الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, نيسان 25, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

إفتتاحية رئيس التحرير

ثوابت مجلة … مستمرّة

هوذا العدد 22 من الغرّاء، الزاهرة دائماً، بإذن الله.
يتوجب علي بداءةً، منطقياً وأخلاقياً، وفي مفتتح العدد الجديد (العدد 22)، التعبيرعن خالص تقديري للذين أولوني، أواخر العام الفائت، شرف رئاسة تحرير ، أخصّ بالذكر سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز القاضي نعيم حسن – الوافر الاحترام – وإخوانه أعضاء مجلس الإدارة واللجنة الادارية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز. ومن الطبيعي، بل المُلزم، بالتالي، أن أبادلهم ثقتهم الغالية بالعمل الدؤوب، في كل المجالات، وبوضع ما أملك من إمكانات ومعرفة وخبرة في خدمة الغرّاء لتستمر أمينة على الرسالة الثقافية والروحية والوطنية والأخلاقية التي وُجدت من أجلها، بل لتزداد رسوخاً في رسالتها السامية، وتألقاً في صورتها البهية، كما في سعيها لاستقطاب أوسع جمهور يجتمع بفرح حول صفحاتها وموضوعاتها وكتّابها، تملأه الثقة التامة بأهمية ما يقرأ، وبعلمية وموضوعية من يقرأ لهم، أولئك الذين نقّبوا وبحثوا وكتبوا ونشروا في . و معنيةٌ، أولاً وأخيراً، باهتمامات جمهورها، وأسئلته، وإذا شاء بنقده وملاحظاته أيضاً.
نقول هي معنية باهتمامات جمهورها، وتلك هي أكثر الصيغ بساطة في التعريف بـ وهويتها وماهيتها. فـ في الأصل ليست مطبوعة أخرى تنضاف إلى ما هو موجود من مطبوعات، ولا هي مجرد مجلة فصلية ثقافية رصينة تنافس ما هو قائم من مجلات ثقافية أخرى.
في الحقيقة أكثر من ذلك. هي، بتعبير دقيق، مجلة ثقافية ملتزمة، وذات مرجعية فكرية واضحة. لذلك فهي تتوجه إلى مجتمعها، ووطنها، وأمتها بأهداف عامة متميّزة وبرسالة اجتماعية محددة.
فعلى صعيد الأهداف العامة، تلتزم من دون تردد المرتكزات الروحية والعقلانية والأخلاقية والوطنية الجامعة هوّية لها، وعلى قاعدة توجهها الثقافي والفكري الأساسي. وأولى مرتكزاتها الفكرية قناعتها الثابتة الراسخة أنْه من غير المنطقي، أو المقبول، النظر إلى الكون وما فيه كما لو كان تجميعاً للمصادفات والأسباب المادية الآلية وغير الآلية لا أكثر. وقناعتها أيضاً أنه من غير المنطقي أو القبول اعتبار حياة البشر فوضى من دون قاعدة أو مسرحاً للتوحش من دون حساب تطغى فيه القوة والشر والفساد على ما هو حق وخير وفضيلة، ومن دون حساب أو محاسب، ولا رقيب أو مراقب.
لا ترى ذلك البتة. الكون هو بخلاف ذلك تماماً، والمجتمع أيضاً. فالكون بما فيه، ومن فيه، من تنوع عجيب مدهش في الكائنات، ومن تكامل وانتظام يفوقان الوصف، إنما يدلّان بجلاء إلى فعل الخلق العظيم وما انطوى عليه من خير ورحمة وغاية وجمال، وإلى الخالق من ثمة، بعيداً عن غطرسة وغرور هذا أو جهل وتجاهل ذاك.
أما في المجتمع، فرسالة تقوم في الحض على الأخذ بالعلم والعقل والثقافة، وبأسباب النهوض والتقدم والوحدة بين المواطنين؛ وعلى اعتبار الآخر أخاً في الإيمان بالله والرسُل والملائكة واليوم الأخِر، وفي فعل الخير والأعمال الصالحات؛ وهو أخٌ أيضاً في المواطنة، في القرية والحي والبلدة والمدينة والوطن، كما في الأخلاق الحميدة. الأخلاق والمواطنة حقلان محددان يلتقي فيهما، وعلى أهدافهما، المواطنون، كلّ المواطنين، تحت سلطة القانون ووازع الآداب العامة.
بهذه المعاني، الروحية والأخلاقية والوطنية، تتوجّه وكتّابها إلى جمهورها: تدعوهم أولاً إلى القراءة ثم القراءة ثم القراءة، وتخاطب، ثانياً، ما انطووا عليه من قوى وطاقات خيّرة، ما يسهم بالتأكيد في تنمية مواقفهم الإيجابية، وطرائق تواصلهم، وحوارهم، واجتماعهم الذي يجب أن يكون على البر والخير، وعلى إعلاء المصلحة العامة والشأن العام والأخلاق، وتحكيم العقل – لا الغرائز أو العصبيات – في حياتنا الفردية والاجتماعية والوطنية.
مع رئيس تحريرها الجديد ستبقى كما كانت دائماً: أمينة على أهدافها الروحية والأخلاقية والوطنية، كما على رسالتها الاجتماعية أعلاه. وكما كانت في السابق، ستستمر في المستقبل منفتحة على كل رأي، ترحب بكل مساهمة أو اجتهاد لا يتناقضان وهويتها وماهيتها وأهدافها الجامعة. لا مكان في ، لا سابقاً ولا في المستقبل، للسياسة بالمعنى اليومي المباشر، ولا لكل ما يشقّ الصف الوطني الواحد، ولا ما يجزّئ أو يقسّم أو يحرّض أو يستفز. هي مجلة الوحدة الوطنية في الوطن، اللبناني والعربي؛ هي مجلة التجديد الفكري والنهضوي والاجتماعي؛ وهي أخيراً مجلة الوحدة الدينية الروحية في الإطار الإسلامي المنفتح الواسع، تماماً كما هي مجلة قبول الآخر، المختلف.
هذه هي ، على مستوى الهوية والأهداف، في العدد الجديد وما سليه، وكما كانت في كل أعدادها السابقة.
لكن تعدُ أيضاً بالتجديد والتطور، وهما سمتا الكائنات الحيّة، سمة كل ما هو مخلوق وحيّ. فالسنوات الثماني التي تلت إعادة إطلاق أظهرت بطرائق مختلفة ما هو ثابت وضروري ومطلوب من أبوابها، ويجب الاحتفاظ به، وما يحتاج إلى تعديل لجهة الحجم والمساحة والموضوعات، ويجب تعديله، وما هو جديد ونافع وضروري، فيجب الأخذ به وإضافته. وستظهر هذه التغييرات تدريجاً بدءاً من هذه العدد، وبما يخدم أولاً وأخيراً رسالة ومصلحة جمهورها واهتماماته.
باختصار،
، مجلة الوحدة في زمن التمزق، بل التشظّي والتذرر. لقد أراد أعداء أوطاننا وأمتنا العربية الإجهاز على ما تبقى من وحدة سياسية لبلداننا، ومن وحدة اجتماعية بين مكوناتها. وللرد على ذلك، بات علينا في كل عمل أو خطاب نسوقه تجنّب زيادة التوتر والتمزّق، والحضّ بالعكس على كلّ ما يسهم في استعادة وحدة أوطاننا ومجتمعاتنا والسلم الأهلي فيها.
مجلة العقل والعقلانية في زمن الجنون، واللامعقول الذي لم ترَ مثله عين أو تسمع به إذن، أو يخطر ببال، حتى في أكثر الأزمنة السابقة جهلاً وسواداً. لقد فشى الجهل وطغى خطاب الغرائز والعصبيات حتى بات عنواناً مع الأسف للمرحلة هذه، و معنية بقدر ما تستطيع في إعلاء خطاب العقل لا الغرائز.
مجلة التنوع الثقافي والروحي في مجتمعاتنا العربية وباعتباره عامل إغناء لهذه المجتمعات وإظهاراً لإسلامنا المنفتح المتسامح الذي جذب حتى اليهود إلى مجتمعه السمح، ناهيك بالمسيحيين المشرقيين وهم شركاء المسلمين في كل حلٍّ وترحال، في انتصاراتهم كما في هزائمهم، وما الموقف الأخير لرؤساء الطوائف المسيحية من مؤامرة الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني غير برهان آخر على تمسكهم، كما شركاؤهم في الوطن، بالثوابت الوطنية القومية الجامعة.
مجلة المسؤولية في ممارسة الحرية، أيّاً كان مجالها؛ فالحريات التي تمارس اليوم في بعض جوانب المجال الإعلامي، وبخاصة المرئي منه، باتت لا تمت بصلة لا الإخلاق المعروفة فقط، وإنما للثوابت والبدهيات الاجتماعية المسلّم بها. لقد غدا الانحراف هو السائد والقاعدة وعلى حساب الأسس والقواعد الأخلاقية التي نطقت بها أدياننا، أو بلغتنا من التراث الناصع لأسلافنا. ولن تتوانى في الدفاع عن المسألة الأخلاقية واعتبارها واسطة العقد في حياتنا الاجتماعية، من البيت والأسرة، إلى المدرسة، إلى المجتمع في مجاله الأوسع.
و، إلى ذلك، هي الذاكرة الثقافية لمجتمعنا ووطننا وأمتنا. فالجماعات لا تعيش من دون ذاكرة. وقد قدّمت جماعتنا التوحيدية لأوطانها، كما لمحيطها العربي والإسلامي، رجالاً أفذاذاً تركوا بصمات عميقة الأثر في صفحات أزمنتهم، بل أمسكوا أحياناً بناصية أهم القرارات التاريخية، فما اختاروا إلا ما فيه مصلحة عليا لوطنهم وأمتّهم، متناسين ما يتطلبه ذلك من تضحيات تجرّعوا علقمها عن طيب خاطر. وفي العدد 22 هذا نتوقف عند علمين من بين أولئك الرجال: كمال جنبلاط – الإنسان والمثقف والمعلّم – نحتفل بمئوية مولده بملف خاص تفتتحه بالمناسبة، والأمير شكيب ارسلان.
و، أخيراً وباختصار، هي مجلة الاعتدال. وإذا كان الاعتدال هو رمز الحكمة والعدل في كل زمن، فهو في زمن الغلو والتطرف الذي نعيشه أكثر إلحاحاً وأولوية، وكما قال سماحة شيخ العقل القاضي نعيم حسن في تقديمه لأحد أعداد السابقة. فسماحته يدفع، وعن حق، بفضيلة الاعتدال إلى المقدمة، وذلك بجعلها ركناً من أركان ممارسة التوحيد، حين يقول: «…يجب التنبّه إلى إلى أخلاق الموحّد هي اعتدال الميزان في عقله وقلبه…والتوحيد إما أن يكون ثمرة الاعتدال، وإما أنه لن يتحقق بالطريقة التي يستشعر فيها الإنسان غبطة الداخل التي سمّاها السلف الصالح “فضيلة الذات”. والاعتدال في يعني، عملياً، نوع الموضوعات التي ننتقي الكتابة فيها، ثم شكل الكتابة نفسها، فتأتي علمية، موضوعية، موثقة، وخلواً مما يحيل او بستثير إلى عاطفة أو غريزة أو عصبية. الغرائز والعنصبيات لا مكان لهما في خطاب مجلة .
هي ذي بعض ثوابت أحببنا التذكير بها، تذكير أنفسنا كما الآخرين، لنؤوب دائماً إلى سواء السبيل، في قولنا وخطابنا كما في أفعالنا وبخاصة تلك التي تتحول بدورها إلى قاعدة وسابقة يقتدى بها، ولطالما كانت سِيرُ أهل التوحيد مضرب المثل في صدق النية كما في حُسنِ القول والمسلك، وخطاب سيكون في خط الثوابت التوحيدية الغرّاء تلك.
وبعد
يقتضي الواجب التنويه بالمساعدة الإدارية والتقنية التي لقيتها من أمانة سرّ المجلس، ومن الفريق التقني فيه، في خلال الفترة القصيرة التي تسلّمت فيها مسؤولية تحضير هذا العدد. كما أنوّه بالجهود الصادقة المخلصة التي بذلها رئيس التحرير السابق، الصديق الأستاذ رشيد حسن، في إعلاء كلمة وإيصال رسالتها الخيّرة والنبيلة إلى أوسع جمهور ممكن.

والله وليّ التوفيق.
رئيس التحرير
د. محمّد شـيّا

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن
القدس
والإسلام «السمْح»

تمثلُ القدس للديانات الابراهيميَّة أرضاً مباركة، ومكانةً لها دلالاتها الإيمانيَّة في الذاكرة التاريخيَّة، وبالتالي الوجدانيَّة، لكلٍّ منها. وفي التاريخ العام، من صدر الإسلام إلى العام 1967، أي طيلة ما ينيف عن أربعة عشر قرناً من الزمان، كانت “مدينة السلام” إسلاميَّة عربيَّة ما خلا عقود عديدة حاول فيها “الصليبيُّون” الاستيطان في المنطقة فما فلحوا، وذهبت مساعيهم أدراج الرياح.
وإن أنصف المرءُ في النظر إلى سياق التاريخ، لوجد أن الأحياء الكبرى التي تكوّنُ واقع المدينة وهي: اليهودي والمسيحي والأرمني والعربي، فضلا عن امتداد مساحة المسجد المذكور في القرآن الكريم، والذي منه أسرى الله سبحانه وتعالى بعبده رسول الله صلى الله عليه وسلَّم كما جاء في الآية الكريمة، إزاء تلك الأحياء، بشكلٍ مميَّز مشهود يدمغُ المدينة، مع الصروح الدينيَّة الأخرى، بطابع حضاريّ لا مثيل له، لوجدَ إذًا، أن تلك المكوّنات نشأت ونمَت وتعايشت طيلة قرون، في ظلّ الحكم الإسلامي (العربي ثم العثماني)، من دون أن تزلزلَ أساسات وجودها عواصف الأزمات والنزاعات.
هذا عائدٌ إلى المقاربة العامَّة لإسلامٍ “سَمْح” تجاه مكوّنات النسيج الاجتماعي في أيّ بلادٍ انتشر فيها الإسلام. والمقصود هنا هو النهج العام الذي مكَّن من حفظ الكثير من الموروثات الحضاريَّة لكثير من الشعوب والأمم (قياساً إلى ما فعله الأوروبيون في القارة الأميركية بعد اكتشافها)، بالرغم من التعرُّض لأخطار الصراعات الناشبة بين المتنازعين عبر تعدُّد الحِقَب والمراحل التاريخية، وبالرغم من التعرُّض أيضاً في بعض الأوقات لمِحن سبَّبتها ظروفٍ عصيبة وقاسية.
هكذا، بقيت “القدس” ملاذًا إيمانياً ذا منزلةٍ سامية، بعيداً عن عواصم “السلطان” سواء أكانت في دمشق أم في بغداد أم في القاهرة. وهو ملاذ كرّسه نهج عمر، خليفة رسول الله، الذي أعطى لسكّان المدينة ما سُمِّي “العهدة العمريّة” بعد وصول المسلمين إليها، وقال: “يا أهل إيلياء، لكُم ما لنا، وعليكم ما علينا”، واستدرك بحكمةٍ راقية أمْرَ صلاته حين أدركه وقتها وهو يتفقّد كنيسة القيامة مع البطريرك صفرونيوس قائلا: ” ما كان لعمر أن يصلّي في كنيسة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلَّى عمر ويبنون عليه مسجدا.”
يجسِّدُ هذا الموقف الحضاري بامتياز، معنى “السماحة” في الاسلام، وهو موقف يرقى إلى مستوى “ثوابت الضمير والوجدان” لدى كلّ المؤمنين، وذلك بقوَّةِ صحَّة الموروث “الإيماني” الأثيل.
إنَّ القرار الأميركي الأخير بشأن “القدس”، يناقض بشكله وبمضمونه وبروحه وبمقاربته محمولَ التاريخ الذي هو، بكلِّ حال، في ذاكرة المدينة وحقائق تاريخها. وليس على المرء أن يسترسلَ في وصف “مساوئ” القرار المذكور، وآفاق نتائجه الوخيمة، وانحجاب الرؤية فيه عن كلِّ معنى حضاريّ شامل، وانحيازه التام لمقولةِ فئةٍ تحاولُ بمفهوم القوَّة أن تفرضَ سلطتها عبر العمل المحموم لتغيير هويَّة المدينة بكلّ الأشكال المتاحة لها.
إنَّ نتائج التصويت الأخير حول القرار المذكور في هيئة الأمم تكرِّسُ الدلالات التي طالما مثّلها الإسلام “السمح” كما مرَّ آنفاً. وهي نتائج تبيِّنُ مدى وضوح الحقّ الفلسطيني والإسلامي والعربي أمام العالم قاطبة. وعلينا أن نواصل النضال متسلّحين بالقيَم وبالمبادئ التي حملها تراثنا العريق، بل والتي تمثّل وجه الإنسانيَّة الحضاريّ إزاء كلّ محاولات تزوير التاريخ، وإهمال كلّ التراكم الذي مثله يوماً “المشروع الأممي” الذي يهدمه في عصرنا الحالي “الحق التعسّفي بالنقض” للدول العظمى. وليس لنا إلا أن نؤكِّد إيماننا الوطيد الراسخ، بأنَّ ربَّ الحقّ هو العظيم القدير، وبأنَّ الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه.
وإذا كانت رسالتنا اليوم القدس. فلا بدّ من أن نعرب عن تمنياتنا بالتوفيق لرئيس التحرير الجديد الدكتور محمد شيّا والمدير المسؤول الأستاذ نجيب البعيني في مهامهما. كما نتوجه بالشكر لرئيس التحرير السابق الأستاذ رشيد حسن على جهوده في إعادة انطلاق الضحى.

