الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, تشرين الثاني 21, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

أخلاقيات أصحاب المهن القانونية، شروط وأحكام

«أخلاقيات أصحاب المهن القانونية، شروط وأحكام»، دراسة قانونية، تأليف القاضي الدكتور غسان رباح: عضو المجلس القضاء الأعلى، والمجلس العدلي، سابقاً، أستاذ قسم الدراسات العليا في كليات الحقوق، ومعهد الدروس القضائية، بيروت، منشورات الحلبي الحقوقية، في 336 صفحة، من القطع الكبير، أهداها لذكرى سماحة الإمام هاني فحص، رمز الأخلاق، والمبادئ الوطنية السامية. بعد مقدمة، هناك ثمانية فصول مع أربعة ملاحق. تتحدث الفصول جميعاً عن سلوكيات واخلاقيات أصحاب المهن القانونية التي تبدأ حكماً بأخلاق القضاة، ثم المحامين، والمساعدين القضائيين، وكتّاب العدل، والأطباء الشرعيين، والمختارين، والوسطاء الماليين، والسماسرة، والوسطاء العقاريين، من حيث ما لهؤلاء، منفردين ومجتمعين، من سلطات قانونية أو شرعية، تكبر أو تصغر بحجم الأدوار التي يقومون بها في أقرار مبدأ العدالة، التي تقوم عليها الدول والسلطات المدنية، وفي جوانب أخرى التطور والإنماء المطردين في حياة الشعوب الحية، الآخذة بركاب الحضارات، والملتسمة لها في القرن الحادي والعشرين. وما يلفت بشدة في هذه الدراسة المستفيضة، تناول المؤلف موضوعي القانون والأخلاق بتوسع موضوعي، وبتمكن العارف، العالم بزواياهما المرجعية، وذلك بعرضه العديد من الأحداث والتجارب والتي عرضها بصفته القضائية، فكان شاهداً عليها، مفصلاً فيها، في الأحكام والسلوكيات بين ما كان تجاوزاً للقوانين المرعية الإجراء، أو تجاوزهما كليهما معاً. وهذا ما يحصل في هذه الأيام ، ما يعني أن لبنان اليوم في أزمة شديدة متفاقمة تنذر بأوخم العواقب، لا شيء إلا لأن المسألة وصلت إلى قدس الأقداس، إلى مناعة بعض القضاة، وإلى أخلاقهم التي لا مقول بعدها لحقوق أو لرجاء في قيام دولة مؤسسات تجمع اللبنانيين على هدف واحد، أو مساواة واحدة متى فقد القضاء والقضاة. إن الدخول في تفاصيل هذا الكتاب بتطلب إمعاناً في الشرح، كم حيث هو عمل أكاديمي نتركه لذوي الاختصاص من القضاة والمحامين، على ما في ذلك من تقارب شديد أو ربما التزام بين تنفيذ القوانين بحذافيرها والتمسك بالأخلاق بحذافيرها عند أصحاب المهن القانونية، ولكن لا بد من قول ما في أهمية كالب الدكتور رباح. لقد جاء في أوان الحاجة إليه ففتح أهلّة في زمن انعدمت فيه الأخلاق على معظم الصُعد. رحم الله من قال:

صـــلاحُ أمـــــرك للأخـــلاق مرجـعــــه        فقوّم النفـــــــس بالأخــــــلاق تسـتـقـــم

فهل نستفيق أم نبقى نياماً؟ ألأيس في لبنان رجال مصلحون قبل فوات الأوان.

مقالات تاريخية ملتزمة

كتاب للمؤرخ، والمربي نديم نايف حمزة، منشورات دار مكتبة التراث الأدبي. يقع في مئتين وتسعين صفحة، هو الثاني بعد مُؤَلَّفِهِ: التنوخيون، ودورهم في جبل لبنان، الصادر عام 1984، عن دار النهار للنشر. الأستاذ نديم حمزة، حائز إجازة في التاريخ من جامعة بيروت العربية، وماجستير في التاريخ من الجامعة اللبنانية عام 1982، بدرجة جيد جداً مع تنويه، مؤسس جمعية إحياء تراث عبيه، ورئيس اللجنة التحضيرية لمؤتمر عبيه التاريخي الأول عام 1999. نشرت الجامعة وقائع المؤتمر في كتاب: عبيه في التاريخ عام 2000. شارك في كتاب ولادة الجامعة الأميركية عام 2002. في مقالاته التاريخية يرى أن كتابة التاريخ متعة فائقة. ومصدرٌ جليٌّ للمعرفة، وسبر أغوار الدهور من أجل مستقبل زاهر، وحياة فُضلى. وهذا ما فعله نديم حمزة على مدى عقود، فإذا ما تصفحنا، مجلة «أبناء الجبل، وغيرها من الصحف والمجلات التي ضَمَّنها دراساتٍ وأبحاثاً استحضر فيها التاريخ العظيم للأسرة التنوخية، التي على عاتقها، كما يقول، ولد لبنان الجميل، لبنان الماء، والخضرة، والشكل الحسن، الذي نعرفه، ونتغنى به، لبنان صيغة التعايش والتسامح، والتعاضد بين الأديان. يقول المؤلف المدقق في ما لا يعرفه الكثيرون أن لبنان في العصر التنوخي كان جنةً على الأرض، وذلك بجهد الموحدين واستبسالهم في الدفاع عن هذا البلد الجنَّة، وفي هذا الكتاب، إلماعات عديدة تجدر الإشارة إليها من باب التذكر والتذكير؛ فحين كانت أوروبا ترسف بأغلال الجهل والتخلف في العصور الوسطى، كان السيد الأمير جمال الدين التنوخي، يعنى بتعليم الذكور والإناث على حد سواء، في زمن كان السواد الأعظم من البشر لا يحسنون القراءة والكتابة.

وفي جانبٍ آخر من هذا الكتاب الذي يرصف فيه المؤلف مقالاتٍ تتناول مسائل في القرن الواحد والعشرين، كَرّسها للدفاع عن أصحاب الحق، المقاومين الشرفاء في وجه الاستعمار الجديد، مشكلاً فكراً حصيناً، قوامه المعرفة الدقيقة والدراسات والإحصاءات، والمراقبة العلمية، فإذا هو بذلك كاتبٌ مجلٍّ في علم السياسة والتاريخ السياسي…

الانتدابُ الفَرنسيّ وحلُّ المسألة السوريّة

حاول اللّبنانيّون الانفصاليّون، قطع الطريق على أيّ اتّفاق سوري فرنسي يعيد الأقضية الأربعة للسّيادة السوريّة، فبادروا إلى طرح مشروع دستور على المجلس التشريعي، فيه تثبيت لحدود لبنان كما أقرّتها سلطة الانتداب زمن الجنرال غورو، فطلبت الحكومة السوريّة من المفوّض السامي عدم الموافقة على الدستور، لحين انتهاء المفاوضات بين لبنان وسورية حول الحدود المُشترَكة بين البلدين، ولمّا وافق على ذلك الطلب، ثار اللّبنانيون عليه، فتراجع ونشر الدستور اللبناني المُقدَّم في ١٩٢٦.  لقد أدّى نشر الدستور اللبناني إلى استياء السورييِّن، فعادت الثورة واشتدّت في جبل الدروز، وامتدّت إلى باقي المناطق السورية.  استقال وزراء الكتلة الوطنية الثلاثة، فجرى اعتقالهم وإرسالهم إلى المنفى.  لم يستطع المفوّض السامي تقديم تنازلات للحركة الوطنية السورية، بسبب تعنُّت الحكومة اليمينية في فرنسا، التي رفضت الاعتراف بأنَّ الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان مؤقَّتاً، فلجأت الكتلة الوطنية مُمثّلة بالأمير شكيب أرسلان وإحسان الجابري إلى تدويل المسألة السورية عن طريق توجيه مذكّرة إلى لجنة الانتداب في جنيف في ٧ حزيران، لم تلقَ تلك المذكّرة استجابة لدى عصبة الأُمم.  غير أنَّ تغيّر المُعطيات الدوليّة بعد ذلك التاريخ نتيجة تداعيات الحرب العالميَّة الأولى على العلاقات الدولية، ومُناخات الأزمة القادمة على أوروبا، جعلت حكومة باريس تقبل التفاوض في جنيف مع الأمير شكيب أرسلان وميشال لطف الله وإحسان الجابري، لوضع حدٍّ للثورة السورية، ولكن المفاوضات ما لبثت أن فشلت بضغط من اللّوبي الاستعماري في فرنسا، فقدَّم المفوض السامي دي جنوفنيل استقالته، وخلفه في منصبه هنري بونسو، الذي كانت في مقدَّمة أولويَّاته القضاء على الثَّورة السوريّة، وإيجاد حل للمسألة السورية في ضوء مصالح فرنسا في سورية ولبنان(١).

وبين عامي (١٩٢٦-١٩٣٦)، كانت السياسة الفرنسيّة يتنازع موقفَها من حلِّ المسألة السورية رؤيتان: الأولى – تُمثِّل وجهة الحكومات اليمينية، والتي عبَّر عنها بوضوح مندوب المفوَّض السامي في دمشق (بيار أليب).  والثانية – وجهة نظر فريق المعتدلين ممثّله بالكولونيل كاترو رئيس دائرة الاستخبارات.  وقد وقف الأوّل موقفا “معارضاً” من السياسة التي كانت الحكومة الفرنسية قد رسمتها، بإقامة نظام ديمقراطي تمثيلي في البلاد، مُعتبِراً أنَّ الشعب السوري الذي خسر الحرب، لا يستحق منحه فرصة لكسب السلام، بل كان يدعو إلى استعمال القوَّة في إخضاع رجال الحركة الوطنية أو كسبهم عن طريق المال والوظائف.  أمّا وجهة نظر الفريق المعتدل فكانت تقول بأنّ فرنسا قد أضاعت على نفسها فرصة نادرة لكسب سورية يوم ميسلون لو أنَّها لم تدخل دمشق حرباً؛ وتبنَّت مواقف الاتّجاه السوري الوحدوي، عندها كان من المُمكن تحقيق الوحدة السوريّة لمصلحة فرنسا، ويكون احتلال دمشق عملاً “تحريريًّا”(٢).

هنري بونسو

تبنَّى المفوّض السامي الجديد بونسو وجهة النّظر الثانية، ونقلها معه إلى باريس. تجاوبت الحكومة الفرنسيّة معها، وفوّضته في أوائل ١٩٢٧، لوضع معاهدة تحالف مع سورية، وكان لتلك المساعي أثر طيِّب لدى السورييِّن فتوقفت الثورة المسلّحة. وكُلِّف الشيخ تاج الدين الحسني (١٥ شباط ١٩٢٨) بتأليف حكومة مؤقَّتة، لانتخاب مجلس تأسيسي يضع دستوراً للبلاد، كما أصدر بونسو عفواً عن بعض السياسيين، وقام بإلغاء حالة الطوارئ، وقد جرت الانتخابات فعلاً، وفاز بها رجال الكتلة الوطنية (٣). وفي ٩ حزيران، اجتمع المجلس التأسيسي السوري، ووضعت اللَّجنة المختصَّة برئاسة إبراهيم هنانو، مشروع الدّستور، مُعْلنة أنَّ سورية دولة مستقلّة وذات نظام جمهوري، وأنّ الأمّة وحدها هي مصدر السلطتين التشريعية والتنفيذية.  وقد نصَّ المشروع على مادّة تؤكّد بأن البلاد السورية المنفصلة عن الدولة العثمانية وحدة سياسية لا تتجزّأ، ولا عبرة لكلّ تجزئة طرأت عليها بعد نهاية الحرب؛ الأمر الذي أثار احتجاج اللبنانييِّن، فاغتنم المفوَّض السامي الفرصة طالباً تعديلها وإلغاء خمس مواد أُخرى تتعارض مع نظام الانتداب، وردَّ أعضاء المجلس بأنّ وضع الدستور هو من حقِّهم وحدهم.

اقترح المفوَّض السامي حلًّا وسطاً على هاشم الأتاسي بالنّص على أنَّ أحكام هذا الدستور لا يجوز أن تخالف التعهُّدات التي قطعتها فرنسا على نفسها، فرفض السوريون هذا الاقتراح، وطلب رجال الكتلة الوطنيَّة الإبقاء على الدستور كما هو عليه، والدخول في مفاوضات حول المعاهدة مع فرنسا.  رفض بونسو هذا الاقتراح، واتَّخذ قراراً في شباط ١٩٢٩ بتعليق اجتماعات المجلس التأسيسي، وقام بمعاونة حكومة الشيخ تاج الدين الحسني بوضع دستور جديد للبلاد جاعلاً من الانتداب السّلطة العليا، فقوبل باستياء شعبي شديد.

حمل الوضع المُضطرب في سورية ولبنان من سياسات الانتداب واقتراب خطر الحرب على أوروبا نتيجة صعود الحكومات الفاشية الحكومة الفرنسية على الطلب من مفوضها السامي دي مارتيل مفاوضة الأحزاب الوطنية في أمر إنهاء الانتداب، والتفاوض على معاهدة حول ذلك.

هاشم الأتاسي

في ٤ نيسان شُكِّل الوفد السوري المفاوض برئاسة هاشم الأتاسي.  كان هناك اتفاق حول كلّ المسائل الاقتصادية والسياسية والعسكرية، إلّا أنّه كان هناك خلاف حول مسألة الأقلِّيّات، إذ أصرّ الفرنسيّون على ادّعاء حمايتها، ورفض السوريون الاعتراف بهذا الحق، وكادت المفاوضات أن تفشل لولا صعود وفوز الجبهة الشعبيَّة وتشكيلها الحكومة الفرنسية الجديدة، والتي قبلت التوقيع على نصّ المعاهدة في أيلول ١٩٣٦.  اعترفت فرنسا بموجبها باستقلال سورية ووحدة أراضيها؛ الأمر الذي شجّع اللبنانييّن على المطالبة بإنهاء الانتداب، بموجب معاهدة مُماثلة مع فرنسا، وانتهت المفاوضات بين الجانبين، بالتوقيع على المعاهدة في بيروت بتاريخ ١٣ تشرين الثاني سنة ١٩٣٦. استغلَّت تركيا مناسبة إعلان فرنسا عزمها على إنهاء الانتداب على سورية لمطالبتها بإعلان استقلال لواء اسكندرون، بمذكّرة صادرة عنها بتاريخ ١٧ تشرين الثاني ١٩٣٦، ولمّا لم تلقَ تجاوباً، لجأت إلى عُصبة الأُمم، وقد لقيت هناك دعم بريطانيا التي كانت حريصة على استرضاء الأتراك مع اقتراب نُذُر الحرب على أوروبا، فتمَّ الضغط من قبلها على الحكومة الفرنسية، لقبول التفاوض مع الأتراك حول لواء اسكندرونة.  كانت مزاعم تركيا باطلة في كل الأوجه، ورغم ذلك رضخت فرنسا لضغوط حليفتها بريطانيا، ووافقت على إعادة تعديل الحدود بين سورية وتركيا (٤).

لم تصادق فرنسا على اتّفاقية ١٩٣٦، لتحلّ المعاهدة محلّ الانتداب برغم مضي مهلة الثلاث سنوات المنصوص عليها في المعاهدة، بسبب المعارضة البرلمانية اليمينية للاتفاقيّة؛ الأمر الذي منع الحكومة الفرنسيَّة من تقديمها إلى البرلمان والمصادقة عليها، وحين فقد الاشتراكي ليون بلوم السلطة سنة ١٩٣٧، هاجم اللوبي الاستعماري الاتفاقية، إذ كانت الرّغبة الفرنسيّة بالبقاء في سورية أقوى من الخروج منها، أوّلاً: حمايةً لمصالحها الاقتصادية، وثانياً؛ لمنع انتشار العروبة إلى شمال أفريقيا.

وبين عامي (١٩٣٦ – ١٩٣٩) أثارت التعديلات التي قبل بها رئيس مجلس الوزراء جميل مردم على معاهدة ١٩٣٦ خلافات شديدة داخل حزب الكتلة الوطنية من ناحية، وأدَّت إلى صراعات حادَّة داخل الحركة الاستقلاليَّة في سورية بين حزب الكتلة الوطنية بقيادة جميل مردم، وحزب الشعب بقيادة عبد الرحمن الشهبندر من ناحية أخرى انتهت باغتيال الدكتور الشهبندر في ٦ تموز ١٩٤٠ بدمشق (٥).

كان لاندلاع الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٣٩ نتائج عميقة على مصير سورية، فالحرب غيّرت البلد، إذ مهَّدت الطريق أمام الاستقلال عن فرنسا.  وقد سمح الحضور البريطاني القوي فيها أثناء الحرب، بترك هامش مناورة أمام الحركة الاستقلاليّة، عدَّل في ميزان الصّراع مع فرنسا لمصلحتها.

أدّت هزيمة فرنسا واحتلال باريس سنة ١٩٤٠ من قِبَل ألمانيا، وتعيين الجنرال إنري دنيتز الموالي لحكومة فيشي مندوباً سامياً على سورية ولبنان، وتقديمه الدّعم لألمانيا أثناء ثورة رشيد عالي الكيلاني ضدّ بريطانيا في العراق عام ١٩٤١، إلى احتلال سورية من قبل القوّات البريطانيّة بالاشتراك مع قوّات فرنسا الحرّة، الأمر الذي صعَّد العداء بين الطّرفين؛ حيث كانت بريطانيا تصرُّ على أن تمنح فرنسا سورية استقلالها، بينما الجنرال ديغول كان يريد البقاء فيها، واستعادة فرنسا مكانتها العالميّة كقوّة استعماريَّة.

بعد تحرير فرنسا سنة ١٩٤٤، حاولت الضغط على سورية ولبنان للتوقيع على معاهدات معها، فلمّا قوبل طلبها بالرّفض، حرّكت قوَّاتها الخاصة الأمر الذي فجَّر التظاهرات في دمشق وبيروت وانتشرت الأعمال المُناهضة للفرنسييِّن في جميع مناطق سورية، فردَّ الفرنسيُّون على ذلك بقصف مدينة دمشق وتدمير البرلمان السوري في ٢٩ أيار عام ١٩٤٥، ونتيجة الضّغوط الدوليّة على فرنسا، انسحبت القوَّات الفرنسية من سورية في ربيع ١٩٤٦، وما أن حلَّ شهر آب حتى انسحب الفرنسيُّون من لبنان.


المراجع:
  1. ستيفن لونغريغ، تاريخ سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، دار الحقيقة ص٢١٨ – ٢٢٤.
  2. عادل إسماعيل، السياسات الدوليّة، ج٥، ص117 – ١٢١.
  3. ستفين لونغريغ، تاريخ سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، دار الحقيقة، ص ٢٣٠.
  4. د.حسام النايف، لواء اسكندرون، حكاية وطن سُلِب عنوة، وزارة الثقافة السورية، ص١١٨.
  5. فيليب خوري، سوريا والانتداب الفرنسي، ص٦٢٣ – ٦٤١.

مقام عين الزَّمان في السّويداء

كان موقع مبنى عين الزمان الذي يحمل اسم دار طائفة الموحّدين الدّروز حاليّاً في السويداء عبارة عن رسوم لخرائب دير مُهْملة عفا عليها الزّمن، بسبب الخراب الذي كان يعمّ معظم حواضر الجبل وعدم تجرّؤ الناس في ذلك الزمن الذي غلبت فيه البداوة وتقاليد الغزو على إقامة حياة حضريّة فيه، وبما أنَّ المكان كان يقع على أطراف العمران القديم للمدينة فقد كان الدروز الذين أعادوا التوطّن الحضري فيها يعقدون فيه اجتماعاتهم العامة في أوقات الأزمات والحروب حيث تتوافر أمكنة واسعة لمرابط الخيول.

وقد تمّ ترميم المكان ترميماً أوّلِيّاً كمكان له قدسية مُعتبَرة أيام الشيخ حسن جربوع (1860 ــ 1929). كما افتتحَ الشيخ حسن فيه مدرسة مذهبية لتعليم الكتاب الكريم والحساب وقواعد اللغة العربيّة والنّحو، وأرسل الرسائل للأهالي في قرى الجبل يدعوهم فيها لإرسال أولادهم للتعلّم فيها، وكان من بين خرّيجي تلك المدرسة مشايخ أعلام منهم الشيخ أبو حسين محمّد الحنّاوي وأبوشبلي يحيى الحنّاوي وأبو محمّد نصر الدين رزق وأبو حمد محسن الملحم وسعيد قرقوط (ولهذا الشيخ قصيدة رثاء مشهورة بالشيخ حسن جربوع) والشيخ أبو حسن يحيى جربوع، وغيرهم…

خلال الثورة السورية الكبرى عام 1925ــ 1927 أقدم الفرنسيون على قصف المكان فتهدّم الجزء الشمالي منه فأعيد ترميمه برعاية الشيخ حسين جربوع (المتوفّى عام 2012) واستمر توسيعه والعمل فيه كموقع مُقدّس وتمَّ الاتفاق آنذاك بين مشايخ العقل الثلاثة وبمباركة من الشيخ أبو حسين محمّد الحنّاوي على أن يكون مقام عين الزمان بناءً مكتملاً جامعاً لمشايخ العقل الثلاثة في المقام وحصل ذلك لمدة عدة سنين حتى عام 2011 عام وفاة الشيخ أحمد الهجري.

بعد وفاة الشيخ حسين أحمد جربوع عام (2012) دعا خليفته الشيخ يوسف جربوع كُلّاً من شيخي العقل الهجري والحنّاوي لعقد اجتماعات لمتابعة العمل في مكتب مشيخة العقل في عين الزّمان ولم يزل على هذا النهج يدعو لوحدة عمل مشايخ العقل في محافظة السويداء…

واردات ونفقات دار الطائفة المالية

تأتي الواردات من صناديق الأوقاف وهي: مقامات عين الزمان والمُقداد شمال المدينة إلى الغرب من حديقة الفيحاء، ومار الياس ومن أجور العقارات الوقفيّة من محلّات مياه عين التربة وحسنات الوفاة عام 2017 ، يُضاف إليها تبرّعات من الأهل والأخوان في الجولان وفلسطين المُحتلّة.

توسّع الإنفاق بتوسّع التوظيف بسبب مأسسة الدار في عهد الشيخ يوسف جربوع حيث بلغ عدد الموظفين نحو 25 موظّفا وموظّفة ومن وجوه الإنفاق ما يلي:

  1. محروقات وبنزين ووقود وكهرباء.
  2. مصاريف بيت الجنازة.
  3. ترميم دور عبادة ومجالس.
  4. الإنفاق على الخدمات الصّحيّة والتعليميّة لمستحقّيها.
  5. مصاريف لجنة العمل الخيري، وهي عبارة عن أجور جولات ميدانيّة وتنزيل وتحميل سلال المساعدات الغذائية.
  6. مساعدات شهريّة على شكل رواتب لأسر تستحقّ المساعدة.
  7. ومصاريف تجهيز المكاتب الصحيّة من عزل وأثاث عيادات وأجهزة طبّية وصيدليّة ومصاريف إنارة ومياه وهاتف لدار الطائفة ومصاريف وقود وسيارات وتدفئة ومساعدات للهلال الأحمر في بلدات سهوة بلاطة والعفينة.

ويرى شيخ العقل الشيخ يوسف جربوع أنّه لا بدّ من تطوير المرحلة السابقة إلى المأسسة، الجادّة بحيث تمّ تنظيم الموضوع المالي بشكل مهني عبر نظام محاسبة ماليّة على الكومبيوتر، ويتألّف القسم المالي من مدير ومحاسب وأمين صندوق كما تمّ التعاقد مع شركة محاسبة مُعترف بها لتدقيق الحسابات تقوم بتقديم تقرير مالي سنوي.

وفي ظلّ الأوضاع الرّاهنة تقوم المؤسسة الدينية بمهام لرفع الأعباء عن أهلنا المتضرّرين من الأزمة السوريّة التي فاقمت من حالات الفقر والبطالة والغلاء وهذا حوّل الطبقة الوسطى المكتفية ذاتيا إلى فئات معوزة تحتاج إلى المساعدة(1).

العمل الخيري

تمّ تأليف لجنة العمل الخيري في مقام عين الزمان وتُعنى هذه اللجنة بتوزيع المعونات الخيريّة المقدّمة من جانب المنظّمات الدوليّة بالتعاون مع اللجنة الفرعية للإغاثة والهلال الأحمر وتقوم اللجنة بتقديم مساعدات غذائية لـ 3،600 أسرة استناداً لدراسة أوضاعها على الواقع بإشراف فريق من المتطوّعين لدراسة ظروف الأسر المستحقّة، وهذا ساهم مساهمة كبيرة بتخفيف أعباء الحياة عن تلك الأسر.

المكتب الصحّي

أُنشئ المكتب الصحّي في دار طائفة الموحّدين في عين الزمان للإشراف على عمل العيادات في المركز وتسيير عملها وقد تطوّر العمل إلى مجموعة عيادات مجّانية، تخصّصية من: قلبية، وأطفال، وعظميّة، وأذن أنف حنجرة، وعصبيّة، وسكّري. ويتعاون في ذلك أطبّاء متطوّعون مجّانيّاً (عددهم 35) طبيباً وطبيبة ويراجع المركز الصحّي أسبوعيّاً نحو 500 مراجع يتلقَّوْن فحوصاً وأدوية مجّانية بحسب المتوفّر منها ويقوم الأطبّاء بإجراء عمليات جراحيّة على شكل مساعدات كُلِّيَّة أو جزئيّة بالتنسيق مع المشافي الخاصّة والعامّة (وفي المشفى العام يتمّ زرع مفصل مجّاني لمن يلزمه ذلك). ويوجد في المركز قسم علاج فيزيائي مجّاني وصيدلية تقدم الدواء مجّاناً.

«ونساعد في دفع كُلَف التحاليل في المخابر بخصم 50 إلى 20% ونساعد في شراء أجهزة طبيّة للمرضى (أحذية ونظارات طبّيّة وبمساعدة 50% أو75% أو كاملة) وسمّاعات أذنية وأجهزة ضغط وسكري من تبرّعات اغترابيّة ومحليّة ودعم من شركات ومستودعات أدوية متعاونة..».

وقد تبرّعت مفوّضيّة اللاجئين للمركز الصحّي في عين الزمان بجهاز إيكو دوبلر ملوّن مجّاناً (قلبية ونسائية وبطن وجهاز تخطيط قلب وتعقيم أسطوانات أوكسجين وجهاز معالجة فيزيائيّة مجّانيّة يتمّ العمل عليه من قبل مختصّين).

ويتمّ دفع مساعدات ماليّة لمن تثبت حاجته لذلك إذْ بلغت تلك المساعدات المُقدّمة عبر الهلال الأحمر لعدد من قرى المحافظة عام 2017 ما قدره 23،521،900 ل.س. (منها بلدات سهوة بلاطة والعفينة وذيبين).

التّعليم والثّقافة

يقوم القسم المالي بتقديم مساعدات ماليّة شهريّة لـ 200 طالب جامعي تتراوح قيمة كل منها بين الخمسة والعشرة آلاف وحتّى 15 ألفاً من الليرات السوريّة.

تعزيزاً لدور مشيخة العقل في المجال الثقافي تمّ إنشاء مكتبة تتّسع لـ 7500 كتاب مع قاعة محاضرات تتسع لـ 120 شخصاً مجهّزة بوسائل إيضاح وهي قيد الإنجاز وسيتمّ عبرها إقامة محاضرات دينية وعلميّة وتاريخيّة «ونعمل على وضع برنامج منهجي للعمل فيها». وهكذا فقد تمّ تأمين نقلة نوعيّة لتحويل
مرجعيّة الطائفة إلى مؤسّسة للعمل تحت إشراف «مشيخة العقل الثلاثيّة».

قسم الإغاثة
في مقابلة معه؛ مسؤول قسم الإغاثة الأستاذ باسل نصر كان الحوار التالي:
متى بدأتم العمل بهذا القسم؟
العمل قائم هنا منذ العام 2007 وقد تطوّر قسمنا من قسم بسيط كان يخدم نحو 150 أسرة، أمّا اليوم فإنّ الأسر المستفيدة من مساعداتنا بشكل دوري يبلغ عددها 3600 أسرة.
ماذا تقدمون للأسر المستفيدة؟
نقدّم معونات غذائيّة: زيت ورز وبقوليّات وطحين و6 قناني زيت سعة 1 ليتر و 5 كغ سكر و 5 كغ برغل و 5 كغ عدس و 1 كغ ملح ورُبّ بندورة وأحيانا سمنة وحفاظات للأطفال والعجزة وألبسة أطفال وسلال نظافة شخصية ومنزليّة ومنظفات كلّ 6 ــ7 أشهر. ويتمّ هذا عن طريق المنظمات الدوليّة بالتنسيق مع لجنة الإغاثة الفرعية التي يرأسها المحافظ.
ما المعيار الذي تعتمدونه لتقديم المساعدات؟
لدينا فريق من المتطوّعين مجّاناً مؤلّف من 30 شابّاً وشابّة يقومون بإجراء مسح اجتماعي وحساب آلية الاستحقاق.  وعلى هذا الأساس يتمّ التوزيع أسبوعيّاً لـ 300 أسرة مستحقّة بمواعيد ثابتة، وأجور النقل يتحمل كلفتها وقف مدينة السويداء وجميع مواد الإغاثة يتم تدوينها وفق محاضر نظاميّة.
مشغل الخياطة
لدينا في الدار مشغل خياطة يعمل عليه عاملات يُفَصِّلن ألبسة للعمل الخيري منها: المنديل والتّنورة للشّيخات، والسّروال والجبّة للمشايخ. وفي المشغل
7 ماكينات صناعية منها ما هو للدّرزة أو للحبكة أو للخياطة.
المكتب الإعلامي

قابَلَت الضّحى مدير المكتب الإعلامي الأستاذ رشاد أبو سعدة وكان اللقاء التالي:

متى أُحْدِث المكتب الإعلامي لدار الطائفة؟
أُحدث المكتب الإعلامي بقرار من سماحة الشيخ يوسف جربوع لتغطية أنباء فعاليات مشيخة العقل وليكون صلة وصل مع المجتمع المحلّي والإعلام الرّسمي وغير الرّسمي لإيضاح عمل مشيخة العقل الاجتماعي والخيري والإعلامي والثقافي، حيث تمّ إحداث موقع على شبكة التواصل باسم «نور التوحيد» ويجري العمل حاليّاً على تجهيز محتواه كما أُحدثت صفحة على موقع التواصل Facebook باسم دار طائفة الـ «مسلمين الموحّدين الدروز في سورية» مهمّتها نشر الأخبار والنشاطات اليوميّة لذوي السماحة مشايخ العقل ونشر البيانات الرسميّة التي تصدر عن دار الطائفة تجاه المتغيرات الرّاهنة. كما يُعنى المكتب الإعلامي بتصوير وإخراج مقابلات مشيخة العقل مع القنوات الفضائيّة وكلماتهم في المناسبات الرّسمية. ويتمّ حاليّاً التحضير لإصدار نشرة مطبوعة دوريّة ذات محتوى معرفي وتوجيهي لتغطية أخبار وتقارير المشيخة.

برنامج التكافل الاجتماعي
بالتعاون مع عدد من سيّدات المجتمع منهنّ السيّدة مها جانبيه وسها بدر وسهى أبو الفضل وميساء معروف وديانا الفقيه ورُلى أبوعبيد وميساء جربوع وجمانة سري الدين تمّ أنشاء برنامج تكافل اجتماعي يُعنى بتمكين المرأة وتوفير فرص عمل لها داخل وخارج البيت كما يقدّم البرنامج مساعدات ماليّة لطلاب وطالبات جامعيين شهريّاً. ويعتمد هذا البرنامج كُليّاً على تبرّعات المحسنين بإدارة مجموعة سيّدات بإشراف مشيخة العقل. ومن مجالات النشاط: أعمال الصّنارة والحياكة والخياطة بهدف تدريب السيّدات على النشاط الذاتي وتوفير دخل إضافي للأسرة ويكفل البرنامج تصريف المنتجات.
في مقابلة مع السيّدة مها جانبيه مديرة مشروع برنامج التكافل الاجتماعي؛ كانت المحادثة التالية:
ما تعريفكم للعمل الذي تقومون به؟
نحن نعمل في مجال مشروع مستقل إداريّاً يتبع مشيخة العقل في مدينة السويداء.
متى بدأتم العمل به، وما المهمة المُناطة ببرنامجكم؟
بدأنا منذ نحو ثلاث سنوات، لغاية خيريّة، وبمبادرة تطوّعية من سيّدات مجتمع من مدينة السويداء (9 متطوّعات) بهدف تمكين المرأة وتقديم العون والمساعدة للأسر المحتاجة، ونقدّم مساعدات نقديّة وعينيّة، كالألبسة والأغذية في الأعياد والمناسبات حيث نقوم بتوزيع سلال غذائية تحتوي على حبوب وزيوت ولحم دجاج ولحوم حمراء. كما يُعنى المشروع بتعليم الطلاب، لدينا 156 طالباً وطالبة يتلقَّوْن مِنَحاً شهريّة منهم من يدرس الطِّب والهندسات والمعاهد.  وتتراوح مساعداتنا بين 5،000 ل.س.، و25،000 ل.س. لكل طالب.
هل تقومون بعمل إنتاجي في إطار مشروعكم هذا؟
نعم لدينا ورشات عمل إنتاجيّة صغيرة تنشَط المرأة فيها، حيث يوجد لدينا معمل ألبان وأجبان (نَسْتَجِرّ يوميّاً طنّأً ونصف الطن من الحليب لتصنيع الألبان والسّمنة البلديّة) عائدها المالي لتعليم الطلّاب الجامعيين المحتاجين للمنح الشهرية.التي تتراوح بين خمسة إلى خمسة وعشرين ألف ليرة سورية شهريّاً حسب اختصاص الطالب وحاجته.وقد بلغ عدد الطلّاب الذين يتلقَّوْن منحنا 220 طالباً وطالبة. بمبلغ 1،087،000ل.س. كما تم توزيع 300 مريول مدرسي لتلاميذ التّعليم الأساسي و120 بنطال للمرحلة الثانوية وكانت كلفة مدفوعات شهرَيّ أيلول وتشرين الأوّل  من اللّباس المدرسي مبلغ 881،100 ل.س. كما ندير ورشات صنع مؤنة منزلية منها: المكدوس (بلغ الإنتاج طنّاً ونصف الطن) و300 كغ من دبس الفليفلة وتوضيب البازلاء، والفول والزيتون والمخلّلات وغيرها، ومن منتجات مطبخنا: الخبز على الصاج والسنبوسكية، ومناسف عربية بهدف تشغيل سيّدات وفتيات ندفع لهنّ أجراً لسدّ احتياجاتهنّ.
وبهذا يشهد مطبخنا (مطبخ التكافل) ازدهاراً بتلبيته لكافة الطلبات وبتنوع المأكولات التي ينجزها (منسف عربي وأوزي وفريكة وكبسة ومندي وغيرها (بمساهمة الشيف لؤي إبراهيم جانبيه). وقد شاركنا في حملة إغاثة الريف الشرقي الذي نُكِب بهجوم الدواعش وبلغت قيمة مساعداتنا هناك 740،000 ل.س.
هل من مصادر دعم لبرنامجكم؟
بالإضافة إلى عائد مشروعاتنا؛ تصلنا تبرّعات وهِبات من المتبرّعين كما نقيم بين حين وآخر مناسبات خيريّة (إفطار، غداء خيري …)،

خاتمة: ممّا سلف عرضه نستنتج أنّ فعاليّة جديدة نشأت في مقام عين الزمان في السويداء الذي تحوّل إلى دار طائفة للموحّدين الدروز تُقَدَّمُ من خلالها خدمات اجتماعية وماديّة وصحّية للمواطنين طالبي المساعدة عموماً، ولنا وطيد الأمل في توحيد نشاط ولَمّ شمل مشايخ العقل الثلاثة في هذا الحقل المُشْترَك خدمة لمصالح مجتمع محافظة السويداء عامة ومن أجل الوطن السوري بوجه الإجمال والله وليّ التوفيق.

مقام عين الزمان من الداخل.
 مشايخ العقل من آل جربوع، رعاة وقف السويداء من راشيّا (لبنان) إلى جبل حوران

قَدِمَ آل جربوع إلى الجبل في موجة نزوح فريق من العائلات المعروفيّة المعروفة بالكفارقة (أو الرّياشنة؛ نسبة إلى كفرقوق في راشيّا) إلى جبل حوران في مطلع القرن التاسع عشر. نزلوا بادئ الأمر في إزرع على حافة سهل حوران الشماليّة الشرقيّة من جهة اللّجاة على الطريق إلى الجبل، وفيما بعد انتقلوا إلى السويداء، التي كانت تُحْكَم آنذاك بزعامة شيخ مشايخ الدروز من آل الحمدان.

واستناداً إلى يحيى حسين عمار صاحب الأصول والأنساب فإنّ «آل جربوع عائلة معروفيّة تُراثية نامية جمهورهم الحالي في مدينة السويداء في موقع اجتماعي جيّد، ومنهم طائفة كبيرة في القَصيم في العربية السعودية على مذهب السُّنَّة وينتسبون إلى بني يربوع التميمييّن، والذين قدم منهم إلى لبنان أيّام الفتح العربي الإسلامي نزلوا أوّلاً في وادي التَّيم؛ ومن ثمّ أخذوا بدعوة التّوحيد، وعُرِفوا في قرية الكْنَيْسة من أعمال راشيا وكانوا من مَيسورِيّ الحال كَثيري الأملاك.

في حدود العام 1465م على أثر خراب الكْنَيْسة نتيجة تنازعٍ (طائفي) ضارٍ بين أهلها وجيرانهم البقاعيين ارتحلوا عنها إلى كفر قوق القريبة حيث مكثوا فيها نحو مئتين وخمسين عاماً ومن ثمّ نزحوا إلى إزرع الحورانيّة فالسويداء»(2) ومن المرجّح أنّ وصولهم للسويداء كان في مطلع القرن التاسع عشر.

