الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

التزوير في السردية الاعلامية الغربية المتصلة بحرب غزة
التزوير والإنحياز والتقصير

شكّلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد معركة طوفان الاقصى في السابع من تشرين الاول (اوكتوبر) من العام 2023 محطة مهمة في فهم ومعرفة السياسات الإعلامية الغربية تجاه القضية الفلسطينية وما يعانيه الشعب الفلسطيني من قبل العدو الصهيوني من جرائم انسانية وحرب ابادة تنتهك كل معايير حقوق الانسان والمعاهدات العالمية حول الحروب وكذلك كل المعايير الانسانية والاجتماعية، ان من خلال قتل واستهداف العدد الكبير من السكان الفلسطينيين والذي تجاوز عشرات الالاف ومن ضمنهم الاف النساء والاطفال او من خلال تدمير واستهداف المستشفيات والكنائس والمساجد وسيارات الاسعاف، وكذلك فرض الحصار لفترة طويلة على سكان القطاع ومنع وصول الماء والطعام والادوية والوقود.

لكن الخطير في هذه الحرب اللانسانية والمدمرة والتي وصلت الى ما يمكن وصفه «بحرب ابادة» بكل ما تعنية الكلمة، ان العديد من وسائل الاعلام الغربية ساندت العدو الصهيوني في هذه الحرب وبررّت جرائمه وعدوانه وعمدت الى شيطنة قوى المقاومة والشعب الفلسطيني وخصوصا حركة حماس.

وسنحاول في هذه المقالة تقديم بعض النماذج عن كيفية التزوير في السردية الاعلامية الغربية لحرب غزة وكيفية شيطنة قوى المقاومة وكيفية تبرير جرائم العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني.

وسنتطرق في هذه المقالة الى عدة نقاط ومنها:

أولاً: من يتحمل مسؤولية ما قامت به حركة حماس في معركة طوفان الاقصى وكيف تعاطت بعض وسائل الاعلام الغربية في هذا المجال .

ثانياً: كيفية مقاربات وسائل الاعلام الغربية للجرائم التي ارتكبها العدو الصهيوني ضد قطاع غزة .

ثالثاً: الحلول التي كانت تعرضها بعض وسائل الاعلام الغربية لانهاء الحرب والدعوة لانهاء حركة حماس وعدم الاخذ بالاعتبار لكل حقوق الشعب الفلسطيني .

أولاً: من يتحمل مسؤولية معركة طوفان الاقصى

من يتحمل مسؤولية ما قامت به حركة حماس في معركة طوفان الاقصى وكيف تعاطت بعض وسائل الاعلام الغربية في هذا المجال؟

منذ أن أطلقت المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها (كتائب عز الدين القسام – الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) – في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عملية طوفان الأقصى، أصبحت كثير من وسائل الإعلام الغربية تعتمد رواية الاحتلال الإسرائيلي على ما سواه متجاوزة في كثير من الأحيان الضوابط المهنية والحياد وقد ظهر ذلك في أكثر من مناسبة.

وعندما يتبني الاعلام الغربي والمسؤولون الغربيون كل الأخبار الواردة من الكيان الاسرائيلي دون استثناء، مثل خبر «قطع حماس رؤوس أطفال إسرائيليين»، والذي تحدث عنها الرئيس الامريكي جو بايدن، وتناقلته وسائل إعلامية غربية معروفة، وبقيت تكرره على انه حقيقة، رغم انه تم تكذيب الخبر لاحقا، بعد ان تبين ان مصدره جندي اسمه ديفيد بن زيون، وهو من عتاة المستوطنين المؤيدين لقتل الفلسطينيين، تناقلته قناة «إسرائيلية»، وتبناه الاعلام الغربي دون تردد او تحفظ.

كما تبنى الإعلام الغربي تحميل «حركة حماس» مسؤولية ما جرى في معركة طوفان الاقصى دون العودة الى ما كان يجري قبل السابع من تشرين الأول (أوكتوبر) من ممارسات عدوانية صهيونية ضد الشعب الفلسطيني، سواء من خلال محاصرة قطاع غزة لاكثر من 17 سنة او الاقتحامات المستمرة للمسجد الاقصى او وجود الاف السجناء الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية وعدد كبير منهم دون محاكمة وفي ظل معاناة كبيرة داخل السجون، وكذلك قتل الفلسطينيين من قبل الجنود الصهاينة او ممارسات المستوطنين الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة وكل الممارسات اللانسانية طيلة عشرات السنين من قبل العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني.

في حوار تلفزيوني اجراه الصحافي ادم شمس الدين عبر قناة نيو تي في مع المسؤول الاميركي السابق دايفيد ساترفيلد حول ممارسات اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، اعتبر ساترفيلد انه من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها حتى لو ادى ذلك لقتل مائة الف فلسطيني او اكثر. وهناك مقابلة كاملة حول هذا الموضوع على موقع قناة نيو تي في.

ثانياً: الاعلام الغربي وجرائم العدو الصهيوني

كيفية مقاربات وسائل الاعلام الغربية للجرائم التي ارتكبها العدو الصهيوني ضد قطاع غزة.
رغم فظاعة ووضوح الجرائم الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، سواء من خلال العدد الكبير من الشهداء والجرحى ومعظمهم من النساء والاطفال، او عبر استهداف المستشفيات وسيارات الاسعاف واخراج المرضى والاطباء بالقوة من المستشفيات واستهداف المدارس، فان بعض وسائل الاعلام الغربية حاولت تبرير جرائم العدو الصهيوني من خلال تبني الرواية الاسرائيليية بان المستشفيات هي ماركز عسكرية لحركة حماس او تحميل حركة الجهاد الاسلامي مسؤولية قصف المستشفى المعمداني، كذلك اللافت أن «بي بي سي» نشرت، قبل يوم واحد من قصف المستشفى تقريرا يتساءل: «هل تقوم حماس ببناء الأنفاق تحت المستشفيات والمدارس؟.»

ويضيف التقرير أنه «من المرجح أن تتدفق شبكة الأنفاق تحت أحياء مكتظة بالمنازل والمستشفيات والمدارس، مما يمنح الاحتلال الإسرائيلي ميزة الشك عندما يتعلق الأمر بقصف مثل هذه الأهداف».

وجاء الجواب من الاحتلال في اليوم التالي بارتكاب مجزرة المستشفى وقتل المئات من المرضى وذويهم من النساء والأطفال، في مجزرة ربما لم يشهد التاريخ مثيلا لها.

وكررت مراسلة «سي إن إن» الأميركية ما قاله جيش الاحتلال، وقالت إن «حماس ربما أخطأت في إطلاق الصواريخ لتسقط على المستشفى في غزة، وفقا للجيش الإسرائيلي» ويمكن مراجعة تقرير حول هذا الجانب على موقع قناة الجزيرة.

ومن الواضح ان الاعلام الغربي عمد مرارا الى تبني الروايات الاسرائيلية والى منع وجود اصوات داعمة للقضية الفلسطينية وأحد أهم النماذج لقمع الاعلام الغربي لأي صوت عربي مؤيد للفلسطينييين طرد الإعلاميين العرب أو إيقافهم عن عملهم والتحقيق معهم كما حصل مع مراسة البي بي سي في بيروت ندى عبد الصمد وكذلك مع صحافيين عرب آخرين في مؤسسات إعلامية غربية في المانيا وكندا.

ثالثاً: حول الحلول المطروحة القضية الفلسطينية والدعوة لانهاء حركة حماس

الحلول التي كانت تعرضها بعض وسائل الاعلام الغربية لانهاء الحرب والدعوة لانهاء حركة حماس وعدم الاخذ بالاعتبار لكل حقوق الشعب الفلسطيني.

