الخميس, آذار 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, آذار 28, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

القصرُ الأبيض

على أطراف الصحراء وفي منطقة الحَرّة شرقي جبل حوران، بُني صَرح معماري فريد في نوعه احتار علماء الآثار والمؤرّخون في تحديد زمن بنائه، إنّه القصر الأبيض أو خربة البيضا.

الرحلة من السويداء إلى القصر(1) ليست عادية، فالمسافة تزيد عن المئة كيلو مت، لكن متعة النظر إلى ما يحاذي الطريق ينسيك تعب الرحلة الطويلة. بعد قرية الرّشيدة باتجاه الشرق تبدأ الأرض تأخذ طابعا مختلفاً، فعلى مدِّ النظر ترى الأرض السهليّة ذات التربة الحمراء مفروشة بالحجارة السوداء، وكأن يد الإنسان وضعتها حجراً حجراً بعضها قرب بعض، حتى أنّك إذا لم تقترب منها بدت لك وكأنها قطعة واحدة. وقد يخدعك السراب الذي يسببه انعكاس نور الشمس على الحجارة الملساء وتخال أنك تشاهد بحراً من المياه أمام ناظريك. يرافق الناظر إلى اليسار في هذه الرحلة وادي الشام العميق الذي تحاذيه ضفّتان صخريتان تحاكيان طبيعة المنطقة البركانية.

في الطريق إلى مقصدنا توقفنا عند بئر الرّصيعي على بعد 36 كم من الرشيدة. البئر واحد من عدة آبار حفرتها وزارة الزراعة لخدمة السكان والمارّين من المنطقة وتقديم المياه النادرة فيها على بعد 8 كيلو مترات أخرى يوجد بئر العَيْثة.

قبل وصولنا إلى سدّ الزّلف، وهو المكان الذي كان مقرراً للاستراحة، وصلنا إلى منطقة النّمارة، الجديرة بزيارة خاصة. يوجد هناك مجموعة من الكتابات والرسومات الصفائية ونبع ماء وبقايا معسكر من العصر الروماني. مررنا قرب سد الزلف فوجدنا أنه ليس أكثر من بركة ماء صغيرة، وقد كاد يجف لقلة الأمطار في السنتين المُنصرمتين، لذلك آثرنا أن نكمل رحلتنا علناً نجد مكانا آخر للاستراحة .

وصلنا بئر الزّلف، على بعد 10 كيلو مترات من السد، وهناك كانت استراحة الغداء. إنّ وجود مثل هذه الآبار في تلك المنطقة الصحراوية القاحلة هو بمثابة عودة الروح لمسافر في تلك الأرض.

تمتاز هذه الآبار بوجود حدائق محيطة بها زُرعت بالأشجار والنباتات وبنيت فيها عدة غرف إحداها فوق البئر لحمايته لقد أخبرنا أحد الزملاء أن البناء الموجود فوق البئر بُني في عهد الوحدة، أي قبل 45 سنة.

لم يبقَ من الطريق الطويلة إلى خربة البيضا – مقصدنا – سوى خمسة كيلو مترات كانت الأصعب في هذه الرحلة حيث كانت الطريق الترابية سيئة للغاية، رغم ذلك تابعنا الرحلة بشغف، وقبل الوصول إلى المكان لاحظنا على يسار الطريق بقايا مشروع ريّ لإرواء الأرض المجاورة بعد استصلاحها وزراعتها بالشعير، لكن يبدو أن المشروع توقّف لعدم جدواه الاقتصادية.

وصلنا أخيرا إلى مزار معروف بالمنطقة بمزار (الشيخ سراقة)، وكان علينا أن نسير على الأقدام لمسافة ألف متر باتجاه الشمال الغربي من المزار حيث بدا لنا القصر الأبيض واضحاً من هناك. تحيط بالمزار أراض سهلية خالية من الحجارة، لكن الجفاف واضح عليها، فهي متشققة تصل الشقوق فيها إلى عمق أكثر من 50 سم، وبالكاد استطعنا المشي عليها. فجأة ونحن نسير باتجاه القصر وصلنا إلى أرض ذات طبيعة مختلفة تماماً؛ إنّها صبة بركانية واحدة مترامية الأطراف، وصلنا أولها ولم ندرِ أين مُنتهاها. هناك على هذه الصبة البركانية بُني القصر الأبيض.

لم يبقَ من هذا البناء الجميل سوى مِدماكين أو ثلاثة من جدرانه الخارجيّة (السور) وجدار لإحدى الغرف من الجهة الغربية (يبدو واضحا أنها بُنيت في زمن لاحق للبناء الأصلي حيث استُخدمت في بنائها زخارف ليست في مكانها) وبقايا سبعة أبراج دائرية الشكل ازدان بها سور القصر من زواياه الأربعة ومن منتصف سورِه في الجهات الجنوبيّة والغربية والشمالية. أمّا الجانب الشرقي فقد كان يحتوي على البوابة الرئيسية للقصر.

الجدار الغربي للبناء المحدث (يلاحظ الحجارة المزخرفة المستخدمة في غير مكانها الأصلي) عام 2007.

الفضول قادني لقياس أبعاد البناء الرئيسي للقصر، فوجدته مربّع الشكل يبلغ طول الضلع فيه 65 خطوة. في الشرق دهشنا بوجود ثلاثة حجارة عليها نقوش جميلة وسرعان ما أدركنا أنّها كانت قطعة واحدة لِحِنْت (عتبة) الباب الرئيسي الذي يبلغ عرضه أربعة أمتار ولم يبقَ منه سوى أرضيّة البوابة التي تظهر فيها الثقوب لتثبيت مصراعي الباب. كما هو الحال في ثقوب متشابهة في الحجارة المتكسّرة الثلاثة والموجودة قرب المدخل، ومؤكّد أنها حِنْت (عتبة) الباب. وإذا جُمِعت قطعه الثلاثة المتكسّرة تكون أبعاده نحو أربعة أمتار عرضاً بارتفاع حوالي 75 سم وعمق 50 سم. ولا شكّ أنه من القطع المعمارية النادرة بهذا الحجم. واجهة الحِنْت مليئة بالزخارف، ولا بدّ أنه كان يرتكز على حجرين متشابهين في الزخرفة على جانبي الباب لا وجود لهما في المكان، وهذا ما لم يمكننا من معرفة ما كان عليه الباب من ارتفاع. ويصف رينيه دوسو تلك الزخارف قبل مئة عام في كتابه «العرب في سوريا قبل الإسلام» فيقول: «باب الدخول مُحاط بنوع من الزينة كثير الانتشار في الشام وخاصة في حوران: أغصان كرم تطل من أوانٍ والجزء الأعلى من أسكفة الباب مزيّن بإفريزين من أوراق نبات شوك العاقول، والجزء الأسفل منها قد زُيِّن بمجموعة من الدوائر المتداخلة بعضها في بعض، وقد ظهر فيها عدد كبير من الحيوانات: طيور مختلفة، خيل، أبقار وحشية، وسبع، وثور ذو سنام، وربّما وُجد بينها الفيل والأسماك أيضا. وبين إفريز أشواك العاقول والدوائر المتداخلة يمتدّ غصن كرم، ويتكرّر النقش نفسه فوق الحوائط العمودية، وقد استُخدم هذا النقش بعد ذلك داخل القلعة»(2).

إذا دخلنا من الباب إلى باحة القصر فإننا سندهش لهذه الباحة التي لم تكن بحاجة إلى تبليط في أكثر أجزائها لأنها قطعة واحدة من صبّة بركانية على مساحة تزيد عن ثلاثة أرباع الباحة. أمّا سور القصر الذي لم تزل الأيدي العابثة تقتلع أحجاره، فيتألّف من طبقتين بعرض أكثر من 100 سم متصلتين بمادة الملاط البيضاء، وقد ظهر ذلك واضحاً في الجزء الشرقي للسور الجنوبي حيث يُظهر البياض الناصع لهذا الجزء من السور أنّ حجارته قد سُرقت حديثاّ، وهنا دعوة للمعنيّين بالأمر أن يحموا هذا الصرح الأثري بما بقي منه، ويمكن أيضاً أن يُرمّم بسهولة كون الكثير من حجارته لا زال مرميًّا على الأرض، ويمكن استخدام الحجارة التي بني فيها بناء حديث إلى الشمال من القصر، حيث استُخدمت في بنائه حجارة  من القصر.

مسح أثري وتاريخ البناء

رغم بُعد هذا القصر عن المعمورة بنحو 70 كيلو متراً فقد كان محطّ أنظار معظم علماء الآثار والكثير من الرّحالة. وقد زاره سيريل غراهام عام 1857 وكان أوّل من كتب تقريراً عنه، كما زاره فيتزشتاين والماركيز دي فوغويه، ثم العالم الفرنسي رينيه دوسو، والألماني ماكس فون أوبنهايم. أمّا من الرحالة فقد زاره المصور الألماني هيرمان بورشارت والإنكليزية غيرترود بل وقد التقطت له عدة صور عام 1905. وبقيت خربة البيضا منذ ذلك الحين دون دراسة تُذكر حتى جاء الآثاري الألماني هاينز غاوبة وأعدّ دراسة عن القصر في سبعينيات القرن العشرين.

لا شك أنّ دراسة هاينز غاوبه أكثر أهمية من سابقاتها لاعتماده على ملاحظات من سبقه، ومنهم الفرنسي رينيه دوسو، مكتشف قبر الملك امرئ القيس بن عمرو وقد ذكر أنّه «في العهد الروماني، نشأ في الرّحبة مركز حصين كان على جانب من الأهمية ويطلق العرب على أطلاله قصر الأبيض، أو قلعة البيضاء، لأن جدرانه تميل إلى اللون الرمادي، على أرض من الحجارة البركانية (السوداء) تحيط بالقصر»(3). أمّا غيرترود بل فقد زارت القصر في العام 1905وقد ذكرت أنه بناء روماني مع تأثيرات فارسية وتقول في وصفه: «كانت الخربة على بعد مئة أو مئتي متر داخل البحر البركاني مطلّة على سهل الرّحبة، ويُفترض أنها كانت آخر قاعدة عسكريّة للرومان، أو ربما قبل الرومان. وبدا السّور الخارجي جميلاً جدّاً ومتقن البناء مع أبراج دائريّة على زواياه، وفي منتصف الجدران الجنوبية والغربية والشمالية. ولاحظت بين طبقتي الجدار ما يبدو كأنّه نوع من الملاط. أمّا البوابة الرئيسية في الجانب الشرقي فكانت جوانبها منحوتة ومزينة بطريقة رائعة؛ كرمة وحيوانات ورسومات أخرى وقد صوّرت جميع الأجزاء المكسورة الموجودة في المكان.

والقلعة نفسها أعيد بناء جزء منها في فترات لاحقة من مواد سبق استعمالها في البناء ولكنها بُنيت بصورة سيئة إذ يمكننا رؤية بعض الأفاريز التي بنيت في الجدران في غير مكانها»(4). وإذا كان رأي بِلْ في تاريخ بناء القصر غير دقيق فإنّ ما قام به الألماني غاوبه يُعتبر أكثر دقّة حيث اهتدى إلى الشكل الأساسي للبناء من خلال أساسات الجدران داخل سور القصر أو بالأحرى الجدار الخارجي للبناء، وقد رسم مخطّطاً تفصيليا وإعادة تصوّر لِما كان عليه القصر. بداية، إذ يصف القصر بشكل عام ويحدد «طول كلٍّ من أضلاعه بحوالي ستين متراً، وعرض البوابة بثلاثة أمتار وخمس وثمانين سنتيمتراً تصل ما بين منتصف طرفه الشرقي وساحته الداخلية»(5). أمّا قاعات القصر فتقوم «داخل السور وعلى طول أضلاعه، يبلغ عمقها حوالي 7.6 م ما عدا الضلع الشرقي حيث ينقص عمقها قليلا عن السبعة أمتار. أمّا الشكل الأصلي للبناء فهو واضح لدرجة تمكننا من استخراج تخطيط واضح وأكيد لنظام القاعات. بالإضافة إلى ذلك فإنّ البناء المُستحدث واضح أيضاً، ممَّا يجعل من الممكن تمييز البناء الأصلي من البناء المُستحدث بالنظر إلى التقنية الهندسية المستخدمة في كل منها.

نميّز في البناء المُستحدث مرحلتين معماريتين ترجع أولاها للقرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي، وثانيهما للقرن الخامس والسادس عشر. تضمُّ الأولى برجاً في الطرف الجنوبي من البناء والقاعات الواقعة إلى الغرب منه، وتضم المرحلة الأخيرة الأسوار الواقعة في الزاوية الجنوبية الشرقية والضلع الغربي من البناء، كما هو واضح في الرسم باللون الأبيض (البناء الأصلي مُظلّل بالخطوط السوداء)(6).

عن الغرض من بناء القصر «يدلنا نظام البناء على أنّ خربة البيضا استُعملت للسكن لأغراض عسكرية، خلافاً للعديد من الأبنية التي تعود إلى العهد السابق للإسلام المشابهة لها شكلاً وموقعاً، على الحدود الرومانية-البيزنطية. وقد استمرت في تأدية أغراضها السكنيّة حتى بعد إقامة «القصور الصحراوية» العائدة للعصر الأموي.

إلّا أن شكل البناء الفريد غير الموجود في أي بناء آخر يجعل من خربة البيضا مختلفة عن القصور الأموية من أوجه عدة:

  1. كون البناء مكوّن من طبقة واحدة.
  2. العمق القليل نسبيّا لقاعاته.
  3. عدم وجود أروقة محيطة بالباحة، وعدم وجود السقوف المعقودة بالأقباء.

هذه الخواص البارزة توجب استبعاد كون خربة البيضا قد بُنيت في عهد الوليد بن عبد الملك وما بعده «ويضيف «يمكننا الجزم بأنّ أصل البناء لم يكن أمويًّا، ولكن من غير الممكن أيضا أن يكون بانيه غير عربي لأنّ قلة حصانته يجعله خارج نطاق العمارة السورية الرومانية البيزنطية. وعلى ذلك من المرجّح أن يكون بناؤه من الغساسنة، ذلك أن ما نعرفه من أعمالهم العمرانية (الرّصافة، الدير التابع لقصر الحير الغربي، البرج الكائن قرب ضمير والهيّات في حوران) تشير إلى تشابه بينها وبين خربة البيضا… نتبيّن من كل ذلك أنّ خربة البيضا كانت نموذجاً لعمارة سورية سابقة للعهد الإسلامي اقتُدي بها عند بناء القصور الأموية(7).

إنَّ متعة الزيارة لهذا الصرح التاريخي الفريد تجعل المرء يتوق للعودة إليه مرات عديدة، لكن كما ذكرت فإنّ هذا البناء مهدّد بخطر اندثار ما بقي من أطلاله، فكلّما زرناه وجدنا أحجارا مفقودة منه، خصوصاً في سوره الجنوبي… أحد الأصدقاء علّق مازحاً أنّه بحماية مزار (الشيخ سراقة) فأجبته: «إنّ بناء (الشيخ سراقة) أصلاً قد جُلبت حجارته من القصر، فهل هذا هو ثمن الحماية؟!».


المراجع
  1. رحلة لجنة الآثار في جمعية العاديّات – فرع السويداء في 6/4/2007.
  2. دوسو،رينيه،العرب في سوريا قبل الإسلام، دار الحداثة ط أ، ص31.
  3. دوسو، المرجع السابق نفسه ص 28.
  4. الشوفاني، كمال،مذكرات غيرترودبل في جبل الدروز،.دار العوّام، ط أ، دمشق 2008.
  5. غاوبه، هاينز، قلعة البيضا أو القصر الأبيض، دراسة موجزة، الحوليات الأثرية العربية السورية، المجلد الرابع والعشرون 1974، ص 31.
  6. غاوبه، المرجع نفسه ص 102.
  7. غاوبه، المرجع نفسه.ص 105.

فاجعة ظهر البيدر

حطّت بنا الطائرة القادمة من الرّياض في مطار دمشق، لأنّ مطار بيروت كان قد توقّف عن العمل بعد اجتياح العدوّ الصّهيوني في 5 حزيران عام1982. ركبت في تاكسي Volvo، باتجاه بيتي في رأس المتن – لبنان. وبقيت الأمور عاديّة حتى اقتربنا من الحدود، بعدها صرنا نسير على بساط ثلجي عادي حتى وصلنا شتورة.

كان الشاب السوري السائق لطيفاً معي، فتوقّف في استراحة حيث أكلنا وشربنا. ونحن نصعد سيارة الـ Volvo، توقّف بجانبنا سائق تاكسي لبناني يقود سيارة مرسيدس 180 وقال: «بدأت الطريق في ظهر البيدر مستحيلة على السيارات غير المجهزة بالسلاسل المعدنية… بصعوبة وصلنا.أنا ذاهب إلى الشام… فلنكسب الوقت ونتبادل الركاب». رد الشابّ: «الأخ رفيق مكارم مسؤوليّتي… كما يقرّر هو، يذهب معك، ينام في فندق هنا، أو يعود معي لدمشق». وكان عبد الحليم، صاحب التاكسي اللبناني مُقنعاً بكلامه وصراخه، فأقنعني وسلكنا إلى ظهر البيدر، على أمل الوصول إلى رأس المتن. لكن هدوء السائق السوري عوّضه عبد الحليم بصراخه وأخباره ومسجلته العتيقة الأغاني… كان يبتسم ويقطع الكلام عندما افتح النافذة وأجلب الثلج عن الزجاج، حتى وصلنا ظهر البيدر بصعوبة. آخر «طلوعات ظهر البيدر» كان هناك حاجز للجيش السوري (مكان حاجز الدرك اليوم)، لا وجود للعسكر اللبنانيين يومذاك إلاّ في بيروت الغربية حيث قوات المارينز الأميركيين وقوات متعددة الجنسيات.

ما أن وصلنا الحاجز حتى تباطأ سير السيارات وزادت سماكة الثلج، ورأيت جدراناً بيضاء خلّفتها الجرافة خلفها. وعندما فتح عبد الحليم نافذته عرفنا مدى اشتداد العاصفة. وبطريقته البيروتية، سأل عبد الحليم العسكري على الحاجز: ماذا يحصل؟ أفاده الجندي، أنتم تسيرون خلف الجرافة وهي بطيئة، والعاصفة اشتدت وتتراكم الثلوج بسرعة، عودوا إلى شتورة أفضل. لكنّنا أكملنا حتى توقفت الجرافة. لا نعرف لماذا، وتوقف السير. انتظرنا دون جدوى، ثمّ خرجنا من السيارات لنكتشف أنّنا في الجحيم.

كنّا بصعوبة نتنفّس، ابْيَضَّ شارباي من تراكم الثلج، وتجمّد، رذاذ الثلج كالملح في العيون، والرؤية لا تتعدى المتر الواحد. تمسكت بشاحنة متوقِّفة، كانت العاصفة تسحبني بقوّة فلم أستطع.

بصعوبة أدرنا السيارة باتجاه شتورة لنعود، وكلّمنا الشباب على الأرض ليتبعونا… صعُب عليهم برم السيارات بالاتّجاه المعاكس لسيارتنا المجنزرة

أكملنا… وأمامنا سيارتان فقط… وقبل أن تنعدم الرؤية شاهدت السيارات باتجاه حمّانا إلى مسافة بعيدة خلف الجرافة… كنّا على وشك الخلاص لولا أنّ سيارة جيب تجاوزتنا بسرعة، فجأة توقفنا، وإذا بالجيب المدني ينقلب في عرض الطريق (وصاحبه نجيب من ظهور الشوير). حاولنا مع الشباب إعادته، لكن العاصفة كادت تحملنا ولا قوّة لدينا من شدة البرد، فعدنا إلى السيّارات، وإلى الشوفاج ليخفّف عنّا حدّة البرد. سلّمنا أمرنا لله، لأنّ الثلج، وبسرعة البرق، وخلال دقائق، كان يعلو ويعلو دون توقّف. حاولت فتح الباب عند المساء فلم يفتح، ونصحني عبد الحليم ألَّا أحاول الخروج إلى المجهول لأنّنا لا نعرف أين نحن، وقد ضاعت المعالم بانعدام الرّؤية وسرعة العاصفة وصفيرها، وهذا الملح إنَّه الموت والجحيم في الخارج.

كان الدعاء السبيل الوحيد لي ولعبد الحليم… بعد ما غطى الثلج باب السيارة حتى الزجاج. وبكى العجوز عبد الحليم لمّا أخبرته أنّي قادم لأرى أبي وهو على شفير الموت، وأني طُرِدت من عملي لأجل هذا، وقد توسّطت حتى وجدت مقعداً لي في الطائرة. قال: من اتّكل على الله حق الاتكال فهو حسبه.