وأمّا سعيد الصّغير فإنّه يذكر في كتابه «بنو معروف في التاريخ» أنّ أصل آل جربوع من جزيرة «جربة» في تونس وفي زمن غير معروف استقروا في «كفر قوق» من ديار راشيّا، وهذه رواية يقول بها آل جربوع أنفسهم(2).

التنازع مع الشيخ الحمداني
عام 1861 وبسبب من فاعليّة رجال الأسرة ونشاطهم الاجتماعي المناوئ لإقطاع الزعامة الحمدانية الأولى في الجبل عمد الشيخ يوسف الحمدان المُتَغلب على زعامة قريبه الشيخ يحيى الحمدان في السويداء إلى ترحيلهم منها(3)، فنزحوا مُكْرَهين ونزلوا في خربة نبطيّة رومانية تدعى «الصَّوْخَر» (شمال قرية أم الرمّان، جنوب السويداء نحو 25 كيلومتراً)، في منطقة نفوذ الزعيم الدرزي الشيخ إسماعيل الأطرش الذي جعل من القريّا معقلاً له، وكان آنئذٍ ينافس الشيخ الحمداني على قيادة الدروز، وقد رحّب إسماعيل بآل جربوع.كحلفاء له ساخطين على زعامة آل الحمدان.
في الصّوخر تنافس الجرابعة مع آل العبد الله أقارب اسماعيل، الذين يسكنون حوط القريبة شرق الصّوخر، ولمّا كان إسماعيل يخطّط لإقصاء آل الحمدان عن الزعامة الأولى في الجبل ويرى في آل جربوع قوة مُعِينَة له في تنفيذ مشروعه ذاك فقد توافق معهم على الانتقال من الصّوخر إلى قرية كناكر(4) القريبة من السويداء ناحية الجنوب الغربي منها ببضعة كيلومترات، حيث يسهل منها عليهم التّواصل مع أصدقائهم من وجهاء عائلات السويداء الناشطين إلى جانبهم ضدّ الزعامة الحمدانية داخل المدينة (وكان حمد النّجم جربوع عميد الأسرة يتحلّى بمزايا الحنكة السياسية والشجاعة التي جعلت منه وجيهاً مرموقاً في مجتمع السويداء وزعيماً أجمعت عليه قيادات العامية الثانية فيما بعد في عشيّة العقد التاسع من القرن التاسع عشر)(5).
وقد نجح مخطّط إسماعيل بفضل حنكته السياسية وشجاعته وثقة الدروز بجدارة قيادته وبعشيرته الكبيرة وتحالفاته الواسعة في إزاحة آل الحمدان عن زعامة الجبل كلّيّاَ (حتى بعد وفاته عام 1869) إذ حلّ ابنه إبراهيم محلّهم في السويداء. وعاد آل جربوع منتصرين إلى أملاكهم واستقرّوا بعدها في السويداء على أثر إقصاء خصمهم اللّدود الشيخ واكد الحمدان منها نحو مطلع سبعينيّات القرن التاسع عشر (وكان واكد قد حل محل قريبه يوسف في زعامة الدروز).

 

آل جربوع ومشيخة العقل
واستنادا لباحثين كتبوا في هذا الموضوع ولرواية آل جربوع أنفسهم فإنّ أوّل مجلس عبادة (جامع) أنشىء في السويداء للموحّدين الدروز كان المجلس الشرقي بالتعاون مع أهل المدينة وكان المكان عبارة عن بناء أثري تمّ ترميمه نحو العام 1805 (كان بالأصل معبداً نبطياً للإله «ذو الشرى» رئيس آلهة الأنباط» وقد تمثّل به مشايخ المدينة بعامّتهم وأبرزهم آل جربوع ورضوان وأبو عسلي ونعيم وعِزّي وسنيح واشتي وقطيش والبدعيش والجرماني وغيرهم. وكان رئيسه الروحي (سائس المجلس) الشيخ سليمان جربوع(6) ونظراً لتقوى المشايخ الروحيين من آل جربوع فإنّ بعضهم قد دُفِن به ومنهم الشيخ سليمان جربوع والشيخ أبوحسين أحمد جربوع الأوّل المتوفّى عام ١٨٥٨م والشيخ أبوحسن وهبي جربوع المُتَوفّى عام 1888م وهناك شيخان آخران من الأسرة هما الشيخ أبو سلمان يوسف جربوع والشيخ أبو إبراهيم محمّد جربوع» مدفونان في المكان نفسه(7).
وعندما دخل الجنرال العثماني سامي باشا الفاروقي السويداء عام 1910 أهان المكان (المجلس الشرقي) ولم يحترم قدسيّته كمقرّ عبادة بادئ الأمر ومن ثمّ عمل منه مسجداً لجنوده، وكان الشيخ حسين طربيه الأوّل قد احتجّ برسالة لسامي باشا على تلك المظالم التي تتنافى ورعاية حقوق رعايا السّلطنة العثمانية ولم يزره في معسكره فما كان من سامي باشا إلّا أن قَدِمَ بنفسه برفقة مفتي الحملة وسأل الشيخ حسين عن سبب عدم زيارته له، فقال له الشيخ طربيه: «العلماء يزارون ولا يزورون، فدهش سامي باشا لجرأته وأمر مُفْتيه أن يسائله في الدين فكانت أجوبته محطّ إعجاب المفتي وقائده(8)، ممّا جعله يحترمه ويقدّره ومن ثمّ أُعيد المجلس للموحّدين كسابق عهده. في عام 1911 من قبل العثمانيين أنفسهم.

 

قصّة المجلس الغربي

كانت أحداث انتفاضة العاميّة التي نشبت ضد المشايخ ملّاك الأراضي الإقطاعيين من آل الأطرش في السويداء والمقرن القبلي قد انعكست على العلاقة بين آل جربوع ممثّلين بزعيمهم القويّ حمد النّجم جربوع الذي أصبح زعيماً للعاميّة في الجبل والشيخ إبراهيم بن إسماعيل الأطرش (عميد الأطارشة) الذي أصبح قائمّقاماً على الجبل من قبل العثمانييّن وكان هذا قد قرّب الشيخ حسين طربيه على حساب المشايخ من آل جربوع بحجّة أنّ الشيخ طربيه «كان مستوعباً علوم الشريعة الإسلامية وفقهها والأحاديث النبويّة والكتب السماويّة…» فعيّنه سائساً للمجلس الشرقي. ويرى المحامي الكاتب والمثقف ماجد الأطرش (وهو أحد أحفاد إبراهيم) أنّ المعضلة التي خُلقت بإصرار إبراهيم الأطرش (جدّه) على تعيين الشيخ حسين طربيه في مشيخة المجلس الشرقي قد حلّها المغفور له شبلي الأطرش عام 1896بعد تعيينه قائمّقام الجبل وشيخاً لمشايخه بعد وفاة أخيه إبراهيم (المتوفّى عام 1893)، (كان شبلي على خصومة مع أخيه غير الشقيق إبراهيم وكان أكثر تفهّماً لمطالب العاميّة رغم انتقاداته لها كما كان ميّالاً لعامة الدروز)(9) وذلك أنّ شبلي كان قد امتلك داراً كبيرة في السويداء كانت هي الأخرى بقايا كنيسة قديمة وقد رمّمها وأعاد بناءها وحوّلها لدار سكن ومن ثمّ تنازل عنها لتكون مقرّاً لدار عبادة أي مجلساً لأهالي السويداء لإقامة شعائرهم الدينية على أن يتولّى هذا المجلس الذي عُرِفَ فيما بعد بالمجلس الغربي «الشيوخ الأتقياء الأصفياء من آل جربوع»(10) وكان من قام بهذه المهمّة في المجلس حينها شيخ العقل الشيخ حسن بن الشيخ وهبة جربوع المتوفّى عام 1929 (ممّا يجدر ذكره أنّ لقب شيخ العقل لم يكن معروفاً لدى الموحّدين الدروز قبل عام 1917م(11) وممّن دُفن في ذلك المجلس كان شيخ العقل حسن بن الشيخ وهبة سنة 1929 وشيخ العقل الشيخ سعيد وهو أخٌ للشيخ حسن،1930 والشيخ أحمد الثاني 1965 والشيخ يحيى بن الشيخ حسن وشيخ العقل الشيخ حسين بن أحمد الثاني ٢٠١٢م(12).

(جزء من دراسة موثقة طويلة للأستاذ ابراهيم العاقل أختصرت لتتناسب مع مقتضيات النشر في الضّحى ) – رئيس التحرير.


المراجع:
  1. مقابلة مع سماحة شيخ العقل الشيخ يوسف جربوع، تشرين الأول 2018.
  2. يحيى حسين عمّار، الأصول والأنساب، دار الضّحى للنشر، ص 46ــ 47.
  3. مقابلة مع السيّد أبو أدهم حسن جربوع (حفيد حمد النجم جربوع زعيم العاميّة) صيف 2018.
  4. نايف فارس جربوع، دراسات في الثورة العاميّة في جبل العرب، ج1، ط1، دمشق، دار العلم، 1991، ص72.
  5. عبد الله حنّا، العامية والانتفاضات الفلاحية في جبل حوران، ط1،1990، دار الأهالي، دمشق، ص 135ــ 136.
  6. محمّد طربيه، موسوعة الجبل، العقيدة والمجتمع، ط1، السويداء، دار الكرم، 2017، ص165.
  7. نايف فارس جربوع، دراسات في الثورة العامية، م.س، ص 58.
  8. مقابلة مع السادة سماحة شيخ العقل يوسف جربوع وآخرون من العائلة، تشرين الأول العام 2018.ـ.
  9. مقابلة مع الكاتب والأديب الباحث محمّد طربيه. ه تشرين الأول 2018.
  10. ماكس فون أوبنهايم، الدروز، ترجمة محمود كبيبو، دار الورّاق، لندن، 2006، ص 113ــ 114.
  11. محمّد طربيه، موسوعة الجبل، م.س، ص 295ــ 296.
  12. حسن أمين البعيني، مشيخة عقل الموحّدين الدروز في لبنان وسورية وفلسطين، دار معن، 2015، ص33. وص 185.

نَسَبُ الأُمراء المعنييِّن

بـدأَ حكمُ الأمراء المعنيين لبلاد الشوف، أو جبل الدّروز في أواخر عهـد المماليك. ومنـذ الفتح العثماني لبلاد الشام في العام 1516م، انتقل حكم البلاد إلى الأمير فخـر الدين المعني الأوّل، مؤسّس قـوّة المعنيين السياسية. وبلغت ذروتها في عهـد حفيده الأمير فخـر الدّين المعني الثاني، الذي سطّر صفحة بارزة في تاريخ لبنان، واعترف بـه الباب العالي سـيّدا على بلاد العرب، من إنطاكية حتى بلاد صفـد، ومـن ساحل البحر المتوسط حتى حدود دمشق. وتميّـز عهـد الإمـارة المعنيّـة بغياب النّزاعات الـدينيّة، وبالتعايش السّلمي بيـن الطوائـف. وكانت له المساهمة الأهمّ في تشكيل الكيان اللبناني. واستمرّ حكم المعنيين إلى آخر عهـد الأمير أحمـد المعني، الذي توفّي عام 1697م، ولم يترك عـقَباً. فانتقل الحكم بقرابة الخؤولة إلى الأمراء الشهابيين حكّام وادي التّيم.

أحاول في هـذا البحث، إثبات انتماء الأسرة المعنيّة إلى التنوخييّن. وإنّ المصادر التي يمكن الاعتماد عليها في مرحلة ما قبل معركة مرج دابق، التي حصلت في العام 1516، والتي أدّت إلى هزيمة المماليك وانتصار العثمانييّن الذين دخلوا بلاد الشام ومن ثمّ مصر. هي مصدران: تاريخ بيروت لصالح بن يحيى(١). وتاريخ ابن سباط(٢). المؤرّخ ابن سباط، كان معاصراً للحقبة المذكورة، والأحداث التي جرت خلالها. وقـد توقّف عن تـدوين تاريخه سنة (926هـ/1519م). والسنوات القليلة السابقة لهذا التاريخ، شكّلت جزءًا مُهمّاً من تاريخ لبنان الحديث. أمّا بالنسبة لكتاب تاريخ الأزمنة للبطريرك اسطفان الدويهي (1630-1704). فقد جرت أحداث عديدة في عهد الدّويهي، عمل بالبحث عن أسبابها، وقد كان قريبا منها. أمّا المصادر الأُخرى وبخاصّة تاريخ حيدر الشهابي، وأخبار الأعيان لطنّوس الشدياق، رغم أهميّتهما. فإنّ مسافة زمنيّة طويلة تفصلهما عمّا أحاول دراسته.

ذكر المؤرّخ طنّوس الشدياق في كتابه أخبار الأعيان في جبل لبنان ما يلي:

في نسبة الأمراء المعنيين للإسلام

هؤلاء الأمراء ينتسبون إلى الأمير معن بن ربيعة، المُتَسلسل من العرب الأيوبييّن، المُتسلسلين من ربيعة الفَرَس بن نزار بن معد بن عدنان، المنتسبة إليه العرب المستعربة. بأنَّ أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذر بن اسماعيل بن ابراهيم الخليل. قام منهم رجل يدعى ربيعه ارتحل من الجزيرة الفُراتيه إلى الديار الحلبيّة. وفي سنة 1120م، ارتحل ولده معن إلى الشوف بناء لأمر طغتكين المملوكي صاحب دمشق، الذي أمره أن يقوم بعشيرته إلى البقاع، ومنها يصعد إلى جبال لبنان المُشرفة على الساحل ويتّخذها حِصناً، ويطلق الغارات على الإفرنج الذين في الساحل(٣).

يذكر الدّكتور كمال الصليبي في كتابه «منطلق تاريخ لبنان» بأنّ هذا القول فيه نظر، لأنّ الزعامة الدرزيّة في ذلك الوقت كانت لآل جندل، الذين يسيطرون على وادي التيم وجزء من الشوف، وقاعدتهم الحصن المعروف بـ «شقيف تيرون» قرب بلدة نيحا، ولم تزل قرية «حارة جندل، أو حارة الجنادلة» وهي قرية في الشوف، تحمل اسمهم إلى اليوم. ولم يرد ذكر آل معن في المصادر التاريخيّة قبل القرن الرابع عشر الميلادي(٤).

من هم المعنيّون؟

لقد وردت بعض الأسماء من آل معن، بحسب علاقتهم بالأمراء البحتريين والأرسلانيين. فبداية ذُكِر المعنيّون في تأريخ الأمير نجم الدين محمـد بن حِجى بن محمـد بن حِجى، المُتوَفّى سنة 705هـ / 1305م. الذي قام على أولاد علم الدين معن، وهم سيف الدين غلاّب وأخوه عبد المحسن وكرامه. وكان سكنهم بـ (اعْبَيْه)، تحت عماير السّلف إلى جهة الغرب. فما بَرِح نجم الدين محمـّد عليهم حتى رحَّل غلاّب وأخيه عبد المحسن إلى رمطون. أمّا أخوه كرامه راوس(٥) وحلف أنّه ما يرحل عن وطنه(٦).

نتّفـق بالرأي مع المؤرّخ أنيس يحيى بأنّ أصل الأمراء المعنيين، يعود إلى علم الدين معن الذي كان مستوطنا بلدة عبيه، وهو ابن «متعب بن أبو المكارم بن عبد الله بن عبد الوهاب بن هرماس بن طريف، وهرماس هو أبو طارق الذي ينتسب إليه الطوارقة، وهم فخـذ من بني عبد اللـه، كما أنّ هرماس هو مجمع الخلف في طردلا(٧) وعين كسور. وقد انتقل أولاد علم الدين معن من عبيه إلى رمطون، بعد خلاف مع نجم الدين محمـد بن حِجى الذي كان عاقّ والده المتوفَّى سنة (705هـ 1305م). وبعد انتقالهم إلى رمطون، استطاع أحدهم وهـو علم الدين سليمان(٨) بن سيف الدين غلاّب بن علم الدين معن، أن يحصل على إقطاع. فصدرت باسمه مناشير بإقطاعه من السلطة المملوكية. وكان من بين الأربعة الذين لُقِّبوا بالكبار في هذه الجهات. وهم: جمال الدين حِجى بن محـمد بن حِجى، وأخوه سعد الدين خضر، وناصر الدين الحسين، وعلم الدين سليمان . وينتمـي علم الدين معـن وذريته من بعـده، إلى آل عبـد اللـه التي هي صفة تنوخيي الغرب.

لـم يَرِد ذكر بنو معن كأمراء على جبل الشوف إلّا في أواخر عهد دولة المماليك، حيث يذكر ابن سباط أنّ فخر الدين عثمان ابن معن، أمير الأشواف من أعمال صيدا، توفِّي في شهر ربيع الآخر سنة (912هـ / 1506م). كما يذكر وفاة أمير آخر هو يـونس بن معن. ويذكر «أنّ يوم وفاته كان عظيماً لأنّه توفِّي شابّاً عام (917هـ 1511/)»(٩) وفخر الدين عثمان ورد اسمه في كتابة نُقِشت على قاعدة مئذنة جامع ديـر القمر الذي شـيّده.

ويذكر ابن طولون، أنّ آل مَعن يعود استقرارهم في بلاد الشّوف إلى فترة زمنيّة أطول بكثيـر من الفتح العثماني لبلاد الشام. ويذكر أيضاً أنّه في أحداث سنة 904هـ/ 1498م، أنّ «نايب دمشق المملوكي أكّـد الإحتراس من إبن معـن، لكون بلاده مجاورة لبلاد إبن الحنش»(١٠). كما يذكر بولياك في كتابه «الإقطاعية في مصر وسوريا وفلسطين ولبنان» بنو رمطوني هم زعماء اقطاعيون قطنوا ضواحي بيروت منذ عام 1309م. وفي اعتبار بني معن أنّ نسبهم ينتهي إلى الرمطونيين. وأنّ التقليد الزّاعم أنَّ أحفاد المعنييِّن هم من سلالة أمير بـدوي يُعرف ب (معـن)، نـزل إلى لبنان عام 1120م، (الشّدياق ص 162و247)، ليس سوى خرافة لاصِحّـة لها(١١).

تمثال لِفَخر الدّين المَعني الثاني من أمام المكتبة الوطنية في بعقلين.
ارتحال المعنييِّن من رمطون إلى ديـر القمر وبعقلين

لقـد ارتحل المعنيُّون عن رمطون، لأنَّها تقع ضمن إقطاع أمراء الغرب البحترييِّن. فيما كانت إقطاعات المعنييّن في منطقة المناصف. حيث يفصل نهر الصّفا بين المنطقتين. ولا نستبعد أنّ هناك صراعاً كان بين معنييّ رمطون والبحتريين في اعبيـه، بسبب الميول الخارجيّة، أم بسبب الصراع في توزيع الإقطاعات. هـذا الصراع الذي تأجّج مـع وصول العثمانييِّن إلى بلاد الشام. وهـو (القيسي- اليمني)، فآل بحتـر جعلوا القيسية تجمعهم فيما بعـد. لعلّها كانت مُضمَرة في السّابق، لعدم إشارة أحد من المؤرّخين إليها. كذلك زعامة الأرسلانيين التي تختلف سياستهم عن سياسة آل بحتـر. حتى ظهر فيما بعـد انتماء كلّ من البحترييّن والأرسلانييّن إلى حزبين مختلفين، هما القيسي واليمني. كذلك زعامة تنوخييّ عين دارا أحفاد بني الفوارس، فلا نستبعد أنّهم كانوا على غير وفاق مع آل بحتـر في اعبيه. لكن على الأرجح، إنّ زعامة عين دارا زعامة يمنية. وكانت قيادة الحزب اليمني في ذلك الـدور للأمراء التنوخييِّن آل القاضي وآل علم الدين والأمراء الأرسلانيين. لذلك اختار المعنيّون منطقة المناصف التي فيها إقطاعهم. واتّخـذوا من بلدتي بعقلين ودير القمر مركزاً لسكنهم وقاعـدة لحكمهم. وأقاموا فيهـما عمائر، لـم تـزل عمائر دير القمر إلى الآن بحالة جيّـدة في رونقها وضخامتها(١٢).

خلال وصول العثمانييِّن إلى بلاد الشام كانت هناك إمارتان. واحدة في الغرب وقاعدتها اعبَيـه، وأميرها شرف الدين يحيى، الذي قال عنـه ابن سباط وعـن سوء أحوالها: «وفي أيام الأمير شرف الدين يحيى فسدت أحوال الناس، وزاد الظّلم، فاقتضى بذلك زيادة الضرائب، بعـد أن كانت في أيّام أبيه في رخاء عظيم(١٣). وإمارة أخرى في الشوف قاعدتها دير القمر، يستأثر بها أميران معنيّان، الأوّل قرقماز بن يونس، وهو الوريث الشرعي بحسب منطق ذلك العصر، والثاني علم الدين سليمان، عـمّ الأول والمكلّف بالوصاية عليه. بالإضافة إلى مقاطعة الأرسلانييّن في الغرب أيضاً.
إنّ المؤرخ حمـزه بن سباط، بالرّغم من عمله الجيّد في كتابة تاريخه، فقـد كان تنوخـيّ الهـوى. كأنّه أراد أن يحصر اهتمامه بالإمارة التنوخيّة. وهو أشبه بأستاذه صالح بن يحيى، فلم يذكـر ابن سباط عن الأرسلانييّن شيئاً. وما ذكره عن المعنييّن المعاصرين للفريقين الأوّلين. وما أشاره عنهم كان قليلاً جـداً.

إنَّ التحليل الذي يقدّمه الدكتور كمال الصّليبي في دراسته عن آل معن بعنوان: «The Secret of the House of Ma’an»(١٤) حول علاقة الأمير علم الدين سليمان بالأمير قرقماز ودرجة القرابة بينهما، فيذكر ما يلي: «إنَّ وفاة الأمير يونس بن فخر الدين عثمان المعني، المُتَوفّى شابًّا عام 1511م، جعل من المُرجّح أن يكون ولده قرقماز طفلاً في ذلك الوقت، ولا يحسن إدارة الحكم دون وصي مـن قريب. فكان الأمير علم الدين سليمان، وهو إمّـا عـمّ الأمير قرقماز أو خاله». وعلى الأرجح. أن يكون عمّـه لا خاله. وإنَّ انتماء الوصي الأمير علم الدين سليمان إلى آل معـن، ربّمـا هو السبب في ما آلت إليه الأمور في البيت المعني من نزاعات وصراعات بين هذين الأميرين أسّسا لخلاف استمر حتى نهاية المعنيين كأسرة حاكمة. وشكّل في الوقت عينه محطّة في تحـديد مسار لبنان الحديث. أبرزها التمهيد لمعركة عين دارا التي حصلت في العام 1711م، والتي ما زالت نتائجها فاعلة في تاريخ لبنان الحديث والمعاصر(١٥).

لجوء فخر الدين ويونس إلى آل الخازن في كسروان

بـدأ الدروز يشكلون تهـديداً للدّولة العثمانية. وازدادت خطورة التمـرّد ضـدّ العثمانييّن، نتيجة حيازة الدروز والمناطق المجاورة، الأسلحة النارية المستوردة من الخارج وخاصّة من أوروبا، وعـدم دفع الضرائب. وفي العام 1565م، ورد في دفتر الأمور المهمّة عن مُهاجمة الدروز للسّباهية المكلّفين بجباية الضرائب، فقتلوا بعضهم وطردوا البعض الآخر. فصدر على الأثر الأمر للسلطات في دمشق بمهاجمة الجبل. فنشبت معركة بين القوات العثمانية والدروز في عين دارا، كان النّصر فيها حليف الدروز، بفضل بنادقهم التي كانت أحدث من بنادق العثمانييّن وأقوى فعاليّة. واستمرت محاولات العثمانيين منـذ سنة 1565 لتجريد الدروز من السلاح وإجبارهم على دفـع الضرائب. رغـم ذلك فإنَّ مقاومة الدروز للعثمانيين لـم تخمـد، فيردّ عليها العثمانيون بحملات انتقاميّة مُتكـرّرة، أو إجراءات تأديبية قاسية. وبقيت المناطق الدرزيّة في حالة عصيان في الأعوام 1583 و1584 و1585، واعتبر العثمانيون أنّ قرقماس والد فخر الدين هـو الأسوأ(١٦)، وأنّ أهالي نواحي الجـُرد والمتن والغرب وشوف ابن معـن يمتنعون عن دفع الضّرائب، وقد ظلُّوا لمدة سبعين عاماً مدينين بسبعين كَـرّة مقدارها (100724)، أقجـة. وهم في كلّ عام يستمرّون في عـدم أداء الضّرائب المتوجّبة عليهم(١٧).

في شهر تمّوز عام 1585، أصدرت الدولة العثمانية، الأمر إلى وُلاتها لمهاجمة مقاطعات الجبل، ولمصادرة البنادق وتحصيل الضرائب. فقام ابراهيم باشا والي مصر على رأس حملة عسكريّة ضخمة، بمهاجمة بلاد الدروز، فحصل قتل ونهب وحرق قرى وأخذ أموالاً طائلة وألوفاً من البنادق. عندها فوجئت مؤخّرة الجيش العثماني بكبسة من الدروز الذين قتلوا حوالي خمسمائة شخص. عندها قـرر ابراهيم باشا الانتقام. فأُحرقت عين دارا ونُهبت، ودمّـر 19 قرية في جوار عين دارا، وتعرّض الدروز لمجزرة رهيبة. ومات أميرهم قرقماس قهـراً(١٨). وربّما كان قتل الجنود، هو السبب في إقدام الوالي على قتل أعداد كبيرة من عقّـال لدروز في عين صوفر، بعـد أن خـدعهم وصادر أسلحتهم.

يشرح التاريخ اللّبناني أنَّ حملة ابراهيم باشا، كانت نتيجـة لحادثة السَّطو التي تعرضت لها الخزنة المصريّة على شاطئ طرابلس، وهي مُتَوَجّهة إلى إسطنبول. وتحميل الأمير قرقماس وأتباعه مسؤولية هـذا السّطو. لكن المصادر المُعاصرة لذلك الوقت، عُثمانيّة أو دمشقيّة أو إيطالية، تؤكّد أنَّ الخزنة المصريّة كانت قـد وصلت إلى إسطنبول كاملة. والهجوم الذي حصل على بلاد الدروز، كان نتيجة عصيان السكّان منذ أوائل القرن السادس عشر. وعـدم دفع الضرائب. وأنّ الدروز يملكون بنادق حربيّة طويلة متطوّرة، تفوق بفعاليَّتها بنادق الجيش العثماني. وكانت قد حصلت ثلاث حملات عسكريّة في السابق على بلاد الدروز، لكنّها فشلت. بسبب تمـرّد السكان وصعوبة المسالك الجبليّة. وليس هناك من ذِكـر لحادثة السَّطو، إلّا في المصادر اللبنانيّة(١٩).

حول لجوء فخر الدين ويونس إلى كسروان بحسب ما ذكره طنّوس الشدياق

الذي يروي أنَّه بعـد موت الأمير قرقماس، أمرت زوجته السيّدة نسب مـُدَبِّرَهُ الحاج كيوان الماروني الدّيراني، أنْ يُخَبِّئ إبنيْها الصّغيرين فخر الدين ويونس عند أحـد الأمناء في كسروان. فأجابها إلى ذلك، ونهض بهما ليلاً إلى كسروان، وخبّأهما في قرية بَلّونه عند ابراهيم بن سركيس وأخيه رباح الخازن. وبعد ست سنين، لمّا صارت الرّاحة في لبنان، دعـا الأمير سيف الدين التنوخي، الأمير فخر الدين وأخيه يونس إبني أخته إلى اعبيه وربّاهما. ولمّا بلغا أشدّهما، سلّمهما ولايتهما في الشّوف. فاستدعى الأمير فخر الدين إليه ابني سركيس الخازن، وجعل عنـده ابراهيم مُـدَبّراً(٢٠).

إنَّ رواية لجوء الأميرين فخر الدين ويونس إلى آل الخازن في كسروان. دوّنها الشيخ شيبان الخازن في مخطوطة عام 1820، وتناقلتها بعض الأقلام(٢١). إنَّ هذه الرواية مُختَلَقة وتحمل في طيّاتها مغالطات عديدة منها:

  • السيّدة نسب زوجة الأمير قرقماس المرأة الواعية، لا يُعقل أن ترسل ولديها إلى كسروان التي هي تحت حكم آل عسّاف اليمنيين، أعداء آل معن القيسييِّن.
  • لـم يَذكر الخالدي الصّفدي في كتابه « تاريخ الأمير فخر الدين المعني» حادثة لجوء الأمير إلى آل الخازن، وهذا المؤلِّف لازم الأمير وعمل في حاشيته. وإنّ الشيخ خطّار ابن ابراهيم الخازن كان برفقة الخالدي في حاشية الأمير. وذكر الخالدي أنّ الحاج كيوان من بلوكباشيّة الشّام(٢٢).
    ولـم يذكر المؤرخ المُحِبِّي هـذه الحادثة، وهو الذي ألصق بالأمير فخر الدين تهمة الزندقة بتعامله مع الإفرنج ضدّ السلطان(٢٣).
  • بالنّسبة للحاج كيوان، لم تقم بينه وبين الأمير فخر الدّين أيّة علاقة قبل العام 1607، وجاء في تاريخ المُحِبِّي: «كيوان ابن عبداللـه أحد كبراء أجناد الشام، كان في الأصل مملوكاً لرضوان باشا نائب غزّه، ثم صار من الجند الشامي. ولمّا توفى نائب غزّه جاء كيوان إلى ابن معن وسافر معه إلى بلاد الإفرنج» (بولس قرالي).
  • البطريرك اسطفان الدّويهي الذي كان مُعاصراً للأمير أحمد المعني ذكر ما يلي: «وفي هذه الأحوال، أرسل الأمير سيف الدين التنوخي، وأخذ إلى عنده أولاد أخته الأمير فخر الدين والأمير يونس، وعند نهاية الستّ سنين، رجع الأمير سيف الدين إلى اعبيه في الغرب، وولّى الأمير فخر الدين على بلاد الشوف»(٢٤) دون الإشارة إلى لجوء الأميرين إلى بلّونه ورعاية ابراهيم الخازن لهما.
  • مخطوطة بعنوان «عودة النّصارى إلى جرود كسروان» دوَّنها الخوري بطرس زغيب، خادم حراجل (1701-1729)، نشرها الخوري بولس قرالي. تؤرخ أعمال آل الخازن والخدمات التي أدَّوْها إلى كسروان خلال عهدي المعنييّن والشهابييّن. لم يذكر لجوء الأميرين إلى آل الخازن. (منير اسماعيل، ملحق جريدة النهار 29/10/1972).
  • كذلك الوثائق الفرنسيّة والإيطاليّة والإسبانيّة لم تأتِ على ذكر لجوء فخر الدين ويونس إلى بلّونه.
  • لا علاقة للحاج كيوان ببلدة دير القمر أو بالمذهب الماروني، أو بعائلة نعمه ضو كما ذكر جوزيف نعمـه (أوراق لبنانيّة ج1 ص 147). والأميران فخر الدين ويونس، بعـد وفاة والدهما، أمضيا السنوات السّت تحت رعاية خالهما الأمير سيف الدين التنوخي، كما يذكر البطريرك أسطفان الدّويهي. (تاريخ الأزمنه ص 448).

المراجع
  1. صالح بن يحيى، تاريخ بيروت، تحقيق فرنسيس اليسوعي وكمال الصليبي، دار المشرق، بيروت، 1986.
  2. حمزة بن سباط، صدق الأخبار تاريخ ابن سباط، تحقيق عمر تدمري، جروس برس، طرابلس لبنان، 1993.
  3. طنوس الشدياق، كتاب أخبار الأعيان في جبل لبنان، نظر فيه فوأد أفرام البستاني، منشورات الجامعة اللبنانية، 1970، ج1، ص 186 و235.
  4. كمال الصليبي، منطلق تاريخ لبنان، منشورات كارافان نيويورك، 1979، ص 106 – أنظر أيضاً ابن القلانسي، ذيل في تاريخ دمشق، بيروت 1908، ص 241.
  5. عاند، وباللغة العامية يقال «كبّر راس»
  6. صالح بن يحيى م. س. ص 149، و167.
  7. أي هو أساس العائلة، وطردلا هي قرية دارسة كانت قائمة قرب عين كسور لجهة الغرب.
  8. صالح بن يحيى، م، س، ص 169.
  9. ابن سباط، م س ، ص ج 2 ص 856.
  10. الحسن البوريني، تراجم الأعيان من أبناء الزمان، دمشق، 1959 / 1963، ج 1 ص 334.
  11. بولياك، الإقطاعية في مصر وسوريا وفلسطين ولبنان، ترجمة عاطف كرم، منشورات دار المكشوف، بيروت 1948، ص 47و 48.
  12. أنيس يحيى، التنوخيّون، المركز العربي للأبحاث والتوثيق، بيروت، 1999 ص210 – انظر أيضاً زينات بيطار، فن العمارة والزخرفة في الإمارة التنوخية، م. التراث الدرزي، بيروت، 2010- ص 185 هامش.
  13. ابن سباط، صدق الأخبار، م، س، ص 376
  14. – Kamal salibi – The Secret of The House of Maan pp 12 – 13
  15. أنيس يحيى، التنوخيّون، م، س، ص 220.
  16. – A. Abu. Husayn. Provincial Leaderships in Syria 1575- 1650 beirut 1986- 67- 69
  17. عبد الرحيم أبو حسين، لبنان الإمارة الدرزيّة في العهد العثماني، دار النهار بيروت، 2005، ص 47و48.
  18. جان شرف، الأيديولوجيا المُجتمعيّة، منشورات الجامعة اللبنانيّة، بيروت، 1996، ص 185.
  19. عبد الرحيم أبو حسين،م.س، ص 30.
  20. طنّوس الشدياق، كتاب أخبار الأعيان في جبل لبنان، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1970، ص 67و 238.
  21. نسيب وهيبة الخازن وبولس مسعد، الأصول التاريخية، مجموعة وثائق تنشر لأول مرة، عشقوت 1958، مج 3ص 351و 352. أنظر أيضا منير اسماعيل، مقال في ملحق جريدة النهار بتاريخ 29/10/1972.
  22. الخالدي الصفدي، تاريخ الأمير فخر الدين المعني، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1969.ص 17.
  23. بولس قرالي، فخر الدين المعني الثاني ودولة توسكانا، دار لحد خاطر، بيروت، 1992 ص 123.
  24. اسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنه، دار لحد خاطر، بيروت، ص 448.

شيوخُ المُوَحِّدين قبل الأمير السيّد عبد الله (ق)

نُشِرَتِ الكثيرُ من المقالات والأبحاث والكُتب عن الرّؤساء الرّوحيِّين للموحّدين (الدّروز)، وعن سائر كبار شيوخهم الدينيِّن، فيها عرض لِسِيَرِهم ومناقبهم ومآثرهم. لكنّها خلَت من الحديث عن شيوخهم الدِّينييِّن قبل الأمير السّيد عبد الله (قدّس الله سرّه)، في المرحلة الواقعة بين القرن الحادي عشر للميلاد، والقرن الخامس عشر. وبناءً على هذا ساد الاعتقاد عند البعض أنّه ما من شيوخ في هذه المرحلة، كما رأى البعض الآخر أنّ وجودهم فيها أمرٌ طبيعيّ لِتَسيير الشؤون الدينيّة، لكنَّ أسماءهم وأعمالهم غابت لعدم تدوينها، أو لِفُقدان المُدوَّنات عنهم جرّاء الحروب بين القوى الإسلاميّة المتصارعة على النّفوذ في المشرق العربي ومصر، والحروب بين هذه القوى والرُّوم البيزنطييِّن، ثم الفرنجة (الصّليبييِّن)، والتَّتار (المغول).

كان لنا شرف المُساهمة في الكتابة عن الرِّئاسة الروحيّة ومُتسلِّميها بمقالات عدّة، وبكتبنا الأربعة التالية: جبل العرب، صفحات من تاريخ الموحِّدين الدروز، الصادر سنة 1985، ومشيخة عقل الموحِّدين (الدروز) في لبنان وسورية وفلسطين، الصادر سنة 2015، والشيخ محمّد أبو شقرا شيخ عقل الموحِّدين الدّروز، الصادر سنة 2017، والمجلس المذهبي والأوقاف عند الموحِّدين (الدروز) في لبنان الصادر سنة 2018. وكُنّا في كتابنا الثاني، أي مشيخة عقل الموحِّدين، أوّل من تحدّث عن الشيوخ السابقين للأمير السّيد عبد الله، لكن حديثنا كان موجَزًا، لذا نرى التوسُّع فيه بهذا البحث الذي نُمهِّد له بالتكلّم عن الرِّئاسة الروحيّة وألقاب الرئيس الرّوحي، والأمير السّيد عبد الله، وذلك من قَبيل إلقاء المزيد من الأضواء عليه.

الرِّئاسة الروحيّة عند الموحِّدين (الدروز)

الرِّئاسة الروحيّة للموحِّدين (الدروز) هي، كَكُلِّ رئاسة دينيّة لأيّة طائفة، أحد رموز كيانيّتهم وشخصيّتهم المعنوية بين الطوائف الأخرى، واستقلالهم في إدارة شؤونهم المذهبيّة. ولمُتسلِّمها صلاحيّات التّمثيل الديني للموحِّدين إزاء الآخرين، وتسيير الشؤون الدينيّة وفق التعاليم الموضوعة، والإشراف على الأوقاف، وفق الأعراف والشّرع الإسلامي، ثمّ في لبنان وفق الأنظمة والقوانين التي وُضعت لتنظيمها، وتولّي القضاء الذي كان من وجوهه في لبنان الاستمرار في رئاسة المحكمة المذهبيّة العليا إلى حين تنظيم القضاء المذهبي وإنشاء هذه المحكمة وتحديد قضاة مُخَصّصين لها في سنة 1967. ودوره لا يقتصر على الصّعيدَين: الاجتماعي والديني، بل يتعدّاهما إلى الصّعيد الزمني السياسي حيث يشارك في اتِّخاذ القرارات، وتحديد المواقف من الأطروحات التي تهمُّ الطائفة والبلاد، وبات له أيضًا في لبنان دور نهضويّ وتنمويّ ورِعائي لمؤسّسات المُوحّدين ونشاطاتهم من خلال الصلاحيّات التي نصَّ عليها قانون انتخاب شيخ العقل الموضوع في 12 أيار 1962، ثم قانون تنظيم شؤون طائفة الموحّدين الدروز الموضوع في 9 أيار 2006.