معظم المقالات في وسائل الاعلام الغربية التي كانت تطرح حلولا للقضية الفلسطينية بعد معركة طوفان الاقصى والحرب على قطاع غزة كانت تركز على كيفية انهاء حركة حماس وقوى المقاومة ومواجهة الجهات الداعمة لها، وتعتبر انه لا يمكن التوصّل الى حلول نهائية للقضية الفلسطينية دون القضاء على حركة حماس، وحتى عنكما كانت بعض الاوساط الغربية، سواء من مسؤولين رسميين او وسائل اعلام، من اجل تبني حل الدولتين واقامة دولة فلسطينية كانت تشترط ضرورة انهاء حكم حماس لقطاع غزة وصولا الى انهاء وجودها كليا، ويعتبر هذا الطرح اساءة للشعب الفلسطيني ومقاومته، ومن ابرز الصحافيين الغربيين الذين دعوا الى هزيمة حركة حماس ومن يدعمها الصحافي الاميركي توماس فيردمان والذي أشار في مقال له في صحيفة «نيويورك تايمز»: إلى أنّ هناك صيغة واحدة تعزّز فرص انتصار قوى الاعتدال والتعايش في الحروب الثلاث، وهي: هزيمة حماس، طرد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وحلفائه المتطرّفين، ردع إيران، وإعادة تنشيط السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بالشراكة مع الدول العربية المعتدلة، وإحياء خيار الدولتين. (عن مقال فيردمان المترجم في موقع اساس ميديا).

وهناك مقالات اخرى في الصحف الغربية تدعو لانهاء قوى المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان لان ذلك هو الطريق الوحيد لضمان أمن الكيان الصهيوني .

طبعا لا يعني ذلك انه لم يحصل تغير في مواقف وسائل الاعلام الغربية تجاه القضية الفلسطينية بعد الحرب على غزة وما ارتكبه العدو الصهيوني من ممارسات اجرامية، فقد برزت مقالات ومواقف غربية تدعو لوقف الحرب على قطاع غزة والعمل للوصول الى حلول سياسية، وكان لمواقع التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في نشر صور ما يجري في غزة وهذا انعكس ايجابا على الاوساط الشعبية والطلابية في الدول الغربية وتغيير موقفها من القضية الفلسطينية والمشاركة في المسيرات الشعبية الكبرى في معظم مدن العالم لنصرة للشعب الفلسطيني.

وقد قامت العديد من المؤسسات العربية المختصة بالشأن الفلسطيني ومنها مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومركز الزيتونة للدراسات والابحاث بنشر مقالات ودراسات تشرح حقيقة القضية الفلسطينية باللغات العربية والانجليزية والفرنسية وكان لها دور مهم في هذا المجال، اضافة لما قام به العديد من القنوات العربية والتي نجخت في الوصول الى الجمهور الغربي وخصوصا قناة الجزيرة، وهناك قنوات اخرى وصلت الى اميركا اللاتينية مثل قناة الميادين، اضافة الى دور اعلام المقاومة وما اعتمدته حركة حماس من اطلالات اعلامية وكيفية اطلاق الاسرى عندها، وبعض المواقف التي اطلقها عدد من الاطباء والدبلوماسيين العرب والغربيين والذين شرحوا حقيقة ما يجري في قطاع غزة، وهذا كله ساهم بالرد على السردية الاسرائيلية ولو بشكل محدود.

وفي الخلاصة نحن أمام معركة اعلامية وثقافية وفكرية إلى جانب المعركة العسكرية والنضالية من أجل شرح حقيقة ما يجري في فلسطين المحتلة ومواجهة الرواية الإسرائيلية في الإعلام الغربي، وقد تكون معركة طوفان الأقصى والحرب على قطاع غزة قد أتاحت للعرب والفلسطينيين إعادة طرح القضية الفلسطينية مجدداً على الصعيد العالمي، وهناك حاجة كبيرة لمواصلة الجهد في هذا المجال لان المعركة مستمرة ولن تنتهي بأسابيع او أشهر، وسيكون العالم في المرحلة المقبلة، وبغض النظر عما ستنتهي اليه الحرب العسكرية أمام تحديات كبيرة في كيفية مواجهة الجرائم الصهيونية ومحاكمة المجرمين الصهاينة وتوثيق ما جرى وإعادة كتابة تاريخ القضية الفلسطينية من وجهة نظر أصحابها الحقيقيين ولإعادة الحقوق الى أصحابها.

حرب غزة تفضح المعايير الزائفة في الإعلام الغربي
التزوير والإنحياز والتقصير

في أوقات الأزمات والحروب يبرز دور الإعلام وأهميته، إذ تشكل وسائل الإعلام الوجهة الرئيسية للمهتمين بمتابعة الحدث ومراقبة التطورات. ولا يختلف اثنان على مدى تأثير هذه الوسائل في تكوين وجهات النظر لدى المتلقين عن طريق السياسة التي تعتمدها في تسليط الضوء على الحدث، فهي تتحول من كونها مسؤولة عن نقل «الحقيقة» إلى المساهمة في تشكيل الرأي العام وصوغ مواقفه وتحركاته.

وللإعلام ضوابط ومعايير مهنية متعارف عليها تقتضي أن تلتزمها وسائل الإعلام، تتمثل في التقيد بمجموعة من المبادئ والقيم والسلوكيات، أهمها: نقل الواقع والحقيقة بتجرد، والدقة في نقل المعلومة، والشفافية، وتجنُب كل ما من شأنه إثارة خطاب الكراهية والعنصرية، وغيرها…

هذا من الناحية النظرية، لكنّ واقع الأمور بالنسبة إلى الإعلام، بصورة عامة، ربما لا يتطابق دائماً مع المعايير والضوابط، وفي كثير من الأحيان تصبح أخلاقيات المهنة مجرد مصطلحات نظرية، وهو ما جرى خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت.

فممّا لا شك فيه أنّ الحرب الشعواء التي أعلنتها إسرائيل على القطاع، في أعقاب عملية طوفان الأقصى، كشفت كيفية تعامل الإعلام الغربي مع الحدث، ومدى التزامه المعاييرَ المهنيةَ؛ إذ سارعت أغلبية وسائل الإعلام الغربية الساحقة إلى تبنّي السردية الإسرائيلية منذ الساعات الأولى للعدوان، وهي سردية تجاوزت المعايير المهنية والأخلاقية، فقامت على مجموعة من الأكاذيب مظهرة تحيُزاً واضحاً إلى جانب إسرائيل، وخصوصاً في المراحل الأولى من الحرب.

وعلى الرغم من بعض التحول في توجهات الرأي العام الغربي، وهو تحوّل فرضته حقائق ما يجري على أرض الواقع من همجية إسرائيلية فاقت الوصف وكشفت زيف الإدعاءات الصهيونية، فإنّه من المفيد التوقف عند عدد من السرديات الإسرائيلية التي تبنّاها الإعلام الغربي من دون مراجعة أو تدقيق، وفرضها على الرأي العام عبر تبنّيها بصورة مطلقة وتكرارها:

السّردية الأولى: «حماس» قطعت رؤوس الأطفال

كان من اللافت انزلاق الإعلام الغربي في ترديد هذه الأكاذيب، وفي مقدمها الروايات التي تحدثت عن مجازر ارتُكبت بحق الإسرائيليين، وعن «قطع رؤوس الأطفال»، وحرق جثث، واغتصابات وغيرها من دون تقديم أدلة. ومن الأمور التي ساهمت في انتشار هذه الروايات مسارعة الرئيس الأميركي جو بايدن ومسؤولين في إدارته إلى تبنّي الرواية وترديدها أمام الرأي العام العالمي قبل التأكد منها.

لكنّ المفاجأة كانت أنّه عندما سُئل مسؤولون في البيت الأبيض عمّا إذا كانوا يملكون ما يؤكد صحة هذه الأنباء، اضطرّوا إلى التراجع عن التصريحات، فنقلت شبكة «CNN» الإخبارية الأميركية عن مسؤول في الإدارة الأميركية قوله إنّ التصريحات كانت مبنية على «مزاعم» مسؤولين إسرائيليين، ولم يرَ بايدن والمسؤولون الأميركيون الصور التي تثبت الرواية الإسرائيلية، ولم يتحققوا من صحتها.(1)

وهذا الموقف قاد مذيعة الـ«CNN» سارة سيندر إلى الإعتذار بسبب تبنّيها المقولات الإسرائيلية قبل التأكد من صحتها، لكنّ موقفها لم يجرِ على آخرين واصلوا ترديد هذه الأكاذيب حتى رسخت في أذهان كثير من الجمهور في الغرب.

السردية الثانية: «شيطنة» حركة «حماس»

عمد قادة العدو الإسرائيلي، منذ اللحظة الأولى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إلى «شيطنة» حركة «حماس» وتشبيهها بتنظيم «داعش»، مستخدمين عبارة الأعمال «الإرهابية»، و»البربرية» في تصريحاتهم. وتلقف أغلب المسؤولين الأميركيين والغربيين هذه المقولات التي باتوا يردّدونها كمرادف لحركة «حماس».

