والخلافات المؤدية إلى الطلاق الذي تتصاعد وتيرتُه في السنوات الأخيرة لأسبابٍ شتَّى.
أمام هذا الواقع، نجدُ أنفسَنا في مواجهة الأحوال العامَّة التي تساهمُ إلى حدٍّ كبير في ازدياد حالات الفشل الأسريّ. ولا بدَّ من التذكير بالأصُول المتعلِّقة بالسلوك الفردي والاجتماعي التي من شأنها المحافظة على النواة الأولى للمجتمع المستقرّ وهي “سلامة الكنف العائلي” وثباته في وجه مصاعب الحياة. إنَّ القليلَ من الثقافةِ الحقيقيَّة ينبِّهُنا إلى أنَّ الفهمَ السطحي المنفعل لما يُسمَّى “موجة التّحرُّر” هو الخطوة الأولى نحو المنزلق الوخيم. إنَّ مشاهد البذخ والاستهتار بالقيَم الراقية لطبائع الحشمة والحياء والرصانة، خصوصا فيما يتعلَّق بالأزياء التي يقع عليها خِيار الشابَّات وغيرهنَّ، هي من جملة الأسباب المحبِطة للتدبير الحكيم. ولا يجوز لنا التسليم بالتقصير في وسائل الإرشاد والتربية والتوعية في هذا المجال. إنَّ لهذه الوسائل ثقافات واسعة ومعمَّقة، في التقاليد الشريفة، وفي التراث العام، وفي الثقافة العالميَّة التي كثيرا ما يتمّ إغفالها لصالح النزوع نحو اللهو والمتعة والقشور الفارغة.
ما نودّ أن نتوقَّف عنده الآن هو التذكير بالقضيَّة الأساسيَّة المتعلِّقةِ بوازع النّفوس وأسبقيّـته على النصوص. إنَّ دورَ المجتمعِ أساسيٌّ في هذا المجال، بفعاليَّاته المتنوِّعة، وبالجمعيَّات والنوادي في كلِّ القرى. إنَّ المطالبة بالنهوض الحضاريّ يتطلَّبُ المتابعة والمثابرة في عملٍ حقيقيّ مُثمِر متعلِّق بترشيد المناخ الاجتماعي العام. عمل مرتبط بالقيَم التي بها قامت الحضارات الإنسانيَّة على مرِّ العصُور، قيَم الاعتدال والاستقامة والفضيلة. قيَم العائلة والغاية من وجودها في التربية السليمة وبناء الشخصيَّة المعنويَّة لتكون أساساً متيناً قويّا قادراً على تحقيق الخير في الذات وفي المجتمع. قيَم الأمومة بمعناها الأنبل المرتبط بغاية الوجود. وإن كانت بهارجُ العصر قد أوهمتْ الكثيرين بأنَّ هذا البيت الشعريّ قد خَبَت نارُه بالتكرار، لكنَّه في الحقيقة ما زال محتفظاً بمعناه لقلب كلّ لبيب:
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها أعدَدْتَ شعباً طيِّبَ الأعراقِ.

في بساتين الضحى

في بستان «الضحى»

إخترنا لغلاف هذا العدد موضوعاً غير مسبوق أعطيناه عنوان: “فيزياء الكوانتوم تجد الله” وهو كما لن يخفى على القارئ عنوان مجازي المقصود به هو أن فيزياء الكوانتوم وجدت الأدّلة التي تشير إلى دور الله- الوعي المطلق في كينونة الوجود ولا يعني أن فيزياء الكوانتوم أو أن العلم “أثبت” وجود الله حاشاه تعالى وهو الخلّاق العظيم أن يقع تحت علم مخلوق وهو الذي يصف نفسه بصورة قاطعة بأنه يتعدى العقل مهما عظمت علومه ومهما تطورت وسائله }لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{ (الأنعام:103) }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ (الشورى: 11).

دخل علماء الفيزياء عالم الوجود ما دون الذرّي محاولين استكشاف غياهب الكون في أدق مكوناته، وقد كان ظنهم أنهم سيجدون عالماً يمكنهم مراقبته أو قياسه وفق ما يحدث في عالم فيزياء الأشياء، لكنهم وجدوا عالماً آخر أدهشهم وقدّم لهم الدليل على أنهم كلما غاصوا بوسائل قياسهم المتطورة في غياهب الوجود كلما تلاشت المادة أمامهم وتلاشت معها قدرة الإنسان على معرفة المزيد. وفي هذه الإستحالة ما يذكِّر بطلب فرعون من وزيره هامان أن يبني له برجاً يعتليه ليتأكد بعينيه إذا كان رب موسى موجوداً }اجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ {(القصص: 38) لقد كان فرعون مثل ماديي هذا العصر يعتقد أنه لو كان إله موسى موجوداً فعلاً فإنه يجب أن يكون ممكناً له أن يراه إن اعتلى برجاً عالياً، وقد أنكر الماديون والمبشرون بالإلحاد وجود الله تعالى بظنٍّ سخيف يشبه ظنّ فرعون عندما قالوا إنه لو كان الله موجوداً فإنه يجب أن يكون إثبات ذلك ممكناً بالوسائل الحسية!

من رحمة الله بقوم موسى أن أرسله إليهم بالمعجزات المُبيِّنة لكي يصدقوا رسالته ويأخذوا صراطه المستقيم، ومن رحمته أيضاً بأهل هذا الزمان الذين اغترّوا بعلمهم وبما سخره الله لهم من وسائل وأسباب، أن قاد علماءهم إلى طريق يطلون منه على عظمة الملكوت لعلهم يرجعون إلى الناس فيخرجون من له نصيب من ظلمات الفلسفة المادية للوجود إلى حقيقة الخالق العظيم فيخشعون لعظمته ويعترفون بفضله. لكن فيزياء الكوانتوم لن يمكنها أن تصلح ما أفسد الدهر، وقد بات العالم اليوم أسير وثنية من نوع جديد ولا أمل بتجاوز هذا التقهقر الروحي والأخلاقي إلا بمعجزة عظمى أي بأن يقضي الله تعالى أمراً كان مقضياً.

توقفنا قليلاً عند موضوع الغلاف ربما على سبيل المزيد من التأمل مع القارئ في أبعاده لكن واقع الأمر أن هذا العدد زاخر بمحطات كثيرة سيجد القارئ متعة في التوقف عند كلٍّ منها، والجائل في مواضيع “الضحى” مثل الجائل في بستان حافل بشتى صنوف الأزهار والثمار الطيبة، ومن توفيق الله أن جعل قلوب المزيد من الكتاب والمفكرين تميل إليها وتحرص على المساهمة فيها.

سعادة السفير الصديق حسان أبو عكر صاحب التجربة الغنية في اليمن كانت له مساهمة ثمينة في عدد سابق عندما سلط الضوء على الحياة الحافلة في ذلك البلد العريق لموظف عثماني كبير هو يوسف بك حسن في مرحلة ترنح وبدء انهيار السلطنة، وهو اليوم يضيء على شخصية معروفية، هي المرحوم نجيب أبو عز الدين، لعبت أدواراً في اليمن الشمالي كما في السلطنات الجنوبية التي كانت تحت الحماية البريطانية. أما الدكتور حسن البعيني فيتابع إسهاماته الغنية في توثيق تاريخ الدروز والجبل ولبنان عبر البحث الموضوعي والتنقيب في المصادر. وفي هذا العدد إضاءة على سيرة كاتم أسرار الأمير حسن الأطرش سليمان أبو علي حسن ووقفة أمام شخصية معروفية فذة من جبل العرب هي المرحوم سلامة عبيد، كما نعود إلى موضوع التصوف مع مقال عن رمزية المرآة في كتاب فريد الدين العطار الشهير: منطق الطير. أوردنا أيضاً موضوعاً مفيداً عن الدور السيّئ للإستشراق في التمهيد لحركة الاستعمار. ومن المواضع الشيقة والطريفة مساهمة الكاتب الدكتور أديب خطّار عن المسبحة في التاريخ وارتباطها خصوصاً بتقليد الذكر الصوفي والحياة الخشنة للصوفيين. في باب الصحة أوردنا موضوعاً بالغ الأهمية عن مرض السكري يبيّن بالاستناد إلى أحدث أبحاث وتجارب الطب الغذائي أنه قابل للشفاء التام عبر مزيج من الحمية الصارمة عن السكريات والصيام المنتظم.

نترككم أيها القرّاء الأعزاء مع هذا العدد الثري من “الضحى” في الوقت الذي نستعدّ لتسليم أمانة هذه المجلة إلى من يتابع مسيرتها آملين أن تبقى “الضحى” ضالة كل باحث عن الحقيقة وكل مستزيد من الثقافة والعلم .

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

يا زمان الجاهلية

العالم من حولنا بغربه وشرقه يسير ويتقدم، بينما نتقهقر نحن من سيىء إلى أسوأ؟ العالم بدوله وشعوبه منهمك في العمل لتنمية الاقتصاد والعلوم وإيجاد فرص العمل وتوفير الأمن والرفاه للمواطنين، وقد انضوت أكثر تلك البلدان في شتى أنواع التكتلات الاقتصادية والإقليمية وتناست ماضياً طويلاً من الحروب والمآسي بعد أن أدركت أن الحروب، وبغض النظر عن الشعارات النبيلة التي تخاض باسمها أحياناً، لا يأتي منها إلا الأحزان والتخلّف والدمار والبؤس الإنساني.

