بين كَوكَبة من أعلام الأدب العربيّ، أوائل القرن العشرين، يشعُّ وجه شاعر القضاة وقاضي الشّعراء، الشيخ أحمد تقيّ الدّين، ويبرز اسمه إلى جانب مشاهير الأدباء والشعراء والمتزاحمين في المواسم الأدبية، والمتبارين في حَلبَة الشعر الرفيع، أمثال داود عمُّون، وشبلي الملّاط، ووديع عقل، وأمين آل ناصر الدين، وبشارة الخوري وأمين تقيّ الدين… شاعراً عبقريّاً حكيماً، عالج علل المجتمع، بفكر نيّر، ورأي صائب، ومدارك واسعة، ووطنيّة خالصة. عاش في حِقبة من تاريخ لبنان السياسي والأدبي متراكمة الأحداث وافرة العبر، شهد فيها الانقلاب العثماني الأوّل، فإعلان الدستور، ثم خرق البروتوكول، فإلغاء الاستقلال اللبناني، والحكم التّركي المباشر، فانتشار الجوع والمرض، فإقرار الانتداب، وإعلان الجمهوريّة، وظهور تباشير الاستقلال. كما شهد مدَّ الموجة الرومنطيقية في الشّعر والقصص، وبوادر النزعات التحرّرية المستوحاة من الغرب تفكيراً، ومحاولة الجمع بين الجديد النافع والقديم الصالح.
نشأ الشيخ أحمد في بيت لبناني عريق، اشتُهر رجاله بالعلم والتقوى والاستقامة والمروءة والوطنية وكان له من محامد بيته الكريم، ما دعم مواهبه الفكرية الشريفة، من ذكاء النفس، وصحة الخلق ولطف الشمائل، وإشعاع العبقريّة، فإذا هو فوق الكرسيَّين؛ كرسيّ الأدب وكرسي القضاء مفخرة من مفاخر لبنان والعروبة، كما عبّر عن ذلك صديقه الشاعر بولس سلامة:
أحمـــــدُ، غصنُ العــــــزّ مـــــن دَوْحـــــةٍ
لهــــا علــــى الأفيــــــــاء عــهـــدٌ وثــيـــقْ
ظــــلالُـــهـــــــا في الشّــــــــوف مُـمــتـــدّةٌ
عرضَ الرُّبــــى في كُلِّ فجٍّ ســحـــيـــــــقْ
وقد أكَّد ذلك أيضاً أمير الدولتين الشاعر أمين آل ناصر الدين سراج اللغة العربية المُشع من «كفرمتى» كما كان يلقبّه الأديب الكبير مارون عبّود إذ قال:
فُجِعَتْ بـــه غُرُّ المنــــاقـــبِ إذ قضـــــى
وانْــــــدكَّ ركــــــنٌ للقضــــــاء مـشــيَّـــــدُ
وتــلــهّـــــف الأدبُ الصميمُ ولــــــم يَزلْ
دمـــــعُ اليَراعـــــة ســــــائلاً لا يجـمــــدُ
وُلد الشاعر أحمد تقي الدين عام 1888م في بعقلين، البلدة الشوفيّة اللبنانية ذات التاريخ المجيد، وتلقّى علومه الابتدائيّة في مدرسة الداوديّة في «عبيه» والثانوية في مدرسة الحكمة في بيروت ونال جائزتها الشعريّة. درس الشّرع والقانون على كبار رجال الفِقه والشريعة والقانون. زاول مهنة المحاماة ثم تولّى القضاء العدلي سنة 1915 وتُوفّي في 29 آذار 1935، وَرُفع رسمُهُ في دار الكتب الوطنية سنة 1974 تخليداً لذكراه مع الخالدين… في شعره بساطة الطبيعة الشوفيّة وتنوُّع مناظرها وألوانها، وفيه أيضاً شكوى هذه الطبيعة التي ظلّت فترة من الزمن وربّما ما تزال، منسيّة إلى حد ما، مظلومة إلى حد ما، كما ظُلم الشاعر نفسه. ومن ثمّ فيه من عِبَر الحياة وحِكَمها الكثير ممّا خلفته العصور السياسية المتعاقبة، فطبعت الشوف بطابَع فريد، هو مزيج من الزّهد والطموح والخشونة والرِّقة، «كيُنبوع الصفا خشنوا ورقوا»، والكبرياء والتواضع وهواية الخناجر والمحابر معاً.