هذه «الشيطنة» انتقلت بدورها إلى الإعلام الغربي، الذي استخدم المصطحات نفسها في نشرات الأخبار وفي الصحافة المكتوبة. أمّا بالنسبة إلى المقابلات على الهواء، والتي نشطت بصورة غير مسبوقة منذ بداية الحرب على غزة، فحدِّث ولا حرج، إذ أصبح السؤال بشأن «إدانة حماس» لازماً كمقدمة لأي حوار يتناول الحدث، وباتت الإدانة بمثابة جواز مرور يرضي وسيلة الإعلام والمذيعين.

وبرزت المشكلة عندما حاول بعض وسائل الإعلام الغربي لاحقاً استضافة شخصيات فلسطينية، أو مؤيدة لفلسطين، فعمد المحاورون إلى أسلوب منافٍ للمعايير المهنية، يُقصد منه إحراج الضيف وإملاء الإجابات، وهذا ما أدّى إلى نقاشات ومشادات شابت هذه المقابلات، فحنان عشراوي، على سبيل المثال، انتقدت بشدة السؤال الذي وجهته مذيعة في إحدى محطات التفلزة السويدية، معتبرة أنّه «سؤال في غاية العنصرية والتعالي»،(2) رافضة الإجابة عنه. كما كان لسفير فلسطين في بريطانيا، حسام زملط، جولات مع وسائل الإعلام الغربي، رد فيها على كثير من الأسئلة الملتوية بمنطق متماسك.

المقولة الثالثة: أكذوبة «الدفاع عن النفس»

تحت هذا الشعار، أعطى الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية إسرائيل الحق في ارتكاب ما تشاء من مجازر في قطاع غزة. وإذا كان معظم زعماء الغرب قد تحدث صراحة أمام وسائل الإعلام عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فما بالك بردة فعل وسائل الإعلام؟

لقد شرّع الإعلام الغربي، عبر تبنّي مقولة «الدفاع عن النفس»، قتل أكثر من 15.000 مواطن غزي، بينهم أكثر من 6000 طفل، وتدمير المستشفيات ومقرات الأمم المتحدة والمدارس والجامعات ودور العبادة والأبنية والتجمعات السكانية، وهو ما أحدث دماراً أشبه بزلزال ضرب المنطقة، ناهيك بالحصار الكامل الذي فُرض على القطاع بمنع سبل الحياة كافة، من مياه وكهرباء وأدوية ومواد غذائية.

وتجاهل هذا الإعلام، بصورة منافية لأخلاقيات المهنة، جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل خلال هذه الحرب، بل أيضاً برّر كل هذه الجرائم تحت حجة «الدفاع عن النفس».
فأي معيار أخلاقي مهني يجيز تبرير هذا الحجم من الجرائم التي تفوق الوصف؟

تداعيات التجييش الإعلامي

إنّ مجرد متابعة ما بثته وسائل الإعلام الغربي خلال هذه الحرب كفيل بأن يخدع المتلقين، وخصوصاً المؤيدين أصلاً لإسرائيل. وقد أدّى هذه التجييش الإعلامي إلى ردات فعل عنيفة جداً دفع ثمنها أبرياء لمجرد أنهم من العرب أو الفلسطينيين أو المؤيدين للقضية الفلسطينية. وشكلت ظاهرة المساواة بين «معاداة الصهيونية» و«معاداة السامية» تهديداً لكل من يعادي إسرائيل، إذ بات حكماً، نتيجة هذا الكم من التجييش والتسييس الإعلامي، معادياً للسامية ولليهودية. وهذه الظاهرة تنطوي على خلط في المفاهيم يتنافى مع الواقع، وينشئ التباساً لدى الرأي العام، ويشيطن كل من لا يؤيد إسرائيل. والأخطر من ذلك، أنّ هذه التهمة تؤدي بدورها إلى حرف الأنظار عن الجرائم المتواصلة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين على مدى 75 عاماً.
أمّا الاعتداءات التي تعرّض لها مواطنون في الغرب نتيجة هذا البث الإعلامي غير المهني، فلائحتها تطول، ونسوق في هذا المجال مثلين؛ فبعد نحو أسبوع على الحرب، أقدم عجوز أميركي على تسديد 26 طعنة أصابت طفلاً فلسطينياً في السادسة من العمر أدت إلى وفاته، بينما أصاب والدته بعدة طعنات أُخرى، وأُدرجت الجريمة تحت خانة «جرائم الكراهية»، بسبب الصراع الدائر بين إسرائيل و«حماس».(3)

وقبل أيام، أُصيب ثلاثة طلبة فلسطينيين في ولاية فيرمونت الأميركية بجروح بليغة، عندما أطلق مسلح النار على الشبان الثلاثة الذين كانوا يرتدون الكوفية ويتحدثون العربية. وقد طالب حسام زملط، سفير فلسطين في بريطانيا، تعليقاً على ما حدث بـ «وقف جرائم الكراهية ضد الفلسطينيين.(4)

ويضاف إلى جرائم الكراهية التي تسبب الإعلام بها انتهاكات أُخرى لا تقل خطورة طالت عاملين في وسائل إعلام غربية بحجة تأييد الفلسطينيين، أو معارضة إسرائيل؛ ومنها ما جرى مع الصحافية المخضرمة ندى عبد الصمد في محطة «BBC»، وما جرى مع المذيع الفرنسي ذي الأصل الجزائري محمد القاسي، والذي تعرّض لتوبيخ حاد من القائمين على محطة «TV5» الفرنسية بحجة توجيه سؤال إلى متحدث باسم الجيش الإسرائيلي ينطوي على مساءلة عن العمليات العسكرية الإسرائيلية في مستشفى الشفاء في غزة.

هذا غيض من فيض لما يتعرض له العرب والمؤيدون لفلسطين والفلسطينيّون في الغرب، وهي ممارسات يتحمل الإعلام المتحيز الجزء الأكبر من المسؤولية عنها، فوجود سياسة إعلامية تقوم على إثارة المشاعر عبر نشر أخبار مضللة وتشويه للحقائق، وعبر تجاهل قضية احتلال بدأت قبل 75 عاماً، ستؤدي حتماً إلى مزيد من جرائم الكراهية والمعاداة، وهذا ما كشفته حرب إسرائيل على غزة، هذه الحرب الجهنمية، والتي عرّت ما تدّعيه مؤسسات الإعلام الغربي من مهنية عالية، وشفافية لا تقارن. وبرهن هذا الإعلام، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّه إعلام متحيّز ومروج للرواية الإسرائيلية، وشكّل إلى حد كبير جبهة حرب إعلامية موازية للحرب العسكرية.

إعلام الحرب والسلام؛ المسؤولية الاحترافية
التزوير والإنحياز والتقصير

أكثر ما يضغط على الإعلام في زمن الأزمات والنزاعات والحروب الميدانية، في فنون النقل والتغطية والتحليل والتصوير وأكثر الأمور دقة وتطلباً للإحترافية المهنية وتضلعاً من فنون الرصد والمتابعة والمقارنة والتدقيق، هو الإلتزام بالناموس وبأخلاقيات الإعلام وإتباع سلوكات الرصانة، ومراعاة مقومات الإتزان الخبري والتوازن التصويري، الأمر الذي يفرض على الإعلامي والوسيلة إتباع إستراتيجية عمل ظرفية متحركة تتناسب مع تطور وموقف كل حالة.

إن خاصية التكيّف اللحظوي مع متطلبات ومستلزمات البث المباشر والنقل الميداني في مسؤولية تحريك الكاميرا وكيفية تركيزها على زوايا دون أخرى من المشهد، تتطلب تخصصًا ودراية وحسًا إستباقيًا يتناسب مع الواقع، ويقاس مع مدى إنشغال المصور الإعلامي بأخلاقيات الكاميرا في زمن حرِجٍ دقيق، وكيفية الحفاظ على قيمة الصورة الخبرية ووجوب إتصافها بالحس المجتمعي من دون المس بكرامة الإنسان، فرداً أو جماعة، مع الحرص على حق المستعلم بالحصول على كامل زوايا المشهد من دون أي حذف أو تعديل أو تركيب أجزاء، بقصد التضليل والتشويه والكذب والإختلاق والتجاهل والتعمية والتضبيب (الضباب). من مثل ما يقترفه بعض الإعلام المسيس وغير المنتمي، من ممارسات قصدية أو عفوية تسيء إلى الإعلامي والمعلومة والمستعلم. وهذا ما يدخل في التصنيفات اللَّونية للإعلام، من الأسود والأبيض والأصفر والأحمر، وصولاً الى إعلام اللَّالَوْن الحائر تصنيفًا بين عدة معايير إعلامية متداخلة كالإنحياز والحياد والإلتزام واحترام الواقع.