عندما تنقسم الشعوب هناك فحول الحياة وليس حول الموت، حول المستقبل (مستقبل الإنسان) وليس حول الماضي، وهي تنقسم حول الخيارات الاقتصادية أو حول مسائل أساسية مثل الحريّات أو الإفتئات عليها أو حول خيارات كبرى تهمّ الجميع وتعنيهم، وكل هذه المسائل يتم التداول فيها عبر الحوار السياسي المفتوح أو في وسائل الإعلام وأشكال العمل السياسي الحرّ الأخرى، وعند الحاجة للحسم فعبر قرارات سياسية أو عبر الإنتخابات..
لا يُتصوَّر في العالم المتحضر أن يثير أي اختلاف في تلك البلدان نزاعاً أهلياً أو أزمة وجودية…بصورة خاصة لم يعدّ وارداً لتلك الشعوب المتقدمة في ميادين العلوم والاقتصاد والتعليم والثقافة أن تنقسم حول شأن ديني أو اعتقادي، لأن الدين أصبح بالممارسة، وبحكم القانون، متعلقاً بالحرية الشخصية وحرية الاعتقاد، أما المواطنية فواحدة. ولم يعد مسموحاً بالتالي للنظام السياسي أن يتخذ لنفسه ديناً أو مذهباً لأن “الدين لله والوطن (أي الدولة) للجميع” وفق الشعار الذي رفعته الثورة السورية الكبرى في عشرينيات القرن الماضي..
لاحظوا معنا أن الديانات الثلاث السماوية الموسوية والنصرانية والإسلام انطلقت من منطقة الشرق الأوسط لتصبح ديانات عالمية تعيش في معظم دول آسيا أو في دول أوروبية راقية في سلام، وإذا كنا نشاهد في تلك المجتمعات توتراً أو مظاهر عنف معزولة فإنما ذلك بسبب هستيريا العنف والتدمير المتبادل التي ننهمك فيها نحن في أرض الرسالات، فنحن مرضى بالعنف لكننا نضيف إلى ذلك القدرة على تصديره أو نقل فيروساته وتوزيعها في كل مكان، وإنها فعلاً لمأثرة نتفرد فيها في هذا الجزء التعيس من العالم.
نحن ورثة الوحي والأنبياء والرسل، لكننا لم نستطع تجاوز ثارات ونزاعات الجاهلية الأولى، وهذه المنطقة مصابة بالعنف الديني والاقتتال باسم العقائد منذ أن ظهر بنو إسرائيل ثم من بعدهم الكنائس النصرانية المختلفة ثم الفرق الإسلامية. وعلى عكس الشعوب الأوروبية التي تجاوزت ماضي الحروب والتنازع الديني أو القومي وانطلقت في بناء مجتمعات مزدهرة يعيش فها الجميع بسلام وكرامة، فإننا ما زلنا وبعد ألف أو ألفين أو ثلاثة آلاف سنة نرفض أن نتصالح، وأن نتحابّ، أو أن نتعاون في بناء حياة كريمة للجميع، ونفضل، على خيار الفطرة الإنسانية السليمة، خيار الحروب الجاهلية الباهظة التكلفة ولا نتردد في إنفاق جلّ مواردنا على أسلحة الدمار وفي تمويل عمليات سفك الدماء البريئة والتدمير الانتحاري لتاريخنا وعمراننا ومدننا الزاهرة في أتون النزاعات البدائية، ولا يوجد في الحقيقة نوع من أنواع التناقض أو التضادّ أو التكاره أو التفرّق السياسي أو الديني إلا وحافظنا عليه كما لو أنه مبرر وجودنا بحيث لا يمكننا العيش من دونه، بل إننا زدنا عليه تفرقاً ضمن التفرق وعداوات ضمن العداوة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الدول التي قد نعتبرها صديقة تتفرج علينا وهي حائرة فعلاً في أمرنا وفي ما نبذُّره من موارد عزيزة وأرواح وفرص في هذا النزف العقيم، أما الذين يتربصون الدوائر بالمنطقة وشعوبها ونفطها ومصالحها فإنهم يبذلون أقصى جهدهم لكي يستمر هذا التقاتل العقيم حتى يستنزف الجميع وتسقط الطريدة بسهولة في يد الصياد.
لقد بعثنا برسالات المحبة والمغفرة والرحمة إلى العالم فصدّقها وقبلها وعمل بموجبها، لكننا نحن أصحاب القضية نفعل العكس، إذ نحوّل رسالات الرحمة والسلام إلى سيوف نقتتل بها، ويبيِّن ذلك أن المشكلة ليست في الأديان بل في نكوص أهلها عنها إلى ما كانوا عليه من جاهليات ونزاعات وتخلف.
فكروا أيها المتقاتلون وأنتم تهزجون بالانتصارات أو تطلقون شعارات الكراهية ضد بعضكم بعضاً: من الذي يراقب هذا المنظر وهو لا يكاد يصدق حظه.. فكروا من هو المالك الحقيقي لبيدر العنف هذا ثم انتبهوا فإن موعد الحصاد قد لا يكون بعيداً.

الياسميــن الأصفــــر الجميــــل ..القــاتــــل

الياسميــن الأصفــــر الجميــــل ..القــاتــــل

كل جـزء منـــه سام وحتـــى رحيـــق الأزهـــار
مميت ليرقات النحـل والعامـــلات الصغيـــرات

تناول زهرات قليلة منه قد يصيبك بالشلل أو الموت
لكن طب الأعشاب صنع منه ترياقاً لكثير من الأمراض

كتب المحرر الزراعي
كم مرة صدف أن مررت بمنازل تزين أسوارها أو مداخلها صفوف من الياسمين الأصفر المنورة بأغصانها الطويلة المتدلية وأوراقها الخضراء ومجموعات الأزهار الصفراء التي تعطي لهذه الشجيرة زهواً مدهشاً، ومع هبوط الليل تطلق أزهار الياسمين الأصفر شذاها الرائع ليحمله النسيم العذب إلى النوافذ والشرفات. هذا بالطبع مطلع قصة الياسمين الأصفر فقط وليست القصة كلها لأن للحديث تتمة قد تبدو صادمة للكثيرين وخصوصاً أولئك الذين يتباهون بصفوف الشجيرة العطرة التي تعتلي أسوار حدائقهم أو مداخل بيوتهم.

تتمة القصة هي أن الياسمين الأصفر جميل قاتل بكل معنى الكلمة، لأن زهوره الصفراء تحتوي على سمّ هو من القوة بحيث يمكنه أن يقتل طفلاً بمجرد امتصاصه لزهرات معدودة. فما هي حقيقة هذه الشجيرة التي قد لا يخلو منها حي أو شارع في بعض قرى لبنان؟ وهل يبرر جمال زهورها الاحتفاظ بها بين أشجار الحديقة أم أن سُمِّيتها العالية تحمل مخاطر تجعل من المفضل التخلّص منها؟

لنبدأ بتوضيح مهم وهو أن الياسمين الأصفر Gelsemium sempervirens يختلف تماماً عن الياسمين الشامي الأبيض Jasminum grandiflorum والذي يعتبر جزءاً أساسياً من تراث المدن المشرقية خصوصاً في سوريا ولبنان وفلسطين ويزرع بكثرة في دول حوض البحر الأبيض المتوسط، فهذا الأخير عطري لكنه غير سام وهو يستخدم في إنتاج أفخر العطور الباريسية.

الياسمين المزيَّف
أما الياسمين الأصفر فموطنه الأصلي هو الولايات المتحدة الأميركية، وهو شجيرة مستديمة الخضرة مزهرة ذات أغصان رفيعة تشبه السلك، وهي سريعة النمو ويمكن أن يصل ارتفاعها من 3 إلى 6 أمتار، ويتم استخدام العطر الذي تكونه زهرة الياسمين الأصفر في بعض أنواع العطور، لكن الخاصية الأهم التي عرف بها هو أن كل أجزائه تعتبر سامة، مما يفرض درجة معينة من الحذر في التعامل معه والانتباه لإمكان تناوله من قبل الأطفال الذين قد تغريهم ألوانه وحلاوة أزهاره ولا يدركون أنه سمّ زعاف، لهذا السبب، فإن من بين الأسماء التي أطلقت على الياسمين الأصفر اسم “الياسمين المزيّف” False Jasmine بينما اشتهر أحياناً باسم ياسمين كارولينا Carolina Jasmine لوجوده بكثرة في ولاية كارولينا الجنوبية الأميركية التي اتخذته رمزاً للولاية. ويوجد الياسمين الأصفر كنبات بري في الولايات الجنوبية الأميركية، لكنه زرع لاستخدامه كسياج للحدائق بسبب نموه السريع وميله للتشكل في شبكة أغصان كثيفة ومتداخلة وبسبب قوة نموه، لكن النبتة انتقلت إلى لبنان تدريجياً حيث استخدمت كنبات زينة بسبب سهولة زرعها وإمكان تكثيرها بالفسائل والعقل، لكن من المؤكد أن القليل من أصحاب هذه الشجيرات لا يعلم أن مظهرها الجميل يخفي مخاطر شديدة بسبب سميتها التي تقترب من سمية نبات سم الشوكران Hemlock المميت، وقد اشتهر الأخير بأنه أعطي لسقراط الحكيم في الكأس الذهبي الذي تجرعه وأدى إلى موته.

الياسمين الأصفر الجذاب القاتل
الياسمين الأصفر الجذاب القاتل

السم عندما يصبح ترياقاً
إن استهلاك أي قسم من أقسام النبتة يؤدي إلى آلام مبرحة تؤدي الشلل أو الغيبوبة أو الموت وذلك حسب الكمية التي تم تناولها، لكن كما في يحدث في طب الأعشاب فإن السم قد ينتج منه علاج شاف لبعض الأمراض، وبالفعل فإن الأجزاء الغضة من جذور النبتة السامة تستخدم من قبل الطب التماثلي Homeopathy في تحضير علاج لبعض حالات الخلل العصبي أو الجسدي، وقد تم استخدام الياسمين الأصفر في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة لأغراض علاجية وجرى استخدام أزهاره أو جذوره من قبل السكان الأصليين (الهنود الحمر) لتحضير محاليل مسكنة للألم أو مخدَّرة أو كعلاج للحمى أو الربو أو السعال الديكي، وهناك نصوص قديمة جاء فيها أن أزهار الياسمين الأصفر استخدمت لصنع شاي يعالج اللهاث والسعال والاضطرابات المعوية. لكن استخدام الياسمين الأصفر اضمحل بعد ذلك بالنظر الى دقة عملية تحضيره وسميته العالية بكل جزء من أجزاء النبتة.