كان الثلج يلتصق كالقطن بالزجاج، وكلما أطفأ السائق محرّك السيارة ليوفّر البنزين لأجل الشوفاج كنت أفتحه قليلاً فأسمع الصّفير ولا أحسّ بشيء من الدفء.
فجأة ضرب شيءٌ ما بقوة على الزّجاج. فتحته قليلاً، فإذا الطارق «أخمص كلاشنكوف بيد جندي سوري!». قال وهو يهتزّ من برد وعنف العاصفة: اخرجوا كي لا تموتوا في السيارة. قلت أنا: «إلى أين؟» قال إلى المركز قريب من هنا… هيّا… لا وقت لدينا… ستُطمَرُ السيارات بالثلج قريباً… يلْلَا… وأمرني: افتح الشباك لنسحبك… سحبوني، وبقي عبد الحليم ينتظر الفرج. اقولها للأمانة وللتاريخ، إنّ ركّاباً كُثُر في أكثر من مئة سيارة رفضوا الخروج مع الجيش العربي السوري إلى برِّ الأمان، وخصوصاً ممّن كانوا يصطحبون معهم النساء!

وصلت المركز، وتعرّفت على أشرف إنسان، الضابط رياض من حلب. شكي لي سوء العاصفة وسوء هذا الشّعب اللبناني العنيد. بعد أكثر من ساعة كان الشبح الأبيض يغزو الأرض بسرعة… إلى جانب (الصوبيا) جلس الضابط رياض خلف طاولة يخابر قادته، ومعه جنديّان، لم يلبث أن أمرهما بالخروج إلى السيّارات ليعملا على سحب العالقين من جديد، ولمّا عادا، قالا: «تكاد تتغطى السيارات الصّغيرة… وتختنق الناس». وقف الضابط مستنفَراً، وقال: «خذوا الشباب وجيبوهم بالقوّة…». ولما خرجوا وهو بحالة جنون، وبدا أنّ عنده خبرة بهذا المجال، قال لي: «الحريم الغائبات عن الوعي أنت دلّكهنّ ليوعوا.. ما بسلّمهن للعسكر…». وبدأوا يسحبون العالقين في السيارات، وُضِعت النّساء في الطابق الأرضي والرجال إلى الطابق السفلي، ما عدا السفير الياباني وكان قد فارق الحياة، فقال شوفوه ولكنّه كان قد مات رافضاً المجيء، وجاء سائقه الأرمني مع العسكر…

بعضهم لم يحضروا، سيدة واحدة كانت بوعيها، وأخريات كُنَّ على حافّة الموت بحيث يغفو الشخص المتجلّد ويموت بهدوء… وأحضروا بين من أحضروا رجلاً ميتاً عرفت لاحقاً أنّه من آل شيّا. أمّا النّساءُ فقد كانت الصدمة تعتريهنّ عندما يفِقْنَ… الطفل يصحو بسرعة، ثم المرأة أمّا الشاب الذي أتعبني فكان نجيب صاحب الجَيْب، كذلك أتعبني طفل حتى صَحَت جدّته عرفناه من آل الأعور من بلدة قبَّيْع، والصبايا لم أتعرّف عليهنّ إلّا نايفة الاشتراكيّة من صور… وساعدنا أيضاً والد الطفل، حيث كلّمه الضابط رياض… وفي ليل اليوم التالي أرسلوا الزَّحافة الليبيّة فحملت النّساء، وأنا بعد أن مشيت باتجاه المرَيجات مع اثنين من عناصر الجيش اللبناني… ولحسن الحظ لأني كنت سأنازع الموت على الطريق… لم أتُهْ رغم أنّ المنظر كان واحداً بحيث لا ترى إلّا أمامك ….القِصّة طويلة وأنا اختصر.

لم أعرف مصير الرجال الذين نَجَوْا في المركز، ولمّا قال أحدهم للرّجال: انزلوا، سألته أين نحن قال في المرَيجات. هدأت العاصفة بعد خمسة أيام أمضيتها عند آل المصري. عدت ماشيا مع الناس إلى حمّانا ونقلني إلى رأس المتن جيب لشخص من آل بلّوط فوصلت البيت حاملاً جواز السفر فقط. ولمّا أخبرت الناس أنّني مشيت على سطح الكميونات وأعمدة الهاتف، لا سيما في «المناسف»، لم يصدقوني! وبسرعة انتشرت الأخبار حول ما فعلته العاصفة، وكان ضحاياها نحو المئة… وبعد 23 يوماً عدت لأشكر الجماعة في المرَيجات وكذلك الضابط رياض في ظهر البيدر. كانت الجرافة قد جرفت السيارات على خط واحد إلى الوادي مع الثلوج… وكان فوق سطح البوسطة الكبيرة على الخط الثاني حوالي المتر من الثلوج، ومشينا في خندق بين الثلوج تعلو أكثر من ثلاثة أمتار من كل جانب.

الحمد لله نجونا… وألف شكر للضابط رياض من حلب… إذا وصله شكري وأفراد الجيش من رفاقه… وأهلنا آل المصري في المريجات.

مقابلة مع د. غسّان العيّاش

هل زادت أعباء مصرف لبنان اليوم وتحدّياته عما كانت عليه يوم كنتم نائباً للحاكم؟

من حيث الشكل، إنّ المهام التي يواجهها مصرف لبنان اليوم تشبه إلى حدّ بعيد المهام والتحدّيات التي كانت قائمة في مرحلتنا، أي فترة 1990 – 1993. فلا زال المطلوب من مصرف لبنان حماية الاستقرار النقدي وسط العجز المتمادي في المالية العامّة في ظل دولة لا تملك الإرادة أو الخطّة لإصلاح أوضاعها المالية وتضييق الهوّة بين إيراداتها ونفقاتها. وليس استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية وحده هو غاية السياسة النقدية في الماضي والحاضر، بل أيضا المحافظة على معدّلات فائدة معتدلة لضمان نشاط اقتصادي معقول وحماية المجتمع من التضخّم.

لكنّ اليوم، بعد مرور خمس وعشرين سنةً على استمرار المشكلة، أصبحت المهمّة أكثر صعوبة وتعقيداً، بما لا يقاس. فقد تدهورت الأرقام والمؤشّرات تدهوراً خطيراً وباتت التحدّيات في وجه مصرف لبنان شاقّة وبالغة الصعوبة. فخلال ربع القرن الأخير ارتفع الدَّين العام 28 مرّة مقابل ازدياد النموّ الاقتصادي 9 مرّات فقط، فارتفعت نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي القائم من 50 بالمئة سنة 1993 إلى نحو 150 بالمئة في الوقت الحاضر. دَيْن الدولة الذي كان في مستوى ملياري دولار وقتها بات الآن في حدود 85 ملياراً.

هذه التطوّرات المقلقة انعكست على ميزانية المصرف المركزي نفسه، إذ وصلت التزامات المصرف تجاه القطاع المالي إلى مستوى تاريخي لا سابق له وتجاوزت مبلغ 125 مليار دولار، فيما كانت هذه الالتزامات في مرحلتنا محدودة وتقتصر على الاحتياطي الإلزامي على ودائع المصارف بالليرة اللبنانية فقط. وتواجه ربحيّة مصرف لبنان وضعاً صعباً بسبب اضطراره باستمرار لمساعدة الدولة على تمويل عجزها وفي الوقت نفسه حماية سعر صرف اللّيرة اللبنانية، وتعزيز احتياطاته النقدية بالاستدانة بكلفة عالية.

الوضع الاقتصادي العام في لبنان يشهد منذ ٢٠١٢ تراجعاً خطيراً في مؤشّراته كافة، هل هي انعكاس لأزمات المنطقة والنزوح إلى لبنان، أو لأسباب اقتصادية وسياسية محلّية؟

الظروف الصّعبة التي يعيشها لبنان اليوم هي نتيجة تزامن وتزاوج الأوضاع الإقليمية المتفجّرة مع السياسات الداخلية السيّئة. الأوضاع المضطربة من سورية إلى الخليج (حرب اليمن) أدّت إلى تقلّص السياحة التي يعوّل عليها الاقتصاد اللبناني كثيراً، وأصيبت الاستثمارات الخارجية المباشرة بتراجع من 10 بالمئة من الناتج المحلّي سنة 2010 إلى 3 بالمئة تقريباً في الوقت الحاضر. وخسر لبنان في فترة قصيرة نصف صادراته الصناعية والزراعية، بسبب تعطّل الطرق البرّية وكذلك بسبب تراجع الأوضاع الاقتصادية في الخليج العربي.

لا ننسى بالطبع العبء الكبير الذي وقع على كاهل لبنان جرّاء نزوح أكثر من 1.2 مليون سوري إلى لبنان هربا من أتون الحرب السورية. انعكس هذا العبء على ماليّة الدولة وعلى الخدمات إضافة إلى ارتفاع مُعدّل البطالة بسبب منافسة اليد العاملة السورية لليد العاملة اللبنانيّة.

لكن هذه الظروف الإقليميّة غير الملائمة ترافقت مع ظروف داخليّة غير ملائمة أيضاً. فالأزمة الإقليمية لم تشكّل حافزاً للدولة لتصحيح أوضاعها بل استمرّت في تمويل عجزها بالدَّين، كما أخفقت في تخفيض منسوب الفساد والهدر في الإنفاق وفشلت فشلاً ذريعاً في إدارة الخدمات العامّة كالكهرباء والنفايات. لا نُغفل توالي الأزمات السياسية في زمن المحنة الاقتصادية. وقد أدّت هذه الأزمات إلى تعطيل المؤسّسات الدستورية تباعاً، فتأجّلت الانتخابات النيابية وعُرْقل تشكيل الحكومة مرّتين وشهدت انتخابات رئاسة الجمهورية فراغاً لمدّة تزيد على السنتين.

د. غسّان العيّاش | نائب حاكم مصرف لبنان سابقاً.

يتصدر الوضع المالي واجهة المشهد في لبنان، ما تقويمك للوضع المالي في لبنان بعامّة، وبخاصّة في موضوع الهوّة الواسعة بين المداخيل المحدودة ومتطلّبات الإنفاق الكثيف؟

الإنفاق المستمر سنة بعد سنة دون إيرادات كافية هو الطريق إلى الانتحار المالي والاقتصادي. أودّ أن أوضح هذه المسألة بصورة أدقّ. يجب أن يكون الدَّين العام متناسباً مع حجم الاقتصاد، أي أن يبقى في الحدود التي يستطيع الاقتصاد تحمّلها. في اتفاق الوحدة الأوروبية مثلاً لا يجوز للدين العام في أية دولة أوروبية أن يتجاوز 60 بالمئة من الناتج المحلّي، وقد اعتُبر هذا المقياس معياراً دوليًّا لأنّه مبني على دراسات معمّقة. في لبنان باتت نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي أكثر من 150 بالمئة من الناتج. لذلك، فتعليقي السريع على الوضع المالي للدولة اللبنانية أنّ دينها بات يتجاوز قدرة الاقتصاد اللبناني على احتماله. ولهذا الأمر نتائج سلبية مالية واقتصادية واجتماعية، لا يتّسع المجال الآن لتعدادها.

كما أنّ المسار المالي للدولة يحمل ظلماً فادحاً بحقِّ الأجيال اللبنانية القادمة. فقد استقرّت القواعد المالية في الدول المتقدّمة على أنّ النفقات الجارية يجب أن تموّل بالضرائب والإيرادات الأخرى للدولة، ولا يجوز أن تستدين الحكومة إلّا لتمويل نفقات الاستثمار. فالنفقات الجارية تقع على عاتق الجيل الذي ينفقها لأنّ الأجيال القادمة لا تستفيد منها. أمّا نفقات الاستثمار فيجوز تأجيل سدادها لأنّها تزيد الثروة الوطنية فيستفيد منها الجيل الحاضر والجيل القادم.

واقع الحال في لبنان، ومنذ سنوات، أن النفقات الجارية لا يموّلها الجيل الحاضر كلّها، بل يُترَك قسمٌ منها لأبنائنا وأحفادنا دون وجه حقّ. خلال ربع القرن المنصرم لم تكن إيرادات الدولة كافية لرواتب الموظفين وخدمة الدين العام وحدها. إنّ كل إيرادات الدولة تساوي 70 بالمئة من النفقات الجارية ويترك القسم الباقي مع نفقات الاستثمار للأجيال المقبلة. حُكْم أبنائنا وأحفادنا سيكون قاسياً علينا بدون شك لأنّنا حمّلناهم بعض ما أنفقناه لمصلحتنا، إضافة إلى كلفة الهدر والفساد.

ما حقيقة ومدى خطورة الوضع المالي الآن؟

باختصار، الوضع المالي في لبنان، كما أسلفنا هو وضع خطير ومضرّ بالاقتصاد والمجتمع. ولكنّي لا أشارك الذين يقولون بأنّ لبنان على حافة الانهيار أو أن الانهيار المالي قدرٌ محتوم. فلا زال هناك وقت للإصلاح وتخفيف المخاطر، وإن كان هذا الوقت ليس طويلا. لِنرَى ما ستفعله الحكومة الجديدة التي قدّمت من خلال بيانها الوزاري وعوداً كبيرة للإصلاح المالي، وهو ليس بالأمر السهل.

كيف تُقيّم الهندسات المالية لمصرف لبنان في السنتين السابقتين، هل كانت لمصلحة مصارف وأشخاص أم كان لا بد منها؟

كان الهدف من الهندسات المالية التي ابتكرها مصرف لبنان منذ أواسط سنة 2016 تعزيز احتياطاته النقدية، وسط تراجع رصيد ميزان المدفوعات والنّزف الذي يتعرّض له المصرف المركزي. هذا مفهوم. إلّا أنّ النقد الذي وُجّه إلى هذه الهندسات أنَّ كلفتها عالية، وهي لا تشكّل حلّا دائما بل تسعى إلى شراء وقت محدود فقط. لم يكن الهدف من الهندسات المالية إفادة مصارف أو أشخاص معيّنين، لكن البعض استفاد من هذه الفرصة المستمرّة بمبالغ ضخمة أحياناً، وهم بعض المصارف، ومودعون كبار محظوظون. صندوق النقد الدولي والمؤسّسات المالية الدولية تفهّمت القيام بهذه العمليات استثنائياً في ظل الفراغ في رئاسة الجمهورية، لكنّها طالبت مصرف لبنان بوقف هذه العمليات الاستثنائية ومعالجة المشاكل بالطرق الطبيعية والعادية المتّبعة في عمل المصارف المركزية.

ما حسنات وخطورة الدّور المتزايد الذي بات للمصارف اللبنانية في الملاءة المالية للدولة في لبنان؟ هل هو وضع يد على الدولة؟

يجب التدقيق في ما إذا كانت المصارف تضع يدها على الدولة أم أنّ الدولة تضع يدها على المصارف، من خلال امتصاص نسبة كبيرة من موجوداتها بغرض تمويل العجز.

الحسنة الوحيدة التي أراها هنا أن المصارف كانت حاضرة دائما لتمويل عجز الموازنة في ظل قصور الإيرادات العامّة عن تلبية احتياجات الدولة ومتطلباتها. ما عدا ذلك لا أرى إلّا السلبيات. فإنّ امتصاص ودائع المصارف بمعظمها من قبل الدولة أضرّ إضراراً كبيراً بالاقتصاد والنموّ الاقتصادي وبخلق فرص العمل. فالقاعدة أنّ المصارف هي وسيط يجعل الادّخارات في خدمة القطاع الخاص، لتمكينه من القيام بنشاطه وتوليد النموّ والوظائف. إنّ استئثار القطاع العام بالقسم الأكبر من موجودات المصارف اللبنانية كان عبر السنين عاملاً مُضرّاً بالنموّ الاقتصادي وسبباً في تراجع النشاط الاقتصادي وارتفاع معدّل البطالة في البلاد.

ما اقتراحاتكم لمعالجة التأزّم الحاصل في لبنان، في الحقلين الاقتصادي والمالي؟

على الصعيد المالي تتمثّل المشكلة كما أسلفنا بالعجز المتمادي والمتواصل في موازنة الدولة، دون أية خطوات إصلاحية لتضييق الهوّة بين النفقات والإيرادات. بالتالي فإنّ العلاج البديهي هو زيادة الإيرادات وخفض النفقات، أوّلا عن طريق منع الهدر ومكافحة الفساد ثم إلغاء النفقات التي يمكن الاستغناء عنها. إنّ مكافحة التهرّب الضريبي مفيدةٌ جدّا خصوصاً أن عدداً من المراجع المطّلعة يقدّر هذا التهرّب بمبلغ أربع مليارات دولار سنويًّا، ما يوازي ثلاثة أرباع عجز الموازنة. ويتركّز التهرّب الضريبي في الجمارك والضريبة على القيمة المضافة وضريبة الدخل.

ومن المتّفق عليه، نظريًّا، أنّ الرصيد الأوّلي للموازنة، أي النفقات من دون خدمة الدين العام، يجب أن يحقّق فائضاً سنويًّا كافياً لِلَجم نسبة الدَّين العام إلى الناتج المحلي القائم، وهذا أمرٌ غير متوفّر حاليا.

شخصيّاً لن أتقدّم باقتراحات إضافية وسط «سوق عُكاظ الاقتصادي» الذي تعيشه البلاد وكثافة الاقتراحات والاجتهادات والأرقام التي تنهال من كلّ حدب وصوب. بل أكتفي بتأييد التعهّد الذي قدّمته الحكومة اللبنانية إلى «مؤتمر سيدر» بخفض عجز الموازنة بدءاً من السنة الجارية بنسبة واحد بالمئة سنويًّا، وهو التعهّد الذي كرّرته الحكومة في بيانها الوزاري أمام المجلس النيابي. إذا تمكّنت الحكومة من تنفيذ هذا التعهّد فإن عجز الموازنة سيصبح في مستوى معقول بعد خمس سنوات.

هل أنت متفائل بقدرة الحكومة على تنفيذ تعهّدها؟

المُقلق أنّ الحكومة تقدّم هذا التعهّد أمام البرلمان وفي المُنتديات الدولية الداعمة للبنان دون أن تبيّن كيف ستصل إلى هذه النتيجة، خصوصاً ألّا وقت لديها ويجب أن تبدأ العمل دون إبطاء. فاعتباراً من موازنة سنة 2019، التي يُفترض إقرارها في القريب العاجل، يفترض أن تُعْلِن الحكومة عن الإيرادات التي تنوي زيادتها والنفقات التي تفكّر في إلغائها، مع العلم أنّ هذه الخطّة إذا كانت حقيقية ستفجّر بدون شك نوعاً من الصّراع الاجتماعي خارج الحكومة، وربّما داخلها.

فإنّ ممثلي الطبقات غير الميسورة بدأوا أساساً بالاعتراض على أيّة ضرائب تصيب الفئات الشعبيّة أو المساس برواتب موظفي الدولة أو صرف الموظفين.
لا يمكن الاطمئنان قبل أن تُفصح الحكومة عن خطّة حقيقية معزّزة بالأرقام بشأن نواياها حيال الإيرادات والنفقات، وهذا ما يجب إعلانه في الأيام والأسابيع المقبلة. بالنسبة للوضع الاقتصادي الصّعب، لا يمكن التكهّن بتحسينه ورفع درجة النشاط الاقتصادي والخروج من حالة الركود الراهنة قبل لجم مشكلة المالية العامّة، فيما التطوّرات المالية لا تبشّر بالخير في ضوء الارتفاع المتواصل في معدّلات الفائدة. حيث هناك فوائد مرتفعة لا مكان للأمل بانتعاش الاقتصاد ورفع مستوى النموّ الاقتصادي.

جامع الحاكم بأمر اللّه الفاطمي

نبذة تاريخية عن “الجامع الأنور” المعروف لاحقاً بـ“جامع الحاكم”

شُرع في بنـاء «جامع الخطبة» خارج باب الفتوح أحد أبواب القاهرة، في ولاية الخليفة الإمام العزيز بالله (344-386 هـ./ 955-996 م.)، «فكان أوَّل من أسَّسهُ وخطب فيه وصلَّى بالنَّاس الجمعة» كما ذكر المقريزي. ويشير المسبحي إلى أنَّ أساس الجامع الجديد خُطَّ بالقاهرة في شهر رمضان سنة 380 ه. وحين سار الخليفة إلى الصَّلاة فيه بعد نحو عام، «كان بين يديه أكثر من ثلاثة آلاف مُصَلٍّ.

