الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

أما حان وقت وضع خلافاتنا “الصغيرة” جانباً؟

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران، 103)

آن لمن لا يعرف، والجميع يعرفون كما اعتقد، أن في الاتحادِ والوحدةِ والتعاضدِ والتضامنِ القوةَ والمنعةَ والسؤددَ، والخيرَ كلُ الخير؛ أما في الشقاقِ والافتراقِ فالشرُّ كلّ الشرّ، وما يصحبُ ذلك من التنابذ، والاختصام، والفتنة، والضعف، والعجز في المحصلة عن إدراك الحقوق البديهية المشروعة لأبنائنا، كما لسائر المواطنين، في وطنهم.

من يطلب برهاناً اجتماعياً أو سياسياً أو واقعياً على ما نقول فله ألفُ برهانٍ. فالخير المتأتي عن الاتحاد والوحدة والتسامح والتفاهم هو أضعافُ أضعاف ما «يؤملُ» تحصيله من التصعيد والافتراق والتنابذ والتناحر؛ ويبقى كلام الله في الآية الكريمة أعلاه خاتمة كل قول.

لا للافتراق والاختصام والتنابذ، «نعم» للتنوع في الاجتهاد والرأي، والتنافس في أفضل ما يخدم الوطن والمواطنين.

الاختلاف في الرأي داخل البيت الواحد والوطن الواحد أمرٌ شرعي، بل هو صحّيٌ وضروري. فهو يُظهر على المدى البعيد أفضلَ ما لدى الجماعة أو الأمة من مضمون وإمكانات – وهو معنى الديمقراطية وتفوقها على كل ما عداها. والاختلافُ في الرأي يعزز التنوعَ في مناهج التفكير وزوايا النظر في جملة المسائل التي تدخل في ما نسمّيه «الشأن العام»، الذي يخصّ الجميع من دون استثناء. وبهذا المعنى جرى القول المأثور، الصحيح، المتناقل منذ زمن طويل (الخلافُ في الرأي لا يفسدُ في الودّ قضية). ولكن هل ما يجري على المستوى المحلي هو فعلاً في باب الخلاف الصحّي ومن النوع المطلوب بل الضروري وجوده؟ مع الأسف، لا.

وعليه، فمن واجبنا الوطني والأخلاقي – والمهني – أن نقول على الورق، ما يقوله المواطنون علانية بمئة طريقة، وبينهم أكثرية الموحدين الدروز.

وهو أيضاً، ومن باب أولى، أبسط الواجب في أن نُخْلِص الخطاب، وكما تفعل دائما، حيال الآلاف من جمهور قرّائها ومريديها.

من باب الواجب الوطني والأخلاقي، إذاً، وبالصراحة تلك، القول إن القضايا الحقيقية التي تعني الشباب المعروفي – العاطل عن العمل، المهمّش، المُبعد عن دائرة القرار الإداري والاقتصادي – ليست تلك التي نصطرع عليها، وينشر البعض مع الأسف غسيلها على كل سطح – كما حدث في الأشهر القليلة الماضية.

المسائل الجزئية والفرعية، وغير الحقيقية في نهاية المطاف، ومهمّا زيّن في أهميتها المصطادون في الماء العكر، والمتربصون بالموحدين الدروز شرّاً، لا تستحق شيئاً مما أعطيناها من اهتمام وضجة وصراخ، أحياناً، ومن على بعض المنابر، عمداً أو عفو الخاطر في الغالب.

هي لا تستحق – وهنا بيت القصيد – أن تكون وبكل المعايير سبباً لشقاقٍ داخل البيت الوطني الواحد، أو لنزاعٍ أو فرقةٍ في جمهورنا، ولا لكلمات غير مناسبة – بل معيبة – تصدر عن مُعتدٍّ مُحتدٍّ متسرّعٍ لا علاقة لها بالسياسة ولا بلغة السياسة. التنافس بين القيادات السياسية والاجتماعية في الخدمة العامة مطلوب، والاختلاف في المواقف والأراء ضروري، ولكن أين؟ في أي ساح؟ ولأية غاية؟

مطلوبٌ أن تتنافس القيادات والمعنيون بالشأن العام في استعادة الحقوق السياسية والاقتصادية والوظيفية للمستضعفين في هذا الوطن والتي جرى اقتناصها، تدريجاً ومن دون خجل، وإلى الحد الذي بات معه «أهل الصبي» لا يعرفونه، ولا يخصّهم بشيء.

مطلوبٌ أن تكون لمواطنينا المهاجرين، بل المهجّرين ظلماً واستبعاداً وإكراهاً ويأساً، حقوق لهم مساوية لسواهم في خيرات الوطن وفرص العمل والترقي فيه.

مطلوبٌ أن تكون للمهمّشين منّا – ومن سوانا – في أطراف الوطن، مستشفيات وثانويات وفروع جامعية ووزارات ومصالح ومكاتب ودوائر نفوس ومراكز ميكانيك تُبقي أهلنا في قراهم فلا يجبرون على هجرة داخلية لا قِبل لهم بها، أو لنسيان حقوقهم، أو استجدائها عندما يسدّ كل طريقٍ آخر.

مطلوبٌ أن ينال شبابنا المتعلم والكفوء فرصاً مساوية لسواه في الدخول إلى «جنّة» الإدارة العامة: إلى مصرف لبنان، ووزارة المال، وشركة الكهرباء، والإحصاء المركزي، ومجلس الإنماء والإعمار، والجامعة اللبنانية، والأوجيرو، والهيئات الناظمة، والمواقع الحساسة الأخرى في كل الوزارات والمجالس والصناديق والمصالح (التي تفرّخ يومياً فلا نسمع بحاجتها إلى الموظفين إلا بعد سنة من امتلاء كادراتها!).

مطلوبٌ أن نكون موجودين في الوفود والبعثات الديبلوماسية حين تُرسل إلى الخارج، إسوة بمكوّنات الوطن الأخرى، وأن تكون لمناطقنا ومجتمعاتنا الفقيرة والمهمّشة حصتها العادلة من تقديمات المؤسسات والصناديق العربية والدولية.

المطلوبٌ أخيراً، وأكثر من ذلك بكثير، أن نرفع الصوت، وربما العرائض، لنقول للجاهلين الناسين أوالمتناسين، وللناكرين والجاحدين في آن: أنْ مَهلاً يا قوم … فليقف من ضحّى أكثر منّا في سبيل قيام الوطن، وحفظه، لنتعرّف عليه…لأننا بالفعل لا نعرفه. ليقف من دفع من دمه وجيبه وعرقه وتعبه أكثر من سلطان باشا ومحمد أبو شقرا وكمال جنبلاط ومجيد أرسلان … لتكون لنا بلدان مستقلة وأوطان شامخة لنتعرف عليه حقاً – من دون أن يعني ذلك أبداً أننا وحدنا من أقام البلدان وحفظها، إلا أننا كنا وبشهادة التاريخ في الصف الأمامي في كل ساح تطلّب إقداماً وتضحية بالغالي والنفيس!

المطلوب كثيرٌ جداً، إذاً، لمن يحتاج عناوين لمعاركه ولعمله السياسي. أما أن ننساق في حملات تجريح وافتراء وتزييف داخلية، فهذا ظلم لأنفسنا قبل الآخرين، نندم عليه بعد حين، ساعة نستفيق من ضغط اللحظة ونكشح غشاوة الأوهام عن أعيننا. وباب مؤسسات الطائفة مفتوح على مصراعيه للجميع، ودون استثناء، لمن يرغب بالعمل العام، والتضحية والبذل والعطاء: ولم يحدث قط أن وُضِع قيدٌ أو شرطٌ واحد، في أية لحظة، ومن أي نوع، على راغبٍ بالإسهام والعمل في واحدة من مؤسسات الطائفة الشرعية، بل إن المؤسسات نفسها هي من تبحث في غالب الأحيان عمّن يرغب ويستطيع أن يكون جزءاً من العمل الوطني والاجتماعي العام لطائفتنا المعروفية، وفي ظل القوانين والأنظمة المرعية الإجراء.

وبعد، فمطلوبٌ، وعلى المستوى الداخلي، أن نجتهد حتى درجة الاختلاف في المواقف والأراء، ومن وجهة إيجابية، في كل ما يخدم أكثر وطننا، ومجتمعنا، وشبابنا، ولكن، كفى تضييعاً للطاقات التي نحتاج لكل قطرة منها، وأكثر. كفى تناقضات لا ترضي رب العالمين ولا تتصل أو تخدم مجتمعنا وأهلنا في شيء. ألا «اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا»….وأنتم قادرون بالحكمة التي أوتيتم إياها على حلّ ما أشْكَلَ من إشكاليات وما استعصى من صعوبات. والقادة السياسيون والروحيون بيننا أهلٌ لتولّي مناط كل الأزمات وإدارتها على النحو الهادئ والصحيح وصولاً الى خواتيمها السعيدة.

لقد دلّ سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز القاضي الشيخ نعيم حسن إلى الطريق الصحيح للخلاص من كل الإرباكات الصغيرة التي بتنا نتسربلُ بها منذ بضعة أشهر بأن دعا الجميع إلى «كلمة سواء» واحدة، نجتمعُ حولها فننجح، فيصيبُ من ثمة سهمُنا… إذا خلُصت النوايا. فالأعمال بالنيّات.

هوذا مضمونُ رسائل شيخ العقل المتكررة، من خلال منبر ، وفي مناسبات دينية واجتماعية كثيرة، دعوةٌ يجب أن تشكل القاعدة لالتفاف واسع حول الموقف الوطني التوحيدي الجامع، والعمل من ثمة في هَدْيه، فيستقيمُ أمرُنا أمام مجتمعنا، وضمائرنا، وأمام رب العالمين قبل كل شيء.

والله وليّ التوفيق.

أخبار ثقافية سريعة

المكتبة الوطنية – بعقلين

تستمر قاعات المكتبة الوطنية في بعقلين (بإدارة الأستاذ غازي صعب) منصة للتلاقي الروحي والثقافي والوطني، وفسحة للأدب والمطالعة والتحصيل العلمي، فتحقق أرقاماً قياسية في الإعارات الخارجية، وفي عدد المستفيدين من أنشطتها. وتشهد المكتبة الوطنية أسبوعياً تقريباً أنشطة وندوات ومناسبات، نكتفي بذكر اثنتين الآن:
٢٠١٩/٢/٢٨، افتتاح مسرح المكتبة الوطنية بحضور معالي وزير الثقافة الدكتور محمد داوود، وشخصيات وطنية وثقافية.Dhoha
٢٠١٩/٣/٢٣، ندوة موسعة حول مضمون وثيقة «الأخوة الإنسانية» التي وقعت في أبو ظبي، وأهميتها، لبنانياً وعربياً وإنسانياً، بحضور رجال دين لبنانيين بارزين وجمهور واسع.


تستمر اللجنة الثقافية في بلدية الشويفات برئاسة الأستاذ هيثم عربيد في نشاطها الثقافي الواسع في قاعة مكتبة الأمير شكيب أرسلان التابعة لبلدية مدينة الشويفات، وقد أعلنت الشويفات «مدينة ثقافية للعام 2019». ومن بين أبرز أنشطتها الأخيرة:

تكريم الشاعر نعيم تلحوق وندوة حول شعره.

ندوة وتوقيع لديوان الشاعرة سناء البنّا الجديد «أشجار الليل»


ندوة وتوقيع للأديب د. نبيه الأعور في مركز الجرد الثقافي التابع لبلدية صوفر.

راغب بوحمدان يقدم تجربة رائدة في المزج بين الحروفية العربية والمظاهر المادية العربية، وقد بات للتجربة تلك نجاحات في غير مدينة عربية.
مشاركة للفنانة التشكيلية عتاب فخرالدين في معرض «لوحات تحت الماء»، وهي مشاركة أخرى لها بعد مشاركة سابقة في معرض «لوحات ضد السرطان».
معرض للفنانة التشكيلية هناء عبد الخالق في 5 نيسان.
معرض في الطبيعة لمنحوتات وائل أبي عاصي في راشيا تناولت مشاهداته. يجسّد الفنان المقتدر في الحجر اللبناني أحاسيسه وأفكاره، والكثير من أعماله بات يزيّن مداخل قرى عدة في منطقة راشيا.
———————————————-

وداعاً… الأستاذ محمود صافي

تنعي إلى اهل الثقافة بعامة، وإلى قراء على وجه خاص صديق الاستاذ محمود صافي، مدير الدار التقدمية للطباعة والنشر، الذي وافته المنيّة الاثنين في ٨ نيسان ٢٠١٩. اشرف المرحوم محمود على انتاج ونشر مئات الأعمال المهمة، لعل أبرزها الأعمال الكاملة للامير شكيب أرسلان، كمال جنبلاط، الأمير عادل ارسلان.
رحمة الله لروح الاستاذ صافي ونتقدم بأحر التعازي من أسرته واصدقائه.

أحْوجُ ما نحتاجُه اليوْم

إذا كانت النّفس – وهي أَمّارة بالسّوء – تدفع صاحبها إلى الشرّ والفِتن ومهاوي الاختلاف والتّفرقة والرذائل والشّهوات وغيرها، فقد أوجد الله ضدّاً لها يكبح جماح هواها وهو الضّمير.

وأحياناً تسيطر النفس الهاوية لما ذُكر على الضّمير فيبدو ضعيفاً لا قوّة له على المعارضة منقاداً إلى غاية تلك النّفس، ولكنّها وإن تغلّبت عليه في الفتن والمعاصي، فإنّها ستبقى عاجزة عن قتله، ولا بُدّ يوماً من أن تضعف، ويكون الضمير هو المُنتصر يدعوها إلى التّوبة، ولو قبل رجوع النفس إلى خالقها بساعات.

ضميرُ المُوَحِّد بمثابة رُوحه، لا يُهمِلُه، ولا يتغافل عنه، ولا يغدر به، لأنَّه إنْ فعل – لا قدَّر الله – ضاعت روحُه وتاهتْ عن الغاية التي وُجِدت أصلًا لبلوغها مقدار الوُسْع. والضَّميرُ هو سرُّ المرء وما في «داخل الخاطِر»، لكنْ يُعرَف منهُ للنَّاسِ ما يُظهِره صاحبُه من أعمال. ولا يجبُ بأيِّة حالٍ من الأحوال الحُكم على مُجرَّد الظاهر والأقاويل والتأويلات، بل إنَّ ذا البصيرة يتحقَّقُ الصِّدق فيما يُضْمرُه ويحكم به. فالسّرائر يعرفُها ربُّ العالَمِين معرفةً تقومُ بها الأحكامُ يوم الدِّين ﴿يَوْمَ يتـذكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى﴾.

و«الخَاطرُ» لُغويّاً هو «ما يخطُرُ في القـلبِ من تدبيرٍ أو أمْر». والقلبُ كما قال الشيخ البقعسماني:

أرى القلبَ مَوْلًـــــــى والجوارحَ جُنـــــــده
وكـــــــــلٌّ هَـوَ بـــــــادٍ بمَــــــــــا هوَ عنـــــــدَهُ

أي أنَّ ما تجترحُهُ آلةُ الرُّوح (الجسم) من أفعال هي في الحقيقةِ مُترتِّبةٌ عمَّا في القلب من أحوال، فإنْ مالَ القـلبُ مع الهوَى، ضعُـف العـقلُ وكثُرت العثَرات. أمَّا إن كان القلبُ خفّاقاً بمحبَّة الفضيلة، مُتَشوِّقاً إلى تحقيق ثَمَراتها في ذاته ومع أهله وفي مجتمعه، فهو إذاً القلبُ المُوحِّد، وهو إذاً الذي سكنَت فيه لطائفُ المعاني لا يزحزحُها منه أيُّ شأنٍ مُخالِف.

إنَّ أحوجَ ما نحتاجُه اليومَ، وسط عواصف الرِّمال الخانقة من الأقاويل المُلتبسة، والظنون المُركَّبة، والالتباسات المُشوِّشة، والتلفيق المتكاثر في الإعلام، وسيْـل الصُّوَر والخبريَّات التي ليس لها شأن سوى إثارة الغرائز والتحريض والانفعالات وزرع هواجس الشكوك والشُّبهة من عن يمين وعن شِمال دون الأخذ بعيْن الاعتبار الأولويَّة الأولى الضروريَّة (وهي ما نحتاجه) أي التزام التعقُّل والهدوء والحكمة والإمعان في استيعاب الأمور تقرُّباً إلى حقائقها وفق ما هي عليه لا وفق ما تشتهيه نفوسُنا، وتتمنَّاهُ أهواؤنا، وترغب به أطماعُنا في الوصول إلى مصالحِنا الخاصَّة أو الفئويَّة أو العصبيَّة في غفلةٍ عمَّا تقتضيه المصالح العُليا للمجتمع المتضامن.

نحتاجُ إلى جلاء بصيرتنا لترى ما لا تراهُ العيون ولا تنقله الألسُن المُغرضَة. والتي زادت حدّتُها مع وسائل التواصل الاجتماعي، فسهُلت الغيبة والنميمة خلافاً للقاعدة التي تقول «إنّ الغيبة تأكل الحسنات كما النار تأكل الحطب»، نحتاجُ إلى المثال الأخلاقيّ الذي يعلِّمنا إيَّاه تراثنا التَّوحيدي في بُعْدَيْه: الذاتي والاجتماعي. وهو مثـالٌ يوجبُ الكثير من الخصال السامية منها: التواضُع والحِلم والإيثار وحُسن الظَّنّ واتِّساع فُسحة العقل، هذا بالطبع بعد الخصال البديهيَّة التي يجب أن تكون في جِبِلَّاتنا وهي الصِّدق والتعاطُف والتمييز والتقوى التي هي «جماع الخير كلّه».

ولا شكَّ عندنا أنَّ الإخلاص في هذا السياق الآنف الذِّكر هو السِّلاح الذي يجدُر بنا أن نتحصَّن به إزاء كلّ الصِّعاب التي هي من طبائع الزَّمن. والمُوحِّدون يهذِّبون أنفسهَم وأخلاقَهم وعاداتهم ومسالكهم بما هو أشدُّ رسوخاً من كلِّ الأزمنة، مُرَدّدين قوله تعالى
﴿وَاتَّــقُوا اللهَ وَاعْلـمُوا أنَّ اللهَ مَعَ المُـتَّـقِـين﴾.

نسألُ اللهَ أن يجعلَ في الضّمائر قوّةً في مواجهة النفوس الهاوية إلى الفتن والمعاصي لكي تستفيق تلك الضمائر، وقدَّرَنا على اتّباع الرّأي الصائب إنّه سميعٌ مجيب.

أزمة الصحافة الورقية… وسخاء أصدقاء الضحى

الصحافة المطبوعة (الورقية) في أزمة. لا يتضمن العنوان هذا جديداً. هوذا حال الصحف والمجلات الورقية (غير المموّلة من الحكومات) في العالم بأسره، وحال الصحافة العربية واللبنانية على وجه الخصوص. ففي سنتين لا أكثر توقفت 4 صحف لبنانية يومية عن الصدور، وأكثر من دزينة من المجلات الثقافية وغير الثقافية، الأسبوعية أو الشهرية أو الفصلية.

مربطُ الخيلِ في هذه المقدمة هو مجلتنا، ومجلتكم، العزيزة الضّحى. إذ ليس سرّاً أنه ما كان في وسع الضّحى أن تستمر بالصدور في مستواها الحالي الهادف والمتقن مضموماً، والمُكلف جداً إنتاجاً وطباعة وتوزيعاً، من ريع اشتراكاتها السنوية، ومبيعاتها في المكتبات أو للأفراد، فقط.

بتعبير آخر، الضّحى تستمر، وستستمر مستقبلاً، بتوفيق من الله قبل كل شيء، وبدعم غير محدود من سماحة شيخ العقل رئيس المجلس المذهبي، واللّجنة المشرفة، وبسخاء التبرعات والإسهامات المالية التي تتكفل بنفقاتها: من أعضاء مجلس الأمناء الأكارم أولاً، ولهم الفضل الكبير، ثم من مساهمة المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز ثانياً، وثالثاُ من أصحاب الأيادي البيضاء والمعطاءة من قيادات ورؤساء بلديات وشخصيات عامة خيّرة، ومن أفراد عاديين.

بفضل جهود العاملين في الضحى ، المتفانين في عملهم، وبفضل من ذكرتُ آنفاً من الخيّرين، تستمر الضّحى بالصدور، وتتطور، وتتعزز، وتصل باستمرار إلى شرائح جديدة في لبنان وسوريا ومناطق أخرى…

الضّحى رسالة سامية نؤديها معاً، وليست مجرد مطبوعة دورية، وستظل بتوفيق من الله تعالى، وبدعمٍ من أصدقائها وإخلاص العاملين فيها، خطاب المسلمين الموحدين، العربي، الوطني والجامع.

The Druze Spoons

When the battles of the Great Syrian Revolt ended and the rebels moved to Azraq area in Jordan, Britain promised France to end the revolt and besieged the rebels by various means of oppression and starvation until they left to Sirhan Valley and so their journey of torment and the urgent need of children and women for food began in this harsh desert. Sultan al-Atrash was informed and he contacted the Mufti of Jerusalem, Amin al-Husseini, asking for help who indeed aided them and entrusted Sobhi al-Khadra to accompany a relief convoy carrying life necessities. After an arduous journey, the convoy arrived to Sirhan Valley and it had a great impact on the rescue of al-mujahideen and their families.

Sobhi al-Khadra noticed that al-mujahideen used wooden spoons made from boxes filled with subsidies because of the lack of metal spoons. Sobhi al-Khadra asked the permission of the General Leader to take these spoons. When he returned to Jerusalem, he talked to members of the Supreme Muslim Council about the suffering of the rebels and the evidence was these spoons. Therefore, Amin al-Husseini ordered to put these spoons in Al-Aqsa Mosque and wrote a phrase beside them:

(He who wants to be connected to the land and national dignity shall contemplate and eat with the Druze spoons)

This phrase remained in the mosque until 1948.

Mercy for those who made the glory of the homeland and its independence away from the lights of the hollow fame.

ملاعق الدروز مدينة القدس (المسجد الأقصى) أيار ١٩٢٧

عندما انتهت معارك الثورة السورية الكبرى وانتقل الثوار إلى منطقة الازرق في الأردن تعهدت بريطانيا لفرنسا بإنهاء الثورة وحاصرت الثوار بشتى الوسائل من قهر وتجويع حتى غادروا إلى وادي السرحان ولتبدأ رحلة العذاب في هذه الصحراء القاسية والحاجة الماسة إلى الأطعمة للأطفال والنساء وقد أعلم سلطان الأطرش وطلب النجدة من مفتي القدس أمين الحسيني وفعلا انجدهم المفتي وكلف صبحي الخضرا بمرافقة قافلة إغاثية تحمل مستلزمات الحياة وبعد رحلة شاقة وصلت القافلة الى وادي السرحان – الحديثة – وكان لها الاثر البالغ في إنقاذ المجاهدين وعائلاتهم.

ولاحظ صبحي الخضرا أن المجاهدين يستخدمون ملاعق خشبية صنعت من الصناديق المعبأة بالإعانات لعدم توفر الملاعق المعدنية وقد استأزن صبحي الخضرا من القائد العام بأخذ هذه الملاعق وعندما عاد للقدس تحدث الى أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى عن معاناة الثوار والدليل هذه الملاعق التي يأكلون بها ….فأمر امين الحسيني أن توضع هذه الملاعق في المسجد الأقصى وكتب عبارة بجانبها:

«من أراد أن يرتبط بالأرض والكرامة الوطنية عليه أن يتأمل ويأكل بملاعق الدروز».

وبقيت هذه العبارة موجودة بالجامع حتى عام 1948 الرحمة لمن صنع مجد الوطن واستقلاله بعيدا عن الأضواء والجاه الأجوف.

Printed Journalism Crisis …and the Generosity of Dhoha Friends

Printed journalism is in crisis. This title doesn’t include anything new. This is the case of printed newspapers and magazines (not funded by governments) worldwide, and the Lebanese and Arabic journalism in particular. In just two years, four Lebanese daily newspapers have stopped publishing along with more than a dozen of weekly, monthly, or quarterly cultural and non-cultural magazines.

The purpose of this introduction is our and your dear magazine “Dhoha”, since it is not a secret that Dhoha magazine could not continue publishing at its current committed and mastered level of content, which is very expensive to produce, print, and distribute solely from its annual subscriptions and sales in libraries and for individuals.

In other words, “Dhoha” magazine continues and will continue in the future by the grace of Allah in the first place and the unlimited support of His Eminence Sheikh Al-Aql, the President of Druze Council, and the designated administrative committee; along with the generosity of donations and financial contributions that provide its expenses: first from the members of the Board of Directors who has the greatest merit, second from the contribution of the Druze Council, and third from generous people constituting of leaders, mayors, public figures, and individuals.

Thanks to the efforts of the employees of Dhoha, who are dedicated to their work, and thanks to those mentioned above, Dhoha magazine continues to publish and develop to reach new segments in Lebanon, Syria and other regions.

Dhoha magazine is a noble mission accomplished together, not just a periodical publication; and will continue with the help of Allah, the Almighty, and the support of our friends along with the loyalty of our employees to be the unified Arabic national speech of the Unitarian Druze community.

