نكبــة عبـــد الله ابـــن المقفّــــــع
خصومــه اتهمــــوه بالتقيــــة فــي إسلامــــــه
و«رسالة الصحابة» استثارت حفيظة المنصور
يعتبر ابن المقفّع من آباء الأدب السياسي في التاريخ العربي الإسلامي، فهو الأب الرّوحي المؤسّس للآداب السلطانيّة، تلك الكتابات التي تزامن ظهورها مع ما يدعوه الجميع بحدث “انقلاب الخلافة إلى مُلك”
وكانت في جزء كبير منها نقلاً واقتباساً من التراث السياسي الفارسي والحكم اليونانيّة والتّجربة العربيّة الإسلاميّة، وتهدف هذه الآداب إلى حسن تدبير أمور الدولة الإسلامية الوليدة وتقوم على مبدأ نصيحة أولي الأمر في تسيير شؤون سلطتهم تتضمن موادّها مجموعة هائلة من النّصائح الأخلاقيّة والقواعد السلوكيّة الواجب على الحاكم اتباعها بدءاً ممّا يجب أن يكون عليه في شخصه إلى طرق التعامل مع رعيّته مروراً بكيفيّة اختيار خَدَمِه واختبارهم وسلوكه مع أعدائه1. ويرى محمّد عابد الجابري أنّ ابن المقفّع أوّل من دشّن القول في هذا الباب، فأوضاع المجتمع العربي في العصر العبّاسي الأوّل كانت تتطور في الاتّجاه نفسه الذي تطوّرت فيه أوضاع المجتمع الفارسيّ من قبل وذلك عبر عمليّة انتقاله من دولة الدّعوة والخلافة إلى دولة السّياسة والسلطان2.
لكن قدر ابن المقفع أنه عاصر زمن صراعات عنيفة على السلطة بدأت بانتصار الثورة العباسية واهتمام أعلامها بتوطيد سلطاتها وقهر خصومهم وفرض الطاعة على المجتمع وقمع الثورات وأعمال الفوضى، وكان من الطبيعي أن تورث تلك الفترة لدى الحكام حذراً طبيعياً شديداً وميلاً للقسوة في التعامل مع معارضيهم، ويعتبر الخليفة أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للخلافة العباسية وأحد أعظم خلفائها وأقدرهم على إدارة شؤون الدولة المترامية الطرف التي تعتمل فيها على الدوام عوامل الفتن والتمرد، لذلك أوعز أبو العباس السفّاح لوزيره أبي مسلم الخراساني أن “اقتل من شَكَكتَ فيه”. وغدت هذه الوصيّة سيفاً مُسلطاً على الرقاب إذ استعان بها أبو مسلم لقتل بعض نقباء الدّعوة العبّاسيّة نفسها من الذين شاء التخلّص منهم سواء لعطفهم على العلويّين أو لعلوّ شأنهم “ وأصبح العلويّون ــ وهم ذريّة علي بن أبي طالب ــ هم الخصوم الجدد لبني العباس الذين سرقوا منهم دعوة الخلافة والثورة على الأمويين بالخديعة والعنف”3.
في ذلك الزّمن المفعم بالقمع، زمن الخليفة المنصور باني العاصمة بغداد؛ قدم إليه رسول لملك الروم، فكلّف الخليفة أحد أتباعه الخلصاء “عُمارة بن حمزة” لمرافقة الرّسول المهتم بزيارة بعض معالم المدينة الناشئة، وعندما كان الرّجلان يعبران على جسر الرّصافة استرعى انتباه الرّومي فقراء يستعطون (شحّاذون)، فقال لِعُمارة “إنّي أرى عندكم قوماً يسألون، وكان يجب على صاحبك أن يرحم هؤلاء ويكفيهم مؤونتهم “4.
وقد عرفت بغداد في تلك الفترة عدداً لا يحصى من طوائف العيارين والشطّار والصّعاليك5 وأهل الكدية وهم نتاج لفساد الحياة الاقتصادية والاجتماعيّة والسياسية في العصر العباسيّ.