ثمَّ يردُ في أحداث العام 393 ه. /1002 م. أنَّ الخليفة الإمام الحاكم بأمر الله (386-411 ه./ 996-1020 م.) أمر «أن يتمَّ الجامع… وقدَّر له نفقة…». وفي سنة 401 هـ. «زيد في منارته وعُمل لها أركان طول كلّ ركن مائة ذراع. وفي سنة 403 ه. أمر الحاكم بعمل تقدير ما يحتاج إليه من الحصر والقناديل والسلاسل فكان تكسير ما ذرع للحصر ستة وثلاثين ألف ذراع…». وفي كتاب كريزويل «العمارة الإسلاميَّة في مصر، المجلد الأول» تفاصيل وافية عن الجامع والزيادات فيه، يخلص فيه إلى القول بأنَّ إتمامه كان في النصف الأول من العام 1013 م./ 403 ه. حيث تمَّ افتتاحه رسميّاً بإقامة صلاة الجمعة به (P. Walker). ويقول المقريزي في ذلك: «وأذِنَ في ليلة الجمعة سادس شهر رمضان سنة ثلاث وأربعمائة لمن باتَ في الجامع الأزهر أن يمضوا إليه فمضوا وصار النَّاس طول ليلتهم يمشون من كلِّ واحد من الجامعَيْن إلى الآخَر بغير مانع لهُم ولا اعتراض… إلى الصبح، وصلَّى فيه الحاكم بأمر الله صلاة الجمعة…».

سُمِّي لاحقاً «الجامع الأنور»، وأُقِـرَّ به التَّدريس حيث «تحلَّق في الجامع الفقهاء الَّذين كانوا يتحلَّقون في جامع القاهرة يعني الجامع الأزهر» (عثمان: موسوعة العمارة الفاطمية). ولم يحمل اسم «جامع الحاكم» إلَّا بعد نهاية العهد الفاطمي. ويعتبرُه بول والكر (الباحث الشهير في التاريخ الفاطمي) جزءاً من منظومة «مؤسَّسات التعليم والعبادة» التي كانت موزَّعة في ردهات خاصَّة في «القصر الشرقي الكبير» (مجالس التأويل)، والمساجد، وأهمّها الأزهر والمقس والأقمر والجامع الجديد أي جامع الحاكم (الفقه والتفسير وعلوم القرآن وإقامة الصلاة)، ثمَّ دار العِلم التي سمِّيت دار الحكمة وغيرها (الفلسفة والعلُوم). وأشار إلى اهتمام لافت بالمساجد حيث كان يتمّ تزويدها بنسخ القرآن الكريم من كلِّ حجم «بعضها كُتِب كاملًا بالذَّهب».

وفي العام 703 ه. تعرَّض الجامع لأضرار كثيرة إثر زلزلةٍ ضربت أرضَ مصر والقاهرة وأعمالهما، فأمر الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بإصلاح ما تهدَّم منه. وفي العام 827 ه. شهده المؤرِّخُ المقريزي عياناً فقال: «الجامع الآن متهدِّم». وفي زمن الحملة الفرنسية على مصر (1798 – 1801 م.) استخدمهُ الغزاة حصناً. وظلَّ مُهمَلًا تُستغلُّ المساحات فيه لأغراضٍ شتَّى إلى ما بعد استقلال مصر. وفي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، بذلَ زعيم طائفة «البهرة» جهوداً ومساعٍ لترميم المساجد التي تعود إلى العصر الفاطمي. و»البُهْرة» تفرَّعت من الاسماعيليَّة الذين لهم وجود عريق في بلاد الهند وما جاورها إذ ارتحل منهُم إليها الكثيرون بعد القضاء على الدولة الفاطميَّة من قبَل الأيوبيّين.

وقد أفلح «البُهرة» في زمن الرئيس السادات بالحصول على قرار رسميّ بالإشراف على مسجد الحاكم، وقاموا بترميمه بالشكل الذي نراه به اليوم (صحيفة «العرب»، 22 كانون الأول 2014: البُهرة في مصر.) وورد في التحقيق أنَّ طائفة البُهرة تعتبر صلاة المغرب يوم الخميس هي الصلاة المقدَّسة، وعند دخولها يُحاطُ مسجد الحاكم في القاهرة بستائر خضراء من جميع الاتجاهات، وتتوافدُ جموعُ المصلِّين على المسجد قبيْل الآذان.[Best_Wordpress_Gallery id=”17″ gal_title=”جامع الحاكم”]

خطرُ الفكرِ الإرهابي…

 

أجرى اللقاء في القاهرة رئيس التحرير، بمعيّة الأستاذ فرحان صالح (أمين عام حلقة الحوار الثقافي).

ما هي مخاطر الإقصاء! يقول أخوان الصّفا: لا تُعادوا عِلْما من العلوم ولا تهجروا كتاباً من الكتب ولا تتعصّبوا لأيّ مذهب من المذاهب. بعد ألف عام ماذا
حدث! لِمَ هذا التعصّب والتَّشرذم والإقصاء! إلى أين نحن ذاهبون كعرب وكأمّة إسلامية فرّقتها المذاهب والمِلَل؟كيف انهار الإسلام كمشروع توحيدي. كيف نقاوم ما حدث؟

ما تتكلّم عنه أستاذنا الكريم حقيقة مُرّة، أمّا كيف حدث ذلك، فإنّ تراكمات من الأحداث خلال القرون أنتجت ما نشهده اليوم. ولنبدأ من سنة 1516، يوم دخول العثمانيّون إلى المنطقة العربية… احتلّوا الشام ودخلوا مصر… وبالتدريج حوّلوا الإسلام إلى سلطة واستبداد على مدى قرون. ثم جاء الاستعمار الأوروبي الجديد مع الثورة العلميّة والفكريّة في أوروبا، ودخول عدّة حضارات على الحضارة الإسلامية إنْ بالقوّة أو بالعلم أو بالاستعمار، أو بالثلاثة معاً. كلّها عوامل تُضاف إلى بعضها بعضاً، ومنذ منتصف القرن الثامن عشر ورغم تململ العرب من الحكم العثماني الظالم والذي لم يكن يطبّق الشريعة الإسلامية فعليّاً، بل رفعها شعاراً وأقوالاً، كانت هناك أكثر من محاولة للخروج من هذا الظّلم والاستبداد، ولا ننسى المحاولة الأولى لعلي بك الكبير في مصر والشام والتي أُجهضت على يد السلطان العثماني بفتوى تكفيرية.

وبعد أن كُشِفت صفقة علي بك الكبير من الأسلحة من روسيا وعَلِم السلطان بها، عندها أصدر فتوى بتكفير هذا الرجل ومن معه، كفتوى إسلاميّة تبيح قتله ومطاردته. واقتنع بهذه الفتوى محمّد بك أبو الذهب قائد جيوش علي بك الكبير ففشلت المحاولة الاستقلاليّة التنويريّة الأولى.

ثم جاء نابليون بونابرت، وهنا لا بدّ من التركيز والإشارة أنها كانت أوّل محاولة مباشرة لإيجاد فجوة وتوظيف الإسلام سياسيّاً.. إذ خاطب نابليون المسلمين ببيان تاريخي أظهر فيه حبّه للإسلام وللنبي وللمسلمين وبأنّه خرَّب الكرسي البابوي في مالطة (وكلُّه هراء وكذب) وأنّه إنسان عادل محبّ لهذا الوطن… وهنا بدأت تتجلّى الفتنة وزرع الشّرخ بين المسلمين بل وبين شرائح العرب كافّة، إذ إنّه عندما شكّل المجلس أو الديوان آنذاك في مصر اختار اثنين من الأقباط للمشاركة في الحكم، وهذه الحالة تُعتبر الحالة الأولى التي أيقظت في نفوس أفراد المجتمع أنّ هناك أقلِّية وأغلبيّة وأنّ هناك مشاركة في الحكم والمصالح والصّلاحيات، أمّا هدفها فكان الفتنة والشّقاق وصولاً إلى التّقسيم وليس العكس.

وتابع الدكتور النمنم: كان هذا الحدث بالتأكيد نقطة تحوّل. كان السائد أنّه عند حدوث أي خلل اجتماعي يعمل معاً علماء الأزهر ورؤساء الأقباط وشيوخ العشائر والقبائل في الحلّ من دون الأخذ بعين الاعتبار العدد والأقليّة والأغلبيّة، كشعب واحد وتُحَلّ الأمور على قاعدة العدل إلى أن جاء بونابارت وأظهر هذه المعادلة التقسيميّة… فكانت محاولة لتكريس فكرة الأقليّة والأكثريّة، وخاصّة في تشكيل الديوان فجعل اثنين من الأقباط يمثلونهم، وعند كلّ مفترق يسألون لماذا اثنان فيكون الجواب لأنّكم أقليّة!

والحمد لله فشل مشروع بونابرت وفشل في احتلال مصر والشام لأسباب عديدة عام 1801 وأهمّها مقاومة واتّحاد المصرييّن في وجه الغريب. وجاء محمّد علي ليؤسّس الدّولة الوطنية الحديثة وكان يريد لها أن تكون دولة مدنيّة حديثة، والكلّ يعلم التّكالب العثماني البريطاني الفرنسي على مصر وقيام الدّولة فيها، وحشد المؤامرات ضد محمّد علي… ولكن مشروع محمّد علي صمد رغم كلّ الصعوبات ولو على نطاق أضيق ممّا كان يطمح إليه صاحبه؛ ثم أتى إسماعيل باشا وأكمل المسيرة وأحدث تقدّما ونهضة حقيقيّة.

وأيضا يعود الاستعمار الأوروبي والاستعمار العثماني ليُقصي إسماعيل بحجّة الديون زوراً.. ونصبوا ابنه مكانه، فدخل الاستعمار البريطاني من بابه العريض، وفي نيّته التكفير والتفريق. ومع ابنه خليل محمّد توفيق أصرّوا على إجهاض مشروع محمّد علي تماماً، فبدأ كرومر يلعب لعبة المسلمين/الأقباط لكنّه فشل فشلاً ذريعاً. ومرّت السنوات إلى أن ظهرت الحركة الوطنيّة المصرية على يد مصطفى كامل ومن ثم سعد زغلول، فتمّ خلق ما يسمّى بـ «جماعات إسلاميّة متطرّفة» لكي تكون مسماراً في ظهر الحركة الوطنية وإسفيناً بيننا. تمّ تمويلهم من هيئة قناة السويس والكلّ يعرف التفاصيل لا حاجة بالاستفاضة.

وانتهى الأمر بثورة 1952 المجيدة، فكان أن لعبت هذه المنطقة دوراً كبيرا كان عصر جمال عبد الناصر. طَرد الاستعمار، وتمّ تأميم قناة السويس وكسر أيدي الأعداء في الداخل وجاء دوره ومشروعه للوحدة العربية… (ولعلّه استعجل في الطّرح) وكانت خطّة التّنمية التي قادها ثمّ السدّ العالي الذي كان من أفضل المشاريع وأهمّها خلال حكمه بشهادة العالم. وجاءت أزمة مايو وهي مؤامرة لضرب عبد الناصر، ومن ثم استشهاد عبد الناصر، وأتى الرئيس السادات وقد حلّل البعض أنّ الرئيس السادات استعان ودعم الإخوان لضرب الناصرييّن واليسارييّن، وهذا كلام أعتقد أنّه غير دقيق إنّما امتدّت الفتنة إلى داخل الشّعب المصري.

في 4 فبراير أطلق الرَّئيس السادات مبادرته الشّهيرة… وتقوم على انسحاب إسرائيل مقابل انسحاب القوّات العربية 15 كيلو متراً شرق وغرب القناة وتستمرّ الملاحة.

لا بدّ اليوم من معالجة شاملة لموضوع التّعصب والتّشرذم والانقسام الدّاخلي وإنْ يكن الأهم هو منع التكفير والإقصاء داخل الشّعب الواحد، كما ظهر بعد تفشّي ظاهرة الإرهاب. بغضّ النّظر عن الأسباب ما هي الحلول لهذه الظاهرة بنظركم! وبخاصّة بعد الإصدارات والمقالات التي كتبتموها في الفترة الأخيرة، هل من حل موجود أو معالجة ما؟ أو هل يمكن أن تشرح لنا عبر الضّحى طبيعة هذه الحلول أو المحاولات؟

نعم أخي العزيز، هناك إجراءات رسميّة مُمْكنة، بالتّعاون مع الكثير من المؤسّسات الرسميّة وغير الرسمية بهدف إظهار مدنيّة الدولة. ولكن هذا ليس كافياً، فإنّي أرى الحلّ في إصدار قرار قانوني يلزم الجميع ويُعتبر مجرماً من يقوم بتكفير الآخر وتطبيق هذا القانون عبر الدولة على الجميع، ومنع استخدام كلمة تكفير، أو «عنده عقيدة فاسدة». وفي الدستور، والقانون، في مصر هناك نصّ صريح وواضح بحرّية المعتقد. إذاً، يجب أولاً تطبيق هذا القانون، ثانياً المناهج التربويّة يجب أن تراعي هذا الأمر وتكرّس مفهوم حريّة المعتقد والتعدديّة، ويجب أن تتم مراقبة الكتب داخل المنهج أو النصوص التي تكرّس مفهوم التكفير، ولماذا التّعتيم على أمثال شكيب أرسلان من العشيرة الدرزيّة المعروفيّة، والكتّاب العرب غير المسلمين مثل جرجي زيدان المسيحي الأرثوذكسي، وشبلي شميِّل المسيحي الماروني… تماماً مثل رشيد رضا المسلم السنّي، والجيل القديم كان يتعامل مع هؤلاء وغيرهم… ولم يكن هناك مشكلة بالانتماء، حتى مع اليهود أنفسهم.

خطورة التطرّف، ليس خطورة سياسيّة وأمنية فحسب، بل هي تدفع الكثير وبخاصة من الشباب إلى ردود أفعال مناقضة ومتهوّرة، ومن النوع المتطرّف نفسه: حتى أنّ بعضهم بات يذهب إلى الإلحاد! لماذا! هناك بصراحة من يترك الإسلام اليوم، وبخاصّة من الشباب أو المسلمين المقيمين في الخارج، بسبب التطرّف وبسبب من جهل أو تعصّب أو تكفير بعض القادة للبعض الآخر! التعصّب والتطرف وإقصاء الآخر هو أصل المشكلة.

كان على هؤلاء أن يعودوا إلى سيرة النبي محمّد عليه الصلاة والسلام. كان رمز التسامح ورمز الاعتدال، فأين أنتم ذاهبون إذاً؟ الدّولة المدنيّة هي تكريس للقانون والعدالة وغير مخالفة لتعاليم الإسلام وأسسه. لا يوجد دين في العالم يدعو إلى القتل أو الكذب أو السّرقة… القِيم الأخلاقية متفّق عليها في كلّ دول العالم وكلّ الديانات، فعلامَ التكفير وإقصاء الآخر واستحضار العداوات؟

لذا يجب حماية الإسلام من بعض المسلمين أنفسهم، أي عبر تحريره من المتطرّفين ومن بعض أعمالهم السيّئة التي تشوّه الدّين الإسلامي وتسيء إلى المعتقد وإلى المؤمنين… كذلك حماية النّص من التفسيرات غير العقلانية وغير المنطقية، يجب تحرير نصوص المسلمين من تلك الأعراض الخطرة. وما يؤكد على كلامي حادثة فرنسا: التي أجبرت الرئيس ساركوزي ورئيس الوزراء وعديد من شخصيات فرنسا أن يوقّعوا على بيان من أجل حذف خمسٍ وعشرين آية من القرآن الكريم بحجّة أنها تدعو إلى القتل، ولم يستطع أحد الرّد على ذلك، ومن بين الموقعين على هذا البيان 20 إمام مسلم. هناك إذاً خطر كبير وحقيقي على الإسلام كعقيدة ودين، وكنتيجة مباشرة أو غير مباشرة للأعمال الإرهابية وتيارات التكفير والإقصاء.

في ظلّ هذه المُعطيات التي أرعبتنا بشكل جدّي نكرّر السؤال، ما هو الحل؟ وما المطلوب من الحكومات والمفكّرين، والإعلاميين قبل سواهم؟

لقد سبقتني في التعبير فأنا ما زلت أقول عن المخاطر المحيطة بالإسلام كعقيدة ودين وهي إنّ ثورة الاتصالات لا أحد يرد عليك، وكلّ عملية يقوم بها داعش يستشهد بآية من القرآن الكريم ويقوم الإعلام بتوزيعها ويقنع العالم كذباً بأنّ الدين يأمر بالقتل.

يا سيدي الفاضل ألم يقل الله تعالى في القرآن الكريم ﴿قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ولا تعبدون ما أعبد﴾ هل من تسامح أكثر من ذلك؟ هتلر ذبح الناس ولم يستشهد بآية من الإنجيل أو نتنياهو المجرم استعان بالتّوراة؟ لماذا فقط نحن علينا أن نستشهد بالآيات القرآنية من أجل تحليل الجرائم والقتل والكراهية… هذا خطأ كبير فادح مبرمج من أجل زعزعة العقيدة الإسلامية ضد المسلمين وباقي الشعوب وتسري بسرعة البرق وبحجج واهية مدعّمة بمشاهد فظيعة تحت راية الإسلام وبأمر من الله.. هل يعقل ذلك؟ ﴿لكم دينكم ولي ديني﴾ صدق الله العظيم يا أخي ألا يقرؤون هذه الآية؟ لم يقل ديني هو الصحّ والباقي هو الخطأ!

باختصار، مسالة اختطاف الإسلام عبر داعش أو عبر أيّة جهة متطرّفة تسيء بشدة لا لهذه الجماعات فحسب، بل للإسلام نفسه وللمسلمين جميعاً. محمّد علي جناح هو شيعي إسماعيلي وأمير الشعراء أحمد شوقي من كبار المسلمين… منهم من رفض الذهاب إلى الحج… هل هذا يعني هم كافرون! هل أحد شككّ
في إسلامهم!

ما الذي فعلته الجماعات المتطرّفة تلك بالأمة الإسلامية والعربية وقضاياها خلال السنوات الأخيرة؟

أحسنت في طرحك وهذا هو الجواب عن كل الأسئلة، لم تَعُد فلسطين قضيّة العرب، ولم تعد مصر أمّ الدنيا ولا سوريا ولا لبنان ولا ليبيا. كلّ دولة مشغولة بهمومها الداخلية حتى أصبحت إسرائيل صديقة بعض الدّول، بل وأصبح العدوان على سوريا يسرح ويمرح ولا أحد يستنكر لو كانت أيام عبد الناصر لاشتعلت بيروت والقاهرة لنصرة دمشق.

هذا الأمر أصبح شيئاً طبيعياً ولم يعد أحد يقلق على أحد!! هذا ما فعلته تيارات الإسلام السياسي المتطرّفة في الأوطان العربية والإسلامية. فقد دمّروا الانتماء الوطني والانتماء إلى الأمّة تحت شعار محاربة التيارات الجديدة أو التيارات المتشدّدة… ضاع الوطن وضاع الدين بين الحريّات والمحافظين المتشددين… حتى نتنياهو أصبح يتباهى بالقول: إنّنا استطعنا أن نخرق العالم الإسلامي… أين العالم الإسلامي؟ أين وحدة المسلمين؟ نعم الإسلام السياسي، أي توظيف الدين الإسلامي الحنيف لأغراض سياسية، دَمّر على مدى قرون الأمّة الإسلامية وشتَّتها.

لو كان عبد الناصر وغيره من الزعامات العربية التاريخية الكبرى، وأنا لا أدافع عن أحد، لما كان الأمر على ما هو عليه. الزعامات الكبيرة تلك كان لها الدّور الأبرز في الحفاظ على الإسلام، وفي تقديم صورة الإسلام الإنساني المناضل الذي يدافع عن حرية الشعوب ضد إسرائيل وضد المحتل ويرفع أعلى القيم الإنسانية في آن معاً. الوضع الآن مع الأسف مختلف.

هل تعتقد معالي الوزير أنّ التحوّلات السريعة وغير العادلة على مستوى العالم وما يتعلّق بالهويّة بشكل خاص هو سبب إضافي لتشويه الهويّات ومن بينها هويّتنا العربية، ولانتشار الغلو ومن ثم الإرهاب؟

العالم حدث فيه تحوّل كبير بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والذي أفرز القوة العظمى الأولى وهي أمريكا واستطاعت خلال سنوات أن تكوّن ما يسمى العولمة والقرية الكونيّة وبث حضارتها في طول العالم… هذا أمر مفهوم. لكن الغريب هو التحالف بين العولمة وتيّار الإسلام السياسي. فبكل وضوح: أميركا تدعم التطرّف لكنّها تحاربه بالإعلام كما حدث مع ابن لادن وما سبق 11 سبتمبر في نيويورك. لم نسمع من أحد كلمة عن علاقة أمريكا بالتطرّف الإسلامي.