سلطان باشا الأطرش ورفاقه…

في شهر حزيران من عام 1927 حَسَمَ الفرنسيّون والإنكليز أمرهم على محاصرة الثوّار الذين يقودهم سلطان باشا الأطرش بهدف تحرير سورية من الاحتلال… وهم الذين كانوا قد هزَموا الفرنسيين في أكثر من معركة منذ عام 1925 وقد انتشرت ثورتهم في العديد من المحافظات السورية وامتدت إلى عدة مناطق في لبنان منها راشيّا وحاصبيّا وأكروم والضنيّة…

حوصر الثوّار في منطقة الأزرق من الأراضي الأردنية، بهدف إرغام الثواّر على وقف العمليّات الحربيّة ضد الفرنسييّن في الأراضي السورية، شرطاً للعفو عنهم. في ذلك الحين «قَدِم إلى الأزرق موظفان أفرنسيان مع المعتمد البريطاني في عمّان وابط إنكليزي فاجتمعوا بممثلي المجاهدين طالبين منهم العودة إلى الوطن. فاشترط وفد الثوار من قبل سلطان باشا:

  1. إعلان العفو العام عن الثوار دون قيد أو شرط.
  2. إعلان الوحدة السورية وتلبية المطالب السورية.

فوعدهم المندوب الفرنسي بتحقيق المطلب الأوّل عدا العفو عن سلطان وصياح الأطرش ومحمّد عز الدين الحلبي وفؤاد الحلبي، وآخرين، أمّا المطلب الثاني فهو من اختصاص المندوب السامي الفرنسي، «بونسو»…(1)، ومن هنا تفاقمت مضايقات الإنكليز للثوار بمنعهم من الحصول على الماء ومنع إمدادات الغذاء عنهم.

سلطان باشا يرفض عرضاً بريطانياً مغرياً مقابل التخلّي عن الثورة

ومن مجريات تلك الأيام يقول سلطان باشا: قابلنا المُعتمد البريطاني في عمّان في موقع الأزرق في جلسة دامت نحو ساعتين حاول فيها إقناعنا بضرورة إنهاء الثورة والتَّسليم للأمر الواقع دون قيد أو شرط، وممّا عرضه علينا في نهاية الجلسة وضَمِن لنا تحقيقه دون إبطاء قوله: «إنّ حكومة صاحبة الجلالة البريطانية تتكفّل بتقديم قصر خاص بإقامتكم في مدينة القدس وراتب كبير يضمن لكم العيش الهنيء والسعادة مدى الحياة». فشكره سلطان قائلاً: «إنّ سعادتنا باستقلال بلادنا وحرية شعبنا. ولو كان العيش في القصور غايتنا لكنّا بقينا في دورنا الرَّحبة واستجبنا لدعوة الفرنسييِّن المتكررة بالاستسلام. إنّ طلبكم هذا فيه مساس بكرامتنا فلا نرضى إطلاقاً أن تكون المفاوضة معكم أو مع حلفائكم الفرنسيين إلاّ على أساس صُلْح مُشَرّف تتحقّق فيه المبادئ التي قامت ثورتنا عليها ومن أجلها وتتلخّص بحرّية البلاد ووحدتها وجلاء القوات الأجنبيّة عنها».

كان سلطان باشا يعتبر أنّ استقلال سورية أمر مرتبط بكرامة الشعب السوري وكرامته الشخصيّة، فرفض أيّة مساومة على ذلك، ولمّا لم تُفلح العمليّات القتاليّة في طرد الفرنسيين من البلاد أبى أن يعود إلى سورية يرفرف عليها علم الاحتلال، يقول: «اتصلت بأعضاء مكتبنا الدائم في عمَّان… فاتصلوا بدورهم ببعض الشخصيَّات العربية في القدس والقاهرة وتمّ الاتفاق معهم على انتداب السيد شكري القوّتْلي للذهاب في الحال إلى المملكة العربية السعودية للتفاوض مع الملك عبد العزيز آل سعود لقبولنا في بلده لاجئين سياسيين..» فقَبِل بعد اعتذار وتردد، وجاءت برقية فيها «قائد الثورة السورية سلطان الأطرش. أقْبِلوا على الرّحب والسعة ـ عبد العزيز»(2).

إنّ سعادتنا باستقلال بلادنا وحرية شعبنا. ولو كان العيش في القصور غايتنا لكنّا بقينا في دورنا الرَّحبة واستجبنا لدعوة الفرنسييِّن المتكررة بالاستسلام. إنّ طلبكم هذا فيه مساس بكرامتنا.

رحيل الثوّار إلى المنفى

في الساعة السادسة من مساء يوم الاثنين 22 حزيران 1927(3) أُجبر الثوّار على مغادرة مواقعهم في الأزرق، ويصف سلطان باشا مشاهد رحيلهم إلى المنفى الصحراوي مع عائلاتهم وخيولهم وجمالهم مواشيهم بقوله: كانت مشاهد رحيل الثوّار من الأزرق مثيرة لأعمق المشاعر الإنسانيّة، وأنّهم قد رضوا أن يفارقوا الدّيار التي كانوا يأنسون بسكناها قريباً من الأهل والأحبّة في ربوع الجبل، فسارت قوافلهم المؤلّفة من نحو ألف نسمة باتجاه موقع «العْمِرِيْ» جنوباً في عمق الصحراء بعد وداعهم الأليم لذويهم ورفاقهم في الجهاد الذين قرروا العودة إلى الجبل، إثر صدور قرار فرنسي بالعفو عنهم.

عرض إنكليزي

عندما نزل سلطان باشا في موقع «العْمِري» في الصحراء على بعد مئات الكيلومترات من الجبل وعلمَ الإنكليز أنّ السعوديّة وافقت على لجوء الثوار إليها أرسلوا وفداً برئاسة الكولونيل «سترافورد» للتفاوض معه من أجل العودة إلى الأزرق! فرفض عرضهم وقال لسترافورد «لم تَعُدْ لنا رغبة في العودة؛ لأنّكم لا تحترمون العهود وسوف نُقيم في الصحراء التي خرج منها أجدادنا.. وسنجد فيها بالإضافة إلى كرم الضيافة مجالاً رحباً للتمتّع بحرّيتنا الكاملة التي افتقدناها منذ أن انتدبتكم عصبة الأُمم علينا وصيّرتم معنى الانتداب استعماراً قائماً على البطش والإذلال وابتزاز خيرات الوطن!(4).

الثوّار يحطّون رحالهم في وادي السّرحان

كان عدد الثوار اللاجئين بضع مئات من السوريين يرافقهم بضع عشرات من الثوار اللبنانيين نزلوا في أرض صحراوية مُقفرة فيها نبع ماء عذب يدعى «جوخة» وبضع من أشجار النخيل. وكان من طليعة النازلين في المكان الأمير عادل أرسلان وحمد صعب وشكيب وهاب (لبنانيون)، ومحمّد عز الدين وعلي عبيد وقاسم أبو خير وعلي الملحم، وقد نزلوا في خيام قليلة كانت لديهم واضطرّ آخرون كُثر إلى صنع الطّوْب (اللِّبِن) من تراب الصحراء لبناء مساكن بدائية صغيرة سقوفها من القصب وجذوع وأغصان أشجار مجلوبة من أماكن بعيدة. كان عليهم التآلف مع حياة البادية الشاقة والمناخ الصحراوي وقد وجدوا متعة في صفاء طبيعة البادية بادئ الأمر، وراحة الهدوء في آفاقها الواسعة، لكن الفصول الانتقالية في الربيع والخريف كانت تتسبب لهم بأشد المعاناة، حيث رياح السموم الهوجاء تهبّ عليهم من الشرق والجنوب الشرقي تبدل من معالم الأرض فتصعب الرؤية والتنفس بفعل الأتربة والرمال المتطايرة في الفضاء «فتكتسح خيامنا وتسدّ منافذ بيوتنا في بعض الأحيان»(5).

وممّا ورد في يوميات صياح الأطرش لتلك الأيام أنّه في يوم 19 آب 1930، «تمزّق بيت سلطان باشا بسبب العواصف وأمضى أكثر النهار بخياطته».

ويوم الاثنين 29 كانون الأوّل «ذهبنا بصحبة سلطان باشا لجلب الحطب فكانت الدماء تسيل من أيدينا وليلاً حصل رعد وأمطرت الدنيا علينا وسالت الأرض وانجرفت الأدوات وأكوام الحطب مع السيل». وفي البحث عن الماء تمكّن بعضهم من الحفر في الرمل على عمق بضعة أمتار لإرواء الخيول والماشية وقد جمعوا الحطب من نباتات الرّتم لمواجهة ليالي الصحراء الباردة. وكذلك «اضطروا لقلّة الطعام أن يأكلوا الأعشاب والجراد والضباع من شدّة الجوع، وقد أصاب سلطان وأفراد عائلته ما أصاب الآخرين من جوع وعطش، وكان يقوم مع ابنه منصور بجلب الماء خلال الليل من بئر بعيدة فيحمل هو قربة كبيرة ومنصور قربة صغيرة وكانت زوجته تقوم بجميع أعمال المنزل وتحتطب(6)، وقد وصف الأمير عادل أرسلان عيشة المجاهدين في تلك البرِّية الموحشة يقول:

وعــصــبـــــــةٍ عـــربــــــــاء فوق الثّــــــرى
لكنّهـــــا مـــــن مجدهـــــــا في صـــــروح
فـــــــي مَهْمَــــــــهٍ قَفْــــــــرٍ كأنّ السّــــــما
لـــــــــم تَرْوِهِ بالقَطرِ مـــــــن عهد نــــوح
إنســـــــــــانُـهُ ضَــــــــــبُّ وأشــجــــــــــــارُه
شـــــــــــِيحُ وأصــــواتُ التَّغنّي فَحيـــــــح
كُـــــــلُّ رغيــــــــــفٍ حولَــــــــهُ تسعــــــــــــةٌ
كأنّــــــما صـــــــــلّى عليــــــه المسيــــــــــح

كانوا يأكلون ورق نبات القَطف وتَمْر الأمصع (وهو نبات له عناقيد شبيهة بعناقيد العنب ذي الحبّ الصغير) عندما يضعف المَدَد ويتأخّر التّموين في الوصول إليهم. أمّا أغنام الثوار التي كانت ضرورية لتغذية أطفالهم بحليبها فكانت تفتقر إلى المراعي المناسبة حيث لا تجد أمامها في تلك الصحراء سوى نباتات الحَمْض والشّيح وبعض الأعشاب الهزيلة في فصل الربيع حيث تشاركها في الرعي الخيول والإبل التي لم يبقَ لديهم منها إلّا العدد القليل.

ملاعق الثوّار

يقول المجاهد زيد الأطرش وهو شقيق سلطان ورفيق جهاده وأحد قادة الثوار البارزين يصف معاناة الثوّار في الصحراء: «وعطشنا، وعطشت خيولنا وبلغت الأرواح التَّراق! حتى رأيتَ بعضنا قد شرب بول الإبل، فزاد ذلك من عطشهم عطشاً، فأرسل سلطان يستنجد بالحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، ليغيث الثوّار على جناح السّرعة، وينقذ من يمكن أن يظلّ على قيد الحياة منهم..!

ولبّى الحاج الحسيني الطلب، فوصلت إلى جموع الظاعنين سيّارة تحمل ماء وطعاماً وبعض الدواء.. وكان ممّا تحمله صفائح مملوءة بـ القمردين، وهو نقوع ثمر المشمش، وفرح المجاهدون وهتف الأطفال لمنقذيهم.. وأسرعنا نفتح صفيحة القمر دين كي نبلَّ الأفواه الجافة لكنّ هذا لا يؤكل إلاّ إذا دُعِكَ بالأيدي ليذوب
في الماء ثم يُشربَ بعدها. ها هو محلول القمردين قد أصبح جاهزاً. ولكن كيف يؤكل بلا ملاعق؟ ومن أين نأتي بها في تلك الصحراء المقفرة… عندها عمدنا إلى صناديق الخشب التي حملت الطعام نكسرها قطعاً قطعاً مثل مساطر طلّاب المدرسة وجعلناها ملاعق نحتسي بها منقوع القمر دين نملأ البطون الجائعة ونبلّ الشفاه اليابسة، واعتذاراً عن هذه الصورة البدائية والوحشيّة في التهام الطعام! ولمّا رأى هذا المشهد مبعوث الحاج الحسيني وهو المجاهد والمحسن صبحي الخضرا ولا أدري موطنه تماماً إن كان من القدس أم من مدينة نابلس، فحمل ملاعقنا الخشبية معه وعاد بها إلى القدس يقصّ على أعضاء المجلس الإسلامي الأعلى ما رأى، وليس من رأى كمن سمع.

تأثّر الحسيني ورفاقه بهذه الرواية وأمروا بوضع تلك الملاعق والصفائح الفارغة في زاوية من زوايا المسجد ألأقصى المبارك في القدس وفوقها لائحة كُتِبَ عليها : «صحون وملاعق مجاهدي الثورة السوريّة» وبقيت هذه الوثيقة شاهدة على شرف النضال حتى عام 1947(7).

انقلاب في الموقف السعودي وسلطان يرفض تجريد الثوار من سلاحهم في وقفة عز!

كان قد مضى على إقامة الثوّار في وادي السّرحان نحو ستة شهور عُومل خلالها الثوّار معاملة طيبة من قبل ممثلي السّلطة السعودية وبعض عشائر المنطقة من حيث الحفاوة وحسن الاستقبال وكرم الأخلاق، لكنّه في ذات يوم قدم إليهم الأمير سليمان الشنيفي مندوباً عن الملك عبد العزيز فرحّبوا به وأكرموا وفادته غير أنّه فاجأهم بقوله «أمرنا جلالة الملك بجمع السلاح منكم يا سلطان والمهلة التي نعطيكم إياها ثلاثة أيام(8)، فأجابه سلطان قائلاً «سلاحنا شرفنا أيها الأمير! فهل من المعقول أن نُسَلّمه ونحن نعيش مع عيالنا هذه الظّروف القاسية والأحوال السيّئة في هذه الأرض الموحشة المنقطعة؟».

قال الشنيفي: «إنّني مأمور بتنفيذ هذه المهمّة يا سلطان مهما كانت الظروف والأحوال!».عندها قال له سلطان بحزم وتصميم: «لن نُسلّم سلاحنا ما دام فينا عِرْق ينبض! لقد كنّا نتوقّع من جلالة الملك عبد العزيز ومن أعضاء حكومته ومستشاريه أن يمدّونا بالمال والعتاد لنعود إلى بلادنا ونستأنف الجهاد ضدّ الفرنسيين، لا أن يأمروا بتجريدنا من السلاح ليميتوا في نفوسنا النخوة ويضعفوا روح الكفاح ويعرّضونا بالتالي لخطر الغزوات البدويّة المألوفة في هذه الأرض القفراء». وبعد أن تكوّنت لديه بعض القناعة بوجهة نظرنا رفع أمرنا إلى رؤسائه، فجاءت التعليمات بأن يتّفق معنا على ما يلي:

  1. يحتفظ المجاهدون بسلاحهم ويحقّ لهم نقله ضمن المنطقة دون معارضة.
  2. تتعهد قيادة الثورة بعدم القيام بأيّ نشاط يخلّ بالأمن أو يخالف النظام والقانون المعمول بهما في المملكة(9).

سلطان باشا الاطرش

صمود في مواجهة التجويع

بالإضافة إلى الخطر الذي كان يهدد وجود الثوار من بعض العشائر المجاورة التي اعتادت التكسّب من السلب والغزو في تلك الصحراء التي لم تترسّخ بها سلطة الدولة بعد فقد كانت العراقيل توضع في وجه تموين الثوّار بالمواد الغذائية وكان المجاهد علي عبيد المعروف بحنكته السياسية والاجتماعية مكلّفاً بشراء مستلزمات الثوار ومواد إعاشتهم من عمّان «فأُوقف بأمر من القائد البريطاني في الأردن «غلوب باشا»، ولم يُطلق سراحه إلاّ بعد بضعة أيّام… وكانت مثل هذه المضايقات تنعكس على معسكر المجاهدين جوعاً ونقصا في حاجات ضرورية كثيرة.

الأمير عادل أرسلان: رغيف الخبز أغلى من الذهب

يقول سلطان باشا:»غير أنّ أخواناً لنا في الوطن والمهجر لم ينسونا أ ثناء تلك الضائقة الشديدة التي مرّت بنا بل كانوا يتحمّلون المشاقّ في جمع الإعانات لحسابنا وإيصالها إلى مضاربنا بالإضافة إلى مواجهتهم للمؤامرات التي كانت تستهدف التضييق علينا وتهيئة أسباب تسليمنا للفرنسيين…»(10).

لكن شبح المجاعة كان يطل على أولئك المجاهدين بين حين وآخر فيضطرّون إلى التهام أوراق النباتات الصحراوية ريثما تصل الإعاشة التي تأتيهم من عمان أو القدس وغيرها. وذات مرّة وفيما سلطان والمجاهدون، وأسرهم، في أزمة من الجوع وصل إلى مخيّمهم السادة شكري القوتلي والحاج عثمان الشراباتي والحاج أديب خير وعادل العظمة وهؤلاء من زعماء دمشق وسياسييّها ومعهم «صُرّة» من اللَّيرات الذهبية قدموها باسم الثورة، فلم يتمالك الأمير عادل أرسلان نفسه من شدة الانفعال فتناول قبضة منها ونثرها مُحتدّاً أمامهم قائلاً: إنّ هذا الذهب كلّه لا يساوي رغيفاً واحداً ينقذ حياة الذين يتضوّرون جوعاً، وخصوصاً النّسوة المرضعات والأطفال.. أرجعوه معكم لأنّنا لسنا بحاجة إليه في هذه الصحراء!»

لم يكن أولئك الإخوان يعلمون حقيقة معاناة الثوار وعوزهم والفاقة التي يعيشونها لذا تأثّروا أشدّ التأثّر وعملوا على استرضاء الأمير الغاضب وقرّروا أن يبقى السيّد شكري القوّتلي في مخيّم الثوّار للبحث في إيجاد حل لمعاناة المجاهدين وأسرهم في الوقت الذي عاد فيه العظمة والشراباتي وأديب خير من فورهم إلى عمّان وعادوا في اليوم التالي ومعهم عدّة سيّارات محمّلة بأكياس الطحين والمواد الغذائيّة الأخرى التي وُزّعت بالتساوي على أسر المجاهدين وذلك بالإضافة إلى كميات من العلف للماشية والدواب(11).

سلطان والمجاهدون: مؤتمر الصّحراء: عيون على سياسة الوطن رغم المنفى

لم ينقطع سلطان باشا والثوار عمّا كان يدور من أحداث في سورية، إذ كانت الأنباء ترد إليهم تباعا، أو عن طريق الزوّار من السياسيين السوريين في الداخل الذين يأتون لتفقّد أحوالهم والمراسلين الصحفييّن العرب والأجانب الذين يحضرون إليهم ومنها مثلاً أنه في عام 1828 وعلى أثر فوز الكتلة الوطنيّة بأكثريّة المقاعد، وحصولها على أغلبية ساحقة عندما تشكلت لجنة لوضع الدستور السوري الذي اعترض على ستّ مواد منه المندوب السامي «بونسو» وهي المواد التي تؤكد وحدة سورية واستقلالها، وقد أدى موقفه ذاك إلى تعطيل عمل الجمعيّة التأسيسيّة. ولما كان وجود سلطان والثوار يشكل عامل ضغط سياسي على فرنسا وعنصر دعم للحركة الوطنيّة في الداخل، فقد بادر سلطان باشا إلى توجيه دعوة للمجاهدين السوريين المقيمين في مصر والأردن وفلسطين وغيرها لحضور مؤتمر وطني عُقَد في وادي السرحان؛ حضره عدد كبير من المجاهدين، وممّا جاء في كلمة سلطان باشا حينها: «ليعلم المستعمرون أنّ المناورات والمؤامرات لا تنفعهم ولن تجديهم شيئاً. إنّ الشعب مُصمّم على الصمود، وألوية النصر معقودة له بإذن الله في النهاية. وكلّما ازداد الفرنسيون ظلماً وطغياناً في بلادنا ازددنا نحن تمسّكاً بحقوقنا المشروعة ولا نصل إلى حقوقنا هذه إلاّ بوحدة الصف، والإخلاص في العمل، والصّبر على مكاره التشرّد والحرمان..»(12).

سلطان باشا والثوار والحق الفلسطيني

مثلما لم يوقف المنفى اهتمام سلطان بالهم السوري فهو لم يقطعه عن الهم العربي العام المتمثل حينذاك بالحق الفلسطيني، وخصوصا مع انفجار الأحداث عام 1929 بين المستوطنين الصهاينة المدعومين من بريطانيا المنتدَبة على فلسطين وبين الفلسطينيين وقد نقلت الصحف آنذاك، أنّ سلطان تأثّر للحوادث والفواجع التي حلت بفلسطين، وأنّه قرر الزحف مع المجاهدين إلى بيت المقدس لنصرة العرب وأنّ الإنكليز شعروا بذلك فأرسلوا سرباً من الطائرات إلى وادي السرحان، حامت فوق مضارب المجاهدين لاستطلاع أمورهم ومراقبة تحرّكاتهم وألقت منشوراً بالعربية يحذّر الذين بدأوا بالتحرّك، ويطلب منهم أن يعودوا إلى مضاربهم، وإلا اضطرّت لقصفهم. ورغم تشديد المراقبة البريطانية فقد تمكن شكيب وهّاب من أن يدخل مع بعض المجاهدين إلى فلسطين واشترك في مقاومة الفلسطينيين في أكثر من معركة.

وفي كانون الأوّل 1931 انعقد المؤتمر الإسلامي في القدس لإعلان تضامن المسلمين في العالم مع الفلسطينييِّن، وحضرته وفود كثيرة من بينها وفد المجاهدين الذي أرسله سلطان باشا وتألّف من علي عبيد وقاسم أبو خير وقد تكلّم علي عبيد في المؤتمر قائلاً إنّ المجاهدين في الصحراء ليس لهم ما يفتدون به فلسطين المهدّدة بالضياع سوى الأرواح، ووقّع على ميثاق من ثلاثة بنود، وافق عليها رجالات العرب في اجتماعاتهم في 13 كانون الأول 1931 وهي ترمي إلى الوحدة ومقاومة التجزئة ورفض الاستعمار بجميع صيغه وأشكاله(13).

وفي يوم الأربعاء 16 نيسان عام 1930 جاء رسول مكلّف من الإنكليز ومن حاكم طبريا «الذي حسب ما أعتقد أنّه يهودي يطلب من سلطان باشا الإيعاز لجماعتنا هناك (يقصد الدروز) أن يقفوا على الحياد فيما لو حصلت ثورة في فلسطين مقابل أن تضغط بريطانيا على فرنسا لإعطاء الحقوق والاستقلال والعودة لسورية، فأجاب سلطان باشا بغضب شديد وبصوت عال: ومتى كانت حرّية الشعوب وكرامتها واستقلالها تُباع وتُشترى؟، فنحن عرب وفلسطين عربية وكلّنا مستعدون أن نموت فداءها وهل تريد أن نشوّه هوّيتنا وتاريخنا في سوق المقايضات!»(14).

هنري بونسو (Henri Ponsot): مفوّض سامي فرنسي
في لبنان وسوريا.

مواجهة خطر غزوات القبائل البدويّة

حياة قلقة ومحفوفة بالتهديد عاشها الثوّار في وادي السرحان وكان لها أثرها البالغ في نفوسهم ومنها الحادثة التالية: يقول سلطان باشا:

خرجت مبكّراً من منزلي صبيحة أحد أيّام الرّبيع، قاصداً النزهة في مكان مجاور تكثر فيه شجيرات الرّتم والأمصع، وإذ بأعرابي يقطع البادية على ذَلول (جمل أو ناقة سريعة الجري مخصّصة لقطع الصحارى). فلمّا رآني توجّه نحوي ثمّ قال: أريد سلطان! قلت له ماذا تَبغي من سلطان؟ تكلّم وأنا أوصل أخبارك إليه. قال: أنا قاصد سلطان بالذّات، وأحبّ أن أراه بعيني وأكلّمه بنفسي! قلت له: تكلّم أنا سلطان. فنزل عن ذَلوله وصافحني بحرارة وقال: مضى يومان وأنا في طريقي إليك لأعلمك أنّ فرحان بن مشهور (أمير من شيوخ قبيلة عنزة الرّولا) قرّر غزوكم بستمئة مردوفة (أي ألف ومئتي مقاتل كلّ اثنين على جمل) وقد أرسلني بشير بن ضبيعان الشراري (شيخ من القبيلة صديق للدروز) نذيراً كيلا يأخذكم الغزاة على حين غرّة ولتكونوا على أهبة الاستعداد لمقابلتهم خارج منازلكم… هَدّأْتُ من رَوْعه ورغبت أن يرافقني إلى بيتي ليستريح، ولكنّه اعتذر وعاد من فوره مخافة أن ينكشف أمر غيابه عن الرّكب. وما أن غادر الأعرابي موقعنا حتى دعوت المجاهدين إلى اجتماع طارئ وكان عددهم يومذاك لا يتجاوز الثلاثمئة مُسلّح فأحطتهم عِلماً بالأمر ورحنا نعدّ العدّة لمقابلة فرحان بن مشهور… لقد مرّت بنا من قبلُ مِحَنٌ قاسية وخُضنا معارك ضارية لم نشعر ونحن نواجهها بثقل أعبائها وجسامة مسؤوليّاتها، كما بدا الأمر لنا ونحن نستجمع قوانا المادية والمعنويّة لمواجهة تلك الغزوة الهمجيّة المفاجئة!… لقد ساورتنا أفكار مُقلقة حقّاً إذا ما غزانا ابن مشهور ولكنّنا قررنا الصمود والمواجهة، ومكثنا بضعة أيام ونحن على تلك الحال من القلق المُمِضّ والتأهُّب المستمرّ. ولكن الله قدّر أن يصطدم ابن مشهور مع ابن الشنيفي في مذبحة قُتِلَ فيها من جماعته 255 رجلاً ثم انهزم شرقاً مع الذين بقوا معه وعندما صار في أرض بعيدة وجده ابن ضبيعان فضربه أشدّ ضربة ولم يسلم معه سوى خمس وعشرين ذَلولاً والباقي منهم قُتِل أو أُسر ومن جملة القتلى ابن أخيه عبيدة.(15)

عشيرة من قبيلة الشرارات تغير على مراعي إبلنا

قامت عشيرة من الشرارات بالإغارة على إبل المجاهدين في المرعى واستاقتها قبلَ أن يتمكّن الرّعاة من إبلاغ الثوار الذين عقدوا اجتماعاً على أثر ذلك حيث أرسلوا المجاهدَيْن حسين العطواني وكنج شلغين في وفادة لإبلاغ الأمير عبد الله الحواسي حاكم الجوف من قبل الملك السعودي وإعلامه بذلك ثمّ بعثوا بوفد آخر إلى الرياض برئاسة علي (أخو سلطان) وعضويّة نزّال أبو شهيل ومعذّي الدّهام (من البدو أصدقاء سلطان باشا) فقابلوا أمير نجد «ابن مساعد» واستعادوا بواسطته الإبل المسلوبة من قِبَل الشرارات الذين اعتذروا عن فعلتهم بقولهم «تَوهّمنا أنّ الإبل التي استولينا عليها تعود إلى «أهل الجبل» من البدو الذين لنا ثارات قديمة عندهم أمّا بنو معروف فمعاذ الله أن نسطو على إبلهم».