ولئن كان الناس قد أمِلُوا خيراً بالخلاص من دولة بني أميّة فقد
خابت آمالهم في الدولة الجديدة وحَنّوا لمظالم الأمويين حيال ما نالهم من خيبة في ظلّ بني العباس حتى قال الشاعر في ذلك:
يا ليتَ ظُلمَ بني مروانَ دامَ لنا وليتَ عدلَ بني العباسِ في النار
مولدُه ونشأتُه
لا يوجد دليل يقيني يوضح تاريخ مولد ابن المقفع، وبحسب البلاذُري أنه، ولد عام 80 هـ في قرية جور (فيروز أباد الحاليّة) القريبة من مدينة شيراز، ومعنى اسمه بالفارسيّة “المبارك.
لقِّب والده بـ “المقفع” لأنه اتهِم بِمّدَ يده واختلاس أموال المسلمين والدولة الإسلامية، لِذا نكّل بِه الحجاج بن يوسف الثقفي وعاقبه فضربه على أصابع يديه حتى تشنجتا وتقفَّعتا (أي تورمتا واعوجت أصابعهما ثم شُلَّت). وقال ابن خلكان في تفسيره: كان الحجاج بن يوسف الثقفي في أيام ولايته العراق وبلاد فارس قد ولّى داذويه خراج فارس، فمدّ يده وأخذ الأموال، فعذبه فتقفَّعت يده فقيل له المقفع[3]، وقيل انه سمي بالمقفع لأنه يعمل في القِفاع[3] ويبيعها، ولكن الرأي الأول هو الشائع والمعروف وعلى أساسه عرف روزبه بابن المقفع4.
وهكذا ورث الابن اسم عاهة أبيه وإليها نُسِب. وفي رواية البلاذُري أنّ ابن المقفّع في شبابه المبكّر عمل على خراج بعض كُوَرِ (نواحي) دجلة في خلافة سليمان بن عبد الملك (عصر بني أميّة) الذي امتدّت خلافته من عام 96 إلى عام 99هـ وهذا يدلّنا على أن روزْبِه كان يتمتّع بمواهب خوّلته لعمل يجمع بين مهارة الحساب ومهارة الكتابة، كما عمل كاتباً لـ يزيد بن عمر بن هُبيرة، وكان والياً على كِرمان في عهد مروان بن محمّد، آخر خليفة أموي ثم كتب بعد ذلك لابنه داود الذي قُتل في خلافة السفّاح، كما قُتِل أبوه يزيد وأخوه إبراهيم ووجوه قادتهم على الرّغم من الأمان الذي منحه الخليفة المنصور لآل هبيرة، وكتبه بخط يده وجعل قُوّاده شهوداً عليه6.
ويعقّب أحمد عُلَبي على مقتل كثيرين ممّن شغلوا أعمالاً لدى بني أميّة ومنهم صديق ابن المقفّع الحميم عبد الحميد بن يحيى الكاتب، ونجاة ابن المقفع فيقول: “أمّا كيف سَلِمَ ابن المقفّع فهذا من جملة الأمور التي لم تنفرج لها شفتا التاريخ عن جواب مقنع يشفي منّا الغليل”.
صفاته
عُرِف عبد الله بن المقفع بذكائه وكرمه وأخلاقه الحميدة، وكان له سعة وعمق في العلم والمعرفة، ما جعله من أحد كبار مثقفي عصره، حيث تقوم معارفه على مزيج من عدة ثقافات هي العربية والفارسية واليونانية إضافة إلى الهندية، ولا يخفى الأثر الطيِّب لهذه الثقافة الموسوعية إذا تصفّحتَ مؤلفاً من مؤلفاته، إذ تنهال عليك الحكمة من بين الأسطر، وتنعم بالأسلوب السلس، والذوق الرفيع.
وكان ابن المقفع ملماً بلسان العرب فصاحةً وبياناً، وكاتباً ذا أسلوب، وذلك لنشأته في ولاء آل الأهتم، ووصف بمنزلة الخليل بن أحمد بين العرب في الذكاء والعلم، واشتهر بالكرم والإيثار، والحفاظ على الصديق والوفاء للصحب، والتشدد في الخلق وصيانة النفس. ونستطيع أن نعرف عنه صدقه من خلال كتاباته وحبه للأصدقاء حتى قال: “إبذل لصديقك دمك ومالك”.