العولمة والإسلام السياسي المتطرّف وجهان لعملة واحدة… وأنا أقول أكثر من ذلك: إنّ المتطرّفين يسكنون في لندن، أي إنَّ الإسلام السياسي هو اختراع الغرب وأوروبا لضرب الأمة الإسلامية وإفشالها.. منذ أيّام نابوليون بونبارت وإلى أيامنا هذه.

فلنكن واقعييّن أيضاً ما يحدث في فرنسا والسّترات الصّفراء لا يصدّقها أحد أنّها بسبب الاقتصاد كلّ هذه التحرّكات هي مشبوهة ومدعومة من خارج فرنسا تستغلّ ظرفاً معيّنا.. لا يمكن للشعوب أن تتحدّى بعد الآن. وفرنسا دولة مدنيّة قوية حديثة كيف استطاعوا اختراقها!

تركيّا، لماذا لا تدخل الاتّحاد الأوروبي؟ هل لأنها إسلاميّة، أم لتحمي نفسها ولعلّ السبب أيضاً من قبل الآخرين.. علينا أن ننظر إلى العالم كلّه بموضوعية.

ماذا سيفعل الشباب البعيد عن الدِّين؟ والذي لا يجد عملاً ولا منزلاً ولا مستقبلاً، لماذا يهرب إلى التطرّف وإلى الإرهاب! ما الحل للجيل الجديد؟ ماذا فعلنا نحن خلال القرن الأخير؟

الأنظمة العربيّة مع الأسف، وهنا لا أتحدّث عن نظام بعينه، أفشلت كل محاولات إنشاء أحزاب ديموقراطيّة علمانية تنير عقول الشباب والمجتمع عموماً، ولم يسمحوا حتى لتيّارات أو مفكّرين مستقلّين، ولا لتعبير الشباب عن مطالبهم المحقّة أو قلقهم… ما حدث في جميع الدّول العربية هو أننا لم ننتبه بشكل جيّد للشباب ولم نعطهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم، ولم نحقّق لهم أبسط مطالبهم. ولا سمحت لتحوّل ديمقراطي حقيقي، وكان ذلك سبباً أضيف إلى الأسباب التي أنتجت العنف والإرهاب والتطرّف..

عبد الناصر على سبيل المثال، وعلى قلّة المستشارين الحقيقييِّن، قدّم تجربة لم تكتمل… لم يستطع أحد أن يكمّل مسيرته أو مشروعه أو يرث تاريخه وأفكاره… وعلى الجميع أن يقرأ التاريخ وخاصة مذكرات الرئيس بوش الأب وكتاب كلينتون الذي صدر مؤخّرا… على العالم العربي أن يقرأ ويستفيد من التاريخ ويستيقظ من سباته أو من جهله… والنتيجة واحدة.

أخيراً… أين الكتّاب العرب، أين المثقفون، أين النّدوات، واللقاءات، أين البيانات المشتركة، أين اللغة العربية؟ فعلاً نحن أصبحنا في زمن الجاهلية الأولى، والأكثر من هذا الخوف الذي أصبح يسيطر على العقول فلا أحد يجرؤ أن يكتب بحقّ الفاسدين بل يصبح فوراً خائناً وقد يُقتَل أو يُهَجَّر، أو يهرب كلاجئ سياسي.

نشكر مجلّة الضّحى ونشكر د. محمّد شيّا ونشكر أسرة ومشيخة العقل في لبنان وكل الأخوة المثقّفين المناضلين في لبنان وعالمنا العربي والإسلامي، بوجودهم لن نفقد الأمل… فانهيار المجتمع يبدأ من انهيار الثقافة وموت المثقّفين، ليس جسديّا بل فكريّاً… والسّلام.

مخاطرُ المُبيداتِ الزّراعية

بعد تقدّم العلم والأبحاث والتقنيّات الزراعيّة الحديثة في القرن الماضي، ازدادت معها مصادر التلوّث البيئي والبشري بالإضافة إلى التّجارة الهادفة إلى الرّبح السريع والكثير، خاصّة في موضوع المُبيدات الزراعية. فبقدر اهتمامنا بهذا التقدم التقني السريع، يجب أن يكون اهتمامنا بحماية البيئة المحيطة بنا من آثاره تحقيقاً للغاية الأساسية التي ترمي إليها كل أسباب التطوّر العلمي، ألا وهو الإنسان هذا المخلوق الذي كرّمه الله عز وجل.

إنّ استخدام المبيدات بكافة أشكالها وبمختلف مجالات استعمالاتها، شكلٌ من أشكال التطور العلمي والتجاري، فقد حقّق هذا الاستخدام زيادة فاعلة في الإنتاج الزراعي من الخضار والفاكهة من خلال السيطرة على الآفات التي تصيبها، وإبقاء نسبة الإصابة بها دون مستوى عتبة الضرر الاقتصادية، كما أن استخدام المبيدات في القرن الماضي حقق للإنسان درجة عالية من الحماية والوقاية ضد أخطار بعض الحشرات الناقلة للأمراض والآفات الخطيرة.

الآفة: هي كل كائن حيّ، يُلحق ضرراً مباشراً أو غير مباشر بالإنسان، مثل: الفيروسات – البكتيريا – الفطريات – النباتات الطفيلية العشبية – الديدان الثعبانيّة – العناكب – الحشرات – بعض الفقاريات.

المبيد: هو أيّة مادة كيميائية منفردة أو أيّ خليط من مجموعة مواد تكون الغاية منها الوقاية من أيّة آفة أو القضاء عليها أو تخفيض نسبة تواجدها، بما في ذلك ناقلات الأمراض للإنسان، أو للحيوان، أو للنبات، أو تلك التي تؤدي إلى إلحاق الضرر أثناء إنتاج الأغذية والمنتجات الزراعية والأعلاف، أو أثناء تصنيعها ونقلها وخزنها وتسويقها، كما يُقصَد بالمبيد أيّة مادة كيميائية تُستخدم لتنظيم نموّ النبات أو لإسقاط أوراقه أو لتجفيفه أو لتخفيف الحمل الغزير لأشجار الفاكهة،
أو لوقاية الثمار من التساقط قبل إتمام نضجها.

إلّا أنّ هذه المبيدات قضت على نسبة عالية جدًّا من الحشرات والفطريات والبكتيريا النافعة التي تتطفّل على الكثير من الآفات الضارّة والتي تتغذّى وتصيب النباتات والثمار الزراعية، وتُعَد المبيدات الكيميائية من أكثر المسبّبات في تلوث وتدهور البيئة. وفي غياب الرّقابة الدقيقة والتقيّد بالأُسس العلمية الصحيّة المنظِّمة لهذا الاستخدام، يؤدّي ذلك الى تخبّط المزارعين بين سندانين: سندان مكافحة الآفات التي تصيب مزروعاتهم وانتاج ثمار وخضار نظيفة وخالية من الإصابة بالآفات. وسندان القدرة على تصريف منتجاتهم التي تحتوي على نسبة لا يُستهان بها من الترسّبات الكيميائية. ناهيك عن الدواء المُستخدَم ومصدره وكيفيّة استخدامه والكميّة المستخدمة. إنّ عدم المعرفة بطرق وأساليب الاستخدام الأمثل للمبيدات وطرق الوقاية من أضرارها يؤدي إلى: تلوّث البيئة – الأرض – الثمار – النبات بشكل عام – مياه الينابيع والخزانات الجوفية – الحيوانات والطيور النافعة…

المبيدات والإنسان والبيئة

 عندما اكتشف الإنسان المواد الفعّالة للمبيدات الكيميائية واحداً تلوَ الآخر، كانت اكتشافاته وليدة الحاجة، فكما يُقال: الحاجة أمّ الاختراع، فكانت الأبحاث التي أُجريت على المبيدات هي الأمل لحل مشاكل كثيرة عانى منها المزارعون لسنوات عديدة، فهي مشكلة الآفات على اختلافها واختلاف عوائلها. ولم يدرسوا آنذاك أنّ هذا الحلّ المدهش في نتائجه الأولية سيصبح يوماً ما مشكلة قائمة بحد ذاتها ومن الصعب جدّاً أن نتخلص منها أو نجد حلّاً لها. وقد كانت لهذه الآفات طريقتها الخاصة، فظهرت منها سلالات مقاومة للمبيدات. كان ذلك هو ردّها الحيوي على السلاح المدمّر الذي استخدمه الإنسان ضدّها (المبيدات الكيميائية) وهكذا بدأ الإنسان يبحث عن مبيدات جديدة أكثر تخصّصاً، واستخدم عدّة أنواع وأساليب لمواجهة هذا العدو الخطير الذي يهدد سلامته وأمنه الغذائي وبالتالي دمّر الكثير من البيئة المحيطة به.

إنّ اكتشاف المبيدات واستخدامها العشوائي فيما بعد وعلى الزراعات الكثيفة وسرعة وسائل النقل وكثرة التبادلات التجارية وما يرافقها من انتقال لهذه الآفات إلى بيئات جديدة، وكذلك نتيجة للتوسع الهائل في المساحات المزروعة، والإكثار من استخدامها دون قيد أو شرط، وزراعة النباتات ذاتها في الأرض ذاتها، وتعدّد الأضرار التي سببتها الآفات فقلّصت غذاء الإنسان وحاجياته ومواشيه ونظراً لتسبّبها في نقل الأوبئة والأمراض الخطيرة، أدّت كل هذه العوامل إلى فقدان السيطرة على هذه الآفات الضارة بالإضافة إلى القضاء على نسبة لا يُستهان بها من الأعداء الطبيعية المفيدة بالإضافة إلى تلوّث البيئة.

وفي الواقع لم تكن المبيدات الزراعية بحجم الآمال والتطلّعات المنشودة عند بدء استخدامها. فقضاؤها على الآفات لم يكن متخصّصا وجيّداً، كما أثبتت التجارب أنه لن يكون استخدام المبيدات هو الحلّ في المستقبل، فالكائنات الحيّة (الضارة والنافعة) متعايشة في البيئة مع بعضها البعض منذ بداية الكون.

ومن المهمّ أن نعلم جميعاً أنه لا يوجد مُبيد يخلو نهائيّاً من الخطورة على الإنسان والحشرات النافعة مثل النحل والبيئة بشكل عام، بل إن الخطر عامل مشترك بين مختلف أنواع المبيدات مهما تنوعت مجموعاتها الكيميائية، أو اختلفت صفاتها الفيزيائية، أو تباينت أسماؤها التجارية، مثلاً يوجد العديد من المبيدات تحمل عدة أسماء تجارية ولكن المادة الفعّالة واحدة، إلّا أنّ درجة الخطورة تبقى أمراً نسبيّاً، تشتد في بعضها وتخفّ في بعضها الآخر ولكنها لا تنعدم بأيّة حال.

المبيدات وأخطارها

يقول الدكتور جابر الدّهماني، أستاذ أمراض ووقاية النبات في كليّة الأغذية والزراعة في جامعة الإمارات: إنّ المبيدات الزراعية بوجه عام، عبارة عن مادّة أو خليط من مواد تستخدم في الزراعة لغرض وقاية أو معالجة أو تقليل الآثار الناتجة عن الإصابة بإحدى الآفات الزراعية، مثل مسبّبات الأمراض (الفطريّات والبكتيريا والفيروسات والديدان الثعبانية) والحشرات والأعشاب الضارة وغيرها، وتختلف نوعيّة المبيد باختلاف نوع الآفة المراد محاربتها سواء في التربة أو أثناء الزراعة، لكنها جميعها تحتوي على مواد كيميائية سامّة يُحاط استعمالها بمجموعة من القوانين والشروط الخاصة. ينتج عن مخالفة هذه التعليمات وتجاوزها حدوث المضار الصحية والبيئية التي يتم الحديث عنها اليوم، والتي يمثل أخطرها التعرض لسمّ هذه المبيدات قبل استهلاكها، وذلك حين تصيب فئة المزارعين والعاملين. وقد قدّرت منظّمة الصحة العالمية وبرنامج البيئة التابع للأمم المتحدة، أنّ هناك ثلاثة ملايين عامل زراعي في البلدان النامية، يتعرّضون سنويّاً إلى حالات تسمم شديدة، منهم ثمانية عشر ألفا يلقَوْن حتفهم، إذ إنّ التعرّض للمبيدات الزراعية يؤدي إلى تطور الأمراض المرتبطة بالأورام الخبيثة والسرطانات، بالإضافة إلى تهيّج الجهاز العصبي، واضطرابات أخرى تؤدّي للوفاة، حتى عند المستهلكين الذين قد يتناولون المبيدات الزراعية التي نمت داخل الخضراوات والفواكه.

أضرار المبيدات الزراعيّة

إنّ المبيدات الزراعية تحتوي على مادة سامة مركّزة التي تؤثر سلباً على البيئة بالإضافة إلى الإنسان:

  • ضعف خصوبة التّربة: تبدأ التربة في فقدان خصوبتها بعد الاستعمال المتكرّر للمبيدات الكيميائية بنحو20سنة فتصبح الأرض غير قادرة على الإنتاج الزراعي.
  • قتل البكتيريا والديدان في التّربة: من المعروف أنّ الكائنات الحية الدقيقة (البكتيريا) هي التي تلعب الدّور الأساسي في تحويل الغذاء إلى النباتات، والديدان التي تتعذّى على التربة وتحوّلها إلى مادّة عضوية، فعند رشّ مبيدات الأعشاب على النباتات البريّة ورش التربة من خلال رش الخضار والمحاصيل الحقلية تقتل الكثير من هذه الكائنات ممّا يجعل التربة فقيرة وغير خصبة لتغذية النبات.
  • تسمّم الإنسان: يؤدّي رش المبيدات الكيميائية من غير الحماية الذاتية إلى تسمّم من قام بعملية الرّش أو من يقوم بتذويب محلول الدواء والذي يساعد في الرش.
  • تلوّث المياه: بعد الرّش المتكرّر على التربة وأثناء فصل الشتاء تتسرّب المبيدات مع مياه الأمطار إلى باطن الأرض وصولاً إلى المياه الجوفية والينابيع والأنهار، ومن ثمّ تعود إلى الفواكه والخُضار ومياه الشّفة.
  • قتل الحشرات والحيوانات المُفيدة: البيئة الجيّدة تحضن الكثير من الحشرات والطيور والحيوانات المفيدة التي تقتات على الحشرات الضارة، فالمبيدات السامة تقضي على هذه الكائنات.
  • تلوّث الخضار والفواكه: يوجد الكثير من المبيدات الزّراعية «جهازيّة» أي تدخل على كافة أجزاء النبتة بما فيها الأجزاء التي تؤكل.
المواد الصالحة للتّربة

الإجراءات الوقائيّة:

يمكن التقليل من أضرار هذه الحشرة باتباع ما يلي:

  • جمع الثمار المصابة ودفنها على عمق يزيد عن 50 سم أو تقديمها لبعض الحيوانات للتخلّص من اليرقات الموجودة ضمنها.
  • عدم زراعة بساتين مُختَلطة من أشجار الفاكهة حتى لا تتعاقب أجيال الحشرة على ثمارها.
  • الاهتمام بالتّقليم المُناسب لكل شجرة يحدّ من إصابتها بالآفات.
  • إزالة الحشائش الضارّة والتي تمثل ملجأً جيداً للآفات.
  • تجنّب وضع أسمدة حيوانيّة خضراء ونفايات عضوية رطبة.
  • حراثة الأرض يؤدّي إلى ظهور الشرانق والتهامها من قبل بعض الحشرات والطيور والحيوانات.

المُكافحة باستخدام المصائد الغذائيّة:

  • تعتمد على تعليق 3 مصائد غذائيّة جاذبة للذّبابة (مادة هيدروليزات البروتين تركيز 5% أو أي مادة مُتخمّرة…
  • يتم تبديل محلول المادّة الغذائية عند امتلائها بالذّباب أو جفافها (على أن يُراعى طمر المُخلّفات وعدم سكب محلول المادّة الغذائية على التراب) أو بعد (٢-٣) أسابيـع من تعليقها.

المكافحة الميكانيكيّة:

أهم الأعمال التي تقلّل من انتشار الآفات:

  • رشّ باليوريا 46% بمعدّل 12 كغ لكلّ 100 ليتر ماء للدونم المغروس بالأشجار المثمرة والأوراق المُتساقطة
    في فصل الخريف.
  • حراثة التّربة حراثة عميقة بعد الرّش باليوريا مباشرة من أجل طمر الأوراق وتحلّلها.
  • جمع الثمار المُصابة والعالقة على الأشجار وحرقها أو طمرها عميقاً في التربة أو تقديمها لبعض الحيوانات كعلف.
  • تقليم الأفرع المُصابة والتي تظهر عليها التقرّحات وجمع كافّة المُخلفات وحرقها في البستان.

المكافحة العضويّة بواسطة النّحاس:

  • بعد القطاف وفي مرحلة تساقط الأوراق بمعدّل 120 الى150 غرام جنزارة للتنكة 20 ليتر ماء (حسب كثافة الأوراق).
  • الرّشة الثانية في أوائل الرّبيع عند بداية انتفاخ البراعم بمعدل 200 غرام جنزارة ويضاف إليها 100 غرام كبريت مكروني للتنكة سعة 20 ليتر ماء.
الوعي بداية الحلّ

بينّت الأبحاث العلميّة أنّ وسائل الوقاية من مخاطر المبيدات الزّراعية لا يمكن تحديدها، قبل معرفة الطريقة التي تم رش المزروعات بها، لذا فإنّ إدراك المستهلك ووعيه، مسألة أساسية كبداية للحل. فنحن أمام نمطين: الأوّل هو الأسلوب السليم في استخدام المبيدات الزراعية سواء في طريقة الرش أو نسبة المواد المستخدمة ونوعيتها. وهنا لا نحتاج لأكثر من الطريقة التقليدية المتبعة في التعقيم والتنظيف، إمّا بالماء والصابون أو ببعض المعقّمات الخاصة التي تُباع بالأسواق.

أمّا النّمط الثاني: فيتمثّل في الاستخدام الخاطئ للمبيدات الزراعية حين تُستخدم المبيدات الزراعية بكميّات كبيرة بعد نمو النباتات فتتغلغل المواد الكيميائية إلى داخل القشرة الخارجية للخضراوات والفواكه، وبالتالي يلزم لتعقيمها والوقاية منها: نزع القشرة الخارجية للمنتجات الزراعية. ممّا يعني أنّنا سنفقد قيمة غذائية من الألياف المفيدة التي توجد في هذه القشور كحدٍّ أدنى للخسارة الغذائية. ويبقى هذا الاستخدام الخاطئ حتماً أقلّ ضرراً من النوع الأكثر خطورة في رش المبيدات الزراعية الذي يلامس التربة مباشرة أثناء عملية معالجة التربة وبكميات مخالفة للعيّنات المحدّدة، أي قبل نمو النباتات ممّا يعني أنّ هذه المواد الكيميائية ستنمو داخل الخضار أو الفاكهة وتصبح جزءاً منها، وفي هذه الحالة لن يفيد التعقيم والتنظيف ويصبح الابتعاد عنها أفضل طرق الوقاية منها.

المسؤوليّة المُتكاملة

وأضافت الدكتورة صِدّيقَة وشي: إنّ الكثير من المستهلكين يسألون عن كيفية معرفة الطريقة التي تم استعمالها في رش منتجاتهم بالمبيدات الزراعية، وهو أمر بالتأكيد قد يستحيل بالعين المجرّدة. وهنا يأتي الحديث عن دور الجهات المعنية، وعلى الناس أن يطمئنوا فليس من المعقول أن تُترَك عملية استخدام المبيدات الزراعيّة بهذه الفوضى والخطورة وإلّا كنّا سنشهد كوارث صحية. فالبلديات والدوائر والهيئات الزراعية في الدولة يجب أن تقوم بمسؤولياتها الكبرى في هذا المجال، بحيث تنظّم عمليات الرش وذلك بتحديد نوعية المواد وكميّاتها، ووضع الأشخاص ذوي الخبرة في المكان المناسب، إلى جانب الحظر التام لأيّة مبيدات سامة وخطرة، سواء في معالجة التربة أو المزروعات، بالإضافة للرقابة الدائمة ليس فقط على المزارع المحلّية، ولكن أيضاً على المنتجات الزراعيّة المستوردة، وآليات شحنها وحفظها وصولاً إلى مراقبة منافذ البيع. ويبقى التحذير الأكبر من محلات البقالة الصغيرة التي قد تستورد من مزارع خاصة، لا تمرّ بهذا الحجم من الرقابة الشديدة على الرغم من كونها مشمولة بالقوانين والإجراءات، ويكثر هذا النمط في المناطق النائية التي يصدر فيها بعض المزارعين مباشرة إلى محال صغيرة لا تتوفر فيها كل شروط الأمن والوقاية.

ملاحظة: يجب التشدّد في الرّقابة على الواردات.