السعوديون يحاولون ترحيل الثوار إلى داخل المملكة

بعد تلك الحادثة أرسل أمير نجد ابن مساعد قوة بقيادة «سالم الشيخ» لترحيل الثوار إلى داخل المملكة بدعوى المحافظة عليهم وإبعادهم عن خطر العشائر البدوية المعادية لهم، فلم يوافق سلطان وقال للأمير المذكور: «إنّنا نفضل الإقامة حيث نحن في الحرّ والقرّ على سكنى المدن والتمتع بالحياة الهانئة.. وسوف نتحمّل أشقى أنواع شظف العيش والحرمان كيلا ننسى قضيّتنا ونتراجع عن أهداف ثورتنا». أصرّ الأمير السعودي على تنفيذ مهمّته فطلب سلطان باشا مهلة قصيرة ليدرس الثوّار أوضاعهم والكيفيّة التي سيواجهون بها هذا الموقف الحَرج، فاستجاب لطلبه بعد أن استشار رؤساءه وعندها سارع سلطان بإرسال وفد من الثوار هم: محمّد عز الدين وقاسم الحسنيّة وفوّاز حاطوم إلى الحجاز، حيث حَظوا بمقابلة الملك الذي «أحاطهم بعنايته وتكريمه وأصغى باهتمام إلى جميع القضايا والأمور التي عرضوها على جلالته ولكنهم يلمسوا تغييراً في سياسة حكومته المقرّرة».

غير أنّ كل تلك الجهود والنوايا لم تصل إلى نتيجة بل باءت بالفشل، ولم تثق المراجع العليا السعودية بنوايا سلطان. ولتأكيد حسن النوايا من جديد أُوفد يوسف العيسمي إلى الحجاز لمقابلة جلالة الملك وإعطائه الأدلّة الثابتة على «حيادنا واحترامنا لقوانين اللجوء السياسي وآدابه؛ حاول العيسمي الدخول إلى الحجاز عن طريق مصر ولكن السلطة السعودية رفضت السماح له بذلك بحجة أنّه من الأشخاص غير المرغوب فيهم فأخذ الرجل عندئذ يتصل بالزعماء المصريين شارحاً لهم معاناة الثوار وأحوالهم السيّئة في المنفى وكان الصحافيان تيسير ظبيان وعبّاس المصفي يرافقانه في تنقّلاته بين القاهرة والإسكندريّة فقابل في القاهرة مصطفى النحاس باشا وأحمد زكي باشا ومحمّد علي الطاهر كما زار أمير الشعراء أحمد شوقي ونقل إليه شكرنا على الأبيات الرائعة التي وصف بها الدروز بقوله:

ومــــــا كـــــان الـــــــدروزُ قَبيـــــلَ شَــــــرٍّ
وإن أُخـــــــذوا بمـــــــــا لـــــــم يستحقّوا
ولــــــــــــكن ذادةً وقُـــــــــــراةَ ضيــــــــــفٍ
كينبوع الصّفـــــــا خشنــــــــوا ورقُّــــــــوا
لهـــــــم جبـــــــــلٌ أشمُّ لـــــــــه شعــــــافٌ
مواردُ في السّحــــــــاب الــــــــــجونِ بُلقُ
لـــــــــــكلّ لبــــــــــوءة ولكـــــــــلّ شـبـــــــــلٍ
نضـــــــــــالٌ دون غابتـــــــــــه ورشــــــــــقُ
كــــــــأنّ من السموءَلِ فيــــــــه شيئــــــــاً
فــــــــــكلُّ جهاتـــــــــــه شـَـرَفٌ وخـــــــــلقُ

وفي الإسكندريّة قابل العيسمي الأمير عمر طوسون (مؤرّخ العائلة المالكة) وحاول إقناعه بتحويل التبرّعات التي جُمِعت في مصر باسم ثورة الأمير عبد الكريم الخطابي (كانت تلك الثورة قد انتهت عام 1926)، طالباً تحويلها إلى أطفال المجاهدين في وادي السرحان، لكنّ طوسون ذاك (كان بنفسه شيء كثير من محاربة الدروز لجيوش جدّه محمّد علي التي جرّدها عليهم ظلماً قبل نحو سبعين عاماً) فلم يستجب لطلبه»(16).

كذلك اتصل سلطان باشا بفؤاد حمزة (من عبيه في لبنان كان يشغل وظائف معينة في المملكة) ليبذل جهده في تبديد الشكوك السعودية الذي أجاب برسالة وبعض ما فيها «… أرى من اللائق إجراء ما يلزم ـ مقابلة أو مراسلة ـ لإزالة سوء التفاهم وتأييد الولاء واستجلاب جلالته ويمكنكم تأمين الاتصال بواسطة عامل جلالته هناك والله تعالى يحفظكم وينجح مقاصدكم» 3 ذو القعدة 1348هـ (1929).

لم تنجح وفادة العيسمي إلى مصر فأعاد سلطان باشا تكليفه إلى جانب أخيه زيد الأطرش وعلي عبيد في مهمّة الاتصال بأعضاء حزبي الشعب والاستقلال في عمان والقدس وبشخصيات عربية كانت تعمل في مجال المؤتمر السوري الفلسطيني ليعملوا معاً على إيجاد حل لأزمتهم مع السلطات السعوديّة وبشكل يحفظ الكرامة «ويجنّبنا الصدام مع إخواننا وبني قومنا في السعوديّة».

صورة تذكارية التُقِطت في وادي السرحان | المملكة العربية السعودية سنة ١٩٢٨.

العاهل السعودي يرحّب بنا من جديد

وعى أثر تلك الوفادة سافر شكري القوّتلي على طائرة خاصة إلى الحجاز واجتمع بالملك عبد العزيز من فوره والتمس منه وقف الإجراءات المتخذة ضدنا وعدم التضييق علينا وإعطائنا حق اختيار المكان المناسب لسكننا في بلاده ومن جانب آخر بادر المؤيدون لنا في سورية وبعض البلدان العربية يرسلون البرقيات للعاهل السعودي ومنها برقية من السياسي السوري هاشم الأتاسي ورد فيها «إن معاملة سلطان الأطرش القائد العام للثورة السورية ورفاقه المجاهدين بالحسنى لَمِن الواجبات التي تُمليها علينا روابطنا الدينية والقوميّة، نأمل من جلالتكم أن تشملوهم برعايتكم وأن تعملوا على حفظ حياتهم وصيانة كرامتهم ما داموا مستأمنين في رحاب بلادكم العامرة».

«لقد كان لتلك المساعي الحميدة أثرها الإيجابي في نفس العاهل السعودي فلم نلبث أن شعرنا بشيء من الطمأنينة إثر ذلك ممّا ساعدنا على تدبير شؤون حياتنا ومواجهة متاعبنا اليوميّة الأُخرى…»(17)

رياض الصّلح

رياض الصّلح يزور سلطان باشا والثوّار في المنفى

يقول سلطان باشا: «وقد زارنا ونحن في الحديثة (موقع في وادي السرحان) الزعيم اللبناني رياض الصلح وكان برفقته بضعة أشخاص بينهم صحافيّة فرنسيّة نابهة (هي كاندياني، مندوبة صحيفة الفيغارو الفرنسية)، وقد صرح سلطان باشا للصحيفة حينها بمطالب الشعب السوري وهي: «سيادة وطنية مطلقة، ووحدة سياسية غير مقيّدة واعتراف دولي باستقلال سورية». وقالت تلك الصحفيّة (كاندياني) إنّها «ما كانت تظنّ الزعيم الثائر وصاحب المعارك التي أصبحت مضرب مثل في فرنسا، بالرجل السياسي»، يتابع سلطان باشا «فأكرمنا وفادتهم وقد بلغ من تأثر تلك الفتاة الفرنسية أثناء تفقّدها لمنازل المجاهدين وتحدّثها مع نسائهم أن اغرورقت عيناها بالدموع وهي تنظر إلى بعض أطفالهم وأخذت تردّد كلمات نقلها إلينا من كان يترجم لها من الزائرين: يا للطفولة البائسة المشرّدة !.. يا لبشاعة الاستعمار الفرنسي ووحشيّته !؟»(18).

ويبدو أنها جاءت إلى وادي السرحان لتستطلع أخبارنا وتتعرّف على نمط حياتنا ومعيشتنا في تلك المنطقة الصحراويّة فشاهدت بأمّ عينها كيف كان بعضنا يقتات بنبات «القطف» وغيره من نباتات البرِّيَّة ورأت أناساً ينقلون الملح على دوابهم وقد جمعوه من الممالح المجاورة ليذهبوا إلى بعض الحواضر في شرق الأردن ويشتروا بثمنه الزهيد بعض الكسوة والمواد الغذائية لعيالهم!.. وكانت لنا أحاديث ممتعة مع رياض الصلح أشعرتنا بنباهته وحِدّة ذكائه ورصانة تفكيره وقوّة شخصيّته وصدق وطنيّته وحسن تفهّمه لأوضاعنا الراهنة ومشكلاتنا السياسيّة والاجتماعيّة في سورية ولبنان فتوقّعت منذ ذلك الحين بأنّ دوراً خطيراً سيلعبه هذا الرجل في تاريخ لبنان الحديث!..»(19).

وقد طَرحت تلك الصحافيّة على سلطان باشا وأركانه أسئلة تتعلّق بالمصير المستقبلي لسورية والأُسس التي يرَوْنها مناسبة للاستناد إليها في المفاوضات التي يتمّ التمهيد لها بين الفرنسيين والسوريين للوصول إلى حلول عادلة للمطالب السوريّة بهدف خلق حالة من الاستقرار فيها.

فيصل الأوّل يصف معاناة سلطان في المنفى بالمحنة العظيمة

كان سلطان باشا قد أوفد فريقاً من الثوّار لتمثيل قيادة الثورة السورية في احتفالات جرت ببغداد بمناسبة إلغاء الانتداب البريطاني على العراق ودخوله في عصبة الأمم المتحدة آنذاك، وهناك اتصل الموفدون ومنهم زيد الأطرش أخو سلطان بالملك فيصل وأعضاء حكومته وزعماء المعارضة وعلى الخصوص ياسين باشا الهاشمي وأطلعوهم على أحوال سورية وأوضاعها السيّئة، يقول زيد: «ولمّا دُعينا لتناول طعام العشاء على مائدة الملك بمنزله الرّيفي في ضاحية المدينة دارت بيننا وبين الحضور أحاديث مطوّلة حول قضايا الوطن وشؤون الأمّة العربيّة. وبعد أن غادر المدعوون المكان التفت جلالة الملك إلينا فرحّب بنا وقال: إنّ للمجاهدين علينا حقّاً وفي أعناقنا دَيْناً. سوف لا أنساهم ولا أنسى سورية الحبيبة فهي في خاطري وإنّني وإن كنت ملكاً على العراق ومنهمكاً بقضاياه ومعالجة أموره فلا أترك سانحة تمرُّ دون أن أعمل لمصلحتها وأهتمُّ بالحوادث الجارية فيها حتى صِرت أخشى أن يثير سلوكي هذا غَيْرة بعض العراقيين..».

«لقد علّمتني الحياة كثيراً واكتسبت خِبرة عمليّة كبيرة أثناء وجودي في سورية .. بلّغوا تحيّاتي وفائق تقديري لجميع المجاهدين وقولوا لسلطان باشا: إنّ على القائد الصّبر والثبات ولو بقي وحده في ميدان الكفاح وأن لا بدّ لهذه المحنة العظيمة التي امتحن الله بها عبيده الأخيار من آخر(20).

قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش وصديقه ومستشاره المجاهد عقلة القطامي |
وادي السرحان 1927 – 1937

سلطان باشا في منفاه: رجل يمثّل ضمير أمة

كان قد مرّ عامان على تعطيل أعمال الجمعية التأسيسية في سورية من قبل المندوب السامي «بونسو» وكان سلطان باشا والثوّار يأملون بعقد معاهدة مع فرنسا تعترف بحقوق السوريين في دولة موحّدة على غرار المعاهدة الإنكليزيّة ــ العراقيّة ولمّا كان الملك علي بن الحسين من الأشخاص المرشحين للعرش السوري حينها فقد كتب له سلطان باشا بتاريخ 16 حزيران 1931 الرسالة التالية التي تمثّل همّ كل سوري بل وعربي إلى يومنا هذا وممّا جاء فيها: «تعلمون أنّ سورية ـ وهي دماغ جزيرة العرب المفكّر ـ لم تتوانَ في نصرة الحلفاء إبّان الحرب العامّة بعد أن حالفهم جلالة الملك حسين رحمه الله ووعدوه وعداً صريحاً بإعطاء العرب استقلالهم.. وكان لجهود العرب تأثير عظيم في الحصول على النّصر ولكن يا لخيبة الرجاء ويا لفشل الأمة العربية المسكينة بذلك النصر فإنّها بدلاً من أن تُكافأ على إخلاصها وجهادها بإعطائها استقلالها كوفئت بسلب حرّيتها وسيادتها وكان نصيب سورية البائسة أفظع الحصص إذ قُطّعت إرباً إرباً وحُكمت حكماً استعماريّاً محضاً جعل السوريين يترحّمون على زمن الأتراك (العثمانييِّن) ويأسفون لما كان منهم نحوهم وبقيت سورية منذ دخول الإفرنسيين حتّى هذه اللحظة تحت ضغط الفوضى الإدارية والاقتصادية الضاربة أطنابها في طول البلاد وعرضها وهي لا تزال عرضة لنيران الثورات المستمرّة …» ويخلص سلطان باشا إلى أنّ «التفاهم (مع الفرنسيين) لا يكون إلاّ على أساس تحقيق أماني البلاد تحقيقاً أكيداً…»(21).

سلطان باشا يرفض وصاية تركية على الثورة

كتب المجاهد صياح النبواني في مذكراته؛ وكان واحداً من بين الثوار الذين اختاروا المنفى والمُجاهَدَة السياسيّة ضد الاحتلال الفرنسي إلى جانب سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وغيرهم من كبار المجاهدين من سورية ولبنان؛ يذكر أنه في يوم السبت بتاريخ 25 أيار 1929 ذهب لقصر الأمير «عبد الله الحواسي» عامل ابن سعود على المنطقة (أي الحاكم أو المدير فيها من قبل الملك عبد العزيز) فاستقبله الحواسي باحترام، وأثناء الجلسة جاء حمد «أمير الزّكرت» أي قائد الحرس من عسكر الحواسي، فأبلغه بوجود رجل شركسي يريد مقابلة سلطان باشا وطلب منه أن يهتمّوا بالرجل ويحافظوا عليه، وكان الرجل ينتظر في إحدى غرف القصر.

قَبِل صياح بتوصية أمير «الزّكرت»، فجاؤوا به وكان ضخم الجثّة مهيب الشخصية ذا عينين واسعتين أركبه معه في الطّريق. كان الرّجل مُتَكتّماً قليل الكلام وما أن وصلوا مُخيّم الثوّار، لم يتمهّل الرجل، فسأل من فَوْره بلغة عربية فُصحى: أين بيت سلطان باشا؟ وكرّر طلبه ذاك بإلحاح. طلب منه صياح التريّث وأبلغه أنّه ضيف عنده، وأقنعه أن لابدّ من القيام بواجب الضّيافة تجاهه أوّلاً.

كان صيّاح رجلاً ذكياً وحذراً ولا يحب التَّسرّع، ويريد أن يطمئنّ لمهمّة الغريب… هَدَأ الرجل، وسُرّ بمعاملة صيّاح له، حيث استضافه في غرفة من الطّوب الطيني كانت قد بنيت كيفما اتفق إلى جانب (بيت الشَّعر: أي الخيمة التي تقيم فيه أسرة صيّاح)، ومن حديث الليل عرف صيّاح أنّ الرجل تركيّ يتظاهر أنّه مُناوئ لسياسة كمال أتاتورك، ولكنّه في الحقيقة يحمل أفكاره. بقي الرجل يُلِحّ ليقابل سلطان باشا وبعد أن تيقّن صياح من جَدِّيَّة مهمّته اصطحبه لمقابلة قائد الثورة حيث سلّم عليه، وخاطبه بالتركيّة فلم يرد عليه سلطان بل أجابه بالعربيّة، رغم أنّه يعرف شيئاً من لغة الأتراك. اطمأنَّ خاطر الرجل للقاء سلطان وقد انتهت المقابلة دون أن يفصح الرجل أمام الحضور عن مهمّته ويبدو أنّ سلطان أفهمه بالتّركية بتأجيل البحث لليوم التالي عاد الرجل مع مضيفه إلى غرفة اللِّبن (كان صياح ذا ثقافة اجتماعية واسعة ووعي سياسي عميق كما عَرفتُه شخصياً)، يقول: «تحدّثت معه ببعض المواضيع الأدبيّة والجغرافية وكتب لي بخط يده وقال: ياصياح إذا دار الزمان دورته وذهبت إلى تركيا أبرز هذا العنوان (عثمان علاء الدولة، من أولاد أمراء ذي القدريّة الأناضول قضاء سونغورلو ــ قرية بوغاز قلعة ابن ضياء بك ذي القدريّة).

في اليوم التالي ذهب صياح والضّيف عثمان لبيت سلطان باشا، فبدأ الرجل حديثه وكان من بين الحضور من خاصّة سلطان صيّاح وسليم الحمود الأطرش فأفصح الضيف بعد اطمئنانه للحضور بأنه قادم بتكليف من مصطفى كمال أتاتورك للاتصال بقائد الثورة وإبلاغه «أنّ تركيا تريد المساعدة لإحياء الثورة مُجدّداً وتقدّم خمسة ملايين ليرة تركية إلى سلطان باشا هديّة وتقدّم الضباط والخبراء العسكريين والمدفعيّة والدبابات والمصفحات الخفيفة والثقيلة ومليون ليرة تركية شهريّاً مساهمة كرواتب رمزيّة للثوار أمّا الضباط الأتراك فتكون رواتبهم من تركيا وليس من المليون ليرة للمساهمة بها وأضاف: إنّ الاتصال بالمنطقة الجنوبية يأتي عن طريق الصحراء وتكون العمليات من الجنوب تأتي عن طريق الصحراء والشمال وعلى طول الساحل السوري مع عمليات بسيطة في لبنان لإشغال بال فرنسا».

وهكذا وعد الرسول «إنَّا باسم تركيا الكمالية مستعدّون لإمداد حركاتكم لأكثر من خمس سنوات»..

هنا سأله سلطان: لئن نجحنا وتمكنّا من طرد الفرنسييّن ماذا يكون موقف تركيا منّا؟ وما ثمن تلك المساعدات؟ قال الرسول: يهمّنا المحافظة على استقلال سورية وليس لتركيا مطمع سوى أن الثقافة التركية تُعَمّم على المدارس السوريّة وتكون اللغة التركية إلى جانب اللغة العربيّة. عندها سكت سلطان باشا وخيّم صمت على الجلسة فترة. أردف بعدها: الفرنسيون أجانب وآخر الأمر الأجنبي يخرج من البلاد، وتبقى البلاد لأصحابها، نحن تغلّبت علينا قوى الاستعمار، ولكنّنا لم نستسلم وآخر الأمر نعود إلى البلاد. فأجاب عثمان بك: يا باشا: تركيا نواياها حسنة على السوريين ونحن نهتم بطرد فرنسا من البلاد، ولسنا دولة استعماريّة بل نتمنّى الخير لكم. قال سلطان بحزم: نحن نتمنّى أن يظلّ العلم التركي مرفوعاً في سماء تركيا أمّا سوريّة فتستقلّ وتبقى محافظة على الصداقة التركيّة وسورية تحتاج إلى المساعدات في المجالات الدوليّة، فإذا كانت تركيا ترغب بمساعدة سورية فالمجال واسع في الحقل السياسي. كان جواب سلطان حاسماً بحيث لم يترك للتّركي مجالاً للردّ فسكت على مضض.

من المنفى في السعودية إلى اللّجوء السياسي في الأردن

رغم المساعي المشكورة مع العاهل السعودي لنيل موافقته على بقاء سلطان باشا والثوار في وادي السرحان متجمعين في النبك، فقد كانت هناك مساعٍ أُخرى مع المندوب السامي البريطاني في الأردن لقبول لجوء الثوّار للأراضي الأردنيّة في حال إصرار جلالة الملك عبد العزيز على عدم تحقيق رغبات الثوّار المشار إليها. وكان الأمير عبد الله بن الحسين أمير شرق الأردن حينها على رأس المُهتمين بذلك حيث كان يسعى جاهداً لقبول سلطان باشا والثوّار في أراضيه، رغم أنّ «السلطات البريطانية القائمة تُغلّ يده في المنطقة وتحاول أن تجعل من الإمارة التي يتقلّدها في أعقاب خروج الملك فيصل من سورية ميداناً فسيحاً لألاعيبها السياسيّة في فلسطين وذلك على الرغم من الأساليب الديبلوماسية التي كان يتبعها مع تلك السلطة في سبيل تثبيت قواعد إمارته الناشئة وعلى أمل أن تكون له بلاد الشام بأسرها في المستقبل(22).

لكن البريطانيين لم يستجيبوا لرغبة الأمير عبد الله في ذلك الحين، غير أنّ تغيّرات لاحقة طرأت على السياسة البريطانية في الشرق العربي فيما بعد، إذ عقدت بريطانيا معاهدة مع حكومة الملك فيصل لتتخلّص من مخاطر الثورات وتكاليف قمعها الباهظة، وألغت نظام الانتداب… ومن جانب آخر مال الفرنسيّون في سورية إلى الاعتدال في سياستهم تجاه المطالب السوريّة، كما أدرك الإنكليز والفرنسيون أنّ شظف حياة الثوار في وادي السرحان وما كان يحيط بهم من أخطار البداوة والمجاعات التي كانت تهدد حياتهم وتنهك قواهم قد خفّفت من غلواء ثورتهم «فلم يبقَ إذن ما يمنع أصحاب الشأن والسلطة النافذة في الأردنّ من قبول عودة سلطان باشا والثوّار إلى شرق الأردن كلاجئين سياسيين!»(23).

سلطان باشا يعترف بفضل الملك عبد العزيز آل سعود

انتقل سلطان باشا والثوار إلى الأردن عام 1932 ولم ينسَ الاعتراف بجميل العاهل السعودي تجاه الثوار يقول: «قمنا بواجبنا قبل مغادرتنا لوادي السرحان فقابلنا المُعتمَد السعودي في المنطقة الأمير عبد الله الحواسي، ووجّهنا الشكر عن طريقه إلى جلالة الملك عبد العزيز آل سعود وحكومته وشعبه لِما كان لهم علينا من فضل كبير في قبولنا بديارهم لاجئين وبأرضهم مُحتمين حين سُدّت في وجوهنا الأبواب وتعرّضنا إلى خطر التسليم إلى أعدائنا الفرنسيين..»(24)

اللّجوء السياسي إلى الأردن ومتابعة تأييد الوحدة السوريّة

إنّ مجاورة الأردن لسورية ووحدة النسيج الاجتماعي بين البلدين إلى حدّ كبير والمناخ الأقل تطرّفاً ممّا كان عليه الحال في الصحراء السعوديّة كلّ ذلك كان أكثر إراحة للثوّار الذين تأخّر حَصاد جهادهم عمّا كانوا يطمحون إليه، وفي ذلك يقول سلطان باشا «كان عزاؤنا الوحيد في تلك الديار التي نزلنا بها هو مجاورتنا لعشائر عديدة كانت لنا صلات قديمة بها وعلاقات طيبة مع شيوخها وقد تركت معاملهم الطيبة لنا أثراً بالغاً في نفوسنا وأبعدت عنّا وحشة الغربة وفراق
الأهل والأحبّة».