والرّؤساء الروحيّون مُعتَبَرون مع سائر كبار رجال الدين «حِرْز الطائفة»، لأنّهم يصونونها بالحكمة وحُسن الرأي والتدبير وإسداء النُّصح وإعطاء البركة للأشخاص والأعمال، فيما القادة الزّمنيّون مُعْتبَرون «سياج الطائفة»، لأنّهم يحمونها بالسيف وبالسياسة، ويدافعون عن الأرض والعِرض والكرامة. وأعمال القيادتين: الدينية والزمنية، مُتكاملة لتحقيق مصالح الموحّدين، والحفاظ على مصيرهم ووجودهم، وتعزيز شأنهم، وإبراز دورهم. وقد رأى كمال جنبلاط أنّ الرِّئاسة الروحيّة ليست زعامة بالمفهوم الزّمني السياسي السّلطوي، بل هي زعامة بالمفهوم التوحيدي الأصيل، وعرّفها بأنّها امتداد تاريخي تقليدي لفكرة الإمامة، فقال: «أمَّا الزعامة الروحيّة في المعنى المعروف الشائع فإنّها لا تنطبق على المفهوم التوحيدي الدرزي الأصيل، بل إنّ الزّعامة الروحيّة الحقيقيّة هي نقيض الزعامة الوجاهيّة في القصد الزمني العادي المُنطوي على فكرة الرِّئاسة والمؤسَّس على السلطة والجاه. هذه الزّعامة الرّوحية الأصيلة هي اشتقاق معنوي وامتداد تاريخي تقليدي لفكرة الإمامة أي الرّشادة والحكمة وسُلطة التّوجيه والتقويم لمن تكون له من ذاته ومن تحقّقه وعرفانه مُكنة التوجيه وحقه واستحقاقه»(1).

وبالرّغم من وحدة المُعتقَد لم يكن للموحِّدين (الدروز)، في المناطق المأهولة بهم في بلاد الشّام، رئاسة دينية واحدة، لأنّه ليس لهم نظام ديني إكليريكي، كما عند المسيحيِّين، يُحدِّد المناصب وتسلسلها ومسؤولياتها وصلاحياتها، ولأنّهم لم يعيشوا عبر العصور في كيانيّة سياسيّة أو إداريّة واحدة، ممّا أدى إلى تعدُّد الرئاسات لتعدّد البلدان والمناطق، وبُعد بعضها عن البعض الآخر، وأدّى إلى تعدُّدِها حتى ضمن المنطقة الواحدة، مع بروز شيخ أكبر أحيانًا بفضل نَسَبِه ونفوذِه، أو بفضل تقواه وتديُّنه وامتلاكه لِقَدْر من المعلومات أكثر من إخوانه. يُضاف إلى ما ذُكر من العوامل التي أدّت إلى تعدُّدية الرئاسة عاملُ الغَرَضِيّة أو الحزبيّة كما كان الحال في جبل لبنان، وعامِلَا العشائريّة والمناطقيّة كما كان الحال ولا يزال في جبل العرب في الجمهوريّة السوريّة.

ألقابُ الرِّئيس الروحيّ

أُطلق على الرّئيس الرّوحي للموحّدين (الدروز) لقب «الشيخ» قديمًا، مُقتَرِناً أحياناً بصفة تميّزه. وأُطلق عليه منذ القرن الثامن عشر لقب «شيخ العُقّال» «شيخ العقل»، الذي هو حاليًّا اللّقب الرّسمي المُعتمَد في لبنان، والوارد في القوانين فيما لا يزال لقب الرئيس الرّوحي مُعْتَمَدًا عند الموحِّدين في فلسطين على صعيد رسمي. أما في سوريا، فيعتمد آل الهجري هذا اللّقب.

لَقَب الشّيخ: هو أوّل لقب أُعطي للرّئيس الرّوحي عند الموحِّدين، وأُضيف إليه صفة أو أكثر تُحدِّد مكانته وأهمّيّته، وعُمِّم مؤخَّرًا، فصار يُطلَق على أيّ رجل دين منهم. ولِلَفظة «الشيخ» مدلول تَقَدُّم المرء في العمر وبلوغِه مرحلة ما بعد الكهولة. وهي أيضًا لقب رئاسة زمنيّة على عشيرة أو قبيلة أو قرية، أو حيٍّ، أو منطقة، وكان لقب رؤساء طوائف الحِرَف والصنائع، وحاليًّا لقب الحكَّام والمسؤولين في بعض إمارات ودول الخليج العربي، كما أنّه لقب رئاسة دينية عند المسلمين في قرية أو مدينة أو منطقة أو بلاد، ولقب رؤساء المذاهب الإسلامية والعلماء، والفقهاء والمُفْتِين، ولقب مؤسِّس أو رئيس إحدى الطُّرق الإسلاميّة الصوفيّة، ولقب المسؤول أو الخطيب في أحد الجوامع والمساجد.

وردت لفظة «الشيخ» في أدَبيَّات الموحّدين (الدروز) لقبًا للدُّعاة ولمُساعديهم من قادة الجيوش والأعيان وشيوخ العشائر والمناطق وحتى للأُمراء، مُضافًا إليها عند معظمهم صفة تُميِّز أحدهم عن الآخَر(٢).

وُصِف البارزون من رجال الدين، ومنهم رؤساء روحيّون وشيوخ زمانهم، بما يتّصفون به، وذلك في معرض الحديث عنهم، أو في النقش والكتابة على أضرحتهم، مثل المقرّ الأشرف، والصّدر الأجلّ، والسيّد، والفضيل، والفاضل، والجليل، والطاهر، والورِع الديّان، والزاهد العابد، والورِع التقيّ، وعين الأعيان، وصفوة الأقران، وزين الخلّان، وبهجة العصر والزمان، والعالِم العامِل، والعالِم العلّامة، والعُمدة الفهّامة، وخليفة الأجواد، والدّاعي إلى سبيل الرّشاد، والعَلم المُنير الزّاهر، ورئيس المُدقِّقين، وقدوة المتّقِين، والثِّقة الأمين، والدّيَّان الفطين، ومحلّ الوقار والدين… إلى آخر ما هنالك من الألفاظ والتعابير الحسَنة في الأدبيات الدرزية. أمّا هؤلاء البارزون، فإنَّهم يذكرون أنفسهم بلفظتَيّ الحقير والفقير من قَبيل التواضع.

وأُعطي للأبرز بين شيوخ بلاده أو زمنه لقب شيخ المشايخ، وشيخ العصر، وشيخ البلاد، وشيخ البلدان. وهذه الصفات أعطِيَت لمن تميَّزوا بكثرة التّقوى والتعبُّد والزّهد والتصوّف، أو نبغوا في العلوم الدينية، أو تعدَّت شُهرتهم منطقتَهم. فلقب «شيخ المشايخ»، مثلًا، أُعطي للشيخ بدر الدين حسن العنداريّ المُعاصِر للأمير فخر الدين المَعنِيّ الثاني. ولَقَب «شيخ العصر» أُعطي أوّلًا للأمير السيّد عبد الله(ق) الذي يصحُّ أن يُلقَّب أيضًا بشيخ جميع العصور. وقد وصفه الشيخ صلاح الدين الحلبي بواحد العصر، وذلك عندما جاءه مُسْرعًا بثياب العمل من حلب إلى اعبيه حين علم أنّه مُتكدِّر عليه لقصيدة قالها، فأنشد أمامه قصيدة امتدحه فيها، ومنها البيت التالي:

ولـــي حـــــاجةٌ أرجو من الله تنقضــي على يدِكَ البيضاءِ يا واحدَ العصر

لقبا «شيخُ العقال» و» شيخُ العقل»: يعود هذان اللّقبان إلى القرن الثامن عشر. وقد جانَب الموضوعيّة كلُّ مَن أعطاهما لشيوخ ما قبل القرن المذكور، إذ في هذا إسقاط للحاضر على الماضي. وكما هناك خطأ في ذلك، هناك أيضًا خطأ في تفسير البعض للقب «شيخ العقل» اعتمادًا على أحد المعنيَيْن التاليِيَن لِلَفظة «العقل»:

  1. العقل بمعنى العقل الأدنَى أو العقل البشريّ الذي يقود الإنسان إلى استكشاف العقل الأرفع وإدراك الحقيقة.
  2. العقل بمعنى عقل الأُمور، أي فهْمها وحلّها وربطها.

والتفسير الحقيقي للقب «شيخ العقل» هو أنّه تصحيف للقب «شيخ العُقَّال»، الذي نشأ بعد نشوء مُصطلح «العاقِل». مؤنّثُه العاقلة، وجمْعُه «العُقّال» الذين هم رجال الدين، أو الأجاويد، أو الأجواد، أو الروحانيون، ويقابله مُصطلح «الجاهِل» وجمْعُه «الجُهَّال» وهم رجال الزّمن أو الجسمانيّون. والعاقل هنا هو مَن عقل الأمور الدينية وفهِمَها وعمل بموجبها، فاهتمَّ بخلاص نفسه، وأقام الصلوات وعالج الأمور بالحكمة، وتحلّى بالصفات الحميدة وأوّلها الصّدق، وراقب ذاته قولًا وعملًا، والتزم الوقار فامتنع عن شرب المسْكِرات والمُنْكَرات، وعن اللّهو، وكلّ ما يُسيء إلى السُّمعة. والجاهل هو من لم ينضمَّ إلى سِلْك الديّن ويفهم الأمور الدينيّة، ومَن يقوم ببعض أو بكلّ ما يَمتنع عنه رجل الدين (العاقل). ولا يُعلم بالضّبط متى نشأ مُصطلَحَا «العاقل»، و»الجاهل»، إلّا أنّ أدبيّات الموحِّدين بدأت تتضمّنهما منذ أواخر القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر. ولرُبّما كان هذا وليد النّهضة الدينية التي أحدثها الأمير السيد عبد الله(ق)، والتي وصفها تلميذه الشيخ أبو علي مرعي (…- 1494م) بالقول: «كانت البلاد في ذلك الزمان – القرن الخامس عشر الميلادي – لا يُسمع فيها إلّا هذا حَفِظ، وهذا عَلِمَ، وهذا فَهِم، والدّنيا كلُّها مَجاني سعادة، والخير يافعٌ مُقبِل والشرُّ مغلوب مُدبِر»(٣). كما أنّ الشيخ أبا علي مرعي ذكر لفظتَي العاقل والجاهل، كما سنرى.

وردَت عبارة «المشايخ العقّال»، بمعنى رجال الدين، في تاريخ الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني للشيخ أحمد الخالدي الصّفدي المُتوَفَّى سنة 1624، الذي ذكر أنَّ الأميرة نسب التنوخيّة، والدة الأمير فخر الدين، حضَرَت لمقابلة والي دمشق أحمد الحافظ باشا «ومعها من المشايخ العُقّال نحو ثلاثين رجلًا»(٤). وورَد عند المُحبِّي المتوفَّى سنة 1699 أنّ مشايخ الدروز يُدْعَون: «العُقّال»(٥). ولا يُعلم بالضبط متى نشأ لقب «شيخ العقّال» بمعنى الرئيس الرّوحي، إلّا أنّه ورد لأوّل مرة في النصوص، مُصَحّفاً أي شيخ عقل في معرض حديث حيدر الشهابي عن حوادث سنة 1762، حيث ذكر اسم حامله، وهو الشيخ إسماعيل أبو حمزة.

وردت الإشارة إلى أنّ أصل لقب» شيخ العقل» هو «شيخ العُقّال» وذلك بتصحيف لفظة «العقّال» التي غدت « العقل». وقد بدأ مع العُمّال الأتراك حسبما يذكر الضّليع في تاريخ الدروز «عارف النَّكَدي» عن هذين اللّقبين اللّذين عاشا معاً حِقبة من الزمن. فهو يقول في مقالة له عن مشيخة العقل في الصفحة 288 من مجلّة «الضّحى» (السنة 1954) ما يلي: «كان اللّقب الصحيح الذي يُطلق على صاحب هذا المنصب «شيخ العقال» لا «شيخ العقل» غير أنّ الأتراك لِما كانوا لا يَجمعون عقل على عقّال فكان بعض عمّالهم يستعملون «شيخ عقل» وعلى هذا غلب الاستعمال وجرى الناس عليه.

إنّ المؤرِّخ حيدر الشهابي (1760-1834) – وبعد أن ذكر الشيخ بدر الدين حسن العنداريّ، المتوفَّى في حدود سنة 1635، بلقب «شيخ مشايخ الدروز» – ذَكر الشيوخ الدينييِّن في جبل لبنان بلقب «شيخ العقل» بدءًا بالشيخ إسماعيل أبو حمزة المُتوفَّى سنة 1798، فجاءت عنده عبارة «شيخ العقل» عشر مرات، وعبارة «شيخ العقّال» مرّة واحدة(٦). ووردَت عبارة «مشايخ العقل» مرّتين، وعبارة «شيخ العقل» مرّة واحدة عند حنانيّا المنيّر (1756-1823)(٧). كما وردت عبارات «شيخ عقّال الدروز» و «مشايخ عقّال الدروز «عند طنّوس الشّدياق المتوفَّى سنة 1861(٨). ووردت عبارتا «شيخ العقل» و «مشايخ العقل» عند قنصل فرنسا هنري غيز الذي أقام في بيروت ولبنان في الرّبع الأوّل من القرن التاسع عشر(٩). وردت عبارة «شيخ العقل» 6 مرّات في المراسيم المُرسَلة من الولاة العثمانيِّين بدءًا بسنة 1790، ممّا يدلّ على أنها باتت مُتداوَلة على الصّعيد الرّسمي كما على الصعيد الشعبي، كما أنّ تداولها رسميًّا وشعبيًّا ظلّ يجري مترافقًا مع تداول لقب «شيخ العقّال» حتى أوائل القرن العشرين، بدليل أنّ مضبطة انتخاب الشيخ حسين حمادة شيخ عقل، في سنة 1915، تضمَّنَت عبارة «شيخ العقَّال» ثلاث مرّات(١٠). ولم تتضّمن عبارة «شيخ العقل» فيما تضمّنت مضبطة انتخاب الشيخ حسين طليع في سنة 1917 عبارة «شيخ العقل» مرّتين ولم تتضمّن عبارة «شيخ العقال».

بعد عرض بعض وجوه تداول لقَبَيّ المشيخة، نخلُص إلى القول: إنّ لقب «شيخ العقل» الناتج من التّصحيف ترافق ذكره مع لقب «شيخ العقّال» ثم أخذ يحلُّ مكانه تدريجاً إلى أن أصبح أخيراً الاسم الرّسمي. وفي رأينا أنّه ليس للمؤرّخين أي دور في إيجاد تسمية «شيخ العقل» كما يرى البعض، وإنّما تداولوها فقط كما تداولوا تسمية «شيخ العقّال» أُسوة بسائر الناس. وبناءً على ما ورد يمكن تقسيم زمن الرّئاسة الروحيّة إلى مرحلتين، وذلك تجنُّبًا لسحب لقب «شيخ العقّال» أو «شيخ العقل» على زمن لم يكن مُتداوَلًا فيه، وهاتان المرحلتان هما:

الأولى: مرحلة الشّيوخ، وهي اثنتان أيضًا هما مرحلة شيوخ ما قبل الأمير السيّد(ق) أي شيوخ البلدان، والمرحلة التي تبدأ بالأمير السيّد وتنتهي بسنة 1763، وسِمَتُها كَثرة شيوخ العصر والعلماء.

المرحلة الثانية: مرحلة شيوخ العقّال أو شيوخ العقل التي تبدأ بسنة 1763، ولا تزال مستمرّة حتى اليوم.


الأمير السيِّد عبد الله(ق)

الأمير السيّد عبد الله(ق) (…-1479 م) هو الأمير جمال الدين عبد الله التّنوخي، المُتَحدِّر من الأمير بحتر مؤسِّس الإمارة البحتريّة التنوخيّة المُتعارف عليها باسم الإمارة التنوخيّة، المتَحدِّر بدوره من الأمير تنوخ أحد أحفاد الملوك المناذرة اللَّخميِّين. لم يكن الأمير السيِّد من البيت البحتري الحاكم في زمنه، ولا من الأمراء البحترييِّن الكبار كالأمراء الأربعة الكبار وهم: الأمير جمال الدّين حِجى الثاني، وأخوه الأمير سعد الدين خضر، والأمير علم الدين سليمان الرّمطوني، والأمير ناصر الدين الحسين، لكنّه كان أميرًا كبيرًا في المجال الدِّيني، وغدا أشهر من مشاهير الأسرة البحتريّة، ووُصِف بأمير الأمراء النّجباء، وجمال الدين والدنيا، إضافة إلى ست عشرة صفة منها صفة «الإمام»(١١) عند وجوده في الشّام.

لسنا الآن في معرض الحديث عن سيرة الأمير السيّد وتعاليمه ونهجه ومؤلَّفاته وتلاميذه وأعماله وتأثيره، إذ لا موجب لذلك هنا، لأنّ كلّ من كتب عن الرِّئاسة الرُّوحية للموحِّدين (الدروز) تحدَّث عنه وعنها، ولأنّه صدرَت باسمه أبحاث وكتب، منها: «دُرّة التاج وسلَّم المعراج» لتلميذه الشيخ سليمان بن نصر، و «وليٌّ من لبنان» للمؤرِّخ يوسف إبراهيم يزبك، و»سيرة التّنوخي الأمير السيِّد وآداب الشيخ الفاضل» للمؤرِّخ عجاج نويهض، و «الأمير السيّد» للدكتور فؤاد أبو زكي. كما أنّنا تحدّثنا عنه في كتابنا: «مشيخة عقل الموحِّدين (الدروز)». لذا سيقتصر حديثنا عنه على النواحي الثلاث التالية:

إنّ الأمير السيِّد عبد الله(ق) هو أشهر الشيوخ أو الرؤساء الرُّوحيِّين عند الموحِّدين (الدروز)، وأشهر أوليائهم وأشهر وأقدم علمائهم الدِّينييِّن. وقد انفرد بلقب «السيِّد» الذي لم يُعْطَ لأيّ رئيس روحيّ غيره، وإنْ كان قد شاع مؤخّرًا وشمل بعض الشيوخ التُّقاة، وأصبح لقبًا دينيًّا يناديهم إخوانهم به في مآتمهم، أو يذكرهم به الناس في أحاديثهم، فيقولون: «سيّدنا الشيخ فلان». إلّا أنّه لم يُكرَّم أحدٌ غيره بعبارة: «قَدَّس الله سرَّه» أو عبارة: «قدّس الله روحه»، وذلك عند ذكره لفظًا أو كتابة. ومن وجوه تكريمه زيارة مقامه في اعبيه والنّذر له للتبرُّك، وإقامة احتفال في مقامه بتاريخ 4/9/1979 بمناسبة مرور خمسمائة سنة على وفاته، وإنشاء معهد باسمه على وَقْفِه الذي وقَفَه في قريته اعبيه، هو «معهد الأمير السيِّد للعلوم التوحيديّة». الذي أصبح بعد التّرخيص له كُلِّيَّة.

وضعَ الأمير السيِّد(ق) الكثير من التّعاليم موضع التطبيق، وأوجد نهجاً خاصًّا أحدَث تحوُّلًا ونهضة دينيّة عند الموحِّدين بعد مرورهم في مرحلة من الانحطاط الديني الذي برز أكثر ما يكون في «بلاد الغرب» في أواخر القرن الرابع عشر والمُنتصف الأوّل للقرن الخامس عشر، ذلك أنّ الأمراء التنوخييِّن انصرفوا إلى الحياة الدنيويّة، وتشبّهوا بالملوك في البذخ والتّرَف واللّهو، والاستعانة بالجنود والخدم حتى آلَ الأمرُ في بداية زمن الأمير السيِّد إلى الوضع الذي وصفه تلميذه الشيخ أبو عليّ مرعي، بما يلي:

«إنّ الأمور كانت انطمسَت وفَسدت، وكاد يَبطُل حلالُها وحرامُها، وأمرُها ونهيُها، وعَمهَت البصائر، وقلّ تفكُّر الناس في أمور دينهم، وفي خلق الخليقة والبعث والنّشور والحساب والعقاب، …وبات لا يُميَّز العاقل من الجاهل، والفاضل من المفضول، وكثُرت الشُّبُهات، واتَّصلَت أشكال بغير أشكالها، ولم يحافَظ في الأمور على حدودها، كما تَعاطَى الناس الرِّبا كأنّه من الحلال»(١٢). وما قاله الشيخ أبو عليّ مرعي يتضمَّن لفظَتَي العاقل والجاهل اللَّتَين وردت الإشارة إليهما عند تفسير لقب «شيخ العقال».

لاقى النّهج الذي أحدثَه الأمير السيّد معارضة ممّن سمّاهم تلميذه الشيخ سليمان بن نصر «الأشرار والغَفَلة المُتَمرِّحين في ميادين وسع المهلة»(١٣)، فاضطُرّ الأمير للرّحيل إلى دمشق حيث عاش فيها 12 سنة عاد بعدها إلى قريته اعبيه تلبية لطلب أهل البلاد، الذين امتثل معظمُهم لأوامره واتّبع تعاليمَه. لكنَّ المعارضة لنهجه ستستمرّ بعد وفاته بدليل قتل أمير الأمراء في «الغرب» مع أربعين رجلًا من رجاله للأمير ناصر الدين محمّد التنوخي الذي تمشَّى على نهجه. وللدّلالة على أهميّة هذا النهج، ودوره المستمرّ في تحديد سلوك رجال الدين نذكر ما جاء في سيرة الشيخ الفاضل رضي الله عنه الذي بلغ منزلة كبيرة، لِمَا ظهر منه وبان من السلوك الدّقيق والهمّة العالية والآراء السديدة والعزائم الشديدة»(١٤). أمّا ما جاء في سيرة الشيخ الفاضل المعروفة بآداب الشيخ الفاضل، فهو ما يلي:

«ومن آدابه رَحِمَه الله تعالى مع كتابات الأمير السيِّد قدّس الله روحه أنّه كان واقفًا على جليلها وحقيرها، مُلتزمًا حدودَها، حاضًّا على العمل بها وانتهاج نهجها. وكنا نسمعه يقول: كلّ ما رآه الإخوان من أمور تشابهَت والتبسَت، ودواخل تغيَّرَت سببُه عدم ملازمتهم كتابات السيّد الأمير قدّس الله روحه. وكان يقول: كتابات السيِّد الأمير أمامنا، وهي أوّل ما يحاسبنا الله فيه يوم القيامة، لأنّها واضحة موضّحة، ما تركَتْنا في شُبهة ولا أبقتنا في حَيْرة، وفيها كفايتُنا وما نريد عِلمًا وعملًا»(١٥).

يُعتبر الأمير السيِّد المؤسِّس الفعلي للرّئاسة الروحيّة عند الموحّدين، بمعنى أنّه أوّل من وضع النّهج والقواعد التي تمشَّى عليها الشيوخ الذين جاؤوا بعده لتسيير الشؤون الدينية. وتُعتَبر مرحلته محطّة رئيسة فاصلة في تاريخها، الأمر الذي جعل الكثير من المؤلِّفين يبدؤون سلسلة الشيوخ به لهذا السبب ولضبابيّة المرحلة السابقة له، وانطباع المرحلة اللّاحقة بطابَعه. وإذا كانت معظم تفاصيل المرحلة اللّاحقة معروفة، فإنّ المرحلة السابقة تقتضي إلقاء الضوء عليها، وتبديد ضبابيّتها.

شيوخُ البلدان

من الطّبيعي أن يكون للموحّدين (الدروز) شيوخ قبل الأمير السيِّد، في المناطق المأهولة بهم في بلاد الشام، يهتمُّون بشؤونهم المذهبيّة، ويشكّلون مرجعيات دينية لهم في فَهم المُعتقد، وممارسة طقوس العبادة، والزواج والموت. وممّا يعزِّز ذلك وجود تفسيرات لنصوص قديمة، تَوارَثها الموحّدون في جميع مناطقهم، أصحابها مجهولون، ومن المُعتَقد أنّها لشيوخ علماء من المنطقي أن يكون لهم موقعهم الديني ومكانتهم المرموقة. وممّا يعزِّز ذلك أيضًا مَن سنذكرهم اعتمادًا على المؤرِّخين: صالح بن يحيى وابن سباط، إضافة إلى وجود الشيخ زهر الدين ريدان زمن الأمير السيِّد، ووجود معارضين بارزين لأُطروحاته.
كان في كلّ منطقة أو «بلاد» شيخ، وفي أكثر الأحيان بضعة شيوخ، هم الأكبر والأعلم بين رجال الدين. والبلاد مُصطَلح جغرافي يُطلق على منطقة ما، كما يُطلق على دولة. وقد وردت لفظتها في النصوص العائدة للعهد المملوكي. وهي، على العموم، مفصولة عن غيرها بحدود طبيعيّة كالنّهر والجبل. والبلدان التي توَطَّنها الموحِّدون (الدروز) هي:

في لبنان
كَسروان التي كانت حدودها الجنوبيَّة تمتدّ إلى نهر الجعماني الذي يشكِّل مع نهر حمَّانا نهر بيروت، والمتن والجرد والغرب والشُّوف وجِزِّين وراشيّا وحاصبيّا ومرجعيون والبقاع الغربي.

في سورية
حلب، وجبل السُّمَّاق الواقع حاليًّا في محافظة إدلب، والذي انحصر وجود الموحِّدين فيه بعد أن كانوا موجودين في جهات حلب وأنطاكية، يُضاف إليهما دمشق، والغوطة، والجَولان الذي يشمل إقليم البلّان ووادي العجم. أمَّا جبل حوران، فوجود الموحّدين فيه حديث يعود إلى سنة 1685 م.

في فلسطين
صفد، وكانت مملكة تشتمل على شمال فلسطين وجنوب لبنان حتى نهر الليطاني، حسبما حدَّدَها المؤرِّخ العُمري(١٦). وهي تضمُّ فيما تضمّ النواحي التالية المأهولة بالموحّدين (الدروز) اليوم: ساحل عكّا والشّاغور والجليل والكرمل.

إنّ شيوخ البلدان أو المناطق المذكورة مجهولون في مرحلة ما قبل الأمير السيِّد، لأنّه ما من كاتب تحدّث عنهم، وما مِن نَصٍّ قديم أشار إليهم، باستثناء ما جاء في تاريخَي صالح بن يحيى وآخر هو ابن سباط اللَّذَين يمكن الاستدلال على بعض شيوخ «بلاد الغرب» من خلال ما ورد فيهما، ومن خلال الاستنتاجات. فلولا هذَين المؤرِّخَين، وخصوصًا صالح بن يحيى، لضاع معظم تاريخ الإمارة البحتريَّة التنوخيَّة، وضاع بالتالي معظم المعلومات عن أعلامها الزمنيِّين والدينيّين.

بلاد الغرب

الغرب، في اللّغة، مكان غروب الشمس والجهة المعاكسة للجهة التي تشرق منها (الشرق). وبلاد الغرب تسمية أطلقتها القبائل العربيَّة، التي توطَّنَت جبل لبنان بعد الفتح العربي، على المنطقة المُطِلَّة على ثغر بيروت وساحلها الجنوبي، لأنّ هذه القبائل اتّجهت إليها غربًا، ولأنّها واقعة إلى الغرب من منطقتَين أُخرَيَين نزلت فيهما، هما الجُرد والمَتن. تمتدّ «بلاد الغرب» من نهر بيروت شمالًا، إلى نهر الدّامور جنوبًا، ومن منطقة «الجُرد» شرقًا إلى الساحل غربًا، وقد أسّس المناذرة اللخميُّون الذين توطَّنوها إمارة دُعِيت «إمارة الغرب»، ودُعِي أميرها منذ سنة 866 م «أمير الغرب» بحسب ما جاء في السِّجلّ الأرسلاني، وبحسب ما جاء بعد ثلاثة قرون ونيّف من هذه السنة في تاريخ صالح بن يحيى. بدأَت هذه الإمارات بالإمارة الأرسلانيّة، وانتهت بالإمارة البحترية التنوخية التي استمرّت بضعة قرون، لكنّها ضعُفت في نهاية عهد المماليك، وبداية عهد الأتراك العثمانيين، ممّا أدّى مع أسباب أخرى لانتقال النفوذ إلى الأمراء المَعنيِّين الذين أسَّسُوا إمارتهم في الشّوف الواقع إلى جنوب منطقة «الغرب».

وممّا يجدر ذِكره هو أنّ بعض أمراء «الغرب» أُقطِعوا قرى في المناطق أو البلدان التالية المأهولة بالموحّدين: الجُرد والشُّوف ووادي التَّيم وصفد. وكانت قواعدهم الكبرى في عهد الإمارة البحتريّة: عرَمون واعبيه.

شيوخ بلقب الأمير في “بلاد الغرب”

من الشيوخ الأمراء الأوائل في «بلاد الغرب» الشيوخ الذين وردَت أسماؤهم في أدبيّات الموحّدين (الدروز) عن القرن الحادي عشر الميلادي، ومنهم الأمير أبو إسحق إبراهيم جدّ والد الأمير بحتر الذي يتحدَّر منه الأمير السيِّد عبد الله.

يُعتَبر الأمير بحتر مؤسِّس الإمارة البحتريّة التنوخيّة وذلك منذ أن تَسلَّم منشورًا في عهد الأتابكة بإقطاعه في «بلاد الغرب» بتاريخ محرّم 542هـ (أيار 1147م). وتَوالى بعده الأمراء من ذرّيّته إقطاع هذه البلاد لبضعة قرون، وحافظوا في منطقتهم الجبليّة الحصينة على إمارتهم وعلى وجود الموحِّدين فيها، وتميّزوا بالتقيُّد بتعاليم معتقد التوحيد، ومنها الاكتفاء بزوجة واحدة. وممّا يُؤْثَر عنهم «عدم الزواج إلّا من أقاربهم وبنات ألزامهم ذوي الأصول»، واهتمامهم ببناء المساجد ورعايتهم للموحّدين وخصوصًا للأجواد أو الأجاويد منهم، وانصراف بعضهم إلى الزّهد والتعبُّد والتقوى وحِفظ الكتاب العزيز.

ذَكر صالح بن يحيى ونَقل عنه ابن سباط سِيَر سبعة أمراء تنوخييِّن يصحُّ تلقيبهم أيضًا بالشيوخ، هم الأمير جمال الدين حِجى الثاني وابنه الأمير شجاع الدين عبد الرحمن، والأمير علم الدين سليمان الرّمطوني، والأمير عماد الدين موسى، والأمير صلاح الدين يوسف، والأمير سيف الدين غلَّاب الرمطوني، والأمير ناصر الدين الحسين الثاني. وسنتكلّم عنهم بالتفصيل.

الأمير جمال الدين حِجى الثاني
وُلد الأمير جمال الدين حِجى الثاني المعروف بجمال الدين الكبير في 24 جمادى الآخر 633هـ (آذار 1236م)، وتوفِّي في 12 شوّال 697هـ (تمّوز 1298م). وهو ابن الأمير نجم الدين محمَّد بن جمال الدين حِجى بن كرامة بن بحتر. أقام في طردلا الواقعة إلى الشمال الغربي من قرية اعبيه قبل انتقاله إلى هذه القرية. كان أمير «الغرب» وأُقطِع بعض قرى الجرد. وبلغ إقطاعه من الملِك الناصر صلاح الدين يوسف (سلطان دمشق) 12 قرية، ومن السلطان الظاهر بيبرس 20 قرية. حافظ على إمارة «الغرب» بتأييده للقائد المغولي كتبُغا، حاكم دمشق من قِبَل الفاتح المغولي هولاكو، فيما أيّد ابنُ عمّه الأمير زين الدين صالح المماليكَ، تداوَل أربع دول لحكم بلاد الشّام في سنة واحدة، هي الدولة الأيُّوبيّة بقيادة الملك الناصر يوسف، ودولة المماليك البحريّة بقيادة السلطان قُطز، ودولة المماليك البحرية بقيادة السلطان الظاهر بيبرس، ودولة التّتار (المغول). سجنه السلطان بيبرس في مصر بين سبع وتسع سنوات، وأُفرج عنه في عهد ابنه السلطان السعيد بركة في سنة 677هـ (1278م).

إنّ ما ورد ذِكره عن الأمير جمال الدين حِجى الثاني يفيد أنه كان رجل زمن، وأميرًا على قومه، وقائدًا مَيْدانيًّا. وما سيرِدُ ذِكره يُظهر أنّه رجل دين بارز أيضًا، إذ قال عنه صالح بن يحيى ما يلي: «كان رجل دين خَيِّر لم يوجد في زمانه مثله وكانوا يُعدُّونه من الأولياء الكبار. لزم القناعة والزّهد في آخر عمره. ولمّا استرجعوا (أقاربه) الإقطاعات والأملاك قَنِع منها بعد الكثير بالقليل وهي عين درافيل ومزرعة شمشوم ومزرعة مرتغون وإشكارة قرطبا، عطيَّة من أقاربه بخطوطهم من غير منشور وذلك في سنة أربعة وتسعين وستماية»(١٧). وهذا التاريخ يوافق سنة 1294 م، ويسبق تاريخ وفاته بثلاث سنوات ونيِّف. أمّا تاريخ استرجاع أقاربه لإقطاعهم، فكان بعد انضمامهم إلى جُند الحلَقة في عهد الملك الأشرف خليل. وشأن الأمير جمال الدين حِجى في الجمع بين الزّعامة الزمنيّة والرِّئاسة الدينية هو، مثلًا، كشأن الشيخ عليّ جنبلاط (1690-1778) الذي كان أكبر الشيوخ الزمنيِّين في جبل لبنان، وصار من شيوخ العقل بعد انضمامه إلى سلك رجال الدين.

هناك دليل آخر يُثبت صلاح الأمير جمال الدين حِجى الثاني وتديُّنه، وهو طرده لابنه نجم الدين محمّد من اعبيه لأنّه كان عاقًّا له ولا يرضيه سلوكه. وقد اتّفق مع أقاربه على سجنه في بيروت. وحين أطلعه هؤلاء على نيّتهم الفتك به بعد الإفراج عنه، قال: «أنا لا أُطالب بدمه لأحد من خلق الله، ولكن لا يسعني عند الله أن آمُر بقتله»(١٨).

الأمير شُجاع الدّين عبد الرّحمن
الأمير شجاع الدين عبد الرحمن هو ابن الأمير جمال الدين حِجى الكبير. تاريخ ولادته مجهول وتاريخ وفاته هو في 4 جماد أول 749هـ (1348م). لم يرِث إمارة «الغرب» بعد أبيه لأنّها انتقلت إلى الأمير زين الدين صالح بن علي بن بحتر الذي قطن عرمون. قال عنه صالح بن يحيى، ونَقل عنه ابن سباط، ما يلي:
«كان راغب فيما عند الله زاهد فيما عند الناس. أوفا بالخلافة لأبيه وسلك طريقته في المسالك الحميدة والزّهد والقناعة والعبادة. وكان عنده رياضة النّفس ووطأة الخلق. كان بين الصغار كأحدهم وبين الكبار أكبرهم. فاق أهل زمانه بالعلم والعقل والحلم والآداب. وقد ذكره محمّد الغزّي – شاعر الأمراء البحتريِّين – بأنّه واسطة عقدهم، ومحكّ نقدهم، وبركة عشيرتهم، ورأس مشورتهم، قُطب فلك المعارف، قدوة كل مُحقِّق وعارف». وقال فيه شعرًا وصفه فيه من جملة ما وصفه بالإمام:

شجــــــاع الديــــــــن خيرُ بنـــــي أبيــــــه
تعَبَّـــد خَشْـيـــــة الرّحــمـــــــن طوبــــــى
إمـــــــــــــامٌ زاد في دنيــــــــــــــاهُ زُهــــــدًا
لِحُرٍّ قــــد أتــــــى الرّحــمـــــــــنَ عبْــــدًا

كان الأمير شجاع الدين يغمض عينيه ولا يفتحهما حتى يتلو الكتاب العزيز سَرْدًا على ظهر خاطره، وكان يتلوه في نهار واحد، وله قصائد عديدة أكثرها في الزهد والورع والاعتقادات الجيّدة ومحبّة الإخوان والأصدقاء.

وفيما كان الأمير علم الدين سليمان الرّمطوني، الذي سنتحدّث عنه مشهورًا بقوّة النفس والحِدّة والغلظة في الحق مع سيادة ورئاسة، كان الأمير شجاع الدين مشهورًا بالتواضع ولين الجانب وكَثرة الحلم والكرم. وحين جرى عِتاب على أمر كان بينهما قال له علم الدين: ما أحوجَك إلى حرارة في العقل، فأجابه شجاع الدين: أنت أحوج منّي إلى برودة في الحلم.

وبناءً على اتِّصاف الأمير شجاع الدين بما ذُكر، وتديُّنه وتقواهُ، وتلقيبه بالإمام، وتمشِّيه على خُطى والده المُعتبر من الأولياء الكبار، كان له المركز الأوّل عند «أمير الغرب» ناصر الدين الحُسين، إذ كان يُجلسه عن يمينه لأنّه أبرز الأمراء بعده(١٩)، مع الإشارة إلى أنّه لم يُقطع قرى، ولم يكن رجل دنيا، كالأمير علم الدين سليمان الرمطوني الذي كان الأمير ناصر الدين الحسين يُجلسه عن يساره.