الحجر الزراعي والاتفاقيات الدولية من شأنها تنظيم تصدير واستيراد المنتجات الزراعية، موضحة فيه كافة الشروط الخاصة باستيراد المنتجات الزراعية، أهمها:

عدم إدخال أيّة منتجات زراعية إلى الدولة ما لم تكن مصحوبة بشهادة صحية صادرة من الجهات المختصة في بلد المصدر، ومصدّق عليها من سفارة لبنان لديها إن وُجدت، تُثبت خلو هذه المنتجات المستوردة من الآفات الزراعية والترسّبات الكيميائية والشوائب الضارة بالسلامة العامّة، كما أنه لا يُسمح بدخول المنتجات النباتية إذا كان هناك شبهة في تلوثها بآفات أو بأحد الأمراض الوبائية والمُعدية، وتكون وزارتا الزراعة والبيئة هما الجهتان المسؤولتان عن الرقابة على كافة المداخل الحدودية،(بريّة وبحريّة وجويّة) بحيث تضمن دخول وحفظ ونقل المنتجات الزراعية السليمة والمطابقة لمواصفات الدولة وفق القوانين والنظم المعمول بها.

شرائط لفحص الأطعمة من وجود أي بقايا للمبيدات، متوفّرة في الأسواق العالمية
الفحص الكيميائي والبَيولوجي

يتمّ فحص عيّنات من المنتجات الزراعية للتأكد من مطابقتها للمواصفات المعتمدة وخاصة ترسّبات وبقايا المبيدات الكيميائية للمحافظة على الصحة العامة، وفي إطار حرصها على التأكّد من صحّة وسلامة الأغذية التي تُتَداول في الأسواق المحلّية.

موضوع أخذ العينات أمر مهم جداً في عملية  تحليل المواد الغذائية، وإنّه من الضروري أن تمثّل العينة الغذائية التي نقوم بتحليلها الوضع الحقيقي للمادة الغذائية في السوق المحلّي قدر إمكانها. فلا بدّ من وضع نظام يحدّد كيفية أخذ العينات بطريقة تضمن الكشف على محتويات المواد بصورة أكثر شمولية.

وفي حالة وجود أيّة بقايا للمبيدات أو أي شيء بالشّحنة يتم رفضها وخاصة باستخدام تقنية حديثة في المختبر يمكنها الكشف عن المُمْرِضات البكتيريّة أو الملوّثات بالأغذية المختلفة حتى لو كانت بأعداد قليلة والتي تعجز التقنيّات التقليدية عن كشفها.

ومن الضروري جداً أن تكون الإدارة المختصة حريصة دائماً على صحة وسلامة المستهلك والبيئة ومصدراً للثّقة وتكون المنتجات الزراعية على مستوى رفيع من المصداقية في الداخل وعلى الصعيد العالمي ممّا يسهم في تحقيق رؤية تتحقق فيها رفاهية ومقومات العيش والازدهار.

ورفض أي شحنة غذائية غير مستوفاة للوثائق المرافقة وقوانين استيراد الأغذية بالدولة، وأن تكون الشركة المستوردة مُرخّصة وقانونية.

تخفيض عدد المبيدات في السنوات الأخيرة، واستعمال المبيدات البَيولوجية الآمنة والصديقة للبيئة، إلى جانب سَنّ القوانين اللازمة لتداول واستخدام المبيدات في التّربة، هو توجُّه سليم وظاهرة صحيّة تحمي المستهلكين من المخلّفات الخطرة والسامة التي قد تصل إلى التربة أو المياه أو الهواء، وتضرّ بالصحة العامة، بالإضافة إلى أنّ القوانين والإجراءات لم تقتصر فقط على المنتجات الزراعية المحليّة، بل تشمل أيضاً الرّقابة على كلّ الشحنات المستوردة والواردة للدولة عن طريق الحجر الزراعي.

الوقاية والحماية من المبيدات الزراعية هي عمليّة متكاملة تبدأ من دَور الجهات المعنية، ثم تحمل المزارعين لمسؤولياتهم، وصولاً إلى وعي المستهلكين الذين نُخَصِّصهم ببعض النصائح والإرشادات الواجب مراعاتها والالتزام بها.

رشّ المبيدات باتّجاه الأعلى وعلى أشجار مزهرة غير آخذين بالاعتبار النّحل وصحة العامل.

رشّ على الخضار دون الأخذ بالاعتبار السلامة الذاتيّة والبيئية.

استخدام مبيدات بوجود طفل دون ارتداء اللّباس الواقي.

استخدام مُبيدات قديمة ولا دور للسّلامة.

رمي عبوات المبيدات في أماكن تضرّ البيئة.

خلط المبيدات عشوائيّاً.

دور الغدّة الدرقيّة في زيادة الوزن

الإفراط في الطعام ليس السبب الوحيد لزيادة الوزن، إذ إنّ هرمونات الغدّة الدرقية قد تكون السبب في المعاناة من الوزن الزائد؟ بحسب موقع Byrdie البريطاني فان كثيرا من المشاكل تُعزى إلى هذه الغدّة الصغيرة مثل فقدان الشَّعر والشّعور بالبرد، لكن ما يميّزها أيضا أنَّها تفرز هرمونات مسؤولة عن زيادة الوزن.

هرمونات الغدّة الدرقيّة:

وفقاً للأطباء، إنّ هرمونات الغدّة الدرقيّة تُعْتَبر من أسباب زيادة الوزن الأكثر شيوعاً لا سيّما عند النّساء. دَعُونا نبدأ بتعريف بسيط للهرمونات. أفضل ما توصف به الهرمونات إنّها وسائل إرسال كيميائيّة تُنتجها الغدد في جهاز الغُدد الصمّاء. ومن خلال إفرازها في مجرى الدم، تسيطر الهرمونات على الوظائف الجسدية الرئيسية بدءاً من الخصوبة ومروراً بالجوع ووصولاً إلى العواطف والحالة المِزاجية، لذا تحتل أهميّة كبيرة. ويوجد كثير من الغدد التي تفرز الهرمونات ويتكوّن منها جهاز الغدد الصماء، ولديها جميعاً أدوار مختلفة. إنّ الغدّة الدرقية، هي غدّة صماء تشبه شكل الفراشة  موجودة في وسط الرّقبة.

ما وظيفة الغدة الدرقية؟

تنتج وتفرز الهرمونات، التي تتحكّم في عمليّة التمثيل الغذائي في الجسد، (وهي العملية التي يحوّل بها الجسد الغذاء إلى طاقة، إذ يحترق الغذاء فيتحوّل إلى سُعرات حرارية تُنتج الطاقة). تتضمّن الهرمونات المسؤولة عن هذه العملية هرمون الثيروكسين(T4) ، وهرمون ثلاثي يود الثيرونين (T3).

تضخم الغدة الدرقيّة

قد يحدث تضخّم الغدة الدرقية نتيجة لحالة صحية ما، مثل نقص اليود، أو الالتهاب الناتج عن العدوى، أو أمراض المناعة الذاتية. وقد تكون مجرد أورام حميدة لا تسبب مشاكل صحية على الإطلاق. عندما يتحدث الناس عن نقص الهرمون أو الاختلال الهرموني المرتبط بالغدة الدرقية، فالأكثر شيوعا أنّهم يشيرون إلى حالتين: أمّا مرض خمول الغدة الدرقية المعروف بـ «قصور الدرقية»، أو مرض فرط نشاطها المعروف بـ «فرط الدرقية». ويمكن تشخيص كِلا المرضين عن طريق الحصول على عيّنة من الدم وعرضها على طبيب عام.

أعراض خمول الغدة الدرقية

يُعَدّ خمول الدّرقية أكثر شيوعاً من فرط نشاط الدرقيّة، إضافة إلى أنّ النساء أكثر عرضة للإصابة بها من الرجال. وينتج عن خمول نشاط الغدة الدرقية إنتاج نسبة أقل من هرمونات الدرقيّة. ويؤدّي هذا إلى انخفاض معدّل التمثيل الغذائي، الذي يؤدّي بدوره إلى الأعراض التالية: الإرهاق، وزيادة في الوزن، والعجز عن خسارة الوزن، والآلام والأوجاع، والشّعور بالبرد أكثر من الطّبيعي، وجفاف البشَرة، وانخفاض كثافة الشّعر، واحتباس السوائل، وتدهور الحالة المزاجية، وتتضمن الأعراض الأقل شيوعاً: عدم انتظام الدّورة الشهريّة لدى النساء، والعقم، وفقدان الرّغبة الجنسيّة، وتدهور الذاكرة.

متلازمة النّفق الرسغي

لذا وفي حال كان الإنسان يعاني من خمول الغدة الدرقية عليه بالبحث مباشرة عن علاج، لأنّ ذلك سيؤدّي إلى خلل بالتمثيل الغذائي وبالتالي إلى زيادة في الوزن.

ما أسباب خمول الغدّة الدرقية؟

يُعتبر السّبب الأكثر شيوعاً هو التهاب الغدّة الدرقيّة الناتج عن المناعة الذاتية، الذي يُعرف أيضاً بالتهاب الغدّة الدرقية لهاشيموتو. ففي هذه الحالة، يكون لدى الجسم جهاز مناعة يهاجم خلايا الغدّة الدرقيّة. إذ تُدَمَّرُ الخلايا، ما يعني أنّها غير قادرة على إنتاج هرمونات درقيّة كافية لتلبية احتياجات الجسم، ومن ثمّ تظهر أعراض خمول الدرقية. ويمكن أن تكون أدوية علاج فرط نشاط الدّرقية من الأسباب الأخرى التي تؤدّي إلى خمول الدّرقية، وهي ما قد يؤدّي إلى انخفاض إنتاج الهرمونات الدرقية ما يؤدي إلى خمول الدرقية. إذ إنّها عمليّة خادعة. إذ يمكن أن يؤثر نقص اليود على إنتاج الهرمونات الدرقيّة. وتتضمّن الأطعمة التي تشكّل مصدراً لليود: البيض، والسمك، واللبن، وأعشاب البحر مثل طحالب الكلب، لذا يُنصح بتناول هذه الأطعمة أو تناول مكمّلات اليود.

أعراض فرط نشاط الدرقية

يَحدث فرط الدرقية عندما تنتج الغدّة الدرقية مستويات مُفَرطة من هرمونات الدرقيّة إلى الدم. ويمكن أن تؤدّي المستويات السُمِّيَّة من هرمونات الدرقيّة إلى أعراض أكثر خطورة، تُعرَف بـ «التسمّم الدّرقي» تتضمّن أعراض فرط الدرقية: وتُعْتَبر النساء أيضا أكثر عرضة للإصابة بها من الرجال.

ما هي أسباب فرط نشاط الدرقيّة؟

مثلما هو الحال مع خمول الدرقية، يتسبّب مرض مناعي، يعرف بـ «غريفز» في فرط الدرقية. يؤثّر هذا المرض عادة على النساء اللائي يبلغن من العمر 20 إلى 50 عاما ويشيع بين الأشخاص الذين لدى عائلاتهم تاريخ من الإصابة بمرض الدرقية أو الأمراض المناعية الأخرى، مثل السكّري أو التهاب المفاصل الروماتويدي. عند الإصابة بأمراض المناعة الذاتية، يُنتج الجهاز المناعي مضادّات حيوية تُعرف بالأجسام المضادة الذاتية، التي تهاجم الخلايا الطبيعية الصحيحة في الجسم. وفي داء غريفز، يُتنج الجهاز المناعي أجساماً مضادة ذاتية تستهدف خلايا الغدة الدرقية، ما يحفزها لإنتاج وإفراز مستويات مفرطة من الهرمونات الدرقية. قد تكون عُقَيدات الغدة الدرقية أحد الأسباب الأخرى، وهي عبارة عن نتوءات تظهر على الغدّة الدرقية يمكن أن تجعل الهرمونات الدرقيّة خارجة عن السيطرة.

العلاج

يمكن لأي اختبار دم بسيط تشخيص الإصابة بفرط أو قصور الدرقيّة. ويتضمن العلاج الأدوية مع إجراء اختبار الدم بانتظام لرصد مستويات إنتاج الهرمونات الدرقية.

باختصار،

الغدّة الدرقية هي غدّة إفرازية موجودة في الرّقبة. تُفرز هذه الغدة هرمونَي T4 و T3. الهرمونات الدرقية تنتج استجابة لهرمون آخر يسمى الهرمون المُنبّه للدرقية تفرزه الغدة النّخامية. وتتحكّم الهرمونات الدرقيّة في عملية الأيض في الجسم. يؤدي اختلال هرمونات الدرقية إلى حالتين: قصور الدرقيّة، وفرط الدرقية. كلتا الحالتين لديهما أعراض مُتناقضة تؤثر على الأيض. فإذا شعر الإنسان بأيٍّ من الأعراض المذكورة، يجب عليه زيارة الطبيب الذي سيتمكّن من تقديم الخيارات التشخيصيّة والعلاجيّة.

Dr. Suleiman Abu Latif

The Lebanese ophthalmologist, Suleiman Abu Latif, a graduate of the Faculty of Medicine at the Lebanese University was awarded in 2003 the fellowship of the Royal College of Ophthalmologists in Britain, the highest title in the ophthalmology profession worldwide, after passing a number of oral and written examinations. This accomplishment was obtained after achieving the degree of “Retinal Network Fellow” of Moorfields Eye Hospital, the largest eye specialist hospital and the most advanced globally.

In 2011, Abu Latif, who specialized in retinal diseases and surgery, received a membership and diploma from the Royal College of Ophthalmologists in Britain. He presented a series of lectures at the conference of Euretina, the European Society of Retina Specialists, in Milan, Nice, Copenhagen, and Vienna. In addition, he has several articles in various international medical journals.

Abu Latif is thinking of a “partial return” to Lebanon through a “seasonal clinic” in which he provides medical services to those in need, as dictated by the professional ethics and the loyalty to his fellow countrymen (consultations, medical examinations, operations, etc.).

The British Royal College Fellowship of Ophthalmologists will be awarded to Dr. Abu Latif at a special ceremony in London the coming September.

د. سليمان أبو لطيف

حصل طبيب العيون اللبناني سليمان أبو لطيف، خرّيج كليّة الطبّ في الجامعة اللبنانيّة. عام 2003، على «زمالة الكليّة الملكيّة البريطانية لجرّاحي العين»، وهو أعلى لقب في مهنة طبّ العيون في العالم، بعد اجتيازه عدداً من الاختبارات الشفهيّة والخطيّة، ليأتي هذا الانجاز بعد تحقيقه درجة «زميل بالجراحة الشبكيّة»، من مستشفى Moorfields Eye Hospital وهو أكبر مستشفى تخصّصي للعيون والأكثر تطوّراً في العالم.

نال أبو لطيف الذي تخصّص بأمراض الشبكيّة وجراحتها، عام 2011، عضويّة وديبلوم الكُليّة الملكية البريطانية لجراحي العين، وقدّم سلسلة محاضرات في مؤتمر اختصاصيّي الشبكية الأوروبييّن Euretina في ميلان ونيس وكوبنهاغن وفيينا، وله مقالات عدّة في مجلّات طبيّة عالميّة.

ويفكّر أبو لطيف بـ «عودة جزئية» إلى لبنان عبر «عيادة موسميّة» يقدّم من خلالها خدمة طبيّة إلى مُحتاجيها بما تفرضه أخلاق المهنة والوفاء لأبناء بلده (استشارات ومعاينات وعمليّات…).

يُشار إلى أن شهادة «زمالة الكليّة الملكية البريطانية «لجراحي العين ستُمنح إلى الدكتور أبو لطيف في احتفالية خاصة ستُقام في العاصمة البريطانية لندن في أيلول المقبل.

الأديبُ المهجريُّ سعيد أَبو شاهين

الأديب سعيد أبو شاهين

(المرحوم) سعيد أحمد أبو شاهين، من بلدة «بْمَريم» في المتن الأعلى، واحد من الأدباء والشّعراء الذين تفتّحت بواكير عطاءاتهم في أرض الوطن لكنّها أزهرت وعقدت وأثمرت أخيراً في بلاد الاغتراب (الولايات المتحدة الأميركية). أمّا لماذا؟ فلا غرابة في الأمر، ولا حَيْرة في الإجابة. فحالُ صاحبنا وصديقنا (الراحل) سعيد أبو شاهين هو حال عشرات الأدباء المهجريين اللبنانييّن والسوريين، الذين لم تتّسع أوطانهم لمطالبهم البديهيّة في الخبز والحريّة والعيش الآمن الكريم، فيمَّموا شَطر أصقاع الدّنيا النائية، يطلبون فيها ما لم يجدوه في أوطانهم. وكان طبيعيّاً أن تتفتّح مواهبهم وتنضَج إبداعاتهم وحيواتهم الكفاحية والجهادية هناك، فيبرز حنينهم إلى أوطانهم وملاعب الطفولة والصّبا والشباب فيها، تصقلها ثقافاتهم التي حصّلوها في مُغترباتهم، لتظهرَ مواطنُ الإبداع في شخصيّة من يمتلك منهم جذوة الإبداع. سعيد أبو شاهين واحدٌ من هؤلاء، بل أحد أبرزهم.

لم ينلْ إنتاج سعيد أبو شاهين الأدبي والفكري في حياته الطويلة ما كان يجب أن يجده من الاهتمام والعناية، كحال الكثيرين كذلك – إذ لم يهتمَّ هو للأمر كما يبدو. أيضاً لم تتوفّر له بسهولة أواليات النّشر المُناسبة. إلّا أنه كُوفئ في أُخريات عمره بنشر أعماله، ثمَّ بالتكريم الذي ناله واستحقّه، وإنْ هذا جاء متأخّرا، فقد كرّمه اتحاد الكتّاب اللبنانييّن، وحلقة الحوار الثقافي، ووزارة الإعلام واتّحاد بلديّات المتن الأعلى، بالإضافة إلى مناسبات تكريم أخرى واحتفاء به في غير مكان – وقد كان لي شخصيّاً شرف الحديث عن أدبه في إحدى المناسبات قبل بضع سنين. و ترى أنّ من واجبها فتح ذراعيها للمُبدعين، أدباء وشعراء وفنّانين ومفكرين وأطبّاء وعلماء ممّن أثْرَوْا حياة مجتمعهم بعطائهم ونتاجهم القيّم. كيف لا وسعيد أبو شاهين فاعل نشيط في مجتمعه المحلّي (رئيس المجلس البلدي لبلدة بْمريم المتنيّة لفترة ما)، ومناضل قبل ذلك في صفوف «عُصْبة العمل القومي» بعد بضع سنوات من انطلاقها سنة 1933 في بلدة «قرنايل» المتنيّة على أيدي مناضلين تاريخييّن في طليعتهم: علي ناصر الدين، والدكتور حسين أبو الحسن، وعجاج نويهض، وقسطنطين يني وآخرون. وقد اعتقله الفرنسيّون سنة 1941 مع آخرين لفترة قصيرة.

أدب سعيد أبو شاهين

ينطوي مضمون أدب سعيد أبو شاهين على معانٍ عميقة، وأفكار جريئة، وحِكَمٍ بغير عددها خلص إليها بفعل ثقافته الغنيّة واتساع تجاربه وشفافية شخصيته والتزامها الأخلاقي والسياسي الصارم بقضايا مجتمعه ووطنه وأمّته، كما بقِيَم التّراث العريق التي ينتمي إليه. وهاكم بعض أفكاره الحصيفة وحكمه العميقة:
«تَعَلَّقَ بالوسيلة ونسيَ الهدف»
«الوصف يُعبّر عن ذات الواصف أكثر مما يعبّرُ عن ذات الموصوف»
«…كم من حقيقة اعتقدها الإنسان ثم تكشّفت عن وَهم»
«تجعلُ نفسك محامياً عن الله؛ فأين وكالتُك؟»
«ليس الرّيش ما يجعل النَّسر نَسراً…»
«من أراد الوصول إلى حقيقة ذاتِه عليه أن يتخلّى عن أطماعهِ وشَهواتهِ»
«قال: إنَّ أفضلَ الرأي هو ألاّ تخالف سُنَّةَ الطّبيعة بل أنْ تطوّرَها»
«متى مشيت وظلُّك إلى الشمس مشى ظلُّك وراءك، ومتى مشيت وظهرك إلى الشمس مشى ظلُّك أمامك».

هذا غَيْض من مئات الأفكار والحِكَم التي صاغها سعيد أبو شاهين بعناية في كتبه التي فاقت العشرة كتب*. لا حاجة للقول أنّ حِكَم أديبنا وأفكاره المنثورة بكثافة ليست مُستلَّة من هذا الأديب أو ذاك، ومن هذا الفيلسوف أو ذاك: هي بوضوح، من خلاصات العمر الطويل الذي عاشه، والتجارب الجادّة التي عرضت له، فكان قادراً بعقله الاستنباطيّ أن يستخلص ما استخلصه من قواعد للحياة العملية، ومبادئ تحكم عقله وضميره وحياته الداخلية الغنية.

