على أطراف الصحراء وفي منطقة الحَرّة شرقي جبل حوران، بُني صَرح معماري فريد في نوعه احتار علماء الآثار والمؤرّخون في تحديد زمن بنائه، إنّه القصر الأبيض أو خربة البيضا.
الرحلة من السويداء إلى القصر(1) ليست عادية، فالمسافة تزيد عن المئة كيلو مت، لكن متعة النظر إلى ما يحاذي الطريق ينسيك تعب الرحلة الطويلة. بعد قرية الرّشيدة باتجاه الشرق تبدأ الأرض تأخذ طابعا مختلفاً، فعلى مدِّ النظر ترى الأرض السهليّة ذات التربة الحمراء مفروشة بالحجارة السوداء، وكأن يد الإنسان وضعتها حجراً حجراً بعضها قرب بعض، حتى أنّك إذا لم تقترب منها بدت لك وكأنها قطعة واحدة. وقد يخدعك السراب الذي يسببه انعكاس نور الشمس على الحجارة الملساء وتخال أنك تشاهد بحراً من المياه أمام ناظريك. يرافق الناظر إلى اليسار في هذه الرحلة وادي الشام العميق الذي تحاذيه ضفّتان صخريتان تحاكيان طبيعة المنطقة البركانية.
في الطريق إلى مقصدنا توقفنا عند بئر الرّصيعي على بعد 36 كم من الرشيدة. البئر واحد من عدة آبار حفرتها وزارة الزراعة لخدمة السكان والمارّين من المنطقة وتقديم المياه النادرة فيها على بعد 8 كيلو مترات أخرى يوجد بئر العَيْثة.
قبل وصولنا إلى سدّ الزّلف، وهو المكان الذي كان مقرراً للاستراحة، وصلنا إلى منطقة النّمارة، الجديرة بزيارة خاصة. يوجد هناك مجموعة من الكتابات والرسومات الصفائية ونبع ماء وبقايا معسكر من العصر الروماني. مررنا قرب سد الزلف فوجدنا أنه ليس أكثر من بركة ماء صغيرة، وقد كاد يجف لقلة الأمطار في السنتين المُنصرمتين، لذلك آثرنا أن نكمل رحلتنا علناً نجد مكانا آخر للاستراحة .
وصلنا بئر الزّلف، على بعد 10 كيلو مترات من السد، وهناك كانت استراحة الغداء. إنّ وجود مثل هذه الآبار في تلك المنطقة الصحراوية القاحلة هو بمثابة عودة الروح لمسافر في تلك الأرض.
تمتاز هذه الآبار بوجود حدائق محيطة بها زُرعت بالأشجار والنباتات وبنيت فيها عدة غرف إحداها فوق البئر لحمايته لقد أخبرنا أحد الزملاء أن البناء الموجود فوق البئر بُني في عهد الوحدة، أي قبل 45 سنة.
لم يبقَ من الطريق الطويلة إلى خربة البيضا – مقصدنا – سوى خمسة كيلو مترات كانت الأصعب في هذه الرحلة حيث كانت الطريق الترابية سيئة للغاية، رغم ذلك تابعنا الرحلة بشغف، وقبل الوصول إلى المكان لاحظنا على يسار الطريق بقايا مشروع ريّ لإرواء الأرض المجاورة بعد استصلاحها وزراعتها بالشعير، لكن يبدو أن المشروع توقّف لعدم جدواه الاقتصادية.
وصلنا أخيرا إلى مزار معروف بالمنطقة بمزار (الشيخ سراقة)، وكان علينا أن نسير على الأقدام لمسافة ألف متر باتجاه الشمال الغربي من المزار حيث بدا لنا القصر الأبيض واضحاً من هناك. تحيط بالمزار أراض سهلية خالية من الحجارة، لكن الجفاف واضح عليها، فهي متشققة تصل الشقوق فيها إلى عمق أكثر من 50 سم، وبالكاد استطعنا المشي عليها. فجأة ونحن نسير باتجاه القصر وصلنا إلى أرض ذات طبيعة مختلفة تماماً؛ إنّها صبة بركانية واحدة مترامية الأطراف، وصلنا أولها ولم ندرِ أين مُنتهاها. هناك على هذه الصبة البركانية بُني القصر الأبيض.