خطر الياسمين الأصفر على النحل
بالنظر إلى انتشار الياسمين الأصفر في الولايات الجنوبية للولايات المتحدة، فإن الأميركيين يمتلكون تجربة طويلة مع هذه النبتة، وقد أعدّت دراسات وكتب عن الآثار السامة للياسمين الأصفر على الإنسان والحيوان والنحل، والمهم هنا أن أكثر الدراسات والمقالات العلمية التي نشرت تؤكد خطر الياسمين الأصفر على خلايا النحل، وقد جاء في تقرير أعدّه كيميائي في ولاية جورجيا في آذار سنة 1919 طلب منه تحليل عسل قيل إنه أدى إلى حالة تسمم لدى بعض الأفراد أنه وجد فيه حبوب لقاح من الياسمين الأصفر.
وكتبت إحدى مربيات النحل في سان فرانسيسكو في العام 2013 تقول: إن هذه النبتة رغم كونها نبتة أميركية أصلية ليست مما يجب زرعه في أي مكان بسبب سميتها العالية جداً وإضرارها بالنحل لذلك دعت الكاتبة إلى الاستغناء عن هذه النبتة كما دعت من توجد في حديقته لأن يقتلعها.
وكتب نحال سنة 1879 يقول إنه لاحظ منذ تسع سنوات أنه في كل مرة يبدأ موسم إزهار الياسمين الأصفر كانت نحلاته تتعرض لاعتلال مميت كان يصيب بصورة خاصة النحلات الصغيرات وكان المرض يختفي فجأة بمجرد انتهاء موسم إزهار تلك النبتة، ولاحظ النحال أن أعراض تسمم النحل برحيق الياسمين الأصفر كانت تمدداً في بطنها وتصرف النحل كما لو كانت تحت تأثير الكحول، وكانت بعض النحلات وقد بدا أنها خسرت قوتها العضلية تزحف خارج الخلية حيث كانت تموت، وكانت كميات النحل النافقة كبيرة.
وجاء في تقرير أعدّته وزارة الزراعة الأميركية في العام 1936 : إن العاملات الصغيرات من النحل تتأثر فوراً بالتعرض لرحيق الياسمين الأصفر حيث تموت بعد مدة قصيرة، بينما لم يلاحظ التأثير نفسه على العاملات الناضجات. وأضاف التقرير أن يرقات النحل والعذارى ماتت بتأثير تغذيتها برحيق الياسمين الأصفر حيث بدت محنطة في العيون السداسية. لذلك يمكن القول إن تعرض الخلية كلها لرحيق الياسمين الأصفر أدى إلى إضعافها بصورة كبيرة.

الوضع في لبنان
لا يوجد الياسمين الأصفر في لبنان كنبتة برية ولا توجد منه كميات يمكن أن تؤثر على النحل السارح، لكن النحال الذي يجد في بيته الكثير من تلك النبتات التي ربما زرعت للزينة عليه أن ينتبه لأثرها المحتمل على الخلايا خصوصاً وأن الياسمين الأصفر يزهر في وقت مبكر من الربيع وقبل تفتح الأزهار البرية التي يتغذى عليها النحل وهو لذلك قد يكون لفترة مصدر غذاء أساسياً للنحل ويمكن لهذا السبب أن يؤثر على الخلية. وفي هذه الحال، فإنه من الأفضل اقتلاع تلك النبتات الغريبة عن بلادنا لأن أثرها التزييني قد لا يعادل ضررها على النحل وخطرها المحتمل على الأطفال أو بعض الحيوانات.

خنفساء الصنوبر تهدد غابات لبنان

خنفساء الصنوبر
تهدد غابات لبنان

تراجع تساقطات الأمطار والتقليم الجائر والتلوث البيئي
وفّرت الظروف المثلى لانتشار مرض يباس الصنوبر

مطلوب تحرك من البلديات لإزالة الأشجار المصابة
وتوفير الإرشاد ووسائل المكافحة لمالكي الغابات

أشجار صنوبر أصابها اليباس بسبب الخنفساء
أشجار صنوبر أصابها اليباس بسبب الخنفساء

يعتبر لبنان مركزاً هاماً للتنوع الحيوي Biodiversity كونه يجمع بين بيئات متعددة جبلية وساحلية وداخلية وتتعايش فيه عشرات بل مئات الأصناف من الأشجار والأزهار والنباتات البرية المتنوعة وذلك جنباً إلى جنب مع الزراعات التقليدية للزيتون والتين والكروم والفاكهة فضلاً عن الزراعات والأصناف التي أدخلت لاحقاً مع تزايد عمليات التبادل الزراعي مع الدول الأوروبية والآسيوية. لكن وسط هذه التغييرات التي نشهدها في المجال الزراعي بقي هناك ثابت أساسي يتميز به لبنان هو غابات الصنوبر التي تزين قممه وسفوحه منذ مئات السنين مع فارق أساسي هو أن الثروة الصنوبرية باتت تشكل مورداً اقتصادياً مهماً جداً لأصحابها بسبب ارتفاع أسعار الصنوبر البلدي وزيادة الطلب عليه، لذلك، فإن الأنباء المتزايدة عن انتشار حالات يباس في أشجار الصنوبر وظهور آفات لم تكن موجودة سابقاً مثل خنفساء الصنوبر يثير قلق المالكين كما يواجه الدولة وخصوصاً وزارة الزراعة بتحد جديد يتمثل في كيفية حماية هذه الثروة الحرجية وهذا المورد الاقتصادي للبنان. وبسبب تزايد انتشار حالات يباس الصنوبر فإن الحاجة باتت ماسة لوضع استراتيجية مكافحة فعالة وسياسات وقائية تحول دون عودة الآفات الحالية، وإلا فإن لبنان مهدّد بخسارة مساحات خضراء شاسعة، ومرفق اقتصادي مهم ومكون أساسي من مكونات البيئة اللبنانية الفريدة.
تشير مراكز الأبحاث البيئية في لبنان إلى أن لبنان يحتوي على 125 نوعاً من الحشرات، وهي نسبة تركز جغرافي عالية ، إذ إن بلداً مثل السويد تقدر مساحته بنحو 450,000 كلم2 يحتوي على 120 نوعاً فقط، لكن هذا الفارق طبيعي بسبب اختلاف المناخ إذ إن السويد تقع في القسم الشمالي النائي والبارد من الكرة الأرضية وهي تتمتع بمناخ قارس جداً في الشتاء وبارد عموماً على مدار السنة، بينما ينتمي لبنان إلى منطقة المناخ المعتدل المائل إلى الحرارة في الصيف، وهذا المناخ يولّد عوامل مشجعة لانتشار الكائنات الحشرية والطفيلية. لكن يجب القول إن عوامل حديثة تتعلق بانتشار العمران وانحسار المساحات الخضراء والاستخدام المكثف للمبيدات الكيميائية أدت إلى تراجع مناعة البيئة الطبيعية وانتشار الحشرات والطفيليات والآفات المقاومة للمكافحة الكيميائية، وهذا هو التفسير الأهم لتزايد هجمات الطفيليات والآفات والتي باتت تصيب أكثر المحاصيل اللبنانية، وها هي شجرة الصنوبر تأخذ قسطها من هذا التدهور في البيئة الطبيعية والزراعية اللبنانية.

نموذج للضرر الفادح الذي تسببه يرقات خنفساء الصنوبر
نموذج للضرر الفادح الذي تسببه يرقات خنفساء الصنوبر

آفات لم تكن معروفة
تمثّل أشجار الصنوبر نظاماً إيكولوجياً فريداً كان على العموم وحتى وقت قريب بمنأى عن الآفات، حتى دودة الصندل لم تكن معروفة بسبب وجود الأعداء الطبيعيين في بعض أنواع الطيور مثل السفاري، لكن تراجع أعداد تلك الطيور بسبب الصيد الجائر أدى إلى اختفائها تقريباً الأمر الذي سمح لدود الصندل بالتحول إلى وباء حقيقي يرهق المزارعين ويتطلب سنوياً جهوداً كبيرة للمكافحة وتنقية الأحراج الصنوبرية، وقد بدأت أعشاش دودة الصندل مثلاً ترى على أشجار الصنوبر المثمر (وليس أشجار الصنوبر البري – اليرز- فقط) وهذا في حد ذاته مؤشر إضافي على تراجع صحة البيئة الحرجية وتزايد ضغط الآفات وقدرتها على مقاومة عمليات المكافحة. ومن الآفات التي تصيب الصنوبر المثمر حشرة Leptoglossus occidentalis التي تصيب الأكواز (الثمار)، أما أخطرها وهي المتسببة في يباس أشجار الصنوبر فهي حشرة Tomicus Destruens التي بدأت تعاني منها غابات الصنوبر المثمر وتعتبر الأضرار الكبيرة التي أوقعتها تلك الحشرة في صنوبر حرج بيروت الذي بات منتزهاً ومتنفساً أساسياً لسكان العاصمة مثالاً واضحاً على خطورة هذه الآفة والحاجة الماسة للتصدي لها، وقد شملت عمليات مكافحة آفة خنفساء الصنوبر في تلك البقعة الجميلة من العاصمة إزالة ما يزيد على 700 شجرة مصابة من أصل 4500 شجرة أي حوالي 15 في المئة من الأشجار وهذه نسبة كارثية، لأن نسبة 5 في المئة هي من دواعي التدخل، كما تم استخدام المبيد المعروف باسم Lambda-Cyhalothrin مرة كل 15 يوماً، فضلاً عن توزيع المصائد الفيرومونية طول فترة الصيف حتى بداية تشرين الأول، وتقول مصادر الخبراء إن حرج بيروت دخل نتيجة لذلك التدخل الواسع مرحلة التعافي ، لكن المسؤولين مستمرون في عمليات المرافقة.

دورة حياة خنفساء الصنوبر
يقول الخبراء إن حشرة Tomicus موجودة في لبنان منذ زمن بعيد، إلا أن خطرها وحالات الإصابة بها بدأت تتزايد في أواخر القرن الماضي ومطلع القرن الحالي، وتعتبر الحشرة من “الخشبيات” أي أنها تقطن خشب الأشجار، وتتغذى يرقاتها في المنطقة من اللحاء والخلايا الوعائية المسؤولة عن نقل المياه من التربة والغذاء من الأوراق التي تسمى xylem، وهي تتغذى عليه، وفي الحالات الطبيعية لا تؤثر على الأشجار، كون الأشجار الصحيحة لديها مناعة كافية للقضاء عليها، إنما عندما تكثر هذه اليرقات بصورة كبيرة كما يحصل الآن أو عندما تنخفض مناعة الشجرة نتيجة عوامل طبيعية مثل الجفاف أو التغييرات المناخية غير الملائمة فإن في إمكان هذه الحشرات أن تتكاثر بسرعة وتقضي على الشجرة بالجوع والعطش، وهو ما يؤدي في نهاية المطاف إلى حالات اليباس.