خصوصية أفكار سعيد أبو شاهين تتّضح أكثر في الجانب الشّخصي، ولا أقول الذاتي، الذي تنتمي له أفكاره وحِكَمه التي رأيناها – وغيرها المئات. هو لا يتكلّم بالتعميم والتجريد وضمير الغائب، بل يتحدث عن نفسه، ومن تجربته، بل تجاربه الشخصيّة، وقد رغب كأيّ مُصلح اجتماعيٍّ أن يضعها بتصرّف قُرَّائه، بل بتصرُّف جيل بأكمله. وسعيد أبو شاهين أدرك تماماً قوّة «الكلمة»، فأراد صيانتها من كلّ تزييف وعن كلّ تحريف. قال: «عندما انحرفت الكلمات عن حقيقتها، انحرف الإنسان عن حقيقة حياته». وبهذه «الكلمة» رأى سعيد أبو شاهين أن الإنسان هو الغاية، أو يجب أن يكون كذلك دائماً، والوسيلة في آنٍ ليظهر خلق الله في أحسن صورة قال: «أصغيت للكلمة التي كانت هي في البدء فسمعتها تقول: الإنسان هو الغاية وهو الوسيلة». قال: «حصيلة كلّ الفلسفات والمذاهب الفكريّة كانت «الإنسان» هو مقياس كلّ شيء، وأصل وحصيلة هذا الإنسان العاقل الناطق كانت: الكلمة».

وإذا كانت الكلمة حقّة، وكانت تعبيراً عن الله، فلا فرق بعد ذلك بين هذه الكلمة وتلك إلّا في الشّكل، وهو فارق بسيط. قال: «وما خلائق هذا الوجود غير كلمات كُتِبت في سِفر الوجود من مداد واحد، وليس من فرق بين كلمة وكلمة إلّا بما تحمله كلّ كلمة من معنى. أما الشّكل واللّون فلا عِبرة له. فيا كلمة «الإنسان» فتّشي
عن معناك».

كذلك في الأخلاق العمليّة، فإنّ سعيد أبو شاهين مُدافع صلب عن القيم الأصيلة والسلوك الرّصين، يقول: «لا يعطي الورد غير الشّذا والطّيب ولو شرب كُدْرَة الماء». أو في قوله: «في الأخذ لَذّة وفي العطاء الفرح. أمّا اللّذة فهي من بعض طبائع الحيوان، بينما الفرح لا يعرفه غير هذا الإنسان الإنسان». فَلْنعطِ، ولنصنعِ الخير، هذا هو الإنسان. قال: «قال: عساني أزرع خيرَ العمل فأحصد خيرَ الثواب. قلت: وعسى مجتمع الناس أن يكون حقلك وهذه هي الأرض التي يرويها غيث الرّحمة».

وأولى مظاهر الخير الرحمة والمحبّة في القلب. والله عند سعيد أبو شاهين يقيم في القلب لا في هذا الشكل أو ذاك. قال: «لن يرى الفرح العظيم والمجد العظيم والحقّ الذي لا يعلو عليه حقٌّ إلّا من يسعى إليهما حاملاً في قلبه مصباح نور». «فتّشت في عرض المكان ودهر الزمان عن ربّي فلم أجده إلّا عندما وجدته ضاحكاً في أعماق قلبي». نقاء القلب وطهارة السّريرة هما ما يبعث الجمال في الأشياء. قال: «قالت: من يخيط لحواري الجنة أثوابها، فتبدو بمثل هذا الجمال. قلت: ليس لحواري الجنة أثواب جميلة، جمالها الفتّان هو ببراءة قلبها وطهارة نفسها».

وبعد: «أنا وأنت…. الأرض تطعمنا، والينابيع تسقينا، والشمس تدفئنا، والهواء ينعش رئتينا أنا وأنت. أبونا واحد هو الله، أمّنا واحدة هي الحياة. وهما يجودان علينا. فلماذا يا أخي تحرم نفسك وتحرمني من حبِّ الحياة وَجُودها؟ قُم يا أخي لنقدّس الله ولنكرّم الحياة… ثمّ لنغنّي لفرح الحياة ونعيش العمر بسلام».

أختم هذا الجزء الأدبيّ بقطعٍ جميلة من مناجاته لربِّه. يقول سعيد أبو شاهين: «ربّاه… وأنت الذي لا ينضُب لنعمائك معين. لحكمة خلقت من قلبي إناءً لا يمتلئ ليدوم فرحك بالعطاء ويدوم فرحي بالأخذ والنّوال. ربّاه ما أعظمَها نعمةٌ ومنّة. وقد خلقت لي شمس النور لاقتبس منها نبراساً، وخلقت لي مشاع الهواء لأنشق منه أنفاساً… ربّاه… وأنت الرّحمن الرّحيم الجوّاد الكريم. رحمتني وأكرمتني فأعطيتني نفحة من قُدرة الخلق والإبداع، أو الكشف والعِرفان حتّى بِتُّ أحسَب نفسي على شبهك ومثالك… كنت أنا صلصالاً وتراباً، فصنعتْ منّي مشيئتك «قيثارة»، ونفختَ فِيَّ من أنفاسك فاستويتُ على الأرض خَلقاً سويّاً يسعى، ليُخرِجَ بتقديسك أعظم نشيد ربّاني وأعذب لحن إنساني… ربّاه… أيّها المُناجى فتسمعَ مناجاتي بغير أن تتحركَ شفتاي بصوت!» (ص108- 109) هذه عيّنات اخترتها من أدب سعيد أبو شاهين الحِكَميّ. وقد صاغ المؤلّف معظمها على نحو قصَصي.

وإذا لاحظنا أنّ بين أعماله المنشورة أكثر من قصّة واحدة (أقل من رواية وأكثر من قصّة قصيرة) أدركنا فوراً الموهبة القصصيّة التي امتاز بها سعيد أبو شاهين. قدرته على جعل أفكاره في قالب قصصيّ جليّة، حتّى في صياغة حِكَمِه وخلاصاته المعرفيّة. يُظهر الشكل القصصي هذا مدى تأثّر أبي شاهين، كما أعتقد، بالقصص الأخلاقي أو الحكميّ الذي نجده على وجه الخصوص عند جبران ونعيمه ومارون عبود، وربما عند نعيمه أكثر من سواه. وفي ظَنّي أنّ الملمح هذا لا يزال ينتظر الدارسين ليعملوا على التوسّع فيه وإظهار أهمّيته كما تفعل الدراسات الأدبية النقديّة.

تكريم الأديب سعيد أبو شاهين

في وسع القارئ أن يلحظ، زمنيّاً، المبلغ المتقدم من الحكمة العميقة التي بلغها سعيد أبو شاهين في أعماله الأخيرة، وبخاصّة في كتابه الذي اخترت منه هذه النصوص «العرائس الأبكار من بنات الأفكار» (2009). وفي من يرغب أن يرى مثلها، أو ما يقرب منها، أو يتوسع فيها، أن يجد ضالّته في كتب سعيد أبو شاهين الأدبيّة، وهي على التّوالي: شمس الرّبيع، 1999، شعر – لمعات الخواطر، 2001، 365 حِكمة – جوهر المرآة، 2001، قصّة – إرادة الحياة، 2002، شعر – السرُّ الدّفين، 2002، قصة – بذرة تراب، 2005، قصة – العرائس الأبكار، 2009، مجموعة حِكم – خواطرُ زجليّة، 2009. إلى أعمال أخرى تقوم كريمته بجمعها ونشرها.

شعر سعيد ابو شاهين

سعيد أبو شاهين، إلى ذلك، شاعر. بل من الطبيعيّ، والعادي في أعمال الأدباء المهجرييِّن، أن تجد الشعر حاضراً بقوّة. فهو الأكثر قدرة على حمل زفراتهم وأشواقهم وآيات حنينهم، وسرد ما أمكن ممّا رأوْه ظلماً وقع عليهم، أو عدالة لم تصلهم، أو حتى أفكاراً وخلاصات بلغوها في أواخر أعمارهم. وأبو شاهين ليس شواذّ للقاعدة هذه بل هو تأكيد لها.

فشعره متقطّع، فيه ألوان عواطفه وأحاسيسه وغضبه وآيات من مواقف قوميّة ووطنيّة حيال قضايا وطنه وقومه – وإن بدا أخلاقيّاً في الغالب – وفيه أيضاً شعر المناسبات. ولافِتٌ أنّ الروح القصصي عند سعيد أبو شاهين لم يفارق حتى قصائده.

خذ مثلاً لشعره الاجتماعي قصيدته «العبد المتمرّد»:

عبدٌ تَمـــــــرّدَ لـــــــــم يخضعْ لمـــــــولاهُ              والنّـــــــــاس قد نهضت عن ذاك تنهاهُ
ماذا دهـــــــاهُ؟ أهلْ مَــسٌّ أحاق بـــــــــه                مــــــن الجنون أم الشيطــــان أغـــــــواه
قد خالفَ الشّرعَ فيمـا أهلُه اجتهدتْ                   رَدْحــــاً من الدّهــــر في تفسير معنـاه
* * *
إنّــــــــي أخالفُـــــــهم لمّــــــــا مشيئتــهـم        جــــــاءت مُخــــالفـةً مــــــا شــــــاءه الله
* * *
حرّاً خُلقتُ فشاؤوا أن أكــــــون لهــــــم            عبـــــــــداً لأمــــــــــرٍ عزيزُ النّفس يأباه
لن أرتضي من فنون القول واحــــــــدة              إلّا التــي إنْ ســـــألتَ العقلَ يرضــــــاه
* * *
الذئبُ يدعو إلــى دين السّلام ومِـــــنْ                  أدهى الدّواهــــي إذا لم تؤمن الشّــــاهُ
إن تَكفرِ الشــــــاه قد حَقّت إدانتـُـــــــها                والذئــــــبُ ناظــــــرةٌ بالحُـــــكمِ فــــــكّاه
ثم ينــــــــال مــــــــــن التعظيم مــــــــرتبةً            إذ إنّـــــــه مـــــا استقام الشـــعرُ لــــولاه
* * *
ربّاهُ وحـــــــدكَ من يَهدي ضمائـــــــرنا            ربّـــــــــــــاه عطفكَ بالإنسانِ ربّــــــــــــــاهُ

أو في قصيدته «ظُلم الناس»، يحكي عن الظّلم الاجتماعي الذي تتعرّض المرأة والتقصير الاجتماعي في حقّ الأم على وجه الخصوص:

طــــــال ظلــــــمُ النّـــــــاس للأمّ التـــــــي         هي بعـــــــــــدَ الله أصــــــــلُ الـــكائنـات
ظلموهـــــــــا دونمــــــــــا ذنبٍ ســــــــــوى         إنّــهــــــــا قــــــــــد أوجدتهُم بالحيـــــــــاةِ
* * *
عجَباً مـــــــــن فيلسوفٍ يــــــــدّعي عقـ             ـــلاً ويــــــحصي أمّــــــه في الجاهلات
كيف يزكـــــــو مَنبِتٌ مـــــــــا لــــــــم يكن           أصــلُ ذاك الطّيــــــب في أصل النّواة
* * *
حبسوهــــــــــا ثم قــــــــــالوا ويحَـــــــــــها             لم تؤالــــــــف غيرَ عَيْش الظُّلمـــــــــات
عصبـــــــــوا عينيهــــــــــا ثمّ خبّـــــــــــروا           أنّـــــــها لـــــــــم تَهْتــــــدِ درْبَ النّجــــــــاة
قتلوهــــــــا ثــــــم قـــــــــالوا لـــــــيس مَنْ             كــــان حيّــــــــاً مثل من كــــــان رفـــــــــاةِ
أمُّـــــــــــكم أو أُختــــــــــكم أو بنتــــــــــكم             ظلمتُم أيُّــــــــــــها القـــــــــــوم الجنــــــــاةِ
إنْ حــسِبتُم ظُلـــــــــمَها حقـــــــــاًّ لـــــكم                 ذاك وايــم الله أدهـى الدّاهيــــات

وإلى الثورة على الظّلم هناك «شعر الأفكار»، في غير قصيدة له، واحدة منها «قبس من نور الحقيقة». ونختم مرورنا السريع هذا بقصيدة تُظْهِر حِسَّه الإنسانيّ في شعره كما هو في نثره العميق وقناعته بوحدة الإنسانيّة. يقول في قصيدة: «داري هي الأرض، إخواني هم البشرُ»:

داري هــي الأرض أخواني هم البشرُ            بــــالأرض أو بســــــواها أينما انتشروا
مَـــــنْ ذا يؤكّد لــــي أنَّ الخليقةَ مُـــــــذ          كــــــان الوجود بهذي الأرض تنحشـــرُ
ما زال بالأرض حــيّ: لم يعد عجبـــــاً           إن يبعث الحــــيّ فيــــها الأنجمُ الأخرُ
* * *
داري هي الأرض: يا للأرض أحسبُها             لا الشمـس تَعْدوها فضلاً لا ولا القمرُ
يكفي لها أنَّ مِـــــنْ أحشائها انفطرت          روحُ الحيـــــــاة ولا أنثـــــــى ولا ذكـــــــرُ
* * *

الخَلقُ يعمرُها: والخيــــــــر يغمـــــــرُها            أرضٌ تعطّـــــرها الأنفــــاسُ والزَّهَـــــرُ
والأرض تســعدُ إنْ جـــــادت لساكنــها               كالأرض تســــعد إمّا جادهــــا المطـرُ
لولا الذيـــــن تّوّلّاهـــــــم بها جشــــــــــعٌ           أعمــــــى القلوب وزاغ السّمعُ والبَصَرُ

وإلى الشعر الفصيح، كان سعيد أبو شاهين شاعراً زجليّاً بامتياز وكفاءة. وتعدّدت أيضاً موضوعاته: لكنّ أطرفها نظْمُه مئةً وخمساً وثمانين بيتاً عتابا في عقد واحد. وإن دلّ ذلك على شيء فإلى روح جيّاشة بالمشاعر والأحاسيس وقريحة شاعرية وافرة العطاء.

قالوا في سعيد أبو شاهين

نال الأديب سعيد أبو شاهين في أواخر حياته الممتدّة بعضاً من التكريم الذي استحقّه، فكان ذلك اعترافاً بموهبته من أدباء وكتّاب وهيئات ثقافية، كما هو تكريم اجتماعيٌّ له من قادري عمله الاجتماعي وخاصة في منطقته، المتن الأعلى. وقد اخترنا عيّنات من بعض مظاهر التكريم ذاك.

أ. أنور الخليل
وزارة الإعلام اللّبنانية، 1999

الشيخ سعيد أبو شاهين كاتب مُميّز من بلدي، أحبَّ الوطن والإنسان فكان همّه وهدفه الذي ظهر جلياً في كتبه التي ستغني المكتبات اللبنانية. ونحن كوزارة إعلام نعتبره غلّة ثقافيّة بامتياز.

أ. فرحان صالح
الأمين العام لحلقة الحوار الثقافي

نحن في حلقة الحوار الثقافي وجدنا في الأديب اللّامع سعيد أبو شاهين ثروة أدبية وإنسانية واجتماعية جعلتنا نسلّط الضّوء عليه اعترافاً منّا بقدراته الفكريّة المميّزة.


المحامي سليمان تقي الدين

لا يسعني إلّا أن أرفع القبّعة أمام الشاب الثمانيني سعيد أبو شاهين ذلك القلم الغزّار الذي استطاع في فترة عشر سنوات أن ينجز تسع مؤلفات من الشعر والفلسفة والأدب والقصة الهادفة. فعطاؤه هذا يستحق مِنّا التقدير والاحترام.
———————————————-

د. وجيه فانوس
الأمين العام لاتحاد الكتّاب اللبنانيين

يكفي سعيد أبو شاهين أنّه نذر النفس للحبّ والعطاء مغموسين بزيت الإيمان مجلّلَيْن بعباءة التُّقى والورَع. الله مرشده وهاديه. وإيمانه بالله نوره الذي يسطع بين يديه، يضيء له ما يواجهه من ظلمات العيش وعقله سراج يرعى النّور ويسهر على زيته ليظلَّ في ضميره بذلاً لكلِّ ما عنده من خير ينفع به نفسه والنّاس.


د. إلهام كلّاب البساط
أستاذة جامعيّة
نتاج غزير في سنين قليلة من شعر وزجل وحِكم وفكر وتأمّلات وروايات …. غزارة تُفرح نفوسنا والعقول بِرُؤاها العريقة والمعاصرة معاً لقضية الإنسان … غزارة تُخجلُ عمرنا من سنين عمره المباركة، وتكاسلنا من نشاطه المثمر.


د. زاهي ناضر
أستاذ جامعي

يتمتّع سعيد أبو شاهين بكلّ مواصفات رجل الحكمة وصاحب الكلمة وموهبة الاستبصار والاستبطان والقدرة على فَهم الحياة والنّزوح إلى أعماقها والغَوْص في شؤون النفس والإنسان عامة وبالطاقة المتقدّمة على تجاوز الاقتباس إلى الأصالة والإبداع.


المحامي عصام العريضي

يبقى، وهذا رأيي الشخصي، أنّ أدب سعيد أبو شاهين، وبخاصّة شعره، لمّ يُحقَّق بعد كما يجب، أو وفق الأصول، بخلاف ما هو عليه نثره. وعليه، مطلوبٌ جهد إضافي، علمي وحِرفي، لموضعة شعره وإعادة توزيعه، وأحياناً تنقيته ليتلاءم والقواعد الشعريّة التامّة، فهو غنيَ بالصور الشعرية دونما افتعال أو اصطناع، وتحتاج لجهد علمي تقني ليخرجها لجهة الشكل.


د. فارس يوسف
أستاذ جامعي

سعيد أبو شاهين تخطّى عصره بكلّ ما تعنيه الكلمة. فكان مُبدعاً ومدرسة في كل مجالات وقِيم الحياة، (التسامح، الصدق، الوفاء، العطاء، المحبة، والإنسانية) فكان شعاره «الإنسان هو الغاية والوسيلة». أيضاً مدرسة في وطنيّته وعروبته في زمن أصبحنا نفتّش فيه عن رجال مِنْ هذا النوع.
وأخيراً، أعمال الأديب سعيد أبو شاهين عميقة لجهة المعنى، موهوب فيها لجهة الشّكل وهي أقرب إلى العفويّة منها إلى التكلّف والاصطناع، وتستحقّ كذلك أن تكون موضوعات لمباحث أدبيّة ونقدية لاحقة.

عائلة سعيد أبو شاهين (قبل بضع سنوات) في عيد ميلاده المئة

الخير الأسمى لدى أفلاطون

شكَّلَ مفهومُ «الخير» فكرةً محوريّة وجَدَليّة لدى العديد من الفلاسفة لكنّ أفلاطون هو مَنْ ارتقَى به إلى مَصَاف المبدأ الأسمى للمعقولات والموجودات، ومِثَال المُثُل، واعتبرَه أصلَ المعرفة والهدفَ الأرقى للإنسان.

أشارَ أفلاطون في أكثر من مُحاورةٍ له إلى أنّ وَضْعَ تعْريفٍ تامٍ للخير يتعدّى الطاقة البشرية، وإنّما الخيرُ يُعرَّف على نحو أفضل باستخدام المجاز والتشبيه. وهو يقول في الفصل السادس من مُحاورة «الجمهورية» (Republic) على لسان سقراط مخاطباً مُحاوِرَه: ما يمنح الحقيقةَ إلى موضوعات المعرفة، وللفكر العارِف القوةَ على المعرفة، هو مِثَالُ الخير. ومن حيث كونه علّة المعرفة والحقيقة، فهو أيضاً موضوعُ (Subject) المعرفة. فالمعرفةُ والحقيقة على السواء تتَّسِمان بالجمال، لكنّك ستكون مُحِقّاً بأنْ تُفكِّر بأنّ الخير أكثر جمالاً منهما. كما في العالم المرئي يتماثل النورُ والنظرُ مع أشعة الشمس، لكن من الخطأ التفكير بأنّهما الشمس، كذلك من الصائب التفكير بأنّ المعرفةَ والحقيقة هما أشبه بالخير، لكن من الخطأ التفكير بأنّ أيّاً منهما هو الخير، إذ إنّ الخيرَ وجبَ أن يكون أرقى شرفاً منهما… إنّ موضوعات المعرفة لا تعود معرفتهما فحسب إلى الخير بل وجودهما الحقيقي أيضاً، ولو أنّ الخير ليس وجوداً بل يتفوّق ويتعدّى الوجودَ كرامةً وقوة». ومن ثم يقول إنّ الخير هو «المصدرُ الأصلي للحقيقة والمعرفة… بل علّة كلّ شيء». إنّ الخير الأسمى لدى أفلاطون هو علّةُ المُثُل أو «الصور العُلْوية» (Forms).