وطـــــنٌ كســــاهُ اللهُ أحســــنَ حــلــيـــــةٍ
يُكســـــى بهـــــــا جبلٌ علــــى الإطـــلاق
وبقدرِ مـــــا حَبَـــت الطبـيـعـــةُ أرضَــــهُ
ضنَّــــــــت علــــــى سُكـــانــــــه بوفـــــــاق
فالشاعر هو ابن الشوف، ابن العشيرة، ومن ثم فهو ابن لبنان وابن العروبة والإنسانية الشاملة:
يـــــــــــــــا وطنـــــــــــــــي الغــــــــــالــــــــــــي
وعـــريــــــــــن الأُسْـــــــــــدِ الأبـــطـــــــــالِ
أفـــــديـــــــــك بــــروحــــــــي والمـــــــــــــالِ
فــــالمـــجــــــــدُ بــــعــــــــــزّ الأوطـــــــــــــان
إنَّ الأوطــــــــــــــانَ تـــــنــــــــــاديـــــنـــــــــــا
لـــنــــعــــــزِّزَهـــــــــــا بمبـــــــــاديــــنــــــــــــا
فــلـنـجــعـــــــــلْ خدمـــتَـــهــــــــا دِينــــــــــا
ونــــكــــــــــــرّمْ كـــــــــــــلَّ الأديـــــــــــــــــــان
والشاعر أيضاً ابن لبنان ووارث أرزه ومورث ولاءه لأولاده.
هــــذي بــــــلادي والــــــبــــــــلادُ عزيزةٌ
عندي ولــــــــو جــــــارت عليّ بــــــلادي
وأنـــــــــا ابـن لـــبــنــــــــــــانَ ووارثُ أرزه
ومـــــــــورِّث لــــــــــولائـــــــــــــــــــه أولادي
أنعِمْ به من ميراث، ولكنّ الخطر الأكبر أن ننسى أنّ في جبال الباروك منابت الأرز العظيم، وأنّ تلك السفوح الشوفيّة الشامخة، وإن حُجِبت عن أنظار السياح الأجانب إلّا أنّها لا يمكن أن تُحجب هاماتُها الشامخة في تاريخ لبنان وفي حاضره ومستقبله.
ويلتفت الشاعر إلى أفق المجتمع فإذا نِظرتُه عميقة، تحفل بمعالم الإنسانية والدعوة إلى أُخُوَّةِ الناس وإزالة ما بينهم من الفوارق المُصطنعة شأنه شأن العباقرة المُصلحين الذين نادَوا بالعدالة والمساواة:
يـتـقــــــاتـــلـــــون ديـــــــــــانةً وجهــــالـــــةً
وَمُــريــــــدُ هــــذا القتـــــل أكبرُ مُلحــــدِ
اســـتـغـفـــــــرُ الرّحـــمـــــــــــنَ أنَّ اللهَ لا
يوحــــــي بـتــــفــــريق المَــــــلا فلنَهْــتَـــــدِ
إنّ الــــــــذي أوحــــــى وفــــرّق بيننـــــــــا
سقـــــمُ العقولِ وسقمُ وعظِ المرشــــــد
وبمثل الحرارة التي يدعو بها الشاعر إلى العدالة والمساواة يدعو أيضاً إلى الإصلاح والتجديد واعتماد العلم منهجاً لتحقيق التقدّم والرّقي:
ونظرتُ في الأوطــانِ نِظْرةَ مُصلحٍ
وجـــدَ العلـــــــومَ مطيَّـــــةَ الإســعـــــــــادِ
فــــــرأيتُ أنَّ الغـــــربَ يـــرقــى للسُّهى
والشرقُ يـلـــهــــــــو في ثرى الأجـــــــدادِ
عبثاً نـــرى الإصـــــلاحَ إنْ لــــــم نَطَّرِحْ