وفي السنة ذاتها حضر الأمير عبد الله لزيارتنا والترحيب بنا في الكرك وأخذ يتفقد أحوالنا ويأمر بإغاثة المعوزين منا وتأمين حاجاتهم فكانت لفتة كريمة شملت المراكز الأخرى التي نزل بها إخواننا الآخرون». مع انتقال سلطان باشا والمجاهدين من وادي السرحان إلى حواضر شرق الأردن وهي جزء ممّا اصطلح على تسميته بالمَعمور «لم تكن حالهم أفضل مما كانت عليه في الصحراء سوى أنّهم نزلوا في بيوت وفي أماكن مأهولة المعيشة فيها أسهل بتوفر وسائطها لكن ذيول الأزمة الاقتصادية العالمية انسحبت عليهم فشحّ المال المُرْسَل من المُغتربين لإعانتهم ومن الأدلّة على استمرار عوزهم اضطرار سلطان باشا بعد وصوله إلى الكرك أن يجيب صياح الأطرش على قفا رسالته، بأنّه لا يوجد عنده فلوس حتى يشتري الورق وعَزْمه على بيع حُلا زوجته التي هي جهاز عرسها من أجل فرش البيت في الكرك لأنّ (الفرشة) البالية التي حملوها من الحديثة لم تعد تصلح، وهذا ممّا يدحض اتهامات معارضيه بأنّه يستأثر بحصّة كبيرة من الإعانات»(24).

سلطان باشا من الأردن يتابع مجريات مفاوضات معاهدة 1936

تغيّرت الظروف الدولية لمصلحة المطالب السورية فجنحت فرنسا إلى الملاينة مع تصاعد خطر النازيّة والفاشية في ألمانيا وإيطاليا، ومع وصول اليسار الفرنسي إلى الحكم عام 1936 وكانت فرنسا قد أصدرت إعفاءات عن عدد من الثوار قبل ذاك اعتبرها السوريون ناقصة وعرجاء، وبعد إضراب البلاد لمدّة خمسين يوماً قَبِلَ الفرنسيّون بتشكيل وفد للبحث في معاهدة بين البلدين، «وخلال وجود الوفد السوري في فرنسا لم تنقطع الاتصالات بسلطان وإخوانه المجاهدين المبعدين عن سورية وقد أصرّوا على تحقيق ما ثاروا من أجله وطالبوا به سابقاً ورفضوا العودة ما لم تتحقق مطالبهم باستقلال سورية وسياد تها ووحدتها»(23). وبعد مفاوضات عسيرة قبل الفرنسيون بالعفو عن سلطان باشا والمجاهدين، فتشكّلت لجنة في دمشق لاستقبالهم وانتقل سلطان باشا من الكرك إلى عمّان في 15 أيار 1937 وحلّ ضيفاً على الأمير عبد الله بعد استقبالات رسميّة وشعبيّة ودعوات وتكريمات من كبار رجال الدولة الأردنيّة ومن ثمّ أقيمت حفلة وداع في سينما البتراء لسلطان باشا والمجاهدين حضرها وفد فلسطيني برئاسة الحاج أمين الحسيني وآخر من دمشق برئاسة فخري البارودي. يقول سلطان باشا «وكنّا في أعقاب حفلات التكريم والاستقبال نتوجّه بالشكر إلى سموّ الأمير عبد الله وسائر أمراء الأسرة الهاشميّة الأكارم وحكومته الرشيدة وأعيان البلاد وشيوخها الأفاضل والشعب الأردني النبيل.. نشكرهم جميعاً على ما لقينا أثناء إقامتنا بديارهم العامرة من حسن المعاملة وطيب المعشر».

الاستقبال في دمشق عاصمة الأمويين

ليس أصدق من وصف سلطان ليوم عودته من المنفى واستقباله وصحبه الثوّار في دمشق يوم 20 أيار 1937، يقول: «كان استقبالنا في العاصمة الأمويّة منقطع النظير إذ يعجز الإنسان عن وصف شوارعها المُزدانة بأبهى حلّة من أقواس النصر وأنوار المصابيح الكهربائية الساطعة وفاخر السجّاد ومئات الألوف من المواطنين والمواطنات الذين كانوا يموجون فيها وينشدون الأناشيد الوطنيّة والهتافات المدوّية بحياة المجاهدين! نزلنا بفندق الشرق (أوريان بالاس) بضيافة الحكومة وأمضينا يوم الخميس بكامله ونحن نستقبل الوفود التي جاءت للسلام علينا وتهنئتنا بسلامة العودة من مختلف أحياء المدينة وسائر أنحاء البلاد. وفي صبيحة اليوم التالي قمنا بأداء فريضة الجمعة في جامع بني أميّة صحبة فخامة رئيس الجمهوريّة السيّد هاشم الأتاسي وأركان الدولة وأعيان البلاد ثم احتفلت الحكومة بنا رسميّاً بدار البلديّة فألقيت كلمات وأُنشدت قصائد في مدح المجاهدين وتمجيد الجهاد ذوداً عن الوطن في سبيل الحرّية والاستقلال».

إلى السويداء عبر طريق درعا وتحطيم نصب التجزئة

في يوم الأحد 23 أيار غادر سلطان الفيحاء إلى السويداء بطريق الشيخ مسكين ـ أزرع، فكان الأهالي من قرى سهل حوران والجبل يستقبلون الثوّار العائدين وزعيمهم بحرارة حيث يضطرون للتوقّف عند مفارق القرى لتناول القهوة والمرطّبات والاستماع للقصائد الزجليّة وكلمات الترحيب وخطب الخطباء.

وعندما وصل الموكب إلى حدود الجبل مع حوران انتبه سلطان باشا لعلامة حدود «الدولة الدرزيّة الطائفية» التي كان الفرنسيّون قد اصطنعوها، فنزل بنفسه ليزيل بعض معالم ذلك النّصب الإسمنتي الذي كان يذكّر بسياسة التجزئة التي اتبعتها فرنسا أثناء حكمها المباشر للبلاد…

كان الفرح الشعبيّ غامراً بعودة القائد والثوار إلى ربوع الوطن الغالي وقد تمثّل بـ «ذلك الاستقبال الذي استقبلَنا به أهلنا وأبناء عشيرتنا في المزرعة والسويداء حيث كانت أصوات هتافاتهم وأهازيجهم الحربيّة المعهودة تملأ الأجواء بأنغامها الهادرة المثيرة لأعزّ الذكريات».أمّا في السويداء فما أن أطل سلطان باشا ومحافظ السويداء نسيب البكري وكبار المستقبلين من على الشرفة المطلّة على الساحة العامّة التي كانت تعجّ بألوف المواطنين «حتى سرت موجة عارمة من الحماسة في نفوسهم وأخذوا يلوّحون لنا بأيديهم وكوفياّتهم البيضاء تحت أشعّة الشمس الوهّاجة ويقاطعون الخطباء بتصفيقهم الحاد المتواصل وبصيحاتهم المُجلجلة التي كانوا يحيّون بها كلّ فرد من إخوانهم المجاهدين العائدين».(24)

ومن السويداء غادر سلطان باشا يوم الاثنين في 24 أيار القريّا لتستقبله جماهير غفيرة في قرية رساس وعلى مفرق طريق عرى ثم العفينة أجمل استقبال ليصل بعدها إلى بلدته القريّا يقول: «كان لنا فيها من انطباعات صور اللقاء بعد ذلك الفراق الطويل ما يغمر النفس بالبهجة ويستثير العبرات».

صور تُنشر في للمرّة الأولى، أرسلها لنا مشكورين، الزملاء الأعزّاء في عمّان، الأردن.

ذكرياتي الشخصيّة عن سلطان باشا

كنتُ طالبا في مدرسة القريّا في الصف السادس عام 1956 وفي الصف التاسع عام 1959 وكم كنت أراه في الصباحات الباكرة الباردة وهو يبكّر إلى العمل في الأرض، يلبس معطفاً أسود قديماً وقد حزم وسطه بحبل من «مرس» ليثبّت أزرار معطفه فلا تنفكّ أثناء الحركة، وقد لفّ رأسه بكوفيّة صفراء كيفما اتّفق ثم يصعد ليجلس محشوراً على مقعد الدولاب الخلفي لجرّاره «الفركسون» إلى جانب سائقه ثمّ يمضي معه إلى مزرعته شمال القريا على مسافة نحو كيلو مترين في «خربة حزحز» وهناك أعمال كثيرة من الحراثة وزارعة الأرض بالحبوب وعزل الحجارة من التربة وقلع الأعشاب الغريبة وغرس الأشجار… كلّ ذلك كان اهتمامات القائد العام للثورة السورية الكبرى الذي رفض المناصب الحكومية الرفيعة لكي يعيش قانعاً بالعيش من العمل بالأرض التي يعشقها وكم قاتل الأعداء من أجلها… وكنّا نجد متعة في زيارته في المضافة عصارى بعض الأيام حيث نشعر بمهابته واهتمامه بنا بأن نكون شباناً متعلّمين وحيث يسألنا عن أوضاع أهالينا الذين كان يعرفهم شخصيّأً…

هكذا هو سلطان باشا الأطرش، قدوة في كسب العيش بالكد النّظيف، وأسطورة في جهاده في المعارك وقتال الأعداء وقد خلّد في صموده الأسطوري ورفاقه، من دمشق وجبل العرب ولبنان، وتحمّلهم حياة الصحراء وشظف عيشها من أجل سورية عربية مستقلة موحّدة، وشرق عربي خال من الاحتلال الأجنبي.

عودة سلطان باشا الاطرش
إلى دمشق عام ١٩٣٧.


المراجع
  1. سعيد الصغير، بنو معروف في التاريخ، مطابع زين الدين،1984،
    ص 628.
  2. أحداث الثورة السوريّة كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش، 1925 ـ 1927، دار طلاس، دمشق 2006، ص 306.
  3. عبدي الأطرش، أوراق من ذاكرة التاريخ، (مذكّرات المجاهد الكبير صياح الأطرش) دار الطليعة الجديدة، 2005دمشق، ص 101.
  4. أحداث الثورة السورية، م.س، ص 307.
  5. أحداث الثورة السوريّة، م.س، ص 310.
  6. حسن أمين البعيني، سلطان باشا الأطرش، مسيرة قائد في تاريخ أمّة، 1985، ص 239.
  7. عطا الله الزاقوت، حكايا من مجالسنا، 2003، ص 12.
  8. أحداث الثورة السوريّة، م.س، ص 311.
  9. م.س، ص 312.
  10. م.س، ص 312
  11. م.س، ص 313.
  12. م.س، ص.314.
    حسن أمين البعيني، سلطان باشا الأطرش والثورة السوريّة الكبرى، مؤسسة التراث الدرزي، 2008، ص 514 ـ 515.
  13. عبدي الأطرش، أوراق..، م س، ص 125.
  14. م.س، ص 125.
  15. أحداث الثورة السورية، م.س، ص 318.
  16. م.س، ص 319.
  17. م.س، ص 333.
  18. م.س، ص، 333.
  19. م.س، ص،336 من هامش الصفحة.
  20. م.س، ص 334ـ 335.
  21. م.س، ص 337.
  22. (23) م.س، ص 339.
  23. م.س، ص، 351.

معركةُ مرج دابق وموقعُ التنوخييِّن والمعنييِّن فيها

 كثيرون من النّاس، يسمعون عن حدثٍ ما، أو شخصيّةٍ ما، أو معركةٍ ما، ذات طابَع تاريخيٍّ (قديماً كان أم حديثاً)، لكنّ الأغلبيّة منهم لا يحاولون التعمُّق في المعرفة الدقيقة والجوهريّة للمعركة أو الشخصيّة أو الحدث، مكتفين بالاسم فقط، أو ببعض العموميات عنها… ومتجاهلين الأثر والتأثير الذي أحدثته، كلٌّ منها، على مختلف الأصعدة والمستويات… مع العلم أنّ ما خلّفته من آثار سياسيّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو عسكريّة أو نفسيّة… إلخ، يفوق بكثير ما تُحدثه الهزّات الأرضيّة والأعاصير والكوارث – على أنواعها – على البشر والشّجر والحجر مجتمعة…

 من هذا القبيل، تمثّل بعض المعارك الكبرى في التاريخ، (والتي يُطلق على بعضها اسم «المعارك الفاصلة») أنموذجاً حيّاً في مجتمعاتنا، كما في دولنا، رغم القرون التي مرّت على حدوثها، وما تمخّض عنها من مُتَغيّرات لم تنحصر آثارها بالزّمان والمكان فقط، بل تجاوزتهما إلى قرون وشعوب ودول لاحقة، وربّما لم يكن لها وجود من قبل وقد كانت «معركة مرج دابق» التي حصلت بين العثمانييّن والمماليك عام 1516 (كما بين حلفاء كل منهما)، إحدى هذه المعارك الكبرى في تاريخ الشرق، فألغت سلطنة وسلاطين، وأوجدت بديلاً عنها وعنهم، مثلما شطبت إمارات وأمراء، وقام على أثرها إمارات جديدة وأمراء جُدد (مثلما هو الحال مع التنوخييّن والمعنييّن)…

 لقد أَحدثت تغيُّرات جذريّة تتعلّق بالانتقال من مرحلة القرون الوسطى إلى مرحلة العصور الحديثة، لا سيّما في المجتمع اللبناني خاصّة، وبلاد الشرق عامّة…
كما أفرزت «تبديلاً سلطويّاً» على جانب كبير من الأهميّة، التاريخيّة والجغرافيّة، فضربت السلطنة (المملوكيّة) وسلاطينها (المماليك)، من قِبَل «بكوات» و«حُماة أطراف وحدود» (عثمانييّن) فانقلبت الآية رأساً على عقب، فانهار السلاطين القدماء مع سلطنتهم، وقام على أنقاضها وأنقاضهم سلطنة جديدة – بغير اسم، وسلاطين جدد – بغير أسماء أيضاً – وكان تغييرٌ هائلٌ في «الحكم» و «السّيطرة والتسلّط» على جغرافيا واحدة موحّدة وديموغرافيا واحدة (ولكن غير موحّدة)، في ظلّ سُلطة جديدة، نفضت عن كاهلها لقب «الباكويّة» و«حُماة الحدود» لترتقي إلى منصب السلاطين وأصحاب سلطنة مترامية الأطراف، ذات طابع «إمبراطوري»، ولكن بمعزل عن «صفة الإمبراطور»…

 تلك هي «معركة مرج دابق»، إحدى أكبر معارك التاريخ العالمي – كما وصفها المؤرّخ السوفياتي نيقولاي إيفانوف – التي أخذت اسمها من الموقع الجغرافي الذي حدثت فيه بتاريخ 24 آب 1516. وهي ذاتها التي دفعت بالعثمانيين المنتصرين على المماليك إلى أن ينطلقوا بعدها خارج الحدود الجغرافية لبلاد الشرق، مهدّدين دول الغرب بأنظمتها وملوكها وأمرائها وناسها وممتلكاتها، وفي كلّ شيء…

فماذا عن هذه المعركة؟ وما الأسباب الكامنة في وقوعها؟ وماذا حصل أثناء سيرها؟ وماذا تمخّض عنها من نتائج على الصعيد العثماني – المملوكي، وعلى الصعيد التَّنوخي – المعني تحديداً؟

 في الحقيقة، إنّ معركة «مرج دابق» لم تكن «بنت ساعتها» – كما يقال – بل كانت نتيجة لأسباب كثيرة أدّت في النهاية إلى حصول هذه المعركة التاريخيّة بين العثمانيين والمماليك، الذين يجمع بينهم الدين الإسلامي، والمذهب السنّي خاصّة.

 فضلاً عن ذلك، هناك كثير من القواسم المُشتَركة بين الجانبين، إذ يتشابه تاريخ كل من دولة المماليك والدولة العثمانية في وجوه كثيرة، ففي الدولتين سادت العلاقات التي تميّز هنا الإقطاع الشرقي، وكلتاهما مثّلتا سلطة عسكرية عملت تحت راية الإسلام السنِّي المؤمن. وعلى مدى فترة زمنيّة طويلة لم تنشأ بينهم أية خلافات سياسية أو عقائدية ولا حتى تنافس تجاري أو اقتصـادي أو غيره. وحتى سقـوط القسطنطينيّة عــام 1453، كــان الحكّام العثمانيون يعترفون بالأولويّة الدينية والسياسية للمماليك كزعماء لدار الإسلام، بينما خصصوا لأنفسهم دوراً متواضعاً هو دور «البكوات حماة الأطراف» الذين يدافعون عن الحدود العامة لدار الإسلام. أما المماليك، من ناحيتهم فقد ظلّوا ينظرون

إلى تحركات العثمانيين كجزء من المسألة الإسلامية العامة. كما أنّ القاهرة اعتبرت الاستيلاء على القسطنطينية نصراً للمسلمين قاطبة.

 بيدَ أنّ الوضع تغيّر جذرياً بعد عام 1453. وكان تبادل البعثات والاحتفالات التي أقيمت بمناسبة الاستيلاء على القسطنطينيّة آخر مظهر من مظاهر الوفاق العثماني – المملوكي. فقد لاحظ حكام القاهرة بقلق شديد، أنّ دولة إسلامية قويّة وديناميّة أخذت تنمو على حدودهم وتشقّ طريقها الخاص بها. ثمّ تزايد قلقهم عندما نشطت في اسطنبول (القسطنطينية)، العاصمة الجديدة للسلطنة العثمانية، المساعي لتغيير كلّ نظام العلاقات الذي أوجده الإسلام وكان له فيه دور القائد الموجّه. ويؤكد مؤرّخو المماليك أنّ «البكــوات حُماة الحدود»، وللمرة الأولى بــدأوا يتكنـَّوْن بألقاب «الملوك» أو «السلاطين» بعد أن كانوا يكتفون بلقب «غازي» الذي يعني المكافح في سبيل العقيدة. على أنّ سلاطين المماليك كانوا في رسائلهم يُطلقون عليهـم ألقاب «أمير» أو «خوند كيار».

 ويؤكّد ابن إياس أنّ محمّداً الثاني كان أوّل زعيم في بني عثمان اتّخذ لنفسه لقب «سلطان»(١) وبدأ على الأقل يدَّعي بمساواة نفسه بحكّام مصر.

 كان اتخاذ الألقاب السلطانيّة يرمز إلى تحوّل العثمانيين إلى سياسة الدولة العظمى. وكان المقصود بذلك تأكيد الدور العالمي الجديد للسلطنة العثمانية. فقدّم مناصرو فكرة الدولة العظمى السلطان محمّد الثاني على أنّه الحاكم المسلم الأعظم بعد الخلفاء الراشدين الأربعة، أمّا هو فقد اعتبر نفسه وريث ملوك الرّوم البيزنطييّن. وقصد سمّاه أحد مادحيه من اليونانيين ويدعى جيــورجـي تـرابيزونتس «إمبراطور الروم». سعى محمّد الثاني، كما يذكر المؤرّخ التركي المعاصر خليل اينالجيك إلى الجمع بين التقاليد الإسلامية والتركيّة والبيزنطيّة في الزعامة الدنيويّة وجعل اسطنبول العاصمة الجديدة للسلطنة ذات الامتداد الواسع(٢).

 أدّت سياسة الدولة العظمى التي انتهجها محمّد الثاني إلى تدهور حاد في العلاقات العثمانية المملوكية. وأصبح الصراع على الهيمنة وبالدرجة الأولى على الأولويّة في زعامة العالم الإسلامي، السبب الأساسي والرئيسي للنزاع العثماني – المملوكي. وتفاقمت العلاقات أكثر فأكثر إثر شائعات تقول إنّ بني عثمان هم من أصل عربي، من قبيلة حجازية كانت تقطن وادي الصّفرا. وبسبب انتشار محبّة العثمانيين على نطاق واسع، تهدّد بناء المجتمع المملوكي بأسره. فقدّم العثمانيون بديلاً موضوعياً للأزمة الخلقية والاجتماعية التي عصفت بالعالم العربي في القرن الخامس عشر. زِدْ على ذلك أنّ العثمانيين باكتسابهم مشاعر الفلّاحين أثاروا عداء الفئات العليا في المجتمع وأضفَوْا على الصراع كلّه طابع التناقضات الطبقية. وهكذا أصبح التنافس على أشدّه بين هاتين القوّتين. وتمثّل أول اختبار سافر للتنافس العثماني – المملوكي بفضيحـة ديبلوماسية عام 1463 عندما رفض السفير العثماني الانحناء لحاكم مصر. وفي عام 1464 أدّى الصراع على السلطة في قونيـه وقضيـة ميراث قــرمــان إلى أول صدام سياسي كبير. كما حـدد الاستيلاء على قونيه وضم قرمان في عام 1468 إلى الممتلكات العثمانية بداية لمواجهة واسعة. وتحوّلت الدول الإسلامية الفاصلة بين الفريقين كدولة الرمضانييّن الذين حكموا كيليكيا (آسيا الصّغرى) ودولة القادرييّن الذين حكموا كابادوكيا (قيساريه)، إلى ساحة رئيسية للصراع بين ‏الدولتين، فدعّمت كلّ منهما المناصرين لها وأمدتهم بالمال والسلاح وأحيانا بالقوّات المسلّحة.

 تحوّلت القاهرة واسطنبول إلى ملجأ سياسي لكل زعيم يفرّ من غضبة سلطات بلاده. وحصل عدد كبير من الزعماء اللاجئين على مساعدات للعمل ضد حكوماتهم. فتمكّن العثمانيون من التحكّم بالطرق التجارية وعلى مصادر المواد الخام الاستراتيجية البالغة الحيوية بالنسبة إلى المماليك كأخشاب السّفن مثلاً، فبذلوا جميع المحاولات لتقويض طاقة مصر العسكريّة، ووضعوا العراقيل على طريق شراء المماليك الفتيان من أسواق البحر الأسود لنقلهم إلى مصر. وقد اعتبر د. كانتيمير ذلك أحد الأسباب الرئيسية للنشاط العثماني في شبه جزيرة القرم والقفقاس بما في ذلك حملة العثمانييّن على تشير كاسيا في عام 1484 التي دُمِّرت خلالها كلّ المراكز الأساسية التي كانت تؤمن الإمدادات البشريّة للمماليك(٣).

 ثمّ أدّت الصدامات المسلحة (1483-1485) التي نشبت مع حاكم كابادوكيا علاء الدولة القادري الذي طلب مساعدة الجيوش العثمانيّة، في أوّل حرب عثمانيّة- مملوكيـّة (1486-1491)، فاستطاع المماليك إلحاق الهزيمة بالعثمانييِّن ثلاث مرات، إلّا أنّهم لم يتمكّنوا من إحراز نصر حاسم. وفي عام 1491. ونتيجة لوساطـة تونس، عقــدت اتفاقية سلام بينهما، وتخلّى العثمانيون عن مطالبهم في كابادوكيا وكيليكيا، اللتين تقرر اعتبارهما مشمولتين بحماية الحرمين الشريفين مكة والمدينة المقدستين، أي اعتبارهما في الواقع تحت حماية المماليك. إلّا أن هذه الاتفاقيّة ظلّت هَشّة للغاية، وتحت ستار علاقات السلام والإخلاص الظاهري استمرّ الصّراع بين الدولتين دون انقطاع… ثمّ بدأ المماليك يتوجّسون خيفة من العثمانيين، لا سيّما في أواخر القرن الخامس عشر، عندما بنى العثمانيون أسطولاً قويّاً…

 وفي حرب 1499-1503 ضد البندقية، أظهر هذا الأسطول مزايا عسكرية لا بأس بها، وكفاءة عالية في مجابهة أفضل الأساطيل الأوروبية. فأخذت الطوائف الإسلامية، الواحدة تلو الأخرى تلتمس المساعدة والحماية لدى العثمانيين. وفي عام 1485 وصلت إلى اسطنبول بعثة من غرناطة، وطلب المغاربة الإسبان (الأندلس) من با يزيد الثاني «تقديم المساعدة لهم بوصفه حامياً للدّين الإسلامي». فقرّر الباب العالي تلبية الطلب. وفي صيف عام 1486 أُرسل الأسطول

العثماني إلى غرب البحر الأبيض المتوسط، واجتاح البحّارة العثمانيون بقيادة كمال علي باشا، وهو كمال رَيس الشهير، شواطئ إسبانيا وإيطاليا ومالطا. ومنذ ذلـك التـاريــخ خـاضـت السفن الحربية العثمانية وبعض السفن التجارية حرباً متواصلة ضد القوات البحرية للدول الأوروبية المسيحيّة. في هذا الوقت، كان كلُّ انتصار جديد للعثمانييِّن يعني هزيمة قاسية للمماليك، ويؤدّي قبل كلّ شيء إلى الانتقاص من هيبتهم بصفتهم «سلاطين المسلمين». ولم يخفّف ظهور العدوّ المشترَك لهما (وهو العدو الصّفوي الشيعي في إيران) من التناقضات بين الدولتين السنيّتين (الشقيقتين) اللتين كانت كلّ منهما
تتصرّف بمعزل عن الأخرى.