لم يبقَ من هذا البناء الجميل سوى مِدماكين أو ثلاثة من جدرانه الخارجيّة (السور) وجدار لإحدى الغرف من الجهة الغربية (يبدو واضحا أنها بُنيت في زمن لاحق للبناء الأصلي حيث استُخدمت في بنائها زخارف ليست في مكانها) وبقايا سبعة أبراج دائرية الشكل ازدان بها سور القصر من زواياه الأربعة ومن منتصف سورِه في الجهات الجنوبيّة والغربية والشمالية. أمّا الجانب الشرقي فقد كان يحتوي على البوابة الرئيسية للقصر.
الفضول قادني لقياس أبعاد البناء الرئيسي للقصر، فوجدته مربّع الشكل يبلغ طول الضلع فيه 65 خطوة. في الشرق دهشنا بوجود ثلاثة حجارة عليها نقوش جميلة وسرعان ما أدركنا أنّها كانت قطعة واحدة لِحِنْت (عتبة) الباب الرئيسي الذي يبلغ عرضه أربعة أمتار ولم يبقَ منه سوى أرضيّة البوابة التي تظهر فيها الثقوب لتثبيت مصراعي الباب. كما هو الحال في ثقوب متشابهة في الحجارة المتكسّرة الثلاثة والموجودة قرب المدخل، ومؤكّد أنها حِنْت (عتبة) الباب. وإذا جُمِعت قطعه الثلاثة المتكسّرة تكون أبعاده نحو أربعة أمتار عرضاً بارتفاع حوالي 75 سم وعمق 50 سم. ولا شكّ أنه من القطع المعمارية النادرة بهذا الحجم. واجهة الحِنْت مليئة بالزخارف، ولا بدّ أنه كان يرتكز على حجرين متشابهين في الزخرفة على جانبي الباب لا وجود لهما في المكان، وهذا ما لم يمكننا من معرفة ما كان عليه الباب من ارتفاع. ويصف رينيه دوسو تلك الزخارف قبل مئة عام في كتابه «العرب في سوريا قبل الإسلام» فيقول: «باب الدخول مُحاط بنوع من الزينة كثير الانتشار في الشام وخاصة في حوران: أغصان كرم تطل من أوانٍ والجزء الأعلى من أسكفة الباب مزيّن بإفريزين من أوراق نبات شوك العاقول، والجزء الأسفل منها قد زُيِّن بمجموعة من الدوائر المتداخلة بعضها في بعض، وقد ظهر فيها عدد كبير من الحيوانات: طيور مختلفة، خيل، أبقار وحشية، وسبع، وثور ذو سنام، وربّما وُجد بينها الفيل والأسماك أيضا. وبين إفريز أشواك العاقول والدوائر المتداخلة يمتدّ غصن كرم، ويتكرّر النقش نفسه فوق الحوائط العمودية، وقد استُخدم هذا النقش بعد ذلك داخل القلعة»(2).
إذا دخلنا من الباب إلى باحة القصر فإننا سندهش لهذه الباحة التي لم تكن بحاجة إلى تبليط في أكثر أجزائها لأنها قطعة واحدة من صبّة بركانية على مساحة تزيد عن ثلاثة أرباع الباحة. أمّا سور القصر الذي لم تزل الأيدي العابثة تقتلع أحجاره، فيتألّف من طبقتين بعرض أكثر من 100 سم متصلتين بمادة الملاط البيضاء، وقد ظهر ذلك واضحاً في الجزء الشرقي للسور الجنوبي حيث يُظهر البياض الناصع لهذا الجزء من السور أنّ حجارته قد سُرقت حديثاّ، وهنا دعوة للمعنيّين بالأمر أن يحموا هذا الصرح الأثري بما بقي منه، ويمكن أيضاً أن يُرمّم بسهولة كون الكثير من حجارته لا زال مرميًّا على الأرض، ويمكن استخدام الحجارة التي بني فيها بناء حديث إلى الشمال من القصر، حيث استُخدمت في بنائه حجارة من القصر.