إنّ القضية المهنية الأكثر إلحاحاً وحضورًا في زمن الأزمات، هي ناموس إدارة المعلومة وتقنية السيطرة على أجزائها وفنية تقديمها بصدقية وواقعية، مع تركيز على قيمتها الخبرية والدلالية، وتجاهل للخبر الضاغط والملتبس، والبقاء على حذر من نقل أو التعامل مع الشائعة الإختبارية التي تكون بمثابة فخ للإيقاع بالإعلامي والنيل من صدقية الوسيلة، والتي غالبًا ما تشيع في ظروف القلق والإضطرابات.

إن ضواغط الحالة الحربية تفرض على الصحافي التقيد بأخلاقيات المهنة وناموس العمل الإعلامي الميداني وغالبًا ما تؤثر على مهنية الإعلامي المبتدئ وغير ذي الخبرة، وبالتالي تتحول النقيصة المهنية إلى ضرر يلحق بالجمهور وينال من رصيد الوسيلة، ويصبح الخطأ خطيئة.

كما أن حق الإعلامي بالملكية الفكرية والفنية للصورة، يضعه بمواجهة الحقيقة وحمايتها وكيفية تحصينها وتقديم الإقناعات المرافقة لعناصرها، مع ما تتطلبه الفنية التحريرية من إتقان لصناعة العنوان الموضوعي والإختزالي، والعنوان الرقمي والعددي وأصول إستخدام النِسَبِ في الإخبار.

ويترافق مع ذلك، وجوب حرص الإعلامي الميداني على التأكُّد من مرجعية الخبر المنقول والتفريق بين المعلومات الأولية والمعلومات النهائية، مع مراعاة تأثيرات الوضع الأمني على مشاعر وأعصاب الإعلامي الميداني في أثناء النقل المباشر والذي يكون أمام الموازنة بين مردود الخبر على المؤسسة ومعنويات الناس، التي لا تقاس بحسب مردود الصورة الخبرية ولا بنتائج الفرصة التي أتاحتها له ظروف الميدان ارتكازاً على ثلاثية واقعية الميدان وأزمة الضمير العالمي ومأزومية القانون الدولي، تتكاثف التحديات التي تعترض مهام الإعلام الميداني في ساحات القتال وجبهات المواجهة، لتشكل مجموعة من الطروحات والأفكار التقويمية المساعدة على تظهير مشهديات الحرب بدقة تفاصيلها وكل أبعادها، ما يوفر للناقد المستعلم تكوين قدرة معرفية تمكنه من رسم أطر التقويم وتقديم الأفكار التي تسهم بإعداد مراسلين متخصصين بمواكبة الأحداث الحربية وتغطية مراحلها وتقديم قراءة هادئة لها بحرفية موصوفة ومسؤولية عالية.

إن مقاربة عقيدة الإعلام اللبناني في أزمنة الحروب هو موضوع شديد الإلتزام وعميق الإنتماء ويستجيب لمتطلبات المرحلة الميدانية المواكبة للتضحيات المُحْرَقَة، حيث البسالةُ تحكي، والدم يُؤرِّخُ الإستشهاد، والبطولةُ تفرضُ وضعيتها بعناد، لنقولَ: إنَّ إعلام ما قبل حرب لن يكون كما بعدها، على صعيد التعامل الإعلامي مع القضايا الوطنية في زمن النزاعات، حيث لا مكان للحياد في منطق الالتزام. وهذا ما يفرض تناول إعلام الحرب بكل فنونه، المباشرة والمدونة والمحللة والمصورة والموثقة، من مناظير مختلفة المستويات، ووِفقَ تحديداتٍ على مقاساتِ عقيدة الفكر الجهادي والنضال الإيماني والمقاومة الوطنية، وكرامة المقدسات وإلإفتداءات البطوليةِ المنسوجةِ راياتها بدفء الإيمان، والمتقويِّة رماحها بالقيم الروحية وسلوكات المواطنة الحقة.

في تقويم عملية النقل الميداني المباشر لإعلام الحرب تبرز إشكالات عدة على المستوى الإعلامي والأكاديمي والمهني، وأبرز توصيفات مُحْدَثة لمفاصل الحروب الإعلامية وفنونها، من نقليات الصورة الفيلمية المباشرة، إلى رصانة نشر الخبر وأصول التغطية المُحكمة الضبط على إيقاعات الميدان وبراعة التعليق، وصولاً إلى فن التحليل، الذي هو أبغض الحلال في إعصاراتِ القتل والذبح والقصف وتدمير البيوت على الرؤوس. إذاك يكون الكلام للصورة، ولها وحدها حقُ إصدارِ الحكمِ بإسم الإنسانية من على قوس محكمة القيم، مهما ضعفتِ العدالة وخفَّ منسوبُ العدلِ وإختفتْ نسبيةُ الإعتدال.


غالبًا ما تتحدد رزم ضحايا المجازر والإبادات، بأن الضحية الأولى، هو القانون الدولي ومعيارية تطبيقه، إذ يكون في بعض الأحيان أخرس من الصخر؛
والضحية الثانية، هي الضمير العالمي الرسمي، لا الشعبي، الميتُ من زمان، والساكتُ عن الحق ولمّا يزَلْ واقفاً على رأسه غرابٌ أدمسُ من قهر الظلم الأكبر وأعتمُ من ليلِ الجُرْم الأفجَر؛
وثالث الضحايا، هو الصمتُ الدولي الرسمي عن إجراماتِ القتل والقصف والسحل والتدمير والإبادة المجزرية بحق الإنسانية، وكأن المدن متروكةٌ للغُزاةِ، أو كأنها ساحاتٌ لإختبارات الأسلحة الإبادية.

مشهدياتُ دمٍ، وفصولُ حروبٍ تتوالى ولَيسَ من رادعٍ عن الشرّ، ولا من قائل بهدنة، ولا من نيَّةٍ لإسدال الستارة، للإعلان عن انتهاء فيلم الرعب الطويل، حيث الميدانُ واقعي، والضحايا حقيقيون، والركاماتُ تنطقُ، والاستشهاداتُ تُسجَّلُ في ديوان الذكرى للذكرى.

وأثبتت لغةُ الصورة وسلاحُ المشهد المباشر، إنهما الأبلغُ والأجرأُ والأفعلُ، في تكوين حالة التضامن الشعبي وصناعة الالتفاف المجتمعي العالمي حول إدانة بشاعات الحرب وتأكيد حق الشعوب بالحياة والسلام.
وسؤال المرحلة الذي يُطرح بإلحاح يتركز حول: أيُّ تفاضلية لإعلامٍ حرب الأقوى على الأضعفِ، سلاحاً ومقومات؟
تنسلُّ من هذا السؤال قضيةٌ محورية، هي في صلب تكوين إعلام القضايا والأزمات والنزاعات، ركيزتُها، هَلْ للإعلام اللبناني الرسمي، على إمكاناته الضئيلة، والإعلام الخاص رغم قدراته الواسعة، هل لهذا الإعلام عقيدة؟ وتجوُّزاً أقول؛ هل كان له عقيدة؟ الوضعُ الحالي يُظهرُ أن للإعلام اللبناني، بكل مؤسساته موقف معتبر نأمل أن يتطور إلى عقيدة إنسانية وقومية ووطنية تلتقي عفواً وبإرادةٍ طيبة على نصرة الحق جهراً وإدانة المعتدي صراحة، بلا تجميلات ولا محسناتٍ لفظية، مستخدمين مصطلحات تناسب المرحلة وتتوافق مع قاموس إعلام الحرب والإلتزام.