هذا العدد

هذا العدد

يصل العدد الجديد من (رقم 22، كانون الثاني، 2018) إلى القرّاء، إن شاء الله، وهو في صحبة ثلاثة متغيرات، بل تجديدات؛ أوّلها، العام الميلادي الجديد (2018) نرجوه لقرّاء وأصدقائها، بعامة، أكثر أمناً وطمأنينة وتحقيقاً للآمال المشروعة؛ وثانيها، تسلّم رئيس تحرير جديد للـ ،(كاتب هذه السطور)، مسؤولية التحرير والإدارة فيها من زميل صديق هو الأستاذ رشيد حسن الذي لم يبخل طيلة ثماني سنوات في بذل كل جهد مطلوب لدفع نحو ما هو أفضل وأعلى؛ وثالثها، التجديد الذي سيلمسه القارئ في بعض أبواب المجلة القائمة، أو في أبواب جديدة مستحدثة.

سيجد قارئ العدد الجديد هذا بعض الأبواب الجديدة ومنها،
الأنشطة الأكثر راهنية للدار والمجلس المذهبي ولجانه المختلفة،
الأنشطة الثقافية الأكثر أهمية التي سبقت صدور العدد بأسابيع أو أيام،
المشكلات الاجتماعية الأكثر إلحاحاً التي تقلق المواطن وتشكّل عبئاً على كاهله، وقد بدأنا بمشكلة المدرسة الرسمية (الابتدائية والمتوسطة)، وكانت أيضاً مناسبة تكريم رمزي لبعض التربويين الروّاد الذين تقاعدوا الآن، وتتوجب الإفادة من خبراتهم الواسعة في مضمار التربية.

سيجد القارئ أيضاً ملفّين مكتنزين، الأول فرضته وقائع الأيام التي سبقت صدور العدد 22 والذي لا تستطيع مطبوعة عربية أن تتجاهل خطورته، وهو نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، وقد واكبنا الحدث بملف تاريخي وقانوني وإعلامي، وفي حدود ما تستطيع مجلة فصلية أن تقدّمه. والملف الثاني، وهو استكمال رسالة في الإضاءة على كبار الشخصيات التي لعبت أدواراً تاريخية محلية أو عربية بارزة ، فكان الاحتفاء بمئوية مولد ” كمال جنبلاط، الإنسان والمثقف والمعلّم”، فأسهمت في الملف اثنتا عشرة شخصية وطنية وأدبية وإعلامية وأكاديمية.
وإلى ذلك، تستمر في فتح صفحاتها لـ “رسالة جبل العرب”، جسراً للتواصل المعروفي والعربي وبما يوثّق أواصر الخير والمحبة بين الجميع.

وفي العدد أيضاً تحقيق تناول مع رئيس بلدية حاصبيا، العريقة في التاريخ، إنجازات البلدية الراهنة وخططها المستقبلية الواعدة.
وفي العدد كذلك، مقالات علمية تناولت على نحو واف بعض أهم الشخصيات اللبنانية والعربية الوطنية والثقافية والتربوية، الأمير شكيب أرسلان، عارف أبو شقرا، عباس نصرالله.

هذا بعض ما تضمنّه العدد الجديد من (العدد 22، كانون الثاني 2018)، آملين أن يقع لدى القرّاء الاعزاء الموقع الحسن، ويسعدُ إدارة أن تقف دائماً عند ملاحظات قرّائها واقتراحاتهم، بل وإسهاماتهم الكتابية أيضاً.

والله، دائماً، وليّ التوفيق.

كمال جنبلاط

مئوية كمال جنبلاط

الإنسان
والمثقف، والمعلّم
(1917 – 2017)

[su_accordion]

[su_spoiler title=”  مقدمة ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

نفتتح ملف مئوية مولد كمال جنبلاط (1917-2017)، وقد جعلناه تحت عنوان “اثنتا عشرة باقة ورد في مئوية مولد كمال جنبلاط، الإنسان والمثقّف والمعلّم”.
يسهم في الملف نخبة من الكتّاب عارفي المعّلم، ومن قادري علمه وثقافته، ومقدار ما أضافه للسياسة كما للثقافة في لبنان والعالم العربي في خلال عمره القصير.
وعندنا، وقبل أن نقرأ تحيّات الكتّاب والمثقفين الذين أسهموا في الملف، فلعلّ أهم ما أضافه كمال جنبلاط، وعلى كثير إضافاته التي وسمت بميسمها عصراً بكامله، إنما كان في مجال الأخلاق. فقد رأى جنبلاط إلى الأخلاق باعتبارها في أساس أي عمل نقوم به، وفي أصل كل  غاية نسعى إليها، في السياسة كما في الاجتماع أو الاقتصاد، أو سواها. وفي باب الأخلاق، نتوقف عند ثلاث إشارات بل عناوين كانت حاضرة في عمله الثقافي والإنساني:
1- أولوية الإنسان، فكل عمل بالنسبة له يقدّس أو يُلعن بمقدار
اقترابه أو ابتعاده عن الإنسان؛
2- أولوية الضمير الأخلاقي على كل ما عداه، فباطلٌ عنده، أيّاً
يكن، حين يتعارض مع الضمير، ومستلزمات الضمير؛
3- وأخيراً، أولوية الأدوات والوسائل، وفي أهمية الغايات
والأهداف، بل أكثر. فلا يمكن، عنده، أن تقوم الغايات النبيلة، في السياسة أو في الاجتماع، على وسائل أو أدوات شريرة.
وكمال جنبلاط في ذلك، إنما ينسج على خطى يسوع ابن الناصرة (الفلسطينية العربية)، وتلامذته، وعلى خطى الرسول الأكرم  محمد (ص) وصحابته الأكرمين، وحديثاً على خطى غاندي في الهند، الذي جعل من حياته (المتواضعة الزاهدة المتقشفة) إنجيل حياة للأتقياء والأنقياء جميعاً، على اتساع المسافات؛ ثم جعل من استشهاده على يد أبناء جلدته دفاعاً عن حق الآخر في الوجود والعيش بكرامة والحرية في التعبير أنموذجاً نادر المثال.
يستحيل اختزال موسوعة من عشرة الآف صفحة في بضع صفحات. ويستحيل، بالمنطق نفسه تماماً، اختزال سيرة كمال جنبلاط، الرقم الصعب، بل المثير، في الحياة الوطنية والسياسية اللبنانية لأكثر من ثلث قرن في مقالتين أو ثلاث أو عشر. ورغم غنى الحياة الوطنية والسياسية لصاحب هذا الملف، ورغم شوق غالبية القرّاء، وبخاصة الأجيال الجديدة لمعرفة أدق تفاصيل الحياة المثيرة تلك، إلا أن   ستحتفل بذكرى مئوية مولد هذا الرجل المعروفي العشيرة، الموحّد المعتقد، العروبي المحتد، الاشتراكي النزعة، الموسوعي الثقافة، والإنسان العظيم أولاً وقبل أي توصيف إضافي، على طريقتها المعروفية التوحيدية الثقافية بما يتناسب واستثنائية المناسبة من جهة، وطبيعة المجلة من جهة ثانية. وعليه تفتح ملف مئوية كمال جنبلاط لتستضيف فيه شهادات من مثقفين كبار رافقوا وعاصروا الرجل/الأسطورة (وفق تيموفييف، كاتب سيرته) أو كتبوا ونشروا أعمالاً عدة حول جوانب معينة في شخصية الرجل الاستثنائي أو في سيرته.
وإذ تكتفي  في المناسبة بالجانب الفكري والثقافي من كمال جنبلاط، فهي إنما تكون وفية لتراث الرجل الفكري، ولعلاقته الخاصة الحميمة بالكتاب والمكتبات وبالصحافة المكتوبة. كيف لا وكمال جنبلاط الشاب العشريني آخر من يغادر مكتبة السوربون ليلاً رغم شتاء باريس القاسي جداً وذلك في أثناء دراسته في باريس، وظلّ على علاقته الوثيقة جداً وباستمرار بالكتب وبأهل العلم والثقافة. وخطابه الافتتاحي لـ “مؤتمر كتّاب آسيا وإفريقيا” في بيروت، سنة 1971، والذي جعله حول “الحرية”، وثيقة فكرية نادرة تختصر موقفه من الإنسان باعتباره هدفاً مطلقاً، وتمييزه بين الحريات الحقيقية والحريات الواهمة.
نفتتح الملف بالسيرة الفكرية لكمال جنبلاط، في أبرز محطاتها لا أكثر، وطلباً للاختصار.
كمال جنبلاط وشقيقته ليندا
كمال جنبلاط وشقيقته ليندا

 

السيرة الفكرية…باختصار شديد
6-12-1917- ولادة كمال جنبلاط في المختارة (الشوف، لبنان)
1921 – اغتيال والده فؤاد جنبلاط
1926 – بدء دراسته في معهد عينطورة، كسروان، لبنان
1936 – النجاح في شهادة البكالوريا، اللبنانية والفرنسية
1937 – النجاح في “شهادة الفلسفة”، والسفر إلى باريس
للدراسة الجامعية.
1938 أيار – نال دبلوم في علم الاجتماع وعلم الأخلاق من السوربون.
1940 – نال إجازة في الحقوق من جامعة القديس يوسف في بيروت
1942 – تعيينه محامياً للدولة اللبنانية
1943 – نائباً في البرلمان بعد وفاة عمّه حكمت جنبلاط
1945 – تأسيسه “نادي القلم”، مع ألبير أديب وكميل بو صوّان وآخرين.
1946 – كمال جنبلاط محاضراً في “الندوة اللبنانية”، “رسالتي كنائب”
1946 – وزيراً للمرة الأولى للاقتصاد والزراعة والشؤون الاجتماعية.
1947 – استقالته من الوزارة احتجاجاً على تزوير انتخابات 1947
1948 – زواجه من مي شكيب أرسلان
1949 – إعلانه مع مثقفين ونقابيين تأسيس “الحزب التقدمي الاشتراكي”
1951 – بدعوة منه، انعقاد المؤتمر الأول للأحزاب الاشتراكية العربية في بيروت
1951 – زيارته الأولى للهند بدعوة من الحزب الاشتراكي الهندي
1952 – جنبلاط يطرح مشروع “الضمان الصحي” تحت شعار “الدواء للجميع”
9/3/1958 – جنبلاط في دمشق مهنئاً بالوحدة ومقترحاً برنامجاً لها بحضور عبد الناصر
1960 – جنبلاط يقترح مشروع إشراك العمال في أرباح المؤسسات
1960 – جنبلاط يقترح إنشاء حرس وطني للوقوف في وجه الاعتداءات الاسرائيلية وصهر الشباب في “بوتقة وطنية واحدة”.
1960 – وزيراً للتربية الوطنية
1965 – (أيلول) مهرجان بتخنيه (المتن الأعلى) احتجاجاً على عدم تصريف التفّاح
1972 – تشكيل “الجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية” وجنبلاط أميناً عاماً لها
1972 – تقليده جائزة لينين للسلام والصداقة بين الشعوب (أرفع وسام سوفيياتي يومذاك)
1973 – جنبلاط يقود شخصياً تظاهرة مزارعي التبغ رفضاً لسياسة الدولة حيالهم
1973 – جنبلاط يشجب توقيف غسان تويني ويدعو لتحرك واسع دفاعاً عن الحريات العامة
13 نيسان 1975 – بدء الحرب اللبنانية “المشؤومة”، وسعيه أكثر من مرة، ومع كل الجهات، لوقف قطار الحرب الأهلية الذي انطلق ولم يتوقف إلا في كانون أول 1976
16 آذار 1977 – جنبلاط شهيداً مظلوماً، دفاعاً عن لبنان والقضية الفلسطينية والتقدّم والحرية.