الأمير علم الدّين سُليمان الرّمطوني
الأمير علم الدين سليمان هو أصلًا من آل عبد الله، أبناء عمّ التنوخييِّن، لكنَّ صالح بن يحيى ألحقه وألحقَ ذرِّيته بالتنوخيِّين، بناءً على المصاهرة المُتبادلة بين الأسرتَين. وُلد في 19 محرّم 673هـ (تموز 1274م) وتوفِّي في 7 رجب 746هـ (تشرين الأول 1345م)، عُرف بـ «الرمطوني» لإقامته في رمطون التي هي اليوم قرية دارسة واقعة إلى الجنوب من كفَرْمتّى، وعُرف بعَلم الدين الكبير لأنّه أشهر وأبرز أمراء آل علم الدين الذين نُسبوا إليه، والذين عُرفوا لاحقًا بآل علم الدين اليمنييِّن، لترؤُّسهم الغرضيَّة اليمنيّة. قال عنه صالح بن يحيى في تاريخه:

«هو رجل جليل القدر، عظّمه الناس ونظروه بعين الوقار، وكان مشهورًا بقوّة النفس والحدّة بالحقّ والغلاظة على الباطل. وكان ناصر الدين الحسين – أمير الغرب – مَعنِيّ به غاية العناية، إذا قعد في مجلس يجتمع فيه الناس لم يقدّم أحدًا على شجاع الدين عبد الرحمن ابن عمه وعلى علم الدين المذكور فكان يُقْعد شجاع الدين عن يمينه ويُقعد علم الدين عن شماله وأقاربه تحتهم كلٌّ منهم في منزلته».

وتقديم صالح بن يحيى كلامه عن شجاع الدين على كلامه عن علم الدين في الوقت الذي يتكلّم عن علم الدين، وتقديم الأمير ناصر الدين الحسين له على قريبه بالمصاهرة (علم الدين) دليلان على تقدّم مركزه على مركز علم الدين. وجاء عند صالح بن يحيى أيضًا أنّه كان للأمير علم الدين شِعر رقيق يدلُّ على الزُّهد والتعبُّد، ذَكر منه خمس قصائد اختار منها أربعين بيتًا، نقتطف منها ما يدلُّ على تديُّنه:

يــــــــــــــــــا ســـــــــــــــــيِّدي وإلـــهـــــــــــــي
يــــــــــــــــــا مَــــن إلــيـــــــــــه مَصـيـــــــري
اِرحــــــــــمْ لضَـعــفِـــــــــيَ وَأرْثِــــــــــــــــــي
أنـــــــتَ العــلــيـــــــــــــــــمُ بحـــــــــالـــــــــي
ومَــــــــــــن عليــــــــــــــه اتِّكــــــــــالــــــــــــي
لِـــــــــــذلّـتــــــــي وانـــتـــحـــــــــالــــــــــــــــي
* * *
قنعتُ مـــــن ربِّــــــي بحُســـــن العمــــــل
إنْ قَلّــــــت الدنيـــــــــا وقــــــــلَّ العنـــــــــا
يــــــــــا معشـــــــر النّـــــــــاس فلا تَغفلوا
واستـيـقــظـــوا قبــــــل حلول القضـــــــا
واستدركوا فـــــــارطَ مـــــــــا قد مضى
تســــــــابَقوا للطــــــاعــــــات قبل الجَزا
من قبــــــــل يوم كــــــمِ امرِئ منــــكــــــم
هـــــــــــذا هو الـقــصـــــــد وكلُّ الأمــــل
فـالأصـــــل عند الله خيــرُ الـعــمــــــــل
فـــــــالـمـوتُ والعَرضُ يجيـــــكــم عجَل
واستعملوا الخوف وكــثــــــــر الوجَــــــل
مـــــن ســــــــــوء نيّــــــــــــاتٍ وكثر الخَلل
واستعملوا الخيرات قبــــل الخـــجـــــل
يعــــضُّ كفَّيه علــــــــــى مـــــــــــا فعل(20)

إنّ في صفات الأمير علم الدين، وفي مناجاته لله وشعره الزّهدي والحِكَمي، ونُصحه للناس بالقيام بخير العمل، وبطاعة الله، واستدراك ما قصّروا به قبل حلول الأجل، وقبل أن يأتي يوم الحساب: إنّ في هذه الأمور دلائل على تديُّنه وتَقْوَاه واطّلاعه على الحقائق واكتسابه قدرًا من الثّقافة الدينيّة يجعله في موقع النَّاهي والنّاصح، وهذه منزلة دينيّة إضافة إلى منزلته الزمنيَّة الناتجة من دخوله جُند الحلقة في عهد المماليك وإقطاعهم له بضعة قرى. ومن الدلائل على منزلته الدينيّة هو أنّه حين كان يعطس في رمطون كان الشيخ العَلم، المقيم في كفرفاقود المواجهة لرمطون، يقف له تعظيمًا لقدره وإجلالًا له.

الأمير عماد الدين موسى
الأمير عماد الدين موسى هو ابن الأمير بدر الدين يوسف بن زين الدين صالح بن عليّ بن بحتر أمير «الغرب». تاريخ ولادته مجهول وتاريخ وفاته هو 24 جماد الأول 768هـ (كانون الثاني 1367 م). جاء عنه في تاريخَي صالح بن يحيى وابن سباط ما يلي: «كان رجلًا ديِّنًا خَيِّرًا محمود السيرة مشهورًا بالجَودة والدِّيانة»(٢١).

الأمير صلاح الدين يوسف
الأمير صلاح الدين يوسف هو ابن الأمير سعد الدين خضر المعروف بسعد الدين الكبير، المُتَحدِّر من الأمير نجم الدين محمَّد بن جمال الدين حِجى الأوّل بن الأمير بحتر أمير «الغرب». تاريخ ولادته هو الثامن من شهر شوال 696هـ (تموز 1297 م) وتاريخ وفاته مجهول. إنّه جَدّ والد الأمير السيِّد عبد الله(ق). جاء عنه في تاريخ صالح بن يحيى ما يلي: «كان رجلًا دَيِّنًا خَيِّرًا ذا عقل وافر نافذ الكلمة مُبَجّلًا مُوقَّرًا عند أقاربه وعند الناس، رَيِّض النّفس، حسن الخلقة والأخلاق، وكانوا أقاربه من بعد أخيه ناصر الدين (الكبير) مُقتدين به سامعين لأمره»(٢٢).

الأمير سيف الدين غلَّاب
الأمير سيف الدين غلّاب هو ابن الأمير علم الدين سليمان الرّمطوني الذي ورد الحديث عنه. تاريخ ولادته هو 5 ربيع الآخر 701هـ (تشرين الثاني 1301 م) وتاريخ وفاته مجهول. جاء عنه أنّه «كان جيِّدًا خَيِّرًا ذا عقل ودين محبّ لأهل الخير»(٢٣).

الأمير ناصر الدين الحُسين الثاني
الأمير ناصر الدين الحسين الثاني هو ابن الأمير تقيّ الدين إبراهيم بن الأمير ناصر الدين الحسين الكبير. تاريخ ولادته مجهول، وتاريخ وفاته هو 15 جمادى الآخر 801هـ (شباط 1399م). جاء عنه أنّه «كان من أهل الخير والدين والثقة، كثير الدرس للعلوم، صادق اللهجة، مقبول القول، متمسّكًا بالكتاب والسُّنّة، وَدُودًا لأصحابه، كثير الشّفقة والحُنُوِّ عليهم، مُحبًّا لأهل الخير يُؤْثِر مجالستهم ومحادثتهم»(٢٤).

شيوخ من أصل أمراء في بلاد الغرب

توَطَّن الأمراء المناذرة اللّخميُّون عند قدومهم إلى لبنان «بلاد الغرب»، وأسَّسوا فيها إمارة توَلّاها أوّلًا الأرسلانيون، وتلاهُم أمير واحد من بني فوارس، فأمير واحد من آل عبد الله، بحسب ما جاء في السجلّ الأرسلاني(25). وبعده تَسلَّمها الأمراء البحتريُّون التنوخيّون ابتداءً من أواسط القرن الثاني عشر الميلادي. وفيما احتفظ معظم أفراد هذه الأُسَر، مع الأيّام، بلقب أمير، أو بلقب مُقدَّم، أخذ بعضهم ممّن دخل في سلك رجال الدين لقب «الشيخ»، كما أخذ آخرون لقب «القاضي» لتسلُّمهم شؤون نيابة القضاء في عهد الإمارة التنوخيّة، فكان منهم القضاة الأوائل وأشهر قدمائهم الأمير عماد الدين حسن الذي بنى جسرًا على نهر الصّفا عُرف باسمه (جسر القاضي).

أعاد أمين آل ناصر الدين الشيخ بدر الدين حسن العنداريّ، «الذي كان شيخ مشايخ الدروز في جبل لبنان زمن الأمير فخر الدين»(26)، إلى الأمير القاضي عماد الدين حسن، وذكر أنّه جَدّ فروع آل القاضي الأربعة في دير القمر وبيصور واعبيه وكفرمتى(27). وهذا مع ما ذُكر أعلاه يشير إلى الْتِماس بين ألقاب الأمير والشيخ والقاضي، كما يشير إلى التماس بين مراكزهم، ويؤكِّد أنّ هناك شيوخًا وقضاة من أصل أمراء.

وممّا يجدر ذِكره هو أنّ كثيرين مِمَّن حملوا لقب «الشيخ» وكان أسلافهم يحملون لقب «الأمير» لم يتدنَّ شأنُهم الاجتماعي، وأنَّ كثيرين ممّن حملوا لقب الأمير ما كان شأنهم ونفوذهم أعلى من شأن ونفوذ الشيوخ والقضاة. ومِمّا يجدرُ ذكره أيضًا أنّ بعضَ الأُسَرِ التي كان رجالها أمراء انتهت بأحفادهم شيوخًا مثل الشيخ أحمد العينابي الذي هو من سلالة الأمراء البحترييِّن التنوخييِّن ومن نسل الأمير جمال الدين حِجى الثاني. وفي ما يلي سنتكلّم عن ثلاثة شيوخ من أصل الأمراء.

الشيخ رشيد الكدواني
ذكر صالح بن يحيى حاشية بلغَت في تاريخه المُحقَّق نصف صفحة(٢٨)، ومفادها أنّ الأمير جمال الدين حِجى الكبير والأمير زين الدين بن علي بن بحتر دوَّنَا معًا على ورقة بتاريخ شهر ذي القعدة 655هـ (تشرين الثاني 1257 م) إشهادهما على نفسيهما بإعطاء الشيخ أبو الهدى رشيد بن الظاهر الكدواني، عند حضوره مع عائلته إلى «الغرب»، ثلاث غراير غلّة كلّ سنة، وبيتًا من بيوتهما، أو تعمير بيت له في أيّة قرية يختار السكن فيها، وزادَ الأمير زين الدين على ذلك كرْمًا وبستانًا. وما يعنينا من هذا هو الأمور التّالية:

صفات الشّيخ رشيد:
ذُكر الشيخ رشيد بـ «الشيخ الأجلّ الكبير»، ووُصِف بـ «أبو الهدى». وهذا ممّا يدلّ على تَقوَاه وتديُّنه، وموقعه الديني البارز المُتقدّم بين الشيوخ. أمّا تلقيبه بالكدواني فإنّنا لم نجد له تفسيرًا…

نسب الشيخ رشيد الكدواني:
إنّه من سلالة الأمراء الأرسلانيين، وقد غلب عليه لقب «الشيخ» لأنّه، أو لأنّ سلفه، من كبار رجال الدين. وقد ورد في نهاية حاشية صالح بن يحيى عنه أنّه ابن أبو الظاهر فيما صالح بن يحيى وغيره. ذُكر في أوّلها أنه ابن الظاهر الكدواني، والأُولى هي الأصحّ لأنّ نهاية الحاشية تشتمل على اسم ابنه وهو أبو الظاهر المسمَّى باسم جَدّه. كما ورد في نهاية الحاشية أنّ الشيخ رشيد هو من بني سعدان. والمعلوم أنّ هؤلاء فرع من أبي الجيش الأرسلانيِّين الذين سكنوا في عرمون. فسعدان هو ابن مفرّج بن أبي الجيش، لكنّه لم يُذكر في السِّجلّ الأرسلاني(29)، بل أُسقط منه اسمه وأسماء ذُرِّيّته كما أُسقِطت بعض أسماء فرع ثانٍ من أبي الجيش(30).

سكنُ الشيخ رشيد الكدواني:
يبدو من النّص أنّ الشيخ رشيد كان يسكن خارج «الغرب» بعيدًا عن أقاربه بني سعدان الذين كانوا يقيمون في عرمون. كما يبدو منه أنّه حضر إلى «الغرب» وأقام في كفرمتى في بيت بناه له على الأرجح الأميران جمال الدين وزين الدين، أو أحدهما، تنفيذًا لما جاء في إشهادهما على نفسَيهما.

مدلول وهب الأميرَين التنوخيَّيْن للشيخ رشيد الكدواني:
نجد في العديد من الأماكن من تاريخ صالح بن يحيى إشارات عدّة إلى آل أبي الجيش، ومنافستهم وبغضهم وخصومتهم للأمراء البحترييِّن التنوخييِّن، ووشاياتهم الكاذبة عنهم عند الحكّام، التي سبَّبَت لهم السجن والأذى والمتاعب(31). ومع هذا نرى أميرَين بحتريَّيْن يكرّمان الشيخ رشيد الكدواني ويهبانِهِ بيتًا يسكنه وغلالًا وأراضيَ يعتاش منها، وهذا يعود إلى السّببَيْن التاليَيْن:
1- وجود مُصاهرة ما.
2- تمشِّي الأميرَيْن جمال الدين حجى وزين الدين بن عليّ على نهج المسلمين، ومنهم: الموحِّدون بوَقْف بعض أملاكهم للعلماء والشيوخ والصالحين الأتقياء،
وهذا هو السبب الأهمّ، وفيه دليل على صلاح الشيخ رشيد وتَقوَاه.

جسر القاضي.

الشيخ العَلم
الشيخ العَلم هو علم الدين علم بن سابق بن حسّان بن طارق، من أصول آل عبد الله الذين هم أبناء عمّ البحترييِّن التنوخييِّن. أمُّه تنوخيّة. نشأ في طردلا وانتقل منها إلى كفرفاقود حيث سكن في إلف قرابته الأمير فارس الدين معضاد بن عزّ الدين فضايل بن معضاد «الذي كان أميرًا ومُقدّمًا على الأشواف» بحسب ما جاء عند صالح بن يحيى الذي أضاف قائلًا عن الشيخ العَلم إنّه «رُزِق دين ودنيا واسعة وحُرمة وافرة وكان مشكورًا عند أهل زمانه». وممَّا يُذكر عنه أنه سيَّر الماعز في كفرفاقود لتمحوَ آثار أهل «الغرب» الهاربين من عسكر الحملة المملوكيّة التي غزَت «الغرب» سنة 677هـ (1278 م)، والتي أنزلت فيه ما لم تُنْزله أيّة حملة غيرها(32).

في كلام صالح بن يحيى عن الشيخ العَلم ما يفيد أنّه رجل دين ودنيا، وأنّه ذو مكانة في زمنه تجاوزَت «الغرب» إلى الشُّوف الذي يشتمل على قرية كفرفاقود.

الشيخ زهر الدّين ريدان
آل ريدان أسرة عريقة النَّسب. جاء عنها في تعريف الشيخ أبي علي مرعي، كاتب سيرة الأمير السيد(ق)، للشيخ رشيد علم الدين سليمان ريدان ما يلي: «وكان في بلاد الغرب في القديم أنساب وأحساب ذات تواريخ تُذكر، ونفَرٌ من لهاميم العرب لهم سابق أثر وحسن خبر ونظر في مصالح النفس وتعلُّق بالعلوم الإلهية يُدعَون بيت ريدان»(٣٣).

عاش الشيخ أبو مرعي زهر الدين ريدان في قرية الفساقين (البساتين حاليًّا) من «بلاد الغرب» وله ضريح فيها، ومن المتداول اقتران اسمه بإدخال الأمير السيِّد عبد الله في سلك رجال الدين حسب القواعد المألوفة. وقد اعتمد المؤلّف فؤاد أبو زكي على ذلك وعلى النبوغ المُبكّر للأمير السيّد وصيرورته الرئيس الرُّوحي الأوّل للموحّدين الدروز في عصره، ليقول إنّ الأمير تسلّم مشيخة مشايخ العصر من الشيخ زهر الدين الذي كان، في رأيه، «شيخ مشايخ العصر»(٣٤). وفي رأينا أنّ مشيخة مشايخ العصر هي للأمير السيِّد لا للشيخ زهر الدين الذي هو أحد شيوخ «بلاد الغرب» فقط. عاصَر الأمير سيف الدين يحيى التنوخي المُلقّب بكاتب الدارَين وشاعر الدارَين وصايغ الدارين، الشيخ زهر الدين، وامتدحه بقصيدة وجدانية تصف عواطفه إزاءه، وتمتدح مناقبه، لكنّه ليس فيها ما يدلُّ على منزلته، وهي مؤلّفة من 124 بيتًا، وتُعرف بالقصيدة الزهريّة، نقتطف منها الأبيات الخمسة التالية(٣٥):

رويدَك قد تــــــاقت إليــــــــك الجوارحُ
وستُّ جهــــــات الجسم ثمّ حواسُّــــــــه
وإنّي إذا مــــــا رُمتُ وصفك لــــم أجد
وشــــاع لك الذِّكر الجميلُ فلــــــم يزل
فـــلا زائــــد فيـــــه بــــــلاغة مــــــــــادح
وحسبُك أنّ القــلــــب نـحــــوك جــامحُ
وأعضــــــــاؤه كــلٌّ بـحـبّــــك نــــــــــاضحُ
لـــــه غــــــايــةً يسري بهــــا قول مـــادح
بحسن الثّنــــا بيـــن الــبـــريَّة طـــــــافح
ولا نـــــــاقص فيه مقــــالـــــة كــــــــاشح.

خلاصة

اعتمادًا على ما ورد ذكره عن الأمراء البحترييِّن التنوخييِّن السّبعة، وعن الشيوخ الثلاثة، يمكن استنتاج ما يلي:

  • إنّ الأمراء السّبعة ذُكروا بلقب «الأمير» الذي لا يمكن أن يُذكروا إلّا به، لكنّهم شيوخ دين أتقياء لهم، بالإضافة إلى النفوذ الزمني، نفوذ في الوسط الديني، وأحدهم – وهو الأمير جمال الدين حِجى ــ كان أمير «الغرب». وقد ميّزهم انشغالهم بالعبادة عن سائر الأمراء التنوخييِّن الذين ترجم صالح بن يحيى لِما يزيد عن الستِّين منهم اهتمّ مُعظمهم بالشؤون الدنيوية، ولم يصفهم بما وصف به الأمراء السبّعة.
  • إنّ الخبير بتاريخ الموحّدين (الدروز) الاجتماعي، وأدبيَّاتهم الدينية ومُصطلحاتها، يعرف مدلولات الأوصاف التي أُطلَق بعضها على كل من الأمراء السّبعة، وهي: ديِّن – خيِّر – جيد (وجمعها أجواد وأجاويد) – لا يوجد في زمانه مثله – إمام – وليّ كبير – زاهد – جليل القدر – مُبجَّل – مُوقَّر – ذو عقل ودين – مشهور بالجودة والديانة – مُتعبِّد – لا يغمض عينيه ولا يفتحهما حتى يتلو الكتاب العزيز – من أهل الخير والدين – مُحبّ لأهل الخير – مُتَمسّك بالكتاب والسُّنّة. وهذه صفات يتحلَّى بها الشيوخ الدينيُّون.

وممَّا يجدر ذِكره هو أنّ الشيخ أبا صالح فرحان العريضي – وهو من الشيوخ الثقات ومعاصر لنا – اعتبَر الأمراء السّبعة من كبار رجال الدين الذين وصفهم بالأعيان. وهو لم يكتب إلّا عن شيوخ رجال الدين في كتبه الثلاثة، بعنوان «مناقب الأعيان»

إنّ الرِّئاسة الرُّوحيّة للموحّدين (الدّروز) لم تَظهر إلى العلن إبّان تشدّد الدول الإسلامية السُّنّيَّة الحاكمة مع أتباع المذاهب الأخرى، بالرّغم من أنَّ الموحِّدين كانوا في «بلاد الغرب» أكبر تجمُّع درزي في الشَّام، ولهم كيانيّة إدارية ناتجة من إقطاع الحكّام لأمرائهم قرى هذه البلاد، وبعض القرى خارجها، وهذه الرّئاسة غير المُعلَنة لا بدّ أن تتمثّل داخليًّا في مُجتمعهم الإقطاعي بِنُخبهم وأعيانهم وأكابرهم.

وفي حال اعتبرنا أبرز الأمراء والشيوخ الذين ذكرناهم رؤساء روحييِّن، تبدو لنا تعدُّدية الرِّئاسة الروحيّة من خلال معاصرة الأمير جمال الدين حجى والشيخ رشيد الكدواني لبعضهما، مع تقديم الأمير جمال الدين حجى واعتباره الرئيس الرُّوحي الأوّل الجامع بين الدين والدنيا، والمُعْتَبر من الأولياء الكبار. كما تبدو لنا هذه التعدُّديّة واضحة مع الأمير شجاع الدين عبد الرحمن، والأمير علَم الدين سليمان والشيخ العَلم، المعاصرين لبعضهم، مع تقديم الأمير شجاع الدين، لأنّه سلك طريقة أبيهِ الأمير جمال الدين حجى، وكان مقدَّرًا من الأمير ناصر الدين الحسين، ومقدّمًا على غيره من الأمراء.


المراجع
  1. مقدّمة كمال جنبلاط لكتاب سامي مكارم: أضواء على مسلك التوحيد، دار صادر، بيروت 1966، ص19-20.
  2. للمزيد من المعلومات انظر كتابنا: مشيخة عقل الموحِّدين الدروز في لبنان وسورية وفلسطين، تاريخها وتطوّرها من الأعراف إلى التنظيم، دار معن 2015، ص23-25.
  3. مخطوطة الشيخ أبي علي مرعي عن الأمير السيد عبد الله.
  4. أحمد الخالدي الصفدي، تاريخ الأمير فخر الدين، تحقيق الدكتورَين أسد رستم وفؤاد أفرام البستاني، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت 1969، ص23.
  5. المُحِبّي: خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر، تحقيق محمّد حسن إسماعيل، دار الكتب العلمية، بيروت 2006، المجلد الثالث ص259.
  6. تاريخ حيدر الشّهابي، دار الآثار، بيروت 1980، ص789، 807،866، 873، 892، 910، 947، 953، 967، 970، 1011.
  7. حنانيّا المنيّر: الدر المرصوف في تاريخ الشوف، دار الرائد اللبناني، بيروت 1984، ص 30،69،156
  8. طنّوس الشّدياق: كتاب أخبار الأعيان في جبل لبنان، منشورات الجامعة اللبنانيّة، بيروت 1970، الجزء الثاني، ص325،405،434.
  9. هنري غيز: إقامة في بيروت ولبنان
  10. أوردنا نص المضبطة كاملًا في كتابنا: مشيخة عقل الموحِّدين (الدروز)، ص119-121.
  11. يوسف إبراهيم يزبك: وليّ من لبنان، الطبعة الثالثة سنة 1960، ص95.
  12. مخطوطة الشيخ أبي عليّ مرعي عن الأمير السيّد عبد الله.
  13. سليمان بن حسين بن نصر: درة التاج وسلّم المعراج، تحقيق اللجنة الثقافيّة في مؤسَّسة العرفان التوحيديّة. لا تاريخ، ص18.
  14. عجاج نويهض: التنوخي، آداب الشيخ الفاضل، دار الصحافة، بيروت 1963، ص120.
  15. المرجع نفسه، ص83.
  16. العمري: التعريف بالمصطلح الشريف، دار الكتب العلمية، بيروت 1988، ص236-237.
  17. صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، تحقيق فرنسيس هورس اليسوعي وكمال سليمان الصليبي، دار المشرف، بيروت 1967، ص55.
  18. المصدر نفسه، ص150. وللمزيد من المعلومات عن الأمير جمال الدين حجى، انظر المصدر المذكور، ص51-55، وصفحات أخرى. وتاريخ ابن سباط، تحقيق عبد السلام تدمري، جرّوس برس، طرابلس- لبنان 1993، الجزء الأول ص340، 363، 395، 396، 404، 459، 460، 463، 483، 484.
  19. انظر عن الأمير شجاع الدين عبد الرحمن: صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص151-156. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص825-827.
  20. انظر عن الأمير علم الدين سليمان: صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص167-171.
  21. صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص164. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص817.
  22. صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص146.
  23. المصدر نفسه ص172. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص857-858.
  24. صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص202. وتاريخ ابن سباط، الجزء الثاني، ص834.
  25. السجل الأرسلاني إثبات سنة 1061م، ص88-89، وإثبات سنة 1179م، ص105.
  26. تاريخ حيدر الشهابي، ص600.
  27. انظر أمين آل ناصر الدين: الأمراء آل تنوخ، مجلة أوراق لبنانية، المجلد الثاني، ص354، 451، 592، والمجلد الثالث ص51.
  28. صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص54.
  29. انظر السجل الأرسلاني.
  30. انظر جدول الأسماء المسقطة من السجل الأرسلاني: نديم حمزة: التنوخيّون، ص32.
  31. انظر عن هذه الأمور صالح بن يحيى: تاريخ بيروت، ص54، 63، 65، 67.
  32. المصدر نفسه، ص57، 68.
  33. مخطوطة الشيخ أبي علي مرعي. أيضًا عجاج نويهض: التنوخي. سيرة الأمير السيد، ص30.
  34. فؤاد أبو زكي: الأمير السيد. سيرته. أدبه، طبعة 1997، ص180-181.
  35. انظر القصيدة كاملة عند فرحان العريضي: مناقب الأعيان، الجزء الثاني، ص301، 313.

السّوق التّجاري في الجدَيدة – السمقانيّة – عين وزين

يُعَدّ السوق التّجاري في منطقة بقعاتا – السّمقانية – عين وزين من أهم وأنشط الأسواق التجارية في الجبل، وقد شكل منذ نشوئه ولغاية تاريخه مُتَنفّساً تجارياً لأهالي الجبل، ومحطة جذب لمعظم المستثمرين في المنطقة من أصحاب الرساميل ومتوسطي الدّخل، كما يُعتَبر بحكم موقعة الوسطيّ من الشوف همزة وصل لكافّة القرى الجبلية المنتشرة في سفوح جبل الباروك من نيحا إلى عين دارة، ومن الإقليم إلى المناصف وصولاً إلى الدامور والناعمة، والوافدين إليه من مناطق راشيّا وحاصبيّا والمتن الأعلى، حتى العاصمة بيروت، وبالأخص من البلدات التي كانت واقعة على خطوط التّماس إبان الحرب الأهلية في الربع الأخير من القرن الماضي. هذه الحرب التي امتدّت من العام 1975 إلى العام 1990، مع ما خلفته من تبدّل ديمغرافي غيّر الكثير من طبيعة الحياة الجبلية، ومن طباع الجبليين ومن العادات والمفاهيم القروية التي كانت شائعة قبل تلك الحرب المشؤومة. ففي تلك المرحلة اعتُبِر الشّوف الملاذ الآمن لمعظم العائلات التي اضطُرَّت للهروب من أماكن إقامتها في العاصمة بيروت وضواحيها، حتى لا تبقى عرضة للقتل والخطف على الهويّة والتهجير القسري. في تلك الفترة كانت منطقة بقعاتا – السمقانية وسوقها التّجاري تشهدان حركة عمرانيّة وتجارية مزدهرة، ومحطّ رحال العديد من الفئات الميسورة منهم ومن الشباب المُغترب بالنظر لتميُّزها كمنطقة وسطيّة في قلب الجبل، وبُعدها عن ساحات القتال. لا سيّما وأنها لا تبعد عن بيروت أكثر من 40 كلم، وهي على مسافة قريبة من مراكز القرار الإداري في بعقلين وبيت الدين من دون أن ننسى المختارة؛ المرجعيّة السياسية لكلّ أهالي الجبل، وهو ما أكسبها أهمّية خاصة.

فبعد أن كانت مدينة بعقلين هي السوق التجاري الوحيد في المنطقة اتّجهت الأنظار إلى بقعاتا السمقانية التي كانت تشهد نموّاً متسارعاً في تلك الفترة. وهو ما ساعد على تكوّن السوق التجاري في هذه المنطقة في مرحلة ما قبل الحرب الأهليّة. أمّا المرحلة الثانية فلقد أتت نتيجة لهذه الحرب وظروفها القاسية وهي التي ساعدت على أن يأخذ هذا السوق الشّكل المُتعارف عليه في حالته الحاضرة. أمّا مرحلة النمو العمراني والازدهار التّجاري في بقعاتا – السمقانية فيمكن وصفها بثمرة الاستقرار الأمني التي نَعِمَ به الجبل طيلة السنوات الماضية، ولكن بالمقابل هناك مشاكل كثيرة تحول دون تطوّر هذا السوق التجاري بالشكل المطلوب. وبالإضافة إلى كلّ ذلك يمكن القول أنّ هناك عاملان أساسيان أسهما بتطوير هذا السوق وشهرته هما:

الأوّل: حاجة المنطقة لهذا المُتنفّس بعد استحالة العودة إلى المدينة بالطريقة التي كانت سائدة من قبل، بالإضافة إلى ضيق المساحات العمرانية في القرى النائية التي تفصلها عن مركز القرار الإداري في الجبل والتي تتطلّب التنقّل بالسيارة زهاء نصف ساعة وأكثر.

الثاني: انتشار المدارس الرّسمية والخاصّة والمعاهد والثانويات والمستشفيات والتعاونيات الاستهلاكية والمصارف، وكذلك الفروع الجامعية. يضاف إليها سهولة الانتقال منها إلى المدينة، إمّا لطلب العمل أو لالتحاق الأبناء بالجامعات في بيروت والضواحي. وهو ما جعل لدى أرباب العائلات في تلك القرى النائية عدم القدرة على الصمود في قراهم إلى ما بعد نيل أولادهم الشهادة الثانوية، وبعدها قد يجدون أنفسهم مُكرَهين حُكماً للانتقال إلى بقعاتا وإلى أبعد منها. ولم يقتصر الأمر على سكان هذه الأماكن وحدها، بل هو حال غالبيّة اللبنانيين القاطنين في الأرياف البعيدة وبالأخص في الشمال والجنوب والبقاع.

من أهم الأسواق التجارية في الجبل والشّريان الحيوي لمنطقة الشوف. وجوده انعكاس لنموّ المنطقة السكَّاني والعمراني.
الفطايري: «نسعى ليكون سوق بقعاتا بأهميّة سوق الحمرا وسوق فرن الشباك.»
هرموش: «المنافسة العشوائيّة وغلاء الإيجارات يضرّان بالسّوق.»
خطّار: «نتمنَّى على البلدية حلّ مسألة السّير وإيجاد مواقف للسيارات.»

لمحة موجزة عن منطقة الجديدة – بقعاتا، وبقعاتا – السمقانية – عين وزين قبل الفورة العمرانية وقيام السوق التجاري

قبل الغَوص في الحديث عن السوق التجاري في بقعاتا – السمقانية – عين وزين وأهميته التجارية والاقتصادية لأبناء الجبل، لا بدّ من إعطاء القارئ لمحة موجزة عن تاريخ هذه القرى الثلاث التي يتشكل منها السوق ماضياً وحاضراً، وما تتميّز به من صلة وصل بين شوفه الحيطي والأعلى، وشوفه السويجاني ربطاً بالمناصف وإقليم الخروب والساحل. فإذا كان هذا السوق التجاري الذي يبدأ من دوّار بعقلين مروراً بالسمقانية وبقعاتا والجديدة، وصولاً إلى عين وزين بطول يفوق الخمسة كيلومترات، فإنّه يشكّل على أهميته عصب الحركة الاقتصادية لهذا الشوف المتنوّع في طبيعته وإنسانه. إنّ القرى التي يتألّف منها السوق التجاري في بقعاتا شكّلت ماضياً عصب الحراك السياسي والإقطاعي في زمن الإمارتين المعنيّة والشهابية، والرابط الأساسي بينها وبين عواصم القرار السياسي والإداري في كل من بعقلين ودير القمر والمختارة وبيت الدين.

عين السمقانيّة.
السمقانيّة

هي إحدى قرى الشوف السويجاني، لقد اشتُهرت بسهلها الفسيح، الذي شهد على العديد من المحطّات التاريخية من بينها انتقال الإمارة في جبل الشوف من المعنيين إلى الشهابيين. كما اشتُهرت السمقانية بسوقها التجاري العام خلال القرن الثامن عشر الذي ما تزال آثاره قائمة في محيط العين الأثريّة وقد أعيد ترميمه مؤخّراً. ولقد ارتبط اسم السمقانية بالشيخ محمود أبو هرموش الذي استحقّ فيما بعد لقب باشا. وهو الذي حاول انتزاع إمارة الجبل من الأمير حيدر الشهابي في معركة عين دارة سنة 1710 ولكن الحظ لم يحالفه.

وفي هذا السياق يشير الأستاذ نبيل العقيلي الملمّ بتاريخ بلدته السمقانية لـ ، أنّ الشيخ أبو زين الدين حسن أحمد العقيلي الذي يرتقي إليه من حيث الحسب والنسب، كان من أبرز المراجع الدينية في القرن التاسع عشر، وهو ابن شقيق نجم العقيلي الشهير الذي كان يُلَقّب برئيس الوزارة في المرحلة الأولى من حكم المير بشير الشهابي، إلى الدور الكبير الذي لعبته السمقانية ومرجها الشهير وسوقها القديم الكائن بمحيط العين التاريخية في البلدة. وتأكيده على أنّ مرج السمقانية أو سهل السمقانية كان مُلتقى لأعيان الدروز عند كل مسألة خطيرة أو أمر مُهمّ يتعلّق بمصير أهل الشوف ومستقبلهم. وإنّ هذا السهل كان شاهداً على العديد من الاجتماعات واللقاءات التي كانت تُعقد لفضّ النزاعات وتقرير المصير، كما تشير إلى ذلك كل المراجع التاريخية. ولم يقتصر دوره فقط على الاجتماع الشهير الذي أدّى إلى انتقال الحكم من المعنييّن القيسييِّن إلى الشهابيين القيسييِّن بُعَيد وفاة الأمير أحمد المعني دون عقب. ويلفت العقيلي إلى طمس الكثير من الحقائق المرتبطة بتاريخ السّمقانية وتاريخ الجبل، وكلّ ذلك جرى لغايات معروفة ولم تعد خافية على أحد. والجدير بالذّكر أنّ سهل السمقانية أو هو نفسه المكان الذي اختاره المعلّم كمال جنبلاط لبناء مدرسة العرفان ومستشفاها المشهورَين. مذكّراً بما قاله المعلم في افتتاح المخيّم الكشفي السادس سنة 1974. هنا في مرج السمقانية حيث كان يُنَصّب الحكّام ويُخلعون… كما شهد السهل على معركة البشيرين سنة 1825. ومن هنا تبرز أهمّية هذا السهل لكونه مُحاطاً بعدّة تلال كانت توفّر له الحماية المطلوبة، لافتاً إلى سنديانة كبيرة موجودة في محلة المشرع، وهي تعود إلى تلك الحِقبة. كما يشير إلى منطقة الغشي التي يقوم عليها مركز الصّليب الأحمر اليوم. معدّداً ثلاث قلاع أثريّة من بينها قلعة الحصن حيث قصر محمود باشا أبو هرموش.

ويذكر العقيلي أنّ آل «أبو هرموش» كانوا في السمقانية قبل انتقال محمود باشا إليها سنة 1702 وأنّ محمود باشا كان على علاقة جيدة في بداية الأمر مع الأمير حيدر الشّهابي، لكنَّ والي عكا أمره بالانقلاب عليه مقابل تعيينه أميراً على الدروز، فانتقل على إثرها من نيحا إلى السمقانية وبنى قصره الشهير على أنقاض قلعة صليبيّة، ومنها انتقل إلى دير القمر لتسلُّم الحكم بعد فرار الأمير حيدر إلى المتين. لكن مدة حكم أبو هرموش كانت قصيرة بسبب عناده وقساوة طبعه ما أدّى إلى ابتعاد النّاس عنه، فاضطرّ للتنازل عن الحكم لصالح حليفه يوسف علم الدين اليمني. أمّا شقيقه هزيمة الذي سكن في بعقلين وبنى فيها داراً اعتُبرت تحفة هندسيّة، كما أشار إلى ذلك الأستاذ نجيب الغصيني في كتاب بعقلين في التاريخ. لكنّ انكسار الحزب اليمني في معركة عين دارة سنة 1710 أدّى إلى اعتقال أبو هرموش وهدم قصره في السمقانية وقصر شقيقه في بعقلين انتقاما. وإنّ أملاك آل هرموش في السمقانية انتقلت فيما بعد بالإرث إلى أقربائهم من آل القاضي وآل العقيلي. وما تبقّى من العائلة نزحوا إلى بيروت وطرابلس والبقاع والجنوب. لكن جذور العائلة في بلدة السمقانية مازالت قائمة ومنهم قاسم هرموش الذي شارك في عاميّة أنطلياس. أمّا باقي عائلات السمقانية بالإضافة إلى آل هرموش والعقيلي فهم: القاضي ومصطفى وصادق، وشرف الدين. ولم ينسَ العقيلي أن يقصّ علينا ما كان يُقال في ذلك الزمن عن الثالوث المؤلَّف من البشيرين ونجم العقيلي: المير بشير هو الباب والشيخ بشير جنبلاط القفل ونجم العقيلي الغال. أمّا تسمية السمقانية فهي مشتقة من كلمة «السماء القانية» أو السماء النقيّة.

مبنى بلديّة الجديدة (بقعاتا).
الجدَيْدة

هي قرية وادعة تقع غرب بلدة المختارة وإلى الشرق من سهل بقعاتا الشهير الذي ارتبط اسمه بها فأصبحت تُعرف باسم الجديدة – بقعاتا. وقد جرت محاولات عدّة لسلخ الجديدة عن بقعاتا لكنها باءت بالفشل لأسباب لا مجال لشرحها. في الجديدة توطّنت مجموعة عائلات هي: الفطايري – نصر الله – طليع – حيدر – علامة – شديد – عيّاش.