 اتّخذت علاقات الدولتين في الشرق الأدنى شكلاً أكثر غرابة. فقد رفض المماليك بعناد، بدءاً من عام 1502، أي تعاون مع العثمانيين لمقاتلة الصّفويين، حكام إيران، رغم عداوتهم لهم. كــان العثمانيّون في وضع أكثر حرجاً من المماليك وكان بإمكان هؤلاء أن يقدموا لهم مساعدة أكثر فاعلية. لكنهم، وفي تلك الفترة بالذات، قرّروا تلقين حكــام اسطنبــول درســاً لا يُنسى. كــان قانصوه الغوري، كزعيم للمسلمين السنّة، مُلزماً أن يشنّ حملة ضد باشوات قيزيل . غير أنّه فضل اتّخاذ موقف المراقب من بعيد وترك «الدولة التي يحرسها الله» وحيدة في مواجهة الصفوييّن.
ودون تبصّر بنتائج ما يقوم به اسماعيل الصفوي من أعمال عدوانية متزايدة وعلاقات وطيدة مع البرتغاليين أراد المماليك تدبير استفزاز لإثارة صدام بين إيران وبين تركيا، لكي يتحطّم أحــد العدوين بيد العدو الآخر، ثمّ يتقدم المماليك للقيام بدور مُنقذ الإسلام السنّة وربما بدور وريث السّلطنة العثمانية. وتدلّ مدوّنات ابن إياس أنه لم يكن يساورهم أي شك في قوّتهم العسكريّة الذاتية، وأنّ العثمانيين لن يتمكّنوا من التغلب على الصَّفوييّن. فتحوّلت مسألة النزاع مع المتطرّفين الشيعة إلى حجر عثرة بين الدولتين السنّيتين. وتبيّن أنّ هذه المسألة هي القشّة التي قصمت ظهر البعير في النزاعات العثمانيّة – المملوكية.

 لقد اعتُبِرت سياسة المماليك تجاه اسطنبول مظهراً من مظاهر العداوة السافرة التي أضعفت مواقع المماليك في مصر، وقوّت المشاعر المعادية لهم في
الأوساط العثمانية الحاكمة، فأخذ الحكام العثمانيون يميلون تدريجيّاً إلى اعتبار المماليك عدوّهم الرئيسي والأشدّ خطراً. هذه القوى بالذات وفـي مقدمتهـا القوى الانكشارية، هي التي أوصلت إلى الحكم السلطان سليم الأول، الملقب بالرّهيب، الذي اعتلى عرش السلطنة العثمانية في 24 نيسـان (أبريل) 1512.(٤)

 وهكذا أصبح السلطان العثماني سليم الأوّل وجهاً لوجه مع قوى كبرى تمثّل تهديداً لوجوده على رأس السلطنة أوّلاً، كما لوجود السلطنة واستمرارها من

جهة ثانية. لذلك أصبح الاستعداد للحرب هو الخيار الأكبر. وفضّل البدء بحربه مع الصّفويين، كرسالة للمماليك ومقدّمة للقضاء عليهم عبر توجيه ضربة قاضية لهم في معركة حاسمة، وهكذا كان…

 بدأ سليم الأوّل يستعد للحرب مباشرة بعد طرح مسألة من يستطيع، بل من ينبغي أن يكــون الخليفة الحقيقي وزعيم دار الإسلام. خلال فترة قصيرة تمكّن سليم الأول من إنجاز الإصلاح العسكري، وقمع تحرّكات باشاوات قيزيل داخل البلاد، وتجهيز جيش جرّار. وفي أيار (مايو) 1514 بدأ هذا الجيش حملة ضد الصفوييّن. ووصلت في الوقت ذاته إلى القاهرة بعثة عثمانية كرّرت اقتراحها بعقد تحالف بين العثمانييّن والمماليك لمحاربة اسماعيل الصفوي. لكنّ المماليك رفضوا الاقتراح، وتمسّكوا بسياستهم مع تفضيل اتخاذ موقف الانتظار. وفي العاشر من حزيران (يونيو) 1514، قرّر المجلس العسكري في القاهرة إرسال قوّة مراقبة عسكرية إلى حلب، التي أثارت غضب الطّرفين المتحاربين لكنّها لم تلعب أي دور في تطوّر الأحداث.

 نتيجة حياد مصر المراوغ، وفشل الحملة الصليبيّة الأوروبية التي أجهضتها انتفاضة الفلاحين عام 1514 في هنغاريا، نشأت ظروف مناسبة تماماً لتحقيق مخطّطات سليم الأوّل. وبفضل تفوّق العثمانيين الملموس في مجال تنظيم الجيوش وتجهيزها التقني تقرّر مصير الحملة سلفاً. في 23 آب (أغسطس) 1514 نشبت معركة تشالديران، فتكبّد جيش الصفوييّن هزيمة ساحقة ودخل سليم الأوّل تبريز عاصمة إيران الشيعيّة في 5 أيلول (سبتمبر) من ذلك العام. كانت هزيمة باشاوات قيزيل الذين فقدوا قرابة الـ (50) ألف رجل(٥) في مرج تشالديران، مفاجأة غير منتظرة بالنسبة إلى المماليك على حد قول ابن إياس. وقد اهتزت القاهرة‎ ‏لهزيمة الصفوييّن ولم يستطع حكّام مصر إخفاء خيبة أملهم. وأمام دهشة العالم الإسلامي كلّه، لم يبتهج المماليك لانتصار العثمانييّن على باشاوات قيزيل. كانت لمعركة تشالديران نتائج حاسمة على مصير المعركة المُرتقبة مع المماليك. ففي ربيع عام 1515 وصلت إلى القاهرة تباشير الأنباء عن استعدادات العثمانيين العسكرية. فقد كان الجيش والأسطول العثمانيّان يستعدان لشن حملة على مصر. وسيطر على اسطنبول جو محموم للحرب التي صوّرها العثمانيون ضد المماليك كما لو كانت واجباً على كلّ مسلم خوضها. كما أصدر علماء السلطنة العثمانية ثلاث فتاوى تضفي على الحرب طابع الجهاد الديني التحرّري. فقد ورد في إحدى هذه الفتاوى أنّ المماليك خانوا الإسلام وأنهم يساعدون الكفّار. وأعلن مفتي اسطنبــول الأكبر: «أنّ من يساعد أعداء الله هو عدو الله أيضاً»(٦). أمّا الهدف المُعلن للحملة فهو تحرير المضطهَدين وحماية المسلمين من العدو الخارجي. وهكذا بدأت مرحلة جديدة من تطوّرات الموقف بعد السيطرة على تبريز والانتصار على قوات الشاه، والتفرّغ لحرب المماليك.

 وأصبح الامتداد العثماني باتجاه البلاد العربية والسيطرة عليها أمراً حتميّاً، ووجد المماليك أنفسهم أمام عدوّ قويّ لا مفرّ من مواجهته، في ظلّ علاقات عثمانيّة – مملوكيّة تأرجحت بين مدّ وجزر لسنوات طويلة، تمهيداً لساعة الصفر، المتمثلة في معركة «مرج دابق» الفاصلة…

 تُعَدُّ ظاهرة ضمِّ العثمانيين للبلاد العربية، خلال النصف الأوّل من القرن السادس عشر، من الظواهر التاريخيّة الجديرة بالدراسة، بفعل أنّ هذا الضمَّ امتدّ أربعة قرون من التاريخ الحديث، وفي أجزاء استراتيجيّة في آسيا وإفريقيا، وشكَّل العالم العربي أحد العوالم الجغرافيّة الثلاثة الكبرى التي تكوّنت منها الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر، أمّا العالمان الآخران فهما عالم الأناضول وعالم الروملِّي.

 والواقع أنّ الظروف الداخلية والخارجية في المنطقة العربية قد دفعت العثمانيين إلى ضمِّ البلاد العربية، وكأنّ العالم العربي أراد استبدال الحكم المملوكي بحكم عثماني جديد كون الشعوب العربية اعتادت على نمط الدول والدويلات السلطانية. لكنّ المنطقة العربية غدت مزدحمة بالصراعات الإقليمية بين الصفوييِّن والمماليك والعثمانيين، وعُرضة لتهديدات القوى الأوروبية وأطماعها، وبخاصة القوى البرتغالية التي شغلت تهديداً مباشراً لسواحل شبه الجزيرة العربية الجنوبية، الشرقية منها والغربية بفعل وقوع موانئها على طريق التجارة مع الهند.

وجاءت نتائج ضمّ العثمانيين إقليم الجزيرة الفراتية أنْ فتحَ الباب أمام العثمانيين للتمدّد باتجاه الأراضي العربية، لتأمين خطوط استراتيجية جديدة، إنْ في بلاد الشام أو في العراق تصل إلى المحيط الهندي.

وكان التنافس على زعامة العالم الإسلامي قد بلغ آنذاك أشدّه بين القوى الإسلامية الثلاث العثمانيين والمماليك والصفوييّن، ما دفع العثمانيين إلى الاصطدام بالصفوييّن وتحجيم قوّتهم، ومن ثم التفتوا نحو المشرق العربي ليصطدموا بالمماليك. وكان السلطان سليم الأول مستعداً لتنفيذ خططه الكبرى في الشرق، لأنّ العرب أرادوا من هذا القادم الجديد حالة خلاص أخرى على يديه ينتشلهم من الحكم المملوكي المُتَعسّف(٧). في الوقت الذي فشلت فيه كل المقترحات العثمانية مع المماليك وسلطانهم قانصوه الغوري في مصر، الذي وجد في الصراع العثماني الصّفوي إضعافاً للجانبين، وعامل قوّة له، إلّا أنّ حساب الحقل لم يطابق على حساب البيدر المملوكي، حيث فسّر العثمانيون موقف حياد المماليك موقفاً عدائيّاً منهم، ممّا قرّب ساعة الحسم في «مرج دابق». هذا، ومن المعروف أنّ أيّة حرب، مهما كانت، تكمن فيها عوامل وأسباب وأهداف، مباشرة وغير مباشرة، وصولاً إلى حصولها في الوقت المناسب. ولم تكن معركة «مرج دابق» خارج هذا الإطار إطلاقاً.

 لقد عدّ العثمانيون سياسة المماليك هذه مظهراً من مظاهر العداوة السافرة، وأخذوا ينظرون إليهم على أنّهم العدو الرئيس، وقد نجح السلطان سليم الأول في تسريع الأحداث تجاه المماليك لكي يوفّر لنفسه أسباباً استراتيجية جيدة تمكّنه من ضم الممتلكات المملوكية، وتمثَّل ذلك بسيطرته على موانئ قيليقيا لتأمين الطريق المائي الذي يربط إستانبول بـ «بياس». واكتفى قانصوه الغوري، أثناء الصدام بين العثمانيين والصفويين، بإرسال قوّة مراقبة إلى حلب لحماية الأراضي الواقعة تحت النفوذ المملوكي، لكن إرسال هذه القوة وقيامها بمنع الجيش العثماني من عبور طرق تمر بأراضي واقعة تحت السيطرة المملوكية، أدّى إلى تدهور العلاقات بين سليم وقانصوه الغوري، وبدا واضحاً أنّ الأوّل عاد من تشالديران وهو ينوي الدخول في حرب مع الثاني، لأنّه كان يخشى وجود دولتين كبيرتين معاديتين له وتشرفان على حدوده الجنوبية.

 كان من أبرز هذه الاتجاهات أنّ السلطان سليم الأول أسرع بعد عودته من إيران إلى ضمِّ إمارة ذي القدر الفاصلة بينه وبين المماليك، والمشمولة بحماية هؤلاء، وقبض على حاكمها علاء الدولة وقطع رأسه وأرسله إلى القاهرة. ويبدو أنّ السبب المباشر لضم هذه الإمارة

االسلطان العثماني سليم الاول

يتعلّق بغاراتها المتكرّرة على القوافل العثمانية، ومنعها إمدادات الحرب من المرور إلى الجبهة الشرقية، فانتقم منها سليم، وملك مرعش وألبستان وعينتاب وملطية، ومعنى ذلك أنّ الطريق أضحى مفتوحاً الآن أمامه في مواجهة المماليك(٨). والواقع أنّ ضمَّ سليم الأول إمارة ذي القدر كان عملاً جريئاً، لأنّ المماليك كانوا يعدّون أنفسهم، منذ زمن بعيد، سادة للإمارة، ثم إنّ تعيين حاكم عثماني عليها يُعَدُّ عملاً معادياً، وكان سليم الأوّل يريد استدراج قانصوه الغوري للذهاب إلى شمال بلاد الشام لمراقبة الوضع هناك، ثم الانقضاض عليه فجأة.

 عدَّ قانصوه الغوري تصرّف سليم الأول هذا بمثابة إعلان للحرب، وقرّر أن يستعيد هيبته في المنطقة وأمر بالاستعداد للحرب. ويبدو أنّه كان يودّ أن لا تتطور العلاقات بينه وبين السلطان العثماني إلى حرب، ويعمل جاهداً على تفاديها، إذ إنّه أدرك الأحوال السيئة التي كانت تمرّ بها السلطنة المملوكية وسط اتّساع التعاطف مع العثمانيين، بفعل القوى المناهضة لها في مصر وبلاد الشام والجزيرة العربية، بالإضافة إلى مناهضة البرتغاليين لها في المياه الإسلامية وفي المحيط الهندي.

وانتقلت المشاعر المعادية للدولة إلى صفوف الجيش المملوكي، فانخفضت درجة الانضباط بشكل ملحوظ. وارتفعت أصوات الجند تطالب بالمال والمكافآت واللحوم، وأخذوا في التمرّد، وراحوا يعيثون فساداً في الشوارع العامّة.

 نتيجة لهذه العوامل، أيقن الغوري أنّه غير مستعد لخوض غمار حرب كبيرة ضد العثمانيين الأقوياء، وحاول تأخير اندلاعها بكل الوسائل، إلّا أن السلطان سليم الأول أصرّ على أن يكون السيف هو الحَكَم إنْ لم يعلن الغوري خضوعه له. وكان هذا هو ذروة الاستهانة به. وشعر سلطان مصر أن جيشه لا يستطيع وحده الصمود أمام الجيش العثماني الجيد التسليح والتجهيز، فسعى إلى التحالف مع الشاه اسماعيل الصّفوي ضد العدو المشترك، ولعلّ ما شجَّعه على سلوك هذا المسلك، أنّ الشاه كان مستعدّاً بعد تشالديران لمتابعة العمل ضد السّلطان سليم الأول.

 ولكن الكراهية التي كان يكنّها الشاه للغوري لم تكن تقلّ عن كراهيته للسلطان العثماني، بالإضافة إلى أنّه لم يفكر، بعد تشالديران، في خوض معركة مكشوفة مع العثمانيين، واكتفى بتثبيت حكمه في إيران والقيام ببعض المحاولات الارتدادية الضيقة. ولهذا، لم تُسفر محاولة الغوري التحالف مع الشاه إسماعيل عن نتيجة إيجابية بل انعكست سلباً على علاقاته مع العثمانيين، الذين رأَوْا في هذه المحاولة طعنة للدولة العثمانية من الخلف، وأضحت الحرب حتميّة بين الطرفين(٩).

 وعلى الرغم من ذلك، لم يفقد قانصوه الغوري الأمل بالمفاوضات السلمية، وعملت الدبلوماسية العثمانية على ترسيخ هذا الوهم في ذهنه، مستغلّة ذلك لإرباك العدو وإبقاء المبادرة في يد السلطان سليم الأول، الذي ظلّ، حتى اللحظة الأخيرة، يحتفظ بإمكان تحديد مكان وزمان المعركة. ولجأ كل طرف إلى تنفيذ الأساليب التي تضعف قوى الطرف الآخر، كالاتّهام بخيانة الجهاد ضدّ أوروبا، وكما اتّهم العثمانيون المماليك بخيانة العالم الإسلامي كذلك اتّهم المماليك السلطان سليم الأول، الذي لقبوه بـ «ملك الروم»، بالارتداد عن الدين الحنيف والسنّة. وكسب كلّ طرف أعواناً له من بين رجالات الطرف الآخر فتحوّلت اسطنبول والقاهرة إلى ملجأ سياسي لكلّ زعيم من غضب سلطانه. لكنّ إفادة السلطان سليم الأول من اللاجئين إليه من المماليك كانت أكثر من إفادة السلطان الغوري من اللاجئين إليه من العثمانيين، حيث إنّ التفكك الداخلي في الدولة المملوكيّة كان يعطي السلطان العثماني فُرَصاً أفضل للإفادة المثمرة، على عكس الجبهة الداخلية العثمانية الصلبة. واستطاع العثمانيون جذب بعض كبار رجال المماليك، أمثال يونس بك، والي عينتاب، وخَير بك نائب حلب، التي تُعَدُّ خط الدفاع الأول عن الشام ومصر، في حين لم يستفد الغوري من الذين لجأوا إليه من العثمانيين سوى إفادة معنوية، ما أدّى إلى استنزاف المقاومة المملوكيّة وفقدانها حيويتها(١٠).

 أزعج السلطان قانصوه الغوري ضمّ السلطان سليم الأول أراضي إمارة ذي القدر إلى أملاكه، فاضطرب الموقف السياسي، ولم يكن أحد يدري ما يدور في خلد السلطان العثماني. وما أن تأمَّنت جميع منافذ بلاد الجزيرة وشمالي العراق ومسالكهما، من خلال السيطرة العثمانية عليها، حتّى تحرك الجيش العثماني عبر الأناضول في (أوائل 922هـ/ ربيع 1516م) بقيادة السلطان، وتعداده ستون ألف مقاتل وثلاثمائة مدفع، ويمَّم وجهه شطر بلاد الشام. ولما علم الغوري بأنباء التحرك العثماني، حرّك هو الآخر جيشه الذي خرج به من القاهرة، وقد بلغ تعداده ثمانين ألف جندي.وتبادل الرّجلان الرسائل في مرج دابق شمالي حلب، حيث عسكر جيشاهما، وبدا كأن هناك مشروعاً للتفاوض وحقن دماء المسلمين، وهو ما كان يريده الغوري على عكس سليم الأول الذي كان يضمر الدخول في معركة، بعد أن نجح باستدراج المماليك إلى ساحة القتال بأسلوب ذكي بارع، وأمَّن خطوط مواصلاته مع الأناضول عبر حلب، المدينة الاستراتيجية، لذلك فشلت المفاوضات وأهان كلّ منهما رسل الطرف الآخر، وأضحت الحرب وشيكة الوقوع. وعبّأ كلّ عاهل جيشه استعداداً للّقاء الحاسم، الذي بدأ في (25 رجب 922هـ/24 آب 1516م)، ودارت بين الجيشين رحى معركة عنيفة استمرّت أقل من ثماني ساعات، أسفرت عن انتصار واضح للعثمانيين، ولم يصمد المماليك أمام مدفعيّة هؤلاء المتفوقة. وانتحر السلطان الغوري أثناء انهزام الجيش، حيث تناول السّم عندما علم بنتيجة المعركة، ووقع عن حصانه بعد أن فقد وعيه ومات على الفور. ومما يجدر ذكره أن انسحاب كل من خير بك نائب حلب، وجان بردي الغزالي نائب حماة من جيش الغوري وانضمامهما إلى صفوف السلطان سليم الأول، كان من العوامل التي أثرت على نتيجة المعركة.

 استثمر السلطان سليم الأول انتصاره هذا وضمَّ حلب وحماة وحمص ودمشق، وكان السكان يُرحِّبون به ويحتفون بمقدمه بصورة لم يألفها أيّ سلطان عثماني من قبل. وعيَّن السلطان على هذه المدن ولاة من طرفه، واستقبل في دمشق وفوداً من العلماء فأحسن وفادتهم، وفرَّق الإنعامات، وأمر بترميم المسجد الأموي وقبريّ صلاح الدين الأيوبي والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، كما شيَّد مسجداً باسمه، ولما صلّى الجمعة أضاف الخطيب، عندما دعا له، هذه العبارة «خادم الحرمين الشريفين». كانت بعض القوى المحلّية الحاكمة في بلاد الشام تقف موقف المتردِّد من هذه الحرب، لتتخذ، بعد انتهاء المعركة، الموقف الذي يتناسب مع مصالحها، مثل آل معن، لكن بعض القوى الأخرى، ومنهم آل بُحتر، فضّلوا الوقوف إلى جانب المماليك، وترتّب على مثل هذه المواقف أن ارتفعت مكانة آل معن وهبطت مكانة آل بحتر(١١).

فخر الدين الاول في حضرة السلطان سليم الاول في دمشق

 وبالفعل، فقد شكّلت معركة «مرج دابق» هذه، محطّة مفصليّة هامّة في تاريخ المنطقة، ومن بينها لبنان بالطبع. إذ كان الانتصار العثماني فيها هو بحدّ ذاته انتصاراً لحلفاء العثمانيين أيضاً، كما كانت هزيمة المماليك، هزيمة لحلفائهم أيضاً. وفي الوقت الذي وقف فيه التنوخيّون إلى جانب المماليك في هذه المعركة، بينما وقف المعنيّون في صفّ العثمانيين، فقد مثّل فوز العثمانييّن بدايةً لسطوع نجم بني معن والإمارة المعنيّة، على حساب التنوخييّن وإمارتهم التنوخيّة، التي أَفُل نجمها وزالت سيطرتها بعد نفوذ استمرّ حوالي ثمانية قرون كأوّل إمارة عربيّة إسلاميّة في الشرق دام حكمها 800 سنة.

 وعندما أنهى السلطان سليم الأوّل فتوحاته في بلاد الشام ودخل دمشق، ذهب إليها وفد يضم أمراء المناطق اللبنانيّة لتقديم الطاعة وإعلان الولاء للحاكم الجديد، وكان الوفد الكسرواني برئاسة عساف التركماني، ووفد الشوف برئاسة فخر الدين المعني الأول، وجمال الدين الأرسلاني. تقدم فخر الدين المعني الذي تكلم باسمهم، وقبل الأرض أمام السلطان العثماني ودعا له الدعاء التالي «اللّهم أَدِم دوامَ من اخترته لملكك، وجعلته خليفةَ عهدك، وسلطته على عبادك وأرضك، وقلدته سنَّتك وفرضك، ناصر الرّعية النيّرة الغراء، وقائد الأمة الطاهرة الظاهرة، سيّدنا ووليّ نعمتنا أمير المؤمنين، الإمام العادل، والذكي الفاضل، الذي بيده أزمة الأمر بادِشاة، أدام الله بقاءه، وفي العزّ الدائم أبقاه، وخلّد في الدنيا مجده ونعماه، ورفع إلى القيامة طالع سعده، وبلغه مأموله وقصده… أعاننا الله بالدعاء لدوام دولته بالسعد والتخليد بأنعم العزّ والتمهيد. آمين»(١٢). أعجب السلطان سليم بشخصية فخر الدين الأول

 الوقورة وبمظاهر إخلاصه وببلاغته. وأقرّه كما أقرّ رفاقه الأمراء اللبنانيين على إقطاعاتهم، وسمح لهم بممارسة امتيازات الحكم الذاتي الذي كانوا يتمتعون به في ظل حكم المماليك. كما جعل الأمير جمال الدين الأرسلاني اليمني والياً على بلاد الغرب، والأمير عسّاف التركماني أميراً على بلاد كسروان وبلاد جبيل وأوصاهم خيراً بقومهم. ويقول محمّد كرد علي في هذا الإطار: «وقَدِمت إليه الناس من كلّ جانب إلّا الأمراء التنوخييّن القيسيين، فإنّهم لم يأتوا لأنّهم كانوا من حزب الدولة الشركسيّة»(١٣).

 وبالنّظر إلى ما كانت عليه المناطق اللبنانية في أيام العهد المملوكي من حكم إقطاعي بين الأمراء والمقدّمين والمشايخ وزعماء العائلات والولاة، فقد أبقى العثمانيون على هذا الحكم، حفاظاً على الأمن والنظام من جهة، وحتى لا يؤلّبوا اللبنانيين عليهم من جهة أخرى، معتمدين على شعار مركزي في تعاملهم مع سكان المناطق اللبنانية مفاده: «فرض الطاعة عليهم وجباية الميري منهم».

 وكان من الطبيعي أن يمنح العثمانيون حلفاءهم من أمراء لبنان حكماً ونفوذاً مميّزاً، كمكافأة لهم على مناصرتهم ضدّ خصومهم المماليك، في معركة تعتبر بمثابة «كسر عظم» بين الجانبين (هي معركة مرج دابق). وقد كان المعنيّون من أوائل الذين نالوا هذه المكافأة، وترأّسوا على غيرهم بموجب فرمانات سلطانية عليا. وقد جاء الاعتراف العثماني بزعامة الأمراء المعنيين وترئيسهم على سائر الأمراء اللبنانيين، و«بحق أبنائهم من بعدهم فيها بحيث تنتقل السلطة من أمير معني إلى أمير معني آخر دون أن يكون لغيرهم من الأمراء الوطنيين يد في الحكم الأعلى»(١٤).

 جاء ذلك، لإحداث الخصومات والانقسامات بين الأمراء اللبنانيين وبقاء النَّير العثماني فوق رقابهم مجتمعين، وهذا ما أدّى بالفعل فيما بعد إلى العداوة التي تأصّلت بين المعنيين من ناحية، وبين آل سيفا وآل فريخ من ناحية ثانية، وما نتج عنها لاحقاً من مآسٍ وكوارث بحق المعنيين وبلادهم خاصّة، وبحق اللبنانيين ككُل من ناحية ثانية… وصولاً إلى القضاء على الأمراء المعنييِّن، الواحد تلو الآخر، كمقدّمة للقضاء على إمارتهم وحكمهم كأسرة عام 1697، بعد أن مَدْمَكَتْ الأساس للكيان اللبناني الحديث، على ركائز وطنيّة

عروبيّة صحيحة، رغم كل الاتهامات والافتراءات الباطلة التي لا تطال إلّا الوطنيين المخلصين للمواطنين والوطن على السواء.