صنوبرة مصابة
صنوبرة مصابة

راقبوا صنوبركم في آذار
وتبدأ دودة خنفساء الـ Tomicus دورة حياتها في آذار بمجرد ارتفاع حرارة الجو وقد يتأخر نشاطها إلى مطلع أيار في حالات الشتاء البارد وتأخر الجو الدافئ، وتبدأ الحشرة بالتزاوج في شهر أيار ثم تبدأ بالتغذي على لحاء الأغصان، ولاسيما المجموعات الطرية أو النموّات الجديدة، ويقدر الخبراء أن الشجرة المصابة تأوي عادة نحو 3000 حشرة بالغة نصفها من الإناث كحد أدنى، وهذه الحشرات تضع بيضها في لحاء الشجرة، ويبلغ عدد البيوض لكل منها ما بين 100 و120 بيضة، تفقس معظمها وتبدأ بالتغذي على اللحاء، أي أننا في نهاية الدورة نصل إلى ما يزيد على 150 ألف حشرة بالغة، ستعود لتبيض، وتعيد الدورة، وبعد نفاذ الغذاء، أي يباس الشجرة، ستنتقل إلى شجرة جديدة وهكذا، في السنة الأولى قد تصاب شجرة، لتصاب عدة أشجار أخرى في جوارها، وبعدها تنتقل الآفة لتصاب عشرات الأشجار في الموقع الحرجي. وبالنظر إلى التوارد التصاعدي أو التضاعفي لهذه الشجرة exponential فإن الحشرة تعطي 100 والـ 100 نصفها أي الإناث ستعطي مئة فلا غرابة أن يصل عددها في وقت قصير إلى الملايين!
ولحسن الحظ فإن دورة حياة خنفساء الصنوبر قصيرة لا تتعدى سنة واحدة وبعدها تنفق، وإلا فإن الكارثة ستكون أسرع، لكن في المقابل فإن خطر هذه الحشرة يتضاعف بسبب عدم وجود أعداء طبيعيين سوى نقار الخشب وهو نادر للغاية في بلادنا، كما إن الحالة لا تصيب الصنوبر فحسب، وإن كانت تفضلها، بل تصيب كل شجرة تحتوي جذعاً خشبياً، وغاباتنا فيها 12.700 هكتار صنوبر مثمر، و14 ألف هكتار صنوبر بري (يرز) وليست كلها مهددة بنفس الدرجة لأن المرض يزداد احتماله كلما انخفض الارتفاع عن سطح البحر وقلّت رطوبة التربة (الجفاف)..لهذا فإن من الممكن أن نربط بين تزايد حالات يباس الصنوبر بسبب عمل الخنفساء وبين تراجع معدل هطول الأمطار في موسم الشتاء وتعرض أحراج الصنوبر لحالات جفاف لسنوات عدة متتالية، وهذا التغيير غير المسبوق يرتبط بدوره بظاهرة التغير المناخي والتقلبات المتزايدة في طقس لبنان؛ وهذا المناخ هو الأكثر ملاءمة لتكاثر الحشرات المهاجمة لخشب الأشجار كما إن التقليم الجائر يزيد من ضعف الشجرة لأن الشجرة تفرز مواد تربنتينية تجذب الحشرات، لذا فإن من المفضل عدم القيام بعمليات تقليم لأية أشجار في حال وجود إصابات بهذه الآفة.

الخنفساء
الخنفساء

أهمية التبليغ عن الإصابات
نتيجة لانتشار حالات الإصابة بحشرة الـ Ponticus فقد نصح الخبراء بنشر أكبر قدر من التوعية بشأن هذه الآفة الخطرة وسط المزارعين إلى حد الإعلان عن “حالة طوارئ” والطلب من المواطنين التبليغ عن كل حالة يباس في أشجار الصنوبر وذلك لكي يتمكن المعنيون من اتخاذ الإجراءات اللازمة قبل استفحال الأضرار وانتشار العدوى إلى مناطق جديدة، ومن ضمن الإجراءات التي تم اتخاذها تسريع وزارة الزراعة في إعطاء التراخيص بقطع الأشجار المصابة أو اقتلاعها، وكذلك تطبيق تقنيات معالجة سريعة مثل نزع اللحاء المصاب، وتعريض داخل الشجرة للشمس والهواء لتنفق اليرقات، أو لف الجذوع بالنايلون لخنقها، خصوصاً في الأماكن التي من الصعب نقل الأشجار فيها أو رش الشجرة المقطوعة بالزيوت الصيفية أو الشتوية لعزل اليرقات وخنقها.
ويؤكد الخبراء على ضرورة أن تتم المعالجة قبل آخر أيار أي قبل أن تصل الحشرة إلى أعالي الشجر وتعمل على قضم لحاء الأغصان والتزاوج، وتتطلب المعالجة في هذه الفترة من العام مصائد خاصة تشبه جذع الشجرة، تجلب من تركيا، ومادة فيرومونية موجودة لدى وزارة الزراعة، وهي مادة alpha-Pinene ومادة – Pinene beta ممزوجة مع مادة الإيثانول، ويبلغ سعرها مع العلاج أقل من 10 دولارات، وتدوم فعاليتها أكثر من 10 سنوات علماً أن من الضروري إعادة وضع المادة الفيرومونية الجاذبة داخل المصائد كل ستة أسابيع خلال فترة الإصابة.
ويذكر أن 85 % من الغابات في لبنان أملاك خاصة، مما يرتب على هؤلاء العناية بأشجارهم، علماً أن عدم قيامهم بقطع الأشجار المصاب يحملها مسؤولية معنوية (وفي بلدان أخرى مسؤولية قانونية) لأنهم بذلك يساهمون في انتشار الوباء إلى مناطق مجاورة لهم واستفحال التهديد للثروة الصنوبرية، وأن قانون الغابات الموجود منذ العام 1949 يفرض على المالكين أن يقوموا بتفريد الأشجار وإزالة اليابسة منها ابتداء من آذار من كل عام.

حشرة-أكواز-الصنوبر-بدأت-تصيب-بصورة-متزايدة-صنوبر-لبنان-2
حشرة-أكواز-الصنوبر-بدأت-تصيب-بصورة-متزايدة-صنوبر-لبنان-2

شبح كارثة حقيقية
على سبيل الاستنتاج، فإن من المهم أن يعي المزارعون وأصحاب الأملاك الحرجية والصنوبرية أننا نواجه شبح كارثة طبيعية حقيقية قد تؤدي إلى إزالة غابات بكاملها وتعرية قمم وأودية لبنانية هي اليوم عنوان جمال الطبيعة اللبنانية وقيمتها الاقتصادية، وأن على البلديات واتحادات البلديات بصورة خاصة التحرّك بسرعة وتنظيم حملات التوعية وتزويد أصحاب الأملاك بالتعاون مع وزارة الزراعة بكافة وسائل المكافحة وعمليات الإرشاد، وعلى البلديات أن تشرف بنفسها على قطع الأشجار المصابة وإزالتها من الغابات وعزلها وعلى جلب المصائد وتوزيعها، وإلا فإن حالات يباس أشجار الصنوبر ستزداد سنة بعد سنة بسبب تفاقم أعداد الحشرات، فالتحدي كبير ولا بدّ أن نكون على قدر التحدي، مواطنين وحكومة وبلديات وجمعيات.

حبــوب اللقـــاح

حبــوب اللقـــاح: 

  • خزان بروتينات وفيتامينات وأنزيمات ومضادات حيوية، والمنتج النباتي الوحيد المحتوي على فيتامين B12
  • تعزز نظام المناعة وتقوي الخصوبة، وتجدد خلايا الجسم وترفع أداء الرياضيين

حبوب لقاح الازهار أو غبار الطلع هي المسحوق الملون الموجود في الأزهار وهي الأعضاء الذكرية الملقحة لأعضاء التأنيث في نفس الزهرة أو أزهار أخرى لإنتاج الثمار والبذور. أثناء زيارة عاملات النحل للأزهار وبعد تحريك أسديتها (الحاملة لأكياس حبوب اللقاح)، يتم فتح الأكياس فتتناثر حبوب اللقاح على جسم النحلة المغطى بالشعيرات – كما في الصورة وتجمعها في السلتين الموجودتين على أرجلها الخلفية وتنقلها إلى الخلية لتضعها في العيون السداسية المجاورة للحضنة في أقراص الشمع.

تحتوي حبوب الطلع على نسبة عالية من المواد المعدنية والبروتينات والفيتامينات والكاروتينات وبيوفلافونويدس المضادة للفيروسات والأحماض الدهنية المفيدة والضرورية لنمو حشرات النحل والإنسان. يعرف اللقاح في جميع أنحاء العالم ويوصف كعلاج لنقص المواد الغذائية وجميع المشاكل الصحية التي تسببها كمشكلة النمو غير الطبيعي (البطيء). وتساعد حبيبات اللقاح على كشف غش العسل وتحديد مصدره النباتي بعد إجراء عملية الفحص المخبري عليه، فلا عسل طبيعياً من دون حبوب اللقاح.

تستغرق العاملة في رحلتها من 8 إلى 190 دقيقة وهذا يعود إلى المسافة التي تكون بين خليتها والأزهار وكمية انتاجها للرحيق وحبوب اللقاح. ولان النحل لا يعلم اذا ما كانت الازهار قد زارتها الجانيات من قبل وأخذت منها الرحيق وحبوب اللقاح، لذلك، فإن النحلة مجبرة بالغريزة على زيارة عدد كبير من الأزهار لاستكمال حمولتها وتشكل الحمولة الواحدة للعاملة من حبوب اللقاح نسبة 35% من وزنها. تعود النحلة الى الخلية لتفرغ حمولتها وتعود ادراجها لتفتش عن مصدر آخر من الأزهار وحبوب اللقاح.

العاملات التي تجمع حبوب الطلع من النحل السارح لا تتجاوز نسبتها 30% من المجموع، وتحتاج العاملة التي تذهب الى جمع حبوب اللقاح إلى زيارة من 10 إلى 100 زهرة في الرحلة الواحدة، وبإستطاعة العاملة أن تقوم بأكثر من 40 رحلة يومياً. إن حجم حبة اللقاح حوالي 50/1000 ملمتر فهي صغيرة جداً لا ترى بالعين المجردة.

من المتوجب علينا أن نعرف وندرك ان ملعقة صغيرة واحدة من حبوب اللقاح (أي ما نتناوله في يوم واحد كمعدل وسطي)، هو نتاج عمل نحلة واحدة لثماني ساعات يومياً لمدة شهر. كل كتلة أو مجموعة من حبوب اللقاح التي تنقلها النحلة الى خليتها تحتوي على أكثر من مليوني حبة لقاح زهرة وملعقة صغيرة تحتوي على أكثر من 2.5 مليار حبة لقاح من الأزهار.

فوائد صحية وعلاجية
تحتوي حبوب اللقاح على الكثير من البكتيريا المفيدة قد يصل عددها إلى خمسة ملايين بكتيريا في حبة اللقاح الواحدة، وقد صنفه العديد من علماء التغذية كطعام كامل في المواد الغذائية، لأنه يساعد على نمو العضام وتقويتها، مضاد فعال للجراثيم، يساعد على تخفيض الدهون (الكولسترول والترايغليسريد)، أي يحتوي اللقاح على جميع العناصر التي يحتاجها جسم الإنسان، وهو يساعد على تقوية وإستقرار الشرايين وبخاصة الصغيرة منها، وحبوب اللقاح هي المنتج النباتي الوحيد الذي يحتوي على فيتامين B12.