يصف القاضي الشيخ رياض طليع بلدته الجديدة بالقرية الهانئة الواقعة قبالة المختارة مقر الزعامة الجنبلاطية، متمنّياً عليها أن تبقى محافظة على تقاليدها القديمة وطابعها القروي والبيئي المميّز في قلب الجبل؛ فالشيخ رياض من الرجالات القلائل الذين لم تغوِهم نشوة الانتقال إلى السكن في بقعاتا على الرّغم من شهرتها وتطوّرها السريع، بل آثر البقاء في الجديدة إلى جانب العديد من رجالاتها، ممَّن أحبُّوا البقاء فيها والتنعُّم بمُناخها المعتدل ونسيمها اللطيف المُنبعث إليها من واديها الخلاب مصحوباً بعطره الساحر ونغمات مياه الباروك المنعشة.

يقول الشيخ رياض: إنَّ آل الفطايري من أكبر عائلات الجديدة. وآل حيدر من أقدم العائلات التي توطّنت في هذه البلدة، وهي كانت تنتمي إلى الحزب اليمني، فبعد هزيمتهم في معركة عين دارة نزح القسم الأكبر منهم إلى الشويفات وإلى مناطق عدّة في الشمال والجنوب. أمّا آل طليع فهم من الأسر القديمة التي وفدت إلى لبنان مع الأمراء المعنييّن. مسمّياً أربعة أخوة منهم: طليع وقيس وذيب ويونس. ولقد كان سكنهم الأوّل في كفرنبرخ، ثم غادروها وتوزّعوا بين الشوف وحاصبيا. طليع سكن الجديدة، وقيس وديب ذهبا إلى حاصبيّا، ويونس سكن في عمّاطور وكنيته أبو صالح وينتسب إليها شيخ العقل محمّد أبو شقرا. ويشير القاضي رياض أنّ آل طليع هم من العائلات الجنبلاطية التي لعبت دوراً مميّزاً في تاريخ الموحّدين الدروز. وأنّ قربهم من آل جنبلاط أبقى على مشيخة العقل في عهدتهم 104 سنوات. الشيخ حسن طليع من سنة 1845 الى سنة 1878. والشيخ محمّد طليع من سنة 1878 إلى سنة 1917 والشيخ حسين طليع من سنة 1917 إلى سنة 1949. وقبلهم كان الشيخ أبو حسين قائدبيه طليع الذي لُقِّب بسلطان الأجاويد، وهو شقيق الشيخ ناصيف طليع وقد رحل عن المنطقة مع الشيخ بشير جنبلاط بعد هزيمته في معركة السمقانية لكنه بعد اعتقال الشيخ بشير وإعدامه في عكّا، عاد واستسلم للمير بشير كي يصفح عنه. وكعادته أرسل المير من يتعقّبه وقتله قبل أن يعود إلى الجديدة ولم يسمح بدفنه، فاضطرّ شقيقه أبو حسين للذهاب إلى بيت الدين سيراً على الأقدام ليطلب من المير بشير السماح بدفن شقيقه، ولمّا علم المير أنّ الشيخ «بو حسين» أتى من الجديدة إلى بيت الدين سيراً على الأقدام أمر له بفرس كي يمتطيها فقال له: جئتك ماشياً وسأعود كما أتيت شرط أن تأذن لنا بدفن ناصيف فأجابه: ليكن لك ما تريد.

ومن آل طليع القاضي رشيد طليع وهو أوّل رئيس حكومة في عهد الأمير عبد الله بن الحسين في الأردن وقد تلقّى علومه في اسطنبول، وشغل قبل ذلك قائمقاماً لراشيّا، ومتصرّفاً لطرابلس وحماه كما عُيِّن وزيراً للداخلية في الحكومة السورية الأولى، وكان زعيماً لحزب الاستقلال في سورية، ومندوباً عن الدروز في مجلس النّواب السوري. وحين كلّفه الشريف حسين بتشكيل الوزارة اختلف مع الملك عبد الله لأنّه رفض ضمّ شرق الأردن إلى سورية. في المرحلة الثانية التحق بالثورة السورية الكبرى إلى جانب سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وشارك قائداً في مهمّة الدفاع عن المقرن الشرقي وكان مقرّه في قرية الشّبِكي واستُشهد فيها بعد سنة من اندلاع الثورة، وعندما عزموا على دفنه صاحت إحدى النساء مُحَذِّرة «لا تدفنوا رشيد وهوّي نايم إذا نام رشيد بنام سعد الثورة» فأقرّ الرأي على أن يُدفَن واقفاً. ومن مشاهير آل طليع الدكتور فريد طليع وهو من أشهر أطبّاء الملك عبد الله وكان يومها برتبة زعيم. والدكتور سعيد الذي عُيِّن نائباً عن جبل لبنان بالمجلس التأسيسي السوري. والشيخ حسن طليع الذي عُيِّن وصيَّاً على أولاد الشيخ سعيد جنبلاط. آل الفطايري انتقلوا من كفرنبرخ إلى بطمة ومنها إلى الجديدة. آل نصر الله قدِموا إلى الشوف مع آل جنبلاط.

ساحة بلدة عين وزين.
عين وزين

يقول الشيخ أبو حسان الحسنيّة الذي أصبح على مشارف المئة سنة من العمر أنّ عين وزين تعني عين الماء العذبة وهي قديمة كباقي القرى الشوفيّة، وربما يعود تاريخها إلى عهود بعيدة في التاريخ بالنظر إلى وفرة الآثار والمغاور والكهوف المنتشرة في أراضيها. وكانت في البداية تقطنها عائلة شنيف وهي من الأسر الإقطاعية، بالإضافة إلى عائلتي الحسنية والغضبان. لكن آل شنيف ما لبثوا أن رحلوا عنها إلى عين دارة. ويروي الشيخ أبو حسّان نقلاً عن السّلف أنّ عين وزين كانت محطة اختبار دموي للصّراع اليزبكي – الجنبلاطي في القرن الثامن عشر بين عائلتي الحسنية الجنبلاطيين والغضبان اليزبكيين. وقد سقط للعائلتين عددٌ لا بأس به من القتلى. علماً أن هذا الخلاف انتهى عندما تعقّب نفر من آل الحسنية غريماً لهم من آل الغضبان كان قد لجأ إلى قرية ولغا في جبل الدروز، ولما اهتدَوْا إلى مكان إقامته بعد 7 سنوات من البحث عنه، اقتحموا منزله ليلاً بقصد الأخذ بالثأر، لكنّهم سمعوه يوصي زوجته أن توصد باب البيت جيّداً، فأجابته الزوجة أما زلت تخشاهم بعد كل تلك السنين؟ فانتهرها قائلاً «يلّي ما بيخشى الرجال ما بيكون من الرجال». عندها طرقوا الباب وعرَّفوه بأنفسهم وأخبروه بأنَّهم حضروا لقتله، وقالوا له «لكن لما سمعنا ما قلته عنّا عفونا عنك ونريدك أن تعود معنا إلى عين وزين لننهي هذا الخلاف» وهكذا كان.

الباحثة هبة سجيع الحسنيّة تقول في الدّراسة التي أعدّتها عن قُرى الشوف السويجاني، أن عين وزين موجودة منذ أيام الفينيقييِّن والصليبييِّن، مُعَدِّدةً الكثير من المعالم التاريخية التي تشير إلى ذلك. وقد عُرِفت بشكل خاص في عهد الإمارتين المعنية والشهابية. بعض المراجع تشير إليها بكلمة عين وزين كما تُعرَف اليوم والبعض الآخر بكلمة عين وزيه. وتفيد الدراسة أنّ آل الحسنية هم من القبائل العربيّة التي أتت من شمال العراق. وهم ينتمون إلى الحسن بن علي بن أبي طالب ابن بنت الرسول(ص ع). وفي وادي فاطمة في مكة المكرمة عين ماء تدعى عين الحسنيّة. وأضافت، في عهد التنوخيين كتب المُعز أيبك ملك مصر سنة 1257 إلى الأمير سعد الدين التنوخي كتاباً حدّد فيه الجهات الخارجة عن مقاطعة الغرب التي كان التنوخيون أسيادها ومنها عين أوزيه. وبعد قدوم آل عماد إلى العرقوب حدثت فتنة بينهم وبين آل جنبلاط انتقل على إثرها آل عماد إلى عين وزين ومنها إلى الباروك. وسنة 1812 كانت عين وزين ملجأ لوالي أريحا سعيد آغا، ووالي الشّغر طبويل المغضوب عليهما من الدولة العثمانية. وفي سنة 1825 أتى إلى عين وزين الأمير فارس سيد أحمد شهاب الذي وافق الشيخ بشير جنبلاط على التّحالف معه ضد المير بشير الشهابي.

سوق بقعاتا.
بقعاتا: من سهل لزراعة الكروم والحبوب إلى مدينة أشهر ما فيها السوق التجاري

يقول المختار السابق حسيب حيدر: إنّ بقعاتا قبل أن تصبح مدينة مكتظّة بالسكان وسوقاً تجارياً له شأنه في المنطقة، كانت عبارة عن سهل فسيح مترامي الأرجاء تمر في وسطه الطريق العام المتجهة من بعقلين وبيت الدين إلى المختارة وإلى غالبية قرى الشوف الأعلى. في هذا السهل كانت تزدهر زراعة كروم العنب، وكان مُحاطاً من كافّة جوانبه بأراضٍ سليخ استُخدمت في الماضي لزراعة الحبوب على أنواعها، كالقمح والشعير والعدس والحمّص وخلافه. ولوفرة العنب وجودته كان يوجد في بقعاتا ثلاثة معاصر لدبس العنب، وهو ما يفترض تعيين نواطير لمنع السرقة التعدّي على أرزاق الناس. كما كان يضمّ أيضاً عدداً من زرائب الماشية كالماعز والأبقار. في نهاية الأربعينيّات من القرن الماضي عندما قررت الدولة جرّ المياه من نبع الباروك إلى إقليم الخروب وبعض القرى الشوفيّة، عمدت إلى مدّ قسطل المياه في سهل بقعاتا.

في العام 1956 تعرّض لبنان لزلزال كبير أدّى لأضرار جسيمة ما دفع بمصلحة التعمير إلى استحداث مستودع في أملاك الشيخ أبو حسن نعيم الفطايري لتضع فيه مواد البناء المخصّصة لأهالي الشوف الأعلى لمساعدتهم على إعادة إعمار ما تهدَّم. وبعد تخلِّي المصلحة عنه حوَّل الشيخ الفطايري المستودع إلى دكّان تجاري كان الوحيد في المنطقة.

في العام 1958ومع اندلاع الثورة التي قادها المعلّم كمال جنبلاط ضد حكم الرئيس كميل شمعون والتي عُرفت بـثورة 1958 وقد سقط فيها 58 شهيداً، قرّر المعلم كمال جنبلاط إقامة مقبرة جماعية لهؤلاء الشهداء الأبطال إلى جانب الطريق العام، وهي على الحد الفاصل بين خراج بقعاتا والسمقانية وهي ساحة كبيرة سُمِّيت فيما بعد بـ ساحة الشهداء. ومنذ ذلك التاريخ بدأت بقعاتا تشهد عملية انتقال تدريجي إليها وتحديداً من قرية الجديدة إلى الروابي المشرفة عليها. ومع تقدم السنوات أخذت الأبنية والحارات تتمدَّد إلى سهلها بشكل خجول وخاصة بعد التحاق بعض الشباب من القرى المحيطة بها في الوظائف الحكومية المدنية والعسكرية، وهجرة البعض الآخر للعمل في الخارج بدأت عمليّة شراء الأراضي في بقعاتا بأسعار زهيدة في بداية الأمر. وبالتزامن مع الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي شهده لبنان في تلك الفترة حتى منتصف السبعينيات ازدهرت حركة العمران في بقعاتا وبدأت تأخذ طابع البلدة النموذجيَّة.

ويعود المختار حسيب حيدر بالذاكرة إلى أوّل لجنة تشكّلت في بقعاتا لضبط مخالفات البناء وكانت مؤلَّفة منه ومن السيّدين يوسف غيث وأحمد البتلوني وآخرين، فقد كان الهدف منها المحافظة على الطابع العمراني في البلدة الجديدة وخاصة على جانبي الشارع العام الذي تحوَّل إلى سوق تجاري نشيط بهدف منع التعدّيات عليه. وقد ساعد على ازدهار المنطقة سكنيّاً وتجاريّاً عاملان مهمّان تمثل الأوّل بافتتاح التعاونية الاستهلاكية في بقعاتا سنة 1974. والثاني إنشاء مدرسة العرفان في السمقانية بعد أن وضع المعلّم كمال جنبلاط حجر الأساس لها سنة 1973. وعن المساعي لفصل بقعاتا عن الجديدة يؤكّد المختار أنّها تمّت بدعم مباشر من رئيس الأركان اللواء سعيد نصر الله وشقيقه حسين، وقد حصلا على موافقة مبدئية لهذا الإجراء أيام الرئيس فؤاد شهاب، لكن قرار الفصل هذا لم يُنفّذ بسبب المعترضين عليه.

بعد استشهاد المعلم كمال جنبلاط جرت محاولة جديدة لتنفيذ هذا القرار، وقد كَلَّف الزعيم وليد بك جنبلاط العميد عصام أبو زكي الاهتمام بهذا الموضوع، وبحسب ما علمنا فقد أجرى العميد أبو زكي اتّصالاً بمدير الداخلية آنذاك اللواء هشام الشعار فكان جوابه «وصل بقعاتا بالجديدة أهون بكثير من فصلها» فتمّ الاتفاق على اعتبار بقعاتا حيّاً من قرية الجديدة. على أن يكون المختار الثاني من المسجّلين فيها.

مع اندلاع الحرب الأهليّة سنة 1975 ورجوع العديد من العائلات من أماكن إقامتهم في بيروت وضواحيها، إلى المناطق الآمنة البعيدة عن أزيز الرصاص والخطف والقتل على الهوّيّة، بالإضافة إلى هجرة العديد من الشباب اللبناني إلى الدول العربية والأجنبية التي شهدت نموّاً ملحوظاً في تلك الفترة، انتقلت عدوى السفر إلى شباب الجبل بحثاً عن فرص العمل لهم بعد أن سُدَّت آفاقه في لبنان بسبب الحرب. وقد أصاب هؤلاء الشباب نجاحاً لافتاً. حينها بدأ البعض منهم باقتناص الفرص للاستثمار في بقعاتا، إمّا تجارياً عن طريق شراء الأراضي والاستفادة منها عمرانيّاً واستثمارها عن طريق الإيجار، أو بيع الشقق السكنيّة وخاصة من قبل القادمين من القرى البعيدة. وهكذا بدأت الحركة العمرانية في بقعاتا تتطوّر بشكل لافت وخاصّة بعد تأسيس التعاونية الاستهلاكية بمحاذاة الشارع العام التي اعتُبر حينها من أهم المرافق التجارية في المنطقة. ومن ثمَّ جرى افتتاح مدرسة العرفان ومستشفاها في السمقانية، وبعدها تم انتقال مدرسة اللّيسيه ناسيونال لصاحبها الأستاذ فؤاد ذبيان المدير العام السابق لوزارة الإسكان من بلدته مزرعة الشوف إلى بقعاتا، وافتتاح فرع لـ بنك بيروت والبلاد العربيّة فيها إلى غيرها من المؤسّسات الخاصة المتوسطة والصغيرة الحجم التي شكّلت السوق التجاري بحالته الحاضرة. إلّا أنَّ حركة البناء وبيع العقارات في منطقة بقعاتا – السمقانية – عين وزين المتداخلة بعضها ببعض تراجعت بشكل ملحوظ في فترة الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982وخاصة بعد انتقال المواجهات الدمويّة إلى قلب الجبل بسبب سوء التقدير من قبل بعض الجهات السياسية التي كانت تسعى لتطويع الجبل ممّا تسبّب بالضّرر على نمط التعايش المشترك الذي كان قائماً بين كافة أبناء الجبل. وكانت الغلبة في النهاية لصالح الجهة المُعتدى عليها انطلاقاً من حقِّ الدفاع عن النفس والوجود.

منذ العام 1984 عادت حركة البناء في المنطقة لتزدهر من جديد، دون أن يكون لهذه الفورة العمرانية المخطَّط التوجيهي المطلوب. وقد يكون الزعيم وليد جنبلاط مصيباً في قوله» لقد غدرتنا الأيام ولم نقم بما يلزم من إعداد المخطط التوجيهي لبقعاتا بالشكل المطلوب، لأن تسارع الأحداث وقيام الأبنية العشوائية عطلت القيام بهذا المخطط كما يلزم وإجبار المالكين أن يتقيّدوا بما يتلاءم مع تطوير المدن المستحدثة التي تشكل الشريان الحيوي لكلّ أهالي الشوف».

القرية الطبية في عين وزين | Ain Wazein Medical Village

بعد قيام المؤسَّسة الصحيّة في عين وزين اتّجهت الأنظار إلى الشارع الرئيسي الذي يربط بقعاتا بـ عين وزين وصولاً إلى بتلون والباروك، ولقد سمحت الظروف ورخص الأسعار بشراء الأراضي وإقامة الأبنية السكنية والتجارية. وعليه فإنّ السوق التجاري في بقعاتا – السمقانية لا يمكن فصله عن السوق الممتد من بقعاتا إلى عين وزين حيث يتواجد فيه مرفقان هامّان: تعاونية بقعاتا والمؤسسة الصحيّة (مشفى عين وزين) التي لا تبعد عن الطريق الرئيسي سوى مئات الأمتار إلى جانب عشرات المؤسّسات التجارية والصناعية والزراعية والمطاعم والسوبرماركت. كما يمتد السوق من بقعاتا باتجاه الجديدة وفيه العديد من المؤسّسات التجارية والصيدليّة. ومن بين المرافق التي شهدتها المنطقة كان فندق الرّيف الذي تحوَّل اليوم إلى فرع من جامعة MUBS. وبنك بيروت والبلاد العربية، ومن ثم بنك البحر المتوسط، إلى غيرها من عشرات المؤسّسات الصناعية والتجارية المتوسّطة والصّغيرة الحجم. هذا فضلاً عن مئات المحالّ التجارية والأفران ومحلّات الألبسة والسّمانة والصيدليات الطبّية والزّراعية والمطاعم والباتسّري والمجوهرات وحدائق الألعاب للأطفال ومحطات المحروقات. إلى العيادات والمُختَبرات الطبّية وشركات المقاولات ومكاتب الهندسة على اختلاف اختصاصاتها، والمدارس الرّسمية والخاصّة ومعاهد التّعليم المهني والموسيقي.

الفطايري: «البلدية تولي السوق التجاري اهتماً كبيراً، ونطلب من وزارة الداخلية إعادة النظر بقانون البلديات»

رئيس بلدية الجديدة – بقعاتا المهندس هشام الفطايري أشار في حوار مع الضّحى إلى مجموعة مشاريع ضروريّة وملحّة لتطوير السوق التجاري في بقعاتا أبرزها:

  1. إعادة تجديد الرّصيف بعد الإشكال الكبير الذي خلقه الرصيف القديم لدى بعض التجار لجهة مواقف السيارات لأنّه صُمِّم بطريقة مدبّبة شوّهت شكل السوق، فعمد قسم من التجار على إزالته بشكل تدريجي. أمّا نحن كبلدية فقد وضعنا خطة لإعادة تنظيمه تلحظ كيفية إيقاف السيارات بداخله، وقد استحصلنا لهذه الغاية على قرض من الـ UNDP لتنفيذه وسيُستَكمل بتركيب باروميتر ينظم عملية توقيف السيارات مقابل بدل مادي، بعد أن تمَّ تجهيز الأرصفة بالتّقنيات المطلوبة لهذه الغاية على أن يتم التنفيذ في المرحلة الثانية. هذا يتطلّب إيجاد تسوية للأبنية التي أُنشئت بطريقة عشوائية ولم تلحظ مواقف لسيارات مشغّلي تلك الأبنية ما اضطرّهم لركن سياراتهم في الأماكن المخصّصة للزّبائن. وأقرّ الفطايري بوجود إمكانية لاستحداث مواقف في الجهة الخلفيّة لهذه الأبنية.
  2. وفي الشقّ المتعلّق بحل مشكلة ازدحام السير في السوق، أشار رئيس البلدية إلى وجود نيّة أكيدة لحل هذه المشكلة، وخاصة عند تقاطع ساحة الشهداء في العقار الذي يخص بيت بركة، وقد اتفقنا معهم على إزالة العقار الملاصق بالطريق الفرعي بجانب مدافن الشهداء لتوسيعه، لكن المال غير متوفر لتنفيذه في الوقت الحاضر لا في بلدية الجديدة ولا في بلدية السمقانية. وأضاف، من ناحية عين وزين لدينا خطة جديدة تقوم على تحويل السير باتجاه واحد، وقد بذلنا جهداً كبيراً لتحقيق هذا الإنجاز على أن يبدأ من أمام بناية ذبيان وينتهي عند بناية نصر الله.
  3. النقطة الثانية تبدأ من جسر عين وزين وتنتهي عند محطة نصر الله لتخفيف الضغط. كما أنّ طريق المجلس ستكون باتجاه واحد، وكذلك خط اللّيسيه، والخط الكائن خلف البلدية وطريق الشهداء سيكونان باتجاه واحد. أمّا موضوع الأرصفة فقد نُفِّذ القسم الأكبر منه ولم يبقَ إلّا جزء بسيط من بناية نصر الله إلى بناية ذبيان.
  4. الفطايري اعتبر السوق التجاري في بقعاتا حاجة ملحّة يوفّر على منطقة الشوف الأعلى والأوسط التنقل لتأمين حاجياتهم اليوميّة، كما يشكّل نقطة ارتكاز مهمّة في قلب الجبل. وقال: خطَّتنا تلحظ أيضاً استحداث موقف لسيارات التاكسي أو ما يسمى بـ «كونتر بارك»، وهنا يبرز دور لجنة التّجار في تفعيل دور السوق ليصبح بأهمّية سوق الحمراء وسوق فرن الشبّاك. وهذا يتطلّب تكامل فعلي بين التجّار مع بعضهم عبر مجموعة من النشاطات التي تحفز على الاستثمار في السوق. مع الإشارة أنّ السوق التجاري لبقعاتا وحدها يمتد من ساحة الشهداء إلى محطة بهيج الفطايري على طريق المختارة، ومن مفرق عين وزين حتى محطة البنزين قبل مؤسسة نبيل الغصيني، وهو يضم أكثر من 800 مؤسسة تجارية غير سكنية.
  5. الفطايري طالب الدولة أن تنظر إلى المحال التجارية في سوق الجديدة – بقعاتا بعين استثنائية ولو حتى من خارج إطار القانون، وأن يُعاد النظر بقانون البلديات وفقاً لعدد الوحدات السكنية وليس من عدد السكان. وقال: إن تسعين بالمئة من المسجّلين على لوائح الشطب يدفعون ما يترتب عليهم من عائدات في بلدياتهم، ونحن نقدّم الخدمات لأكثر من 2700 شقّة سكنية ما يعني أنّ كلّ بيت يكلّف البلدية ٢٢٠٠٠ ليرة، بينما القيمة التأجيرية للشقة الواحدة تتراوح مابين 60 الى مئة ألف ليرة فقط. مشيراً في نهاية الحوار معه، أنّ بقعاتا من حيث التاريخ هي أقدم من الجديدة بحكم الآثارات الفينيقية والصليبية التي وجدت فيها.

هرموش
بدوره رئيس بلدية السمقانية المهندس حلمي هرموش الذي يتقاسم هموم سوق السمقانية – بقعاتا كلّ في نطاق مسؤولياته. وفي حوار عدد مجموعة حلول لحل مشكلة زحمة السير الخانقة التي يشهدها الشارع الرئيسي في المنطقة المشتركة بين السمقانية وبقعاتا. وخاصة عند تقاطع ساحة الشهداء. مُبدياً عتبه على ما قامت به الـ UNDP لجهة حصر العمل بإعادة تأهيل الشارع الرئيسي في بقعاتا وحدها، دون أن يشمل العمل شارع السمقانية من محلّة الدوّار حتى ساحة الشهداء، وبهذه الطريقة يمكن الحصول على النتيجة المطلوبة للتخفيف من ازدحام السير.

وقال هرموش، إنَّ بلديته قامت بفتح عدة منافذ لهذه الغاية. ينطلق الأول من جانب محطة «سبستا» صعوداً إلى مدرسة اللّيسيه ومنها إلى طريق الصليّب. الثاني: ينطلق من مدرسة أجيال الغد صعوداً إلى حي الشهداء، ومنه إلى عين وزين وكفرنبرخ بانتظار أن يتم تنفيذه من قبل وزارة الأشغال. مناشداً أصحاب الأملاك دراسة الإيجارات وقوننتها إذ لا يجوز أن يؤجَّر المحل الواحد بـ 800 و1000 دولار، وبعد شهرين أو ثلاثة لا يستطيع المستأجر دفع ما يتوجب عليه فيضطر للإقفال. مطالباً أصحاب المحلّات اتّخاذ مبادرة جريئة وشجاعة لخفض إيجاراتهم. كاشفاً عن مبادرات عديدة تقوم بها البلدية لدعم التجار وهي ملتزمة بزينة الشارع الرئيسي في مناسبات الأعياد.

هرموش شكا من فوضى المضاربة العشوائية في التجارة، وقال: هل يُعقل أن يُفتتح في السوق عشرة ملاحم، وعشرات المحال لبيع الخضار والسمانة والهواتف الخلويّة والمفروشات والأفران وما شابه، مستغرباً عدم دراسة جدوى المشاريع الرِّبحية قبل الوقوع في المحظور.

وعن افتتاح المحال التّجارية الكبيرة مثل المخازن في تشويس سنتر والتعاونية ولـوشركتييه عون والصايغ وحصاد المواسم وغيرهم من السوبر ماركت، رأى أنّ هذا الأمر دليل عافية لكن التجارة تستوجب دراسة الجدوى منها قبل أي شيء آخر. ودعا هرموش لجنة التجّار إلى تفعيل نفسها وتحسين الأداء وعدم التلطّي خلف جمعية تجّار الشوف.

خطّار
بدوره رئيس لجنة تجّار بقعاتا عصام خطار رأى أنّ معاناة التجار تكمن في:

أوّلاً: عدم تنظيم السّير في السوق وهي شكوى مُزمنة.
ثانياً: عدم وجود مواقف للسيارات.
ثالثاً: عدم تنظيم مواقف للسيارات العمومية والباصات.
رابعاً: عدم وجود شرطة لتأمين السير وضرورة قمع المُخالفات والتصدّي للمخلّين بالأمن.
خامساً: الوضع الاقتصادي بشكل عام غير مطمئن، وضرورة إيلاء هذه الناحية الكثير من الاهتمام على اعتبار بقعاتا هي العاصمة التجارية ومركز الثقل السكني والتجاري في الشوف
سادساً: التنوّع التجاري والاكتفاء الذاتي بالأصناف وإيجاد وظائف لقسم كبير من الناس في المحال التجارية. وعن نوع العمالة لفتَ بأنّها في الغالب لبنانيّة، وقد يستعان بالعمالة السورية والأجنبية لسد الثغرات في بعض الأحيان.

وعن الرؤية المستقبلية للجنة تجار الشوف قال خطّار: ليس لدى اللجنة أيّة رؤية مستقبليّة في الوقت الحاضر كونها مرتبطة بجمعية تجار الشوف، ووضع الجمعية مجمّد في الوقت الحاضر ولم نستفد منها من أي دعم مادي. ولفت إلى الشكوى من غلاء الإيجارات، وعدم دراسة الأصناف التي يجري تسويقها من قبل أصحاب المحال التجارية. وسأل لمصلحة من هذه المنافسة العشوائية في بقعاتا، ولماذا هناك 30 فرن لبيع المناقيش، و20 محل للهاتف الخلوي وعشرات المحال لبيع الألبسة ومئات محلات السمانة. مطالباً الدولة بتخفيف الضرائب والإعفاء من الـ TVA.

تجدر الإشارة إلى أنّ تأهيل طريق الصْلَيِّب – مرج بعقلين، خفّف كثيراً من ازدحام السير الخانق الذي كان يشهده السوق التجاري، وخاصة في ساعات الذروة في فترتي بعد الظهر وأثناء عودة الطلّاب إلى منازلهم، وعند المساء، وهذه المسألة في طريقها إلى الحل بفضل الجهود التي تُبذل من قبل بلديَّتي السمقانية والجديدة – بقعاتا. فيما تبقى مسألة ارتفاع الإيجارات والانكماش الاقتصادي على مستوى الوطن هما المشكلة الأساسية التي تؤدي إلى هذا التراجع الملحوظ في سوق بقعاتا الذي لا يختلف كثيراً عن الأسواق الأخرى اللبنانية، فالشكوى هذه ذاتها والتراجع هو ذاته بغياب الدولة عن معاناة التجار في كل لبنان…

مبنى جامعة MUBS – السمقانية.

عن أهميّة وجود فرع لجامعة MUBS في الشوف أوضح مؤسّسها، ورئيس مجلس الأمناء، الدكتور حاتم علامة:

لقد نشأت MUBS في كنف التحوّلات التي شهدها التعليم العالي على الصعيد العالمي، وبعد 19 عاماً تبلورت هويّة الجامعة باعتبارها جامعة تسعى إلى الرّيادة على صعيد لبنان والمحيط.

وانسجاماً مع قيمها جسدت الجامعة أُسس التّطور من خلال رسالة منفتحة على العصر واقتصاد المعرفة، فانضمّت إلى عشرات الهيئات الدولية وتتمتع لذلك بشبكة علاقات مميزة على الصعيدين الدولي والعربي، لذلك من المهم وجود فرع في الشوف لتحقيق الترابط بين متطلّبات العصر وتنمية قدرات شباب وشابات المنطقة وخلق بيئة وعوامل للتنمية المستدامة.

وعن تقييمه لإقبال الطلاب في الشوف على الجامعة، اعتبر أنَّ جامعة MUBS تتميّز بالتطوّر الإيجابي لجهة الزيادة حسب المعدلات المرتبطة بحجم أعداد الخريجين وبالتلازم مع تفعيل نظام الجودة، مع العلم أنّ معدّل الزيادة في لبنان يعاني من الاختناق نظراً للاختلال النسبي بين عدد الجامعات وفروعها وأعداد الخرّيجين الثانويين والمهنيين وقدرتهم على متابعة التحصيل الجامعي.

وبالنسبة لأنواع الاختصاصات المطلوبة ومدى الإقبال عليها رأى أنّ الطلب على اختصاصات الإدارة ميزة العصر نظراً لتوسّع التخصّص وحجم الأعمال وموقع الإدارة في جميع الحقول، وإلى ذلك فإنّ الجامعة تركّز على الاختصاصات العصرية من حيث التكنولوجيا والتصميم، والاهتمام باختصاصات التربية لحاجة القطاع إلى اختصاصيين وكفاءات جديدة، أمّا الاختصاصات الصحية فإنّها تأتي في الأولويّة، وتُعتَبر الشهادات المشتركة مع بريطانيا بصمة تتميز بها الجامعة.

وعن رأيه بـ ضرورة افتتاح فروع جامعيّة في الجبل قال لقد أثبتت التجربة أهمية هذه الفروع، إلّا أنّ فاعليّتها مرتبطة بتعميق الرؤية الإيجابية لتأمين فرصة للطالب لاكتساب خبرات ومهارات وتوظيفها في خدمة أهداف التنمية وخدمة المجتمع، وتعتبر النتيجة ممتازة بالنسبة إلى توفير مشقات الانتقال إلى مناطق بعيدة خاصة بالنسبة إلى الفتيات أو الطلّاب العاملين.

وعن دور الجامعة بتخفيف الأعباء عن كاهل الطلّاب وخاصة الطالبات المتديّنات أشار علامة أنّ جامعة MUBS نشأت على معادلة فريدة من نوعها فهي الجامعة التي التزمت بتأمين أوسع فرصة للطلّاب بأقل كلفة مع الحفاظ على الجودة ومقتضيات التطور.
استندت هذه المعادلة إلى مجموعة من العوامل تبدأ برؤية تقوم على الابتكار والمبادرة، وتستفيد من العلاقات الدولية الخاصة من خلال البرامج المشتركة مع جامعات عالمية عريقة، والمشاريع المتواصلة مع الاتحاد الأوروبي التي أمّنت موارد ثمينة لتطوير الجامعة وتمكين مسارات الجودة فيها. حيث تخصّص الجامعة نصف ميزانيّتها للمِنَح بالرّغم من أقساطها المحدودة وهي تخصّص حسومات نوعيّة للمتفوّقين والمستحقّين ولا يبلغ قسطها 25% من الأقساط العالية، مع الحفاظ على الجودة والاهتمام بالتجربة الجامعية للطالب.

وفي الشق المتعلّق بالمِنَح الجامعيّة والمساعدات للطلّاب المحتاجين، اعتبر أنَّ هذا الأمر يتوقَّف على وضع الطالب أو الطالبة من حيث الوضع الأكاديمي والاجتماعي.

وختم علامة بالقول: إنّنا نتطلّع إلى خلق نوع من التكامل بين الجامعة والمجتمع وتحقيق الشراكة المفقودة بين الجامعة وسوق العمل، وقد كان لافتتاح الشبكة الوطنية للرعاية NWN في الشوف، باعتماد وتطبيق مفاهيم الـ wellness، قيمة مميّزة في الخدمات والتّطوير.

خلْوَة عائلة بو حاطوم حمادة – بعقلين

تقع خلـوة عائلة بـو حاطوم حمادة في مدينة بعقلين حـي الخلوة، الكائن للجهة الغربية منها. قام ببنائها الشيخ أبو حسن رافع بـن أسعـد بوحاطوم حمادة، من بعقلين، والمؤرّخة وصيّته في أوّل شهر مُحَرّم عـام 1301هـ، الموافق لعام 1883م. كان الشيخ أبو حسن رافع شيخًا تقيًّاً، يعتمـر العمامة المـدوّرة، وصفه كاتب وصيّته، بـ (الشيخ التّقي الطاهر المُنعكف في خلوته على عبادة ربّـه).

تتألّف الخلـوة من غُـرف عـدّة فسيحة، بُنيت بالحجر الصّخري المبـوّز، ومسقوفة بطريقة العـقـد. الجـدران مـن الـدّاخل، والأسقف مُـوَرّقة بالطّين الترابي، ولـم تـزل كما هي منـذ أن بُنيـت، ولـم تورَّق بالإسمنت. الغـرفة الرئيسة قائمة على عضائد حجريّة مـع قاعـدة حجريّة في وسط الغرفة. وطريقة البناء هـذه يُطلق عليها «العقـد المصالب». يوجـد بـداخل هـذه الغرفة وقرب المدخل، بئـر لجمع مياه الأمطار، تصله المياه من سطح المبنى بواسطة أنابيب داخلية. فُـوَّهة البئر قطعة حجرية واحدة علـ + و60 سنتيمتراً، مجـوّفة من الداخل بشكل أسطواني قطرها 60 سنتمترا، يمـرّ وسطها دلـو مـربوط بحبل مثبت بحلقة حـديدية، يستعمل لاستخراج المـاء من البئر. وهـذه القطعة الحجريّة محفورة ومنقوشة بشكل هندسي جميل. ويوجـد بئـر أخـرى في الجهة المقابلة من الغرفة، لكنّه مُغطّى بلوح خشـبي، فُرشت فوقه قطعة من السجّاد.

على الجـدار الجنوبي بداخل هـذه الغـرفة جرى تثبيت «محـراب»، فكان يقصدها أشخاص من مذاهب إسلامية أخـرى لتأدية فـروض الصلاة.

الغـرفة المقابلة هي فسيحة أيضاً، قُسمت إلى قسمين بواسطة خزائن خشبيّة في الوسط، وفي أعلى الخزائن يوجـد كواير من الخشب، كانت تُستخدم لخـزن مـادة القمح، وفي جـدار هـذه الغرفة باب خشـبي يصلها بالغرفة الجنوبية نُقش عليه في القسم الأعلى «الدنيا ساعة فاجعلها طاعة».

الأبواب والنوافـذ والخـزائن والرّفوف في الخلـوة، صُنعت جميعها من الخشب، صنعها الشيخ رافع بنفسه، ولم يزل بـاب المدخل الرئيس كمـا هـو. أمّـا النوافـذ الخلفية فقـد جرى تجديدها بواسطة الزّجاج والألمنيوم والحديد، حسب مُقتضى العصر.

أنجـب الشيخ رافـع ثـلاثة أبناء ذكـور هم: حسن وأسعـد واسماعيل. وثـلاثة أبناء إناث هـنّ: عابـدة وفاخرة وورد. وتوفِّي سنـة 1305هـ / 1887م، ودُفـن في مـدفـن خاص قـرب مبنـى الخلوة. أمّـا ابنه اسماعيل فـقـد توفّي قبـل وفاة والـده. وفي سنة 1937م، عمـل السيّـد سليم أسعـد بـوحاطوم حمادة على تجـديد المـدفـن، وبناء ضريح بشـكل هنـدسي ضمن غـرفة مقفلـة. نُقـِش على بلاطة الشاهـد الجنوبي، وتحت مُجسّـم العمامة آيـة الكرسـي. وعلى بلاطة الشـاهـد المقابلة ما يلي:

مـقــام الشيخ التقيّ الطاهر رافع بو حاطوم تـاريــخ 1303هـ. / 1885م.