فالإعلام اللبناني منذ نشأته صحافياً وتأسسه إذاعيًا وتألقه تلفزيونيًا، أثبت أنه إعلامُ قيم ومواقف، وأنه قبل أي شيء هو إعلام لصيقٌ بالحرية، تظهيرًا لها تبشيراً بها ودفاعاً عنها.

وهذا موقفٌ مُقدَّرٌ وجهدٌ مُعتبَرٌ للمؤسسات الإعلامية وللإعلاميين اللبنانيين الذين يناضلون على خط النار ويستشهدون دفاعاً عن الحقيقة ويؤسسون لنهجٍ واضح من فنون «إعلام اللحظة الساخنة» بأعصاب هادئة وإندفاعية موصوفة مرتكزة على جرأة المشاركة الميدانية، وإحترام أساسيات «الموضوعية الواقعية»، ورصانة النقل الشارح، ودقة الملاحظة والابتعاد عن التنبوء القاتل للمعنى والمسيء لشرف المهنة.

وتقويمًا للاعلام الكلاسيكي المطبوع والإذاعي والتلفزيوني، فإن مَنْ يراقب للحالة ويتابع التطورات لا بد أن يحتكمَ إلى اصول صياغات الإعلام ووضوح خطه، والتعامل معه كمنظومة قيم خبرية ملتزمة ومتزنة، يُحكمُ لها تقديراً، ولا يُحكَمُ عليها جوراً. من دون إسقاط دور المواقع الإعلامية الالكترونية الجادة وذات الشخصية الحرة التي لها طبيعة مؤسساتية نظامية، فضلاً عن منصات التواصل والإعلام الإكتروني الشخصي، حيث كل فردٍ أصبح مُعلِماُ ومُعلّقاً وناشرَ رأي. وكلها قدرات إعلامية، تكاملت مهنيا ومادياً والتزامًا وطنيًا لتصوغَ إعلامًا لبنانيًا ذا «عقيدة إنسانية» ووطنية قاعدتها السيادة والحرية والكرامة. ما يثبت أن كرامة الإعلام من كرامة القضية التي يدافع عنها، وقيمته من قيمة العقيدة التي ينطق باسمها ويرفع بيرقها.

وإعلام الحرب اللبناني، وتحديدًا إعلام الجبهات ودور المراسلين، هي مهمة مهنية تنطبق عليها شروط ومواصفات المهمة العسكرية، من حيث دقة فنيّة التراسل وإتقان فنِّ التقاط اللحظة وتوظيف الكاميرا وإستصراح الشهود العيان الذين غالبًا ما يتحولون إلى شهداء عيان ينطقون ويلفظون ويوقعون محضر استشهادهم مباشرة على المحطات التلفزيونية والفضائيات، كأبلغ دليل على السَكْت الدولي وأدمَغِ إثبات لوقوع الجرم المُنّظَّم.

الإعلاميات والإعلاميون الشباب على الجبهات، كلهم مشروع شهداء، والخوف الدائم عليهم ينطلق مما عرفته في خلال عملي الصحفي كمراسل تجريبي لمرة يتيمة، من وجوب توفير التأهيل المهني والخبرات اللازمة والثقافة القتالية التي تمكن المراسل، على الجبهات وخطوط النار من معرفة أنواع الأسلحة المستخدمة ومفاعيلها وقدراتها تقريبياً، وبما يمكنه من تقديم معارف شارحة تساعد الجمهور على تبيُّنِ حقائق الأمور ومعرفة ما يجري من أحداث. إنها مواصفات المراسل الحربي، المتخصص والخبير والمتابع والمطلع، والذي تجتمع فيه قدراتُ فريق عملٍ كامل يوازن في المعرفة بين الثقافة التخصصية والخبرة المعرفية التي يكون اكتسبها في خلال خدمته ووظيفته.
فهل إعلاميونا المراسلون محميون أمنياً ومحصنون مهنياً ومزودون معرفياً بالمعاهدات والقوانين الدولية وبنود اتفاقات الهدنة وقراءة الخرائط الميدانية؟ وهل يعرفون حقوق المراسل الحربي وواجباته ومضامين المواثيق الناظمة لرسالتهم والمحددة لدورهم، بما يمكنهم من نجاح مهمتهم الميدانية والوقاية من الخطر، أم أنهم مغامرون اختباريون ومبادرون ومشاريع ضحايا؟

في التقويم التخصصي والمقارنة المهنية، فإن بعض المؤسسات الإعلامية الدولية تعتمد مراسلين حربيين من ذوي الخبرة والخدمة العسكرية، لأنهم الاقدر على توصيف حركة الميدان وتقديم معلومات حول مجريات المعارك وأنواع الأسلحة وتصنيفاتها، ما يضفي على العمل خبرة تخصصية وثقة موضوعية، هي اكثر ما يحتاجها المستعلم المتابع. وهذا واضح بين طواقم المحطات الدولية والمحلية. فالمحطات والفضائيات ووكالات الأنباء العالمية، يعتمدون الاحتراف الميداني العسكري لتشكيل فريق عمل التغطية مع لحظ كبير للقدرات المادية اللازمة، في حين أن إعلاميينا يعملون جاهدين، مكلِّفين انفسهم بإندفاعية مقدّرة للقيام بالمهمة بعزيمة وتضامن وطني صحيح، مسجلين خطوات مشكورة في صناعة السبق الإعلامي وتحقيق إنجازات في إعلام الجبهات.

إنّ الاحتكام إلى منطق الامور يحرضنا على تقدير الإعلاميين اللبنانيين على الجبهات، وشكر المؤسسات الاعلامية والصحافية، التي اثبتت بصراحة مشهودة أنه في زمن الشدة والأزمات، يكون صوتها واحدًا، وصورتها واحدة وشاشاتها واحدة وحبرها واحدًا.

إنه لبنان. إنه تراثنا الصحافي وناموسنا الوطني ومسارُ إعلامنا مع الحرية والموقف الجريء، ومسيرة الدفاع عن الحق، بإندفاعية رسولية مُثبتة، بالعلم والخبر والصورة، وبإتباع المعايير الخلقية لإستخدامات الصورة، مع تركيز على إنسانية الصورة ومحتوياتها، وإحترام كرامة الموت، وعدم انتهاك حرمات جثث الضحايا لتوظيفات لخدمات اللحظة الساخنة التي تفرض تقنيات استثمارها بعيداً عن الإساءة إلى ضحايا الحروب ومشهديات الميدان .!

إن إعلام الحرب يجب أن يتوافق بتقنيّاته وأهدافه مع التحضيرات الموازية لإعلام السلام. مع التأكيد أن إعلام السلام الذي يصنع (على البارد) يستوجب وضع مخططات استراتيجية، هي أصعب وأكثر دقة من إعدادات إعلام الحرب الذي يصنع (على الساخن) ويكون وليد اللحظة وأسير ضواغط الميدان ومحكومًا بظروف المعارك.

لعلَّ أصعب أنواع الإعلام دقةً وتطلباً للإحترافية وثقافة الحوار والبعد القيمي والإنساني، هو (إعلام السلام) الذي لم يتم وضع خارطة هندسية لبنائه وفق معايير محددة تتوافق وظروف النزاعات وحدة الأزمات وإشكالياتها المعلنة وتلك المسكوت عنها، بقصد تضليلي أو عن جهل مقصود، وعن قلة معرفة، أو لأن (إعلام السلام) زيائنه قليلون، ورعاته نادرون !

العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة، في أبعاده الميدانية، والقانونية، والإعلامية
التزوير والإنحياز والتقصير

حين أخرج الطفل، إبن الأعوام الستة أو السبعة، من تحت أنقاض منزل أسرته – وكم كان محظوظاً على عكس آلاف الأطفال الذين قضوا تحت ركام المنازل والمستشفيات والمدارس – تطلّع حوله ذاهلاً، قال: هذه عن جدّ أو لعبة!

نعم (يا حبيبي)، هذه «عن جد» للآلة العسكرية الإسرائيلية، لكنّها كما يبدو «لعبة» لدول الكوكب قاطبة: كلّ الحكومات، معظم وسائل الإعلام المعولم، وبخاصة الشبكات الكبرى (وفي طليعتها الـ CNN والـ BBC) التي تنقل عنها غالب الشبكات الإخبارية في العالم، فيما الرأي العام مغلوبٌ على أمره، وليس في يده أكثر من التظاهر ورفع الشعارات المندّدة بالتوحّش والتغوّل والحقد والرغبة الجارفة بالإنتقام من المدنيين في غزة التي أظهرها ردّ الفعل الاسرائيلي على عملية 7 أكتوبر 2023 العسكرية.