إسلامه
اتصّل ابن المقفّع برجال الدّولة الجديدة بعد سقوط الأمويين، وكتب لعيسى بن عليّ عمّ المنصور، ولزم بعض بني أخيه إسماعيل ــ عم آخر للمنصور ــ يؤدّبهم ويشتغل بتعليمهم وتثقيفهم ثمّ كتب أيضاً لسليمان بن عليّ عمّ المنصور واعتنق الإسلام، وقد روي في ذلك أنّه بينما كان يمشي ذات يوم في طريق ضيّق إذ سمع صبيّاً يتلو بصوت مرتفع قوله تعالى: “ألم نجعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً، وخلقناكم أزواجاً، وجعلنا نومكم سباتاً…” فوقف مُنْصِتاً حتى أتمّ الطفل قراءة السورة، ثمّ قال في نفسه: “الحقّ أنه ليس هذا بكلام بشر”، ولم يلبث بعدها أن ذهب إلى عيسى بن علي وقال له: “لقد دخل الإسلام في قلبي وأريد أن أسلم على يديك”. فقال له عيسى: “ ليكن ذلك بمحضر من القوّاد ووجوه النّاس، فإذا كان الغد فاحضر”، ثمّ حضر طعامٌ لعيسى عشيّة هذا اليوم، فجلس ابن المقفّع يأكل ويزمزم على عادة المجوس. فقال له عيسى: “أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟” فقال: “كرهت أن أبيت على غير دين”، فلمّا أصبح أسلم على يده ــ وسمّي عبد الله ــ وصار كاتباً له واختصّ به7.
هل كان زنديقاً؟
لم تثبت تهمة الزندقة بأي حال على عبد الله ابن المقفّع، ولا يوجد في كل آثاره المكتوبة ما يدل دلالة صريحة عليها، لكن كثيرين أظهروا شكوكاً في صدق إسلامه فهو قلما يعود إلى أحكام الإسلام أو إرثه الواسع في شرح أخلاقياته على رغم الثروة الهائلة التي تضمنها الإسلام في الكتاب والسنة وأخبار الصحافة والتابعين. وهو سئل مرة من أدبّك؟ فأجاب على الفور: “نفسي، إذا رأيت من غيري حسناً آتيه، وإن رأيت قبيحاً أبَيْته” وهذا من المفارقات لأن المسلم المؤمن غالباً ما يعتبر الإسلام الهداية التي بدلت حياته وأصبحت قانون سلوكه. واعتبر البعض أن ابن المقفع وإن لم يظهر الزندقة فإنه اعتنق الإسلام تقيّة ومن أجل تأمين حظ له في العهد العباسي الناشئ وإن قلبه بقي بالتالي متعلقاً سراً بالمجوسية، كما إن اهتمامه الشديد بالتراث الفارسي لم يكن سببه فقط انتماءه إلى ذلك التراث بل افتخاره الشديد به وشعوره الضمني أن الحضارة الفارسية التي تركها مكرهاً بسبب اعتناقه الإسلام وغيرها من المراجع اليونانية أو الهندية التي استعان بها ربما تفوق الإسلام في مضمونها، وبهذا المعنى فإن نشر ذلك الكم الكبير من التراث الفارسي كان من قبيل “المقاومة السلبية لصعود وغلبة الإسلام، وذلك عبر التذكير بمجد فارس وإظهار الحنين الضمني إلى تلك الحضارة التي قضى عليها الإسلام بعد الفتح.
نكبته
هناك إجماع على أنّ قاتله المباشر هو سفيان بن معاوية بن المهلّب بن أبي صُفرة والي البصرة من قبل الخليفة المنصور، وهو الذي خلف سليمان بن علي العباسي عمّ المنصور عليها، وكانت بين ابن المقفع وسفيان بن معاوية عداوة متأصلة نسجت حولها الأقاويل منها أن ابن المقفع كان يحتقر سفيان وأنه في مرة سبّ أمه، وأنه كان يسخر من ضخامة أنفه ويسلم عليه بالقول: السلام عليكما (أي السلام عليك وعلى أنفك الكبير) وغير ذلك لكن ابن خلّكان يعقب على هذه الروايات بقوله : “يخالجنا الشعور بأن ّهذه الرّوايات يخالطها الغلوّ، فكيف يعقل أن يصدر هذا الكلام عن إنسان عرف بأخلاقه الدمثة، ثم كيف يعقل أن يكون والي البصرة رجلاً حاكماً على هذا النّحو “الكاريكاتوري” بحيث يرضى الاستخفاف بشخصه وبالإهانة الواضحة تلحقه من غير أن يحرّك ساكناً في حينه؟” أي أن هذه الروايات تناقض أخلاق ابن المقفع واتزانه، لكن ربما نسجتها مصادر عباسية لتجعل مقتل هذا المفكر الجريء “حادثاً شخصياً” ناجماً عن ثأر أو ضغينة؛ وبذلك تخفي الأسباب السياسية لمقتله وتحطّ من قيمة موته في الوقت نفسه.