المؤلفات والأعمال الفكرية المنشورة
(علماً أن عشرات المخطوطات الأخرى وفي عدد من المجالات لم تأخذ طريقها بعد إلى النشر، إضافة إلى أعمال فنية تركها ولم تنشر بعد كذلك).
رغم عمره القصير نسبياً (أقل من ستين سنة)، أدهش كمال جنبلاط معاصريه، ثم قارئيه بعد استشهاده، (الخصوم قبل الحلفاء)، بثقافته الواسعة، والتي استقاها من مصادر دينية (توحيدية، نصرانية وإسلامية)، وما قبل توحيدية (مصرية قديمة، هندوسية، وبوذية)، وفلسفية (يونانية وإسلامية وغربية وماركسية)، ومن دراساته الحقوقية والسياسية الأكاديمية المتخصّصة في السوربون وجامعة القديس يوسف في بيروت، ومن اتصاله المباشر بأهم شخصيات عصره الفكرية والسياسية (المهاتما غاندي، سنغور، تيتو، عبد الناصر، وغيرهم)، إلى صداقته وزمالته وتواصله المستمر بكبار المثقفين اللبنانيين والعرب والعالميين، والتي أثمرت من خلال إبداعه الشخصي المنقطع النظير تراثاً فكرياً مثيراً في وحدته، كما في تنوّعه، وباللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنجليزية. وليس أدلّ على ضخامة التراث الفكري الذي أنجزه جنبلاط من مراجعة قصيرة جداً، وبالأرقام، لأهم عناوين التراث ذاك:
الافتتاحيات التي كتبها في الصحافة اللبنانية، عددها 1133
المؤلفات المنشورة وعددها 63
الدراسات والتحقيقات وعددها 464
المحاضرات والندوات وعددها 888
البيانات، التصريحات، المقابلات، وعددها 1270
الخطب وعددها 301
بيانات الرئاسة السنوية وعددها 15
قطع أدبية مختلفة وعددها 107
وثائق وعددها 97
شهادات وعددها 111
مواد تاريخية وعددها 87
حول الحزب والأحزاب الأخرى، وعددها 129
المجموع: 4715 أثراً منشوراً، عدا تلك التي يستمر توثيقها ونشرها وغير المشمولة بهذا الثبت.
هوذا ما صنع في خمس وثلاثين سنة تقريباً الصيت المنقطع النظير لكمال جنبلاط المثقف الموسوعي والفيلسوف، إلى مجاهداته الروحية والتي كرّسته باعتباره “المعلم”، وقبل ذلك وبعده، كمال جنبلاط الإنسان، في أدق معاني الكلمة وما تحمله من محمولات ومضامين: في وهبه أراض كثيرة جداً كان يملكها إلى الفلاحين الذين يعملون فيها، إلى دفاعه عن الحريات في لبنان والعالم العربي، إلى مناصرته حركات التحرر والاستقلال في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، إلى تصدّره شخصياً كلّ نشاط ممكن دفاعاً عن القضية الفلسطينية، إلى حمله نائباً وزيراً ورئيس حزب قضايا الطبقات الوسطى والفقيرة ومطالبها، إلى نقده دون هوادة أخيراً مظاهر التسليع والاستهلاك المفرط في الحضارة الغربية التقنية المهيمنة وما صاحب انتشارها من انحدار في القِيم السائدة، وإعلاء للمادية الفجّة على حساب الروح والأديان، ومن تفلّت أخلاقي غربي أطاح بتماسك العائلة والمجتمع والوطن، بل والإنسانية بعامة.
لهذه الأسباب مجتمعة تبدو الإضاءة، كما قلنا، على سيرة كمال جنبلاط، ومؤلفاته، من خلال شهادات عدد محدود جداً من الكتّاب والمثقفين والسياسيين، ضرورية كيما تبقى شعلة القيم الإنسانية والروحية التي دافع عنها كمال جنبلاط طويلاً مضاءة وعصية على الإلغاء رغم تيارات الهدم والتحريف والتزوير التي انطوت عليها العولمة التجارية الاستهلاكية العنفية الآحادية القطب والمهيمنة على العالم (ومنها بلداننا) منذ عقدين أو ثلاثة من الزمن. بغياب كمال جنبلاط (سنة 1977) كان عصر من التوازن المعقول ينطوي، ولينفتح الباب أمام عصر جديد ملؤه الفوضى، وانهيار القِيم، وسيطرة التقنية العمياء، وسيطرة الجشع بلا حدود، وانفلات الغرائز كما لم يحدث في أزمنة الوثنيات؛ وباختصار: بغياب الإنسان وعلى حسابه.
ألف شكر للكتّاب ولكلّ الذين أسهموا في هذا الملف، وتحية لروح كمال جنبلاط “الإنسان، والمثقف، والمعلّم” غداة ذكرى مولده.

بيروت، 6 كانون أول، 2017
رئيس تحريرالضحى

 

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  مقابلة صحفية مع معالي الوزير السابق الأستاذ عباس خلف
رفيق المرحوم المعلم كمال جنبلاط منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

اثنتا عشرة باقة ورد
اثنتا عشرة باقة ورد

معالي الوزير السابق الأستاذ عباس خلف، كنتم شديدي القرب من المعلّم كمال جنبلاط منذ أواسط خمسينيات القرن الماضي، ما الأمر الذي تكشف عنه للمرّة الأولى من شخصية المعلّم كمال جنبلاط؟
كنت في مطلع شبابي، وعلى مقاعد الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت، عندما أصبح اسم كمال جنبلاط في بيروت وسائر أنحاء لبنان على كل شفة ولسان. كان ذلك في خريف العام 1952، وكان كمال جنبلاط قد ملأ الدنيا بأخباره: استقال من الحكومة سنة 1947 احتجاجاً على التزوير الذي شاب الإنتخابات النيابية. شنّ حملة شعواء على الفساد السياسي والإداري، والمحسوبية والزبائنية. أسّس حزباً تقدّمياً اشتراكياً بمفاهيم جديدة لأول مرّة في منطقة الشرق الأوسط. شكّل وقاد الجبهة الاشتراكية الوطنية التي أعلنت الثورة البيضاء على نظام الحكم القائم، وتعهّدت في مؤتمر دير القمر بأن تسقط النظام وتقيم على أنقاضه دولة الحداثة على أسس التقدّمية والاشتراكية لتحقيق العدالة الاجتماعية، ومحاسبة مرتكبي الفساد في الدولة.
هذه المبادىء وجدت صدى لديّ كشاب يحلم بمستقبل أفضل لجيله ووطنه، وبما أنّ شخصية كمال جنبلاط المميّزة وصدقه وجرأته شهدت له بفرادته بين الزعماء السياسيين، إلى جانب أفكاره الداعية للتطوير والحداثة والعدالة، أثارت إعجابي ورسّخت قناعاتي، فقرّرت الانضمام إلى حزبه، والوقوف إلى جانبه في مسيرته ونضاله، وهكذا، توثقت الرفقة واستمرّت حتى استشهاده في 16 آذار 1977.

كيف بدأ كمال جنبلاط المثقف الاستثنائي في ميثاق الحزب الذي أسّسه مع مثقفين آخرين مثل الشيخ عبد الله العلايلي وآخرين؟
إذا عدنا إلى ميثاق الحزب التقدّمي الاشتراكي، نلاحظ وجود نص وضعه كمال جنبلاط تحت عنوان: “لمحة في تكوين الحزب” جاء فيه: “إنّ الحزب التقدّمي الاشتراكي هو ثمرة تنقيب وبحث مشترك، التمست فيه ملتمسات شتى، بعضها: العلم والخبرة والتمرّس بالواقع الاجتماعي والإنساني الإقليمي والعالمي. فكلّ من المؤسّسين وضع فيه زبدة حياته، وهي مجموعة اختبارات وتجارب، وزبدة تفكيره، وهي مجموعة مستمدات عقلية ومعطيات شخصية، ساكباً فوقها نزعاته الصافية نحو الخير والمحبة والجمال”.
فمن هذا النص وما تلاه من شروحات عن اسم الحزب وتقدّميته، واتجاهات التطوّر نحو الوعي والحرية والتجمُّع البشري، والتكوّر الإنساني، واشتراكية الحزب الإنسانية، يمكن الاستخلاص بسهولة أنّ هذه المضامين هي من صلب أفكار كمال جنبلاط ومواقفه.

ما الجديد الذي أضافه جنبلاط إلى السياسة اللبنانية منذ دخوله الندوة النيابية سنة 1942؟
بداية تصويب زمني، فكمال جنبلاط أصبح نائباً لأول مرة في انتخابات 1943 التي انتخبت المجلس الاستقلالي. وأما عن الجديد الذي أضافه كمال جنبلاط عن النائب ودوره، فكبير جداً: ففي ندوة أولى له في 18 تشرين الثاني 1946، افتتحت بها “مؤسّسة الندوة اللبنانية” محاضراتها، حملت عنوان: “رسالتي كنائب” شرح فيها مفاهيم الديمقراطية وروحها ونزعاتها، وعبّر عما يرجوه ويأمله لوطنه لبنان، وحدّد الدور الذي على النائب القيام به. وختم محاضرته بهذه الكلمات: “نريد للبنان أن يكون مركز تطوّر وتوجيه وهدي في العالم العربي والعالم المشرقي ليصح فينا القول: “إننا هنا في لبنان لا يسيطر علينا إلا حكم القانون”. ويطيب لي أن أنقل عن مؤسّس الندوة اللبنانية الأستاذ ميشال أسمر، هذا التعليق عن المحاضرة: “لقد امتازت هذه المحاضرة، إلى جانب الثقافة الشاملة والدرس العلمي الدقيق، بصوفية كان لها أطيب الوقع في نفوس جميع المحاضرين، فألهبت قلوبهم، فصفقوا طويلاً لنائب جبل لبنان الشاب، واضعين كلّ آمالهم في حركته الإصلاحية وفي رسالته كممثل لأمانيهم الطيبة”. وحرص كمال جنبلاط طيلة مدة نيابته على العمل من أجل المحاسبة ومكافحة الفساد، وتقديم مشاريع الإصلاح من أجل لبنان حديث يسوده حكم القانون وتتحقّق فيه العدالة الاجتماعية والوحدة. ومن أبرز المشاريع التي اقترحها للإصلاح نذكر: إعطاء المرأة حقوقها السياسية وعلى رأسها حق الانتخاب، الزواج المدني الذي اعتبره سبيلاً للخروج من القيد الطائفي، الضمانات الصحية والاجتماعية، نشر التعليم، إلغاء نظام الطائفية السياسية والعمل لتحقيق النظام المدني العلماني في لبنان.

من المعروف أن جنبلاط قام بتوزيع الأراضي التي يملكها في سِبلين والمختارة وسواها على الفلاحين، كيف تجاوب الفلاحون مع هذه الإجراءات؟
رغم أنه سليل عائلة عريقة لعبت ولا تزال تلعب دوراً أساسياً في تاريخ لبنان والمنطقة العربية، نهج كمال جنبلاط في حياته، منذ نعومة أظفاره، سواء على الصعيد الشخصي أم على الصعيد العام، نهجاً مميزاً، وفريداً من نوعه في لبنان. وقد تأكدت من خلال المواكبة المشتركة، كم كانت حياته بسيطة، وكيف كان يتعامل مع الآخرين تعامل الندّ للندّ، يتقاسم معهم ما يحصل عليه من مال وغذاء وأحياناً كساء. ورغم الممانعة العائلية الحريصة على الإرث العائلي، أصرّ على توزيع قسم من الأراضي التي تملكها العائلة على الفلاحين الذين يعملون فيها. وهذا يعني أن كمال جنبلاط تصرّف كمتمرّد على الوضع، وكمُصلح اجتماعي في منطقة الشوف في الأربعينات من القرن الماضي من خلال وقائع لاقت الاستحسان والترحيب من جمهور المجتمع العاديين نذكر منها:
– تخصيص ريع المطحنة في قصر المختارة لفقراء المختارة ومعوزيها.
– تأسيس ورش عمل لتشغيل العاطلين عن العمل.
– تنظيم تأمين الحبوب لأهل الشوف من فلسطين وحوران، وإعداد مشروع لتحسين زراعة الحبوب في الشوف.
– توزيع مائة هكتار على فلاحي قرية سِبلين مثلاً، بموجب عقود بيع قانونية مقابل ليرة لبنانية واحدة لكلّ قطعة أرض من مالكها الجديد.
وفيما بعد، توسعت مشاريعه الإصلاحية لتشمل كل لبنان نظاماً وإدارة وقضاء وتربية ومجتمعاً.

معروف أن كمال جنبلاط هو محامي الحريات في النظام السياسي اللبناني، حتى عن خصومه، كما في حالة أنطون سعادة، هل هي نتاج جنبلاط المثقف الغربي، إلى حد ما، بخلاف العقل الشرقي الاستبدادي؟
فعلاً كان كمال جنبلاط محامي الحريّات التي كان ينتهكها النظام السياسي القائم في لبنان. وكان يمارس هذا الدور بقطع النظر عن الأشخاص وأفكارهم وانتماءاتهم. وأصدق برهان على ذلك أنه الوحيد الذي انتقد الأحكام الظالمة بحق أنطون سعادة، وأعلن أنه بموقفه من هذه القضية إنما يدافع عن معتقده الإنساني في الفكر وفي الحياة. أعتقد أنّ كمال جنبلاط اكتسب هذه المعتقدات من قراءاته وصداقاته التي نسجها في باريس مع مفكّرين تقدّميين متنورين، تلاقت أفكارهم مع ما كان يرسم في فكره حول إنسانية الإنسان.

شكّلت الديمقراطية لجنبلاط محوراً مركزياً في نضاله السياسي وفي إرثه الثقافي، لكنه كان ينتقد نمط الديمقراطية الغربية، أو ما يُسمّى بدور النخب هل هو أمر جديد أيضاً وإضافة أصيلة إلى نظرية الديمقراطية؟
من المؤكد أنّ كمال جنبلاط، بما تكوّن لديه من رؤية مستقبلية للأنظمة، استخلص مفاهيم جديدة للديمقراطية وكيفية ممارستها. عبّر عنها منذ العام 1945، في محاضرة له حول الديمقراطية الجديدة التي قال عنها: “إنها تتكامل، وتصبح فعلاً في خدمة الإنسان والمجتمع، عندما تستكمل الديمقراطية السياسية بديمقراطية اقتصادية وديمقراطية اجتماعية. وكان رأيه المميّز أنّ “النظام” أي نظام يحمد أو ينتقد بمقدار ما يحقّقه من كفايات للإنسان والمجتمع”.

وأما عن النخبة وعلاقتها بالديمقراطية وممارستها، فأذكر أن كمال جنبلاط هو الذي قال عنها، في مقالة له بتاريخ 21/3/1975 ما يلي: :يحدّد كثيرون في الغرب أن الديمقراطية السياسية هي حكم الشعب للشعب بواسطة الشعب، ويتوهمون أنّ وسيلة الانتخابات كلّ عدة سنوات تكفي لترسيخ مفاعيل هذه المقولة. ولكن التجارب في الغرب أثبتت أنّ هكذا نظام لا يوصل إلى سدّة الأحكام وإلى المجالس التمثيلية إلا مَن هم في صف الوسط من النباهة والمعرفة والخلق وأحياناً حتى البلهاء. والسبب أنّ هذا النهج مغاير لشرعة الطبيعة والتطور التي تنزع دوماً إلى بقاء الأفضل وإلى فرز الأقوى في قدرته على التكيّف، وإلى تجلية العقل في مرقى ظهوره وهيمنته التدريجية من مستوى المادة إلى منطلق الإنسان، وهذه الشرعة تتلخّص بأن تحكمنا النخبة وبأن نتمكّن من جعل المجتمع يفرز هذه النخبة يستعلي بها فوق رقابة وعادية تفكيره وتصوره. الديمقراطية السياسية الحقيقية هي حكم الشعب بواسطة النخبة لمصلحة الشعب الحقيقية”.