لكنّ ملاحظة بسيطة لطبيعة الرّد الإسرائيلي الوحشي على عملية 7 أكتوبر تظهر أن التغوّل الإسرائيلي هذه المرة تجاوز مستويات اعتداءاتها السابقة على القطاع والضفة الغربية وجنوب لبنان.

لقد بدا بوضوح أنّ الهجوم الحالي المستمر منذ أكثر من شهرين ونصف على القطاع لم يستهدف المقاتلين، إلّا بالنزر اليسير؛ فاستهدف ودمّر دون هوادة كلّ ما هو حيّ أو يخدم الأحياء في القطاع: إمدادات مياه الشرب، شبكات الصرف الصحي، البنى التحتية، المنازل (أكثر من خمسين ألف منزل حتى الآن)، عشرات المستشفيات، مئات المدارس، الأسواق التجارية، وسائر مظاهر الحياة في القطاع.

لكنّه أكثر من ذلك استهدف مباشرة هذه المرة وعلى نحو ممنهجٍ لم يتوقف، أطفال غزة !
بدا الأمر وكأنّه طقسٌ وحشي – خرافي ينفذّه مجانين مسكونين بأحقاد وأساطير بائدة ضد الشعب الفلسطيني، بهدف الإبادة المباشرة، الهدف القريب؛ «وقطع نسل» هذا الشعب في المستقبل، ما أمكن، فأطفال اليوم هم رجال الغد. ولطالما حذّر المتعصبّون في اليمين الإسرائيلي من الفارق الديمغرافي الذي يتعاظم بين أعداد المستوطنين اليهود من جهة والفلسطينيين من الجهة المقابلة.

بدا الأمر وكأنّ الطغمة الفاشية الحاكمة في إسرائيل الآن ، والمسكونة بعقل أسطوري خرافي، تستعيد حرفياً الإبادات التي جرت غير مرّة لليهود منذ ثلاثة آلاف سنة، وصولاً إلى المحرقة النّازية في أواخر الحرب العالمية الثانية، والتي لا يد للفلسطينيين فيها، بل هم كانوا مثل اليهود ضحايا الإحتلالات والإبادات بهدف التهجير، بل أكثر منهم.
تنفذ الطغمة الفاشية الحاكمة في إسرائيل الآن على أطفال قطاع غزّة نموذج أفران الغاز التي نفّذها النازيون بحق اليهود في ألمانيا – والتي أحسن العقل الصهيوني الإستثمار فيها لإجبار الحكومات الغربية، والألمان خصوصاً، على التصرف دائماً من موقع عقدة الذنب حيال إسرائيل، فكانت التعويضات المالية الخيالية وإمدادات السلاح الأحدث في العالم، وتأييد إسرائيل في كل مناسبة كما حدث، بعد عملية 7 أكتوبر.

تناسى هؤلاء أنّ الفلسطينيين ضحايا، بل ضحية الضحية، وفق تعبير المفكر الفلسطيني إدوار سعيد؛ فإذا الضحية الأولى (اليهود) تنفّذ في ضحيتها الآن (الفلسطينيين) من صنوف العنف ما لم تستطعه مع الجلاّد! المحرقة التي حدثت لليهود في أوروبا الغربية،على بعد 5000 كيلومتر من فلسطين، لا تُمحى بالمحرقة الجارية الآن بحق الفلسطينيين!

وفيما لا نستطيع تبرير أي اعتداء على المدنيين، وبخاصة الأطفال والنساء، تناسى العقل الغربي أنّ التوغّل الفلسطيني في غلاف غزة كان صرخة في وجه التجاهل الطويل لمطالب مليوني مواطن سجنوا في قطاع من الأرض لا تزيد مساحته عن 360 كيلومتراً مربعاً مطالبين بالعيش الكريم وفي رفع الحصار الظالم والأوضاع المعيشية المستحيلة التي لا تتحمله جماعة أخرى على وجه الأرض!

تجاهل العالم الغربي، وليس إسرائيل فقط، معاناة شعب بأكمله، فغدا كما قال مواطن من غزّة، بكل أسى، «عالم أعمى، أصم، أخرس»!

تلك هي معاني «محرقة غزة».
لا يملك الفلسطينيون، بالتأكيد، التفوق العسكري الإسرائيلي الساحق؛ لكنّهم يملكون شرعية التمسك بأرضهم، وشرعية المقاومة، التي كفلتها القوانين الدولية، الوضعية والأخلاقية.
المحرقة الجارية لم تمنح إسرائيل أي حق إضافي، بل عرّتها أخلاقياً وسياسياً!

هذه محرقة ظالمة، بكل المعايير، ولا يجب أن يقبل بها أي ضمير أو صانع قرار.
وهي فوق ذلك استهتارٌ بالقوانين الدولية (ومتى احترمت إسرائيل، وهي دولة مارقة، القوانين تلك؟). مع ذلك يبقى واجبنا التذكير بها.

هذا هو الإطار العام لملف العدد المتمحور حول العدوان الوحشي الجاري بحق مواطني قطاع غزة في فلسطين.

أحداث غزّة فضحت الدول الديمقراطية… ليس هذا هو الغرب الذي نعرفه
الإنتهاك الصريح للقوانين الدولية

شكَّلت الأحداث المأساوية الأليمة التي حصلت في قطاع غزة وفي جنوب لبنان وفي الضفة الغربية في الربع الأخير من العام 2023؛ امتحاناً في غاية القسوة للديمقراطيات الغربية، وللدول الكبرى الأخرى. غالبية هذه الدول سقطت في الإمتحان، وبدت على واقعة نقيض مع ما تُعلنهُ، وهي تُمارس سياسة الكيل بمكيالين، حيث تقف الى جانب المُعتدي وتضطهد صاحب الحق استناداً إلى زبائنية مصلحية أو عقائدية غير مبررة. والمؤسف أن هذه الدول تنادي بإحترام حقوق الإنسان، وتطالب بالإلتزام بالقانون الدولي وبمعايير المساواة والرأفة والعدالة، وبحق الناس على اختلاف انتماءاتهم الدينية او العرقية او القومية او القارية؛ بالحياة وبالحفاظ على تراثها الثقافي والتاريخي، وبالعيش الكريم محفوظي السلامة الجسدية مع مُوجب أن يتأمن لهم سُبل الإستمرار.

غالبية حكومات الدول الغربية الكبرى – لاسيما في الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا وبريطانيا – أشهرت انحيازاً غريباً الى جانب العدوان الوحشي غير المسبوق الذي شنَّته قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة، ولاقى موقف هذه الدول استهجاناً لدى مئات الملايين من الناس الذين شاهدوا القتل العَمد للأطفال وللنساء وللعجزة، ورأوا الدمار والخراب الذي طال المستشفيات والمدارس وأماكن العبادة ومنازل المدنيين، من دون أن يكون هناك أي مبرر لإستهداف هؤلاء العُزَّل الذين لا ناقة لهم بما جرى ولا جمل، بشهادة الهيئات المحايدة التابعة للأمم المتحدة والجمعيات الإنسانية الأخرى، الذين أعلنوا جهاراً: أن الذي حصل في قطاع غزة لم يشهد له التاريخ مثيلاً من قبل، حيث قُتل المرضى على أسرتهم عمداً، وتمَّ ترك الأطفال والنساء من دون طعامٍ ولا شراب ولا مأوى لأيام، كما بقيت جثث الشهداء على الأرض وتحت الأنقاض لمدة طويلة، ولم يتمكن المعنيون من دفنها وفق الأصول والتقاليد المرعية بسبب القصف العشوائي واطلاق النار على فرق الإسعاف الصحية وعلى مجموعات المتطوعين للقيام بالأعمال الإنسانية.