إن أكثر المؤرخين المتابعين يردون مقتل ابن المقفع لعلاقته بأعمام الخليفة المنصور الذين أعلن أحدهم وهو عبد الله بن علي الثورة على المنصور إثر موت السفاح معيناً نفسه خليفة للمسلمين، وقد سارع أبو جعفر المنصور إلى تجهيز جيش كبير فهزمه واضطره
للإلتجاء إلى شقيقيه علي وعيسى في البصرة. تبعت ذلك مساع من عدة جهات لأخذ الأمان من قبل المنصور لعمه عبد الله وكان ابن المقفع يومها كاتباً عند المنصور وقد نسب إليه أنه هو الذي أعدّ كتاب الأمان الذي طلب من الخليفة إعطاءه لعمِّه والإشهاد عليه، وكان كتاباً محكماً مُلئ بالشروط القاسية.
وممّا جاء في كتاب المقالات للنّوبختي أنّ ابن المقفّع ردّ سبعين أماناً أرسلها المنصور لعمّه ناصحاً موكّله برفضها لمآخذه عليها ولعدم احتوائها على ضمان الأمان بصورة مرضية من المنصور، وقيل أيضاً إن أحد أسباب إيعاز الخليفة المنصور بقتل ابن المقفع كتاباته الجريئة ولاسيما كتبه “رسالة الصحابة” التي وجّهها ابن المقفع ضمناً إلى الخليفة المنصور محملاً إياها بالنصائح حول كيفية سوس الرعية وإقامة العدل وما إلى ذلك من أدبيات السياسة المستقاة من التراث الفارسي لكن التي وجد فيها المنصور تجرؤاً على سلطانه في مرحلة دقيقة كانت تشهد توطيد أركان الدولة العباسية والتعامل مع أعدائها الكثيرين.
نصّ الأمان الذي وقّعه المنصور لعمّه
ممّا جاء في نسخة الأمان التي وقّعها المنصور بخطّه: “وإن أنا نلت عبد الله بن عليّ أو أحداً ممن أقدمَهُ معه بصغير من المكروه أو كبير أو أوصلت إلى أحد منهم ضرراً سرّاً أو علانية على الوجوه والأسباب كلّها تصريحاً أو كتابة أو بحيلة من الحيل فأنا نَفِيٌّ من محمد بن علي (والد الخليفة) بن عبد الله مولود لغير رِشْدة (أي ابن زنا) وقد حلّ لجميع أمّة محمد خلعي وحربي والبراءة منّي ولا بَيعة لي في رقاب المسلمين، ولا عهد ولا ذمّة وقد وجب عليهم الخروج من طاعتي وإعانة من ناوأني من جميع الخلق ولا موالاة بيني وبين أحد من المسلمين إلخ…وكتبت بخطّي ولا نيّة لي سواه، ولا يقبل الله منّي إلاّ إيّاه والوفاء به”. وقد جاء عند ابن خِلِّكان أنّ من جملة فصول الأمان هذا القول: “ومتى غدر أمير المؤمنين بعمّه عبد الله بن علي، فنساؤه طوالق، ودوابه حُبُس (أي يبطل حقه في استخدامها لمصلحته الخاصّة وتصبح موقوفة في سبيل الله) وعبيده أحرار والمسلمون في حلٍّ من بيعته”.
المنصور يغضب على كاتب نص الأمان
يروي ابن النديم في كتابه “الفهرست” أنّ المنصور سأل عمّن صاغ نصّ الأمان، فقيل له “إنّه ابن المقفّع كاتب عمّه عيسى بن علي، فأحفظ ذلك أبا جعفر لأنّ ابن المقفّع تصعّب في احتياطه فيه، فقال أبو جعفر : “ فما أحد يكفينيه!” وهذا الكلام ظاهر في تحريضه على قتل ابن المقفّع.