كما تحتوي حبوب اللقاح الطازجة على الكثير من الأحماض الأمينية التي لا تقل عن 20 من الأحماض التي تشكل البروتينات الأساسية اللازمة لبناء خلايا الجسم، ومنها خلايا الدم والجلد والعظام والكثير من الأعضاء… وهناك أيضاً أكثر من 100 إنزيم نشيط (بكتيريا مفيدة) موجود في حبوب اللقاح الطازجة، فإن تناول الأطعمة التي تحتوي على الإنزيمات تساعد الجسم على منع إنتشار ومكافحة الأمراض مثل السرطان والتهاب المفاصل ويحفظ الجسم من الاضرار.
ولحبوب اللقاح قدرة فائقة في السيطرة على الغدد المفرزة للدهون التي تزيد من وزن الإنسان وتبقيه على وزنه الطبيعي، كما إن لحبوب اللقاح أهمية خاصة بالنسبة الى الكثير من المغذيات فهو يحتوي على سعرات حرارية منخفضة، وهو حمض أميني يعمل كمثبت للشهية ويساعد على إذابة الدهون وإزالة السموم من جسم الإنسان، يطهر المعدة وله قدرة على تجديد خلايا الجسم وتحفيز أجهزته على العمل بنشاط ويعزز حيوية وتسريع معدل الانتعاش في الجسم، منشط طبيعي للرياضيين…
ومن أهم استخدامات حبوب اللقاح الطبيعية الأكثر شيوعاً في العالم:
1. يساعد على نمو الاطفال الجسدي والعقلي ويمكن تناوله بعد مزجه مع الفواكه الطازجة لتشكيل عصير لذيذ للأطفال الصغار الذين يحتاجون إلى جميع الأحماض الأمينية الأساسية والمعادن والفيتامينات لنموهم بشكل صحيح وقوي، في حين أن آخرين يفضلون رش حبيبات اللقاح على بعض الأطعمة.
2. يقوي نظام المناعة في جسم الإنسان
3. يكافح الربو والرشح (الأنفلونزا)
4. يقوي غدد الكليتين وعدم ترهلها
5. يقوي الخصوبة
6. يخفف من أعراض السكري
7. يمنع الإصابة بأمراض الجلد مثل الاكزيما والطفح الجلدي وقد أثبت الباحثون أن هناك مادة في لقاح النحل التي تمنع تطور العديد من البكتيريا الضارة، وقد أظهرت التجارب للقاح النحل أنه يحتوي على عامل مضاد حيوي فعال ضد السالمونيلا وبعض سلالات البكتيريا، كما أظهرت أن له تأثيراً فعالاً في تنظيم وظيفة الأمعاء، وتحتوي حبيبات اللقاح على نسبة عالية من السليلوز والألياف المفيدة. ويلعب اللقاح دوراً بارزاً وفعالاً كمضاد حيوي طبيعي. وقد أثبتت مختبرات الدم بعد تناول حبوب اللقاح أن له تأثيراً جيداً على تكوين خلايا الدم ولوحظ أن هناك زيادة كبيرة في خلايا الدم الحمراء والبيضاء لمرضى فقر الدم بعد تناول حبوب اللقاح بانتظام (ملعقة صغيرة يومياً).
هذا باختصار وبشكل موجز لفوائد حبوب اللقاح الطبيعية ولا قدرة لأي من المواد المصنعة على فعل القليل من فوائد لقاح النحل، وعلى الرغم من آلاف المحاولات التي أجريت في المختبرات الأكثر تقدماً فإن محاولة إنتاج نسخة اصطناعية من حبوب اللقاح فشلت فشلاً تاماً، بل إن العلماء لا يزالون غير قادرين على إنتاج بعض العناصر الموجودة في حبوب اللقاح لذلك يعتقد العلماء أن النحل لا بدّ أن يكون قد استخدم في عملية صنع حبوب اللقاح عناصر سرية وغامضة لا يعلمها إلا الله ولا يمكن نسخها أو استبدالها بأي عناصر من صنع الإنسان.

حبوب-لقاح-تستخدمها-العاملات-لتغذية-يرقات-النحل-في-الخلية-لكن-النحالين-وجدوا-طريقة-للحصول-عليها
حبوب-لقاح-تستخدمها-العاملات-لتغذية-يرقات-النحل-في-الخلية-لكن-النحالين-وجدوا-طريقة-للحصول-عليها
حبوب-لقاح-للبيع---الأفضل-شراؤها-طازجة-لأن-الحفظ-الطويل-يقلل-كثيرا-من-فوائدها-الصحية
حبوب-لقاح-للبيع—الأفضل-شراؤها-طازجة-لأن-الحفظ-الطويل-يقلل-كثيرا-من-فوائدها-الصحية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حفظ حبوب اللقاح
يحفظ لقاح النحل في وعاء محكم الإقفال (مرطبان زجاجي) وفي مكان مظلم بعيداً عن الرطوبة التي هي العامل الأول لإفساده والحرارة التي تزيد على 30 درجة مئوية. لمدة سنتين يبقى محافظاً على جميع مكوناته وفوائده الصحية والغذائية. يجب أخذ حبوب اللقاح، من خلية النحل بعد وضع مصيدة حبوب اللقاح، بثلاثة او أربعة ايام تجنباً لتعرضها للاوساخ والحشرات وخاصة فراشة العث التي تفضل حبوب اللقاح لتقتات عليه وتكمل دورة حياتها.
لسوء الحظ، فإن الطريقة الوحيدة للحصول على حبوب اللقاح الطازجة حقاً هو من عاملات النحل فقط التي تقوم بجمعه لتغذية اليرقات والنحل الحديث الولادة أو لخلطه من العسل إذ يضيف النحل إلى الغرام الواحد من العسل ما بين 1500 و 5000 حبة لقاح، مما يعزز نوعية وفوائد العسل الغذائية والطبية، وهو الدليل الأساسي الذي يكشف غش العسل، فإن العسل غير الطبيعي لا يوجد فيه حبوب لقاح النحل الذائبة في مكوناته.
أما في لبنان وفي رأيي، فإن على مستهلكي حبوب اللقاح أن يبحثوا عن مربي نحل صغير ينتج حبوب لقاح و”يراعي ضميره” كما باقي منتجات خلية النحل ليمدهم بحاجاتهم، لأن حبوب لقاح النحل النقي غير موجودة على نطاق واسع، مما يعني أن على المستهلك البحث عن مصدر لحبوب لقاح يستوفي معايير صارمة أهمها:
• أن تكون حبوب اللقاح قد تم تبريدها فور جمعها وأن تكون حفظت في مكان بارد وجاف حتى يتم إستهلاكها هذا في حال كانت الرغبة تناولها طازجة وطرية.
• التعرف على مصدر النبات والأزهار التي جمعت منها عاملات النحل حبوب اللقاح.
• لا تشترِ حبوب لقاح النحل الا من مصدر معروف ومصدر ثقة.
• يجب شراء حبيبات لقاح النحل الخام غير المصنعة لأن التصنيع يفقدها بعض خواصها بالإضافة إلى امكانية خلطها مع مكونات غير طبيعية.
• قبل شراء لقاح النحل في غير موسمه (فصل الربيع)، يجب التأكد من أن هذا اللقاح تم تخزينه بشكل صحيح.
• يجب التأكد من أن حبوب اللقاح غير مستوردة لأن رحلة المنتج المستورد تأخذ وقتاً طويلاً تتعرض خلالها حبوب اللقاح الى عدة عوامل ضارة مثل الحرارة.
يوجد في لبنان الكثير من حبوب اللقاح غير الطبيعية وبعدة أشكال منها كبسولات تباع في الصيدليات ومنها مخلوطة مع العسل المصنع أيضاً وأخرى معبأة في أوان صغيرة خاصة مثل حبوب اللقاح الصينية المصنعة التي لا تمت لحبوب لقاح النحل بصلة. من المهم ان نعلم أن كبسولات حبوب لقاح النحل التي تباع لخفض الوزن معبأة بمواد كيميائية ضارة (الصينية خصوصاً).

كل حبة لقاح أمامك تحتوي على أكثر من مليونين من غبار طلع الأزهار ...وفوائدها الصحية
كل حبة لقاح أمامك تحتوي على أكثر من مليونين من غبار طلع الأزهار …وفوائدها الصحية

كيفية استعمال حبوب اللقاح
من المفضل استعمال حبوب لقاح النحل طازجة، فعندها تكون عالية الجودة وغير معاملة حرارياً وذلك تجنباً لفقدانها الكثير من فوائدها الغذائية، لأن طبخ حبوب اللقاح أو إضافته إلى الماء الساخن أو الطعام اللذين بدورهما يرفعان حرارته ويؤديان الى تدمير الانزيمات الحية (البكتيريا) وبالتالي يخفضان قيمته الغذائية بشكل ملحوظ.
تكون حبيبات اللقاح الطبيعية لينة (طرية) وعطرة، أما ألوانها فمتعددة وكثيرة بحسب مصدرها النباتي والفترة الزمنية التي جناها النحل، مثلاً: في أوائل فصل الربيع تكون مصادر وألوان حبوب اللقاح قليلة نوعاً ما نسبة الى قلة أنواع النباتات في هذه المرحلة وتركيز النحل على أزهار الحمضيات بنسبة كبيرة، أما في منتصف فصل الربيع وبداية فصل الصيف تتنوع ألوان حبوب اللقاح بسبب تعدد أنواع النباتات والأزهار التي تنتج حبيبات اللقاح فيدخل فيها الأصفر والبرتقالي والبني والبنفسجي والعاجي، ويمكن مضغ الحبوب مباشرة أو خلطها مع العسل أو مع بعض الأطعمة الحلوة الباردة.
يختلف طعم حبوب اللقاح بإختلاف مصادره وتركيز جانيات النحل على بعض أنواع الأزهار المنتجة لحبوب اللقاح، فمنها طعمه حلو المذاق نوعاً ما، في حين أن بعض حبوب اللقاح مذاقه تشوبه بعض المرورة.
بالنسبة الى الأشخاص غير القادرين على تناول حبوب اللقاح على شكل كتل مجتمعة من آلاف الحبيبات، فإنهم يستطيعون طحنها على دفعات صغيرة تجنباً لفقدان جزء من فوائدها ويستطيع الشخص تناول ملعقة صغيرة في كل مرة بعد خلط حبوب اللقاح مع أي نوع يريده من الأطعمة على أن لا تزيد حرارة الطعام على 45 درجة مئوية في حال أضيف الى الطعام الساخن.
أما المقادير المتوجب الإلتزام بها تجنباً للإصابة بالحساسية للأشخاص المعرضين لها، فتكون على الشكل التالي:
يستطيع البالغون تناول ثلاث ملاعق صغيرة كحد أقصى في اليوم، والأطفال يستطيعون تناول من نصف ملعقة الى ملعقة صغيرة يومياً، وتزداد الكمية التي يستطيع الطفل تناولها مع تقدمه في العمر حتى بلوغه سن الخامس عشرة. ويستطيع الإنسان تناول حبوب اللقاح في أي وقت لأنه مفيد ومغذٍّ للجسم، ويستجيب جسم الإنسان لحبوب اللقاح بعد أيام معدودة. ولا توجد قواعد صعبة او طرق لكيفية استهلاك حبوب اللقاح على عكس الأدوية الاصطناعية التقليدية والمكملات الغذائية التي يتناولها الإنسان في الأوقات المحددة وحسب وصف الطبيب.
ملاحظة: الاشخاص الذين يتحسسون من الأزهار في فصل الربيع بشكل خاص أو الذين يعانون من الحساسية بشكل عام ويرغبون في تناول حبوب لقاح النحل، عليهم أن يجربوا حبتين جافتين تحت اللسان حتى تذوبا وأن ينتظروا لدقائق قليلة حتى يعرفوا النتيجة، فإذا لم تتبين لهم اية أعراض للحساسية فهم قادرون على زيادة تناول اللقاح بشكل تدريجي حتى الوصول الى الكمية القصوى التي ذكرناها أعلاه، لأن حبوب لقاح النحل تحتوي على كمية هائلة من الفيتامينات والمعادن والأحماض الدهنية التي هي جميعاً مفيدة بشكل مثير للدهشة لصحة الإنسان، يجب المحافظة عليها من خلال: عدم تعرض هذه الحبوب للكثير من الحرارة والضوء ولوقت طويل لأن ذلك يدمر بعض هذه العناصر الغذائية ويقلل من جودتها.