إذاً، الخيرُ في العالَم العقلي هو كالشمس في العالَم المرئي، تماماً كما هي الشمس مصدرٌ لرؤية العين والمرئيات كذلك هو مصدرُ المعرفة في العقل ولكلّ المعقولات، يشعُّ حقيقةً ومعرفةً، وهو مصدر الحياة والوجود في العالم. فالمُثُل، هدف المعرفة، إنمّا تستمدّ وجودها وجوهرها من الخير كما تستمدّ الأشياء في العالم المرئي وجودها ونموّها من نور الشمس، وتستمدُّ خيريّتها منه. فالخير يوفّر المنطقَ العقلي والمعرفة اللذين يُمكِّنان النفسَ من إدراك المُثُل. فعلى سبيل المثال نحن لا نعلم ما إذا كان العدلُ عدلاً أو الشجاعةُ شجاعةً من دون الاستناد إلى الخير كمعيارٍ للخيريّة بحيث نعلم ما إذا كانت هذه الفضائل خيراً أم لا.

الخيرُ في معرفة مِثَاله الأسمى!

يتبدّى مفهومُ «الخير الأسمى» في «الجمهورية» كعقيدةٍ ميتافيزيقية أساسية للمُحاورة التي تُعتبر مُبكرة في أعماله الفلسفية، وكركيزةٍ أساسية في نظريته عن المُثُل، وإنّما هي مَنْ ألهمت الفلاسفة مذاك في التعرُّض لمسألة جدلية الخير والشر.

فكلُّ مَنْ يقرأ «الجمهورية» يلاحظ الأهمية القصوى للخير الأسمى بكونه هدف المرحلة الأرقى من المعرفة، فالمُحاورة تسعى إلى إيجاد الغاية القصوى لسعي الإنسان. ويصل أفلاطون إلى خُلاصة أنّ الخيرَ هو الهدفُ المرجو من وراء جميع أفعال البشر. وهذا المفهومُ يجد حلاً للعديد من المفاهيم المُغلقة التي لم يُقدِّم لها إجابة في محاورات أخرى. وهو يعتبر أنّ دراسة مفهوم الخير هي الدراسة الأهم، حتى من المنظور السياسي، ويوضِح الخطوات التي يعبرها العقل البشري من المستوى الأدنى، حيث ثمة جهلٌ للخير الأسمى، إلى قمة الوعي، وهي بالمعرفة الكاملة للخير الأسمى، التي هي وراء كلّ خير.

المِثَال الأعلى للمُثُل

إذاً، يرى أفلاطون أنّ الخيرَ هو المبدأ الأول، المِثَالُ الأعلى للمُثُل، ذلك المِثَال الذي تصدر منه جميع المُثُل الأخرى. إنّه المبدأ الأسمى بل هو الهدفُ الأسمى الذي تتوقُ إليه كلّ نفس. ويختصر الباحث يوليوس ستينزل (Julius Stenzel) هذا المفهوم بالقول «الخير بالنسبة إلى أفلاطون هو هدفُ الكمال الإنساني».

ويقع هذا المفهوم لمِثَال الخير الأسمى في صميم نظرية أفلاطون حول الخير والشر وما يُمثِّلانه من جدليّة الأضداد، تلك الجَدَليّة الفيثاغورية التي أكثر ما توضح نظريته. فوفق تعريف أفلاطون فإنّ الجَدَلَ «الديالكتيك» (Dialectic) هو وسيلة للاستكشاف والفهم عبر التحليل العقلي لوحدة جميع المُثُل في نظامٍ واحد، هو مصدرها، أي أنّ «الديالكتيك» هو نهجٌ للحصول على الخير الأسمى. وهذا ما نجده في محاورات «الجمهورية» (Republic)، و»المائدة» (Symposium)، والسفسطائي» (Sophist)، و»فيدروس» (Phaedrus)، حيث هناك ترابط بين الحق والجمال والخير كمِثالٍ أعلى.

أمّا من ناحية عقلانية مفهوم الخير لدى أفلاطون، ففيما نحن نسعى إلى حياةٍ متَّسِمة بالخير لا بالشر، فإنّنا نكون في ما بين هذه الأضداد الجَدَلية الديالكتيكية نسعى إلى تحقيق خيريّتنا الخاصة بنا، وبذلك نَعِي مفهوم المُثُل ومبدأ الخير الأسمى. وهنا يربط الباحثون بين نظرية الأضداد الجَدَلية لدى أفلاطون ونظريته في الخير
والشر، ومنهم جي. إي. مويلير (G. E. Mueller)، وآر. سي. لودج (R. C. Lodge). ففي داخل الطبيعة البشرية نزاعٌ دائم يعتمد على نتيجته ما إذا كان الإنسان سيّداً على نفسه أو غارقاً في عبوديّتها، مُرتَقِياً فوق الحِسّ المتقلِّب نحو مِثَال الخير، الذي يعتبره أفلاطون بذلك الحقيقة القصوى. والإنسان يتوقُ إلى صَقْل صفات مِثَال الخير المُنعكِسة فيه. وهو ما يُشير إليه الباحثُ مارتن بوبير (Martin Buber) أيضاً الذي يُوضِح أنّ أفلاطون في محاوراته يُطلِق على التفكير «مناجاةٍ صامتة» للنفس مع ذاتها. وإنّما الرُّوح هي «المحكمة الداخلية» التي تستمع وتحكُم استناداً إلى مفهوم الخيريّة. وفي مُحاورة «ثياتيتوس» (Theaetetus) يرى أفلاطون أنّ الفكر هو «جدالٌ صامت» للنفس مع ذاتها، تطرح أسئلة وتُجيب لتخرج بحُكْمٍ خيِّرٍ صحيح يدحضُ الشكّ باليقين.

إنّ أعظم الشرور هو اقتراف الخطأ والإفلات من العقاب، لأنّ مَنْ يُعاقَب يصبح أفضل لأنّه يتخلّص من شرور نفسه. أمّا مَنْ يفلت من العقاب فهو يزدادُ شرّاً. “أفلاطون”

غاية السَّعِي البشري

في مُحاورة «غورجياس» (Gorgias) يرى أفلاطون أنّ أعظم الشرور هو اقتراف الخطأ والإفلات من العقاب، لأنّ مَنْ يُعاقَب يصبح أفضل لأنّه يتخلّص من شرور نفسه. أمّا مَنْ يفلت من العقاب فهو يزدادُ شرّاً. إذاً، إنّ توق الإنسان نحو الخير إنّما يعكسُ علاقته مع المَثَال الأعلى له. فإنّ الخيريّة في حياة الإنسان تُحدَّد بمدى وعيه للشر، كما في مُحاورة «غورجياس». فمن أجل أنْ نُدرِك الخير ونُحقِّقه ينبغي أن نعرف معرفة حقّة مِثَال الخير الأسمى. فالخيرُ هو علّة كما هو غاية السَّعي البشري المِثَالي، أي هو ذلك المِثَال الذي يتوقُ له القلب دوماً.

ونرى هذه الفكرة في مُحاورة «غورجياس»:

سقراط: إنّما في السَّعِي إلى تحقيق الخير، حينما نمشي، نمشي ونُفكِّرُ بأنّ ذلك هو المسار الأفضل، أو خلاف ذلك حينما نقف، فإنّنا نقف للسبب ذاته، أي لأجل الخير من ورائه. أليس كذلك؟

إنّ الخيرَ هو الهدف الأسمى للسَّعِي البشري، «علّة غائية» (Teleological Cause) كما يتبدَّى في مُحاورة «المائدة»، و»علّة ذاتية» (Subjective Cause). وبما أنّ الخير يُشكِّلُ الفعل الذي تتحرّك النفس إلى تحقيقه فهو «علّةٌ كلّية» (Universal Cause). وهنا يرى أفلاطون أنّ الحياة وجبَ أن تكون وفقاً لمبدأ الخيريّة، فالفعل لا يكون مقبولاً إلا إذا كان ذا نتائج خيِّرَة. ويقولها بوضوحٍ تام في مُحاورة «المائدة»: علّة كلّ شيء نقوم به هو الخير «فما نُحِبُّه هو الخير ولا شيء سوى الخير». وبالتالي يكون مفهوم الخير لدى أفلاطون مبدأ «العلّة الغائية الكلية» (Universal Teleological
Cause).

ويخلُص أفلاطون إلى أنّه في ما يتعدّى الخير لا نحتاجُ إلى أي شيء آخر. فالخير يُبرِّر وجوده بنفسه، تماماً كما هو شأن السعادة. فلا حاجة إلى أن نسأل لماذا نريد أن نكون سعداء، فالإجابة واضحة، إذ يقول في مُحاورة «المائدة»: «ما الذي يتوق إليه مُحِبُّ الخير؟ أنْ يجعل الخيرَ فيه. وماذا يكسب إذا ما جعلَ الخيرَ فيه؟ .. سيكتسب السعادة … فالسعيدُ هو سعيدٌ بقدر ما يمتلك الخيرَ، وعندئذ لا حاجة لنا إلى أن نسأل لماذا يرغب الإنسان في أنْ يكون سعيداً، فالإجابةُ جَلِيّة».

وهنا تتبدَّى العقلانية (Rationality) وراء مفهوم أفلاطون للخير وأهميّتها في نظرية أفلاطون عن الخير والشر ككلّ. ويعتبر أفلاطون الفضائل والصفات الأخلاقية والحكمة العمليّة والفهم والصلاح جميعها خيرٌ، كما في «القوانين» (Laws) و»غورجياس» و»أوثيديموس» (Euthydemus)، لا سيّما إذا ما استُخدِمَت هذه الفضائل والمزايا لغرض الخير.

لذلك يؤكِّد أفلاطون أنّ الأشياء أو الصفات ليست خيِّرَة في حدّ ذاتها لكنّها خيِّرَة فحسب بقدر ما يتماثل استخدامها ووظيفتها مع مبدأ الخير الأسمى. وبذلك يمكن اعتبار الخير المبدأ الغائي الذي نتطلّع إليه لاتّخاذ أي خيارٍ أو قرار وتنفيذ أي فعل أو وظيفة، إذ إنّ قراراتنا تُبنَى على أساس ما هو أفضل. ولهذا السبب تعتمد مقدرتنا على أن نكون أخياراً أو أشراراً على مدى فَهْم عقلنا لمِثَال الخير الأسمى، وبالتالي أي فعلٍ لا يُحقِّق نتائج خيِّرَة إنّما هو نتيجة جهل أو عدم معرفة ذلك الخير. ولهذا السبب يُصِرّ سقراط في مُحاورة «مينون» (Meno) على أنّ اختيار فعل الشر «يُنافِي الطبيعة البشرية، بل هو جهلٌ للخير». وفي هذه النظرية الأخلاقية المِثَالية، يرى أفلاطون أنّ الإنسان الخيِّر يقوم بفعل الخير لذاته لأنّه غاية في نفسه وجزاؤه سعادة في باطنه لا كما كان يقول السفسطائيون إنّ غاية الأخلاق والخيريّة تكمن في اللّذة التي تنجم عنها أو خارجها.

“نوس” والخير الأسمى

ستتَّضِح الصورة الآن أكثر فأكثر. فيما يُشير أفلاطون في «الجمهورية» إلى أنّ مصدر نور المعرفة هو «مِثَال الخير»، فإنّه يُشير إليه في مُحاورة «فيليبوس» (Philebus) بالعلّة الأولى (First Cause) أو العقل «نوس» (Nous)، أي أنّ معرفةَ مِثَال الخيرِ الأسمى، أي معرفة «نوس»، مصدرِ كلّ خيرٍ وكلّ المُثُل والموجودات والمعرفة، هو أساسُ كلّ الخير للنفس.

في مُحاورة «فيليبوس» يقول أفلاطون على لسان سقراط إنّ «جميع الفلاسفة يوافقون على أنّ العقل «نوس» هو ملك السماء والأرض .. ولعلّهم مُحِقّون». وكان الفيلسوفُ الأفلاطوني الإغريقي ألبينوس (Albinus) (ت. 150 بعد الميلاد) مِن أول المُفكرِّين والكُتَّاب الذين قارنوا المحرِّك الأول للكون لدى أرسطو بمفهوم العقل «نوس» ومِثَال الخير الأسمى لدى أفلاطون. فالمحرّك الأول الذي لا يتحرّك لدى أرسطو هو «نوس» الأفلاطوني ومِثَال الخير الأسمى. فالخيرُ أساس المعرفة و»معرفة الخير أساس الخير كُلُّه».
والتلميحُ واضحٌ في مُحاورة «فيليبوس»، فذاك «النوس» الفردي مسؤولٌ عن الحياة الخيِّرَة وبالتالي السعيدة بقدر ارتباطه بذلك «النوس» الكوني، «واجب الوجود»، بخيريّته الأسمى!

لهذا السبب اعتبرَ أفلاطون الخيرَ هو أسمى المُثُل ومصدرَ الوجود والكمال وهو في أكثر من مكانٍ في مُحاوراته يُوازِيه بالعقل الأسمى «نوس». ويُجمِع الباحثون على أنّ مُحاورة «فيليبوس» (Philebus) هي من بين محاورات أفلاطون الأخيرة وربّما كُتِبَت في الوقت ذاته الذي وَضَعَ فيه مُحاورة «تيماوس» (Timaeus)، وهي حوارٌ بين سقراط وفيليبوس وبروتاركوس (Protarchus) ويتمحور معظمها حول الفرق بين اللّذة المادية واللّذة العقلية والتَّوق، لكنّها تعود إلى مفهوم التوق إلى الخير الذي لا يشمل البشر فحسب بل الكون بأسره.

وقد نقلَ أرستوكسينوس (Aristoxenus)، عن معلِّمه الفيلسوف أرسطو، أنّ أفلاطون ألقى في أثينا محاضرةً عامّة تحت عنوان «حول الخير»، لكنّه أوضحَ مفهومَه الفعلي للخير على نحو خاص لنخبةٍ من طلابه المهيَّأين لفَهْم الحقائق التي لا يفقهها العامّة.

ويقول الباحثُ الفلسفي وولتر ستايس (Walter Stace) إنّ غائية أفلاطون «تصل الذروة في مِثَال الخير، وذلك المِثَال هو التفسير النهائي لكلّ المُثُل الأخرى والكون كلّه. وإنّ وَضْعَ الأساسِ النهائي لكلّ الأشياء في الكمال نفسه يعني أنّ الكونَ يصدر عن تلك الغاية الكاملة التي تتحرّك نحوها الأشياء جميعاً»، وإنّ مِثَالَ الخير «هو الحقيقة القصوى»، لكنّه «مجرّد مخلوقٍ لله مُعتمدٍ عليه من أجل وجوده»، مُعارضاً بذلك مَنْ يشير إلى تطابق مِثَال الخير ومفهوم الله عند أفلاطون.

الضدُّ يُظهِرُ حُسنَه الضدُّ

هكذا يكون وجودُ الشر في هذا العالَم الناقص، عالَم الكون والفساد، ضرورةً جَدَليّةً كدافعٍ للنفس في أن ترنو دوماً نحو تحقيق الخيرِ بالتخلُّص من الشر والنقص فيها، وسببهما كما يقول ابن سينا «عَجْز الموجودات نفسها عن قبول الفيض الصادر عن واجب الوجود». وواجبُ الوجود في المفهوم الأفلاطوني هو الخيرُ الأسمى «نوس» وليس الخالق المُنزَّه عن جدلية الخير والشر والوجود والعدم. فوجود الشر في العالم هو الحافز للنفس لكي تُحقِّق كمالَها الخاص بها للعودة إلى مِثَال الخير الأسمى. فالشرُّ ليس علّةً فاعِلة بل إنّ العلّة المنفعِلَة هي سبب الشر بقدر ابتعادها عن العلّة الفاعِلة أي الخير الأسمى.

وهذه الفكرة قد تناولها القديس أوغسطين (St. Augustine) في القرن الخامس ميلادي، ويتّضح التأثيرُ الأفلاطوني على فلسفته، حينما اعتبرَ أنّ «الشر، خلافاً للخير، لا وجودَ جوهرياً له (Insubstantial)، بل هو غيابٌ للخير (باللاتينية Privitio Boni)»، وذلك في معرض سعيه لحل مشكلة «وجود الشر» حيث قال «نحن نُقدِّر الخيرَ أكثر حينما نُقارِنه بالشر (أي كما قال الشاعر: والضدُّ يُظهِرُ حُسنَه الضدُّ)… كما العتمة ُهي غيابٌ للنور، كذلك الشرُ هو غيابٌ للخير». ويبدو المفهومُ الأفلاطوني واضحاً في خُلاصته: «الخيرُ هو الأساسُ الأنطولوجي (إثباتاً وجودياً) للحقيقة والأساسُ الإبستيمولوجي (إثباتاً معرفياً) لإدراك الحقيقة».

وقد لَفَتَ العديدُ من الباحثين إلى استلهام القديس أوغسطين لمفاهيم أفلاطون لا سيّما في مسألة الخير، وعقدة وجود الشر في العالَم، والسَّعي البشري نحو حياةٍ متَّسِمة بالخير.

كامِل الخير!

يُكْمِلُ أرسطو المفهومَ الأفلاطوني للخير ويقول إنّ جميع الكائنات تتحرّك توقاً إلى الخير، وإنّ الخيرَ في العالَم مستمدٌ من العلّة الأولى «الكاملة الخيريّة»، الخير المُطلَق في جميع الوجوه.

إنّ الطبيعة المتعالية لهذا المبدأ الميتافيزيقي أي الخير الأسمى، المنطوي على جميع الحقائق، تجعل منه ذلك الكمالَ الذي يُوحِّدُ الأشياءَ بكمالِيّته (كامِل الخير)، بل غايتَها وسرَّ وجودها.

وبذلك تترابط دُرَرُ سُبحَةِ المفاهيم الأفلاطونية وتتَّضِح الصورة … فالخيرُ الأسمى هو المِثَال الأول للمُثُل، والمبدأ الأول، والعلّة الأولى (…)، ومصدر الخيرات والوجود والكائنات والهدف الأسمى لكلّ نفس.


المراجع
  1. Julius Stenzel, Plato’s Method of Dialectic. Oxford: Clarendon Press, 1940.
  2. Martin Buber, I and Thou. New York: Charles Scribner and Sins, 1970.
  3. G. E. Mueller, Philosophy as Dialectic. New York: Philosophical Library, 1965.
  4. Walter T. Stace, A Critical History of Greek Philosophy. London: Macmillan, 1968.
  5. R. C. Lodge, Plato›s Theory of Ethics. London: Routledge and Kegan Paul Ltd, 1928.

 

مَسْلكيّة الموحّدين الدّروز

مُحاضرة أُلقيت في مؤتمر الجالية الأميركيّة الدرزيّة ADS في ميامي فلوريدا في ٢٠١٦/٦/٣٠ وأُعيد إلقاؤها في لوس أنجلوس بطلب من اللّجنة المنظّمة للمؤتمر في ٢٠١٨/٦/٢٦.

أوقيانوس الصّفات النّبيلة، والأخلاق العالية، والمثاليات ومسلك الموحِّدين الدروز، كيف أُحيطُ به وأنتزِعُ الدُّرَرَ من لُجَجه؟؟ أمَا ترَوْنني بقصوري أعجزُ عن التّعبير؟؟ أسقطتم الكلمات، لِتسَطّروا على صفحات الخلود وبأحْرفٍ من نور، ذكرى أمجادَكم الخالدة إلى الأبد.

الموحّدون استلهموا الأخلاق الرّفيعة والدعوة السماوية الخالدة واستوحَوْها بِمَهداة العقل النيّر والفكر الثاقب الرّزين، وبنوْا على أساسها مجدهم وصانوا كرامتهم.