ويرى أحمد علبي أنّه جدير بنا أن لا نبالغ في أمر هذا الأمان، بحيث نجعله السبب المباشر الوحيد لمصرع ابن المقفّع فإنّ تحرير الأمان حدث في السنة 139هـ وفيها عُزل سليمان بن علي عن ولاية البصرة وتولّى مكانه سفيان بن معاوية في حين أنّ ابن المقفّع قُتِل في السنة 142هـ.
ويعرض علبي لرأي باحث حديث هو محمد غفراني الذي يرى أنّه لو كان الأمان سبباً مباشراً لتبرير مقتل ابن المقفّع لما صبر المنصور عليه هذه السنوات، ثم إنّ المنصور يعلم أنّ ابن المقفع كان كاتباً منفّذاً لرغبات أعمامه، فالمنصور كان قادراً على الصّبر ثلاث سنوات حتى يتخلّص من ابن المقفع وقد صبر على عمّه عبد الله بن علي قرابة عشر سنوات حتى فاز به وقتله مع ما لهذا الرجل من خطورة عسكريّة، ثمّ إن الاجتهاد القائل بأنّ ابن المقفع كان مجرّد منفذ لرغبات غيره لا يحرّره تماماً من مسؤوليته في صياغة الأمان كما إنّ حاكماً شديداً كالمنصور لم يكن في نظرنا ليأخذ القضيّة بهذه السهولة المنطقيّة بأن ابن المقفّع كان مجرّد طائع لطلب أولياء نعمته، كما إنّ ابن المقفع لم يكن شخصاً مجهولاً لدى المنصور فقد اشتغل كاتباً عنده، وكان بعيد الشّهرة كمترجم وأديب، وهو رجل مجتمع ما دام أنّ جلساءه في البصرة كانوا من عيون القوم، لذا فالمنطق يقودنا إلى أن نحكم على مسؤوليّة ابن المقفّع في كتابة الأمان من خلال ماضيه كأديب منظور، لا أن نجعل من كتابة الأمان حادثاً منفرداً.
دور أبو أيوب المورياني
وهناك إلى جانب المنصور الذي لم يكن يقبل أيّة معارضة مهما كان شأنها، وفضلاً عن سفيان بن معاوية والي الخليفة، هناك شخص آخر ينبغي تسليط الضّوء عليه هو “أبو أيّوب الموريانيّ” وكان هذا رئيس الدواوين عند المنصور ثمّ وَزَر له، لم يكن عربيّاً وقد وصل إلى هذه المرتبة الكبرى في زمن قصير، وكان مُلِمّاً بعلوم كثيرة، إلاّ أنّ ثقافته الفقهيّة لا يؤبه لها. كان أبو أيّوب يخشى أن يزاحمه أحد على رئاسة الدواوين، وكان بطبعه متشكّكاً طمّاعاً وذا سطوة، فاصطدم بكتّاب كبار في الدّولة وسعى لإطاحة كلّ منافسٍ مُحتَمل كـخالد بن برمك. والواقع أنّ آل المورياني أضحَوْا عائلة حاكمة إذ تولّى أبو أيّوب وأخوه وأبناء أخيه المناصب الكبرى، وقد شُبّهت نكبتهم التي حدثت في السنة 153هـ بنكبة البرامكة، وكان من أبرز منافسي أبي أيوب كاتبنا ابن المقفّع.
وروي أنّ المنصور أنكر شيئاً على أبي أيّوبَ فقال له: “كأنّك تحسب أنّي لا أعرف موضع أكتب الخلق وهو ابن المقفّع مولاي؟” 8 فلا شك أنّ قولاً كهذا كان كفيلاً بإثارة حفيظة أبي أيّوب على ابن المقفّع الذي سبق له وشغل عند المنصور مركز الكاتب الخاص، وكان الخليفة شديد الإعجاب بمؤهِّلاته، وهذه، في رأينا شهادة لها قيمتها، لأنّ المنصور شخصيّة تدرك أقدار الرّجال، لذا كان أبو أيوب يتحيّن الفرصة للإيقاع بابن المقفّع، فكانت مناسبة كتابة ابن المقفع الأمان المعروف التي استغلّها أبو أيوب ليوحي إلى المنصور ويحبّب إليه فكرة قتل ابن المقفّع فرضي بها، وإذا بأبي أيوب يوصل بواسطة أحد مواليه إلى سفيان بن معاوية أنّ قتل ابن المقفع ليس بالأمر الذي يسيء إلى الخليفة، فوافى هذا الخبر لدى سفيان نفساً راغبة فيه فكان ما كان.