هل من شيء آخر ترغب بإضافته؟
بالطبع، هناك ما أضيفه، فبمناسبة مرور مائة عام على ولادته وأربعين عاماً على استشهاده، أقول لكمال جنبلاط حيث هو في عليائه، إنه حاضر دائماً في فكري ونهجي في الحياة، وسوف أبقى وفياً لفكره ورسالته ما حييت، ولهذا الهدف كانت “رابطة أصدقاء كمال جنبلاط” في سعيها للسير على خطى المعلّم، والعمل على إيصال فكره والإضاءة على سيرته ومسيرته النضالية المميّزة للأجيال الشابة لتغرف من مناهل فكره وإصلاحاته في نضالها، من أجل غدٍ أفضل ومجتمعٍ أرقى وأكثر عدالة إنسانية.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  في مئويته
كمال جنبلاط… سرمدية الإيمان بالإنسان
النائب السابق أ. فيصل الصايغ
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

في حضرة الغائب- الحاضر الكبير، لم يعد مجدياً طرح السؤال بالصيغة المعهودة: لماذا استشهد كمال جنبلاط؟ وإنما الباقي دائماً هو أن نضع السؤال بالصيغة التالية: لماذا وُلد كمال جنبلاط؟

تلك الومضة من سادس يومٍ في كانون الأول من العام 1917، أذّنت بولادة إنسانٍ قُدّر له أن يحمل في فكره ووعيه وروحه وأحلامه وشِعره وتنسُّكه ونضاله هموم أخيه الإنسان، في كلّ زمانٍ ومكان، وأن ينذر حياته وكل ما امتلك فيها للارتقاء بذلك المخلوق الإنساني في داخله أولاً، لتحرير ذاته من مغريات الدنيا – وما أكثرها لمَن كان مثله – منطلقاً بالتالي إلى تحرير الإنسان في كلّ أصقاع العالم، متجاوزاً الحدود بمختلف أشكالها، الطائفية والطبقية والمناطقية والجغرافية، مصوّباً نحو تحقيق هدفه الأسمى، ألا وهو تحقيق العدالة الاجتماعية لكلّ الناس الذين تجمعهم الحياة فوق هذه الأرض، وهو القائل “الحبّ الإنساني الشامل يجعل الإنسان يتجلّى في كلّ إنسان”، فعاش عمره وخاض معترك السياسة وغمار الحياة مهجوساً به، وملتزماً السعي الحثيث إلى تحقيقه.
هذه النزعة الإنسانية-الفلسفية اتخذت عند كمال جنبلاط أكثر من تشكيلٍ، تبعاً لمراحل حياته ونضجه وترقّيه في مدارج العمر، وغَرْفِه من خوابي الفكر الإنساني العالمي، واطلاعه على تجارب الحكم ونماذجه في شتى أنحاء الأرض، وغوصه في تقييم جيّدها من سيئها، فرأيناه متنسكاً توحيدياً زاهداً، وكاتباً ومفكراً وشاعراً، كما رأيناه سياسياً وطليعياً قائداً، مؤسّساً حزباً رأى فيه الوسيلة العملانية لترجمة أحلامه وما يؤمن به، وهذا ما تجسّد في تشكيلة الرعيل الأول من المؤسسين، حيث اجتمع كبار المشهود لهم بالعلم والعمل، والديمقراطيون والمؤمنون بجوهر الإيمان، والمثقفون والصحافيون والتغييريون، من شتى المشارب الروحية والمدارس الفكرية، ليلتفوا حوله ويلتقوا وإياه بأبناء الطبقة الكادحة، من فلاحين وعمّال وأجراء وأناس بسطاء، شكلوا طليعة الحزب التقدّمي الاشتراكي الذي حرص في ترسيم مبادئه على مقاربة جوهر الإنسان الذي هو الغاية الأسمى عنده، وتكريسه المبتدى والمنتهى، وهو القائل “الانتصار هو انتصار النفس القوية الجميلة فينا، انتصار الإنسانية فينا، انتصار التطور على الرجعية، انتصار الحياة”… كما رأيناه منتفضاً على النظام الطائفي الحارم غالبية أبناء لبنان من مواطنتهم الحقّة، ورأيناه لاحقاً يتصدى لمسؤولية قيادة الحركة الوطنية، بأحزابها اليسارية العقائدية، جامعاً في ذلك بين همّين عنده: الأول والدائم هو انتصاره للقضية الفلسطينية، ومؤازرتها في مجابهة مشاريع التهويد ومحو حقّ الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، والثاني هو النأي بالصراع الذي فرضته الحرب على لبنان من كونه صراعاً طائفياً أو مذهبياً، إلى كونه صراعاً بين معسكرين ومشروعين، بين يسار ويمين، بين رجعية وتقدّم، بين مشروع تفتيت وانعزال، ومشروع وطنٍ عربيّ موحّد، بين قمع الحريات وفضاء الديمقراطية، ولا ريب في أن يكون هذا أحد الدوافع وراء الاستعجال باغتياله.

بعد مئة عام انقضت على ولادته، وأربعة عقــودٍ على استشهاده، يستمرّ كمــال جنبلاط معلّماً ملهماً ومرشداً دائماً، وهامةً فكرية عربية عالمية استثنائية، ورمزاً لسمو الجهـاد في السياسة والنضال والعلم والفكــر والإنسان، كما يستمرّ إرثه الأكبر في ما رسمه للأجيال والمستقبل في كلّ العالم من دروبٍ مضيئة تودي بمن يسلكها إلى رحاب المعرفة والانفتاح والسلم والإيمان، وفي ما تركه للبشرية من إبداعاتٍ فكـرية استبقت عصرها وتخطت المكان والزمان، مكرّساً في مسلكه وشخصيته وصدقه وثورته وأسلوبه، سعيه الأزليّ إلى عقلنة الإنسان وتحريره من التقوقع والتخلف ومن أسر التعصب والانقسام، وترسيخ الديمرقراطية والرأي الحــرّ المنفتح على رحــاب الحــرية التي اعتبــرها الحجــر الأساس في كلّ تطــور اجتمــاعي واعٍ ومسؤول، وليس أدلّ على ما نستمر نعاني منه في غيابه أكثر من قوله “نحلم بالمسؤول الفريد الذي يتجرأ على توقيف كلّ لبناني يقوم بدعايةٍ طائفية”!!
كما أنه- في غمرة انغماسه بالصراعات الفكرية والإنسانية الكبرى- لم يغفل أن يولي وطنه الصغير العناية والاهتمام، وأن يقدّم نماذج في محاربة الفساد والمفسدين، وفي ترسيم كيف ينبغي لأهل الحكم أن يكونوا في خدمة الشعب، وليس العكس، وفي الانتفاضة على السجون التي تأسر الإنسان في العالم عموماً، وفي الوطن العربي خصوصاً وهو الذي لم يتردّد في اختيار الموت بحرّية، على طريقة سقراط لدى الاغريق أو غاندي في الهند وغيرهما، قدّموا جميعاً، كما كمال جنبلاط، أرواحهم قرابين وشهادة للحياة والكرامة الإنسانية ومشاعل هداية على طريق الحقيقة والحق والخلاص.
كمال جنبلاط الاستثنائي، التقدّميّ الطليعي، الدمقراطي الحرّ، سابق عصره بفكره ورؤاه وأخلاقه يستمرّ لنا القدوة في كيف ينبغي للنضال أن يكون، وكيف ينبغي أن نضع نصب أعيننا كرامة الإنسان وحقه بالحياة الحرّة الكريمة… والوفاء له يكون بخير العمل على تحقيق ما عاش حياته وكرّس فكره ونضاله وعمق شخصيته وفلسفته له، وقدّم حياته على مذبح الإيمان به: الشعب الحرّ في الوطن السعيد.

كمال جنبلاط مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات
كمال جنبلاط مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” في مئويتك،
تحية…
الأستاذ رامي الريس
رئيس تحرير الأنباء الإلكترونية ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الموسوعي، المرجعي، الفيلسوف
الموسوعي، المرجعي، الفيلسوف

في كل مرة أمسك فيها قلمي لأكتب عن كمال جنبلاط، أتهيّب الموقف.
فالرجل الموسوعي، المرجعي، الفيلسوف شكّل، في تاريخ لبنان المعاصر، علامة فارقة في السياسة والاقتصاد، في الفكر والفلسفة، في العلم والمعرفة.

والأصعب أن ما كُتب عن كمال جنبلاط كثير ووفير، ومع ذلك لا تزال شخصية ودور ومسيرة المعلم ومؤلفاته تستحق القراءة تلو القراءة، وفي كل قراءة، تكتشف الأبعاد الجديدة من علمه الواسع.
سنة 2017 حملت ذكرى مرور أربعين عاماً على استشهاده، وقد توجّ محبو المعلم وفاءهم له في يوم تاريخي في المختارة (19 آذار) شهد تقاطر الآلاف من اللبنانيين من مختلف المناطق حاملين رايات الولاء، ولبسوا كوفية فلسطين… الوصية والهوية والقضية.

كما أن سنة 2017 هي ذكرى مئوية الولادة، فكانت الرمزية السنوية بوضع زهرة على الضريح أبلغ من عشرات الخطب والمقالات. إنها الرمزية التي يمكن من خلالها الوقوف للحظة للتأمل والتفكير بكمال جنبلاط القائد والشهيد.

ولكن كمال جنبلاط الذي أكد على إعادة الأخلاق إلى السياسة والسياسة إلى الأخلاق يُفتقد اليوم بشكلٍ عميق. فالسياسة والأخلاق في عالمنا الراهن أصبحا على طرفي نقيض وهو ما يفسر الكثير من الظواهر الغربية التي فرضت نفسها على مجتمعاتنا، من الإرهاب والمخدرات والدعارة فضلاً عن ما سمّي بالثورة التكنولوجية، التي تبقى رغم إيجابياتها، تُشكّل منعطفاً كبيراً في طبيعة العلاقات الاجتماعية والإنسانية.
مع كمال جنبلاط إلى الأصالة.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى العدالة الاجتماعية، إلى الحرية، إلى الكرامة الإنسانية.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى الوعي، إلى المسؤولية الوطنية، إلى العروبة المتحرّرة.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى الديمقراطية، والمساواة.
مع كمال جنبلاط، نعود إلى ذواتنا التي تنجرف أحياناً في رمال ومستنقعات اليوميات الممّلة، إلى الصفاء خروجاً من الاضطراب، وإلى الهدوء هرباً من الضوضاء.
في مئويتك، تحية.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  كمال جنبلاط
مدخل إلى المكوِّنات الثقافيَّة الأولى
غسان الحلبي
مستشار مشيخة عقل طائفة الموحدين الدروز” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

دخل “البيك النّضِر” مدرسة عينطورة وهو في بدايات السنة التاسعة من عمره. كان قد تلقّى تعليماً خاصّاً في دار المختارة التي كانت في رعاية والدته “الستّ نظيرة”، السيِّدة المَهيبة التي استطاعت، بحنكةٍ فريدة ووقار مشهود، أن تحمل حِمل رجال كبار بعد أن اغتيل زوجها فؤاد تاركاً في عهدتها طفليهما، “كمال” ذا الأربع سنوات وأخته “ليندا”، وبالطبع، مسؤوليَّة جسيمة كبرى هي ولاية شؤون دار يسكن فيها التاريخ، ماضياً وحاضراً، فرداً من أفراد العائلة.
إنَّ طبائع المكان، بأرضه وناسه، بتقاليده وأسراره، بذاكرته الذاخرة بالأحداث الجسام والشخصيَّات التي لا تخلو المرويَّات عن بعضها من بُعدٍ شبه أسطوريّ، وبحاضره المظلَّل من جهةٍ بمأساة، ومن جهةٍ ثانية بإرادةٍ من “روح الفولاذ” هي إرادةُ سيِّدةٍ عرفت عطف الأمومة، وحكمة التصرُّف، وهيبة الحضور بحيث لم تخْلُ سدَّة الزعامة، بتدبيرها، من فعاليَّة القيادة التي ارتقت بأدائها إلى مستوى تاريخيّ تذكرهُ الأجيال؛ كلُّ هذا، لا شكّ، انغرس في روح “الصبيّ” وشكَّل مكوِّنات وعي تكاد تكون “فطريَّة” فيه، لأنّ الكثير منها بقي من “الثوابت” لديه عبر حياةٍ فائضة بالمتغيِّرات.
كان اليسوعيّون قد أسّسوا إرسالية القدّيس يوسف في عينطورة عام 1657 “في جوف وادٍ صغير عند أسفل غابة صنوبريَّة” على ارتفاع سبعمئة متر عن سطح البحر. وفي العام 1834 تسلَّم الدير الآباء اللعازاريّون بعد تفاقم المشاكل بين اليسوعيين ومرجعيّاتهم في الخارج. وما لبث مريدو القديس فنسان دو بول أن حوَّلوا المقرّ إلى معهد تربويّ بناء على إلحاح الموفد الرسولي.
كان للعازاريّين قناعة وطيدة بالتربية التي يُبنى بها الإنسان، وهي قناعة وليدة من السلوك الذي انتهجه مؤسّس جمعيَّتهم التبشيريَّة “دو بول” المذكور (1581 – 1660). وترسَّخت قواعد النظام التربويّ في معهدهم في لبنان حين تولَّى إدارته الأب ألفونس سالييج، حيث حصل تطوُّر كبير في بنائه وأنظمته برعاية فرنسا ودعمها بحيث اكتسب سمعة عالية باعتباره صرحاً مساهِماً بقيام “نهضة حقيقيَّة في جبل لبنان” ولُقِّب بـ “أمّ المدارس”. (الكثير من أخباره في مذكرات نخب من القادة والمسؤولين ورجال الفكر والأدب).
حين دخل كمال المعهدَ تلميذاً في بداية العام الدراسي 1926، كان بإدارة الأب إرنست سارلوت ذي الشخصية القويَّة الهادئة “بهيبة متورّع، وحضور عالِم ونظرة فيلسوف” يردِّد أمام تلاميذه قولاً لفيرجيل يحثّهم به على الاستغراق الجاد في العمل: “Labor Omnia vincint improbus” ويعني: “العمل الشاق يتغلَّب على كلِّ شيء”، ومُسدياً إليهم على الدوام نصائح في غاية من “العِلم والذكاء والإدراك”.
يذكر “تيموفييف” أجواء المعهد الخاضعة لنظام “ثابت تسيرُ عليه دائماً وأبداً… من نهوض باكر في الخامسة صباحاً، إلى صلاة الصبح والتزام اللغة الفرنسيَّة حتّى فترة ما بعد الظهر المخصَّصة للعربيَّة، وفترة المساء للإنجليزية حتَّى صلاة الغروب.” وهو “نظام يومي صارم يتطلَّبُ حدّاً أقصى من التركيز والانضباط”. بالطبع، ما لبثت روحُ كمال أن أنست، لاحقاً، هدوء المكان، وواجبات الالتزام بالدرس والتحصيل، وبالتأمُّل وتلمُّس آفاق المعرفة. وكان المنهج التعليمي مرتبطاً بالبرامج الفرنسيَّة المتقدّمة، وزاخراً بمواد مكثّفة.
من المؤثِّرات العميقة التي يمكن أن تُعزى إلى الأب سارلوت هو دأبه على أن “يغرس في نفوس تلاميذه موقفاً أخلاقياً من العمل”، ومقاربته البالغة الأهميَّة في ضرورة تحقيق “التوفيق الأمثل بين المواد الطبيعيَّة (العلوم البحتة من خلال التطبيقات المختبريَّة)، وبين المواد الإنسانيَّة. وإيماناً منه بأهميَّة هذه المعادلة سعى إلى افتتاح “مختبرات ممتازة التجهيز في المدرسة لإجراء التجارب الفيزيائيَّة والكيميائيَّة، وأيضاً إيجاد متحف للعلوم…”.
“وجد كمال في هذا الجوّ مرتعاً خصباً جعله لا يكتفي بما يحصل عليه من دروس بل يكبّ على المطالعة كلما وجد متّسعاً من الوقت… حتى غدت شغفاً يلازمه مدى الحياة ويغني مفرداته، ويوسع أفقه، ويعلّمه التفكير والتأمّل والتحليل والمقارنة… وتكوّنت آنذاك الملامح العامَّة لشخصيته وطباعه والتي ميَّزته عن الآخَرين مدى العمر” (تيموفييف). وقبل الوصول إلى المرحلة الجامعية، كان “الشاب الموهوب يعيش حياة فكرية وروحيَّة في منتهى التعقيد والكثافة.”
كان لمقاربة كمال الشاب نحو المعرفة طابع الشمول المتدرِّج، وكان سرُّها أنّه لم يكن في ذاته العميقة ساعياً في استثمار العِلم لغايات المصلحة وإنَّما في شغفِ البحث عن الحقيقة. وإن كانت المراحل الأولى في تعليمه تميَّزت بالتنوُّع العريض في مواضيع المطالعة والنشاط العملي، فقد برزت، في المرحلة الأخيرة له في عينطورة، اتّجاهات نحو التعمُّق في حقول بعينها انجذاباً لما في طبائعه من ميولٍ نحو الإبحار في الآفاق البعيدة. ويُذكر في سيرته أنه أبدى “اهتماماً معمَّقاً بتاريخ المسيحيَّة… وأنه درس بعمق مؤلّفات القديس فنسنت دي بول…” التي كان لها أعمق “الأثر في نفسه وكذلك رعايته للفقراء والمساكين والأحداث…”. ولا شكَّ أنه قرأ أيضاً بالفرنسية كتاب “فضائل القديس فنسنت ومذهبه الروحي” الذي قال فيه مطران باريس إنه يعبِّرُ “عن الرُّوح الحقيقيَّة للمسيحيَّة”. والكتاب إبحارٌ في معنى الحبّ الإلهي لدى دو بول، وحضوره الحيّ في الوجود… وصولاً إلى جوهريَّة السجايا الإنسانيَّة في التواضع والطاعة والحكمة والعدل والتعفُّف والانعتاق من كلِّ تعلُّقٍ دنيويّ بزخاريف الدنيا.
(كتاب L»Abbé Maynard).
في العام الدراسي 1935 (كان كمال قد بلغ الثامنة عشرة من عمره)، قدم إلى عينطورة الأب دالميه Dalmais معلّماً للفلسفة. عُرف عنه بعد ذلك تأثّره وإخلاصه لتعليم الراهب واللاهوتي البيزنطي القدّيس “مكسيم المعترف”، الأمر الذي قاده إلى التعمّق بعلم تأويل الأسرار (mystagogie) عن طريق الفهم العميق لطقوس القربان المقدّس (Liturgie). ووجد دالميه أنه من الضروريّ تعميق مفهوم الأسرار ومقابلها الآرامي عبر مساءلة اليونان القديم وفقاً لانعكاس ذلك في إرث الأوّلين (كتاب Kalongisa Munina). ويعلمُ الله وحده ماهية المدى البعيد الذي ذهبت فيه العلاقة الفكرية والروحية-المعرفية بين الشابّيْن: الأستاذ وتلميذه الفريد (كان دالميه في الثانية والعشرين)، خصوصاً في اللاهوت المسيحي بدلالة أنَّ دالميه دعا كمال مباشرة إلى اعتناق العقيدة المسيحيَّة، وردَّ جنبلاط معتذراً حيث سيتبيَّن لاحقاً إيغال فكره في جدليَّةٍ خصبةٍ لا يمكن معها الرسوّ فوق الشاطىء، وإنَّما هي تدفعُ به على الدوام، وبقوَّةٍ لا تهدأ نحو أعالي بحار المعارف شوقاً إلى تلمُّس حقائق الأشياء في حضورها الحي الدينامي وليس السكونيّ وحسب.
كان حاضراً في عقل كمال آنذاك، عبر قراءاته، ما كان يحاولُ فعله أحد الآباء اليسوعيّين من الذين وحَّدوا في الرؤية اللاهوتيَّة بين الإيمان والعِلم البحت، ومن الذين قاربوا المسيحيَّة مقاربة غير تقليديَّة إلى حدّ منعه عن التعليم، هو الراهب وعالِم الإحاثة والمتحجّرات بيار تيار دو شاردان. وكان حاضراً أيضاً غاندي وتعليمه بأنَّ “الحقيقة الأولى هي أن الحبَّ هو نقطة الدائرة ومحورها في آن واحد. فكيف تتلاقى وتتجاذب ذرات المادة، وتترفّع وتتوالى في تراكيبها، وكيف تتآلف الخلايا الحيَّة في النبات والحيوان وفي الإنسان، وكيف يتوافر ارتباط العلاقات في المجتمع، إذا كان الحبّ غائباً عنها.” فالحبّ هو “طاقة كونيَّة شاملة لحركة التكوين” (من محاضرة عن غاندي لكمال جنبلاط).