الدعاية الصهيونية سارعت الى تعميم مشاهد مُزورة وغير صحيحة عن عمليات ذبح للأطفال، قام بها المقاومون الفلسطينيون ضد مدنيين يقطنون في مناطق محتلة في محيط قطاع غزة، او فيما يسمى «بغلاف غزة»، وقد يكون هؤلاء المقاومين تجاوزوا حدود قواعد المقاومة في عملياتهم المشروعة التي حصلت ضد مقرَّات عسكرية كان فيها مدنيين، او أن ذُعر قوات الاحتلال الإسرائيلي مما جرى ليلة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023؛ أدى الى سقوط عدد من الإسرائيليين غير العسكريين في المواجهة. لكن الدعاية الغربية التي تعاطفت مباشرةً مع رواية المحتلين؛ تجاهلت كل المعطيات المحيطة بالحدث، وتعامت عن كون ما حصل مقاومة مشروعة تقرُّها القوانين الدولية لفلسطينيين طُردوا من أرضهم، وهم يعيشون في سجنٍ مُطبق داخل جدران مُحكمة بناها الاحتلال الإسرائيلي، وحرم أصحاب الأرض من العيش بكرامة في وطنهم الأم فلسطين الذي ورثوه عن أجدادهم منذ مئات السنيين كما كل شعوب الأرض.

ردة فعل العدوان الإسرائيلي على عملية 7 أكتوبر؛ لم تكُن متناسبة مع حجم العملية البطولية للفلسطينيين، بل كانت حرب إبادة فعلية طالت الحجر والبشر بهدف دفع أبناء غزة الى خارج القطاع، وتهجير مَن تبقى منهم على قيد الحياة مرة ثانية من أرضهم الى مصر او الى الأردن او غيرهما. وهذا الفعل الإسرائيلي المتوحِّش؛ لم يكُن ليحصل لولا الدعم الذي لاقاه قادة «إسرائيل» من الدول الغربية الكبرى، وخصوصاً من الولايات المتحدة الأميركية التي أرسلت أساطيلها البحرية لمساندة العدوان، وكذلك المانيا التي تمادت في تأييد عمليات القتل التي قام بها الإسرائيليون، ومثلهما فعلت بريطانيا وبعض المسؤولين الفرنسيين. وقادة هذه الدول تراكضوا لزيارة إسرائيل وتقديم الدعم لها وتشجيع عدوانها، بينما كانت مشاهد القتل والتدمير التي ترتكبها إسرائيل تملأ الشاشات وتستثيرُ المشاعر.

– لماذا اتخذت الدول الغربية هذا الموقف؟

مراقبة تصريحات المسؤولين في هذه الدول، وتحليلات قادة الرأي الذين يدورون في فلك الحكومات المعنية؛ توضِّح بعض الدوافع التي تقف وراء موقفهم الصَلف. فجزء من الأسباب وراءها طموحات انتخابية، ويرى هؤلاء المعنيون: أن الحركة الصهيونية، وحراك «المسيحيون الجُدد» لديهم قدرة على تجيير أصوات تفيدهم في استحقاقاتهم القادمة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية التي تتحضَّر للإنتخابات الرئاسية التي يتنافس فيها الرئيس الحالي جو بايدن مع الرئيس السابق دونالد ترامب أو غيره من مرشحي الحزب الجمهوري. وواشنطن أجرت اتصالات مع حلفائها الغربيين، لاسيما مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ومع المستشار الألماني أولاف شولتز ومع رئيس وزراء بريطانيا – الهندوسي الأصل – ريشي سوناك وطلبت منهم مساندة إسرائيل، بحجة أنها مهددة، وقد تتعرِّض للزوال إذا لم يقف الغرب معها، على حد ما تمَّ تسريبه من المحادثات السرية التي جرت بين القادة الغربيين بُعيد وقوع العملية في غلاف غزة.

وبعض المعلومات التي ذكرتها تحليلات صحفية نشرت في دول غربية؛ تقول أن غالبية قادة هذه الدول مقتنعون: أن الشعوب العربية والإسلامية تكره الغربيين، وإذا ما تعرَّضت إسرائيل لأي هزيمة، سوف يؤدي ذلك الى إيصاد أبواب الشرق الأوسط والبلاد العربية وغالبية الدول الإسلامية في وجه النفوذ الغربي، كما تصبح الممرات المائية الدولية التي تربط العالم ببعضه مع البعض الآخر عن طريق بحور الشرق الأوسط؛ بخطر (ودائماً برأي هؤلاء). ووجود إسرائيل وبقاؤها قوية يشكل ضمانة لسياسة الدول الغربية ولإستثماراتهم وفق ما يقولون. لكن هذه التحليلات ليست صحيحة، وهي مبنية على دعاية تحريضية «صهيونية» سبق أن فعلت فعلها في تشويه صورة العرب والمسلمين لدى الغرب من خلال الصاق تهمة الإرهاب والتخلف بهم عن غير وجه حق، وحمّلوهم مسؤولية عمليات شنيعة وارهابية غالبيتها مدبرة من جماعات رعاها الغرب؛ لتأليب الرأي العام ضدهم. ولا تعني عدم صحة هذه الرؤى أن مشاعر الودّ بين شعوب هذه الدول والغرب على أحسن حال، ذلك أن الترسبات الأليمة الناتجة عن مرحلة الإستعمار؛ ما زالت تفعل فعلها في ذاكرة الشعوب العربية والإسلامية، لكن هؤلاء تجاوزوا غالبية المحطات السوداء في تاريخ العلاقة مع الغرب، ولولا امتعاض هذه الشعوب من دعم غالبية الغرب لإسرائيل على حساب حقوق الشعب الفلسطيني؛ لكانت العلاقة بين العرب والغربيين على أفضل حال، نظراً لواقع الجيرة الجغرافي بينهم، واستناداً الى خاصية التقارب في لون البشرة وفي بعض العادات، ولما للثقافة الغربية (الفرنكوفونية والإنكلوفونية) من تأثير عند الكثيرين من شعوب الدول العربية والإسلامية.

وبدل أن يساهم وجود دولة إسرائيل التي أنشأتها بريطانيا منتصف القرن الماضي – في أهم منطقة من العالم – في تعزيز مكانة الدول الغربية في هذه المنطقة؛ أدى ذلك الى اثارة مشكلات متعددة لم تكُن موجودة في السابق بين هؤلاء وبين العرب والمسلمين الذين يتعاطفون مع اشقائهم الفلسطينيين الذين اُغتصِبت أرضهم، كما أن غالبية من المسيحيين الشرقيين وبعض الكنائس الغربية ترى أن إسرائيل تحتل المقدسات المسيحية في فلسطين كما تحتل المقدسات الإسلامية، وتحديداً في مدينة القدس ومحيطها. ولا ترى الأكثرية من شعوب المنطقة على تنوعها العرقي والديني والثقافي؛ أي مبرر للمواقف الغربية الداعمة لإسرائيل، سوى بهدف تعزيز مكانة قادة غربيين يحتاجون لمساعدة الحركة الصهيونية التي تتمتع بنفوذ واسع في الولايات المتحدة الأميركية وفي الدول الغربية، وظهور حراك «المسيحيين الجُدد» المتعاطفين مع اسرائيل في الغرب، هو وليد دعاية صهيونية تستند الى ميثولوجيا غير صحيحة، حيث يرى هؤلاء أن وجود إسرائيل ضروري كمؤشر على حصول استحقاقات تاريخية، لكن هذا التفسير ليس له أي أساس واقعي او منطقي لدى المراجع الإسلامية او المسيحية الرسمية.

موقف الدول الغربية من العدوان على غزة؛ أدى الى تداعيات واسعة. ودعم هؤلاء العسكري والمالي والإعلامي لإسرائيل أحدث خدوشاً سياسية وإنسانية لا يمكن تجاهلها، وهذه لن تكون في مصلحة الدول الغربية في المستقبل.