إزاء ما يولّده تعدد الرّوايات في السبب الرئيسي لمقتل ابن المقفع
يقول علبي: لنا أن نتساءل عن السبب الذي أدّى إلى مقتل ابن المقفّع: أهو كتابته الأمان الشديد اللّهجة المُحْكم الحلقات الذي دبّجه بناء على رغبة عيسى بن علي؟ أم هي الضّغينة المستعرة في صدر والي البصرة على كاتبنا الجريء؟ أم إنّها الرّسالة الخيّرة، “رسالة الصّحابة” التي خاطب بها أمير المؤمنين في كثير من الدّهاء والحِنكة والشّجاعة،؟ أم تُرى أنّها تلك التّهمة الموضوعة قيد الاستهلاك، تهمة الزّندقة التي كان يُرمى بها المُصلحون أحياناً في عصره، ولكلّ عصر تُهَمُه المجهّزة لمحاربة صُنّاع الفكر والحياة. ويقرر أحمد علبي فيقول: “الرّأي عندنا أنّ الموقف الإصلاحيّ الذي اضطلع به ابن المقفّع في حياته هو سبب مصرعه، وها هي مؤلّفاته ومن ضمنها “رسالة الصّحابة” تشهد أنّه لم يهادن، في وقت لملم فيه بعض الفقهاء البارزين أنفسهم وولّوْا منزوين في بيت أو صَومعة، ضنّاً منهم بأجسادهم من أن تُجلد، أو بأرواحهم من أن تُزهَق؛ لقد آثروا السّكوت على الجهر والمصانعة على الصّراحة، أمّا الزندقة فقد توسّل بها الحكّام أحياناً كتهمة للإيقاع بخصومهم السياسيين.
لقد وجد المنصور في سفيان بن معاوية بعد ذلك بسنوات كفاءة إجراميّة للتخلّص من رجل يزعج الدّولة بآرائه و”يحرّض” الناس على الفضيلة والاستقامة وطلب العدل وسيادة الشرف دون الغدر والاغتيال. إنّه عنصر غير مرغوب به! ولنا في التاريخ العباسي أمثلة منها ملاحقة المعتزلة بعد الخليفة المأمون وتعرّضهم للقمع والاضطهاد والقتل. وليس بغريب على المنصور أن يتخلّص من ابن المقفّع فهو صاحب تاريخ في هذا الميدان وروى الطبري في تاريخه “ج8 ص 86”، أن المنصور تخلّص من محمد بن أبي العباس بواسطة “الخصيب” المتطبب الذي سقاه دواء مسموماً، وتخلّص من الشاعر سُدَيف بأن أمر أحد عمّاله فدفنه حيّاً ولمّا مات المنصور ترك لابنه المهديّ مفاتيح أحد الأبنية وكان قد شرط ألّا يُفتح إلّا بعد موته، وعندما اخترم الموت المنصور فتح المهديّ باب هذا البناء الكبير فعثر فيه على جماعة من قتلاء الطالبيين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم وإذا فيهم أطفال ورجال شباب، ومشايخ، عدة كثيرة، فلما رأى ذلك المهديّ ارتاع لما رآه وأمر فحُفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها.
يقول محمد فريد بن غازي: “عرف ابن المقفع كيف يؤدّي على حساب حياته الخاصّة الرّسالة الفلسفية التي صاغها الفيلسوف الهندي بيدبا لعدة قرون قبله. لقد عرف كيف يؤدي هذه الرسالة حتى النهاية.