يتوجَّبُ أن يُفهمَ الحبّ هنا من حيث هو إيمان عميق بالوحدة التي هي سرّ الوجود، ومن حيث هو الطاقة الحيَّة في الكائنات جميعها. وليس الأديان وحدها رسائل للتعبير عن هذه الوحدة، بل هو الوجود بكلّ عظمتة من المجرَّات إلى ذرة التراب. كان هذا أمراً طاغياً على عمل دو شاردان في صحارى الصّين وغيرها، وعلى عمل غاندي في مقاربته السياسيَّة غير المألوفة لأنها ترتكزُ على بساطة الحقيقة الإنسانيَّة وأصالتها وصلتها “بالطبيعة الأحديَّة التي لا اثنينية فيها على الإطلاق”. وقد ذهب بعد ذلك كمال، بحكم الظرف القاهر، إلى باريس لدراسة الحقوق في حين كان يحلمُ بأن يكون طبيباً يخدم الفقراء في إفريقيا. لكن أبواب المعرفة ظلَّت، بالطبع، مفتوحة أمامه، فتعمَّق في فهم باسكال (العلم والترهّب والفكر الذي هو ميزتنا الكلية)، وبرغسون (الحقيقة بالحدس)، وكثرة من كبار المفكّرين. وتردَّد هناك إلى روجيه غوديل المشغوف باليونان وأفلاطون خصوصاً، وبالهند. وهذه علاقة معرفية قادته إلى كريشنا مينون ومن ثمَّ لاحقاً إلى رحلات إلى بلادٍ (الهند) يؤمن حكماؤها بأنَّ الطاقة الكونيَّة هي الوعي المطلق، وبأن التطوُّر الإنساني الحق مرتبط بهذه الغاية. وبأنَّ التقدُّم، في ذات الفرد وفي صيرورة المجتمع (التقدمية)، هو بالسعي والنضال من أجل تحقيق غايات مثلى صوناً للإنسانيَّة من السقوط في هاوية الجهل والتقاتل وصراع الحضارات.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  نِعـمَ الكتـابُ،
تعـدَّى الحرفَ كاتبُـه الشيخ د.
سامي أبي المنى
رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

هو الزعيمُ الكبيرُ، اللهُ واهبُهُ
تقدُّميٌّ، أبيٌّ، قائدٌ، عَلَمٌ
للِّدينِ، للحقِّ، للإنسانِ، ثورتُه
بساعِدِ الجِدِّ أثرى الأرضَ مِعوَلُه
وريشةُ الفكرِ أهدت للملا كتباً
قد كان يَخشى على الإنسانِ من زمنٍ
وأصبحَ المرءُ رقماً فيه مُحتَقَراً
وسطوةُ المالِ والأعمالِ ضاربةٌ
والشرُّ يهدُمُ ما في الكونِ من نُظُمٍ
هذا الكمالُ ارتقى نحو الكمالِ وفيفراحَ يُبحرُ نحو الحقِّ مُنشغِلاً
يتوقُ عيشاً صُراحاً حيثُ يَسكُنُهُ
يَغفو على لَهَفٍ، يَصحو على شَغَفٍ
يراهُ في كلِّ خَلقِ اللهِ، في نِعَمٍ
يراهُ في بيئةٍ خضراءَ دانيةٍ
صفراءَ راقيةٍ، زرقاءَ ناقيةٍ
وكان صوتاً رقيقاً صارخاً ألماً
لا تعبَثوا بنظامِ الخَلقِ واحترموا
يا ثاقبَ الرأي والرؤيا، لَكَم صدقتْ
يا سابقَ العصرِ، كم أهديتَنا عِظةً
يا ليتَنا ما ربحناها رفاهيةً
يا ليتَنا قد جعلنا العقلَ مُنطَلَقاً
يا ليتَنا ما خسِرنا العيشَ في كنَفِ الـ
ولو أقمنا على عدلٍ توازُنَنا
يا ليتَنا لم نُغادرْ، في تعامُلِنا،
لو لم نُبالغْ ونشطحْ في تَجاهُلِنا
كم نحن نحتاجُ إنسانيةً فُقِدَتْ
كم نحنُ نحتاجُ عُشبَ القمحِ، أنبَتَهُ
نحياهُ ذِكرى سمَتْ نحيا بها مئو
نسمو اعتزازاً بأنْ غُصْنا على دُرَرٍ
منها اكتفينا وعُدنا كي نوزِّعَها
لكنّنا مُذ عَرفنا أنَّه قمرٌ
وسار فينا، وصارَ النُّورُ يَغمُرُنا
نقولُ فيهِ، ومنه القولُ أشرعةٌ
قال المعلِّمُ، حقَّاً قالَ، فانتبهوا

طابتْ منابعُه، طافتْ مواهبُهُ
العلمُ والحِلمُ والتقوى أقاربُهُ
في عالمٍ أدمتِ الدنيا مَخالبُهُ
مُذ راحَ يَكدَحُ كي تَحيا مساكبُهُ
نِعمَ الكتابُ، تعدَّى الحرفَ كاتبُهُ
نامتْ نواطيرُه، قامتْ ثعالبُهُ
وهْو المُكرَّمُ من ربٍّ يُخاطِبُهُ
والعنفُ في الدينِ والدنيا مصائبُهُ
والبيئةُ الأُمُّ تُؤذيها عقاربُهُ
صوامعِ الروحِ والنجوى مآربُهُ
عن السياسةِ، شقَّ الموجَ قاربُهُ
طيفُ الحبيبِ الذي شعَّت كواكبُهُ
والحقُّ في ذا وذا تبدو غرائبُهُ
تَفيضُ دوماً، كما فاضتْ سحائبُهُ
حمراءَ قانيةٍ، فيها ملاعبُهُ
بيضاءَ تَصفو كما تَصفو مشاربُهُ
أنِ احفظوا الكونَ تَحفظْكم مراكبُهُ
سرَّ الوجودِ، فرَبُّ الكونِ واجبُهُ
رؤياكَ، مثلَ نبيٍّ، عزَّ جانبُهُ
والكونُ ينهارُ، والحُمَّى تُصاحبُهُ
وضاع منَّا جمالٌ فرَّ ناهبُهُ
والعقلُ يعقِلُ لو كنَّا نُقاربُهُ
طبيعةِ البِكرِ، إذ رُحنا نُحاربُهُ
وما سكَبنا شراباً ماتَ شاربُهُ
بساطةَ العيشِ، مُذ جُنَّتْ مطالبُهُ
لَمَا شَقِينا وأدمَتنا عواقبُهُ
من عالَمٍ ضلَّ وازدادتْ متاعبُهُ!
لنا المعلِّمُ، كم تُشفي تجاربُهُ!
يـةً وقد حاكتِ النَّجوى عجائبُهُ
في ذلكَ اليمِّ، أغرتنا حقائبُهُ
فما كَفَينا، ومَن فينا يُواكبُهُ؟
به افتُتِنَّا، وأمْسينا نُراقبُهُ
والفكرُ كالعينِ، والإيمانُ حاجِبُهُ
مَنْ يتبَعِ القولَ ما تاهتْ مراكبُهُ
فالحقُّ يُحيي ويَحيا فيه طالبُهُ

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” إلى المعلّم الشهيد
كمال جنبلاط
العميد د. محمّد توفيق أبو علي
العميد السابق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية
” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يؤوب فينا ويبقى النور منتصرًا
يؤوب فينا ويبقى النور منتصرًا

آتٍ مع الفجر خلِّ الرّيحَ في صخبِ
بَوْحُ الأقاحي خطاهُ، موعدُ السُّحُبِ
آتٍ غدًا لجفون الشمس يزرعها
نورًا، ويوقظ منها هجْعةَ الهدُبِ
آتٍ، فيا واحةَ العشّاقِ لا تهِني
محبوبُكِ الصَّبُّ لم يهرمْ، ولمْ يغبِ
لكنّه في زمان الوعد محتشدٌ
عند الينابيع، يروي جذوة اللّهبِ
يسقي دَواليَ عشقٍ سُكْرَ خَمْرَتِها
حتّى ترنّح فيها ساكنُ الحَبَبِ
يؤوب فينا ويبقى النور منتصرًا
خُبزًا يقينا الدّجى في غائلِ السَّغَبِ
معلّمي نُضْرَةُ الحلمِ البهيّ رنا
إليّ أنت إلى وُسْعِ المَدى الرّحِبِ
فكيف يُغْلَقُ دون العين بارقةٌ
وأنت صبوتها نحو المنى النُّجُبِ
وكيف يُغرِق موجُ اليمّ ساريةً
وأنت رائدها… يا نجمة القُطُبِ
القدس يشكو أساها عُقْمُ نَخلَتِنا
هُزَّ الجذوعَ وأرشدنا إلى الرُّطَبِ
والمِحْجَرُ الصَّلْدُ يروي سقمَ دمعتِه
فاشفِ السِّقامَ بوجدٍ منكَ منسكبِ
والمحجرُ الصَّلدُ يشكو حَجْبَ شَكْوتِه
فاهطِلْ بِوجْدِكَ يُمْزَقْ ساترُ الحجبِ
واطلب الى الدمعِ أن يطلق أعنَّتَهُ
رِيًّا لنارِ القِرى في جمرنا الرَّطِبِ
ازرعْ محاجرَنا عَصْفَ الدُّموعِ لظًى
توقًا لقدسٍ تُقِيتُ النور في الشّهبِ
معلّمي، إنْ غفتْ أحلامُنا، ومضتْ
نَثْرَ الهباء، فلا تسألْ عنِ السببِ
مَنْ غيّبوكَ همُ مَنْ يدفنونَ سنًا
يقول: يا وعْدُ عُدْ، واهطلْ على العربِ

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  كمال جنبلاط…
المفكر البيئي قبل سبعين سنة
د.عصام الجوهري
رئيس رابطة قدامى أساتذة الجامعة اللبنانية” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

تخطّى المعلم كمال جنبلاط منذ العام 1948، وربما قبل ذلك، الموقف السطحي الذي كان سائداً حيال البيئة، فإذا به يضع في “الميثاق” عام 1948، الآتي: “إن من بين التدابير التي يرمي إليها الحزب، المحافظة على العنصر البشري وتنقيته والتخلُّص من بعض الظروف والأحوال الضارة التي أوجدتها المدنية التقنية” (ص. 2) وفي مكان آخر: “القضية الأساسية تهيئة الجو الملائم للكائن البشري ونموه ولتفتح قدراته، وذلك باعتماد الأساليب والعادات الاجتماعية التي تتلاءم مع أغشيته ونفسيته. فيجدر مثلاً تنقية جو المعمل والمحترف وإزالة الصخب والضجيج والجلبة من المدينة وإذا لم يكن من بد، هدم المدن وإعادة تخطيطها وبنائها بشكلٍ يتلاءم أكثر فأكثر مع متطلّبات الفرد وراحته بحيث تتوفّر له المتعة النفسية والجسدية في أجواء فسيحة من الحدائق والغابات، ويجدر تنقية جو الصحافة والملاهي والاحتفالات والاجتماعات الشعبية كي يتوفّر للفرد الاطّلاع على أكبر قسم ممكن من الفنون والعلوم … إلخ” (الميثاق: ص. 21).
هذه المطروحات التي انقضى عليها أكثر من حوالي ثلاثة أرباع قرن من الزمن تتخطّى كلّ ما عداها من خطط واقتراحات بيئية ماضية وحاضرة، من حيث عمقها شمولها لكلّ ما يمس الإنسان جسدا وعقلاً، والإنسان يحتل الصدارة في فكر كمال جنبلاط، والغاية لكلّ ما كتب، ومن هنا أصبحت أفكار الميثاق البيئية برنامجاً بيئياً وسياسياً للمستقبل القريب والبعيد للجمعيات والمؤتمرات والأبحاث المهتمة بهذا الشأن.
شكلت البيئة عند كمال جنبلاط المؤسس مساحة كبيرة في نسيج فكره الشامل والمتنوع. البيئة عنده، تساوي الوجود الإنساني، فأقدم على معالجتها من الجذور وبكلّ ما يرتبط بهذا الوجود من مشاكل تُعيق تطوّر البشري السليم.