السٌّكّري ليس مرضاً مزمناً بل مرضاً غذائياً قابلاً للشفاء

كشوفات طبية وتجارب عيادية رائدة تعزز آمال المصابين

السٌّكّري ليس مرضاً مزمناً
بل مرضاً غذائياً قابلاً للشفاء

طريق الشفاء التامّ والاستغناء عن الأدوية
حمية صارمة عن السِّكّريات وصيام منتظم

أدوية السكري تخفّض معدل السكر في الدم
لكنها لا تعالج المرض ومضاعفاته المميتة

د. جايسون فانغ: يحثّون الناس على الأكل في كل وقت
لأنه لا مصلحة لأحد في الصيام ولا أرباح تجنى منه

السُّكَّري ..كلمة تثير الخوف في النفوس بسبب ما يرتبط بهذا المرض من مضاعفات خطيرة على كافة أعضاء الجسد ووظائفه. لكن أخطر ما في السكري لم يعد تدميره البطيء لنسيج الصحة البشرية فحسب، بل ضعف الثقافة الصحية لدى المصابين به أو المعرضين للإصابة به لاحقاً ثم المفاهيم المغلوطة الكثيرة التي تحيط بأساليب المعالجة التقليدية له والتي تعتمد على الأدوية أو الحقن بالأنسولين لكن نادراً ما تهتم بالتركيز على نظام الغذاء وخصوصاً إتباع أنظمة حمية صارمة لا بدّ منها لحماية المريض بل للمساهمة بتحسن حالته المرضية.

إن مأساة المصابين بالسكري هي اليوم المأساة نفسها للمصابين بالكثير من الأمراض التي باتت المؤسسة الطبية والصيدلانية تدمغها باسم “الأمراض المزمنة” أي التي “لا أمل للمصاب بها من الشفاء” مما يعني أن عليه أن يصبح معتمداً على الأدوية ما دام حياً وفي هذا الوضع بالطبع فائدة عظيمة لهذه الصناعة الهائلة التي باتت قيمتها تقدر بألوف المليارات من الدولارات.
لكن هل مرض السكري مزمن فعلاً؟ هل لا توجد أي وسيلة للشفاء منه؟ الجمعية الأميركية للسكري والجمعية البريطانية للسكري وهما تتمتعان بنفوذ قوي بين المصابين تشددان على هذه الناحية، فالجمعية الأميركية “تبشر” المريض بأن السكري مرض مزمن بل و”يزداد سوءاً مع الزمن” وأن عليه بالتالي أن يتابع بانتظام تناول أدوية السكري، كما إن عليه على الأرجح أن يزيد الجرعات مع الوقت وأن ينتقل ربما في وقت ما إلى الحقن بالأنسولين.

صحوة الطب الغذائي
لكن هذه المسلّمة بدأ العديد من الأطباء الروّاد في علم الغدد في كندا والولايات المتحدة يثبتون أنها نظرية لا أساس لها إلا التأثير الهائل الذي تمارسه شركات الدواء الكبرى على الجمعية الأميركية للسكري والعديد من وسائل الإعلام، إذ إن 9 من أصل 10 شركات تموِّل الجمعية هي شركات دوائية بينما تهتم الشركة العاشرة بالتجهيزات والمعدات العلاجية للمصابين. وعلى نفس المنوال فإن العديد من الأبحاث الطبية بدأت تثبت أن العديد مما تسميه المؤسسة الطبية والصيدلانية “أمراضاً مزمنة” ليست كذلك وأن من الممكن شفاؤها عبر إجراء تغييرات أساسية في نمط الحياة ولاسيما الغذاء، وقد بات التأثير الحاسم للغذاء على الصحة الإنسانية أمراً متفقاً عليه أكثر فأكثر مما بدأ يُحوِّل التوجهات العلاجية للعديد من الأمراض من الأدوية الكيميائية المكلفة وذات الآثار الجانبية الفادحة أحياناً إلى الإدارة الطبية والعلمية للتغذية، وهذه المقاربة فضلاً عن كونها أقل تكلفة بكثير فإنها تجعل للمصاب نفسه دوراً مهماً في العناية بصحته، وتقوم على جعل الصحة الجسدية مسؤولية شخصية يمكن ويجب لأي فرد أن يتعلم أسسها ويقوم بموجباتها.

تضليل
إن من أبرز الأدلة على التضليل الذي تقوم به بعض الجمعيات التي تطرح نفسها تحت تسميات خادعة باعتبارها تمثل مرضى السكري مثل الجمعية الأميركية للسكري ولكنها في الحقيقة مجرد واجهات لشركات الأدوية هو النصيحة التي تعطيها على موقعها الشبكي والتي توصي مريض السكري بأن يأخذ ما بين 50 و60% من السعرات الحرارية التي يحتاجها من .. السكريات!! نعم الجمعية الأميركية للسكري لا تنصح المريض بالامتناع عن تناول السكريات، وهي المسبب الأول للمرض، بل على العكس تنصحه باعتمادها كمصدر غذاء أساسي، وهي تعتبر أنه لا مشكلة في ذلك طالما أن المريض يواظب على تناول الأدوية، فهل نفاجأ بعد ذلك إذا علمنا أن هذه الجمعية التي تدعي أنها الجمعية الرسمية لمرضى السكري ليست في الحقيقة إلا واجهة لشركات الأدوية؟
إن هناك مجموعة متزايدة من الأطباء المرموقين في الولايات المتحدة وكندا بصورة خاصة خرجت عن طاعة شركات الأدوية لتؤكد أنه من الممكن شفاء مرض السكري كليّاً وبالتالي اجتناب مضاعفاته الخطيرة والاستغناء بالتالي عن أدوية السكري بما في ذلك الأنسولين وذلك من خلال مزيج يجمع بين نظام غذائي قليل السكريات وبين الصيام لفترات محددة (تحدد حسب درجة الإصابة بالسكري ومدة الإصابة به)، وهؤلاء الأطباء الذين برز منهم بصورة خاصة الكندي الدكتور جايسون فانغ Jason Fung ليس فقط انهم أثبتوا نظريتهم في إمكان شفاء السكري علمياً وعبر عشرات الأبحاث بل هم أثبتوها عملياً عبر ألوف المرضى بالسكري أو المصابين بالبدانة الذين تمكنوا من شفائهم وبالتالي تخليصهم من وزنهم الزائد أو الارتهان بأدوية السكري أو الأنسولين، وهذه الحالات الموثّقة أصبحت متوافرة كقاعدة بيانات علمية واسعة يمكن للباحثين -أو للمشككين- أن يتحققوا منها ويدققوا في تفاصيلها، فهي تحتوي على ما يكفي لتكذيب إدعاء الجمعية الأميركية للسكري وشركات الدواء التي تقف وراءها، وهي كافية لمنح الملايين من مرضى السكري أملاً حقيقياً بالصحة والتحرر من شبح المضاعفات الخطيرة للمرض ومن قيود الدواء والأطباء وربما العيادات ودور الاستشفاء وغيرها.

الأسس العلمية للشفاء الممكن
لمرض السكري؟
يعتبر الأطباء الذين يتخصصون في شفاء مرض السكري أن ارتفاع السكر في الدم هو من أعراض السكري وليس المرض نفسه، وبالتالي فإن الأدوية التي يتناولها المريض بما في ذلك الأنسولين تركز على خفض معدل السكر في الدم لكنها لا تعالج المرض نفسه وهو مقاومة الجسم للأنسولين. صحيح أن معالجة معدل السكر بالعقاقير يحقق بعض النتائج لكن فعالية الدواء تخف مع الوقت فيصبح على المريض أن يأخذ علاجات أقوى أو يمزج بين أكثر من دواء، إن فشل “علاج” والأصح استعمال كلمة “إدارة” مرض السكري بالأدوية هو في أساس النظرية التي تصفه بالمرض المزمن، وهو سيكون حقاً مرضاً مزمناً طالما اقتصر في معالجته على الدواء ودون إجراء تغييرات جذرية في نظام الغذاء ونظام الحياة.

تنامي استهلاك السكر في الولايات المتحدة
تنامي استهلاك السكر في الولايات المتحدة

النقطة المهمة التي يثيرها الدكتور جايسون فانغ هو أن معدل سُكّر الدمّ قد يكون مسيطراً عليه عبر الدواء أو الأنسولين، لكن مرض السُّكري الذي هو مقاومة الجسم للأنسولين في غضون ذلك يتفاقم أكثر فأكثر، بل إن دراسة واسعة النطاق أثبتت أنه مهما كانت السيطرة حاصلة على معدل السكر في الدم فإن المضاعفات التي تنجم عن مرض السكري على الكلى والشرايين والعين وغيرها من الأعضاء لن تشهد تحسناً فعلياً، أي أن المصاب بالسكري وإن كان محافظاً على معدل سكري معتدل سيصاب عاجلاً أم آجلاً بالمضاعفات التي يتسبب بها السكري، وهذا الأمر في غاية الخطورة لأن العلاج التقليدي يعطي المريض انطباعاً خادعاً بأنه في مأمن من مضاعفات السكري لكنه في الحقيقة ليس في مأمن على الإطلاق.