 بعد هذا العرض شبه التفصيلي عن معركة «مرج دابق»، يجدر بنا التطرّق إلى الأسباب الكامنة في هذا الانتصار العثماني على المماليك، والذي كانت بمثابة الضربة القاضية على هذه السلطنة التي حكمت قروناً عدّة، وبعض النتائج التي تمخّضت عنها. لذلك نستطيع تسجيل الملاحظات التالية:

  1. كانت الجيوش العثمانيّة جيّدة التسليح والتجهيز، وطبقّت الأساليب التكتيكية الحديثة.
  2. لجأت هذه الجيوش إلى تدعيم مواقعها بواسطة قلاع متحركة، تشكلت من عربات مربوطة بعضها بالبعض الآخر.
  3. وزّع السلطان سليم الأوّل قوّاته ومدفعيته بحيث تستطيع الاختباء خلف سلاسل من العربات المتصلة بعضها ببعض، وخلف حواجز من الأشجار والأخشاب.
  4. امتازت المعدات المقاوِمة للخيّالة، كالشوكات والخطّافات الحديدية المربوطة بالحبال، بأهمية كبيرة في المعركة، إذ كان الجنود العثمانيون يُطلقون هذه الأدوات على فرسان المماليك المدججين بالسلاح، فيسحبون فرسانهم من على ظهور الخيل ويقتلونهـم بالفأس أو بالسيف.
  5. كان العثمانيون يمتلكون أفضل مدفعية في العالم آنذاك، واستخدموا أحدث أنواع المدفعيّة النّحاسية المركبة على عجلات يجرّ الواحد منها زوج من الثيران، في حين لم يعرف الجيش المملوكي مثلها.
  6. على الرّغم من أنّ جنود الجيش العثماني كانوا ينتمون إلى قوميّات مختلفة وطوائف دينيّة متعددة، إلّا أن هذا الجيش عُرِف بانضباطيّته وتماسكه المعنوي على عكس الجيش المملوكي الذي تنازعه الإحجام.
  7. انسحاب بعض أمراء بلاد الشام من الجيش المملوكي وانضمامهم إلى الجيش العثماني عند بدء القتال، أمثال خَير بك نائب حلب وقائد الميسرة، وجان بردي الغزالي ما أثّر سلباً على قوّة ومعنويات السلطان الغوري.
  8. تراجع القاعدة الإسلاميّة للمماليك بفعل الانتفاضات الشعبيّة ضدّهم، في القرى والمدن الإسلاميّة (١٥).
  9. أفرزت هذه المعركة نهاية سلطنة وبداية حكم سلطنة أخرى على أنقاضها، دامت سلطتها نحو أربعة قرون حفلت بأحداث تاريخيّة مهمّة، وبمتغيّرات سياسيّة هامّة في تاريخ بلاد الشام ومصر والعراق والبلقان وأوروبا.
  10.  أدخلت هذه المعركة الرّعب في قلوب الأوروبيين، كما في قلوب الفرس.
  11. أزالت من الحكم في الإمارة اللبنانية إمارة تاريخيّة عريقة، هي الإمارة التنوخيّة التي حكمت نحو ثمانية قرون)، لتخلق على أثرها الإمارة المعنيّة (الحليفة للتنوخييّن تاريخياً ومن أنسبائهم)، دون أن تتخلّى عن مهمّة التنوخييّن الوطنيّة والعروبيّة والإسلاميّة، فكانت امتداداً لها واستمراراً كخير خلف لخير سلف…
  12. كرّست هذه المعركة السلطان سليم الأوّل «خليفة على المسلمين» و«حامي الحرمين الشريفين» والسلطان الأقوى في عصره. كما كانت المفتاح الذهبي الذي فتح به السلطان سليم بلاد الشام…

 على هذا الأساس، تُعتبر معركة «مرج دابق» التي جرت في شمالي حلب بين العثمانيين والمماليك في 24 آب 1516، نهاية عهد وبداية عهد جديد، تجاوزت في تأثيرها المنطقة الجغرافيّة التي وقعت فيها، إلى ما يتعدّى حدود السلطنتين معاً، بكل ما رافقها من تغيّرات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وديموغرافيّة وعسكريّة… فكانت بحقّ إحدى معارك التاريخ الكبرى في الشرق والغرب معاً، والانقلاب الكبير في التحالفات والولاءات المختلفة، كما بالصراعات والاصطفافات المضادة على مختلف الأصعدة… وهذا هو سرّ أهميّتها التي أخرجتها من الجغرافيا وأدخلتها التاريخ… بعد أن نقلت المرحلة من القرون الوسطى إلى العصور الحديثة، في نقلة نوعيّة مميّزة على جميع المستويات…

المراجع

  1. ابن إياس «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، القاهرة 1961-1962، المجلد الخامس، ص 364-365.
  2. نيقولاي إيفانوف «الفتح العثماني للأقطار العربية» (1516-1574)، نقله إلى العربية يوسف+ عطا الله، راجعه وقدّم له د. مسعود ضاهر، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى 1988، ص 54.نيقولاي إيفانوف، المرجع السابق نفسه، ص 56، نقلاً عن: Demetrius Cantimir, «Histoire de l’Empire Ottoman où se voyant les causes de son agrandissement et de sa décadence», traduit en français par M. de Joncquières, Paris 1943, Tome2, p. 95.
  3. للتفصيل في ذلك، يستحسن العودة إلى:
  4. نيقولاي إيفانوف، مرجع سابق، ص 58-59، ود. جلال يحيى، «المدخل إلى تاريخ العالم العربي الحديث»، دار المعارف بمصر 1965، ص 25-27. ومحمّد كرد علي «خطط الشام». دار العلم للملايين، بيروت، الجزء الثاني 1972، ص 205-206. ود. محمّد سهيل طقّوش «تاريخ العثمانيين»، دار النفائس، بيروت، ص 152-153.
  5. ابن إياس «بدائع الزهور في …»، مرجع سابق، المجلد الخامس، ص 361. ود. عبد العزيز سليمان نوار «الشعوب الإسلامية»، دار النهضة العربية، بيروت 1973، ص 73-75. وأيضاً: محمّد فريد المحامي «تاريخ الدولة العلية العثمانية»، مرجع سابق، ص 189. وسعيد أحمد برجاوي «الإمبراطورية العثمانية»، الأهلية للنشر والتوزيع، بيروت 1993، ص 91-93.
  6. إيفانوف، مرجع سابق، ص 60، نقلاً عن: بارتولد «الخليفة والسلطان»، موسكو 1966، ص 60.
  7. محمّد فريد المحامي «تاريخ الدولة العلية العثمانية»، مرجع سابق، ص 191. وسيّار الجميّل «العثمانيّون وتكوين العرب الحديث»، مؤسسة الأبحاث العربيّة، بيروت، الطبعة الأولى 1989، ص 356.
  8. راجع: ابن إياس «بدائع الزهور…»، مرجع سابق، الجزء الرابع ، ص 372-373. ونيقولاي إيفانوف، مرجع سابق، ص 60. ود. عبد العزيز سليمان نوار «الشعوب الإسلامية»، مرجع سابق، ص 86-88، ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 165.
  9. راجع: ابن إياس «بدائع الزهور…»، مرجع سابق، الجزء الرابع ، ص 372-373. ونيقولاي إيفانوف، مرجع سابق، ص 60. ود. عبد العزيز سليمان نوار «الشعوب الإسلامية»، مرجع سابق، ص 86-88، ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 165.
  10. – ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، ص73 و89-92. وأيضاً: سيّار الجميّل «العثمانيّون وتكوين العرب الحديث»، مرجع سابق، ص 338-342. ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 166.
  11. ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، ص60.
  12. ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، ص69-71. ومحمّد فريد بك المحامي، مرجع سابق، ص 192-193. وعبد الكريم رافق، «العرب والعثمانيون»، ص 61. وسعيد أحمد برجاوي، الإمبراطوريّة العثمانيّة، مرجع سابق، ص 95-96. ود. طارق قاسم، تاريخ لبنان الحديث، بيروت، الطبعة الأولى 2012، ص 12-15.
  13. د. إميل توما، فلسطين في العهد العثماني، الدار العربية للنشر والتوزيع، عمان/الأردن، لا ت، ص 22. وسعيد أحمد برجاوي، ص 97. ود. طارق قاسم، مرجع سابق، ص 28.
  14. محمّد كرد علي، خطط الشام، الجزء الثاني، دار العلم للملايين، بيروت 1972، ص 213.
  15. فيليب حتّي، «لبنان في التاريخ»، دار الثقافة، بيروت 1978، ص 437-438. وأيضاً: عادل إسماعيل Adel Ismail, L’histoire du Liban», Tome 1, Paris 1955, p. 58-59.
  16. ابن إياس «بدائع الزهور…»، الجزء الخامس، مرجع سابق، 67. ود. محمّد سهيل طقوش «تاريخ العثمانيين»، مرجع سابق، ص 169. ود. طارق قاسم، مرجع سابق، ص 11 و14.

تجربة محمّد علي باشا في لُبنان وسوريا

تميّزت الدّيموغرافية الاجتماعيّة – السكانيّة في بلدان المشرق العربي: العراق – سوريا – فلسطين – لبنان بالتنوّع الطائفي والقبلي والاثني والقومي. مع ما لهذا التنوع من صلة بالتحولات السياسية والاقتصادية، خاصّة بالحروب التي جرت وتجري ليس فقط بين أطراف النسيج المجتمعي المشرقي، أيضاً مع ما يحيط المنطقة من صراعات وحروب أدّت بنتائجها لهجرات واسعة من وإلى بلدان المنطقة.

وكان لمصر تجربتان قريبتان مؤثّرتان في الأوضاع السياسية والاجتماعية مع سكان المشرق، تمثلتا بتجربة محمّد علي باشا، 1805 – 1849 الذي امتد نفوذه إلى المشرق العربي ما بين عامي 1832 – 1840 – وتجربة جمال عبد الناصر 1952 – 1970 –
التي تميزت بما قام به من مقاربات للتعاون بين الدول العربية، ارتقت إلى وحدة مصر وسوريا – 1958 – 1961 – وإلى مشاريع اتّحادية مع العراق والسودان واليمن وليبيا وغيرها من أقطار عربية.

وسنحاول في هذه الدراسة مراجعة العلاقة التاريخية بين مصر وبلدان المشرق، انطلاقاً من تجربة محمّد علي ومؤثراتها التاريخية، فمصر التي كان عدد سكانها في بداية القرن التاسع عشر، أربعة ملايين نسمة، في حين بلغ عدد أفراد جيشها، أربعمائة ألف جندي. بينما كان عدد السكان الأقباط نحو المليون نسمة (الإحصاءات الفرنسية). وكان الأقباط هم الشريحة المتعلمة والتي تقلّصت نسبة الأمية بينهم إلى الحدود الدنيا.

أمّا سبب هذا التمايز التربوي بين الأقباط والمسلمين فناتج عن السياسات التي قامت بها الإرساليات الغربية على الصُّعد التربوية – التعليمية، تلك الإرساليات التي حصرت مهمتها بتعليم المسيحيين، حاملة فيما حملته ليس فقط مؤثرات عصر التنوير، حيث أجبرت الكنيسة مواطنيها سواء في مصر، أم في بلدان المشرق العربي على التعليم تحت طائلة المحاسبة القاسية، بل كان هدف الإرساليات أيضاً خلق مُناخات عند قوى اجتماعية معينة يراد تحضيرها كوسيط تجاري بين البلدان العربية والبلدان الغربية.

وفي عودة إلى ما قامت به الإرساليات فإنّ المشروع الناصري قام أيضاً بتجربة مماثلة ما بين عامي 952 – 1970 إذ طرح مشروعاً لمكافحة الأميّة، فكان للمساجد والكنائس والمدارس وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني دور في تنفيذ مضامين هذا المشروع الذي كانت نتائجه استفادة نحو خمسة ملايين مواطن مصري منه.

التنوع الطائفي والسياسات الاستعماريّة في المشرق العربي ١٨٠٥ – ١٨٤٠

أمّا الصورة التي كانت عليها الطوائف غير الإسلاميّة فتبدو كالتالي: بلغ عدد السكان في المشرق العربي من غير المسلمين – المليون ونصف المليون نسمة – كان هذا في الربع الأول من القرن التاسع عشر. لكن هذه الطوائف لم تكن على وئام مع بعضها البعض، وهذا ما أدّى في فترة تاريخية معيّنة إلى انقسام الكنيسة إلى قسمين؛ الأوّل: يتبع الكنيسة اللاتينية الغربيّة. الثاني: يتبع الكنيسة اليونانية الشرقية، حيث قُسّمت الكنيسة الكاثوليكية إلى عدة كنائس، ولكلّ كنيسة توجهاتها الخاصة من حيث ارتباطها ليس فقط بالخلافة، بل أيضاً بالبابوية وبالرعايا التابعين لها.
لقد احتفظت الكنيسة اللاتينية في الشرق بوحدتها، كونها تمثل الإرث الباقي من التراث الثقافي للعالم القديم. لكنها كانت قد انفتحت على الثقافة الغربية خلال فترة حكم محمّد علي، فعمل قسم من نُخَبها بعد عودتهم إلى بلادهم في المؤسسات العامة، وقسم آخر تم تأهيله للتعامل التجاري مع الدول الأوروبية، كما أنّ نُخَباً متنوّعة كانت قد أخذت مواقع لها في المؤسسات التي أشرف عليها هو وولده إبراهيم سواءً في مصر أم في بلدان المشرق – الإدارية والمالية والخدماتية – خاصة وأن من يتم اختيارهم كانوا يتقنون ليس فقط اللغة العربية، وإنّما أيضاً اللغات الأجنبية (الإنجليزية – الفرنسية).

أمّا بشأن الكنيسة الشرقية التي قُسّمت إلى ست كنائس، فقد أُطلق عليها اسم الكنيسة الأرثوذكسية، بينما الكنائس الأخرى فقد انقسمت إلى نساطرة ويعاقبة، حيث أثّر الانشقاق الذي حصل في العام 1054 على هذه التقسيمات، بين الكنيسة الرومية والكنيسة القسطنطينية التي انفصل قسم من رعاياها تحت تأثير الحملات التبشيرية الغربية والمرسلين الأجانب، ليلتحقوا بالطوائف أو الأديان الأخرى. أمّا بالنسبة للموارنة في لبنان، الذين بلغ عددهم خلال فترة حكم محمّد علي، مائة وخمسون ألف نسمة، فقد تعاونوا مع محمّد علي، خلال وقبل سيطرته على بلدان المشرق العربي، وبقي هذا التعاون مستمراً حتى عام 1840.لقد كان وقع العلاقات الأرمينيّة مع محمّد علي، حين سيطر على مقاطعة كيليكيا إيجابياً، حيث تم التعاون بينهم وبين محمّد علي، وذلك بهدف السيطرة على كرسي القدس، لكنّ الأرمن كانوا يرغبون أيضًا بأن يشملهم نظام الامتيازات الذي تتمتع به الطوائف المسيحية الأخرى، ولكن خاب ظنُّهم.

أمّا عن وضعية الطائفة الإنجيلية التي كانت تعترض على سلطة البابا ولا تعترف بها، وهم ممّن لا يعترفون سوى بالإنجيل كمُرشد ودليل وحيد لهم، فلم يحظَوْا بالامتيازات، وبالتالي لم تتمَّ معاملتهم كما كانوا يرغبون من قبل الدول الراعية (راجع قاسم سمحات، محمّد علي والمشروع الفرنسي في بلاد الشام). هذه هي وضعية الطوائف المسيحية واتّجاهاتها والمتناقضات الموروثة بين بعضها البعض.

أمّا عن واقع اليهود، حيث بدأ الاهتمام بهم نتيجة قوّتهم الاقتصادية والمالية في البلدان الأوروبية. فقد كانوا قبل حملة نابليون بونابرت يعيشون مضطَهَدين
في الدول الأوروبية، وكان هناك تمييز صارخ بينهم وبين الطوائف المسيحيّة، إذ كان الموروث الشعبي المسيحي يتّهمهم بأنهم ساهموا (بصلب السيد المسيح).

لكن موقعهم المالي والاقتصادي كان سبباً من أهم أسباب إعادة الاعتبار وامُسَلّمات محمّد عليلتّعامل معهم بشكل مختلف، وكقوى محتملة يمكن استغلالها لتنفيذ المصالح الاستعماريّة في المنطقة العربية. هكذا بدأ نابليون يتصرّف مع قضية اليهود، ومن بعده الساسة الإنجليز. فنابليون كان قد وعد القادة الصهاينة حين حملته على مصر عام 1798، بتبنّي مطالبهم السياسية في فلسطين. ومنذ ذلك التاريخ استمرّت الوعود الإنجليزيّة، والإنجليز هم الذين رأوا في المطالب الصهيونية فرصة لهم لاستعمار المنطقة، واستغلال خيراتها. أمّا الفرنسيّون فكانوا قد طوروا علاقاتهم مع الطائفة المارونية، هذه الطائفة التي انفتحت مبكّراً على الثقافة الغربية، وكان للإرساليات الفرنسية دورٌ مهمُّ في هذا الانفتاح.

لقد أصبح لبنان بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر، ومن خلال علاقة الموارنة بفرنسا، مركزاً للتبشير الغربي، إذ سهّلت الامتيازات التي أُبرمت مع الدول الغربية، وأدت إلى علاقات مميّزة بين فرنسا والموارنة إلى تسلل النفوذ الفرنسي إلى البلاد التي تخضع للخلافة. إنّ نظام الامتيازات قد أعطى ذريعة للفرنسييّن والإنجليز وغيرهم للتدخّل في شؤون المنطقة، وذلك على حساب وحدة المجتمعات المُنضوية تحت علَم الخلافة. لقد أصبح الموارنة كما غيرهم من الطوائف المسيحية يخضعون للقوانين الأجنبيّة – الفرنسيّة، خاصة أن العلاقات بين فرنسا وهذه الطوائف كانت قد بدأت منذ الحروب الصليبية (1096) حيث كان هدف تلك الحملة كما قال البابا آنذاك، إقامة علاقات وطيدة بين مسيحيي الدول الأوروبية ومسيحيي الشرق. كان الهدف الأساسي وجود دائم من القواعد الطائفية التي يمكن تحريكها بوجه بعضها البعض.

لقد كانت مُجمل الطوائف تعيش فيما يشبه الغيتوهات من حيث انغلاقها على نفسها، ممّا أفقد كلّاً منها الشعور بالأمان، خاصة أن النظام المِلَلي العثماني كان يعزّز هذا الخوف، وممّا أعطى معنًى مضاعفاً لهذا الخوف نظام الامتيازات العثماني الذي أُعطي للدول الغربية، وساعد على خلق التباسات في هويّة هذه الشرائح الوطنيّة. إنّ السياسة الغربية كانت تعزز الخلافات بين الطوائف – فرِّق تَسد – خاصة أنّ سكان بلاد الشام الذين يتجاوز عددهم المليون والنّصف، كان ربعهم من الأقليات غير الإسلامية، كان الوالي العثماني يعمل على تحريك هذه الطائفة ضدّ تلك، وقد ازدادت هذه الحساسيّة بعد حصول الدول الغربية على الامتيازات.

الإنجليز والمشروع الصهيوني في فلسطين

 في الشرق فشلت حملة نابليون، فأخذ الإنجليز يعملون لتحقيق ما بدأ به نابليون، وهم الآباء الحقيقيون للمشروع الصهيوني في فلسطين. فبريطانيا كانت بحاجة لتوظيف الرأسمال الصهيوني المتنامي في مشاريعها السياسيّة والاقتصادية. ولهذا فقد وجدوا فيما يسعَوْن إليه من أنّ الرأسماليين اليهود هم الطبقة الأكثر نشاطاً في المجالات التجارية والمالية الغربية وغير الغربية. لذا عملوا على توظيف الرأسمال اليهودي في استغلال اقتصاديات أسواق الشرق، فالرأسمال اليهودي كان يملك مؤسسات مصرفية كبيرة خاصة في ألمانيا، وبالأخص في البورصة في برلين، إذ نرى أنّ خمسة من أصل تسعة أفراد هم من الرأسماليين اليهود ممّن كانوا يوقعون على جدول الأسعار في البورصة الألمانية. لهذا سعى البعض من المتموّلين الصهاينة لتوظيف الرأسمال اليهودي في المشاريع السياسيّة، ليس فقط في الغرب وإنّما أيضاً في الشرق. لذا عمل الانجليز لتوظيف هذه الإمكانيات في فلسطين، حيث بدأ اليهود المضطهَدون يهاجرون من أوروبا إلى فلسطين.

 إنَّ هذه التوجهات التي بدأ يعمل لتحقيقها الصهاينة، كانت من بنات أفكار الساسة الإنجليز الذين رسموا معالم المشروع الصهيوني، وعملوا على تنفيذه خطوة خطوة. إنّ رئيس الوزراء البريطاني بالمرستون، والذي كانت تربطه صداقة متينة ليس فقط باللورد الصهيوني (أشلي) صاحب النفوذ في جمعية يهود لندن، بل أيضاً بغيره من الرأسماليين اليهود، وهم كُثُر ممّن لهم نفوذ في البلاط الملكي في بريطانيا. وقد عمل هؤلاء وغيرهم على تبنّي المشروع الصهيوني والسير بتنفيذه حتى يتحقّق. لذا كان المخطّط يقتضي بأن تحتلّ إنجلترا سوريا. ضماناً لتحقيق المشروع الصهيوني. وتمهيداً لاستعمار فلسطين وتحقيق إنشاء الكيان الصهيوني. وكانت البدايات بأن قام الإنجليز بدفع الجماعات اليهوديّة المضطهَدة في أوروبا لتعود إلى (بلادها القديمة) كما جاء في التوراه. وكما كان يروّج لذلك الإنجليز، ولتحقيق هذا الهدف، قابل بعض الساسة والمتموّلين من الصهاينة محمّد علي وابنه إبراهيم، وعرضوا عليهما إمكانية استثمار أراضٍ في الجليل قُدِّرَت مساحتها بمائتي قرية، لمدّة خمسين عاماً، على أن يتّخذ الباشا قراراً بإعفاء سكّانها من الضرائب. وطلبوا منهما الموافقة على استقدام خبراء زراعيين لتدريب الفلاحين على الطرق الحديثة في استغلال الأرض. وكانت هذه البداية العمليّة لتحقيق المشروع الصهيوني، التي تكتّلت وراءه المصالح الغربية.

 جاءت موافقة محمّد علي، مقابل تعهُّد من الرأسماليين اليهود بمضاعفة الرأسمال اليهودي في المناطق التي تقع تحت إدارة السلطة المصريّة. لقد تعهد الرأسماليون الصهاينة بإقامة العديد من المشاريع ومنها إنشاء البنوك في المدن المصرية والسورية والفلسطينية، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث. وما حصل من أنّ الرأسمالييّن الصهاينة، كان دورهم ينحصر في المجالات التجاريّة، حيث سيطروا على جزء مُهمّ من اقتصاديّات بلدان المشرق العربي. كان ذلك بمساعدة الإنجليز. لقد كان بالمرستون الراعي الأول للمشروع الصهيوني، هذا المشروع بدأ يدفع اليهود الأوروبيين كذلك القاطنين في المناطق المختلفة من الدولة العثمانية بالهجرة إلى فلسطين. وهذه الدعوة كانت المُقدَّمة الأولى للاستيطان في فلسطين. لقد أصبح اليهود تحت الحماية الإنجليزية، على غرار ما بدأه الفرنسيّون من حماية للرعايا الكاثوليك. وبهذا التوجّه يكون الإنجليز قد قدموا خدمة لدولتهم أوّلاً، وليس لليهود الذين تم دفعهم للهجرة من الدول الأوروبية والاستيطان في فلسطين. لقد تقاطعت مصالح الخلافة العثمانية مع مصالح الإنجليز في خلق حاجز قوي أمام مطامع محمّد علي في السيطرة على البلاد السورية. فالإنجليز، وعلى لسان بالمرستون اعتبروا أنّ الكيان الصهيوني في فلسطين يُعتبر ذا وظيفة حيوية كونه سيستخدم لفصل المشرق العربي عن المغرب العربي وبالتالي عن مصر، إضافة لكونه يُستخدم لإقامة منطقة عازلة، ممّا سيؤمّن للإنجليز طرق التجارة إلى الهند.

 إنّ توسع محمّد علي في بلدان المشرق العربي – كما يشير إلى ذلك جورج أنطونيوس في كتابه يقظة العرب – وامتداده إلى الجزيرة العربية والبحر الأحمر، ومن ثمّ إلى بلاد الشام – قد أكسبه السيطرة على المناطق الواقعة على طريق من أخطر الطرق التجارية في العالم. لذلك كان هدف المشروع الإنجليزي إحداث بلبلة داخل المؤسسات التابعة للحكم المصري في بلاد الشام وبالتالي إفشاله، كما اعتُبر المشروع الانجليزي خطوة تهدف لإضعاف السيطرة والدور الفرنسي في سوريا.