ضـــــــريــحٌ حـــــــــلّ فيـــــــــــه كــــــــريمُ قـــومٍ
دعــــــــــاهُ إليــــــــــــه مــــــــــولاهُ الــكــــــــــريمُ
إلى دار الســـــــــــــلام مـــضــــــــــى تَقِيّـًــــــــــــــا
بفضــــــــل اللــــــــه يشـمـــلــــــــــه النّعيــــــــــم
فــقــلـــــــــــــتُ رافـــــــــــــعٌ ورعٌ فـــــــــــــــارع
بهـــــــــــــــذا القــــبـــــــــــــــر مفـــضـــــــــــــــال

خـلال الزّلزال الذي حصل بتاريخ 16 آذار سنة 1956، تصدّع البهـو الخارجي للخلوة، الذي كان قائماً على قناطر حجريّة، لكن مبنى الخلوة لـم يُصَب بأذى. فجرى تجـديد بناء البهـو الخارجي، وتـمّ صبّ سطح الخلوة بالباطون، بعـد أن كان سطحاً ترابيّاً. وبعـد ذلك تـمّ إضافة غـرف جانبيّة مـع منافع وإنارة، بُنيت بطريقة حـديثة(١).

تُستخدم الخلوة حاليّاً مجلساً للعبـادة وإقامة الصّلوات والمذاكرات الدينية، وبخاصة ليلة الجمعة من كلّ أسبوع (يوم الخميس مساءً) ويجـري فيها إلقـاء محاضرات بمواضيع ثقافيّة مُختلفة، يحضرها في كلّ مـرّة ما يزيـد على (250) شخصاً، رجالاً ونساءً، حيث خُصّصت غُرف الجهة الشمالية لجلوس النساء، والغرف الجنوبية لجلوس الرجال. وجميع الغرف مجهّزة بأجهزة توصيل الصوت والإنـارة، ومفروشة بشكل نظيف ومرتّب. يجلس الجميع على أرض الغُـرَف، بعـد خلع الأحـذية في الخارج. ويقـوم على خـدمة الخلـوة وإدارة شؤونها حاليّاً، الشيخ أبو غسان حليم حسن بو حاطوم حماده(٢).


المراجع:
  1. مقابلة مع الأستاذ عدنان رفيق بو حاطوم حماده مواليد سنة 1947، في منزله في بعقلين بتاريخ 19/4/2017، وقد أطلعني على وصيّة الشيخ رافع وسلّمني نسخة مصوّرة عنها.
  2. مقابلة مع خادم الخلوة الشيخ حليم حسن بوحاطوم مواليد سنة 1930، في منزله في بعقلين بتاريخ 19/4/2017.

إنحرافُ الأحداث وممارسة العنف

إنّ إنحراف الأطفال أو الأحداث، بات من المشاكل الاجتماعية الأكثر تعقيداً التي تواجهها المجتمعات المعاصرة.

وهذا ما تؤكده الإحصاءات الرسمية حول التصاعد المستمر في نسبة جنوح الأحداث التي تزيد عن النسبة في زيادة عدد السكان، كما هو الحال في معظم بلدان العالم، ومنها لبنان.

سنتناول هذه الظاهرة في لبنان بعد التعريف بها وتناول أسبابها وأنواعها. ومن ثم نستعرض التشريعات الدولية واللبنانية المختصة بها.

تعريف الانحراف

تميل النظريات الاجتماعية إلى اعتبار الانحراف سيرورة سوسيو ثقافية ملازمة لكل مجتمع بشري كما يرى سيزرلاند…(١) ويرى جيفري أن سبب إنحراف السلوك لدى الفرد يعود إلى عدم تكيّفه اجتماعياً (٢). أما الفكرة الأساسية في الاتجاه النفسي فهي أن السلوك الاجتماعي لدى المنحرف ليس عارضاً، فلا بد أن يكون سمة واتجاهاً نفسياً واجتماعياً يميز شخصية الحدث، ويستند إليه في التفاعل مع أغلب المواقف، وإلا كان السلوك سطحياً عارضاً يزول بزوال أسبابه الناشئة عن عوامل إقتصادية أو صحية أو حضارية أو ثقافية (٣).

فالجانح ليس هو الطفل الذي اقترف حادثة سرقة واحدة، أو فعلاً لا-اجتماعياً عارضاً، لأن ذلك ليس دليلاً على توجه عام لدى الطفل نحو السلوك المنحرف. لذلك لا بد من دراسة حالة الطفل في ضوء تاريخ حياته، وسماته الشخصية حتى نستطيع تحديد مظاهر الجنوح (٤).

أسباب الانحراف أو أسباب تكوين الشخصية العنفية عند الأطفال

يظهر عادة سوء التكيف الاجتماعي للطفل مبكراً. فبعد سنوات معدودة من دراسة فاشلة إجمالاً، وفي حالة من إنعدام الدافع، يميل الحدث إلى الهروب من المدرسة بشكل عابر في البداية. ثم ينساق في ذلك لإغراءات متعددة لا تخلو منها حياة أي طفل. يذهب إلى البحر أو إلى المدينة أو إلى أحد أماكن عبث الأطفال المشردين، أو يهرب ويهيم على وجهه في أماكن اللهو. تتميز تجربته العائلية والمدرسية في كل الحالات بالمعاناة. تنتابه مشاعر غامضة بانعدام الارتياح ويحس بشيء من الغربة أو التباعد عن الأهل وعن المدرسة. وقد يجد نفسه مدفوعاً بقوى خفية نحو ترك المدرسة والبيت.

في نظر ديبويست هناك ثلاثة مسالك أساسية تؤدي إلى الانحراف (٥) وهي: الطفل المحروم، والطفل المدلل، والطفل المتماهي بمعايير جانحة. إلا أن النهاية واحدة في كل الحالات رغم أن المسالك إليها تختلف من حالة لأخرى.

الطفل المحروم:
يتجه نحو الانحراف على الشكل التالي:

  • حرمان لا مبرر له وغير عادل (إهمال، نبذ، قسوة، نقص في عاطفة الحب عند الأهل).
  • رد فعل دفاعي حيوي ضد القلق الناتج عن ذلك الحرمان.
  • صراع خطير ومتكرر مع المحيط يؤدي إلى مأساة داخلية وتذبذب ما بين الانسياق وراء الإشباع التعويضي من خلال اللذة الآنية وبين التكيف.
  • ينتهي الصراع في اتجاه المعارضة والعداء للمجتمع والتمرد عليه مع إنسياق وراء إشباع الشهوات بشكل مباشر.

الطفل المدلّل:
يأخذ منحى انحرافي وفق السياق التالي:

  • قصور في تعلم معنى الجهد، وشخصية لم تعرف سوى الإشباع المباشر لرغباتها.
  • الإصطدام بمتطلبات وقيود المجتمع يؤدي إلى قلق شديد وشعور بالغبن وعدم القدرة على التلاؤم مع هذه المتطلبات بالتخلي عن مبدأ اللذة.
  • صراعات خطيرة ومكررة مع المجتمع وسلطانه يؤدي إلى تكوين شخصية جانح يتوجه نحو النمط المنحرف.

في هذين النموذجين، يتعاطى المنحرف مع الآخرين بحذر، وكأنهم أعداء، فضلاً عن إحساسه بالمرارة تجاه غبن المجتمع المزعوم.

التماهي بمعايير جانحة:
لا يعطِ ديبويست لهذا النموذج وزناً كبيراً، إذ يعتبر ان التماهي الجانح لا يفسر لوحده التوجه نحو الانحراف بل لا بد من إدخال البعد النفسي. فالجانح من هؤلاء يمر بمرحلة صراع مع المجتمع الذي يتعارض سلوكه مع معاييره. واستمراره بانحرافه هو نتيجة تطور نفسي داخلي ترسّخ تماهيه بالقيم الجانحة.

تفهّم الأحداث أمرٌ ضرور

إن تفسير ظاهرة الانحراف في أسبابها ليست بالمهمة السهلة أو البديهية. فقد سعى علماء في اختصاصات عدة (علم الإجرام، علم الاجتماع وعلم النفس…) تفسير وتحديد هذه الظاهرة. تعود أولى الدراسات العلمية المتعلقة بشخص المجرم إلى القرن السابع عشر. ولكن النظرية العلمية الأولى لم تظهر إلا في القرن التاسع عشر وعرفت بنظرية لومبروزو.

وقد نشر العالم الإيطالي سيزار لومبروزو، بروفسور في مجال الطب الشرعي في كلية توران، أبحاثاً عديدة حول شخص المجرم إذ اعتبره امتداداً للإنسان البدائي. ويتم التعرف إليه عبر ندب تشريحية وعلامات تشكلية وبيولوجية واضطرابات وظيفية. كما يمكن كشف المجرم من خلال ضيق جبينه وطول عظام فكه وبروز وجنتيه (٦). وفي أيامه الأخيرة، حاول لومبروزو أن يثبت الصلة بين داء النقطة والانحراف. أما تلميذه أنريكوفرّي، فقد إستوحى من تعاليمه لتصنيف المجرمين. وبهذه الطريقة، اعتبر أن المجرمين المتخلفين يتصرفون تحت تأثير مرض عقلي، في حين يتميز المجرمون بالولادة بخصائص نفسية خاصة (فقدان للحس الأخلاقي والغفلة والابتذال). ويصبح المجرمون الذين إعتادوا الإجرام إنتكاسيين محنًكين. ويصبح المجرمون بدافع الشغف أشخاصاً عصبيين يتصرفون خاصة نتيجة الحب والغيرة وعدم حصولهم على ما يبتغونه. وكما يمكننا الملاحظة، إن تصنيف فيًري يبقى خاضعاً لنظرية لومبروزو المستندة على الوراثة الجرمية.

إلّا أنّ علم الإجرام انتقل تدريجياً من نظرية «المجرم بالولادة»، إلى نظرية المنحرف بنيوياً أي إلى نظرية الشخصية السيكوباتية، وهذا بفضل الأطباء الذين شددّوا على الدور الذي يلعبه الطب النفسي في تفسير الجرم. وحصل ذلك، خلال مرحلة زمنية كان لفرويد تأثيراً كبيراً فيها.

وهذا ما ساهم في اعتماد القانون الجزائي على الطب النفسي من أجل تحديد ما إذا كان مرتكب الجرم قد تصرف تحت تأثير حالة من الجنون، وبالتالي قد يستطيع الاستفادة، عند صدور الحكم، من أسباب تخفيفية. إضافة إلى ذلك، نشأ مفهوم خطورة هؤلاء الأشخاص وضرورة إستحداث مصحّات خاصة بالمجرمين المختلّين.

لقد حاول أيضاً أنريكو فيرّي الجمع بين التيارات التي تعطي الأولوية في علم الإجرام للعناصر الاجتماعية والأخرى التي تجعل من الإجرام نتيجة لعناصر فيزيولوجية وسيكولوجية. ودون تجاهل أهمية العناصر الاجتماعية، فقد لفت فيرّي النظر إلى أن ليس كل الأشخاص الذين يخضعون لتأثيرات معينة يقدمون على تصرفات جانحة، وبالتالي فإن في كل عمل جانح تأثير للحتمية النفسية للإنسان والبيئة التي تطور فيها. ويعود الفضل للإيطالي بنينيودي تيليو في التأكيد أن الجريمة هي تعبير عن عدم تكيّف اجتماعي، مستبعداً نظرية الوراثة الجرمية، بل معترفاً بوجود ميول جرمية لدى بعض الأشخاص ذوي استعداد لارتكاب الجرائم. وتكمن الصعوبة في القدرة على الإحاطة بأصحاب القابلية الجرمية مع الإشارة إلى أن الاكتشاف المبكر لهم يجعل من الوقاية حجر الأساس في الأنظمة الردعية (٧).

وتجدر الاشارة الى أن نظرية لومبروزو وفيرّي الوضعية، التي هدفت إلى حماية المجتمع أكثر من الاهتمام بالمنحرف، تجاوزها الزمن اليوم. فلومروزو لم يتمكن من إقناع كثيرين على المدى البعيد بنظرية «المجرم منذ الولادة». ولقد لقيت نظريته إنتقادات لاذعة من عدة علماء في الجريمة وخبراء في علم الإنسان، منهم الفرنسي ليونس مانوفريه، عالم بالإجرام، الذي نقد المقاربات الفيزيولوجية للجريمة، كما أسقط كافة التحاليل المنطلقة من علم الأمراض، وخلص إلى أن السلوك غير المستقيم والمنافي للآداب، إنما هو نتيجة عوامل خارجية دافعة إلى الانحراف، كتربية معيبة وناقصة، وظروف مفسدة. واعتبر نظرية لومبروزو «نظرية متخلفة» غير مبرهنة علمياً ومن الصعب برهنتها (٨). وهكذا، تبقى العوصامل الاجتماعية من أهم العوامل الدافعة إلى الانحراف، علماً أن ليس هناك من سبب أوحد لانحراف الأحداث بل هو نتيجة لتشابك عدة عناصر اجتماعية عائلية ونفسية وربما شخصية من هذه العناصر (٩).

الأسرة هي العامل الأول في عملية الاندماج الاجتماعي، كما يمكن أن تكون العامل الأهم في دفع القاصر أو حتى حثه على سلوك طريق الانحراف. في هذا السياق لقد حدد West and Farrington خمسة عناصر تنبئ بالانحراف، غالبيتها متعلقة بأوضاع العائلة الاجتماعية:

  • كثرة عدد أفراد العائلة الواحدة.
  • انحراف أحد الوالدين أو الأخوة الكبار.
  • جهل للأساليب التربوية.
  • تدني دخل العائلة.
  • ضعف حاصل الذكاء لدى القاصر المقصود.
العوامل العائلية

إن المشاكل العائلية التي يعاني منها الأحداث المنحرفين، تدور بشكل خاص حول أربعة محاور:

الطريقة التي تمارس بها السلطة داخل العائلة:

  • بعد الوالدين عن أولادهم وضعفهم تجاههم، يؤدي إلى خضوعهم لنزوات هؤلاء الأولاد بغية تجنب المشادات والمشاكل معهم.
  • اعتماد الوالدين مبادئ أخلاقية مختلفة متضاربة مع تلك المعتمدة في المجتمع بصورة عامة.
  • قيام الوالدين بتحديد المبادئ والقوانين الأخلاقية بطريقة صحيحة وعدم تطبيقها في حياتهم اليومية مع أولادهم الذين يعيشون في ضياع، بسبب هذا التناقض بين القول والفعل.
  • تعسّف الوالدين في استعمال السلطة: سوء المعاملة والضغوط النفسية والجسدية على أولادهم.

طبيعة الحنان والعطف المؤمنان من قبل الوالدين:

تنبّه الوالدين وحنانهم تجاه أولادهم هما عنصران أساسيان في بناء الثقة والقدرة على المبادرة وكذلك الاستقلال الداخلي. إن القصور العاطفي قد يؤدي إلى خلل في شخصية القاصر وربما إلى انحرافه. وقد يكون لهذا القصور عدة أوجه: القصور العاطفي المتواصل في سن مبكرة، الرفض العاطفي الخطير تجاه الأولاد، والعلاقات العاطفية غير المرضية.

الرابطة الأسرية أو العائلية

إن تفكك الأسرة أو انفصال القاصر عنها يؤثران على توازنه. وهذا ما يحصل عند غياب أحد الوالدين بسبب الموت أو السفر أو الطلاق، أو تعدد الزيجات، أو تمزّق العائلة خاصة في مرحلة المراهقة.

الديناميكية العائلية وسياق التماثل

تكمن المشكلة هنا في تضارب الأدوار داخل العائلة (دور الولد، الوالدة، علاقة الزوجين، الأولاد، الأخوة والأخوات)، سيما إذا كانت طبيعة العلاقات َمَرضية. وهذا التضارب في الأدوار يتجلى عبر المشاكل التالية: غياب الصورة الإيجابية التي يمكن للقاصر التماثل بها، تماثل القاصر بصورة سلبية تجسد الانحراف، تماثل القاصر بصورة مرفوضة وغير محترمة من قبل أحد الوالدين. وقد تكون هذه الصورة تمثّل أحدهما، اعتماد القاصر تصرف من شأنه لفت الأنظار والتميز عن أشقائه. كما يمكن للقاصر أن يكون أيضاً كبش المحرقة، تعتبره العائلة مسؤولاً عن كل المشاكل التي تصادفها مع العلم أن المشكلة الأساسية هي وضع العائلة المَرَضي.

من الملاحظ أنه كل ما ازدادت تلك المشاكل ضمن العائلة، كلما دفعت بأفرادها نحو الانحراف. ومع التغيرات التي تمر بها العائلات التي أعيد تكوينها، تكثر التساؤلات حول مدى تأثير هذه العوامل الجديدة على العائلة وأفرادها، ناهيك عن الضائقة الاقتصادية التي تزيد من الضغوط وتبعد المسافات بين أفراد البيت الواحد.

ورغم ذلك، إن عدداً من الشبّان المنتمين إلى عائلات دافعة إلى الانحراف، استطاعوا التغلب على هذه الظاهرة، لا بل تمكنوا من أخذ العبر والاستفادة من الخبرات السيئة التي عاشوها، كونهم يتحلون بقدرة على التكيف، فأصبحوا كالحصن المنيع أمام تلك الصعوبات التي تكون عادة فتاكة.

ومن الأمثلة اللبنانية عن دور المشاكل داخل الأسرة، في دفع الأطفال أو الأحداث الى الانحراف نورد هنا تجربة أحد الذين كانوا يتعاطون المخدرات وتابعوا برنامج التأهيل في تجمع «أم النور»:

المدرسة

تعتبر المدرسة العامل الثاني الأهم بعد الأسرة في عملية الاندماج الاجتماعي، فهي تلقن القاصر مجموعة من القواعد، وتقترح عليه نماذج ومثل من شأنها دفعه نحو حياة اجتماعية مستقرة ومنسجمة. كما أنها تساهم في تطور القاصر من الناحية الفكرية والعاطفية والاجتماعية وتحضره لمواجهة المستقبل.

كما أن العملية التربوية مبنية على التفاعل الدائم والمتبادل بين الطلاب ومدرسيهم. حيث أن سلوك الواحد يؤثر على الآخر (الطالب يتماثل عادة بالمدرس) وكلاهما يتأثران بالخلفية البيئية، أي الإطار العام للمجتمع والمدرسة. كما أن للأهل دورهم أيضاً، فالمشاكل المدرسية مرتبطة عامة بمشاكل عائلية.
إن العوامل التي قد تدفع بالقاصر خارج المدرسة والتي قد تحثه نحو طريق الانحراف تتوزع على ثلاث محاور:

الإطار العام للمدرسة: عدم احترام التلميذ، وعدم الاستجابة لحاجة الفهم والمعرفة والنقاش وإبداء الرأي في عدة أمور.

علاقة المدرّس بالتلميذ: إذا كانت مرتكزة على إحاطات وكبت وقمع التلميذ.

علاقة الأهل بالمدرسة: إن معظم ذوي الأحداث الذين يعانون من مشاكل مدرسية، يعترضون على أداء المدرسة من خلال انتقادهم لأنظمتها وبرامجها، أو عبر عدم مراقبة حضور أولادهم إلى المدرسة، أو حتى من خلال عدم مبالاتهم بما يجري في المدرسة عامة.

فإذا لم يكن هناك تناغم وتفاهم وحوار بين المدرسة والمدرس والأهل والتلميذ قد يواجه هذا الأخير عدة مشاكل منها:

  • عدم التكيف المدرسي: نعتبر أن القاصر يعاني من مشكلة عدم التكيف المدرسي عندما يتعرض لرسوب متكرر، أو عندما يكون غير مكترث لفروضه المدرسية.
  • التسرب المدرسي: أي عدم الالتحاق بالمدرسة يومياً. وهذا يعني بالطبع غياب الرقابة من قبل الأهل والمدرسة على السواء.
  • عدم الانضباط: وتترجم هذه المشكلة المسلكية المقلقة بتصرفات من قبل التلميذ كمضايقة الصف والمعلم عن قصد، وكثرة الحركة والميل إلى الشغب، واعتماد الغش في الامتحان، وإظهار نزعة إلى الهدم والتخريب.

وهذا النوع من السلوك لدى الطالب ينبئ بإمكانية سلوكه طريق الانحراف. وتلعب المدرسة دوراً كبيراً ومهماً في هذا الخيار عبر طريقة معالجتها لهذه المشاكل المسلكية التي يعاني منها التلميذ. ففي معظم الأحيان تعمل المدرسة على عزل هؤلاء التلامذة أو طردهم، مما يسرع في قرار تخليّهم عن الحياة المدرسية وما تمثله من علم وانضباط واندماج اجتماعي.

تعتبر المدرسة العامل الثاني الأهم بعد الأسرة في عملية الاندماج الاجتماعي
الرِّفقة

إن العيش ضمن مجموعات يمثل عاملا مهماً في التطور الطبيعي للمراهق. فمنذ دخول الطفل إلى المدرسة، يصبح للرفاق دور مهم في حياته. في البداية يبقى تأثير الأهل على ولدهم أقوى من تأثير الرفاق. ولكنه يخف تدريجياً عند بداية سن المراهقة حيث تنقلب المعايير ويصبح الأهل والمدرسون في الدرجة الثانية.

فبالنسبة إلى المراهق تمثل المجموعة حقل اختبارات بعيداً عن أنظار الراشدين يسعى من خلالها إلى بناء الهوية التي سيعتمدها في المستقبل. فمجموعة الرفاق تؤمن له الدعم العاطفي كما تسمح له ببناء علاقات مع الجنس الآخر، وتدعمه في حال جابه أي مشاكل مع السلطة الوالدية أو مع أي راشد آخر. فتصبح هذه المجموعة مكاناً يتعلم المراهق عبره قواعد الحياة في المجتمع الأوسع. وإذا كانت الرفقة من رفاق السوء، أو إذا تعدت كونها مجموعة من الرفاق وانتقلت لتصبح عصابة، تلعب دوراً مهماً في دفعه الى الانحراف. فللرفاق أهمية كبيرة بالنسبة إلى المراهق فعبرها تنقل قواعد الحياة في المجتمع الأوسع.

والعصابة هي مجموعة من المراهقين، يترأسها أحدهم وتقسم الأدوار على الباقين وفق شخصياتهم ويعتمدون طقوساً وعادات خاصة بهم قد تكون غامضة وتدعو للريبة. تنشأ العصابة في المدرسة أو في الشارع، وتنحصر أعمالها في معظم الأحيان بالإيذاء والسرقة والدعارة وتعاطي الممنوعات والمتاجرة بها. وتجدر الإشارة إلى أن المراهق الذي قرر الانتماء إلى عصابة ما، لم يكن بالضرورة مقيد القرار أو مسلوب الإرادة، بل فعل ذلك رغبة منه بالانتماء إلى المجموعة، فيقبل بها ويقوى بها.

إن هذه الظاهرة تبقى قليلة الانتشار في لبنان، مع العلم أنه واستناداً إلى إحصاءات مصلحة الأبحاث في وزارة العدل، عام 2001، نلاحظ تزايد السرقات ضمن مجموعات من المراهقين. ورغم أن تلك المجموعات تبدو غير منظمة، وبالتالي لا يمكن وصفها بعد بالعصابات، ولكن قد يكون من الضروري العمل على استيعابها والإحاطة بها قبل أن تتبلور أكثر، خاصة وأن ارتكاب أعمال السوء ضمن عصابة، يقدم للقاصر الدعم النفسي والتقنيات الأوسع والتخطيط، كما يسمح له بزيادة أرباحه المالية والتغلب على خوفه وشعوره بالذنب لمخالفة القوانين.

عمل الأطفال

إهتمت الاتفاقيات الدولية بقضية عمل الأطفال وتحديد القواعد التي تنظم هذا العمل لناحية العمر وفقاً لطبيعة وخطورة هذه الأعمال. كما اهتمت بالبعد الاجتماعي والتربوي للطفل. وظلت ظاهرة عمل الأطفال تحظى باهتمام كبير تضاعف في العقدين الأخيرين، نظراً لأبعادها الاجتماعية والإنسانية، التي بدأت تثير القلق، خاصة في البلدان النامية.

ظاهرة عمل الأطفال تحظى باهتمام كبير تضاعف في العقدين الأخيرين، نظراً لأبعادها الاجتماعية والإنسانية، التي بدأت تثير القلق، خاصة في البلدان النامية

أما لبنان الذي وقع على اتفاقية حقوق الطفل في 18 تشرين الثاني 1991، فقد سعى إلى التوفيق في تشريعاته ذات العلاقة بالأطفال مع أحكام تلك الاتفاقية، وما
سبقها من اتفاقيات عالمية ذات علاقة بالطفل، وخاصة في مجالات العمل. وبما أن تلك الاتفاقيات تفرض تعيين حدود دنيا لتشغيل الأطفال، عدل لبنان قانون العمل المتعلق بتشغيل الأطفال بتاريخ 24/7/1996، وذلك برفع سن التشغيل بوجه عام من ثماني سنوات إلى اثنتي عشرة سنة، ومن اثنتي عشرة سنة إلى
خمسة عشر سنة عند ممارسة بعض الأعمال المرهقة.

كما حاول المشترع اللبناني حماية الطفل العامل، فحدد أنواع الأعمال التي يسمح له ممارستها، كما الزم أرباب العمل الذين يرغبون باستخدامه بشروط عدة متعلقة بظروف وساعات العمل، التي من المفترض ألا تتعدى الست ساعات يومياً، يتخللها ساعة للراحة على الأقل.

إن هذا القانون الذي حاول تأمين الحماية اللازمة للأطفال العاملين، بقي غير معمول به في معظم الأحيان، لعدم مراقبة تطبيقه. فلا زلنا حتى اليوم نصادف أطفالاً لا يتعدى سنهم التسع أو العشر سنوات يعملون لساعات طويلة. وتكمن الخطورة في أن عمل الأطفال المبكر يؤدي إلى حرمان الطفل من أحد الحقوق الأساسية وعلى وجه التحديد، حق الطفل في التعليم وحقه في مستوى معيشي ملائم. وكون عمل الأطفال يتسم عامة بعدم الاستقرار، فهم معرضون للتشرد والعيش في الشارع، وربما سلوك الطرق الملتوية كالانحراف وغيره.

العوامل الاقتصادية

يشكل الفقر دافعاً أساسياً الى الانحراف والإجرام، مع التذكير أن هذه الظاهرة ليست غائبة تماماً عن الأوساط الاجتماعية الميسورة. ومن العوامل الاقتصادية التي تساهم في نشؤ ظاهرة الانحراف:

إخفاض مستويات الدخل الفردي: ويُمكن أن ينعكس بصورة مباشرة على سلوك رب الأسرة وبصورة غير مباشرة على سلوك الأبناء ذاتهم. فقد يلجأون، في سن الطفولة والمراهقة، إلى تعويض ما يشعرون به من نقص في تلبية حاجاتهم، بطرق غير مشروعة.

إحساس الشباب بمستقبل مجهول: وحُجتهم في ذلك تدور حول ضآلة الدخل حتى بعد إتمام تعليمهم في أعلى مراحله. ومما لا شك فيه إن هذا الإحساس ينعكس على نفوس هؤلاء يأساً وإحباطاً، وربما يسهل لهم طريق الانحراف والجريمة كبديل مغر يوصلهم إلى ما يطمحون إليه بصورة أسرع.

البطالة: تلعب دوراً في دفع الإنسان نحو الانحراف سواء نتيجة للفراغ وللشعور وبالنقص الذي تولده عنده، ولعدم تمكنه من تأمين استقلاليته وحاجاته الأساسية، مما يؤدي إلى إمكانية انزلاقه في هاوية الإدمان على المسكرات، وكافة أنواع المخدرات، وربما يسعى إلى السرقة أو إلى جرائم أكبر لتأمين حاجاته من المخدرات أو حتى حاجاته الأساسية من مأكل وملبس وغير ذلك.

ومن الأمثلة اللبنانية حول دور العوامل الاقتصادية في دفع الأطفال الى الانحراف، نورد حادثتين أوردتهما الصحف اللبنانية، ولطالما قرأنا في الصحف والمجلات عن عصابات يقودها أحداث، وحتى فتيات صغيرات السن نسبياً، جرى رميهم منذ الصغر في الشارع. وهكذا إضطرت والدتي لإعالة أربع فتيات «كنت كبيرتهن» فكانت المسكينة تقضي نهارها في تنظيف المنازل والشركات. وخلال تلك الفترة العصيبة جاءتني إلى المنزل سيّدة تسكن في الحي. وعرضت على والدتي تأمين عمل لي لمساعدتها في إعالة العائلة وأخبرتها أن طبيعة العمل هي في منطقة… عند عائلة محترمة ومرموقة… تلك السيدة أدخلتني، بالحيلة والمسايرة وبالمال، إلى عالم الشرور وأنا في الرابعة عشرة من عمري… وتم القبض عليّ وأنا متلبسة بتهمة الانحراف الخلقي، إنني اليوم أعيش أتعس لحظات حياتي…»(١١).

وهكذا، تقع العوامل الفردية للإجرام، في ثلاثة أنواع(١٢): العوامل المرضية العقلية التي تتمثل بالتخلف العقلي (Les arriérations mentales)، الأمراض العقلية العضوية التي تتمثل بالجنون (La démence)، الأمراض العقلية الوظيفية التي تعود لأسباب نفسية منها: مرض الذهان أو اختلال الوظائف العقلية، والعصاب، والخلل السيكوباتي.

إن هذه الأسباب تساهم في تكوين شخصية عنيفة لدى الطفل. من خلال دراسة أجرتها مديرية قوى الأمن الداخلي، في معهد قوى الأمن الداخلي، حول العدالة والمجتمع وحماية الاحداث، بالتعاون مع مركز الأمم المتحدة للوقاية الدولية من الجريمة ـ مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات ومنع الجريمة، نستخلص ملامح شخصية الحدث المخالف للقوانين الجزائية في لبنان على الشكل التالي(١٣):

الخمول: كثيراً ما نلاحظ هذا السلوك عند الحدث المخالف للقوانين الجزائية، والذي يعيش في فراغ كبير، ويصعب عليه تنفيذ أي قرار يتخذه. فهو غير مبال وغير قادر على أخذ المبادرة أو القرار بل يخضع لما تفرضه عليه الظروف.

عدم الاستقرار: تتميز شخصية الحدث المخالف للقوانين الجزائية، بعدم الاستقرار من كافة النواحي: فهو عامة مزاجي، يصعب عليه الالتزام بعمل أو بنشاط ما. ويطال عدم الاستقرار هذا قدرته على التركيز، مما يفسّر بعض الشيء رعونته في الأعمال اليدوية، حيث كثيراً ما يخطئ.

العدوانية: تأتي مظاهر العدوانية لدى الأحداث المخالفين للقوانين الجزائية مختلفة تبعاً لاختلاف شخصيتهم لناحية النشاط والحيوية. مع العلم أن لديهم طاقة باطنية أو غير معلنة من العدوانية تتجلى حسب المواقف. ويعبر الأحداث المخالفون للقوانين الجزائية عن عدوانيتهم تلك بطرق مختلفة، إما تجاه بعضهم البعض خاصة عند حصول مشاجرة، أو تجاه الفتيات. وقد تترجم العدوانية أيضاً بارتكاب السرقات وأعمال العنف تجاه الأشخاص الراشدين.

الانحراف مع الغرائز: إن هذا النوع من الطباع يميز الكثير من المراهقين، ويبدو مسيطراً في مجموعات الأحداث المخالفين للقوانين الجزائية. فهم غير قادرين على السيطرة على غرائزهم وأهوائهم كونه لم يلقنهم أحد هذا التصرف. والراشدون المحيطون بهم غالباً ما يكونون هم أيضاً غير قادرين على السيطرة على ذواتهم فنلاحظ مثلاً أن القسم الأكبر من السرقات أو الهروب من المنزل يكون متسماً بعدم قدرة الحدث على السيطرة على نزواته وعلى أهوائه، فيندفع إلى تلك الأعمال دون تفكير.

حاجة الإشباع الفوري للرغبات: تأتي هذه الحاجة لتعزيز ما ذكر آنفا. فالأحداث المخالفون للقوانين الجزائية، لا يقبلون أن ترجئ رغباتهم وهي كثيرة. فبالنسبة إليهم قيمة الشيء لا تكمن في قيمته المادية بل بالأحرى بقوة رغبتهم بالحصول عليه، لا يعرفون الانتظار حتى ولو لم تتوفر لديهم القدرة الشرائية للحصول على مرادهم. كما أنهم يحتاجون إلى بلوغ النجاح بسرعة، ويتملكهم الإحباط أمام أول فشل كونهم يرفضون الفشل، مع العلم أن فرص النجاح لديهم وإمكانية تحقيق طموحاتهم ضئيلة قياساً على قدراتهم. إن الحاجة إلى بلوغ النجاح سريعاً تفسر ولو جزئياً عدم اندفاعهم نحو العمل (العمل وفق ما حدده القانون اللبناني في مجال عمل الأطفال)، فمن الصعب عليهم انتظار نهاية الأسبوع أو الشهر حتى يتقاضوا أتعابهم، وحتى ولو قرروا الرضوخ إلى هذا الأمر، فراتبهم المتدني عامة (كونهم في معظم الأحيان غير متخصصين) لن يكون كافياً لتحقيق تطلعاتهم الكبيرة.

عدم الاكتراث: لا يهتم الحدث المخالف للقوانين الجزائية إلا للأمور التي تعنيه مباشرة، فالسياسة والاقتصاد وما يدور في العالم والأمور الروحية ليست محطاً لاهتمامه كونها أمور تتطلب منه جهداً للبقاء على إطلاع دائم عبر متابعة الأخبار. فهو يفضل التهرب من الواقع عبر الغوص في عالم السينما الذي يقدم له عالم الخيال الذي يبتغيه دون أن يقوم بأي جهد يذكر.

الحاجة إلى الهروب: ذلك، حتى يتخطى الحدث الواقع ويتملص منه، كونه يعتبر أنه من الصعب أن يتعايش معه، يلجأ إلى الهروب عبر التسكع واحتساء الكحول والإدمان على المخدر وعلى أفلام السينما والتلفزيون… أي إلى كل ما يقدم له الفرصة للتفلّت من الواقع. فنراه مثلاً مسحوراً بالألعاب الأوتوماتكية والإلكترونية كالفليبرز والبايبي فوت والعاب الكمبيوتر. وحتى إن لم يملك المال للمشاركة بهذه الألعاب، فقد يمضي ساعات في أماكن اللهو يتأمل اللاعبين غافلاً عما يدور من حوله.

القلق: إن القلق الذي يسيطر على الحدث رغم محاولة طمسه والتستر عليه، يشكل أساساً لكل ما سبق وتكلمنا عنه من الطباع التي تميز الحدث المخالف للقوانين الجزائية. إن هذا القلق هو نتيجة للحرب النفسية التي يشنّها القاصر على ذاته بهدف تجاهل مشاكله. وتترجم عامة بتصرفات عدوانية تخفي شعوراً بالذنب تم كبته منذ زمن. فيخاف الوحدة والهدوء، ويخشى من ذاته، ويشعر بعدم الأمان أمام الراشدين بشكل عام، وتجاه العمل الذي سيجّبر على التغيير من عاداته، وأمام قرار عند اتخاذه، وغيرها من المخاوف التي ليست سوى تعبيراً عن خوفه من الفشل، والتي من شأنها أن تؤدي به إلى الفشل الذي يخشاه بقوة.

وهكذا نجد انه لا يمكن تحديد سبب واحد للانحراف. فقد دلّت الدراسات والأبحاث أن رفض القيم وقواعد السلوك والتنكر لها قد ينتج من أسباب تتعلق بالمجتمع ككلّ، أو أسباب تتعلق بالناشئ ومحيطه. وفي جميع الأحوال فإن تفاعل مسببات عدّة، وتكرار بعضها باستمرار، يؤديان إلى إيجاد مناخات مؤاتيه للسلوك المنحرف. ويُعتبر المراهق والشاب من الفئات الأكثر عرضة لهذه المسببات. وغالبا ما تكون هذه الأسباب فردية، بما تشكله من مواصفات لشخصية، أو أوضاع يعيشها الفتى تساعد في وقوعه في الانحراف، كعدم الاستقرار في العلاقات داخل الأسرة أو في المدرسة، والعدوانية الزائدة في التصرف والكلام، والفشل المتكرر والانفلات السلوكي والإحباط. وجدير بالذكر أن مرحلة المراهقة التي غالباً ما تتسبب بحالات من القلق والشعور بالكآبة وعدم الاستقرار والميل إلى التصدي ومعارضة الكبار وتجاوز الممنوعات، قد تشكل مرحلة أكثر عرضة للانحراف من بقية المراحل، إذا لم ترافقها المواقف التربوية السليمة من قبل الأهل والمربّين والمحيط.

ويبقى حديث المعالجات، أو محاولات المعالجة، وهو أيضاً موضوع معقد ويحتاج إلى بحث مستقل.


المراجع:
  1.  Sutherland, (E), Principes de Criminologie, Paris Cujas, 1966.
  2. C.R, “An Integrated Theory of Crime and Criminal Behavior”, Journal of Criminal Law
  3. الشرقاوي. أنور محمد، انحراف الأحداث، القاهرة، دار الثقافة 1997، ص 95.
  4. Andry, (R.C), delinquency and Pathology, Mitchen Book, London. 1960,P. 120
  5. حجازي، مصطفى، ص 61 و 62.
  6. الجمهورية اللبنانية. وزارة الداخلية والبلديات – مديرية قوى الامن الداخلي، «العدالة والمجتمع وحماية الاحداث»، لبنان، المديرية العامة لقوى الامن الداخلي، طبعة أولى، 2002، ص 48 و49.
  7. المرجع نفسه، ص 49.
  8. المرجع نفسه، ص 49.
  9. العدالة والمجتمع وحماية الاحداث، المرجع السابق، ص 50، 54.
  10. مقابلة جرت مع أحد الشباب الذين كانوا يتعاطون المخدرات وتابعوا برنامج التأهيل في تجمع «أم النور»، عام 2005.
  11. جريدة السفير 4 كانون الأول 1997.
  12. الجمهورية اللبنانية – وزارة الداخلية والبلديات – مديرية قوى الامن الداخلي، العدالة والمجتمع وحماية الاحداث، لبنان، مركز الامم المتحدة للوقاية الدولية من الجريمة، مكتب الامم المتحدة لمكافحة المخدرات ومنع الجريمة ODCCP- 2002. «العدالة والمجتمع وحماية الاحداث»، ص54.
  13. المرجع نفسه، ص 55 و56.