آثاره
إنّ الأثر الكتابيّ الوحيد الذي لا يخالطه اقتباس أو ترجمة لابن المقفّع هو “رسالة الصحابة” بالإضافة إلى متفرّقات ثانويّة من تحميد أو تهنئة أو تعزية، ولكنه خلّف لنا كتباً تترجّح بين الاقتباس والتّرجمة منها “الأدب الصّغير” و “الأدب الكبير” وهما عند التدقيق يتضمنان اقتباسات من الآداب القديمة الهنديّة والفارسيّة والإغريقيّة. ورسالة “الأدب الوجيز للولد الصغير” وكتاب “الدرّة اليتيمة”، وقد ضُرِب به المثل في البلاغة، ويعتبر ابن المقفّع في رأس الطّبقة الأولى من الكتّاب العرب والفرس الذين أدركوا دولة بني العبس، و”زعيم كتاب الفرس والعرب “9.
وهو لم يمارس التّرجمة في فنّ واحد، بل وَردَ غير ينبوع من ينابيع المعرفة فتعدّدت موضوعاته بين حِكَميّة وتاريخيّة وحقوقيّة ودينيّة وفلسفيّة. ففي الحكمة؛ وهنا لا بد من ذكر “كليلة ودمنة” و “كتاب مزدك”، الذي يبدو أنه نوع من الأمثال.
وفي التاريخ، نقل ابن المقفع كتاب “خداينامه”، ويتضمّن تاريخ إيران منذ البدء وحتى نهاية الساسانيين، ومن مترجماته “كتاب التاج في سيرة أنو شروان” وكتاب التاج أو “تاجنامة” يدور على أحوال ملوك الفرس وأساليبهم في الحكم، وأقوالهم ورسائلهم ومراسلاتهم، كما نقل كتاب “آيين نامة”، أي كتاب الآداب والقواعد
والتقاليد وتربية النفس وكتاب “السكيسران” وكتاب “تَنْسَر”، وهذا الكتاب أقدم نص عن النّظم الفارسيّة قبل الإسلام.
وينسب المسعودي إلى ابن المقفّع أنّه نقل إلى العربيّة بعض كتب “ماني” و “ابن ديصان” و “مرقيون” وهذان الأخيران من الفلاسفة القدامى وقد عاشا في إيران وبلاد ما بين النهرين، وهما على المسيحية المتلقّحة بأفكار الحكيم الفارسيّ “ماني” ولعلّ هذا ما سهّل على خصومه اتّهامه بالزندقة، كما قيل إنّ ابن المقفّع نقل بعض كتب أرسطو من البهلويّة إلى العربيّة، وذكر بعضهم أنّ ابن المقفع اختصر هذه الكتب اليونانيّة، وقد ذهب محمد بن غازي إلى أنّ ابن المقفّع عرف الفارسيّة والعربية والسّريانيّة والعبريّة وربّما اليونانيّة.
وعموماً، فإنّ الرّجل كان يعبر في كتاباته عن حسّ اجتماعيّ إصلاحيّ كما يرى أحمد علبي، فرسالته “رسالة الصّحابة” موجّهة بالنّصح رأساً إلى أمير المؤمنين وتتميّز بالبحث في أمور سياسيّة واجتماعيّة، فنحن حيال أدب سياسي وفكر اجتماعي وهو نوع مبتكر جريء لا نعثر على نظيره إلاّ في عصر تالٍ لعصر ابن المقفّع. ويرى طه حسين في “رسالة الصّحابة” أنّها توشك أن تكون برنامج ثورة10، ويرجّح أن تكون هي التي قتلته..
فالمنصور كان خليفة قاسياً وكان يهمّه أن تُغلق الأفواه فلا تمتد الألسنة إلى الجهر، ولا حرج في أن يتحدّث الأدباء بأخبار الجاهليّة وقصصها فهي تروق لأبي جعفر لأنّها تحمل سامعيها على المهاجرة والتعزّي وإغماض العيون عن الواقع الرّاهن والغيبوية طيّ ماض مُسَلٍّ! أمّا أن ينبري مفكّر كابن المقفع ليوجّه وينصح في مشاكل اجتماعيّة وقضايا فقهيّة وأمور سياسيّة فهذه جراءة لأنّه يمشي في سبيل غير مطروق ولربّما حملت العدوى غَيْرَه على أن يعبّروا.