مــــــا قد ورِثنـــــــا من ســـــقـــيــــم تِلادِ
واعتزاز الشاعر بوطنه يوصله إلى الاعتزاز باللغة العربية، ففي تعلُّمها وتعليمها كما يقول الشيخ أحمد صيانة لكرامة لبنان، وهو حين يُحَيّي معهده الكبير، الحكمة – فإنَّما يُحيِّي فيه حمايته لواء الضاد الذي يرى فيه الرّباط المقدس للِّسان ومن ثم الموحّد للقلوب:
بدَت المنــــــــازل فأتـــئـــــد يـــــــا حادي
هــــــذي معــــــاهدُ (حِكمتي) ورشادي
صَرحٌ حمى بعــلومـــــــه علمَ الـهــــــدى
وحــمـــــى بنهضــتــــــه لــــــواءَ الضـــــاد
ولا يقلُّ اعتزاز الشاعر بمآثر آبائه وأجداده العرب عن اعتزازه بوطنه وبلغة الضّاد، فهو لم يتورّع عن أن يتغنى مُفاخراً بمزاياهم من على منبر الحكمة، مترجماً إحساسه الصادق بعروبته الأصيلة:
هـــذي مــــــآثرُ آبـــــاءٍ لــنــــــــا نُجُــــــبٍ
سَطعنَ في أفق التـــــــاريخ كالــشُّــهــبِ
وبِتن مفخـرةً تبقـــــى علــــــى الحِقَـــبِ
فـلـنـفـتـخـــرْ بمزايــــــا قومِنــــــا العربِ
ولــــــنحتفظ بــعـــلـــى آبائنـــــــا الصِّيدِ
واخرجْ إلــــــى الدُّنيـــــا عصاميّاً فــــلا
فوزٌ لمــغــتــــــرٍّ بـــطــيــــــبِ المــــحــــتِــــــد
إنّ الذيــــــــن تـــفـــوّقـــوا خرجـــــوا من
الأكــــــــواخ لا من عـالـــيــــــات المولـــــدِ
وفي هذا السياق الاجتماعي الإنساني، ينظر إلى المرأة نِظرةَ عطف وعدل وحقّ، فيرى فيها صورة الشعوب، فيهتف بصوتٍ عالٍ مخترقاً سُجُف التقاليد وسدود التخلُّف والأوهام:
شريعتي الــعـــدلُ فمــــــــا بــــالُــــهـــــــم
قـــد حبَســــــــوا المــــــرأةَ في المـــخــــدعِ
ومن واجب المرأة اللبنانية – العربية اليوم أن تُولي أدب الشيخ أحمد الاهتمام الذي يستحقه فالوِقفة المبدئية التي وقفها الشاعر من المرأة الشرقيّة، كانت وِقفةُ رجل شجاع، عميق الإدراك، شديد الشعور بالحق والإنسانية والتقدم:
عـــلِّــمــــــوا البنتَ أيـــهـــــــــا الآبـــــــــــاءُ
إنّمـــــــــا الـعــلــــــــمُ للفتـــــــــاة سنــــــــاءُ
هــــــــي في الشَّعـــــــب صــــورةٌ للتَّرقّي
إنَّمــــــا صورةُ الــــشــــعــوب النِّســــــــاءُ
والشيخ الشاعر امتازَ شعره بالذكرى والعاطفة والحكمة تماماً كتحديدات أحمد شوقي للشّعر الجيّد.
وتميّز على حدِّ قول فؤاد أفرام البستاني: بفكرٍ صافٍ، ومنطق سليم، ونظم سهل، وأسلوب لطيف، وشعور بالطّبيعتين الداخليّة والخارجيّة ما جعله ينخرطُ فارساً قويّ الطّبع مجيد الأصل. ولا شكّ في أنّ من يطالع شِعرَه يرضى كلّ الرّضا عن الشاعر البليغ الرقيق، شاهد عصره، ومصوّر بيئته.