كالماء الزلال، الذي ينسكب في ماء زلال
كالماء الزلال، الذي ينسكب في ماء زلال

يتحدّث كمال جنبلاط عن تلوّث السمع: “ومن أدب السماع أن تبتعد عن كل ما يؤدّي من صخب المدينة وضجيج الحضارة، وصرير الآلات، وانفعالات هذه الموسيقى الحديثة التي تقلق النفس وتسبل على سامعيها الاضطراب النفسي والتشويش والتي تخرج عن وتيرة الطبيعة وطبيعة الإنسان” (أدب الحياة، ص. 56).
حذّر جنبلاط من العبث بالطبيعة، وما ينتج عنه من آثار مدمّرة على المسار البشري: “إنسان اليوم، إنسان العالم الحديث الذي أخذ يتدخّل في شرعة التكوين بواسطة بعض الأدوية الزراعية والأدوية البشرية القاتلة للآفات وأضدادها وضوابطها في آن واحد، لا يعلم أي خلل يدخله وأي انحراف يفتعله، وأي إجرام يأتي به ويقضي على هذا التوازن والانسجام في حياة الكائنات وفي وجود الأكوان” (المصدر نفسه ص. 56)، يشغل هذا الموضوع قطاعاً واسعاً من العلماء الزراعيين في معظم البلدان حيث يدري العمل على إنشاء مزارع نموذجة تعتمد على المصادر العضوية في الزراعة ومكافحة الأدوية الزراعية. وهو اتجاه محدّد لزراعات المستقبل؛ كما أصدرت الكثير من الدول قوانين للحذر من استخدام أنواع معينة من الأدوية الزراعية.
أولى جنبلاط اهتمامه للأبحاث والمؤلفات حول البيئة فأقدم على ترجمة بعضها ومن بينها كتاب “نكون أو لا نكون” لـ إيفان روسكي عرّبه وقدّم له: “أنّ على الإنسان أن يحترم نواميس الطبيعة التي تحيط به وتدخل في كل حين في تكوين جسده وفي الأفعال بأعصابه وبحواسه وفي الهيمنة على مارات الأغذية والسوائل في أغشيته على حياة خلاياه وإلا فَقَد الإنسان القدرة على العيش، ضعفت فيه مكنات نجوته وقوى الكيف واختلت احتمالات التوازن الداخلي القائمة على ما يدعمها ويقابلها في البيئة الخارجية فإذا به يُشرف على الانحطاط التدريجي وثم على الهلاك كما حصل لعدد من الأجناس الحيوانية والبشرية السابقة” (“نكون أو لا نكون”، المقدمة ص 80). ويتساءل كمال جنبلاط محذراً: “ماذا؟ البشرية؟ إلى أين تتّجه؟ ماذا سيكون مصيرها؟ يشهد القرن العشرين بأننا نمر في مرحلة من نصف الجنون الجماعي والفردي؟ هل يمكن أن يكون الإنسان في مجرى التطوّر الكوني الشامل يلعب دور كائن فاشل أو نتائج عديمة الفائدة مرشّح للزوال؟ ويجب القول إنّ هذه التصفية تسير بخطى سريعة”. (المصدر السابق نفسه ص 13).
ويستدرك جنبلاط أثر تلوث الهواء في المدن على مصير الإنسان: “للهواء الذي نستنشقه أهمية خاصة فيجب أن يكون نقياً صافياً وليس كهذا الهواء الذي ينتشر فوق المدينة الحديثة، الذي أوضح ضرره وشره على الجسد الدكتور سلمانوف في قوله: إنّ كلّ حركة تنفُّس تدخل الجسم خاصة عند سكان المدن الكبرى يُدخل بضع مليارات من الجراثيم. ففي العودة إلى الحياة الطبيعية ونهجها الوسيلة الحقيقية لضمان الصحة وسلامة الأعضاء وبقاء الكائن البشري على مناعاته وحيويته” (“أدب الحياة”، ص 103).
وفي التعاطي مع الطبيعة الخارجية، يقول في “أدب الحياة”: “إنك لا تستطيع أن تُحرّك زهرة دون أن تهتز إحدى النجوم” (“أدب الحياة”، ص 99).
وعن التلوث يقول: “تلوث الأنهار والبحيرات والسماء بهذا الشكل المتواصل يهدّد بتحويل الأنهر والبحيرات والبحار ذاتها الى أنهر وبحيرات وبحار ميتة، لا يقطنها شيء كما حدث فعلاً لبعض الأنهر ولبعض البحيرات في الولايات المتحدة وفي أوروبا. ويرتقب بعض العلماء أن يصبح مثلاً البحر المتوسط بعد سنوات قليلة مهدّداً بهذا التلوث الشامل وأنّ كوكبنا بأسره مهدد على الأقل إلى فترة طويلة بأن يتحوّل إلى كوكب ميت” (المصدر السابق، ص 106).
لقد أضحى النزول إلى البحر المتوسط والاستحمام فيه أمنية لسكان شواطئه ومخاطرة المغامرين ومصيراً حتمياً للفقراء يُضاف إلى ذلك فعل الصيد في تهشيم الطبيعة، وفي تقتيل الطيور – وكل حيوان وطير يتغذّى من هذا الكائن أو من هذا اللون من الحشرات أو الأعشاب – كائناً أمام مجزرة حقيقة يقوم بها هذا الإنسان المتوحش…

البيئة عنده، تساوي الوجود الإنساني
البيئة عنده، تساوي الوجود الإنساني

(م. ن. 108).
لن نتمكّن بهذه المقالة الإحاطة بكلّ الطروحات البيئية لكمال جنبلاط المعلّم إنما أشرنا إلى بعض الأفكار بغية العودة إليها من جديد قراءةً وبحثاً وتطبيقاً. ولا يسعنا إلا أن نجزم بأنه كان من روّاد البيئة بامتياز، ولم يُهمل المسألة البيئية حتى في أحلك الظروف التي عاشها لبنان، حيث أولت الإدارة المدنية التي أنشأها الحزب في منطقة الجبل أثناء الحرب الأهلية اهتماماً خاصاً في هذا السياق، فهي حرمت قطع الاشجار وصيد الطيور ومنعت رعي الماعز حيث ابتاعت الماعز من أصحابها مقابل أسعار عادلة وودعتها في أماكن مغلقة. كما شجعت التشجير واعتنت بغابات الأرز فمنعت الدخول إليها، وجعلتها مَحميَة عملت على مكافحة الآفات والأمراض المنتشرة فيها، كما نظّم “مكتب الإرشاد والتوجيه” في الجيش الشعبي ندوات ومحاضرات جوّالة في مئات القرى والبلدات حماية للبيئة.
لقد كانت طروحات كمال جنبلاط الحضارية المتقدّمة في الموضوع البيئي سبباً لجعل الحفاظ على البيئة جزءاً من كل بيان وزاري وسبباً للكثير من القوانين البيئية التي صدرت عن المجلس النيابي اللبناني.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  مئوية العدل الاقتصادي
في ميزان الفكر الإصلاحي
د. وليد أبو خير” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

أدبياته إرتسمت حول الدفاع عن الطبقات الفقيرة والكادحة
أدبياته إرتسمت حول الدفاع عن الطبقات الفقيرة والكادحة

كان اختيار كمال جنبلاط الأول من أيار/مايو من العام 1949 موعداً لإطلاق حزبه إشارة رمزية لموقفه من قضايا العمّال والفلاحين والفقراء عموماً، باعتباره: “…يوماً مباركاً، يوم العمّال والفلاحين والصنّاع ويوم ذكرى التعاسة والبؤس والإرهاق بسبب عدم عدل الإنسان لأخيه…”.
شكّل هذا المنعطف من تاريخ لبنان الحديث، دليلاً واضحاً على أنّ فكر كمال جنبلاط حمل هموم المجتمع المعيشي والاقتصادي والاجتماعي عندما فصّل وشرح بإسهاب المبادىء والنُّظم التي ترتقي بالبشرية إلى المجتمع الاقتصادي الاشتراكي، خصوصاً وأنّ أدبيات المفكّر جنبلاط قد ارتسمت حول دفاعه عن الطبقات الفقيرة والكادحة.
إن الواقع المعيشي والظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرّت بها البلاد حينذاك، أوقدت مشاعر النبل والمسؤولية لدى كمال جنبلاط، والتي شهدت مرحلة ما قبل تأسيس الحزب وتحديداً ما بين العامين 1943 و 1946 مطالبته الدولة اللبنانية العمل على الحدّ من البطالة ومكافحة جنون غلاء الأسعار، كما ومطالبته إياها تشجيع الصناعات المحلية وإنعاش التجارة والزراعة والصناعة والسياحة. وهو في ذلك، إنما كان يعبّر عن برنامجه للحزب الذي سيولد بعد سنوات قليلة.
تجلّت أدبيات الفكر الاقتصادي عند المفكّر الإصلاحي كمال جنبلاط، من أنه فكر قائم على ثقافة تطوير القوانين الاقتصادية وبحسب تقدّم مراحل التطور التاريخي. ذلك أن أسس الاشتراكية في ميزان فكر جنبلاط إنما بُنيت على ركائز الانفتاح والتطوّر، وبالتالي الارتقاء بها إلى مرحلة العدل الاقتصادي المجتمعي. فمن المُعيب – وبنظر المفكّر جنبلاط – أن ينوجد في المجتمع من هم بحالة من الفقر المدقع فيما هناك آخرون يتمتعون بملذات العيش الرغيد مما قد توارثوه عن أسلافهم من ثروات طائلة، أو من جراء تملّكهم الوسائل الإنتاجية سواء بالصناعة أو التجارة..، والتي تدرّ عليهم الأرباح الخيالية. (نظرية التقدمية الاشتراكية.. إدمون نعيم، ص 36 و37) فالحقوق الاقتصادية التي بنى عليها جنبلاط مبادىء الحزب التقدمي الاشتراكي، إنما تستند إلى مبدأ العدالة المجتمعية، وبالتالي إلى المساواة بين أفراد المجتمع، وذلك بحقّ كل فرد فيه أن يتمتع بنصيب من الثروة توازي متطلبات عيشه بكرامة الإنسان الحر وبما يكفل تطوره ونموه.

ذهب المفكّر كمال جنبلاط بالفكر الاقتصادي للحزب التقدمي الاشتراكي إلى حدود التعبير عنه من كونه وجهة نظر للحياة بأكملها. فهو بذلك جمع في محطات ومفاصل الحياة برمّتها فكراً تندمج فيه مثاقفة كل من الاجتماع والاقتصاد في سبيل تطوّر الحياة المجتمعية على النحو الذي يرقى فيها أبناؤها إلى حياةٍ سعيدة بمعانيها المادّية والمعنوية والنفسية، ليَضحى هذا الفكر فكراً ثورياً يتجه بمناحيه نحو التطوّرية.

وبمرور ذكرى عزيزة على قلوبنا وهي السادس من كانون، ذكرى مئوية هذا المفكّر الإصلاحي، نقف ونقول وبعيداً عمّا نكنّه ونختزنه في نفوسنا من عاطفةٍ دفينة، أنه لا بدّ من العودة وقراءة مؤلفاته وكتبه بغية استحضار آرائه وأفكاره الإصلاحية والتي تؤلّف في مجموعها مواقفه النضالية العتيدة، كما والدعوة إلى الوقوف أمام المحطات الفكرية للمصلح كمال جنبلاط للتقرّب أكثر من فكره ومن نهجه، وإلى التعرّف على نوافذ اشتراكيته الأكثر إنسانية. هذا المنهاج الذي أرسى مدرسة ذهبت في اللاحدودها عبر التاريخ، وتخطّت وقائع الجغرافيا لتضحي تاريخ وطن وأمة.

في الذكرى المئوية للرجل الرجل، نقف بجلالةٍ وإنحناء وفي عقولنا غرسات متجذّرة من الكِبَر بفعل نورانية المنهج الذي تناول فيه الكثير من أمراض العصر في سعيه إلى الإصلاح بكل ما يحمله هذا التعبير من محاججة. هذا المنهج الذي جال بخواطر جنبلاط ليعبّر عن واقع لبنان ومرتجاه في نواحي السياسة والاجتماع والاقتصاد..، مجاهدًا بالفكر والقول والعمل، محاولًا تصويبها لتكون مدارك وأسساً في خدمة مجتمع العمّال والكادحين كما الشباب والمثقفين.
حمل هموم المجتمع في نواحي ترشيد الطبابة، وفي حوكمة الضمانات الاجتماعية وتعميمهما في سعيه لترسيخ صنوّ العدالة الاجتماعية.
حمل هموم ومشكلات الأجيال الطالعة في وضعه معايير رشيدة للثقافة والتعليم، وهموم الناس في تأطير الزراعة والصناعة المحليتَين بأطر ومعاني التقدمية، وفي دمقرطة الضرائب بما تعنيه معاني الاشتراكية وبعدالة شعارها “لكل حسب طاقته” ما يؤسّس إلى تحقيق مبدأ العدل المالي، كما وجعله عاملًا للتوجيه الاقتصادي، وبالتالي أداة استقرار وعدل اجتماعي.
نفح في المجتمع روح ثقافية الشعار “لكل حسب حاجته” في سبيل رشادة الإنتاج والاستهلاك لتوجّسه من أن يضحى مجتمعاً استهلاكياً لا مجتمعاً منتجاً، موقدًا فيه سياسات توجيه الإنتاج التي تهدف إلى تلبية حاجات المجتمع، لا أن يكون الهدف الأساسي من الإنتاج هو زيادة الأرباح ونماء ثقافة الاستهلاك.
في مئوية المفكّر كمال جنبلاط نتوجّه بدعوة صادقة إلى أهل الشأن في لبنان، إلى العودة لتحليل وفلسفة منظومته الفكرية الجامعة لنواحي الاقتصاد والاجتماع وتحويلها إلى موادٍّ علمية تغتني بها المناهج التعليمية، لما تختزنه من إضافاتٍ جديدة تضاف إلى العِلم.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”كمال جنبلاط
وموضوع التربية والتعلّم والمعرفة
د. رياض سليم
أستاذ في الجامعة اللبنانية   ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

غاية العلم هي معرفة الحقيقة
غاية العلم هي معرفة الحقيقة

ذكرى ميلاد كمال جنبلاط، تعني في قاموسنا ولادة المعرفة والنور، وفي هذه المناسبة نقول:
أشرقت كلماته فرحاً، وتعالت موجات الضياء من روحه سعادة، وسطعت الإشعاعات من فكره نوراً، عندما بدأتْ كلماتي تحفر طريقها في صخور الماضي وأمواج الحاضر وآفاق المستقبل. وكأنّي به اليوم يقول: لا يزال فكري يزهر عطاءً، ويموج بيادر خيرٍ، ويعطي ثمرات وعيٍ ومعرفة، مع تلميذ ٍ من تلامذتي، بعد مئة عام على ولادتي.