آفةُ الطلاق

سيّدتي المُواطنة… سيّدي المواطن، رسالتي إليكما
الطّلاقُ آفة!

الطّلاق – مساوِئُه ونتائجه الوخيمة يا أسفي، ويا لوعتي، على الوضع المأساوي الذي وصل إليه بلدنا حول موضوع الطّلاق، وأصبح في الآونة الأخيرة، ظاهرة عامّة في مجتمعنا تدعو إلى القلق والارتياب، وهو يزداد انتشاراً في وطننا الحبيب لبنان. الطّلاق هو أبغض الحلال، لما يترتّب عليه من آثار سلبيّة، تُفكّك الأسرة، وتزيد العداوة والبغضاء، وتؤثّر سلباً على الأطفال بالإضافة إلى الآثار الاجتماعية والخلُقية والمساوئ التي قد تؤدي إلى الاضطرابات النفسيّة وصولاً إلى السلوك المُنحرف.

فاذا كان الطلاق له سلبيّات ومساوئ على الكبار فما بالُك على الصّغار والمراهقين الذين يحتاجون في كلِّ مراحل العمر إلى القدوة والتكاتف من أهلهم والسّهر والتّربية الخلُقية والقيم المثاليّة من الأب والأمّ، لمواجهة هذا الوقت العصيب، الذي كثُرت فيه الفتن والظواهر المُخِلّة بالآداب والمبادئ الشريفة والصّفات العالية؟! وفي جميع الحالات، فإنَّ الطَّلاق يمثّل تدميراً لحياة الوالدين والأبناء معاً، وبالنتيجة يمثّل تدميراً للمجتمع وللوطن بأكمله الذي يبدأ بالعائلة أوَّلاً. إنَّ تنظيم الأسرة والتكوين الجيد لهذه المؤسّسة، قد نال اهتمام المفكّرين ورجال الدّين وعلماء النفس والاجتماع، حيث نجد فصولاً واسعة تُعنى بتنظيم العلاقات الزوجيّة وسعادة العائلة ونجاحها، لكي يقدّموا ما يخدم استمراريّة الأسرة لتكون منطلقاً لمجتمع فاضل وناجح، فلا نجاح ولا فضائل إلّا بالترابط الأُسري الذي يكوّن نسيج المجتمع، فإذا تفكّك هذا النسيج، أصبح آفة خطرة مُقلقة على الأطفال، تؤدي بهم إلى اضطرابات خطيرة، منها عدم الثّقة بالوالدين، والانحلال السلوكي، والشعور بالكراهية تجاه الآخرين: العدوانية والتخلُّف الدّراسي وزيادة الأمراض النفسيّة، هذا بالإضافة إلى الانعكاس السلبي الذي يطرأ على الرّجل والمرأة؛ فالرّجل قد يصاب ببعض الآثار النفسيّة السيّئة بعد الطلاق: منها الاكتئاب والانعزال واليأس والإحباط، وفقدان التوازن الاجتماعي، نتيجة فقدان الاستقرار الأُسري، ويشعر بأنّه رجل غير مرغوب فيه، بل ومشكوك به، ويثبت هذا الأمر، عندما يقرّر الزواج بامرأة أُخرى.

أمّا المرأة، فالطلاق يسبّب لها مشكلات أكثر من الرجل، خاصّة إذا كانت صغيرة السّن ولديها الأولاد، فتعود إلى أهلها ذليلة مُحطّمة، شاردة، تعيسة، بشأن أبنائها وبحياتها الفارغة، كما أنَّ المجتمع يزيد من أحزان المرأة المُطَلّقة بالنظرة السيئة التي يفرضها عليها، خاصة في مجتمعنا الشرقي فتصبح مشكوكاً
في سلوكها وأخلاقها، ويصمونها بالعار والفشل لأنّنا نعيش في مجتمع، كثُرت فيه النّفوس السيّئة والنوايا الحقيرة، هذا بالإضافة إلى التّقصير الذي يطرأ على رعاية أولادها.

نداءٌ كبيرٌ تملَؤهُ الحسرة والألم، أتوجّه به إليكم أيها الأزواج، لِتَعَوا بأنَّ المؤسَّسة الزوجية مقدسة – الزواج مقدّس – يجب الحفاظ عليه بأمانة وإخلاص، فلا تدعوه يتحطم ويُدَمَّر على جدار الإغفال والتهرُّب من المسؤولية. قدَّسه اللّه وقدَّسه الأنبياء والرُّسل، وقدّسته الملائكة: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة…».

أتوجّه إليكم يا أبنائي ويا أولادي، وخاصّة أتوجّه إليكِ يا أُختي، المرأة بنصائحي لكِ ولكلّ الأزواج الذين يفكّرون بالطّلاق: أعطي لنفسك الفرصة للتفكير والمحاولات لإنقاذ زواجكِ من الفشل والانهيار، ومن أجل أطفالك ومن أجلكِ أيضاً، ولعلّ أكثر هذه النصائح: هي ضرورة تغيير الأسلوب في معالجة الخلافات الزوجية التي هي نتيجة تراكم العديد من الأسباب الاجتماعية والعاطفية التي يدفع ثمنها الأطفال.

“الأمُّ هي كلُّ شيء في هذه الحياة. “جبران خليل جبران

فيا أختي المرأة: أعطي الفرصة لنفسك لتسوية خلافاتكِ، فما من مشكلة إلّا ولها حلّ مُجْدٍ، أمّا الطلاق فهو حلٌّ مقيتٌ ومُميتٌ. عالجي مشاكلَك في ساعة صفاء وهدوء مع الشَّريك ولتكن عبر مناقشة هادئة مع الموسيقى الهادئة الناعمة، بعيداً عن الاتّهامات وإلقاء أسباب الخلافات على الطّرف الآخر وليكن الحوار مناقشة بنّاءة، بعيدة عن المجادلات العقيمة. مناقشة تستحضر الماضي والحاضر والمستقبل، تتجنّبان تكرار أخطاء الماضي، وليكن حديثكما من القلب إلى القلب، من الحبّ الذي جمعكما والذي يجب أن يبقى بين الأسرة الواحدة التي حَلُم بها الزّوجان، وليعترف كلّ شريك بأخطائه تجاه شريكه والالتزام بتفاديه، ممّا يعطي الأمل لحياة زوجية ناجحة سعيدة منتصرة وبالتالي لمجتمع منتصر، وبهذا فإنَّ الأطفال سيقطفون ثمار هذه السعادة، ويكتسبون من الوالدين الشجاعة لمواجهة المشاكل التي سيصادفونها في المستقبل، ويكتسبون في الوقت نفسه حبَّ الحياة.

فيا أختي المرأة: يا سرَّ استمراريّة الوجود، يا عهداً من اللّه لبني البشر، أطلَّيت على الدنيا، لتجسّدي الهُوِّيّة الإنسانية كاملة، يا زوجة ويا أُمّاً ويا رفيقة مثالية: فإنسانية الإنسان (امرأة + رجل) خلقك اللّه تعالى، لتؤدِّي الرسالة والغاية المثلى التي اؤتمنت عليهما، وحاشا اللّه تعالى أن يخلق إنساناً بدون غاية: أنتِ تصنعين الرجال وتعمّرين الأوطان، ومن أحضانك تولد النّساء الفاضلات والرجال الأفاضل… تجاوزي السلبيات إلى الجوهر المُطلَق، أنتِ ينبوع عذب من الثقافة والصّدق والتربية لأولادك، ليَسْموا في مُندرجات الرّقي الرّوحي: فإنسانيتك، شعاع شمس تختزنه ذاكرة الأجيال، تُرَبِّين الولد ليكون له الغد الواعد، والولد هاجسك الوحيد: «يتعلّم الطفل في السنوات الخمس الأولى من حياته أكثر ممّا يستطيع أن يتعلَّمه في كل حياته» ومن هو المسؤول يا تُرى عن هذه التّربية؟؟ أليست الأمُّ والأمُّ فقط!!

أُمٌّ شموليّة، أمٌّ مثاليّة. اشعري بالودِّ تجاه جميع الناس، خاصّة تجاه زوجك وأولادك. عليك بمعرفة اللّه، «بالإيمان باللّه، بالتوحيد فكماله» «خَلَقْتُ الوجودَ كُلَّه لأجلكم، وخلقتَكم لتعرفوني وتعبدوني» اندمجي في الحقيقة، استشعري نصائحها، استرشدي بمعارفها، فَتُقرِّبك إلى خالقك، حيث تجدين الراحة والطمأنينة في قلبك وعقلك ونفسك، والبُعد عن الموبقات والمعاصي، فتزيدك محبّةً ورقّة ورحمة وإنسانيّة ودِعةً ورضًا وصبراً وطمأنينة. عليكِ بالمحبّة لأنّ المحبّة شعورٌ مع الوحدة الكلّية ومع الحقيقة الكونيَّة ومع الواحد الأحد، في حين أنَّ البعض هو نتيجة الأنانية، ونتيجة «الأنا» الفرديّة التي تتحكَّم بالسلبيّات وتسير بصاحبها إلى أسفل الدرجات ولا فرق بين إنسان وإنسان، إلّا بذلك الخير الذي يمنحه للآخرين وبذلك النّفع للّذين صدق منهم اللِّسان، وابتعدوا عن الحرام، وأطاعوا من وجبت طاعته واهتدَوْا بهديه. السيّد المسيح الذي عانى الكثير من الآلام واستقبل الموت بالابتسامة والمحبّة قال: «هي هذه الهُويّة التي هي حقيقة الكون، ومعنى الوجود وغاية كلّ موجود». فيدرك الإنسان نفسه على حقيقتها ويسير على المسلك الشريف وبالمحبّة تتّحِدُ البشريّة لتصلَ إلى اللّه».

هو دور الأمومة: الأمُّ شعاعٌ من محبَّة، والمحبَّة نارٌ بإرادتك توقدينها وبإرادتك تطفئينها. المحبّة هي الصّلة المتينة التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان وبالزّوج أيضاً. أحبّي اللّه عبر مخلوقاته، وهذا ما يوصلنا إلى السعادة التي هي جَنّة اللّه في خلقه، وبمحبّتنا نرتقي إلى ذات اللّه وروحه لأنَّنا جزء من اللّه. «ليس المهم أن نحبَّ، بل أن نتأكّد من أن محبّتنا قد أَودعت صداها في من نحبّ». رجوعٌ من المذمومات إلى المحمودات: بدل الجهل العلم، بدل النِّسيان الذِّكر، بدل المعصية الطّاعة، السّعي إلى الحقّ، إلى العدل، إلى المعاملة الصالحة، السبيل إلى الصدق، إلى صفاء القلب، إلى نقاء النيّة (وإنَّما الأعمالُ بالنيّات) السبيل إلى البعد عن الحقد والحسد والنميمة والضّغينة. المحبة ترفع عنَّا سلبَ الحياة وعذابها ومعاناتها. وكلّ أمٍّ هي نتيجة لصلاة المحبّة والوعي الذي أقامه اللّه في محرابه. وعليكِ أن تقتدي بالأولياء والمُرسلين: أليس الأجدر بكِ أن تسيري على خُطاهم؟؟ أتمنّى عليك يا أُختي المرأة أن تتضمّخ حياتك بالصّفاء، عبر المحبة الإلهية لتنعمي بالسّلام والاطمئنان «الدين عند اللّه المحبّة» لأنّكِ التزمتِ الصدق والأمانة، وحملت في شخصك كلَّ المثاليّات وسرتِ على بركة اللّه، «تأتمرين بأوامره وهو التوحيد، وتنهين عن المُنكر» توجِّهين أولادك نحو السبيل القويم، وتغرسين في قلوبهم ونفوسهم الأخلاق والمثل العليا. أنت مثال الأمِّ والزوجة الصالحة، أرادك اللّه مثالاً بالخلُق الكريم وأصبحت لزوجك خيرَ رفيق عمر، قدوة بالصّلاح والمعرفة والعلم، تمسّكت بالجوهر المُطلَق الكامن في أعماق أعماقِك، وسِرتِ بخطوات ثابتة في معارج الرقيّ الروحيّ والسعادة الدائمة، وانفتاح قلبك الكبير على كلّ جوانب الحياة.

ملكوت اللّه في داخلك، فلا تدعيه يُدَمَّرُ ويُحَطَّمُ في علاقتك السلبيّة مع مَن تحبِّين وخاصة مع أهل بيتك. وعليك بمعرفة نفسك: « فمن عرف نفسه عرف ربّه». عيشي المحبّة، وبالمحبّة تعمر البيوت والمجتمعات والأوطان. ارفعي وجهك إلى اللّه وعوذي به..، بتزكية قلبك من الموبقات والمعاصي، تستعينين بالواحد الحق، ليرزقك قوّة في بصيرتك، فتتسع بها نفسك، وتقوّي بها لسانك في اتّباع الخير والبعد عن الشر، ويستولي عليك شعور إلى معرفة الحق. «وما كان اللّه ليضيّعَ إيمانك. إنّ اللّه بالناس لرؤوفٌ رحيم»: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» «من يعمل مثقال ذرة خيراً يرَه، ومن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يرَه» «من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها» في هذا الجوّ السامي من الإيمان والتعقُّل، أصبحت تنمو على جنبات قدس الأقداس أزاهير المحبة الصافية ويفوح عبق البنفسج والياسمين والنرجس، في قلب ملؤه الطهارة والإخلاص ليهتدي بجوهر العقل السامي، الذي تسكنه نفسٌ فُضلى، تحقَّقت وتجوهرت بالمثاليّات التي بعثها لكِ اللّه. لتشكريه على نِعَمه وفضله عليكِ، بأن أعطاك الوعي وإشراقة العقل ونشوة النفس. تنظرين بعين العقل فترَين الكون مُفعَماً بالحياة فيستولي عليك شعور بالحبّ السامي الأكيد. وكلُّ ما تصبو إليه الأمُّ في حياتها من سعادة وفرح واطمئنان داخلي نحو عائلتها. فالحبُّ هو معرفة الحقّ، والحقّ إنّما هو الحب الحقيقيّ «نحن أقوياء بوجود اللّه لأنّك آمنت باللّه وبالروح وبالصلاة» (آينشتاين).

ويا أخي الرّجل: لن أطيل عليك الكلام، كما أطلته على أختي المرأة وباختصار كلِّي: باركَها اللّه والملائكة والرُّسل، وباركها الإنجيل والقرآن وباركها الصحابي عمر: «أصابت امرأة وأخطأ عمر» باركها الإمام السيّد عبد الله التنوخي(ق) ألم يأمر بفتح المدارس للفتيات قبل الفتيان؟ ألم يأمر بتعليمهنَّ وتهذيبهنَّ وتثقيفهنّ ولأنّه يعلم علم اليقين أنَّ الأمَّ هي الرُّكنُ الركين والأسُّ المتين في عملية بناء الأوطان المبنيّة على التقوى والفضيلة والأخلاق العالية والمثاليات، وعلى أكتافها تقوم العملية التربويّة التثقيفيّة؟

هذِّبــــــوا خُلُقَـــــها وزّكـــــــوا نُهــــاهــــــا
وارفــعــــــــوا قـدرَهـــــــا ولا تهملوهــــــا
هــــي بنـــــــتٌ لكــــــــــم وأُخـــــــتٌ وزوجٌ
وهــــــي أُمٌّ يطيـــــب فيـهــــــــا بنوهـــــــا
فمــــــا التأنيث لاســـــم الشمس عيبٌ
ولا التَّــــذكــــيــــــــرُ فــخــــــرٌ لـلــهـــــلال

وعندما رحل الإمام السيّد (ق) إلى دمشق لأسباب لا مجال لذكرها في هذا السياق، ومكث فيها اثنتي عشرة سنة، وعندما ألحّ عليه قومه بالعودة إلى موطنه عبيه كان جوابه: «سأعود ضمن شرطين اثنين هما «بناء المساجد والخلوات وتعليم الفتيات» وما القصد من هذه الشروط؟؟ هي لمعرفة اللّه سبحانه وتعالى والتقرُّب إليه، «وبالإيمان باللّه والتوحيد بكماله» وبالعبادة والصلاة وبتعليم الفتيات وقد ذكرت سابقاً. أعطني أُمًّا صالحة، أعطِكَ وطناً صالحاً.

أخي الرّجل: الأمُّ المثقَّفة، هي أمٌّ صالحة، وهي التي تسير بأولادها في مُندرجات الرّقي الرّوحي والثقافي والحضاري وتقوم بكلِّ واجباتها. قبل دخول الولد إلى المدرسة هي شريكتك حقّاً في الإنسانية، هي في الجهاد على قدم المساواة مع زوجها، بل في الطليعة، هي مظهر العفاف والعزّة والرفعة. أرادها اللّه لتكون الأمُّ المباركة والصالحة. فمسؤولية المرأة، ديمومة ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل، ابتدعها اللّه نصف المجتمع وشريكة الحياة وأُنسها وبهجتها «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودَّة ورحمة» الأمُّ هي كلمة اللّه على الأرض «وجه أمي وجهُ أُمَّتي» كما يقول جبران، وعندما قال: «الأمُّ هي كلُّ شيء في هذه الحياة» فهي التّعزية في الحزن، والرَّجاء في اليأس والقوَّة في الضَّعف، فالذي يفقدُ أُمّاً، (يعني بالموت)، يفقد صدراً يسند إليه رأسه ويداً «تباركه وعيناً تحرسه»، فالموت والولادة هما من صنع اللّه: «كذا حَكَمَ كذا قضى ولا مرّد لقضائه» الإمام التّنوخي(ق) ويا نعم المصير. فماذا لو كانت من صُنع البشر؟؟ ويا بئس المصير!! دور الأُم هو الاهتمام بالعائلة أوّلاً، والعائلة هي رمز الوطن، فإلى تعاون مع شريك العمر، وليعملا معاً، من أجل أمومة ناجحة مُنتصرة وبالتالي مجتمع منتصر، ليتكامل الدّور مع الرجل نضالاً ومحبّة وإنسانية. عليكَ أيّها الرجل بحمايتها من العنف الأُسَري والدفاع عنها وحمايتها من كلِّ أذى، لأنّها جزء من كيانك وشخصيّتك. حاجتنا إلى النهضة العربيّة من خلال العُنصرين معاً المرأة والرجل، قِيَم ثقافية، اجتماعية، تربويّة، أثبتت المرأة أنّها جديرة بالمساواة بنوابغ الرجال، هي شريكتك حقاً في الإنسانيّة، وقد شبّه أحد الفلاسفة المجتمع بـ «طائر ذي جناحين، أوّلهما المرأة وثانيهما الرَّجل، فإذا كان الجناحان قويين أمكن لهذا الطائر التَّحليق عالياً في أجواء الفضاء، وإذا كُسِر أحدهما شُلَّت حركة الطائر وبقي مكانه لا يقوى على الحراك. المرأة باستطاعتها أن تحكم وأن تفعل كلَّ شيء، فلديها قدراتها وكلمتها المُحِقّة، المرأة داعية من دعاة التقوى والشّرف الرّفيع. هذا العنصر الفعّال، هذا التراث الإنساني الكامل للمجتمع، بأبعاده، وبصيرورته وبمكانته، يؤكد أنَّ المرأة هي وراء هذا التَّخطيط والتنسيق والتنظيم، بالتواصل والتفاعل والتكامل، بين الماضي والحاضر والمستقبل، لهذا المجتمع القائم على العنصرين معاً، المُشبَع بروح العطاء والمحبة والسعادة الأبدية الدائمة والبعد عن الغضب والحِقد والنميمة، بل بسعادتكم الدائمة، لأنَّكما أصبحتما «أقوياء بوجود اللّه» تؤمنان به وبالروح وبالصلاة قرباناً له وتوسُّلاً إليه وعملاً بمشيئته.

وأخيراً، أتوجّه إليكما أيُّها الرجل والمرأة آملةً إدراك مخاطر الطّلاق وانعكاساتها على العائلة وعلى المجتمع بأسره والاهتمام الأكيد من الأب والأم في سبيل وحدتكما لتحصلا على عائلة متماسكة ملتزمة بقدسيّة الأمومة والأبوّة. بهذه الصفات يا أخي الرَّجل تكون قد وصلت إلى سعادة زوجيّة دائمة، وأخلاق وصفات نبيلة، كصاحب خلق رفيع، فلا غضب ولا ذنوب ولا آثام، ولا مجال للشرّ. لك البُشرى إذ تعلم وتعمل (وتقرّبوا إليه بالعلم والعمل) وتحصيلهما هو الكمال الحقيقي، وهما مطلبان يقرّبان إلى العناية الإلهية واللّه العليّ العظيم هو العون والمساعد «ولا يخَف أحدكم إلّا ذنبه ولا يرجُ إلّا ربّه»، بهذه الصِّفات أيضاً تتوصلان إلى الاستقرار الدائم الذي هو حاجة مُلحّة لحياتكما: إيماني الصادق باللّه جعلني أقترب من اطمئنان النفس وهو السبيل إلى البُعد عن السيِّئات والإتيان بالحسنات (القشيري) وتنقلب حياتكما «نبراساً منيراً وشعاعاً أصيلاً، تتسلَّمه الأجيال الصاعدة وثيقة قوميّة حيّة ودستوراً أكيداً وتراثاً إنسانيّاً وطابَعاً عصريّاً وثورة رائدة اجتماعية حضارية ثقافيّة، بلغت أشد الأثر وتركت بصماتها أصالة دينيّة تربوية وأصالة أخلاقية إلى يوم الدين.

وإني إذ أتوجَّه إلى رجال الدِّين الأجلَّاء، لأقول لهم: كثِّفوا محاضراتكم وندواتكم وتوجيهاتكم ولقاءاتكم مع هذا الجيل الجديد لعلّهم يتَّعِظون.

«الحُبّ» عند أفلاطون

يُضِيء أفلاطون على نظريّتِه في الحُبِّ ومستوياتِه في ثلاثِ محاورات هي «هيبياس الأكبر» (Hippias Major)، و «فايدروس» (Phaedrus)، و «المائدة» (Symposium) حيث يتبلور هذا المفهومُ بشكلٍ كبير. ففيما حاولت محاورةُ «هيبياس الأكبر» تعريفَ «الجَمال بنفسه» (Auto to Kalon) من دون صياغة مفهومٍ متكامل، فإنّ محاورة «فايدروس» تتحدَّث قبل الاستفاضة في فن البلاغة والخطاب عن الحُبِّ بكونه «الجنون المقدَّس» (Divine Madness) كوسيلةٍ تتفتَّحُ فيها للنفس أجنحةٌ تُحلِّق بها إلى العالَمِ الأعلى. ويُثار جنونُ الحُبِّ هذا لرؤية «الجَمال» في الأرضِ بما يُذكِّر بـ «الجَمال الكُلِّي». وبذلك يُشير أفلاطون في «فايدروس» إلى العلاقةِ بين الحُبِّ وما هو إِلَهي سرمدي، في حين أنّه في محاورة «المائدة» يُشير إلى الحُبِّ بكونه يرقَى بالنفس سُموّاً عبر حُبِّ الحكمةِ والسعادة على مَراقِي «سُلَّمِ الحُبِّ» إلى مِثَالِ الجَمالِ الأعلى.

تتَّسِم كلّ محاورةٍ أفلاطونية بثرائها وأبعادها الخاصة وصعوبة تفسيرها بالنسبة إلى الباحثين، ما لم تكن ثمة إحاطةٌ وشمول لأبعاد ورموز الفكر الأفلاطوني، وهذا ما ينطبق على محاورة «المائدة» (Συμπόσιον)، لا سيّما في تناولها لمفهومَي «الحُبّ» و «الجَمال». فالرُّقي في الحُبّ إلى عالَم الجَمال المِثالي إلى «الحُبّ الإِلهي» (Agape) إنّما يتوافق مع البُعد الميتافيزيقي للفكرِ الأفلاطوني كما يتبدَّى خصوصاً في محاورات «فيدون» (Phaedo) و «فايدروس» (Phaedrus) و «الجمهورية» (The Republic) فضلاً عن «المائدة» (Symposium). فالمفهومُ الأفلاطوني يُفرِّق ما بين «الحُبّ المادي» (Eros-ɛrɒs)، المشتَمِل على «الرغبة» (Epithumia)، و»الحُبّ الرُّوحي» (Philia-φιλία) المبني على السَّعِي إلى «الفضيلة» (Arête) و»الحكمة» (Sophia) و»الجَمال الأعلى».

الحُبِّ يرقَى بالنفس سُموّاً عبر حُبِّ الحكمةِ والسعادة على مَراقِي «سُلَّمِ الحُبِّ» إلى مِثَالِ الجَمالِ الأعلى. أفلاطون

«المائدة»… خطابٌ في «الحُبّ»

 

من أجل بلورة مفهومَي الحُبّ والجَمال، يجمع أفلاطون في هذه المحاورة كبارَ المفكِّرين والخطباء البارزين آنذاك في أثينا يتبارون في تعريف الحُبّ أو الثناء عليه. ومن ثمّ يضع الحقائقَ عن الحُبّ وأنواعه ودرجاته ورُقِّيه على لسانِ حكيمةٍ مُلهَمَة تُدعَى «ديوتيما» (Diotima) كانت قد أَطْلعَت سقراطَ عليها، وهي تعتبر الحُبَّ بكونه مَلاكاً روحانياً كبيراً «دايمون» (Daimon) كواسطةٍ بين العالم الإِلهي والبشر، لا سيّما في صورتِه الأرقى كحُبٍّ للحكمة (Philosophia)، الحكمة «بغايةِ جَمالها».

المحاورةُ تبدأ مع «أبولودوروس» (Apollodorus)، أحدِ أبرز تلامذة سقراط، الذي ينقل قصةً سمعها من تلميذٍ آخر يُدعى «أريستوديموس» (Aristodemus) عن مائدةٍ أُقِيمَت في منزل الكاتب التراجيدي «أغاثون» (Agathon) في أثينا كان حاضراً فيها، وكيف تَنادَى المشارِكون في «المائدة» من نُبلاء ومفكِّرين، بينهم الفيلسوف سقراط، للتباري في إلقاء خطابٍ عن الحُبّ والثناء عليه، وكيف نام الجميعُ قبل أنْ يُدرِكوا الصباح، فيما بَقِيَ سقراط يقِظاً لينهضَ ويُكمِل مشوارَه على دروب الحكمة.

«فايدروس»
الأرستقراطي الأثيني «فايدروس» (تحمل اسمه إحدى محاورات أفلاطون) كان أولَ الخطباء بين المشاركين في «المائدة»، فاعتبرَ أنّ الحُبَّ يُلهِم المُحبِّين نحو التحلِّي بالفضيلة، بل يُلهِمهُم الشجاعة والبطولة والتضحية وكذلك تحقيق النجاح المثير للفخر، ويمنعهم من أنْ يُقدِموا على أي فعلٍ يُشين صفاتهم كمُحبِّين بل يحدو بهم إلى تحقيق النجاح والشرف والمجد في عين محبوبه. فعلى سبيل المثال، إذا كان المُحِبُّ في معركة فلن يرضى بالذل والمهانة أمام مَنْ يُحِبّ كأنْ يفرّ من الصفوف أو يرمي سلاحه بل سيسعى إلى إثبات بطولته وشَرَفِه.

«بوسانياس»
من ثمّ يتحدَّث النبيلُ الأثيني «بوسانياس» (Pausanias) وهو يُقسِّم الحُبَّ إلى نوعَين، حِسّي عادي وآخر مقدَّس سماوي. الحُبّ الأول لِمَا هو ماديّ وجسديّ، أمّا الثاني لِمَا هو أرقى من الجسد والحواس. ويرى أيضاً أنّ الحُبَّ يحثُّ على الفضيلة في كلّ الخيارات. ويُعتبر خطابُ «بوسانياس» تمهيداً لِمَا سيقوله سقراط.

«إريكسيماخوس»
ألقى الخطابَ الثالث الطبيبُ الشهير «إريكسيماخوس» (Eryximachus)، حيث يتوسَّع بمفهوم الحُبّ ليتعدَّى نطاقه التقليدي إلى الطب والموسيقى والرياضة وتناغُم الطبيعة، إلخ.. وقد أكّد أهمية الحُبّ في الطب والمعالجة، فالسَّعي إلى الشفاء على سبيل المثال هو حُبٌّ، وكذلك شأن الدواء الشافي.

«أريستوفان»
أمّا الكاتبُ المسرحي الكوميدي «أريستوفان» (Aristophanes) فقد أخبرَ في خطابه قصةً «رمزيّة» مذهلة، عن أنّ البشر كانوا في البدء أزواجاً ملتَصِقين ظهراً إلى ظهر وقد انفصلوا، لذلك يبحث المُحِبُّ اليوم عن نصفِه الآخر في مَنْ أحبَّه!

«أغاثون»
الخطاب الخامس ألقَاه الكاتبُ والشاعرُ التراجيدي والمُضيفُ «أغاثون» (Agathon)، فكرَّر الفضائلَ التي يغرسِها فينا الحُبُّ، تلك التي تحدَّث عنها مَنْ سَبَقَه مِن الخطباء، مشدِّداً على السِّمَة الأخلاقية للحُبّ وما يُولِّده من شجاعةٍ وعدلٍ واعتدالٍ وحكمةٍ.

سقراط: حكمة «ديوتيما»
جاء أخيراً دورُ سقراط، فلخَّصَ جميعَ الخطابات وحلَّلَ خطابَ «أغاثون» وطرح عليه الأسئلة حول ماهية الحُبّ والجَمال ومن ثمّ استذكرَ ما سَمِعَه عن الحُبّ من حكيمةٍ تُدعَى «ديوتيما»، وكيف يكون الحُبُّ توقاً نحو الحكمة ومِثال الجَمال!

وهكذا بعدما رأى الحُبَّ كُلٌّ مِن رؤيته الخاصة، كحُبٍّ لكلِّ ما هو جميل بحسب قول «أغاثون» أو بحثاً عن النصف الآخر والاندماج معه في جسمٍ واحد وروحٍ واحدة كما في قول «أريستوفان»، على سبيل المِثال، يصل هذا المفهومُ إلى أعلى مراقيه مع سقراط، الذي يذكّر بحكمة «ديوتيما» التي تتحدَّث عن السَّعي إلى امتلاك الخير ومشاهدة الجَمال الأعلى!

تماثيل لكل من «فايدروس»، «بوسانياس» و«أريستوفان».

تتحدّث «ديوتيما» (Diotima) عن «سُلَّم الحُبّ» (Ladder of Love) حيث ترتقي هذه الحكيمة، بحسب سقراط، بأنواعه من الحُبّ الجسدي إلى حُبّ الجَمال في كلّ تبدّياته في العالم المادي وصولاً إلى حُبِّ الرُّوح، وحُبِّ جَمال الرُّوح الأرقى من جَمال الجسد في تَسامٍ فوق كُلّ ما هو مادي، وصولاً إلى مشاهدة الجَمال بصورته المُثلى. وفي هذه المرحلة الأخيرة التي تتحدَّث عنها «ديوتيما»، يسمو المُحِبُّ إلى أعلى درجةِ (Epanabasmos) على «سُلَّم الحُبّ» (لم يتحدَّث أفلاطون عنه سوى في محاورة «المائدة»)، ارتقاءً إلى مشاهدة «الجَمال المُذهل» وتحقيق الهدف الأسمى من وراء الحُبّ والاستغراق فيه، وبذلك يكتسب صفات ملائكيّة، حينما ينبُت له جانحان يُحلِّقان بنفسه إلى الأعلى نحو الجَمال الأعظم، كما في «فايدروس».

ويستذكر سقراط في خطابِه حوارَه مع «ديوتيما» حول ماهية الحُبّ:

سقراط: إذاً، ما هو الحُبّ، هل هو خالد؟
ديوتيما: لا.
سقراط: ما هو إذاً؟
ديوتيما: إنّه ليس خالداً ولا فانياً، بل وسطاً بين الاثنين.
سقراط: ما هو الحُبُّ، يا «ديوتيما»؟
ديوتيما: إنّه روحٌ عظيمة تتوسَّط بين الإِلَهي والفاني.
سقراط: وما هي قوته؟
ديوتيما: إنّه ينقل الصّلوات إلى الإِلَه وينقلُ أوامرَه وإشاراتَه إلى البشر، إنّه الوسيط الذي يجسر الهوّة التي تفصل بينهما… ولا يتواصل الإِلهُ مع الإنسان إلَّا من خلال الحُبّ… والحكمة التي تفهم ذلك هي حكمةٌ روحيّة… إنّها ولادةٌ جديدة في الجَمال… حيث يُجنَى حصادٌ ذهبيٌ من الحكمة من غِمار بحر الحُبّ… ذلك هو الحُبُّ الذي يُفضِي إلى حُبّ الحكمة… وعندما يُحقِّق المُحِبُّ هذه الفضيلة يُحقِّق فيه ذلك الحُبّ المقدّس… حينما ينظر إلى الجَمال جهاراً فيشاهد الجَمالَ السماوي وجهاً لوجه.

 

«ديوتيما» وسُلَّم الحُبّ

إذاً، ترى «ديوتيما»، بحسب ما قاله سقراط، أنّ الحُبَّ هو عمليةُ رُقِي في إدراكنا لمفهومه وحقيقته كصعودنا في درجات سُلّم يسمو بنا إلى الأعلى، من حُبٍّ مادي حسّي إلى حُبٍّ عقلاني روحاني مَبنِي على الفضيلة والحكمة، وذلك بازدياد مستوى وعينا لِمَاهية الحُبّ في الحقيقة.

يبدأ سُلَّمُ الارتقاء هذا لدى «ديوتيما» بحُبّ الجَمال الجسدي العادي، ومن ثمّ الجَمال أينما وُجِد. ومع الارتقاء خطوةٍ أخرى يُدرِك المرءُ أنّ الجَمال الجسدي لا معنى له وزائلٌ خلافاً لجَمال النفس أو الرُّوح. ومتى التقَى عندئذ بجميلِ الرُّوح فإنّه بغضِ النظر عن جَمال جسده ينجذب إلى جَمالِ روحه، رُقيّاً إلى ما هو غير مادي، إنّه حُبُّ الجَمال الرُّوحي والخُلُقي حينما تصل النفسُ في هذه الخطوة على سُلَّم الحُبّ إلى مستوى أنطولوجي جديد يلحظ الجَمال الرُّوحي الذي يتفوَّق على جَمال الجسد. ومن ثمّ يأتي حُبُّ الفضائل لا سيّما العدل والمعرفة ومن ثمّ الحكمة، إلى أنْ يصل الصاعِد على ذلك السُّلَّم إلى المرحلة الأخيرة في أعلاه حيث سيُدرِك مِثال «الجَمال بعينه» (Auto to Kalon)، محقِّقاً الفضيلة المُثلى في ذلك «الحُبّ العُلوي المقدَّس» (Agape). ومَنْ يرى مِثال الجَمال هذا سيرى مِثال الفضيلة والحقّ، وهي «رؤية» أو «رؤيا» من عالَم العقل العُلوي (Noetic Vision) لا تُعبِّر عنها الكلمات ولا تُشبهها أي معرفة عادية.

ديوتيما: كُلُّ مَنْ أُطْلِعَ على أسرارِ الحُبّ وعَرف جميعَ أوجه الجَمال تِباعاً، يقترب أخيراً إلى مكاشفةٍ نهائية. عندئذٍ يا سقراط تتبدَّى له رؤيا مذهلة هي عينُ الجَمال الذي طالما تاقَ إليه…

 

دلالات فيثاغورية دينية صوفية!

 

يتحدَّث الباحثون أنّ لسُّلَّمِ الحُبِّ دلالات دينية، حيث اعتمد أفلاطون على رسائل خفيّة فيثاغورية، ونقل فحواها «الصوفي» الرُّوحاني إلى النُّجَباء من تلامذته في إشارةٍ إلى غاية الرُّقي على سُلَّم الحُبّ إلى الجَمال الأبهى والأسمى والأمثل. وهو ما يُشير إليه الفيلسوف الألماني مارتن هيديغر (Martin Heidegger) بكونه «ما لم يُفْصَحْ عنه في المحاورات الأفلاطونية»، في إشارةٍ إلى التعاليم الأفلاطونية الرُّوحانية الصوفية الخاصة، لكنّ دلالته الفكريّة والرمزية تلوحُ لذوي البصيرة!

فهذا التسامي الصوفي الذي يتحدَّث عنه أفلاطون، على لسان شخصيات محاورته، إنّما يحثّ النفسَ على الارتقاء نحو جَمال أنقى وأصفى وأطهر من حُبّ الأجساد عبوراً بحُبّ الأرواح الجميلة ومن ثمّ المعرفة والفضائل والحكمة وصولاً إلى أرقى الدرجات وهو حُبّ سبحات الجَمال والجلال!

هذا ما يؤكّده الكاتب البريطاني سي. أس. لويس (C. S. Lewis) في كتابه «الأنواع الأربعة للحُبّ» (The Four Loves)، حيث يرى أنّ أفلاطون يحثُّ الإنسانَ على الارتقاء في «درجات سُلَّم الحُبّ» وصولاً إلى أرقاها، إلى الحُبّ الإِلَهي، حيث يكتشف الجَمالَ الحقيقي ومصدرَ كلِّ الوجود. فكلُّ حُبٍّ وكلّ نوعٍ من الحُبّ البشري، بحسب لويس، يرتقي من الحُبِّ المادي إلى الحُبِّ الرُّوحي إنّما هو تمهيدٌ لتحقيق هذه الغاية القصوى، أي ذلك الحُبّ الإِلَهي المقدَّس.

لوحة لـ «رافاييل سانتي» لأحد المجالس اليونانيّة.

ويعتبر أفلاطون «الجَمال» (Kalon-καλόν) هدفاً أسمى للفلسفة، حيث يتعرَّف محبّو الحكمة على هذا الجَمال في تجربةٍ يُتمِّمون فيها حُبَّهم الحِكْموي العميق فيما يستحصلون على أرقى معرفة. وقد تناول أفلاطون «الجَمالَ» بصفته «مِثالاً» (Form) نرتقي إليه بالحُبّ في محاورات «فيدون»، و«فايدروس»، و«فيليبوس» (Philebus)، و«الجمهورية» (The Republic)، و«بارمينيدس» (Parmenides)، و«القوانين» (Laws)، و«أوثيديموس» (Euthydemus)، و«كراتيلوس» (Cratylus)، و«هيبياس الأكبر»، حيث هو مِثالٌ نصبو إليه بالتأمُّل الفلسفي.