محمّد علي يمد نفوذه إلى بلدان المشرق

يرى المتابع لتاريخ العلاقات المصرية مع بلدان المشرق العربي – فلسطين – سوريا – لبنان – العراق – العلاقات المميّزة والراسخة، خاصة بين لبنان ومصر أي بين محمّد علي وبشير الشهابي، وبين عبد الناصر وفؤاد شهاب. نتابع ذلك ليس فقط من خلال العدد الضخم من أصحاب الكفاءات من اللبنانييّن الذين احتضنتهم مصر، أي بين محمّد علي وبشير الشهابي، وبين عبد الناصر وفؤاد شهاب. ففي عصر محمّد علي 1805 – 1849 لم يقتصر الأمر على تحالف عسكري استمرّ طوال فترة حكم الباشا والأمير بشير الشهابي، بل تجاوز ذلك ليستعين محمّد علي بالكفاءات الزراعية والطبّية والإدارية، كذلك ممّن لهم خبرة في الطباعة، أيضاً في الإدارة خاصة في الشؤون المالية وغير ذلك. وفي هذا الشأن هاجر إلى مصر من اللّبنانيين الآلاف من الكفاءات المهنيّة، والذين برز منهم العديد ممّن ساهموا في تأسيس المسرح والسينما والصحافة في مصر. كذلك كان للبنانييّن دور فعال في النهضة الثقافية والعلمية والزراعية التي عرفتها مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، تلك الفترة التي برزت فيها المخططات الأجنبية الآيلة لاحتلال المنطقة وتقسيمها ما بين الثنائي المُستعمر الإنجليزي والفرنسي، أمّا في العهد الناصري فقد قام لبنان بدور إعلامي وثقافي وتربوي قومي عربي فعال، وُظِّف لخدمة المشروع الناصري..

ثورة الدروز على ابراهيم باشا

 لكن سقطة مشروع محمّد علي إنّما كانت عجز ابنه، وقائد جيوشه ابراهيم باشا، عن فَهم الخصوصيّات المحلّية لمجتمعات المشرق العربي. فهي وبخلاف مصر كانت أكثر تنوُّعاً وتتضمّن تاريخاً من «الحكم الذاتي» الذي كان مُكرَّساً على نحو رسمي من السلطنة العثمانية. وكان اصطدامه بالجماعة الدرزية في لبنان وسوريا على وجه التحديد أحد نتائج عجزه عن فَهم تاريخ المشرق. فالجماعة تلك، وبفعل ما أسدته قديماً من خدمات قتاليّة للدولة الإسلامية عموماً، وبخاصة في معاركها مع الغزوات الفرنجية، حيث أبلى أمراء تلك الجماعة (الدروز) بلاء شديداً في مواجهة الغزوات الصليبية، ومنها محاولتهم إيقاف إحدى الحملات الصليبية شمال بيروت على ضفة نهر عاد وأُسمي «نهر الموت» بسبب من العدد الضخم من الشهداء الذي قدمته الجماعة تلك على ضفة النهر ذاك (ويقال أنّه سقط لهم أكثر من ثلاثين أميراً عدا العدد الكبير من الخيّالة والمشاة). ثم كانت حملتهم الموفّقة انطلاقاً من قاعدتهم في الجبال اللبنانية المطلة على الساحل لتحرير بيروت من الحكم الإفرنجي وكادت تنجح لولا النجدات التي أرسلت لحاكم بيروت الإفرنجي. فكانت معارك بينهما أهمها «عين التينة»، حيث قُتل فيها أميرهم الذي كان على رأس القوة المهاجمة، انكفأوا بعدها إلى قواعدهم في الجبال. وكان عليهم انتظار قدوم صلاح الدين الأيوبي ليحرروا بيروت معه أوّلاً، جنباً إلى جنب، بل أصرّ صلاح الدين أن يصطحب أميرهم إلى جانبه في تحريره لبيت المقدس.

 كان للمجابهات الدرزية التي بدأت في لبنان، ومن ثم امتدّت إلى السويداء في سوريا، دور أساسيّ في إضعاف شوكة إبراهيم باشا. تلك المجابهات التي تحوّلت في سوريا إلى ثورة دفع ثمنها الجيش المصري أعداداً كثيرة من الضحايا والذين قدروا بالآلاف؛ نتيجة لجهل محمّد علي وعدم استيعابه للخصوصيّات السياسية والاجتماعية والطائفية التي تتشكل منها التركيبات الأثنية والطائفية المتنوعة في المشرق، خاصة تلك العلاقة المعقّدة التي بُنيت على أساسها دولة لبنان، وبالأخص علاقة دروز لبنان بمواطنيهم اللبنانييِّن من الموارنة. لقد تسرّع محمّد علي حينما ألغى الامتيازات التاريخيّة التي كان يتمتع بها دروز لبنان، تلك الامتيازات التي دفع الدروز وغيرهم ثمناً غالياً

لتحقيقها عبر قرون منذ مشاركة أسلافهم في الفتح العربي الإسلامي لبلاد الشام، وأدّت إلى عدم شمولهم بنظام السخرة، كذلك عدم إلحاقهم بالتجنيد الإجباري، إضافة لعدم التعرّض لحملة السلاح منهم.

 لقد حافظ الدروز وغيرهم من مكوّنات مجتمعية على هذه الامتيازات من الخلافة العثمانية، بعد أن دفعوا ثمناً غالياً لها. فمعظم الشرائح الاجتماعية متّحدة بالأرض وبالمكان، ودون الأرض لا حياة لهم، ودون المكان هم ضعفاء. فبينهم وبين المكان الذي يعيشون فيه وحدة عضويّة، هم بمعظمهم فلاحون يقدّسون الأرض التي يعتبرونها أمّاً وأباً لهم. المناطق التي يعيشون فيها يمكن القول إنَّها مناطق جبليَّة وعرة. لذا، فهم دوماً وأبداً في مواجهة المجهول. هذا الوضع هو الذي أعطى معنى لثقافتهم حيث يقدّسون الحرية. فضلاً عن ذلك فهم من الطوائف المتمسّكة بتقاليد توارثوها أباً عن جدٍّ، وقد تكون عزلتهم في الأمكنة التي عاشوا فيها، هي التي أعطت معنًى للتمسُّك بسلاحهم، فسلاحهم هو الوجه الآخر لحريتهم، أمّا مفهومهم للكرامة فيرتبط ليس فقط بكونهم (أقلّيات) مُتجذّرة بالأرض، وبالتالي فإنّ حمل الدروز للسلاح يهدف لتأكيد هذه الخصوصية. لذا لم يكن الدروز فقط يرفضون التجنيد الإجباري والسخرة معاً بل أيضاً المسيحيّون وغيرهم من المسلمين، وما بين هذا وذاك فإنَّ الدوافع المُضافة بالنسبة للدروز تمثَّلت بتقاربهم المتأخّر نسبيّاً مع الإنجليز في مواجهة ما كانت عليه علاقة الموارنة بالفرنسيين، وعلاقة السنّة بالخلافة العثمانيّة، وعلى رأس هذه العوامل المضافة بين الدروز والموارنة، العلاقة المتوترة مع جيرانهم من المسيحيين، تلك الناجمة عن مقتل بشير جنبلاط، وهذا ما عبّر عنه بوضوح كمال جنبلاط في مذكراته التي تُرجمت إلى العربية ونشرت مباشرة بعد اغتياله عام 1977.

 ولا عجب فالدروز إضافة لما ذُكر، مثلهم مثل الشيعة كان القسم الأكبر منهم قد نزح من مصر إلى لبنان بعد انهيار دولة الفاطميين في نهاية القرن الحادي عشر. لذا، فقد تكون التحالفات التي قام بها محمّد علي مع بشير الشهابي، عنواناً من العناوين التي ساهمت في خلق المُناخات لنموّ وبروز التوتّرات والصراعات بين الدروز والموارنة والتي تكثّفت وأدت إلى إعدام بشير جنبلاط عام 1825، إلّا أن تلك الصراعات تقلّصت بحيث أدّت إلى تشكيل جبهة لبنانية ليس فقط ضد النفوذ المصري والتي أدت إلى انسحابه من لبنان ومن المواطن العربية الأخرى في سوريا وفلسطين عام 1840، بل أدّت إلى ما يفتخر به الطّرفان، الماروني – الدرزي اليوم ويتباهى به كل منهما، حيث توحّدوا مع مكوّنات مجتمعية أخرى ضد الوجود المصري، وأعلنوا عن ذلك في اجتماع جمعهم في أنطلياس وأطلقوا عليه عامّية أنطلياس، هذه العاميّة التي وُظَّفت مطالب المشاركين فيها وإن بشكل غير مباشر لصالح الخلافة العثمانية، وبشكل غير مباشر فَتَحت تلك الانتفاضة الأبواب واسعة للنفوذ الاستعماري الإنجليزي – الفرنسي
في المنطقة.

رسم لإبراهيم باشا

عودة إلى محمّد علي ومخطّطاته العسكريّة تجاه المشرق العربي

يلاحظ المؤرّخ للفترة الممتدّة من 1805 إلى 1827، من أنّ محمّد علي قد خطا خلالها خطوات مهمة، ليس فقط في إنشاء مؤسسات الدولة المصرية، بل الملفت تحديثه للقوانين وصولاً لتحقيق خطوة مهمّة باتجاه تبنيه للأنظمة والقوانين المعاصرة والنقيضة لنظام الخلافة شبه الإقطاعي، نظام تسود فيه الكثير من ثقافة عصر التنوير، خاصة قيم المواطنة والمساواة. ونلاحظ ونحن نستعرض الأوضاع التاريخية التي مرّت بها المنطقة، المؤثرات السلبية للخلافة العثمانية تجاه كل ما كان يخطّط له محمّد علي ويتّخذه من قرارات. لقد حملت مؤثّرات العصر السياسية والثقافية والاجتماعية، آراء متناقضة ومتباينة بين مشروعين للسياسة المصرية، هما مشروع محمّد علي الذي رسم فيه موقعاً لمصر الممتدة إلى محيطها وعمل من أجل تحقيق ذلك على التكيف مع السياسة الدولية، إذ إنّ جلّ ما كان يطمح إليه الباشا هو تأكيد زعامته لمصر وبسط نفوذه على الولايات العربية الشرقية سوريا – العراق – فلسطين – لبنان، وهذا ما تحقق له، في حين كان مشروع إبراهيم باشا مختلفاً، إذ رأى أنَّ الظروف السياسية والاجتماعية في الولايات المشرقية لا يمكن أن تسري عليها القوانين والتشريعات الضرائبيّة المعمول بها في مصر، أيضاً كان يرى أنّ على مصر أن تعمل لتحقيق حالة انفصال عن الخلافة العثمانية، وهذا ما قام بتنفيذه على الأرض بعد عام 1833، حيث حاصر الأستانة واحتل كل المدن والمناطق المحيطة بها، تمهيداً لاحتلال عاصمة الخلافة، ولكن كانت مراسلات إبراهيم إلى والده، تطالب بإسقاط الخلافة وتشريعاتها وقوانينها الإقطاعية، في حين أنّ محمّد علي كان يرفض ذلك، وهذا ما أدى إلى وصول مصر إلى العزلة التي عرفتها بعد عام 1841. لقد كان إبراهيم مُجبراً على احترام وتنفيذ كلّ القرارات التي تأتيه من والده في مصر، وإن لم يكن مقتنعاً بالكثير منها، كما أنّ محمّد علي كان يريد فرض التشريعات والقوانين العثمانية السارية في مصر على البلدان المشرقية، ومنها السُّخرة والتجنيد الإجباري والضرائب الباهظة على الفلاحين وغيرهم من شرائح المجتمع.

إبراهيم باشا يصطدم بالإرث العثماني – الاستعماري

لقد كانت الولايات العربية المشرقية قبل دخول القوات العسكرية المصرية إليها مقسّمة إلى أربع مقاطعات، وهي حلب ودمشق وعكّا وطرابلس، فالعثمانيون كانوا يعتبرون عكّا هي المدينة الأهم، وذلك لموقعها الجغرافي البحري، ولوجود حاكم موثوق وقوي تابع لهم، في حين كان محمّد علي يرى أنّ السيطرة على عكّا تفتح الطريق له للوصول إلى كلّ المناطق السورية – اللبنانية، وهذا ما كانت ترفضه الخلافة. لقد كانت عكّا وحاكمها حاجزًا بين محمّد علي وطموحاته. لكن تلك المنطقة كانت قد خضعت لحكم الباشا منذ العام، 1833، إضافة إلى نابلس وطرابلس والقدس وجبل لبنان والمدن السورية المتعدّدة، تلك المناطق التي كانت تخضع للخلافة والتي أصبحت فيما بعد تخضع لمحمّد علي، إذ إنه قبل السيطرة المصريّة على فلسطين كانت الخلافة قد أصدرت فرماناً بتنحية عبد الله باشا والي عكّا والأمير بشير الشهابي حاكم جبل لبنان، وذلك لوجود مقاربات وتعاون بينهما وبين حاكم مصر محمّد علي. إنّ هذا القرار هو ما دفع كِليهما إلى اللجوء إلى مصر عام 1822، والطلب من محمّد علي التوسط مع الباب العالي لإعادتهما إلى منصبيهما، وبموجب هذه الوساطة أصدر الباب العالي فرماناً بإعادتهما إلى منصبيهما. وبهذا فقد توطّدت العلاقة بينهما وبين الحكم المصري، خاصة بين حاكم مصر والأمير بشير الشهابي بحيث أصبح الشهابي طوع بنان محمّد علي. لكن الباب العالي الذي لم يَرُقهُ ذلك، كان يعمل في السر على إثارة المشاكل ليس فقط في وجه طموحات محمّد علي الذي كان يرغب في مدّ نفوذه للولايات العربية في المشرق، بل أيضاً في وجه بشير الشهابي. لذا، فقد توحَّدت السياسة العثمانية مع بشير جنبلاط ومع الأرسلانيين – الموحِّدين، أيضًا مع عبد الله
باشا والي عكا الذي تنكّر بعد ذلك لمحمّد علي، وقام بمواجهته حين تقدّم بجيشه للسيطرة على فلسطين وسوريا.

بدأت الخلافة تخطط لإضعاف الأمير بشير الشهابي السنّي المتنصّر على المذهب الماروني بسبب الخيوط التي نسجها مع القوى الغربيّة، ممّا أدّى إلى صراعات سياسية بين الدروز والموارنة. ثمّ ما لبثت أن تحوّلت إلى صراعات عسكرية أدت إلى إعدام بشير جنبلاط على يد عبد الله باشا والي عكا. وبمقتل بشير جنبلاط كان قد أصبح بشير الشهابي الحاكم المُطلق على جبل لبنان، والركيزة الأساسية التي سيعتمد عليها محمّد علي خلال سيطرته على بلدان المشرق العربي. ولم يقف الأمر عند مقتل بشير جنبلاط، بل إنّ هذا الحادث كان قد فتح أبوابًا واسعة لصراعات مفتوحة بين الطوائف المختلفة خاصة بين الدروز والمسيحيين.

أسوار عكّا القديمة – فلسطين

مُسَلّمات محمّد علي

 لقد أدرك محمّد علي أنّ حماية سلطته في مصر، لا يمكن أن تتحقّق إلّا بضم سوريا إلى مصر، فإذا نظرنا إلى المُجريات التاريخية لأمكننا أن نرى أن ضم الفاطمييّن بلاد الشام لدولتهم في مصر، وكذلك الحملة الفرنسية على مصر، إضافة إلى سائر الغزوات كانت تأتي عن طريق العراق وسوريا، كغزو الفرس في عهد قمبيز، وغزو الاسكندر، والفتح الإسلامي في نهاية الثلث الأوّل من القرن السابع الميلادي، وغزو الأيوبيين والأتراك، جميعها كانت تأتي من خلال دمشق. لذلك لا يمكن الاطمئنان إلى بقاء مصر مستقلّة إلا بمد نفوذها إلى الأراضي السورية.

 إنّ حدود مصر لا تبدأ من السويس، بل تبدأ من طوروس، كما كان لمحمد علي دوافع اقتصادية وسياسية أُخرى خاصة حاجته للمواد الأوّلية التي ستكون عوناً للباشا لتطوير مشروعه الاقتصادي، أضف إلى حاجته لتجنيد السكان في الجيش، سواءً إجباريّاً أم بالسّخرة، وذلك لفرض النظام والأمن داخل البلاد المصريّة وغيرها من المناطق التي امتدّ نفوذها إليها. هكذا بدأت أحلام محمّد علي تتحقّق.

 لقد استفاد محمّد علي من اضطراب الأوضاع السياسيّة والأمنيّة في الولايات العربيّة المشرقية – سوريا، فلسطين، لبنان، فاتّصل بحلفائه المُفتَرضين الأمير بشير الشهابي ومصطفى بَربَر آغا الذي أقدم على تحريك الوضع في طرابلس، طارداً الحاكم العثماني، مُعلناً الولاء لمحمد علي.

جزء من بحث طويل

المراجع

  1. أحمد بهاء الدين شعبان: صراع الطبقات في مصر، مقدمات ثورة 25 يناير 2011، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2012.
  2. أحمد صادق سعد: تاريخ العرب الاجتماعي، تحول التكوين المصري من النمط الآسيوي إلى النمط الرأسمالي، دار الحداثة، بيروت 1981.
  3. أدوار جوان، راجع بتصرف مصر في القرن التاسع عشر – سيرة جامعة – تعريب – محمّد مسعود – ط1 – القاهرة 1921.
  4. ألبرت حوراني: تاريخ الشعوب العربية، ت. نبيل صلاح الدين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1997.
  5. أمين هويدي: مع عبد الناصر، دار الوحدة، بيروت 1984.
  6. الانتفاضة الطلابية في مصر، سلسلة وثائق، دار ابن خلدون، يناير 1972.
  7. أنطوان خليل ضومط: الدولة المملوكية، التاريخ السياسي والاقتصادي والعسكري، دار الحداثة 1982.
  8. إيريك رولو جاك فرنسيس هيلد، جان ريمون لاكوتير، إسرائيل والعرب الجولة الثالثة، ت. لجنة، الدار التونسية للنشر 1968، تونس.
  9. بابر يوهانزن، محمّد حسين هيكل: أوروبا والشرق من منظور واحد، من الليبراليين المصريين، ت. د. خليل الشيخ، كلمة، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة، ط1 2010.
  10. بازيلي: سوريا ولبنان وفلسطين تحت الحكم التركي، ت. يسر جابر، مراجعة منذر جابر، دار الحداثة، بيروت 1988.
  11. برنابي روجرسون: ورثة محمّد، ت. د. عبد الرحمن الشيخ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2015، القاهرة.
  12. بولس قرألي: السوريون في مصر، ج1، بيت شباب 1933.
  13. بيير ديستريا: من السويس إلى العقبة، ت. يوسف مزاحم، لا ناشر، صدر 1974.
  14. ثورة 23 يوليو: الأحداث، الأهداف، الإنجازات، صفحات متعددة، الدار القومية للطباعة والنشر، 1964.
  15. جابر عصفور، زمن جميل مضى، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 2010.
  16. جاك بيرك: مصر الأمبريالية والثورة، ت. يونس شاهين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1981.
  17. جمال عبد الناصر: الميثاق، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة 1962.
  18. جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، القاهرة، لا تاريخ.
  19. حسر اللثام عن نكبات الشام، ط 1، مصر، 1895.
  20. حلمي النمنم: سيد قطب وثورة يوليو، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2010.
  21. حلمي النمنم: سيد قطب سيرة التحولات، الكرمة للنشر، القاهرة، 2014.
  22. رافق عبد الكريم: بلاد مصر والشام من الفتح العثماني إلى حملة نابليون، دمشق 1968.
  23. رأي المؤتمر الوطني في الأحلاف، 1955، لا دار نشر، بيروت.
  24. رؤوف عباس: ثورة يوليو، إيجابياتها وسلبياتها بعد نصف قرن، كتاب الهلال، يوليو 2013.
  25. سعد الدين إبراهيم: في سوسيولوجيا الصراع العربي – الإسرائيلي، دار الطليعة، بيروت 1973.
  26. سليمان أبو عز الدين: إبراهيم باشا في سوريا، دار الشروق، القاهرة 2009.
  27. سليمان البستاني: عبرة وذكرى أو الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده، تحقيق ودراسة خالد زيادة، دار الطليعة، بيروت 1978.
  28. عادل حسين: الانهيار بعد عبد الناصر… لماذ؟، دار المشعل العربي 1985.
  29. عبد الرازق عيسى: وثائق أساسية من تاريخ الشام في ظل حكم محمد علي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2012.
  30. عبد الرحمن الرافعي: الزعيم الثائر أحمد عرابي، دار الشعب، القاهرة 1968.
  31. عبد الرحمن عبد الرحيم: محمّد علي وشبه الجزيرة العربية، دار الكتاب الجامعي، القاهرة 1986.
  32. عبد العال الباقوري: بوابة مصر الشرقية مصر وفلسطين عبر التاريخ، الثقافة العربية، القاهرة 1978.
  33. عبد الله إمام: حكايات عن عبد الناصر، دار الوطن العربي، دون تاريخ نشر.
  34. عبد الله امام: الناصرية، دراسة بالوثائق في الفكر الناصري، منشورات الوطن العربي، بيروت، لا تاريخ إصدار.
  35. عدنان السيد حسين: العامل القومي في السياسة المصرية، دار الوحدة، بيروت 1987.
  36. العروبة والقرن الحادي والعشرون: مجموعة، راجع دراسة سمير مرقص، وبرهان غليون ومشير عون وسيد يسين ورضوان السيد ومحمود حداد وحسن منيمنة وعبد الرؤوف سنو وغسان العزي وسعيد بن سعيد العلوي، منشورات تيار المستقبل، بيروت 2009.
  37. عفيف فراج، في السياسة والأدب السياسي، دار الآداب، بيروت، 2008.
  38. علي بركات: تطوير الملكية الزراعية في مصر، 1813 – 1914، القاهرة 1970.
  39. عمر الليثي: اللحظات الأخيرة في حياة جمال عبد الناصر، كتاب اليوم، دار أخبار اليوم، القاهرة 2009.
  40. عمر لطفي بك: الامتيازات الأجنبية، مطبعة الشعب، القاهرة 1322 هـ.
  41. فرحان صالح: الحرب الأهلية اللبنانية وأزمة الثورة العربية، دار الكاتب، بيروت 1979.
  42. فرحان صالح: حول تجربة الإخوان المسلمين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2015.
  43. قاسم سمحات: محمّد علي باشا والمشروع الفرنسي في بلاد الشام، دار المواسم، بيروت 2016.
  44. قيس جواد العزاوي: الدولة العثمانية، قراءة جديدة لعوامل الانحطاط، دار آفاق، القاهرة 2014.
  45. كامل إسماعيل الشريف: الإخوان المسلمون في حرب فلسطين، دون تاريخ، دون دار نشر.
  46. كلمة صريحة، ج10، صدر عن إدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة، القاهرة 1956.
  47. لقد سعى عبد الناصر، كما يذكر سمير مرقص، إلى العمل من أجل تحقيق المواطنة في بعدها الاجتماعي، تلك التي كانت على حساب السياسي والحداثي. لقد حققت ثورة يوليو في المجال الاجتماعي الإصلاح الزراعي وحققت التأميم، كما أنجزت المسألة الوطنية، محررة مصر من النفوذ الإنكليزي، لقد أتاحت الثورة الفرصة المتساوية أمام الجميع في التعليم، مما مكن الشعب المصري من الترقي. إن ما قامت به ثورة يوليو – عبد الناصر – كان من نتيجته تغيير جذري في البنية الاقتصادية الاجتماعية في مصر.
  48. مارلين نصر: الشعور القومي العربي في فكر جمال عبد الناصر، 1945 – 1970، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، بيروت 1990.
  49. مجلة الهلال: إبراهيم باشا، جزء خاص، دراسة محمّد عودة، رؤوف عباس، عاصم الدسوقي، يونان نجيب رزق، ديسمبر 2004.
  50. محمّد حسن: مصر في المشروع الإسرائيلي للسلام، دار الكلمة للنشر، بيروت 1980.

الشَّيْخ علي فارس العابِد المُشتاق

يَركا

وُلِد سيدنا الشيخ علي فارس لأبوين فقيريْن في قرية يركا» في النصف الآخَر من العقد الثاني من القرن الثاني عشر للهجرة (بدايات القرن الثامن عشر للميلاد(١). ويركا قرية قديمة «من أعمال ساحل عكَّا»، تميَّزت في أوائل القرن الخامس للهجرة بوجود «كبير شيوخ الساحل من آل أبي تراب» فيها، الموصوف بـ «الخيِّر والأمين والسِّراج»(٢)، لكنَّها باتت في حقبة حُكم العثمانيّين، كما كانت «جميع البلاد»، واقعة تحت وطأة «ظلم شديد من الولاة والحكَّام» الذين كانوا لا يقفون عند استيفاء مال الميري وعوائده، بل تتعدَّى سطوتهُم إلى نهب الفلَّاحين… وحبسهم ومطالبتهم بما هو فوق طاقتهم(٣).

انخرطَ والدُ الشيخ علي في جموع المقاتلة (العسكر غير النظامي وفق أحوال العصر)، فنُقِـل أنَّه «كان جنديّاً في قلعة جدين عند أحد ضبَّاط الظاهر عمر»(٤)، وهو الأمر الذي لا يتطابق مع التسلسل التاريخيّ إذ يردُ في «تاريخ ظاهر العمر» أنَّ المذكور استولى على القلعة المذكورة سنة 1738 م. وهي كانت قبل ذلك في ولاية «أحمد الحسين (وهو) من بيت قديم شريف كان أهله ولاة قلعة جدين الحصينة أباً عن جدّ»(٥). هكذا، تكون سنوات الطفولة واليفاع من حياة الشيخ علي قد انقضت في زمن سطوة أحمد الحسين الذي كان يحكم جميع البلاد الجبليَّة التي حول القلعة، ومثله من الولاة المحليّين الجائرين بحيث كان الناسُ في زمانهم «في ضيقٍ لا يُطاق»، فضلًا عن عبث «العربان» الذين كانوا «يعيثون فساداً في البلاد لعدم إمكان والِيها دفعهم ومنعهم»(٦). بذلك يكون والده قد التحق بجُند الظاهر عمر حين كسر هذا شوكة الحسين واستولى على القلعة، وكان ولدُهُ الشيخ علي، وفقا للسياق، يقارب سنّ الثلاثين.