كم أتمنّى، مع المفكرين والعارفين، أن أحصل على هذه النعمة، وأن تلامس كلماتي بعض إشعاعات فكره العظيم، وأن يسكب حبري الجاف بعضاً من وحيه وهدايته. إشعاعات نور شمسه الجوهرية في محيط فكره الهادر، هي المرجع والمصدر والمنارة، ولستُ في محاولتي هذه سوى قَبَس من نوره، وهو القائل: ومَن ذا الذي يزعم أن شعلة النور تضيق بمَن يعطيها نوراً، بمن يعطيها قَبَسأ يزيد في أنها شعلة.
نغرف من ثروة فكره وتراثه، لنعطي ونبحث ونكتب، لكي نهتدي ونهدي أجيالنا إلى مرجعية كمال جنبلاط، في زمن عزّت فيه المرجعية، وضاعت أو تكاد معالم حضارة شرقية أصيلة، غرف منها المعلّم حتى الارتواء. رسالتنا الاستمرار في الكتابة بحروف نافرة على وجه الزمن، طالما رسالة المعرفة والعارفين: إنّه حبة القمح نغرسها في عقولنا ونفوسنا لتنبت سبع سنبلات ملأى.
الثروة التي تركها لنا كمال جنبلاط كبيرة وثمينة ومتنوعة، في مختلف المجالات والميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعرفية والصوفية. ومن الصعب، لا بل المستحيل، أن نتحدّث عنها كلها، لذا سيقتصر حديثنا عن بعض الجوانب العلمية والتربوية عند المعلّم. وخير ما يعبّر عن ذلك كمال جنبلاط نفسه في كتبه ومؤلفاته، وخاصة في الوثيقة المكتوبة بخط يده تحت عنوان: التربية والتعلّم والمعرفة، وممّا جاء فيها: “التربية إنما تعني في نظرنا تفاعل نهجين تربويين: – أحدهما يهدف إلى صقل العقل وتنظيمه وشحنه بالمعلومات اللازمة. في هذا الحقل تنظيم العقل وتدريبه وتفتحه وصهره في اتجاه الانتظام والقَيم هو أهمّ من تعبئته بما يرد في كتب العلم والأدب والفلسفة والتاريخ. – والثاني : يقصد تهذيب العاطفة والتصرّف… والإنسان لا يكتمل – وقلة هم الذين ينعمون طبعاً بهذا الاكتمال – أو بالحري لا يتجه المرء نحو الاكتمال إلاّ إذا وقع الانسجام الباطني والظاهري بين العقل والقلب. إذ أنه لا يستطيع أحد أن يرتفع في سلّم الإنسانية، ولا أن يتحقق في معراج المعرفة الحقيقية وتكوين الفردية الزاخرة بالنشاط وبالاستيعاب وبالقوة وبالحكمة إلا إذا حصل هذا التوافق الأصيل بين عقلانية الفكر وتسلسل عقده وقلاداته وبين اندفاع العاطفة وتوقها وشوقها الملهف نحو الحق والخير والجمال”. (صورة الوثيقة وغيرها من الوثائق موجودة في كتابي: التقاطع المعرفي بين ميخائيل نعيمه وكمال جنبلاط، ص 45).
هذه الوثيقة من أدبيات كمال جنبلاط، وهناك وثائق أخرى ومن بينها وثيقة عن “قضايا التربية والثقافة”. عندما يقول قضايا ومفردها قضية يعني هناك مشكلة بحاجة للحل، لأن، وحسب التعريف العلمي، “القضية بين خصمين، الأمر له أو عليه، وأوجبه وألزمه به. قول القضية يصح أن يقال لقائله إنه صادق فيه أو كاذب، الذي يقبل به أهل العلم من القضايا أو المقدمات التي لا تتطلب برهاناً خاصاً”. التعريف يطرح أسئلة تستحق البحث: من هما الخصمان؟ ومن الذي ألزمنا بمنهجية الثقافة والتربية السائدة عندنا؟ هل هو قول صادق أم لا؟ هل القضية لا تتطلب برهاناً خاصاً ليقبل به أهل العلم؟”. هذه الأسئلة وغيرها، وإعلان كمال جنبلاط، في وثيقته، عن وجود قضية لا بل قضايا، يدفعنا للبحث في التربية والثقافة والتعلّم. تعتمد التربية في مرحلة ما قبل سن الرشد (قاعدة الشخصية الأساسية)، لكن عملية التربية دائمة ومستمرة مدى الحياة. قبل سن الرشد المعلّم هو الراشد، أو الأب والأم أو المدرّس في المدرسة، وبعدها الإنسان تلميذ دائم في مدرسة الحياة، حسب مفهوم كمال جنبلاط. التربية والتعليم يسمّيها التربية والتعلّم، لأنّ في التعلّم ما يفوق ويوحي بأكثر من الإسقاط أو ارتهان الصغار من قبل الكبار.

كمال جنبلاط ليس فقط معلم التربية والتعلّم والمعرفة، إنما أيضاً هو معلم الحكمة الرفيعة العالية، كما يقول عنه المستشرق الفرنسي جاك كولون، وكما يقول جنبلاط نفسه “غاية العلم هي معرفة الحقيقة، معرفة الحقيقة الأخيرة للوجود”، إذا تجاوزنا العلم الظاهري ومبتكراته إلى العلم على أنه وليد العقل واستنباط شرائعه ويطلب وحدة الجوهر. وهنا يظهر التمييز بين العلم والمعرفة الحقيقية من خلال طرح جنبلاط “إننا وصلنا إلى ما يسمى “عصر الآلة‘، الآلة التي كان الهدف منها خدمة الإنسان، أي أنها وسيلة والإنسان غاية. لكن في غياب المعرفة الحقيقية والتقهقر في المجال الروحي، أصبحت القاعدة معكوسة، أي الإنسان وسيلة والآلة غاية”.
على العلم أن يتوجّه إلى الإنسان وتحقيق إنسانيته، لأنه، حسب مرجعيتنا، “إذا اقتصر على الوجه التطبيقي فقط يكون خطراً على الإنسان وعلى الجماعة وعلى الحضارة.. وهذا العلم السطحي الخاطىء شرّ من الجهل”. لقد أدرك غاية العلم الأساسية والمعرفة الحقيقية، حيث يقول: “أن نكتشف أي أن نعرف الأصل الذي منه تتفرّع سائر الأغصان والمصدر الذي تعود إليه ومنه تنبثق جميع الأسباب والعلل والمصادر.. العلم يطلب وحدة الجوهر، ويسلك إلى ذلك معارج علوم المادة، ولكن أي جوهر مادي هذا الذي يتبخّر أمامنا ويصبح طاقة لطيفة”.

هذا الحديث المختصر في موضوع التربية والتعلّم والمعرفة يؤكد لنا مرجعية كمال جنبلاط ومعرفته الحقيقية، علّنا نجد طاقة نور تنير أيامنا وتعرُّجاتنا الحاضرة والمستقبلية.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”خلوة الشاوي
وحي وإلهام – تصوف ويوغا
صبحي الدبيسي  ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

قد تكون الرحلات المتكررة التي قام بها المعلم كمال جنبلاط إلى الهند، وإعجابه بقدرة المهاتما غاندي على الجمع بين واقعية رجل السياسة المحنك ومثالية المفكر الديني الزاهد. وأسلوب المعلم سري أتمانندا بمقاربته لتفسير سر الوجود بمنطق وحكمة مبسطة. وتقديره مشاركة المثقفين الهنود إلى جانب العمّال والمستخدمين في القطاعات التي يعملون بها بموجب المرسوم الذي أصدره رئيس الوزراء جلال نهرو بعدم تسليم شهادة التخرّج للذين ينهون دراستهم الثانوية إلا بعد عام من العمل التطبيقي في الريف. كانت هي الدافع لاختياره منطقة الشاوي الجبلية الكائنة ضمن خراج بلدة مرستي في أعالي الشوف كي يشيّد فيها صومعته، أو خلوته الشهيرة التي عرفت فيما بعد بـ “خلوة الشاوي” في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي. في وقت لم تكن الطريق المعبدة قد وصلت بعد إلى تلك المحلة، ولا إلى القرى المجاورة لها. فقد كان عليه في بداية الأمر أن يمضي ساعتين من الوقت سيراً على الأقدام كي يصل إلى خلوته مصطحباً معه مرافقه الخاص لمساعدته في حمل ما يحتاجه من أمتعة ومستلزمات المدة التي سيمضيها في أحضان الطبيعة، وما تتطلبه من غذاء وكساء وكتب وملفات. من دون أن ينسى قنينة الكاز لإضاءة قنديل النمرة أربعة رفيق سهره وقراءاته وأبحاثه التي لا تنتهي.
المشوار الى الشاوي كان يبدأه المعلم كل نهار خميس عصراً، بعيد وصوله الى المختارة. وكان عليه أن يقطع المسافة من المختارة إلى مرستي سيراً على الأقدام. وفي منتصف الخمسينيات وبعد تعبيد الطريق إلى بعذران أصبحت السيارة تقله من المختارة مروراً بـ عين قني وعماطور فبعذران وصولاً إلى الخريبة، فيترجّل منها هناك ويأمر سائقه بالعودة الى حيث أتى، على أن يوافيه إلى الخريبة مساء يوم الجمعة. ثم يقطع المسافة الى خلوته ممارساً بذلك رياضة المشي التي كان يميل إليها في كل تحركاته. وبقي على هذه الحال الى أن وصلت الطريق إلى مرستي في العام 1957. هذه المسافة التي كان على المعلم أن يقطعها بين أحضان الطبيعة وعلى الدروب الجبلية، زادته تعلقاً بالأرض، وتحسساً بتعب الإنسان البسيط العامل في حقله، يكدح ويشقى لتحصيل قوته وقوت عياله، في الزراعة والحراثة، وفي الحصاد وجني الغلال فانجذب إليه بدافع إنساني قل مثيله، جعله المحور ونقطة الدائرة في أدبياته الفكرية والسياسية. فمن رائحة الزعتر والقصعين والنعناع والياسمين، والورد الجوري، وزهر اللوز والوزال والقندول، وأشجار الصنوبر والشربين التي تملأ الطبيعية وتحيط بخلوته وبستانه المغروس بأشجار الكرز، وكل أنواع الفاكهة. هذه الروائح الطيبة والعطرة لونت أيام المعلم ولياليه، ورسمت لمقلتيه الناعستين اللتين تشعّان ذكاء وفطنة حدوداً لها بين السماء والأرض، مستلهماً من قمم الباروك العظمة والمجد، ومن أرزه الخالد العزة والعنفوان. تلك المناظر الخلابة هي التي منحته الصفاء النفسي والهدوء الطبعي والإنساني، بعيداً عن ضجيج السياسة ومتاعبها رغم ميله الشديد لها وتوقه الدائم للتغيير من أجل الإنسان، فجعلته أكثر التصاقاً بها لدرجة أنه لم ينقطع عن المجيء الى الشاوي إلاّ في أوقات الضرورة ولدى وجوده خارج البلاد. هذا التناغم الروحي مع الطبيعة، عرف المعلم كيف يوفق بينه وبين السياسة وانشغالاتها طوال الأسبوع. فشكلت الشاوي وما يحيط بها من جبال وتلال ووهاد، بالنسبة له مادتين للعشق السرمدي اللامتناهي، تمثلت الأولى بحبه للأرض التي شوهد أكثر من مرة يتلمس ترابها موزّعاً قسماً من خيراتها على الفقراء والمعوزين. الثانية: حبه للإنسان الذي خصّ له ثورة في عالمه الملموس والمحسوس رافقته حتى الرمق الأخير. ومن دون شك فإن مواظبة المعلم على الحضور إلى الشاوي كانت لها رمزيتها الفريدة التي يمكن استخلاصها من خلال شغفه في ممارسة هواياته من الرياضات الروحية والفلسفية والفكرية المتعددة في هدأة الطبيعة وسكونها، وهذا الأمر لا يتأمن إلا في مكان هادئ مثل الشاوي. فهي كانت تحرره من كل شيء وتفتح لمخيلته آفاقاً جديدة مكّنته من سبر أغوار فلسفات الشعوب قديمها وجديدها.
لدى وصول المعلم الى الشاوي كان يستريح قليلاً قبل أن يبدأ برياضته الروحية التي كان يصرف جزءاً منها بالتأمل لحل ما كان مستعصياً لديه من ترسبات سياسية ومشاكل اجتماعية. وقبل مغيب الشمس صيفاً كان يخرج الى شرفة الخلوة لتناول وجبة العشاء التي كانت بسيطة جداً. فالمعروف عن المعلم كان يأكل فقط لسّد الرمق، وكان نباتياً من الدرجة الأولى. وفي الخريف والشتاء كان يتناول وجباته داخل خلوته. أما غذاؤه الروحي فهو من المخزون الروحي الذي جمعه من الخواص العلمية والفلسفية التي استنبطها من الأديان السماوية فسهلت عليه، كما يقول الشيوخ العقلاء الذي كان يلتقيهم ويأنس إلى حديثهم الولوج إلى معارج الذات الإلهية. فمن هنا كنا نجد ميله إلى الهدوء والروية وعدم الانفعالية بخلاف غيره من السياسيين الذين أتوا من قبله ومن بعده.
مارس المعلم في الشاوي كل أنواع اليوغا الهندية، فصقلت مخيلته الى حدود الصفاء الذهني والفكري. ملزماً نفسه الصوم طيلة نهار الجمعة. وغالباً ما كان يستقبل وفوداً من الحكماء والفلاسفة والمشايخ الضالعين في العلوم الدينية للتباحث معهم في الماورائيات، ونظرتهم الفلسفية لهذا الوجود.
في تنقلاته بين التلال والآكام وصعوده المستمر إلى أعالي الجبال في ساعات الفجر كان المعلم يجمع كل ما يصادفه في طريقه من النباتات التي تصلح لتكون طعاماً أو دواء يشفي من كل داء. وغالباً ما كان يصفها للناس. في إحدى جلساته إلى المائدة وحوله رهط من العلماء زحفت إلى المكان أفعى من نوع الصل، فارتعب منها كل مَن كان حاضراً، فأمرهم بالهدوء وصار يحدّثها ثم قدّم لها قطعة خبز مدهونة باللبنة فالتهمتها كما يلتهم القط الخبز وعادت من حيث أتت. ما يعني أن علاقة المعلم مع البيئة والطبيعة وما عليها معروفة ومشهود له بها.
في خلوة الشاوي كتب المعلم معظم مقالاته السياسية والفكرية والفلسفية والروحية والشعرية. فكما أن المهاتما غاندي قبل وفاته بيوم واحد رمى بكسرة المرآة التي كان يستعين بها لحلاقة ذقنه. فإن المعلم أنهى كتاب هذه وصيتي بجملته الشهيرة “أللهم أشهد إني قد بلّغت” وغادر الشاوي وذهب إلى قَدَره ولعله يراها من عليائه حيث هو..