 

الحُبُّ والخيرُ والجَمال!

 

يتحدّث أفلاطون عن «الجَمال» (Kalon-φιλία) بصفته مبدأً أخلاقياً يُتمِّم «الخيريّة»، بل ثمة عبارة في اليونانية هي «كالوس كاغاثوس» (Kalos K’agathos) تجمع «الجَمالَ» Kalon و»الخيرَ» Agathon في صياغةٍ واحدة «جميلٌ خيِّرٌ»، فالفضيلةُ تتَّسِم بالجَمال وكذلك الحكمة وهي الجَمال الأرقى.

وهذا الهدفُ الأسمى لـ «الجَمال» للارتقاء بالنفس إلى عالم المُثُل هو ما جعل أفلاطون يسبغ عليه الخيريّة والنتائج الخيِّرية في حين أنّه يُماثِل بين «الجَمال» و»الخير الأسمى» في أكثر من محاورة، من بينها «المائدة»، و»فيليبوس»، و»القوانين»، و»الجمهورية»، فيما ماثلَ أفلاطون بين «الخير الأسمى» و»نوس» (Nous) أو العقل الكوني، بما يربط بالتالي «مِثال الجَمال» مع «نوس» أيضاً!

سقراط: لا بأس (يا أغاثون)، لقد كان خطاباً جميلاً، لكن ثمة حقيقةً أخرى. أرى أنَّكَ خَلِصتَ إلى أنّ الخيرَ هو جميلٌ أيضاً، أليس كذلك؟
أغاثون: بلى، هذا صحيح.
سقراط: حسناً، إذا ما كان الحُبُّ يتوقُ إلى ما هو جميلٌ، وإذا كان الخيرُ والجَمالُ سيَّان، فإنّ الحُبَّ لا ريب يتوقُ أيضاً إلى ما هو خيرٌ.
أغاثون: تماماً كما قلتَ يا سقراط. إنّ حُجَّتَكَ دامغة.

 

الحُبُّ الأفلاطوني في حَرَمِ “الجَمالِ” العُلوي

 

إذاً، في قراءةٍ تحليلية لنصّ «المائدة»، فإنّ رؤية «الجَمال» المطلَق هي المكافأة القصوى للمُحِبّ الأفلاطوني التوّاق للحكمة (باليونانية: Philosophos، كما صاغها فيثاغورس) الذي يتعدَّى «أمور الحُبّ العادي» لكي يُحقِّق حالةً من «التفكُّر والتأمُّل في بحر الحُبّ الشاسِع»، وهو تأمُّلٌ تتولَّد بفضله لدى التوّاق الأفلاطوني للحكمة ومعرفة «الجَمال» أفكارٌ نبيلة في ظل حُبِّهِ الذي لا حدود له للحكمة – «تلك الأفكار المتولِّدة النبيلة التي تبلغ ذروتها في رؤية التوّاق الأفلاطوني للجَمال المُطلَق منفصِلاً وبسيطاً ودائماً وهو من دون نقصانٍ ولا زيادة، ومن دون تغييرٍ ومتعالٍ عن كلّ جَمال الأشياء المنبثقة والزائلة في آنٍ»، كما جاء في محاورة «المائدة» – وهذا الجَمال المُطلَق هو المصدر بل هو المَنْهَل لكلّ أنواع «الجَمالات» الزائلة الأخرى لدى كلّ الأشياء.

ففي محاورة تيماوس (Timaeus) يتحدَّث أفلاطون على لسان تيماوس عن أنّ العناصر الأربعة للطبيعة، الهواء والماء والنار والتراب، تتكوّن بدورها من عناصر هي تكتُّلات لجزيئيات ذات شكلٍ محدَّد ومنتظم وهي بالنسبة لأفلاطون «الأكثر جَمالاً» (Kallistos)، ويتألّف منها الكونُ «الأكثر جَمالاً».

لذا فإنّ العاشقَ الصوفي الأفلاطوني الصَّاعِد على سُلَّم الحُبّ، بدافعٍ من الحُبِّ الحقيقي، حُبِّ الحكمةِ، والحقِّ والخيرِ والجَمال، يُسعِفه هذا الحُبُّ للارتقاء فوق كلّ الجَمالات (Aesthetics) الأرضيّة «يبدأ من الجَمالات الدنيوية العادية ويتعالى صعوداً إلى الجَمال بعينه»، أي مِثال الجَمال المُطلَق، حتى تتسنَّى له رؤية ذلك الجَمال ويُدرِك عندها ما هي حقيقته، ولا تتأتَّى تلك المعرفة إلَّا حسب تعبير أفلاطون «برؤية الجَمال بعينِ العقلِ»، ذلك العقلِ الأرقى «نوس» (Nous) الذي يُمثِّله هذا الجَمالُ، وبذلك يُحقِّق التوّاقُ الأفلاطوني الراقي الفضيلةَ الحقَّة بمشاهدتِه عُشقاً لذلك الجَمالِ السماوي العُلوي في غمرةِ جلالِ الحُبِّ الإِلَهي. هذا هو «الحُبُّ الأفلاطوني»، ألم تسمعوا به!


المراجع
  1. Symposium by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  2. Phaedrus by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  3. Hippias Major by Plato, translator Benjamin Jowett (Project Gutenberg).
  4. Drew A. Hyland, Plato and the Question of Beauty (Indiana University Press – 2008).
  5. David R. Lloyd, Symmetry and Beauty in Plato (Trinity College, Dublin, Ireland).
  6. Laura Case, Human Love and Divine Love: The Platonic Matrix in C. S. Lewis (Western Kentucky University – 1975).
  7. C. S. Lewis, The Four Loves (New York: Harcourt Brace Jovanovich, 1960).

المجاهد حُسَيْن مُرشِد رُضوان

صورة تجمع سلطان باشا الأطرش وحُسين مُرشد رضوان.

آل رضوان «عائلة معروفيّة تراثيّة نامية، يمنيّة الأصل شأنها شأن معظم العائلات الدّرزيّة، جمهورهم في عاليه مقامهم الأوّل، ثمّ في السّويداء وبيروت وهم من أصحاب الرّأي والنفوذ في محيطهم».(1)

 

وُلد حُسين مُرشد رضوان عام 1887، في مدينة السّويداء في جبل العرب وتعلّم في مدارسها الأهليّة والأميريّة. وقد نشأ يتيماً بسبب استشهاد والده في إحدى معارك المواجهات ضدّ العثمانيين عشيّة القرن التاسع عشر، وقد رعته بعدها أمه التي تنتمي لآل أبو سعدى وكانت سيّدة قوية الشخصية عرفت بشجاعتها التي تضارع شجاعة أشدّاء الرجال في زمنها.

وفي الحملة الظالمة التي شنّها سامي باشا الفاروقي على الجبل عام 1910، شارك حسين مرشد رضوان في معركة الكفر، ويذكر محمّد جابر في كتابه «أركان الثورة السوريّة الكبرى، ص 243»، بأنّه «كان وطنيّاً مُخلصاً، شجاعاً ومعتزّاً بنفسه».

ولما كانت السّويداء تشكّل الحاضرة الرّئيسة في الجبل وإليها تصل المؤثرات السّياسية قبل غيرها من حواضره، فقد كان الرّجل واحداً من شباب الجبل المنتسبين إلى الجمعيّة العربيّة الفتاة التي كانت تمثّل الحراك العربي الهادف للإصلاح في بنية الدّولة العثمانيّة، ولكنّ عنصريّة حزب الاتحاد والتّرقي التّركي في السّنوات الأخيرة من عصر الدّولة العثمانيّة؛ بعد انقلابهم على السّلطان عبد الحميد الثاني عام 1908، وتبنّيهم النّزعة الطّورانية (التعصّب القومي للعنصر التركي) التي هدفت إلى تتريك العرب وغيرهم من الشّعوب غير التركيّة الخاضعة للدّولة العثمانية آنذاك جعل المُتنوّرين العرب يعملون على الانفصال عن تلك الدّولة بعد أن كانوا يطالبون بالإصلاح والبقاء ضمن إطارها.

ولهذا كان حسين مرشد رضوان النّاقم على الظّلم العثمانيّ وهو العروبيّ النّزعة واحداً من فرسان بني معروف الدروز الذين توجّهوا إلى مدينة العقبة لملاقاة الأمير فيصل بن الحسين قائد حملة الجيش العربي القادمة من الحجاز لأجل المساعدة على دخولها بلاد الشام وطرد العثمانيين؛ قاتليّ أبيه منها.

وبعد ذلك كان أحد الفرسان الذين دخلوا دمشق بقيادة سلطان باشا الأطرش في الثّلاثين من أيلول سنة 1918، وكان السّبق لهم في رفع العلم العربيّ على سراي الحكومة فيها، قبل وصول الجيش الذي كان يقوده الأمير فيصل بن الحسين، وقبل دخول الجيش البريطاني الذي كان يقوده الجنرال البريطاني اللّنبي الذي غضب لسبقهم إيّاه في الدخول إلى دمشق، لأنَّ اللّنبي الذي كان يعتبر نفسه من إرث الصليبيين وهو القائل عند دخوله القدس «الآن انتهت الحروب الصليبيّة»، كان يريد أن يُظْهر نفسه السبّاقَ لدخول دمشق عاصمة الأموييِّن، وكمحرّر للعرب من العثمانييِّن.

.

فترة التمهيد للثّورة

لم تَقُم الثّورة السّوريّة الكبرى عام 1920ــ 1927، هَبّة مِزاجية من رجل فرد، بل سبقها تمهيد فكريّ وسياسيّ بدأ منذ دخول جيش الاحتلال الفرنسيّ دمشق، بل منذ أن افتُضِحَت اتّفاقية سايكس بيكو، ومؤامرة الإنكليز والفرنسيين على الآمال التي بشّرت بها الثورة العربية بالتّحرّر من الاحتلال العثمانيّ الذي خيّم على الأمّة لأربعمائة عام ونيّفٍ سلفت. كان الوطنيّون والعروبيّون السوريون وفي طليعتهم سلطان باشا الأطرش يرَوْن في تنفيذ مقرّرات المؤتمر السّوري عام 1919مفتاحاً لنهضة الأمّة. ولكن بدخول غورو دمشق انقسم مجتمع الجبل بين من رفضَ الخضوع للاحتلال الفرنسي وبين من قَبِل به كأمر واقع، ومن هنا انطلق العمل السرّي الذي كان حُسين مرشد أحد عناصره البارزين في مدينة السّويداء عاصمة الجبل، ذلك العمل الذي كان على رأسه كلٌّ من سلطان باشا الأطرش ورشيد طليع وعلي عبيد ومحمّد عزّ الدين الحلبي وغيرهم.

هكذا كان الرّجل أحد الشّخصيّات البارزة المهيّأة للقيام بعمل ثوريّ تلبية لنداء الواجب الوطنيّ. فعندما قام سلطان بانتفاضته من أجل ضيفه أدهم خنجر عام 1922 لم يكن يقوم بعمل فردي لإنقاذ ضيفه شخصيّاً فقط. بل كان ذلك ضمن خطّة عمل وطني يقوم على رفض الاحتلال، ومن هنا كانت مساندة حسين مرشد رضوان وقيادته لخمسين فارساً بهدف قطع الطّريق على أيّة قوّة فرنسيّة قد تقوم بملاحقة سلطان باشا أو اعتقاله.

ولجدّيّة مساهمته في العمل السياسيّ المُمَهّد للثّورة فقد أقسم يمين الجهاد، وذلك في اجتماع سرّي عُقِد في منزل المجاهد محمّد عبد الدّين في السّويداء في اجتماع شارك فيه خمسةٌ وخمسون ناشطاً من رجال الجبل، وفيما يلي نَصُّ القسم: «أقسم بالله العظيم أن أقيم الثورة وأكون فدائيّاً تجاه خِدمة وطني وأقدّم دمي وكلّ إمكانيّاتي وأدافع عن كرامة أمّتي ورفاقي المُخلصين حتّى أُحقّق الحرّيّة والاستقلال لبلادي سوريّة والله على ما أقول شهيد». وإلى هذا القسم يشير الباحث محمّد جابر بقوله» ويُعتقد أنّه القَسَم الذي صاغه رشيد طليع منذ عام 1920». وقد عُرِف حسين مرشد بمواقفه الوطنيّة التي جعلت منه شَوْكة في عيون السّلطات الفرنسيّة في الجبل.

.

مُطْلِق الرصاصة الأولى في الثورة السوريّة الكبرى

يُعْتَبر حسين مُرشد عضواً مؤسّساً في الجمعية الوطنيّة لشباب الجبل التي رأسَها سلطان باشا الأطرش في عهد كاربييه، وكانت هذه الجمعيّة تدعو إلى وحدة الصفّ الوطنيّ والمحبّة والتعاون ومقاومة التّسلّط ومناهضة المستعمر، وقد ضمّت نحو خمسمئة شابٍّ، وكانت تتمتّع بتأييد الرأي العامّ في سائر الجبل. كما كانت تنفّذ نشاطات وطنيّة كالتّظاهرات والاحتجاجات على مظالم كاربييه، الحاكم الفرنسيّ للجبل، ومعاونه موريل. وفي مظاهرة 7 تموز 1925 عندما حاول موريل ورجال الدّرك الفرنسيّ قمع مظاهرة شباب السويداء السَّلميّة بالعنف والعصيّ اشتبك المتظاهرون معهم بالأيدي ورشقوهم بالحجارة، فأطلق موريل النّار على المتظاهرين. عندها هاجمه حسين مرشد وأطلق عليه النّار من مسدّسه كما انهالت على موريل وعلى جُنْدِه الحجارة من سائر المتظاهرين، فوقعت قُبّعتُه وتدحرجت على الأرض، وقد أصيب بجرح في رأسه وجُرِح عدد كبير من جنوده.(2)

وهكذا كانت رصاصة حسين مرشد هي الأولى في وجه الفرنسيين إيذاناً بالثورة السوريّة الكبرى. وقد أدى موقفه الجريء هذا إلى انتقام الفرنسييّن منه فعزموا على هدم داره وتغريم أهالي السّويداء بمبلغ مئتيّ ليرة ذهبية. لكنّ مئات من الرّجال المسلّحين من السّويداء وجوارها حَمَوْا الدّار، فتراجع الفرنسيّون عن قرار الهدم وأصدروا قراراً بديلاً يقضي بنفي حسين مرشد وعشَرَة من رفاقه من المدينة، وتسليم عشَرَة شبّان من أبناء وجهاء السويداء كرهائن ريثما تهدأ الحال ويستتبّ الأمن.

حُسَيْن مُرشِد رُضوان

نعم لقد كانت تلك الحادثة التي جرت قُبَيل إعلان الثورة بعشَرة أيّام من أبرز الأسباب التعبويّة التي كانت الصاعق الذي عجّل بإشهارها. تلك الثورة التي جَرّعت الفرنسيّين هزيمتي الكفر والمزرعة منذ أيّامها الأولى.

صموده أمام مغريات الفرنسييّن

كان الفرنسيّون قد عملوا جاهدين على شراء ولائه لهم، لكنّ ولاءه للوطن أفشل عروضهم، وعندها اعتبروه عدوّاً لدوداً، فراقبوا حركاته وضيّقوا عليه، وقبيل وقوع حادثة المظاهرة كان الليوتنان موريل قد اعتقله عشَرة أيّام أُجْبِر خلالها على الأشغال الشاقّة؛ منها تكسير الحجارة والعمل بشقّ الطّرق حاسر الرّأس حافي القدمين. يجلدونه كلّ يوم ثلاث مرّات ونهاية النهار يُحْبَس ليقضي ليله في مخزن للفحم!!.

دور قيادي وبطولي في عمليّات الثورة

أمّا بعد هزيمة الفرنسيّين في معركة الكفر، فقد كان حسين مرشد أحد قادة المجاهدين الذين كُلّفوا من قبل سلطان باشا بحصار قلعة السّويداء التي لجأ إليها تومي مارتان حاكم الجبل بالوكالة مع نحو خمسمائة من الفرنسيّين وبعض العملاء التّابعين لهم.

وفي يوم التّراجع أمام الزّحف الفرنسيّ مساء أول آب 1925 قُبيل معركة المزرعة بيوم واحد، كان سلطان باشا بصحبة مائة من الفرسان عند نبع عين الفارعة التي تقع بين المزرعة والسّويداء قد التقى بحسين مرشد ومعه جماعة من المجاهدين. قال حسين لسلطان باشا: «إنّ أهالي السويداء قد أقسموا على ألّا يغادروا مواقعهم، وأن يصمدوا في وجه الزّحف الفرنسيّ حتى لو مرّت آليات العدو على أجسادهم». وفي اليوم التّالي يوم معركة المزرعة كان حسين مرشد أحد الأبطال الذين وصفهم سلطان باشا بأنّهم «لا يُشَقُّ لهم غبار»، وقد أشار المجاهد علي عبيد في مذكّرته إلى فريق من مجاهديّ بني معروف ومنهم حسين مرشد وسعيد طربيه وحسين مصطفى ومحمّد عبد الدين أنّهم كانوا من بين طليعة الذين هاجموا قوّات الفرنسيين، ولازموا مُصفّحاتها وقلبوها بأكتافهم وأحرقوها بمن فيها.

وإلى ذلك يشير الدكتور عبد الرحمن الشهبندر في مذكّراته ص31 يقول: « ورأيت خمسَ سيّارات مصفّحة محروقة، وقد أمالها مجاهدو الدّروز على جوانبها حين الهجوم بأكتافهم وقتلوا سَوَّاقيها ومساعديهم بالمسدّسات من كُوَاها (أي: نوافذها) المرتفعة وإنّ رؤية هؤلاء السّوّاقين مُتعانقين مُلْتَحمين تدلّ على هَوْل ما لاقَوْه من المهاجمين. أمّا عندما قام ثوّار الجبل بحملة تحرير دمشق التي لم يُكْتَب لها النّجاح بسبب عدم التزام ثوّار دمشق بملاقاة الثّوار الدّروز في الموعد المتَّفق عليه للإطباق على الفرنسيّين وطردهم من العاصمة، فقد كان حسين مرشد أحد قادة الثوّار في معركة العادليّة جنوب دمشق.

وفي مؤتمر ريمة اللّحف المُنعقد في أوائل أيلول انتُخب حسين مرشد واحداً من أركان قيادة الثورة إلى جانب قائدها العام سلطان باشا الأطرش(3).
وفي معركة المسيفرة في ليل 16/17أيلول 1925 كان حسين مرشد من طليعة الفرسان الذين اقتحموا تحصينات العدوّ ودخلوا إلى خلف خطوطه داخل القرية، وقاتلوا بالسّلاح الأبيض واستولَوْا على مواقع العدوّ وعلى مراكز أسلحته وتموينه وعلى اسطبلات الخيول وركّزوا بيارقهم على أسطح منازل المسيفرة وإلى ذلك يشير المجاهد صياح النّبواني بأنّ حسين مرشد كان يبثّ النّخوة في نفوس المجاهدين، وقد رآه يوزّع الذّخيرة عليهم من الخرطوش المُستولى عليه، وإلى بطولاته في ميدان المعارك يشير شّاعر الثّورة الشّعبي صالح عمار أبو الحسن فيقول:

وحســـين يــــــا ليــــــثٍ شَديد البـــــاس
اَلسّـيـــــف مــــن دمّ الـعــــِدا حنّـــــاهــــا
كـــــم عُــقـــدةٍ كـــــانت بهـــــا عِرْبـــــاس
أنـــــت الــــــذي فَـكِّــيــــــت عُسْــــراهــــا
بـــــالمـــزرعــــة خَلّـيــتــهـــم مـــِرْكــــــــاس
ضَبـــــع كنــــــاكـر باللّقـــــــا عَشّـــاهــــا*
المْسِـيــفْــــرَهْ يومَـــــهْ غَـــــدا مِرْفـــــــاس
كـــــمْ مـــــن صَـــــوِيبٍ لاهَلَـــهْ وَدّاهــــــــا

* أي أن ضبع قرية كناكر نال عشاءه من لحم العسكر الفرنسي.

الجنرال غاملان
في مواجهة حملة الجنرال غاملان وما تلاها

عندما زحف الجنرال غاملان بحملته الأولى إلى الجبل من مواقعه في قَرية المسيفرة في سهل حوران؛ لِفَكّ الحصار عن الفرنسيّين المحاصَرين في قلعة السّويداء منذ يوم معركة الكفر قبل نحو شهرين وذلك في 23أيلول 1925، كان حسين مرشد في طليعة المشاركين في مواجهة ذلك الزّحف الذي ترتّبت عليه سلسلة من المعارك بين يومي 2 و9 تشرين الأوّل وقد دارت تلك المعارك على محور جبهةٍ امتدّت بعرض ثمانية كيلو مترات؛ من قرية المجيمر وحتى نبع المزرعة شمال غرب السّويداء. كانت معركة رساس على ذلك المحور من أعنف تلك المعارك التي انتهت بانسحاب سريع للقوّات الفرنسيّة، بعدها دُحِرَت الحملة إلى مواقع انطلاقها في سهل حوران بنتيجة هزيمتها الأخيرة عند نبع المزرعة. ويشير المجاهد علي عبيد في مخطوط مذكّراته ص 15 ــ 16، إلى أنّ الفرنسيّين خسروا في تلك المعارك نحو ثلاثة آلاف قتيل.

وعندما توجّهت حملة ثوّار الجبل لدعم الثّوار في غوطة دمشق في أوائل تشرين الثاني 1925 بقيادة محمّد باشا عز الدين الحلبي كان حسين مرشد رضوان أحد قادة فرسان الجبل في تلك الحملة وشارك في عدة معارك أهمّها يلدا وببيلا وحمورية وجوبر وعربين. ومن بعدها اشترك في حملة إقليم البلاّن بقيادة الأمير متعب الأطرش وشارك في عدة معارك هناك.

 

القتال في حرب اللّجاة ومعركة السّويداء الثّانية

كذلك قاتل حسين مرشد في معارك اللّجاة سنة 1926، وكان من بين الثوّار المُرابطين في قرية الطّف اللّجاتية بعد السيطرة على قرى جَدْل وصُور وعاسم وجَسْرة والزّباير، ومن تلك القرى كان الثّوار يهاجمون قطارات الإمداد التي كانت تنقل الجنود والإمدادات من دمشق لقوات الجيش الفرنسي المُرابط في سهل حوران؛ الذي جعل منه الفرنسيّون نقطة انطلاق للهجوم على الجبل الثّائر. وفي ذات مرّة تمكّن مع رفاق له من الاستيلاء على القطار وكَسْب ما ينقله من المؤن والمدد.

وعندما قاد الجنرال غاملان حملته الثّانية المكوّنة من نحو ثلاثين ألف جندي للسّيطرة على الجبل عام 1926 قاتل حسين مرشد الفرنسيّين في معركة السّويداء الثانية بين 24 و26 نيسان، وقد تمكّن في تلك المعركة من قتل قائد الفرقة الأولى في الحملة، واستولى على سلاحه وعدّته وعلى أثر تلك المعارك اضطُرّ الثوار للتّراجع والانسحاب من مدينة السّويداء أمام الزّحف الفرنسيّ الذي كان يتفوّق عليهم عدداً وعتاداً، فاحتلّها الفرنسيّون وكانت المدينة قد أُخليت من أهاليها، وتعرّضت للنّهب والدّمار، واستُشهد بنتيجة تلك المعارك مئات من المجاهدين وأصيب الثّلث منهم بجراح بليغة حيث لا يقع البصر إلّا على الأشلاء المتناثرة.

 

الانسحاب جنوباً إلى الأردن

على أثر انسحاب الثّوار من الجبل عام 1927 اشترك حسين مرشد في معركة جْبَيّة جنوب قرية العانات على أطراف الجبل الجنوبية من جهة بادية الأردنّ، وقد دامت تلك المعركة نهاراً كاملا، وقاد مجموعات المجاهدين فيها سلطان باشا بنفسه، وبنتيجتها تمكّن الثوار من هزيمة القوّات الفرنسيّة المؤلّفة من نحو 1500 جندي، وطاردوا فلولها حتى تلّ يوسف. وعندما حوصرت الثّورة من قبل الإنكليز والفرنسيّين، كان حسين مرشد في أواخر نيسان 1927 برفقة الأمير عادل أرسلان في الأراضي الجنوبية من الجبل، تلك الأراضي التي صارت تابعة للأردن إثر اتفاق فرنسي بريطاني تنازلت فيه فرنسا عمّا تدعوه حِصّتها من بترول الموصل لبريطانيا مقابل السماح لبريطانيا باقتطاع الأراضي الجنوبية من جبل الدروز بعمق 60 كيلومتراً جنوب الحدود الحاليّة لقرية أمّ الرّمّان وقرى الجبل الجنوبية المحاذية لبادية الأردن، وحتى موقع الأزرق جنوباً، وكان ذلك التنازل مقابل مساعدتها على إخماد الثّورة وطرد الثوّار الذين لجؤوا إلى الأراضي الأردنيّة أو إجبارهم على الاستسلام لفرنسا. وعلى هذا فقد لاحقتهم القوّات البريطانية وقصفتهم بالطّائرات في أكثر من موقع ومنعت عنهم ورود مواقع الماء المعروفة في البادية، فاضطُرّ الثوار للبحث عن الماء في الصّحراء إلى أن وجدوا غدير ماء آسن فاضطُرّوا للشرب من مائه الملوّث بالدّيدان وذلك بعد موت ثلاثة منهم عطشاً.

بعد انحسار العمليات العسكريّة للثّورة في الأراضي السّوريّة وَرَفْض سلطان باشا الخضوع للاحتلال الفرنسيّ، نزح المجاهد حسين مرشد برفقة القائد العام ورفاقه من الثوّار المجاهدين إلى الأزرق التي كانت من مُمْتلكات جبل الدروز قبل سايكس بيكو، ومن ثمّ إلى وادي السّرحان في السّعودية، وهناك واجهت أسرته الجوع والعطش وموت الأطفال الذين كانوا يموتون بسبب سوء التّغذية وافتقاد الأدوية في بيئة صحراويّة بعيدة عن الحضارة وقد خصصت لهم مقبرة في تلك المنافي.

وظلّ حسين مرشد ثابتاً على قسمه بالولاء للثّورة وقائدها العام، ففي شهر تموز من سنة 1929 ذهب في وفادة برفقة صيّاح الأطرش وسليم الأطرش إلى الأمير عبد الله، وزاروا أخاه الملك عليّ للبحث في إمكانيّة إقامة عائلات المجاهدين في الأردن بعد أن ضاقوا بالحياة في صحراء المنفى المُهلكة في وادي القُرى من السعوديّة، وحصلوا على وَعد بذلك، وعلى هذا يعلّق عبدي صياح الأطرش «ومن أين لهم القدرة على الموافقة إذا كان الإنكليز لا يقبلون إرضاءً للفرنسيين(4). وفي أيلول من العام نفسه ذهب حسين مرشد وصيّاح ألأطرش وجميل شاكر للقاء سعيد العاص بهدف طباعة المنشورات ذات الصلة بقضايا الثّورة، وهم الذين يعتبرون أن ثورتهم لن تنتهي إلّا بخروج المحتلّ من أرض سوريّة.

ومن أجل أن يعقد الثوّار مؤتمراً في الصّحراء في موقع «الحديثة» على الأراضي السّعودية أُوفِد حسين مرشد وشكيب وهّاب وصيّاح الأطرش إلى عبد الله الحواسي أمير المنطقة التي يقيم فيها الثوّار بقصد إعلامه بمؤتمر سيعقدونه لبحث شؤونهم، وفيما بعد كان الرجل أحد أعضاء اللّجنة الماليّة التي انبثقت عن ذلك المؤتمر، ومن مهامّها تلقّي الإعانات المُقدّمة للثوّار وعائلاتهم والإشراف على حسن توزيعها. كما ذهب في وفادة إلى ديار صفد في فلسطين هو وقاسم أبو صلاح وسليم الأطرش لشرح أبعاد القضية الوطنيّة التي يعمل عليها الثوّار، ولجمع التبرّعات لدعم صمودهم.

صورة المجاهد حسين امام مضافته مع مجموعة من اقاربه واصدقائه.

.المنفى البديل في الأردنّ ومقدّمات العودة إلى الوطن

 في عام 1933 انتقل حسين مرشد وسائر الثوّار إلى الأردن برفقة القائد العام ومجاهديّ الثّورة بصفة لاجئين سياسيّين على ألّا تكون إقامتهم قريبة من الحدود السوريّة(5)، وذلك بعد موافقة بريطانيا والحكومة الأردنيّة على ذلك. ولما كان الرّجل أحد أبرز وجهاء مدينة السّويداء المناوئين لسلطات الاحتلال الفرنسي؛ فقد وصلته رسالة من الكولونيل دوفيك، وهذا مندوب المفوضيّة العليا في حكومة جبل الدّروز حينها؛ ينصحه فيها بالاستسلام مع أّنّه كان محكوماً عليه بالإعدام، وتلك محاولة فرنسيّة خبيثة لكسب ولائه لكنّه لم يعبأ بتلك النّصيحة الماكرة. وبنتيجة موقف القائد العام الثّابت من حقّ سورية بالاستقلال وبالتّنسيق مع الحركة الوطنيّة في الداخل السّوري المؤيدة لثوّار المنفى، والدّاعية للاعتراف باستقلال سورية ولبنان، قبلت فرنسا بمعاهدة عام 1936، التي اعترفت بموجبها بحقّ البلدين بنيل استقلالهما، ووافقت على عودة الثوّار وأسقطت أحكام الإعدام التي كانت قد صدرت بحقّهم إبّان فترة الثورة. وعلى هذا فقد كان حسين مرشد عضو لجنة التّنسيق لتنظيم عودة الثوّار إلى الوطن. ولمّا كان الفرنسيّون يعملون على حالة خلق حال من التمييز بين السماح بعودة بعض المجاهدين اللّبنانيّين والدمشقيّين من جانب والمجاهدين من الجبل من جانب آخر، وهذا ما لم ترضَ عنه قيادة الثورة، لذا فقد شُكِّلت لجنة من كلٍّ من حسين مرشد وعلي عبيد وزيد الأطرش ومحمّد باشا عز الدين الحلبي للعمل على إزالة بعض الموانع القانونيّة التي وُضِعت بحق المعنيّين من أولئك المجاهدين بدعوى أنّه سبق أن صدرت بحقّهم أحكام عديدة، ولهذا عُقِدت عِدّة اجتماعات لتسوية هذه المسألة في منزل المسؤول الأردنيّ (اللبنانيّ أصلاً) حسيب ذبيان في عمّان.
.

جبل العرب لا جبل الدروز وعودة لمجاهدين الظافرة إلى الوطن

 يخطِئ من يظنّ أنّ الثّورة السورية الكبرى انتهت عام 1927، ففي ذلك العام كانت نهاية المواجهات الحربيّة بين الثوّار وبين القوات الفرنسيّة، غير أنّ العمل السياسيّ في الداخل السوريّ كان مُكَمّلاً للعمليّات الحربيّة؛ وقد رفض سلطان باشا ورفاقه ومنهم حسين مرشد العودة إلى سورية والتخلّي عن فكرة الثورة طالما بقي الفرنسيّ يحتلّ البلاد تحت اسم الانتداب كذريعة تزيينيّه زائفة للاستعمار البشع، وعلى هذا فإنّه بعد اعتراف فرنسا باستقلال سورية ولبنان؛ صدر عفو فرنسيّ عن المجاهدين ولمّا كان الشّعب الأردنيّ متضامناً مع الثّورة السوريّة، فقد أقيم احتفالٌ وَداعيٌّ في سينما البتراء في عمّان، شاركت فيه وفود عربيّة من سورية ولبنان وفلسطين وسواها احتفاءً ووداعاً لمجاهديّ الثّورة السوريّة وقائدها العام سلطان باشا الأطرش بعد سنوات مُضْنِيَة من القتال والمنفى، وفي ذلك الاحتفال أعلن عجاج نويهض المجاهد اللّبناني العروبيّ النّزعة والصّحافي اللّامع، في كلمة ألقاها في ذلك الاحتفال؛ قال فيها مخاطباً سلطان باشا وجمهور الحضور: «إنّ هذا السّيف الذي انتضيتموه في سبيل سوريّة هو مدعوٌّ لِيُنتَضى اليوم في سبيل منطقة الإسكندرون لأنّ بلاد العرب واحدة لا تُعطى لُقَماً إلى اليهود والغرباء، لذلك فإنّك رَمْزُ الجهاد العربيّ المستقلّ، وهذا مُتَوارث فيك وفي عشيرتك الأكرمين بني معروف، فالجبل الذي يقال له زمن الفرنسيّين جبل الدّروز، أصبح بفضل جهادك وجهاد إخوانك جبل العرب»(6)، ومن فوره في ذلك الاحتفال وافَقَهُ سلطان باشا ورفاقُه على هذه التّسْمية وعُمِّمَ الاسم في الصّحافة ووسائل الإعلام آنذاك.

قائدٌ مجاهدٌ وفقير!

وصل حسين مرشد برفقة القائد العام والثوّار العائدين إلى الجبل في أواخر أيار 1937، غنيّاً بنفسه وجهاده، لكنّه منكوبٌ من جانب آخر، وعلى ذلك يقول محمّد جابر(7) إنّه «كان خالي الوفاض فقد أُصيب بنكبات فادحة (وفاة عدد من أبنائه في المنفى، كما وجد داره ركاماً بعد أن دمّرها الفرنسيّون انتقاماً منه وكانوا قد نهبوا وصادروا أملاكه».

من ثائر منفي إلى نائب في مجلس النوّاب

ولم ينعزل ذلك المجاهد الكبير بعد عودته من المنفى إلى الوطن، بل انتقل إلى الجهاد السياسي، إذ تمّ انتخابه لعضويّة المجلس النيابي السوري بنسبة عالية من الأصوات لكونه من نشطاء التجمّع القوميّ، وكان له رصيد اجتماعيّ كبير في مدينته السّويداء فهو من مؤسّسيّ الهيئة الشعبية الوطنية في جبل العرب آنذاك. ومن مقاوميّ العدوان الفرنسي على دمشق في حوادث أيّار 1945 ومن معارضيّ الفصل بين جبل العرب والوطن الأمّ سورية، وفي عام 1947 كان واحداً من الرجال البارزين في الحركة الشعبيّة في الجبل؛ تلك الحركة التي انحرفت عن أهدافها الاجتماعيّة التّغييريّة إلى العمل المسلّح.

وفي العام 1948وبدافع من الحسّ الوطنيّ العروبيّ في أسرة المجاهد العريقة بنضالها، اندفع ابنه فهد لقتال الصّهاينة المدعومين من بريطانيا في فلسطين إلى جانب فريق من شبّان بني معروف واستُشْهد على الأراضي الفلسطينيّة في معركة الخان.

وعندما انحرف أديب الشيشكلي إلى الاستبداد وجنح إلى الحكم الدكتاتوري؛ أُوفد حسين مرشد ويوسف العيسمي من قبل القائد العام سلطان باشا الأطرش لتمثيل الجبل في مؤتمر القوى الوطنيّة المُنعَقد في حمص عام 1953، وقد أدّى هذا بالدكتاتور إلى تسيير حملة انتقاميّة إلى الجبل عام 1954، وكان المجاهد حسين مرشد ممّن حملوا السلاح في وجه ذلك العدوان.

وفي عهد الوحدة كان واحداً من أعضاء لجنة الاتحاد القومي في السّويداء، وذلك كان التّنظيم الذي اعتمدته سلطات حكومة الوحدة بديلا للأحزاب السوريّة التي تمّ حلُّها، وملاحقة المُعْترضين على ذلك.

كان الرّجل مخلصاً بحقٍّ في تأييده للوحدة بين سورية ومصر عام 1958، تلك الوحدة التي عُقِدَت عليها آمال الوطنيّين العرب في بدايتها قبل أن يتمّ اغتيالها بسبب الفساد الإداري في الدّاخل، والتآمُر الاستعماريّ من قوى الخارج المعادية لأيّة قوّة عربيّة ناهضة.

وبقي حسين مرشد وجهاً اجتماعيّاً مرموقاً ومُحترَماً في مدينة السّويداء إلى أن توفّاه الله في الثالث من نيسان عام 1968، في مدينته التي طالما أحبّها، وتكريماً له سُمّيت باسمه مدرسة ابتدائيّة في الحيّ الذي كان يقطنه، وقرب داره التي هدمها الفرنسيّون، وقد قام الفنّان فؤاد نعيم بإنجاز تمثالٍ له منحوت من حجر الجبل البازلتيّ الذي تعشّقه حسين مرشد رضوان، وسمّيت باسمه ساحة على مدخل السويداء الغربي.

نعم سيبقى المجاهد حسين مرشد رضوان علماً من أعلام بني معروف الموحّدين في جهادهم النضالي ضد الاستعمار وفي جهادهم السياسي ضد الدكتاتوريّة ومن أجل قيام مجتمع عادل لجميع أبناء الوطن…


المراجع:
  1. يحيى حسين عمار، الأصول والأنساب، دار الضحى للنّشر، ص 85.
  2. أحداث الثورة السّوريّة الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش، 1925ــ 1927، دمشق، دار طلاس 2007، ص86.
  3. كتاب أحداث الثورة السوريّة الكبرى 1925ــ 1927، م.س، ص 131.
  4. عبدي صيّاح الأطرش، أوراق من ذاكرة التاريخ، ط1، دمشق، دار الطليعة، 2005، ص127.
  5. أحداث الثّورة السّورية الكُبرى، م. س، ص 339
  6. نويهض، عجاج، ستّون عاماً مع القافلة العربيّة، دار الاستقلال، بيروت، لبنان،1993، ط1، ص 76ــ 77
  7. جابر، محمّد، أركان الثورة السوريّة الكبرى.

العدد 28