عرَف الشيخُ عليّ في طفولتِه الفَــقـر، وكان عَجِيّاً (أيْ فاقد الأمّ) قبل أن يتجاوز السَّنة من عمره. ترعرعَ وله أخت تكبره وتحنُو عليه بخلاف زوجة أبيه التي اتَّخذها بعد إرْمَاله. ولا بدَّ من أن يكون الصبيُّ استشعر الوحدة بعد زواج أخته وهو في العاشرة، فضلًا عن ظُلم الخالةِ التي «عاملتْه بكلِّ قسوة وشدَّة»(٧). لكنَّه، قبل ذلك، انجذب بما في أصالة طباعِه الخيِّرة في مكنون فِطرتها، إلى ما هو أبعد منالًا من ظواهر الدُّنيا، فتردَّد إلى مجلس الذِّكر «في سنٍّ لا يُعهد أحدٌ غيره سبقه إلى ذلك»(٨). ولا بُدَّ من أنَّ عليّاً في طفولته المُبكِرة وما بعدها بقليل قد ألِفَ الأجواءَ الرُّوحيَّة في يركا، وسمع من مشايخها، واستشعر لطائفَ المسلك الدينيّ بتهيُّبٍ ولَهْـفـة. وكان له خالٌ من أفاضل المشايخ هو الشّيخ أبو ماضي حسن الذي «امتاز بديانتِه وشوقه»(٩)، ولهُ قصائد منها ما نظمه اشتياقاً إلى «علَميْن زاهريْن» من شيوخ عصره(١٠)، يُستدلُّ منها على عِلمه ومحبَّته لإخوانه. وقد تُوفِّي الشيخ في يركا في العام 1120 هـ. ولا شكَّ بأنَّ ابنَ أخته شبَّ وفي مسامِعِه الكثير من أخباره ومآثره فضلًا عن المعاني الروحيَّة الكامنة في أشعاره.

يروي الشيخ طريف في السيرة أنَّ عليّاً في صغره عندما سمع عن أحوال الآخرة في الخلوة، التهب الشوقُ في قلبِه، وظهرت ملامحُ ذلك على وجهه، فقرَّر مع نفسِه أن يقصدَ عائلة طريف في قرية جولس(١١). وفي هذه الإشارة دلالة على أنَّه سمعها للمرَّة الأولى في بلدته يركا، حيث أنَّه من العادات الراسخة في التقليد أن تُتـلى مجريات يوم الحساب مساء يوم وَقـفة عيد الأضحى من كلِّ عام وفقاً لروايات السَّلف الصَّالِح، ومنها ما كتبهُ الشيخ أبو صالح سلمان طريف من جولس (المتوفّى عام 1110 هـ.)، المشهور «بدقَّة ورعه وسلكِه، والذي فاق على أقرانه بعِلمه ومعرفتِه» وضبطه الخطّ، وكان لفترةٍ «على أخوَّةٍ» مع خال الشيخ عليّ من يركا(١٢).

أحد المزارات في قرية يَركا.

كان لهذا «السَّماع» أثرٌ جذريّ في رُوح ولدٍ لا يزالُ في رَيَعان عُمره. ولا شكَّ في أنَّ جُلَّ المعاني التي تضمَّنها ذكر أحوال الآخرة قد امتَثـلها عليٌّ بمُخيَّلته ووجدانه وقلبه بقوَّةٍ ألهبت جمرةَ الشَّوق في كيانِه، فالتزم الصِّدق لها بما اكتنزهُ من طباع البراءةِ والخيْـر. وما لبثت أن اتَّــقــدَت جُذوةُ التَّعبير بفطرته، فحاكى تلك المعاني ونَظَمها شِعراً بلُغةٍ عفويَّةٍ بسيطةٍ تكادُ في بعض أبياتِها أن تكونَ عامّيَّة، لكنَّها في كلِّ حال تتوالى تباعاً كدفقاتٍ من اختلاجاتِ نفسٍ تائقةٍ إلى صفاءِ الحال ونقاءِ البال في مِرآةِ ما رأتهُ البصيرةُ، وما أدركهُ الفكرُ الغضُّ من أبعادٍ ناءت «بحَملها الجبال».

وكان من لطائف الإرادةِ أن خُلِّدت تلك الحالة بقصيدةٍ من مائةٍ وتسعة عشر بيتـاً، وازتْ ما كتبهُ الشيخ أبو صالح الكاتب نثراً قبل ما يزيد على المائة عام. وقد استُهِلَّت الأبيات جميعها بعبارةِ «أَلا يا نفس»، مخاطباً إيَّاها، مؤنِّباً ومنبِّهاً لها، ومحذِّراً ومستحضِراً مواجب الأمر والنَّهْي وفقاً لِما اتَّبعهُ من حكمةِ السَّلف الطائع، وما سمعهُ من مواعظ مُدرجة في الصحائف القديمة.

تُسمَّى تلك القصيدة التي لا شكَّ أنَّها من بواكيره بـ «النَّـفسيَّة»، وتُجسِّدُ حالة من فرائد الأحوال قياساً إلى سِنِّه. ومثل هذه الأمور الجليلة لا تحدث بين ليلةٍ وضحاها، لذلك يجدر التوقُّف في محاولةٍ لتصوُّر الصيغة الأقرب إلى وقائع الأمور، استناداً إلى قاعدة الانسجام بين المأثورات المنقولة في «السِّيرة»، فيما خصَّ تحديد زمنِ اللقاء مع عائلة «طريف» في جولس، القرية المجاورة لِيــرْكا، في تلك الأرض المباركَة بالعُـبـَّاد في منطقة الجليل شمال فلسطين.

إنَّ سلوكَه وسمْتهُ وحـركاته وسكَناته كانت جُـلُّها انعكاساً ظاهراً لباطنِه المأخوذ بالمعاني الحيَّة من حيث أنَّ القصدَ الأسمى منها (القصيدة) كلّها هو «تهذيب الأخلاق واستشعار الخلَّاق» وهي القاعدة المحوريَّة المنقولة عن كبار العارفِين.

جـولس

تُصنَّف النّصوص الدينيَّة المتعلِّقة بتصوُّر أحداث يوم القيامة في باب «الملاحم»، وهي عموماً جامعة لمحمولاتٍ من المعاني والتصوُّرات المُزلزلة لمفهوم الاستقرار الدنيويّ والخلود فيه إلى الأعراض السائلة في اللحظة الزمنيَّة الآنيَّة. ولا شكَّ بأنَّ الانطباعات التي تتكوَّن في ذِهن المرء من جرَّاء تلقّيه لتلك «المجـريات» تختلف باختلاف خُـلوّ القلب من «علائق الدنيا» كما يعبِّر المتصوِّفة.

كان عليٌّ(١٣) دون العاشرةِ حين ألقِيت على سمعِه «ملحمة» من هذا النوع في أجواء ليلةٍ لا نظير لها من كلِّ عام. ولا بدَّ من أنَّ المؤثّرات التي انغرست في ذاكـرته وقلبِه وخواطره قد وجدت لها أرضاً طيِّبة فسيحة في روحٍ بـريئةٍ صادقةٍ مهيَّأةٍ بجِبلَّتها للتصديق الخالص الذي هو عيْن الإيمان. بات الولدُ، حين يتَّبع شيوخ قريتِه في زياراتهم إلى قرية جُولس المجاورة ليركا، ومجاورته لهم في مجالس الذِّكر وغيرها، متنبِّهاً للأحاديث خصوصاً في تطرُّقها إلى مأثورات الشيخ أبي صالح سلمان طريف الكاتب وما يحفظُه الخلَف من عائلته عنه. وتقرَّب بذلك إليهم حيث يردُ في «السيرة» أنه «دخل بيتهُم لأوَّل مرَّة وهو لا يزالُ في العاشرة من عُمره»(١٤). والأرجح أنَّ هذا «الدخول» المُشار إليه جرى بتبعيَّة شيوخ يركا في إطار تقاليد الزيارات المتبادَلة، وانتقال الوفود من قرية إلى قرية بنيَّة إقامة سهرات الذِّكر الحميد، وإحياء الليل بالطاعة، فضلًا عن آداب القِرى من أجل «المجابرة»(١٥) طبقاً لأصُول الضيافة تكريماً وتبرُّكاً وتمتيناً لأواصر الصِّلة الرُّوحيَّة، وما يتوخّاه المرءُ بذلك من حسن ثواب.

مزار الشيخ علي فارس (جولس).

إنَّ نصَّ قصيدة «النفسيَّة» المحفوظ يُقدِّمُ لنا ثَــبَـتـاً بالأفكار والمشاعـر والتأمُّلات والاختلاجات التي جالت في صدر ناظمِها المتورِّع، في تلك السنوات القليلة التي سبقت سنَّ البلوغ. وهو استهلَّها بعذْل النّـفس (لوْمها) ورؤيتها في محلِّ الغفلة والمعصية ونسيان العهود والوقوع في الزلَّات من أثر الهوى(١٦). ثمَّ التنبُّه لمعنى الغرَض الدنيويّ وزواله، وأنَّ الآخرة آتية لا ريب فيها حيث الوقوف أمام الحقّ بما في الزاد من الأعمال(١٧). وامتثال هذا الأمر يدفع المرء المصدِّق به إلى بذل الهمَّة والجدّ والاجتهاد وحبّ الرسل العظام سعياً إلى رضاهم الموصل إلى رضى ربِّ العالمين ورحمته، فإن تعثرت النفس في ذلك السَّعي بات البكاءُ دواءها، واستشعار حلول الساعة وظهور العدل بكلِّ ما يعنيه ذلك من أحداثٍ «ملحميَّة» تؤولُ إلى دحض الباطل وقيامة الحقّ(١٨).

ولا شكَّ أنَّهُ بالحال نظَمَ «النفسيَّة» لا بمجرَّد القال. وسواء اشتهرت القصيدة آنذاك أم بقيت في عُهدته، فإنَّ سلوكَه وسمْتهُ وحـركاته وسكَناته كانت جُـلُّها انعكاساً ظاهراً لباطنِه المأخوذ بالمعاني الحيَّة من حيث أنَّ القصدَ الأسمى منها كلّها هو «تهذيب الأخلاق واستشعار الخلَّاق» وهي القاعدة المحوريَّة المنقولة عن كبار العارفِين. ولقد بات من الطبيعيّ أن تتعزَّزَ الثقة الروحيَّة وأن تـتوطَّد العلاقات ومشاعر الألفة مع أصحاب البصيرة، وهو الأمرُ الذي يتبدَّى في ما ذكره جامع مأثورات «السيرة» حين أورد في مستهلّها بأنَّ «زيارته الأولى لعائلة طريف حدثت وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عُمره»(١٩). لقد بات موضع ثـقة آلـ طريف، ولقِيَ منهُم «حفاوة وبشاشة وجه وكرَم…فتكثَّفت زياراته لهُم…»(٢٠)، ويتَّضحُ من صِيغة العبارة أنَّه المُبادِر إلى القيام بها لِما استشعرهُ منهُم من ودّ واستئناس.

المَغارة

كابدَ عليّ منذ أوائل العمر مصاعب الحياة الدّنيا، وقاسَى «مرارةَ العيْش» اليوميّ إذ «أذاقتْهُ (زوجة أبيه) في طفولتِه الغضَّة ألواناً من العذاب والحرمان.»(٢١) ولم يُعرَف عنهُ إلَّا أنَّه واجهَ كلّ ذلك بالتـقـوى والصَّبْر والرِّضَى، منصرفاً إلى تعلُّم القراءة والكتابة بدافع الشَّوق إلى المعرفة والإدراك السليم للطائف المعاني الدينيَّة وفقاً لتدرُّجه في هذا المحراب الشريف. وعُرف عنهُ جِدّه واجتهاده في الدَّرس والاطّلاع على «مواعظ الخير وقصص الأنبياء» فضلًا عن إنصاته وإمعانِه فـيما يسمعُه في رياضِ الذِّكْر الزاهرة. وقصَّته السَّالفة في سهرة الأضحى وما سمعه فيها وما نظَمه بعد ذلك، فيه دلالات قويَّة واضحة على مدى «الميدان الفسيح» الذي جالت فيه خواطرُه، وما «أشرقت عليه مطالع الرُّوح»(٢٢)، وما اشتغل به كيانُه اللطيف، مُسلِّماً بالكامل لحِكمة الحكيم، ربِّ الأكوان، الرَّحمن الرَّحيم، وكأنَّه يردِّدُ في سرِّه ﴿فَاصْبِر إنَّ العاقِبَة لِلمُتَّـقِـين﴾(٢٣).

صورة مغارة الشيخ علي فارس.

ولا شكَّ أنَّه، عند مشارفتِه سنّ البلوغ وما تلاه، اشتدَّ وعيُه وإدراكُه للصّعوبات التي من شأنها أن تعكِّر صفْوَ سعيِه في التدرُّج الرُّوحيّ المُلازم لصِدق الطَّويَّة (السَّريرة) والتحقُّق السلوكيّ للطائف المعرفة، والارتقاء الدائم في منازل الارتِياض. وتبدَّت لهُ الفجْوةُ التي تولِّدُها تلك «العوائق» لتُباعِدَ المسافات بين الواقع والمِثال. وإذ بالحلقة تضيق حين تيـقُّنه من أنَّ «المَكارِه» في دار أبيه هي اختبارٌ جزئيّ لإيمانِه قياساً إلى عمومِ الفساد والظُّلم في سائر نواحي البلاد من حواليْه، حيث كان لكلِّ مقاطعةٍ منها «شيخ (عشِيرة) من البيُوتِ القديمة ذات الصَّولة»(٢٤) لهُم السَّطوة والنفوذ. وفضلًا عن رجالهم وما يـرتكبونه من مظالم، كان ثمَّة «عسكر الولاية… وهُم أخلاط… دأبُهم الثقلة على الأهالي والتعدِّي عليْهم… وكان يُضرَب المثَــل بسفاهتهِم… يُقال فلان نظير عسكر الدولة مِلْحُه على ذيْله أي لا ذمَّة له ولا عهْد…»(٢٥).

كان للوضع العام أثرٌ مباشَر في الحياة اليوميَّة لفتًى وَرِع ما زال بحُكم الواقع في رعاية أبٍ خادمٍ بسلاحِه لذوي الإمْرة. ويترتَّب من جرَّاء ذلك العـديد من الأمُور المتعلِّقة بالإعالة وبشؤون العيْش تحت سقفٍ واحد. وقد اشتدَّت إلى حدٍّ مُقلِق، هواجسُ الشابّ الصَّاعـد لِما تعلَّمهُ وآمن به، وعلى وجه الخصُوص القاعدةِ الضروريَّة المتعلِّقة بأمر اجتناب الحرام قطعاً، والابتعاد عن الشبهات والمال المغصُوب الذي يحصِّلُه المتسلِّطُون قهْراً وعَنْوة. وما زاد من وحشة الدار قبل ذلك بأعوام، مغادرة شقيقته له بعد زواجها وخلاء أجوائه لخالةٍ مُتعسِّفة (زوجة أبيه).

وتاقتْ روحُه إلى صفاء التحقُّق. وأيقن بأنَّه من المُحال النفاذ إلى مدارج هذا الدَّرب الحميد وسط العقبات الكؤودة المُـزمنة المُعشِّشة وسط الدَّار. إنَّ ما يُحرِّكُ في دخيلةِ ذاته ما يُعتِقُه من كلِّ عَلاقةٍ مانعة هو الصِّدقُ والإخلاص والشُّعور العميق بأنَّ المعاني التي أوْطَن نفسَه عليها، ونظَمها بوْحاً بما اختلجَ في صَدْره، وخاطبَ بها نفسَه، هي أمانة لا بدَّ من الاتِّحادِ في محمولاتِها، باطناً وظاهراً، كما كان في القوْل يكونُ في السلُوكِ والفِعل، وكما كان في العاطفةِ والانفعال يكونُ في العقْل والتَّدبير، وكما كان في الانجذابِ الرّاهـب والخوْفِ التقيّ يكونُ في السَّكينة والثَّبات ووليمة المعرفة الحقّة.

هكذا، وجد نفسَهُ حرّاً بالحقّ، فضاق به سجنُ المكان، ورأى في خَلاء الأرض ما يأويه وهوَ المتآلِف معها في غَدواتِه ورَوْحاته بين يــركا وجولس حتَّى عُرف أنَّ صخرةً كبيرةً بجانب الطريق بينهما كان «يجلسُ بجانبِها ويتفيّأُ بظلِّها»(٢٦) قبل متابعةِ السَّيْر. وثمَّة، إلى الشرق من القـريتيْن، مغارة في «وادي السماك» واقعة بين الصّخور الجبليَّة وسط منحدرٍ عَموديّ حاد، تعلو فوق السَّفح بما يقاربُ ثلاثة عشر مترا،ً ويحتاج الصّعود إليها إلى شيءٍ من الجهد والحذَر، فكانت مأواه الذي صبَتْ نفسُه إليه.

أمضى الزَّاهدُ في «خلْوتِه» المنعزلة أيّاماً لا يعرفُ أسرارها إلَّا ﴿السَّمِيع البَصِيـر﴾. فالغارُ «منقطعٌ عن النَّاس لا يهتدي إليه سوى القاصد والخبير بالمكان»(٢٧). والانقطاعُ عن العلائق سبيلٌ يتوخَّاهُ التقيُّ سعياً إلى الاستقرار في الأُنس وحال الصِّلة بما في طاقة النَّفس من استعداد. لقد عبَّرت قصيدة «النفسيَّة» عن نفسٍ «لوَّامة»، وهي الآن «تكدحُ» لتصير ﴿النّفس المُطمَئنَّة﴾(٢٨). فضلًا عن ذلك، فإنَّ الاستغراق الهادئ في عقْـل المعاني ولطائف دلالاتها الرُّوحيَّة يُصَيِّرُ «العقلَ بالقوَّةِ» عقلًا بالفِعل حيث تصيرُ المعقولات صُوَراً للنّفس على أنَّ النَّفسَ صارت هي بعيْنها تلك الصوَر، وهي الحالة المعبَّر عنها بـ «الرّياضة» إذ تتَّحدُ النّـفسُ بأثر العـقل المتيقِّظ بحقائق الوجود العميقة(٢٩).

صورة المغارة من الداخل.


المراجع:
  1. «سيرة حياة سيدنا الشيخ علي فارس»، عبد الله سليم طريف، جولس 1987. ويقوم هذا الكتاب مقام المصدر لأن مؤلفه استقى معلوماته من الشيوخ الثقات، وعلى الأخصّ من آل طريف في جولس القرية التي عاش فيها الشيخ علي فارس مقرَّبا منهم، كما من بعض الوثائق المحفوظة لديهم. وهو الكتاب الذي أشار إليه د. سامي مكارم بقوله: «معلومات أساسية مروية عن المشايخ الثقات نقلا عن السلف حول حياة هذا الشاعر العارف» وذلك في مستهل كتابه «الشيخ علي فارس»، المجلس الدرزي للبحوث والإنماء والمركز الوطني للمعلومات والدراسات، المختارة، 1990، ص 7. وترجَّح سنة الولادة في أحد الأعوام من 1115 إلى 1119 هـ (1703 إلى 1707 م.)
  2. من مأثور منقول عن الشيوخ، وهو الشيخ أبو السرايا (ذكره الشيخ الأشرفاني).
  3. «تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني حاكم عكا وبلاد صفد»، مخائيل نقولا الصبَّاغ العكّاوي، شركة نوابغ الفكر، القاهرة، ط1، 2010، ص 24.
  4. هكذا ورد في كتاب طريف، ص 127، ويبدو انَّ د. مكارم نقل عنه التوصيف ذاته، ص 16. وموقع قلعة جدين غير بعيد عن «يركا» باتجاه الشمال.
  5. «تاريخ الشيخ ظاهر…»، الصبَّاغ، ص 33… وكان نفوذ الزيادنة (عشيرة الظاهر) محدودا آنذاك قبل أن يقوى ويشتد لاحقا.
  6. المصدر ذاته، ص 25، وص 33.
  7. سيرة حياة…، ص 126. أيضاً: «مناقب الأعيان»، الشيخ أبو صالح فرحان العريضي، منشورات الإشراق، عاليه، سنة 2000، الجزء الثاني، ص 159.
  8. المصدر ذاته، ص 130، وقد وردت العبارة فيه كذا: «في سنّ لا يعهد أحدا ان غيره سبقه على ذلك.».
  9. مناقب الأعيان، ج2، ص 86، ذكره الشيخ العريضي استناداً إلى مخطوط «نبذة عن مشايخ البلدان للشيخ أبي زين الدّين حسن العقيلي».
  10. المصدر ذاته، ص 86 – 88. وكلاهما من آل طريف، وهما الشيخ أبو صالح سلمان، والشيخ أبو محمّد خيْر.
  11. تمَّ الاعتماد هنا على المأثورات الواردة في كتاب (طربف، «سيرة حياة…»، جولس 1987) وذلك من أجل ضبط السياق الواقعيّ لسيرة الشيخ، ولاجتناب اختلاط المأثورات في تواترها الزمنيّ. والسبب في ذلك أنَّ هذا المصدر استند بدوره إلى جمْع تلك المأثورات (كما سبق ذكره في الهامش 1) من البيئة التي عاش فيها الشيخ علي، ومن وسط العائلة التي رَعتـهُ في كنفها، ومعظم المنقول منها شفهيّ متواتر، والقليل منها، فضلًا عن مجموع القصائد، مدوَّن مخطوط.
  12. مناقب الأعيان، ج2، ص 82. وللشيخ أبي ماضي حسن قصيدة اشتياق وتحسُّر بعد انتقال الشيخ أبي صالح مع أخٍ له إلى البيَّاضة، جنوب لبنان.
  13. يُسمَّى الشيخ هنا باسمه المجرَّد قياساً إلى سنّه المبكرة.
  14. سيرة حياة…، ص 141.
  15. الجَبْرُ خلاف الكسر. هو أن تغني الرجل من الفقر أو تجبر عظمَه من الكسر. وقال ابن سيده: وجبَر الرجلَ أحسن إليه. والعرب تسمّي الخبزَ جابراً. (لسان العرب). وفي كل حال، فإن استخدام مصطلح «المجابرة» بين الأجاويد عائد إلى أنّ تناول القِرى (الطعام وما يُقدَّم) عند المضيف هو بمثابة «جبْر» خاطر، والتمنُّع عن ذلك يكون «كسراً في خاطره». والله تعالى جابر كلّ كسير وفقير.
  16. ومنه قوله فيها: ألا يا نفس كم هذا الظلاما- وكم أنت تخوضي في الجراما/ ألا يا نفس كم هذا التمادي – على العصيان ثم الاقتحاما/ ألا يا نفس كم لله تعصي – وكم خنتِ عهودا مع ذماما.
  17. ومنه قوله فيها: ألا يا نفس ذا الدنيا دنيَّة – فلا يأخذنكِّ فيها غراما…/ألا يا نفس ما تخشين يوماً – يشيبُ الطفلُ فيه والغلاما/ ألا يا نفس يوم ليس ينفع- لموقعه سوى حُسن النظاما.
  18. ومنه قوله فيها: ألا يا نفس جدّي واستعدّي- وشدّي الحزم مع شدّ الحزاما/ ألا يا نفس اسعي في رضاه- عسى يشفع لك يوم الزحاما.
  19. «سيرة حياة …»، ص 125.
  20. «سيرة حياة …»، ص 141.
  21. «سيرة حياة …»، ص 130. أيضاً «شيوخنا الأعلام»، جميل أبو ترابي، السويداء، 1992، ص 235. وورد في «مناقب الأعلام»: أنها “لم تُحسن معاملتهما» (هو وأخته)، وأنَّه «عاش حياة مريرة لكنه صبَر صبْر الكرام». ص 159، وص 160. وفي «الشيخ علي فارس»، د. مكارم، ص 16 تُذكَر قسوة المعاملة.
  22. «الشيخ علي…»، ص 17.
  23. سورة هود، الآية 49.
  24. «تاريخ الشيخ ظاهر…»، الصبَّاغ، ص 11.
  25. «تاريخ الشيخ ظاهر…»، الصبَّاغ، ص 13. وهذا قبل عهد ظاهر العمر الزيداني كما تقدَّم.
  26. «سيرة حياة …»، ص 139. وجاء فيه أيضا: «تلك الصخرة التي بقيت مكانها لأكثر من قرنيْن من الزمن، ولم يحدث مرَّة أن مرَّ هناك رجل أو امرأة… إلَّا وقبَّـل تلك الصخرة إكراماً وإجلالًا ومحبَّة للمرحوم سيدنا الشيخ علي فارس.»
  27. «سيرة حياة …»، ص 126.
  28. عن النفس اللوامة، راجع الآية 2 من سورة القيامة. وعن «المطمئنة»، الآية 27 من سورة الفجر. والكدح كما قال تعالى في سورة الانشقاق، الآية 6: ﴿يَا أيُّها الإنسَانُ إنَّك كادِحٌ إلى ربِّكَ كدحاً فمُلاقِيه﴾.
  29. التمييز بين حالات العقل ورد في «كتاب النفس» لأرسطو.

ملاحظة: «لله ما كان للمعبود أشوقهم» شطر من قصيدة للشيخ علي فارس.

العدد 27