المنصور وابن المقفّع، منطلقان ضدّان
لقد وافت رسالة الصّحابة لابن المقفّع رجلاً صعباً، شديد المراس لا يمكن أن يكون للشورى الحقّة سبيل إلى نفسه ومزاجه، فعداوته مُرّة ومن يدلي برأي فكأنّما يفتئت على سلطانه ويشجّع الآخرين على نقض طاعته والمنصور شديد الحساسيّة بالنسبة إلى موضوع الطاعة، فهو يرى أنّ الرّعيّة لا تصلح إلاّ بها، يقول المنصور في خطبة له عَقِبَ قتل أبي مسلم الخراسانيّ : “أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وَحشة المعصية… إنّه من نازعنا عُرْوة هذا القميص (يقصد سلطة الخلافة) أجزرناه خَبِيّ هذا الغمد (يقصد: قتلناه بنصل السيف).
وهكذا كان المنصور صارماً جادّاً، فهو من الرجال البناة، ويمتاز بصفات لا نعتقد أنّ ابن المقفّع يُغفل قيمتها، فهذا الخليفة لم يعرف اللّهو سبيلاً إليه قطّ، يأخذ الحكم مأخذ المسؤوليّة، وقد عزل أحد ولاته في حضرموت لأنّه كان يتلهّى بالصّيد! ، فهو حاكم يصرف وقته بالعمل وينظر في أمور هذه الدولة الكبرى فلا يهمل شيئاً من نفقاتها ومتطلّبات أمنها، ويذكر الطبري في تاريخه أنّ ولاة البريد كانوا يكتبون إليه كل يوم بأسعار المأكولات ويطلعونه على الأنباء السياسيّة والقضائيّة والماليّة والأحداث المختلفة وكان يكره التبذير، فحافظ على أموال الدولة لأنّها حصن السلطان ودعامة الدين والدنيا وعزّهم…
ولو قدّر لابن المقفّع أن يَلِجَ تلك الحُجَيْرة التي كان يبيت فيها المنصور لعجب من زهد صاحبها بمتاع الدّنيا، إذ لن يعثر فيها إلاّ على فراش المنصور ومرافقه ودثاره وهو سيزداد عجباً عندما يعلم أنّ المنصور لا يستنكف وهو الخليفة ظل الله على الأرض عن ارتداء جُبّة مرقوعة وقميص مرقوع، بل إنّه يأمر بضرب كاتب لأنّه يسرف على نفسه فيلبس سراويل من الكَتّان11..
وهناك صفة في المنصور قلّما وقف عندها الدارسون وهي أنّه خطيب من الطراز الأوّل مفوّه طلق اللسان قويّ العبارة حسن القافة وهو في رأينا تكملة عبّاسيّة لتلك السلسلة الذهبيّة من خطباء العهد الأموي. هذه الخصال لا نظنّ أنّ مُصلحاً كـ “ابن المقفّع” يتغافل عن جوهرها إذا ما تحلّى بها حاكم يسوس الناس ولا يغمض الجفن عن أشجانهم، لكنّه فضلاً عن هذه الصفات كان ثعلبة داهية ماكراً دمويّاً ونعتقد أنّ آراء صحابته الذين خبروه عن كثب قدّموا أوضح شهادة في شخصه. قال عثمان بن عُمارة “إنّ حشوَ ثياب هذا العبّاسيّ لمكرٌ ونُكرٌ ودهاء”. لقد كان ابن المقفّع يأمل أن يكون المنصور مُصلحاً اجتماعيّاً لهذه الإمبراطوريّة لكن الكثير من تلك المفاهيم التي طرحها ابن المقفّع في “رسالة الصّحابة” والتي اقتبسها من معين التقاليد الفارسيّة واقترحها على الخليفة المنصور في مطالع عهده كانت سابقة لأوانها بل ربما غير مناسبة لدولة في مرحلة التأسيس تعلي شأن الطاعة ومصلحة الدولة على هذا النوع من النصح أو الوعظ للسلطان.
شهادة في كليلة ودمنة
يقول الدّينوَري في “الأخبار الطّوال”، إنّ “كسرى أبرويز” بعث إلى “بهرام” الخارج على الدولة رجلاً من ثقاته ليستطلع أمره، فكان ممّا أخبره الرسول أنّ بهرام يطيل النظر في كتاب كليلة ودمنة فقال كسرى أبرويز: “ما خفت بهرامَ قط كخوفي منه السّاعة حين أُخبرت بإدمانه النّظر في كتاب كليلة ودمنة؛ لأن قراءته تفتح للمرء رأياً أفضل من رأيه، وحزماً أكثر من حزمه، لما فيه من الآداب والفطن”.