خلوة الشاوي في مرستي الشوف حيث كان كمال جنبلاط يقضي فيها أوقاتاً بعيداً عن ضجيج السياسة ومتاعبها
خلوة الشاوي في مرستي الشوف
حيث كان كمال جنبلاط يقضي فيها أوقاتاً بعيداً عن ضجيج السياسة ومتاعبها

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=” اعتذار من كمال جنبلاط، مكتشفاً
من جديد
يقظان التقي ” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

كمال جنبلاط من كبار الكتٌاب، وصولاً إلى التأملات اللاهوتية والمقاربات الفلسفية والأدبية والسياسية النقدية.
لا بدّ من الاعتذار من كمال جنبلاط، لأنه شخصية تحتاج دائماً إلى إعادة القراءة وعلى مستويات مختلفة ومتطوّرة. فهو من الذين يمثلون الاتجاهات النيوكلاسيكية وبالنزعة التقديمية، التي لا تجافي الاتجاهات والمدارس الفكرية والفلسفية على اختلافها، سواء التي سادت في القرن العشرين، أو تلك التي تمثل الاتجاهات المادية والروحية والتاريخية.
مع ذلك، كمال جنبلاط أمامنا، شخصية من الواقع، ويعيش فينا في اتجاهات عدّة، ننتظرها أن تأتي من ستينات القرن الماضي، من عمق التجربة، ومع كلّ التعاطف مع شخصيتة، وهو من الكبار. فهو لبناني وعربي وعالمي، “كوسموبوليتكي”، بقِيم العالمية الإنسانية والاشتراكية، مؤمن بالعمق، وممارس للسياسة بدواعي الحرية والكرامة الإنسانية، وحرية الشخص في المضامين الروحية النبيلة للعملية السياسة.
لم يبتعد عنا كثيراً، تبرز رؤاه ورسائله التي نشرها، وتُقرأ اليوم بكامل نضارتها، مباشرة، من دون إقناع أيديولوجي، أو حزبي، ولا “وعظ”، ولا نرجسية سياسية، ولا تصنُّع، وبردّ فعل من الـتأمل، أو النقد؛ لأنها تمثل الجوانب التي يفترض أن تحتل المساحة الحزبية النقدية والفكرية والفلسفية والسياسية واليسارية. ثم هي ليست مجرد وسائل تعبير، بل أكثر من ذلك، هي تمثل الاتجاهات التي سادت قبل استشهاده وتصنع أكثر من مرحلة، وهو الذي دفع ثمن رؤاه الاستراتيجية على مستوى شخصيته، التزاماته، لمعانه، طروحاته، رسائله، ثقته بالمنطق والعقل لدرجة أنه مارس السياسة أحيانا بطريقة لاهوتية!
كمال جنبلاط يضع أمامنا أفكاراً “كبيرة”، أفكار لا تعقيد فيها، ولا مصطلحات جافة، بل حاضنة للاتجاهات الجديدة، وتشكّل رسائل إلى الجيل الجديد، وتصلح مادة بنيوية وتحليلية تفكّك كليشيات ونظريات أيديولوجية تسقط على الواقع، وتفجّر مراحل سياسية مهمة. وتكتشف إبداعية كمال جنبلاط السياسية التي تأتي من القلب إلى القلب، من جبهة أفكار مفتوحة على كل هذا الجديد وبقدرات فكرية تتفوق على سواها، بعكس كثيرين تشوشت عليهم القضايا الكبرى والمآزق التاريخية، وأوضاع الشعوب المقهورة.
رسم كمال جنبلاط عالمه وعالمنا الفكري والسياسي والثقافي المفتوح، والتقدمي في مجمل نزعاته، ويبدو اليوم أكثر من الأمس مبدعاً في كتاباته، ويحتل تلك المساحة المرموقة ومن كبارها.
عمارة فكرية وإنسانية كبرى، كمال جنبلاط، وكم تبدو ضحلة الحياة السياسية في غيابه، لا تخرج عن الأفقية والاستهلاكية. كأنها ديمقراطية السوق!
وكم تبدو واسعة تلك الآفاق التي فتحها لكلّ النقاشات السياسية، نتلّمس في ظلها الطريق. ويبقى لنتاجه قدرة نادرة على التوغل في الضمير الإنساني.
نحتاج لقراءته، وذلك لا يستقيم إلا بقراءة الماضي ومع ثقافة لا تتوقف ولا تنتهي، ولا تنتجها الذات للذات، في عصر النرجسية السياسية، بل تذهب إلى الآخر.
كمال جنبلاط كان يقرأ كثيراً، ويتحوّل الكتاب بين يديه إلى الكتاب “السحري المشع”، إلى كل ما يصنع مسرح الحياة؛ السهل الممتنع؛ وكل ما فيه من أفكار “كبيرة”. ممتعةٌ قراءة نتاج هذا المثقف الظاهرة التي ما تزال تحتل المساحة النقدية والفكرية والسياسية المهمة، خارج منطق العولمة وهو الذي انفتح على كلّ جديد في المسرح السياسي الحديث، والفكر، والبيئة، والأدب، والشعر الحديث.. وبقي مع ذلك خارج الانخراط، لجهة تكريس ثقافة الاستهلاك والسوق على حساب حرّية الإنسان وكرامته وفي مواجهة عودة الأجوبة الماضوية، التي لا تقدّم أفكاراً جديدة، وخارج محاكاة الآخر.
الرجوع إلى كمال جنبلاط مُلِحّ، سيّما في ظل هذا الفراغ الذي هو كلّ شيء إلا السياسة.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”  كمال جنبلاط
«المفكر الديني»
أ.د.محمّد شيّا
عميد سابق في الجامعة اللبنانية” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

يفتتح ماركس رسالته إلى أنجلز بالتساؤل “لماذا يبدو تاريخ الشرق على الدوام تاريخ أديان فحسب؟” (Basic writings, Collins, p. 462). لماذا يستحيل فهم هذا التاريخ خارج الدين والديني؟ ولماذا أخفقت محاولات إقصاء الدين “بالقوة” من ديناميات الحياة الاجتماعية في البلدان الشرقية والمشرقية؟ بل لماذا تحوّلت مجتمعات البلدان تلك الأكثر إقصاء للدين إلى مسرح صارخ لأكثر صور تظهير المشهد الديني والطائفي بشاعة – أي من النقيض إلى النقيض؟ ومن الأمثلة المعاصرة، بل الراهنة جداً ما يكفي، ولا حاجة لتعدادها.
“الشكوى الماركسية” هي في الواقع نتاج منطقي لكل تفسير مادي للوجود والمجتمع والحياة بعامة. والذين أصرّوا من المحدثين العرب على هذا التفسير حكموا على نتائج تحليلاتهم – وكما أثبتت الوقائع الملموسة – بالإغراق في التجريد واللاواقعية، وبهامشية تأثيرهم من ثمة في محيطهم ومجتمعاتهم. لقد أهمل أولئك جذرية “فكرة” الدين، والتسامي الإلهي في العمق الروحي للبشر وفي كل مجتمع دون استثناء، ولطالما أكّد علماء الأنثربولوجيا أن ما من جماعة بشرية على الإطلاق، ومهما تدنّى حجمها، إلا وكان لها “حياتها” الدينية.
لا يعني ما نقوله أن حياة المجتمعات الشرقية هي حياة دينية فحسب. فأفكار البشر ورؤاهم، حتى الدينية، تتنوع بتنوع ظروف حياتهم وأنماط إنتاجهم وطبيعة حاجاتهم وأشكال مصالحهم وعلاقاتهم بالتالي. وعليه، فمستويات الإنسان (والبشرية بعامة) تتدرج، طبيعياً وتاريخياً، من الأدنى إلى الأعلى: من الاكتفاء بمجرد تلبية الحاجات المادية (مستوى الحواس والمادة والجسد) إلى تلبية الاحتياجات الاجتماعية والمجتمعية (مستوى الآخر والعائلة والجماعة) وأخيراً إلى تلبية ما هو أكثر من المادة والحواس والآخر المباشر (مستوى المعرفة والتفكير والقيم والشوق والحكمة والفضيلة) أي مستوى الروح و/أو العقل، وفق التحديد الهيجلي، وهما مسرح حركة العقل والدين والفلسفة و”الشوق” الأبدي للخلاص البشري.
هذا هو جوهر فلسفة كمال جنبلاط الدينية. كل “الأجزاء” التي عرضنا لها، هي مجرد لحظات متعاقبة في مسيرة العقل/الروح من أدنى تجلياته المادية والحسية (وهي حقيقية تماماً وبخلاف ما ذهب إليه المثاليون) وصولاً إلى أعلى تجلياته العقلية وأشواقه الروحية على طريق انكشاف العقل/الروح لمريديه وباعتباره الآن عقلاً/روحاً خالصاُ وليس أي شيء أقل من ذلك. ودعْكَ من التفاصيل والتناقضات الظاهرة، فهي مجرد مستويات ولحظات وإشارات في طريق الخلاص الذي استشعره الإنسان (في أولى أشكال حياته) ولا يزال يعبّر عنه وفق مستوى حياته وفهمه وتفكيره وصولاً إلى انعتاقه في نهاية رحلته من ربقة المادة (وربقة الشرّ أيضاً) والتحقق في جوهر العقل/الروح كما هو تماماً، وهي لحظة الحقيقة واليقين الكلي والخير المطلق التي ما انفك الإنسان يطلبها ويسعى إليها في حياته وأفكاره وعلومه وأنماط حضارته، كما في أحاسيسه وأشواقه الأكثر عمقاً وأصالة واشتراكاً بين البشر، والمعبّر عنها – في حدود ما يسمح التعبير – بحكمة الفلاسفة الكبار وتقوى المتدينين وعشق العارفين.
والدين في الحقيقة هو كل ذلك وفي آن معاً – وهو ما أدهش عقل ماركس المادي.
يرى جنبلاط أن الدين للإنسان هو حاجة وضرورة، ولذلك فـ “هو باقٍ ما بقي الإنسان”. وذهب جنبلاط بعيداً في ترجمة ذلك، على نحو ملموس، فاعتبر أنّ الدين إسّ جوهري من أسس المجتمع الشرقي، والإنساني بعامة، “اعتبار الدين إسّاً جوهرياً في قيام المجتمع الأسمى”، وأضاف، “والترحيب بعمل رجاله في نشر مبادئ الكمال الإنساني”. تلك هي الوظيفة الحقيقية للدين، ولرجل الدين، ولا شيء كما تبيّن يباري الدين أو يفوقه في الوظيفة تلك. وليس بالأمر العرضي بالتالي أن يدعو كمال جنبلاط في ميثاق حزبه، كما في محاولاته في أثناء تولّيه وزارة التربية، لتعميم التعليم الديني الموحّد في المدارس الخاصة والعامة. فتلك وسيلة لا بدّ منها لتهذيب وترقية مشاعر الناشئة وتعزيز البذرة الإلهية في نفوسهم وعقولهم وشخصياتهم المستقبلية في وجه التسليع الاستهلاكي التجاري الذي باتت عليه نظرة الحضارة الغربية المادية إلى الإنسان. وهو في رأي جنبلاط مكمن عجز الحضارة الغربية كما الفلسفات الغربية بعامة، يقول جنبلاط في نص من ستينات القرن الماضي:
“لقد تحوّل الغرب عن الأديان وأبدل المعتقدات بالفلسفة – فلسفة هيجل وكانت وفيتشه والتومائي وماركس وغيرهم وغيرهم ممن لا يعدّون ولا يحصون، وفلسفة أنبياء القومية والدولية والوجودية والطبقية على السواء – فإذا بالغرب، وبعد جهد المحاولة وتحقيق الرغبة يتطلّع إلى نفسه فيجد ذاته حيث كان: لم يتقدّم خطوة ولم يتأخر خطوة من وجهة حلّ معضلته الأساسية مع ذاته: معضلة المعرفة، ومعضلة السعادة…” (ثورة في عالم الإنسان، 319-320)
لكن جنبلاط بالمقابل، ومن ناحية مختلفة تماماً، كان يدرك تماماً مخاطر انحراف التديّن، ورجل الدين، عن وظيفتيهما الثابتتين الساميتين، نحو وظائف جديدة فرضتها مصالح وعصبيات وتوظيفات جديدة للدين والديني في سياقات فئوية أو عصبية أو أيديولوجية، أي طائفية بالتعبير السوسيولوجي الراهن، أو في لغة جنبلاط:
“الخطر كل الخطر في الدين إذ ينزل إلى مستوى التجمع الطائفي الطقسي، أي في الحقيقة إلى مستوى التعصّب السياسي، فلا يعودُ ديناً بل حزباً!” (321)
ومن المؤسف حقاً – وإلى درجة المأساة – أن يذهب مشروع كمال جنبلاط نفسه، الاجتماعي الإصلاحي الخلاصي وحتى درجة التسامي، ضحية التجييش الطائفي الذي هو أقرب، في الحقيقة، إلى ثقافة الوثنيين وعصبياتهم ومصالحهم المادية والسياسية منه إلى ثقافة الدين، كل دين، في جوهره وفي حضّه البشر للتخلص من أنانياتهم وفئوياتهم ومصالحهم الصغيرة على طريق وحدتهم الجوهرية واشتراكهم في مطلب الخلاص من أخطائهم وخطاياهم وآثامهم – وأولها عبادتهم للأنا فيهم على حساب وحدتهم وخيرهم الواحد وخلاصهم كأفراد وكبشر. تلك هي مأساة الذين لم يفهموا الدعوة المحمدية، أو الدعوة الناصرية، حق المعرفة، أو الذين فهموهما ولكنهم غلّبوا المصالح الفئوية والآنية المفرّقة على ما يجمّع ويوحّد – جوهر دعوتي الرسول العربي ويسوع الناصري في آن، يقول جنبلاط:
“لنصغِ إلى صوت محمّد في لغة العرب الصافية التي تتجلى بالآيات، على حد تعبير ماسينيون، دائماً وأبداً: من كان له فضل ظهر فليعد به من لا ظهر له، ومن يكن له فضل زاد فليعد به من لا زاد له…، ومن كان عنده طعام اثنين فيذهب بثالث، ومن كان عنده طعام ثلاثة فليذهب برابع، بخامس…. أو قوله: ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع، وهو يعلم….. ومن أروع الأحاديث: إن ما لك ما أكلتَ وأفنيت، وما لبست فأبليت، وما تصدّقت فأبقيت، وما دون ذلك فلغيرك” (153).
ويضيف:
“وهذا صوت الناصري من قبل، يوصي بالعدل والرحمة وبالمحبة التي لا تطلب لها ثواباً أو مقابلاً، يرجم أغنياء الأرض الذين تعلّقوا بالمال كما يربطُ المرء حجر الطاحون في عنقه، ولم يقوموا بما يتوجب عليهم في بناء مجتمع العدالة والأخوّة والتضامن والتعاضد والتكافؤ في فرص العيش والتنمية لكل فرد” (153).
في هذا البُعد الاجتماعي السامي تقوم أهمية الدين واختبارته ووظائفه، وفق كمال جنبلاط. وهي تلتقي كذلك في المعراج المعرفي/الخلاصي الأسمى، حيث التوحيد جذر مشترك وجوهر جامع للنصرانية والإسلام، كما لكلّ مسلك عرفاني. في التوحيد الجامع ذاك نختم هذه المقالة في كمال جنبلاط “المفكّر الديني” إذ يقول، وبكثير من التفاؤل:
“الموحّدون من كلّ أمة ومن كلّ دين أخوة في ما بينهم، أمة روحية واحدة مهما اختلفت العقائد والمذاهب وتباينت المسالك وتعدّدت السلالم والمعارج. هذا هو إنجيل الجيل الجديد، وهذا هو روح العالم الجديد” (12).

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

العدد 22