مسح أثري وتاريخ البناء
رغم بُعد هذا القصر عن المعمورة بنحو 70 كيلو متراً فقد كان محطّ أنظار معظم علماء الآثار والكثير من الرّحالة. وقد زاره سيريل غراهام عام 1857 وكان أوّل من كتب تقريراً عنه، كما زاره فيتزشتاين والماركيز دي فوغويه، ثم العالم الفرنسي رينيه دوسو، والألماني ماكس فون أوبنهايم. أمّا من الرحالة فقد زاره المصور الألماني هيرمان بورشارت والإنكليزية غيرترود بل وقد التقطت له عدة صور عام 1905. وبقيت خربة البيضا منذ ذلك الحين دون دراسة تُذكر حتى جاء الآثاري الألماني هاينز غاوبة وأعدّ دراسة عن القصر في سبعينيات القرن العشرين.
لا شك أنّ دراسة هاينز غاوبه أكثر أهمية من سابقاتها لاعتماده على ملاحظات من سبقه، ومنهم الفرنسي رينيه دوسو، مكتشف قبر الملك امرئ القيس بن عمرو وقد ذكر أنّه «في العهد الروماني، نشأ في الرّحبة مركز حصين كان على جانب من الأهمية ويطلق العرب على أطلاله قصر الأبيض، أو قلعة البيضاء، لأن جدرانه تميل إلى اللون الرمادي، على أرض من الحجارة البركانية (السوداء) تحيط بالقصر»(3). أمّا غيرترود بل فقد زارت القصر في العام 1905وقد ذكرت أنه بناء روماني مع تأثيرات فارسية وتقول في وصفه: «كانت الخربة على بعد مئة أو مئتي متر داخل البحر البركاني مطلّة على سهل الرّحبة، ويُفترض أنها كانت آخر قاعدة عسكريّة للرومان، أو ربما قبل الرومان. وبدا السّور الخارجي جميلاً جدّاً ومتقن البناء مع أبراج دائريّة على زواياه، وفي منتصف الجدران الجنوبية والغربية والشمالية. ولاحظت بين طبقتي الجدار ما يبدو كأنّه نوع من الملاط. أمّا البوابة الرئيسية في الجانب الشرقي فكانت جوانبها منحوتة ومزينة بطريقة رائعة؛ كرمة وحيوانات ورسومات أخرى وقد صوّرت جميع الأجزاء المكسورة الموجودة في المكان.
والقلعة نفسها أعيد بناء جزء منها في فترات لاحقة من مواد سبق استعمالها في البناء ولكنها بُنيت بصورة سيئة إذ يمكننا رؤية بعض الأفاريز التي بنيت في الجدران في غير مكانها»(4). وإذا كان رأي بِلْ في تاريخ بناء القصر غير دقيق فإنّ ما قام به الألماني غاوبه يُعتبر أكثر دقّة حيث اهتدى إلى الشكل الأساسي للبناء من خلال أساسات الجدران داخل سور القصر أو بالأحرى الجدار الخارجي للبناء، وقد رسم مخطّطاً تفصيليا وإعادة تصوّر لِما كان عليه القصر. بداية، إذ يصف القصر بشكل عام ويحدد «طول كلٍّ من أضلاعه بحوالي ستين متراً، وعرض البوابة بثلاثة أمتار وخمس وثمانين سنتيمتراً تصل ما بين منتصف طرفه الشرقي وساحته الداخلية»(5). أمّا قاعات القصر فتقوم «داخل السور وعلى طول أضلاعه، يبلغ عمقها حوالي 7.6 م ما عدا الضلع الشرقي حيث ينقص عمقها قليلا عن السبعة أمتار. أمّا الشكل الأصلي للبناء فهو واضح لدرجة تمكننا من استخراج تخطيط واضح وأكيد لنظام القاعات. بالإضافة إلى ذلك فإنّ البناء المُستحدث واضح أيضاً، ممَّا يجعل من الممكن تمييز البناء الأصلي من البناء المُستحدث بالنظر إلى التقنية الهندسية المستخدمة في كل منها.