قصور العلاج بالأنسولين
يشرح الدكتور فانغ مشكلة العلاج التقليدي لمرض السكري بالتشديد على أن ارتفاع معدل السكر ليس ما يجب الاهتمام به بل مقاومة الجسم للأنسولين لأن هذه المقاومة هي المرض الحقيقي الذي يحتاج إلى الانتباه. ولأن الطب التقليدي لم يفهم ظاهرة مقاومة الأنسولين فإن كل النظام العلاجي الذي أنتجه للتعامل مع السكري خاطئ بل مضر جداً للمريض في نهاية المطاف.
عندما تتناول السكريات بكثرة يقوم البنكرياس بإفراز كمية أكبر من الأنسولين من أجل تحويل السكر إلى الخلايا ، لكن مع الوقت تخف فعالية الأنسولين فيضطر الجسم لإفراز المزيد منه وهنا ندخل في حلقة مفرغة لأنه كلما زاد معدل الأنسولين في الدم كلما زاد مرض مقاومة الخلايا للأنسولين وكلما زادت مقاومة الأنسولين كلما عمد الجسم لضخ المزيد منه.
لذلك، فإن علاج السكري بالأنسولين ليس فقط يتميز بفعالية متناقصة بل إنه يزيد الأمر سوءاً لأن ضخ الأنسولين في الدم بهدف خفض معدل السكر يجعل الخلايا تزيد من مقاومتها للأنسولين ويصبح المريض محتاجاً لضخ المزيد من وحدات الأنسولين للحصول على نفس النتيجة وهذا هو تعريف مقاومة الأنسولين، ولهذا يشدد الدكتور فانغ على أن أسلوب معالجة السكري المطبق حالياً خاطئ وسيىء جداً لأنك عملياً تعالج السكري (الأنسولين) بنفس المادة التي تتسبب به باعتباره مرض مقاومة الأنسولين، وهذا يشبه معالجة مدمن الكحول بإعطائه المزيد من الكحول لذلك فإن علاج السكري بالأنسولين ينجح في خفض معدل السكر لكنه يزيد مرض السكري سوءاً لأنه يخلق مزيداً من مقاومة الأنسولين ويتسبب بزيادة في الوزن قد تصل إلى 10 كلغ في مدة قصيرة، كما إنه يزيد احتمال الإصابة بالسرطان وأمراض القلب وارتفاع ضغط الدم.
هذا ما بيّنته الدراسات التي قارنت بين الآثار الطويلة الأمد للأنسولين مع الآثار الطويلة الأمد لعقار متفورمين Metformin أو الجيل الجديد من أدوية خفض سكر الدم التي تعمل عبر كبح هرمون محدد والمعروفة بأدوية الغليبتين1 والتي تخفض معدل السكر دون زيادة معدل الأنسولين، إذ تبين أن هاتين الفئتين من الأدوية تخفضان بنسبة ملموسة احتمال الإصابة بالسرطان أو أمراض القلب بالمقارنة مع الأنسولين الذي يزيد بنسبة ملموسة تلك المخاطر.

الدكتور جايسون فانغ أصبح رائدا عالميا في معالجة السكري والبدانة من خلال الحمية الشديدة عن السكريات والصيام تمهيدا للاستغن
الدكتور جايسون فانغ أصبح رائدا عالميا في معالجة السكري والبدانة من خلال الحمية الشديدة عن السكريات والصيام تمهيدا للاستغن

دليل قاطع
يعطي الأطباء الذين يتولون علاج مرض السكري دليلاً على التضليل الذي تحمله نظرية “السكري مرض مزمن” من خلال تسليط الضوء على مثال بسيط ومعروف هو عملية ربط المعدة أو استئصال قسم منها من قبل بعض المصابين بالسمنة الزائدة والمصاحبة بمرض السكري المتأخر (Type II). إن الواحد من هؤلاء بمجرد إجراء عملية ربط المعدة يتخلص من السكري نهائياً وحتى قبل خسارة الوزن الزائد، وهذا الأمر يتم بنسبة 90% لدى المصابين وفي وقت قصير نسبياً. ويعلق الدكتور فانغ على ذلك بالقول: إذا كان مرض السكري “مزمناً” ولا أمل بالشفاء منه فلماذا يختفي السكري في هذه الحال وتختفي الحاجة لاستخدام أدوية السكري في عمليات ربط المعدة؟ الاستنتاج الطبيعي هو أن مرض السكري في هذه الحالة على الأقل أمكن شفاؤه وأنه بالتالي ليس حكماً مؤبداً.
لكن شفاء السكّري عبر عملية ربط المعدة يشير إلى مدخل مهم للتعامل مع المرض، لأن ربط المعدة يعادل بالنسبة الى مريض السكري إجراء خفض كبير في تناول الطعام، لأن عملية الربط تقلص حجم المعدة إلى أكبر قليلاً من ثمرة جوز فلا يعود في إمكان المريض عملياً تناول الطعام إلا بكميات قليلة، وأكثر مرضى السكري يسرفون في تناول الطعام، وها نحن نجد أنه بمجرد تراجع الإقبال على الطعام ذهب السكري تماماً.
هذا الرابط بين تراجع كمية الطعام واختفاء مرض السكري مهم وهو مدخل إلى فهم الأسلوب الممكن للشفاء من المرض. فالسكري حسب د. فانغ قابل للمعالجة لكن الأسلوب الحالي القائم على الدواء فحسب فشل تماماً في العلاج ولا بدّ بالتالي من استكشاف أسلوب آخر.
النقطة المهمة هنا هي أن السكري مرض ناجم عن أسلوب خاطئ في التغذية وهذا مؤكد في جميع الدراسات، لكن إذا كان المرض ناجماً عن نمط تغذية خاطئة فإن العلاج يجب أن يكون في تصحيح نهج الغذاء وليس في الأدوية، لكن الذي يفعله الطب التقليدي هو التعامل مع مرض غذائي ليس عبر معالجة الأسباب بل عبر أدوية مصممة للتعامل مع أعراض المرض وليس المرض نفسه، وهذا الأسلوب لن يحسّن حياة مريض السكري وهو فعلاً لم يحقق نتائج كما هو مؤكد من الدراسات والأبحاث خلال السنوات الثلاثين الماضية.

ما هي مقاومة الأنسولين
يمكن تعريف مرض السكري ليس بكونه ارتفاع معدل السكر في الدم (فهذا هو من أعراض المرض فقط) بل هو مقاومة خلايا الجسم للأنسولين ورفضها بالتالي فتح بابها للسكر الذي يحمله الأنسولين إليها. ويشبّه الدكتور لاستنغ هذه الحالة بالقول إن الأنسولين يطرق باب الخلية لكي يسلم السكر الذي يحمله لها لكن الخلية ترفض فتح بابها واستلام البضاعة، لماذا؟ لأن مريض السكري لفرط تناوله السكريات والطعام جعل خلايا الجسم محشوة بالسكر بحيث لا يعود هناك متسع للمزيد وعندها فإن الخلية تدافع عن نفسها بإغلاق المجال أمام الأنسولين، وهذه هي مقاومة الأنسولين. وعندما ترفض الخلية استخدام الغلوغوز كوقود وترد الأنسولين على أعقابه فإن السكر يبقى في الدم (وهنا تظهر أعراض السكري) ويقوم الأنسولين عندها بالطلب من الكبد أن يحوله إلى دهون يتم خزنها في الكبد نفسه أو في أنحاء متفرقة من الجسم، وهذا هو أساس ارتفاع الوزن أو البدانة المرضية Obesity.
إن الأساس الأهم لمقاومة الجسم للأنسولين هو التدفق المستمر لسنوات للمواد السكرية وهو ما يرهق الخلايا ويجعلها تغلق بابها أمام المزيد، والهدف الأهم في علاج حقيقي لمرض السكري ليس إعطاء أدوية تخفض معدل السكر في الدم بل اتباع نظام غذائي يؤدي إلى تراجع مقاومة الأنسولين وإحياء حساسية الخلايا للأنسولين، وهذا الأمر حسب الدكتور فانغ يتطلب أولاً أن يزيل مريض السكري السبب الأهم الذي أوصله إلى ما هو فيه وهو التناول المفرط للنشويات والسكريات، وهذه هي الخطوة الأولى في العلاج. ويذكر فانغ حالة كاتب بريطاني يدعى وليم بانتنغ عاش بين العامين 1796 و1878 ونشر كتيباً عن العلاج الناجع لمرض السكري عبر الحمية عن السكريات، وقد اعتبر كتيبه هذا لوقت طويل بمثابة الدليل الأمثل على سبل علاج السكري، وبقيت الحمية عن السكريات هي الأسلوب المعتمد لمعالجة المرض قبل هيمنة شركات الأدوية وتحكمها بالأجندة الطبية التي باتت مستندة بالكامل إلى الأدوية دون أي اهتمام بنظام الغذاء.
لقد أثبت أطباء العلاج الغذائي للسكّري والأبحاث العلمية أن أدوية السكّري تخفض معدل السكر في الدم ليس بالتخلص منه بل عبر دفعه بالقوة إلى الخلايا التي ترفض التعاون وأخذ المزيد، لهذا فإنك قد لا ترى السكر المرتفع في الدم لأن الفائض منه تم دفعه إلى خلايا الجسم، وهو موجود ويزيد من إرهاق الخلايا، وهذا يعني أن مريض السكري لا يجب أن يرتاح لأن معدل السكر معتدل أو مسيطر عليه بواسطة الدواء بل يجب عليه أن يعلم أن السكري يزداد أثناء ذلك سوءاً وأن الأسلوب الوحيد الذي يمكنه أن يخلص نفسه من السكري هو الحمية الشديدة وخفض معدل الأنسولين في الدم.