هي دعوة إلى معرفة الذات، دعوةٌ إلى المُثل والقِيم. دعوةٌ إلى الأصالة الأخلاقية عند الموحّدين الدّروز، وهي الرّكن الرَّكين والأساس المتين للشخصيّة الدرزيّة وللعادات والتقاليد الموروثة من الآباء والأجداد، وإنّه لَفخرٌ لي واعتزاز، أن أتكلَّم في أمريكا عن مسلك التوحيد لدى الموحدين وصفاتهم المُثلى ومسلكيّتهم الخلُقية، وتقرّبهم إلى الله تعالى، هذا التراث الكامل، هو مصدر شهامة وتَعالٍ لطائفة الموحّدين الدروز وإلى الأبد. الموحّد الدرزي إنسان آمن بالله، وحقّق وجوديته كاملة في خلال ألف سنة، فتوجّه بقدراته الإنسانية نحو الحقّ وبقي ذُخراً للحقيقة ومثالاً وعطاءً. إنّها حقيقة العقل الذي هو نور الله في جميع مخلوقاته فبِه هدانا الله إلى الخالق المبدع، وإنّه لصادِقُ العِلم… تجلّت منجزات العقل أيضاً بالعِلم في المُخترعات كآلة التلغراف والتلفون والراديو والطائرة، ثم بالانطلاق إلى القمر فالمريخ، وجعْلِنا نتبع مسلكيّة معينة ونؤمن إيماناً ساطعاً بالله «الإيمان بالله والتوحيد بكماله» «عَقِلتم فآمنتم وأدركتم فوحّدتم» لِنَسلكَ الطّريق المستقيم وما يقتضيه العقل المستنير بالحق والصّدق والعمل الصالح لنميّز بين الأفعال المحمودة والمذمومة، وبين الحلال والحرام، وبين الحقّ والباطل، ونسير على هدى الله في مندرجات الرقي الرّوحيّ والثقافيّ والحضاريّ والأخلاقي للوصول إلى كرامة الإنسان وشرفه ونبله، وهو ثمرة الهداية والطاعة للباري جلّ وعلا فنصل إلى السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة. مسلكيّة الموحّد هي تهذيب النّفس وهي الإسُّ المتين والرّكن الرّكين في عمليّة معرفة الله لترقى إلى جوهرها، وتُحاسَب على أعمالها في اليوم الآخر يوم يُدان الإنسان بالحساب (الطّبري ص 25). قال عزّ وجل: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِين﴾َ (الأنبياء 47)، والأمير السّيد(ق) يقول: «أن يصرف نفسه عن الشّهوات والمُحرّمات، وأن يعرف الله حق معرفته ويوحده ويُنزهّه»، قال تعالى: ﴿وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ (النّحل 111).

عليك بالنّفـــــس فاستكملْ فضائلَهــــا        فــــــأنت بالنّفس لا بــــــالجسم إنسانُ

والدين مَعينُه في نفسي، يستحيل على إنسانٍ آخر أن يهديني الدّين، إذا لم تهدِني إليه نفسي، ومن يَقُل بلسانه الله ويعرف بقلبه الله، وتحبُّ روحُه الله، تتعلق بظاهره وبباطنه بين يدي الله. وليكن مطلب كلّ موحّد هو الله، وقصده هو الله، وذكره هو الله، ونطقه هو الله، وفكره هو الله، قال تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ﴾(العنكبوت 45). فالله فردٌ في أزليّته، لا ثاني مَعه، ولا شيء يفعل فعله. «مسلك التوحيد هو جوهرة غنيّة، رحِم الله من صقل هذه الجوهرة الثمينة إلى ذروة الإيمان التّوحيدي، إنّها تعاليم إنسانيّة راقية قديمة وحديثة» (نجيب العسراوي). التوحيد عُزلةٌ وسترٌ، التّوحيد آداب، التوحيد هو الإكثار من ذكر الله تعالى، مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره كمثل الحي والميت، عليكم أيّها الموحّدون بفناء وجودكم في اللّه، فَتُصْقَلُ مراياكم، وتنجلي حقيقتُكم.

التوحيد عقيدة علم، وفلسفة طريق سعادة. يا مُوَحّد، اِعمل بما أمرك به الله، والأديان منذ نشأة الكون لها هدف واحد: تعريف الإنسان بحقيقة دربه، وتعريفه على حقيقة ربّه: «خَلَقْت الوجود كلّه لأجلكم وخلقتكم لتعرفوني وتعبدوني». التّوحيد هو طريق النفوس النقيّة التقيّة والعقول المُدركة للأسرار، عقول من عرفوا الدنيا دار فناء، وعرفوا الحقّ إماماً فاتّبعوه، وميثاقاً وحُجَّة ودعوة استجاب لها الموحّد المؤمن المستجيب. التوحيد هو الارتقاء الكبير بين يدي النّور، على الموحّد أن يُدخل نورُ الحق والخير إلى قلبه حتى يحرق ما فيه من شهَوات، ويُجري فيه دماء الإيمان ونور اليقين، وإيمان الموحّد هو طريقه المستقيم، إيمانُه أبداً بالله سبحانه وتعالى، هو الحقّ، وأنّ الموت هو الحقّ، والقيامة حقّ؛ والميزان حقّ والجنة حقّ (شفيق أبو غانم). التوحيد أوّلُ ما أنزل الله من عِلم على جميع الأنبياء «أعبد الله كأنك تراه، فإن لم تَرَه فهو يراك».

مسلك التوحيد لا يصحّ إلّا إذا شعرنا بهيبة الله تعالى، قال عزّ وجلّ: «أنا عند ظنّ عبدي بي، إذا كان خيراً فلَهُ، وإذا كان شرّاً فلَه»، ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ (الزلزلة 7 و8). الدين هو التوحيد، هو الصلة بين العبد والمعبود، الدّين هو الإيمان «الإيمان بالله والتوحيد بكماله» هو منبع الفضائل في النفس والنور في القلب، الدين هو الطاعة ليسلك مسلك التوحيد للباري سبحانه وتعالى، ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ﴾ (التوبة 33). مسلكيّة الموحّدين الدّروز أن يُحْيوا هذه القوة الكامنة في ثنايا هذه الروح، ليدركوا جوهر الدين، والبعد عن الخطايا والمعاصي. هو الدين، أرسله لنا بالهُدى والحقّ، فهو حقيقة الإرادة الإلهية، وعلى النّفس أن تعرفَ الله سبحانه وتعالى، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده نفي الصّفات عنه.

مسلكيّة الموحّد هي الصّلاة وصدق اللسان، فالصّلاة هي الصّلة الروحيّة بين الله والإنسان، طَهّروا نفوسكم من الجشع والحسد والحِقد والنميمة، تَخلَّقوا بأخلاق الأنبياء والرسل الكرام، فيستطيعَ العالم الترقّي إلى درجات الكمال، والتقرّب إلى الله ذي الجلال والإكرام. فصدق اللّسان هو رأس الفضائل، هو التصديق بوحدانية الخالق وحده لا شريك له. الصادق يفي بالوعد والعهد، لا يكذب، لا يسرق، لا يشهد بالزور،
ولا يضرّ أحداً. الصدق منجاةٌ ولو تحت شفار السيوف، هو أفضل مكارم الأخلاق، ومن أقدس الواجبات عند الموحدين، لتبقى العبادة خالصة لوجه الله وحده. والعبادة المرتكزة على التربية الدينية الصحيحة، هي شرف للعابد، وأي شرف أغلى من صلة العبد بربّه، ليستقيمَ خلقه إنّها العبادة الحقيقية في الدنيا والآخرة إذا اقترنت بالإيمان. من يعمل على مرضاة خالقه بحسن أخلاقه تتجلَّى فيه الحكمة. إنّ التربية الدينية والوعي الخلاّق هي النّعم الوافرة. أمّا كسب المال الحلال فيكون بتجنّب الطمع والحسد، وهذان أساسا كلّ خطيئة، فتواضعوا يرحمْكُم الله، وابتعدوا عن التكبّر والإعجاب، لتصلوا إلى الرّضا والتّسليم فهما من أُسس التوحيد، والقناعة بالعدل الإلهي، وليُحبَّ كلٌّ منكم لأخيه ما يحبّه لنفسه. الخلق كلّهم عباد الله، فليسلّم المؤمن أمرَهُ لربه، راضياً بأحكامه، صابراً على بلواه بعيداً عن المحرمات، كالكذب والنميمة والطمع والكبرياء والسرقة والقتل وشهادة الزور، وليُمسك لسانه إلاّ عن الحق، وليعلم بأنّ اللّه جلّ وعلا ناصرٌ للحقّ.

«الصّدق في أقوالنا أقوى لنا والكذب في أفعالنا أفعى لنا». وأكبر الجهاد هو جهاد النّفس ومعرفتها: «من عرف نفسه عرف ربّه»، «العزّ في الطاعة والذلّ في المعصية» علينا بمخافة الله جلّ وعلا «رأس الحكمة مخافة الله»، والنبيّ هِرمس (النبي إدريس) دعا الناس إلى دين الله عزّ وجل، والقول بالتوحيد، وعبادة الخالق، وتخليص النفوس من العذاب وأمرهم بالصلوات.

وكذلك كان النبي داود(ع)، «اختار من الكهنة والقضاة، مائتين وثمانيةٍ وثمانين كاهناً، يسبّحون للّـه، ليبقى ذكر الله دائماً». والصّلاة هي من أعظم الشعائر، قال تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ﴾ (الأعراف 55)، ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه 14). يا داود أعرف نفسك تعرفْني، «النفس المطمئنّة هي التي اطمأنت بذكر الله»، يا داود حذّرْ وأنذر قومك من الشهوات، فإنّ القلوب المتعلّقة بشهوات الدنيا عقولها محجوبة عنّي. وعلى المرء ألّا يكون أسير المال والمُلك والموقِع. يقول الشيخ الفاضل(ر): «على المرء أن يسلّم أموره لله، ويتكّل عليه في السرّاء والضرّاء، ليرضَا بقضائه، ويصبر على بلائه ويستغفر ربّه، ويهذّب أخلاقه بالفضائل، وليُقْبل على الرزق الحلال، ويعتمد الصفاء والوفاء… فيكون صادق اللسان، حميد الخصال، حميد الفعال»، فمن جمع هذه الخصال نال عظيم المنال. قالت رابعة العدَويّة(ر): «نعبُده لذاته، ويكفينا نِعَمَه التي لا تُحصى، نخِّر له ساجدين»، ارتفعت رابعة عن درجة العبادة والزّهد إلى درجة الرّضا. كانت في رضاها أروع وأصلب العباد «سُئلت يوماً كيف أرضى بالله؟ أجابت: «يوم تفرح بالنّعمة كما تفرح بالنّقمة لأنّ كليهما من عند الله، وأردفَت: «ثمرة العِلم الرّوحي هي أن تصرف وجهك عن المخلوق كيماتوجهه الى الله الخالق وحده، لأن المعرفة هي معرفة الله». «من عرف خالقه تهذّبت أخلاقه، ومن أستغفر من ذنبه، قَبِل الله وسيلته، ومن بادر إلى التّوبة، لم يَعُد إلى الذنب»، «لا تأنَسْ بغيري إذا ما وجدتني، وستجدني حيث تطلبني، ولا تخشَ سلطاناً ما دام سلطاني».

والأمير السيد(ق) يقول: «لا حول ولا قوّة إلّا بالله، له البقاء والدوام، وله الحمد على ما أعطى ومنع، وعليه الاتّكال وبه المُستعان. قبول أوامره طاعة وصبر، والاتّكال عليه عزٌّ ونصر، فهنيئاً لمن أطاع وصبر». صاحب الخُلُق الرفيع، رزقه حلال، عقله يقوّيه بمقابلة العلوم الحقيقية، ونظره بمقابلة المُنعم ورؤية جماله، مستأنسٌ بالله عزّ وجل، فلا خطايا ولا ذنوب ولا مجال للشرّ، والله العلّيُّ القدير، هو العَوْن والنّصير، ولا يخَفْ أحدكم إلّا ذنبَه ولا يرجُ إلّا ربّه (نايف عبد الخالق) الدّنيا تطيب بذكره والآخرة بعفوه. حَسَنُ الخُلق لا يَغْضبُ، ومن كفّ عَصَبَه، كفّ الله تعالى عنه عذابَه «تواضعوا يرحمْكم الله، واعفوا يعزّكُمُ الله، وتصدّقوا يرحمْكم الله، وابتعِدوا عن التكبّر والإعجاب. أوحى الله سبحانه وتعالى إلى النبي داود(ع): «لا تجالس المُتكبّرين ولا النمّامين، وإنّما الكبرياء لي، وأنا صاحب العزّة والعظمة والجبار الأعلى»، لا تحتقروا الفقير، ولا تسخروا من غيركم، ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات 13).

هي التقوى، اتَّقوا الله حتى يُصلحَ لكم أعمالكم، ويغفرَ لكم ذنوبكم. إنّ الله يحبّ المتّقين، ويُنْجي الذين يتَّقون والجنّة خُلقت للمُتّقين، لا تَحاسَدوا ولا تباغَضوا وكونوا عند الله إخواناً. فالموحّد الخَلوق مع إخوانه وجيرانه وقومه رؤوف شفوق، لا يتأخّر عن واجباته في التّعزية والفرح، يُسَرّ لِسرورهم ويحزن لحزنهم ويمدّهم بالعَون المادي والمعنوي، ويتّقي ربّه في السرّ والعلانية فللفرائض قُدسِيّتُها. يُرحّب بالضّيف، فالضّيف عنده ضيف الله، يؤمن بالقدَر وبالعمر المحتوم. الصادق الديّان صاحب الخُلُق الرّفيع، لا يُهمل العلم الرّوحاني ساعةً واحدة لأنّها ثمرة الرّوح وبه حياتها، وهو نور البصيرة وبدونه تستولي الظّلمة على النّفوس. الموحّد الحقيقيّ هو الزّوج العطوف والأبُ الحنون، حريصٌ على الكرامة، ونَيْل الرّزق الحلال، يعمل لتأمين أُسرته ورفع العوز عنها. والموحّدة الحقيقيّة، صفاتها صفات الموحّد، فهي الحانية على أولادها، المُخلصة لعائلتها، المتعاونة مع زوجها، تُتقن وتتمّم واجباتها الدينيّة والدنيويّة وشعارها «الكدُّ أمام العائلة عبادة ثانية». هي مهذّبة كريمة، عفيفة النفس، لا تلهيها بَهرَجةُ الدنيا عن عبادتها والأمير السيّد عبد الله التنوخي(ق) قد أمر بفتح المدارس للفتيات قبل الفتيان. وهو يعلم علم اليقين، أنّهنّ الركن الركين والأُسّ المتين في عملية بناء الأوطان المبنية على التقوى والفضيلة وتنشئة الأولاد والتّربية والتعليم والآداب والأخلاق العالية. فتاتَكم؛ هذّبوا خُلُقَها، ورَقُّوا نُهاها، وارفعوا قدرَها ولا تهملوها، هي بنتٌ لكم وأُختٌ وزوجة وهي أمٌ يطيب فيها بنوها.

إذاً، نستنتج إنّ مسلكيّة الموحّد والموحّدة الخُلُقيّة هي مسلكيّة حضارية، هي احترام للحياة العائلية، لا تفكيراً بالخروج عن الآداب الزّوجية. بيئةُ الموحّدين بيئةٌ نظيفةٌ، فيها عِفَّةٌ وعزّةٌ للنفس وبذلٌ للمعروف وصبرٌ ولينٌ وكرامةٌ وجِدٌّ ورِفقٌ، وصدقٌ مع النّفس ومع الآخرين، والتزامٌ بحسن التّعامل، «عامِلِ الناسَ بالتي هي أحسن، وبمثل ما تحب أن يعاملوك به». ومَن هو المسؤول عن بناء الأسرة وتربية الأطفال؟؟ لا شك أنَّ المسؤولية تقع ليس فقط على أكتاف الأمِّ وحدَها، بل على عاتق الأب والأم، في التأديب والتعليم والمراقبة. الولدُ أمانة عند والديه فإنْ عُوِّدَ الخيرَ نشأ عليه، وإنْ عُوّد الشرَّ نشأ عليه (الامام الغزالي). على الأهل أن يُحْسنوا التربية منذ الصّغر، لتترسّخ فيهم عادات السلوك الشّريفة وإشراق نور العقل وصفاء القلب، وذلك بفضل التربية الخلقية واستشعار هيبة الله، (الله معي، الله ناظري الله شاهدي)، وكذلك يقول الأمير السيّد(ق) «بدء الكلام بذكر الله: بسم الله، الحمد لله»، وأيَّة رسالة أشرف وأنبل وأعظم من رسالة العبادة للّـه.

والعبادة شرفٌ للعابد، هي صلة العبد بربّه ليستقيمَ خُلقه، إنّها السعادة الحقيقيّة في الدّنيا والآخرة إذا اقترنت بالإيمان والدِّين، يعمل على مرضاة خالقه بحسن أخلاقه، فتنجلي فيه الحكمة السامية، فيستطيع العالم الترقّي في درجات الكمال، والتقرّب إليه ذي الجلال والإكرام. إنّها النّعم الوافرة في معرفة علوم الدين التي أمدّنا الله بها عزَّ وجلَّ، لكسب المال الحلال، توصُّلاً إلى تمام النعيم بتجنُّب الموبقات والمعاصي، التي هي أساس كلّ خطيئة «فجنّات النعيم دوماً وأبداً لمن عمل الصّالحات».

إنَّها الثقافة التوحيدية الخلقية التي يجب أن تُعمّم، والصّلة الروحيَّة التي يجب أن تُحتَرم، لتكوِّن الموحِّدَ ذا الخُلق الحَسن:

وإنَّمــــــا الأممُ الأخـــــلاقُ مـــــــا بقيت         فــــــإن همُ ذهبت أخـــــلاقُهم ذهبـــــوا

وإذا أصيب النــــــــاس في أخــــــلاقِهم          فـــــــــأقِمْ عليهم مأتمـــــــــاً وعويـــــــــلاً

والله العليّ القدير هو العَوْن والنّصير، فتقرّبوا إليه بالعِلم والعمل، إنّها البُشرى، إذْ يعلم ويعمل فتحصيلهما هو الكمال الحقيقيّ، وهما مطلبان يقرّبان إلى الرّضا الإلهيّ. فالجهل يُخفِضُ أمّة ويذلُّها والعلم يرفعها أجلّ مقام. العلم فرح وسعادة، ونور، والعلم هو مِن نِعَم الله تعالى، والله سبحانه وتعالى اختار آدم، لِسرِّه المكنون وعلمهِ المخزون، فاعلمي يا نفس أنّك لم تُخلَقي إلّا للعلم والعمل. اقتران العلم بالعمل هو من الثوابت الأساسية في مسلك التّوحيد، وهما متلازمان. ﴿أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ مُعَلِّمُكَ لِتَنْتَفِعَ، وَأُمَشِّيكَ فِي طَرِيق تَسْلُكُ فِيهِ﴾ (سفر إشعياء ١٧:٤٨)، فالسيد المسيح كان يعلّم تلاميذه كلّ يوم في الهيكل. جاء في القرآن الكريم: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ (طه 114). فغاية العلم: التّوحيد، الذي هو علم الحقيقة، ويهذّب النفس إلى المعرفة، لتسيرَ في مسالك الارتقاء الرّوحي ولتصلَ إلى مفاهيم التوحيد التي هي العدل والحق والخير. العلم الحقيقي هو المنبثق من أمر الله، هو الغذاء الروحيّ للنفس والعقل وسلّماً للارتقاء من فيض الحكمة الربّانية لنصل إلى الغاية المُثلى التي حضّنا الله عليها. إنّ مسلك المُوَحِّد يوجب عليه العمل الصالح بما يقتضيه التوحيد من واجبات مسلكيّة والتزامات أخلاقيّة. قال تعالى: ﴿وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ (النحل 111)، هو البرهان الصّادق على حقيقة نواياه، وتصديق قلبه بالحقّ وإيمانه الرّاسخ بوجود الله.

تلك هي باختصار مسلكيّة الموحّد وأخلاقيته وأُهيب بكم إخواني وأخواتي، احترامها حيث كنتم، فالتوحيد غير محصور بمكان أو زمان أو لُغة. هو نزعةٌ في القلب وتوجُّهٌ في العقل، نحو الارتباط بالعقل الكُلِّي، فهنيئاً لمن يستطيع التألُّق في رحاب عليائه.

علينا أن نقرأ تراثنا، ونحاول بثّ هذه الحقائق بين أفراد مجتمعنا، خاصّة في هذه الأيام التي فُقدت فيها التربية الدّينية والأخلاقية وطغت المادة على الأخلاق والقيم الرفيعة، وأصبح شبابنا وشابّاتنا في ضياع، لأنّهم لا يفقهون شيئاً من علوم الدّين، وأصبح القابض على الدين في هذه الأيام كالقابض بيده على الجمر ذلك موضوع مُهِمّ ولا مجال للتوسّع في البحث فيه الآن. أمّا مسألة استمساك أمّة التوحيد بأخلاق الدّين كما أمر بها الله تعالى فهو أمرٌ شهد لهم فيه القاصي والداني، بأنّهم أعفُّ الخَلق بفضل خَشيتهم لله عزّ وجلَّ ومحبّته الممزوجة بدمائهم إنها خيرُ أمَّة خصّها الله بالمكرُمات.

العدد 27