نميّز في البناء المُستحدث مرحلتين معماريتين ترجع أولاها للقرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، وثانيهما للقرن الخامس والسادس عشر. تضمُّ الأولى برجاً في الطرف الجنوبي من البناء والقاعات الواقعة إلى الغرب منه، وتضم المرحلة الأخيرة الأسوار الواقعة في الزاوية الجنوبية الشرقية والضلع الغربي من البناء، كما هو واضح في الرسم باللون الأبيض (البناء الأصلي مُظلّل بالخطوط السوداء)(6).
عن الغرض من بناء القصر «يدلنا نظام البناء على أنّ خربة البيضا استُعملت للسكن لأغراض عسكرية، خلافاً للعديد من الأبنية التي تعود إلى العهد السابق للإسلام المشابهة لها شكلاً وموقعاً، على الحدود الرومانية-البيزنطية. وقد استمرت في تأدية أغراضها السكنيّة حتى بعد إقامة «القصور الصحراوية» العائدة للعصر الأموي.
إلّا أن شكل البناء الفريد غير الموجود في أي بناء آخر يجعل من خربة البيضا مختلفة عن القصور الأموية من أوجه عدة:
- كون البناء مكوّن من طبقة واحدة.
- العمق القليل نسبيّا لقاعاته.
- عدم وجود أروقة محيطة بالباحة، وعدم وجود السقوف المعقودة بالأقباء.
هذه الخواص البارزة توجب استبعاد كون خربة البيضا قد بُنيت في عهد الوليد بن عبد الملك وما بعده «ويضيف «يمكننا الجزم بأنّ أصل البناء لم يكن أمويًّا، ولكن من غير الممكن أيضا أن يكون بانيه غير عربي لأنّ قلة حصانته يجعله خارج نطاق العمارة السورية الرومانية البيزنطية. وعلى ذلك من المرجّح أن يكون بناؤه من الغساسنة، ذلك أن ما نعرفه من أعمالهم العمرانية (الرّصافة، الدير التابع لقصر الحير الغربي، البرج الكائن قرب ضمير والهيّات في حوران) تشير إلى تشابه بينها وبين خربة البيضا… نتبيّن من كل ذلك أنّ خربة البيضا كانت نموذجاً لعمارة سورية سابقة للعهد الإسلامي اقتُدي بها عند بناء القصور الأموية(7).
إنَّ متعة الزيارة لهذا الصرح التاريخي الفريد تجعل المرء يتوق للعودة إليه مرات عديدة، لكن كما ذكرت فإنّ هذا البناء مهدّد بخطر اندثار ما بقي من أطلاله، فكلّما زرناه وجدنا أحجارا مفقودة منه، خصوصاً في سوره الجنوبي… أحد الأصدقاء علّق مازحاً أنّه بحماية مزار (الشيخ سراقة) فأجبته: «إنّ بناء (الشيخ سراقة) أصلاً قد جُلبت حجارته من القصر، فهل هذا هو ثمن الحماية؟!».
المراجع
- رحلة لجنة الآثار في جمعية العاديّات – فرع السويداء في 6/4/2007.
- دوسو،رينيه،العرب في سوريا قبل الإسلام، دار الحداثة ط أ، ص31.
- دوسو، المرجع السابق نفسه ص 28.
- الشوفاني، كمال،مذكرات غيرترودبل في جبل الدروز،.دار العوّام، ط أ، دمشق 2008.
- غاوبه، هاينز، قلعة البيضا أو القصر الأبيض، دراسة موجزة، الحوليات الأثرية العربية السورية، المجلد الرابع والعشرون 1974، ص 31.
- غاوبه، المرجع نفسه ص 102.
- غاوبه، المرجع نفسه.ص 105.