العلاج الطبيعي للسكري
العلاج الطبيعي للسكري
انتشار-السكري-بين-البالغين-في-الولايات-المتحدة
انتشار-السكري-بين-البالغين-في-الولايات-المتحدة

همية الصيام
يقوم العلاج الغذائي للسكري على فرضية أساسية هي أهمية خفض معدل الأنسولين في الدم وإعادته إلى معدّله الطبيعي. لقد ارتفع معدل الأنسولين وأدى إلى ما يسمى مقاومة الأنسولين (وهو الاسم الفعلي لمرض السكري) بسبب سنوات طويلة ربما عشرين سنة و/ أو أكثر من نظام غذائي خاطئ يتمثل بالإسراف في الطعام وتناول السكريات بصورة خاصة، ومرض السكري لا يحدث فجأة بل هو يتطور بصورة غير منظورة لسنوات قبل أن يظهر فجأة وهو يظهر عندما تكون خلايا الجسم قد تشبعت بالسكر ولم يعد للنظام الهضمي القدرة عل استيعابها، في هذه الحال فإن خفض مستوى الأنسولين في الدم يتطلب أولاً الحمية الشديدة عن السكريات، لكن الدكتور فانغ يعتقد أن خفض السكريات وحده لا يكفي بل المطلوب الصيام على الماء مثلاً لمدد قد تمتد لأيام أو ربما لأسبوع أو أكثر (حسب كل حالة) من أجل إجراء خفض دائم في معدل الأنسولين وتحرير الجسم من مخزون السكر الذي تشبعت به الخلايا.
إن الصيام لمدد متفاوتة قد تطول أحياناً لثلاثة أيام أو أكثر يهبط بالأنسولين إلى معدلات منخفضة جداً، والمهم أن هذا الهبوط يزيل مع الوقت مقاومة الخلايا للأنسولين فتصبح أكثر قابلية لأخذه وهو ما يمهد لزيادة فعالية الأنسولين وعملية التمثل الغذائي ويؤدي إلى خفض معدل سكر الدم إلى مستويات طبيعية من دون حاجة للدواء، أي أن الصيام وحده وليس الحمية عن السكريات وحدها هو الذي يمكّن مريض السكري من كسر الحلقة المفرغة لمقاومة الأنسولين والتمهيد للتعافي من السكري. أضف إلى ذلك أن المقاربة الغذائية لمعالجة السكري تقوم على تصميم برنامج علاجي حسب كل حالة فهي مقاربة مرنة وتأخذ في الاعتبار واقع المريض وليست مثل العلاج بالأدوية الذي يقوم على وصف العقار الصيدلاني دون اعتبار حقيقي للمريض لأن المهم إعطاء الدواء وخفض الأعراض الظاهرة دون المرض نفسه.

“الجمعية الأميركية للسكري واجهة لصناعات الأدوية ونصيحتها للمرضى : اجعلوا 60 % من غذائكم ســــكّريات لكن واظـــبوا على الأدوية !!”

الدكتور ديفيد برلماتر أثار ضجة عالمية بالتحذير من أثر الحبوب والدعوة إلى نظام قليل السكريات لعلاج باركنسون والزهايمر
الدكتور ديفيد برلماتر أثار ضجة عالمية بالتحذير من أثر الحبوب والدعوة إلى نظام قليل السكريات لعلاج باركنسون والزهايمر

الأعراض الجانبية للسكري
يحدث السكري تخريباً مستمراً للعديد من الأعضاء الأساسية في الجسم وهذا التخريب عندما يحصل يصعب إصلاحه. التخريب الذي يحصل للكلى مثلاً يتم على مدى سنوات طويلة ربما 10 أو 15 عاماً لكن عندما يحدث يصعب جداً علاجه مما يعني أن العطل بات دائماً. كذلك الأمر بالنسبة للعينين أو تهرّؤ القدمين أو تصلب الشرايين فضلاً عن مرض باركنسون أو ألزهايمر اللذين ينتجان عن نشاف شرايين الدماغ وموت الكثير من خلاياه الأساسية لوظائف الذاكرة والنطق والحركة وغيرها.. وبالطبع فإن حماية الكلى أو العينين أو القلب لمريض السكري أمر مستحيل إذا لم يتم علاج السكري نفسه لأن التخريب ناتج عن ارتفاع السكر المستمر في الدم وعن مقاومة الأنسولين، ولهذا السبب نجد أن مريض السكري قد يحافظ بواسطة الأدوية على معدل سكر معتدل لكنه يصاب لا محالة بأمراض القلب وعطل الكلى في المدى الطويل ولن ينقذه الدواء بالتالي من الأعراض الجانبية للسكري، وفي حال الأنسولين فإن استخدامه في علاج السكري يتسبب بزيادة كبيرة في احتمال الإصابة بالسرطان.

لماذا تفشل كل أنواع الريجيم؟
يبذل أطباء العلاج الغذائي للسكري جهداً خاصاً في شرح فشل عمليات الريجيم التي تعتمد على خفض السعرات الحرارية وبالتالي عدم صلاحية هذا النظام لمعالجة السكري أو خفض الوزن الزائد، السبب حسب د. فانغ هو أن الريجيم يؤدي إلى انخفاض في الوزن خلال أشهر معدودة لكن الجسم لا يلبث كردّ فعل على خفض عدد السعرات الحرارية أن يخفض معدل الاحتراق Basal Metabolic Rate ولهذا السبب يعود الشخص فيشهد ارتفاعاً في وزنه رغم محافظته على الريجيم، لذلك فإن السر الأهم لخفضالوزن والحفاظ على وزن منخفض يكمن حسب فانغ في الصيام، فالصيام يخفض معدل الأنسولين في الجسم ويمنع بالتالي خفض معدل التمثل الغذائي. ويستند فانغ إلى خاصية الصيام هذه لاستخدامه إلى جانب نظام الحمية عن السكريات كمنهج أساسي لخفض الوزن وعلاج السكري.

حكماء-الإنسانية-عن-الصيام
حكماء-الإنسانية-عن-الصيام

أسلوب عيش مشوّه
يربط أطباء العلاج الغذائي للسكري بين الانتشار الهائل للمرض وبين النمو الهائل في استهلاك السكريات في المجتمع الأميركي والذي انتشر منه إلى بقية دول العالم نتيجة التكاثر غير المحدود للمنتجات الضارة مثل الوجبات السريعة والأطعمة المصنّعة والمعلبة والسكاكر ومنتجات الحبوب المحلاة والمشروبات الغازية والكحول والتي حلّت محل الأغذية الطبيعية والصحية للأجيال السابقة والتي كانت أقل احتواء بكثير على السكريات، كما يربطون بين انتشار مرض البدانة المفرطة والسكري وغيرهما من الأمراض المعاصرة وبين تخلي الناس عن النظام السابق للوجبات الثلاث دون أي طعام بينها إلى نظام لا يتوقف الناس فيه عن تناول الطعام والأطعمة المسلية أو السريعة Snacks في كل مكان وفي كل وقت. ونتيجة هذا النظام المشوّه الذي تغذيه مصالح الشركات أصبح ثلثا عدد السكان في العالم الغربي يشكون من الوزن الزائد وثلثهم يشكون من البدانة والبدانة المفرطة ومن مرض السكري ويتوقع أن تبلغ نسبة البدانة في الولايات المتحدة نحو 80% من مجمل السكان بحلول العام 2030، ويتوقع خبراء أن تؤدي الأكلاف السنوية لمعالجة حالات السكري والأمراض الثانوية الناتجة عنه إلى إفلاس نظام الضمان الصحي الأميركي بحلول العام 2020.
ولا يشدد العالم الغربي، رغم تقدمه العلمي، على فوائد الصيام ولا يوجد في بلدان الغرب بالتالي دليل مرجعي واحد يساعد الشخص عليه، علماً أن الصيام ليس مجرد الامتناع عن الطعام، بل نظام غذاء متكامل له قواعده، لكن تلك القواعد والخبرات التي حملها السابقون وكانت تنتقل من جيل إلى جيل ضاعت اليوم وسط مجتمع الاستهلاك والتلذذ بالطعام وأنواعه. وفي مقابل التكلفة الباهظة للأدوية والأطباء وما يلحق ذلك، فإن الصيام علاج مجاني لا يكلف المريض قرشاً واحداً وهو حتماً أكثر فعالية من الأدوية ولا يتسبب بأي أعراض جانبية كما هي الحال مع جميع العقاقير الكيميائية.
يقول فانغ: يتم حثّ الناس على الأكل في كل وقت، لأن ذلك مفيد للاقتصاد وللشركات، أما الصيام فلا أحد له مصلحة فيه لأنه لا ينتج أرباحاً، لذلك يتجاهلون أهميته الطبية الكبيرة. ويضيف أن الحكومات المعاصرة يمكنها توفير ألوف مليارات الدولارات التي تنفقها على علاج السكري ومضاعفاته والعديد من الأمراض الأخرى في ما لو نصحت بالصيام وأدخلت أنظمة توعية تدرب الناس على خفض الوزن وعلاج السكري بالطرق الغذائية وخصوصاً عن طريق الصيام والحمية الصارمة عن السكريات وعلى العكس من ذلك فإنهم في الغرب ينشرون خرافات وأساطير حول الصوم وعن أثره على ضمور العضلات والطاقة الجسدية أو الفكرية، وهي نظريات تضعها شركات الغذاء لأنها لا تريد لتقليد الصيام أن ينتشر، علماً أن جميع الأديان العريقة مثل الإسلام والمسيحية والبوذية والهندوسية وغيرها فرضت الصيام لمدد متفاوتة بسبب إدراك أصحاب الرسالات السماوية وحكماء الأزمنة القديمة لأهمية الصيام في التوازن الصحي.

الإنسولين يخفي أعراض السكري وليس علاجا وهو سبب أساسي لزيادة الوزن وزيادة احتمال الإصابة بالسرطان
الإنسولين يخفي أعراض السكري وليس علاجا وهو سبب أساسي لزيادة الوزن وزيادة احتمال الإصابة بالسرطان

خلاصة
على سبيل الاستنتاج، نذكر بأن الطب الغذائي الحديث أثبت أن مرض السكري ليس مرضاً مزمناً ولا يحتاج لمعالجته بالأدوية مدى الحياة، بل هو خلل هرموني ناجم عن نظام فاسد في الغذاء وعن إسراف مزمن، لهذا فإن معالجة السكري ممكنة جداً من خلال تبديل جذري في النظام الغذائي تم عرض خطوطه العريضة في هذا المقال.. إن على مريض السكري أن يرفض مقولة بأن مرضه مزمن ولا أمل بالشفاء منه، بل هو مرض قابل للشفاء التام من خلال نظام الحمية عن السكريات والصيام المنتظم. ومن أجل مساعدة القراء الذين يحتاجون إلى المزيد من المعلومات نورد في نهاية هذا المقال سلسلة من المراجع والمواقع الشبكية الطبية الموثوقة التي يمكنهم زيارتها والاطلاع على مادتها وبعض هذه المواقع مثل موقع الدكتور فانغ يمكن التواصل معه والتسجيل لديه للحصول على برنامج علاجي مراقب ومتابع منه شخصياً.

1. https://intensivedietarymanagement.com
2. http://www.drperlmutter.com
3. http://www.mercola.com
4. http://drleonardcoldwell.com
5. http://www.ketogenic-diet-resource.com
6. https://usf.academia.edu/DominicDAgostino/Papers

العدد 21