– كيف تراجعت سمعة دول الغرب من جراء مواقفهم من العدوان الإسرائيلي الأخير؟

يمكن الإشارة اولاً الى أن بعض الدول الغربية، وجزء واسع من المواطنين في هذه الدول؛ لم يقفوا الى جانب إسرائيل في عدوانها الأخير، وفي هذا السياق جاء الموقف المتوازن لحكومات اسبانية وبلجيكيا وإيرلندا والنروج على سبيل المثال لا الحصر، وشريحة واسعة من الرأي العام في غالبية الدول الغربية الكبرى تفاعل ايجاباً مع حقوق الشعب الفلسطيني كما لم يحصل من قبل، وشارك عدد كبير منهم بمظاهرات حاشدة تستنكر العدوان الإسرائيلي وتدعوا لوقف المجازر التي ترتكب بحق المدنيين في غزة. وقيل أن المسيرة التي حصلت في لندن لهذا الهدف التضامني؛ غير مسبوقة في تاريخ المدينة، وشارك فيها ما يقارب مليوني شخص، ومثلها حصل في مدينة برلين الألمانية وفي لوس انجلس الأميركية وفي باريس وغيرهم من المدن الأوروبية والأميركية. وفي هذه التحركات مؤشرات إيجابية على حرص قوى ومجموعات غربية – حتى داخل الأحزاب الحاكمة – على الديمقراطية بمفهومها العصري، وعلى حقوق الإنسان، وهي تمرُّدت على الفرضيات التي تروِّج لها الدعاية الصهيونية والتي تعتبر كل مَن يعارض سياسة إسرائيل «معادٍ للسامية» والواقع أن تصرفات الإحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين، والتمييز العنصري والعرقي الذي تفرضه سلطات الإحتلال؛ هي عداء فاضح للسامية بحد ذاته، وأبناء سام ليسوا اليهود كما تروِّج الصهيونية، بل هم العرب بالدرجة الأولى والكنعانيون والعبرانيون. وقد ساهمت وسائل التواصل الحديثة هذه المرة في الإضاءة على واقع الأحداث، وبيَّنت منافسة جدية لوسائل الأعلام الغربية الموجهة بغالبيتها، والتي تخدم سياسة الحكومات الغربية المنحازة، وفضحت هذه الوسائل تقصير الغرب – لاسيما الولايات المتحدة الأميركية – في السعي الجاد لحل سلمي للقضية الفلسطينية وفق القرارات الدولية. وقد قدمت القمة العربية في بيروت عام 2002 مبادرة إيجابية وفيها تنازلات مقبولة، وتقضي بحل الدولتين، والأرض مقابل السلام.

اما على ضفة الحكومات الغربية التي دعمت العدوان الإسرائيلي وشجعته على التنكيل بالفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية وفي جنوب لبنان؛ فقد تأكد أن موقفها يتناقض مع غالبية الشعارات التي ترفعها، لاسيما فيما يتعلق بحرصها على حقوق الإنسان وعلى القوانين الدولية ذات الصلة. وتشوَّهت صورة هؤلاء لدى غالبية من الرأي العام العالمي، كما انكشفت ادعاءاتهم عند الشعوب العربية والإسلامية على وجه التحديد، كونهم يمارسون ازدواجية معايير تعتمد على تصنيف عنصري للناس، بحيث أنهم ينظرون الى حياة الإسرائيليين او الغربيين كأنها تسمو على حياة المواطنين الآخرين – لاسيما الفلسطينيين – وبينت مواقف قادة الدول الغربية الكبرى؛ أنهم حريصون على منع أي إساءة ضد المدنيين في إسرائيل، بينما يتجاهلون عمداً الإعتداءات الوحشية التي تُمارس ضد الفلسطينيين، وهذا ينطبق على المعتقلين او السجناء ايضاً.
وانكشفت ادعاءات هؤلاء القادة الغربيين الذين ينشدون الدفاع عن القوانين والأعراف الدولية، خصوصاً على القانون الدولي الإنساني الذي يجب أن يُراعىَ إبان الحروب العسكرية، بينما في الواقع تجاهلوا انتهاك إسرائيل لهذه القوانين، ولم يقدموا على إدانة تعرضها للطواقم الطبية ولسيارات الإسعاف، ولدخول قواتها الى حرم المستشفيات بعد أن دمرت العديد منها على رؤوس المرضى والمُحتمين فيها، بمن فيهم طواقم الهيئات الدولية التي تقوم بإعمال الإغاثة الإنسانية، ولم يسمع الرأي العام استنكار من قبل هذه الحكومات للأفعال الإجرامية التي ارتكبتها إسرائيل، بل تلهّى بعض قادة الغرب بالحديث عن التقديمات الإغاثية المحدودة التي خُصصت من دولهم للمنكوبين، وهي لا تقارن بالمبالغ الطائلة التي يقدمها هؤلاء كمساعدات عسكرية لإسرائيل، بحيث أقرت الولايات المتحدة الأميركية وحدها تقديمات لها للعام القادم بما يزيد عن 10 مليار دولار، ولولا منح هؤلاء الأسلحة الفتاكة لإسرائيل، لما استطاعت هذه الأخيرة ارتكاب الفظائع بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم.

تضررت صورة الغرب على شاكلة واسعة من جراء ما حصل في فلسطين مؤخراً، وتأكد بوضوح أن هذا الغرب الذي عمل جاهداً لإرساء قواعد القانون الدولي، وأسس للإنتظام على المستوى العالمي وفقاً لمعايير موحدة؛ يتجاهل تطبيق هذه المعايير، او أنه يريد تطبيقها في مكان ويتجاهل انتهاكها في أماكن أخرى. ويمكن ذكر مثال على هذه الوقائع؛ ما حصل في المدة الأخيرة، بحيث تحركت محكمة الجنايات الدولية الدائمة فوراً ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأصدر مدعي عام المحكمة مذكرة توقيف دولية بحقه – وهو رئيس دولة كبرى – بتهمة انتهاك حقوق أطفال اوكرانيين نقلتهم سلطات موسكو الى روسيا وابعدتهم عن ذويهم، بينما لم تحرِّك المحكمة ذاتها ساكناً ضد مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين ارتكبوا جرائم حرب موصوفة ضد الفلسطينيين، بما في ذلك قتل ما يزي عن 8000 طفل، وليس سراً، بأن المحكمة الجنائية الدولية الدائمة تتأثر بنفوذ الدول الغربية الكبرى، ويخاف قُضاتها وموظفيها من عقوبات قد تفرض عليهم من قبل سلطات الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية الأخرى، وبدت المحكمة كأنها تكيل العدالة بمكيالين مختلفين.

لا يُحسد الغرب الذي ساهم في إغناء الحياة البشرية – بإبتكاراتٍ علمية وحضارية وقانونية فائقة الأهمية – على موقفه من التداعيات التي عكستها الأعمال الإجرامية التي حصلت بغطاء من هذا الغرب ضد الفلسطينيين. والمستقبل يؤشر الى تطورات تدفع العرب والدول الإسلامية والشرقية عامةً على تجاهل هذا الغرب، والشعوب التي تطلّعت اليه كسند وعضد للبشرية ضد البدائية التي هشَّمت بالناس، وقدَّمت الكثير منهم ضحايا اضطهادات عنصرية وطائفية وجهوية؛ خاب ضنها من مواقفهم الأخيرة. وعودة الغرب إلى التصرُّف بتهوُّر وبإنحياز؛ يشبهان العودة الى ما حصل إبان مرحلة الإستعمار ويخفيان حنيناً له، وسيشكل ذلك خسارة موصوفة لهذا الغرب، ويساهم في تراجع مكانته بين أمم الأرض، وهذه الأمم التي تفاعلت بمعظمها مع التطور الذي حصل في العالم، لاسيما مع ثورة التواصل والتكنولوجيا الحديثة؛ لن يستسلم لمقاربات استعمارية جديدة، ولن يخضع لنيّر الإستغلال والإستعباد من جديد.

ملف العدد - تحقيقات ومقابلات

شكّلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد معركة طوفان الاقصى في السابع من تشرين الاول (اوكتوبر) من العام 2023 محطة مهمة في …

في أوقات الأزمات والحروب يبرز دور الإعلام وأهميته، إذ تشكل وسائل الإعلام الوجهة الرئيسية للمهتمين بمتابعة الحدث ومراقبة التطورات. ولا يختلف اثنان …

أكثر ما يضغط على الإعلام في زمن الأزمات والنزاعات والحروب الميدانية، في فنون النقل والتغطية والتحليل والتصوير وأكثر الأمور دقة وتطلباً للإحترافية …

حين أخرج الطفل، إبن الأعوام الستة أو السبعة، من تحت أنقاض منزل أسرته – وكم كان محظوظاً على عكس آلاف الأطفال الذين …

شكَّلت الأحداث المأساوية الأليمة التي حصلت في قطاع غزة وفي جنوب لبنان وفي الضفة الغربية في الربع الأخير من العام 2023؛ امتحاناً …

الكلام على التزوير الإسرائيلي صحيح، لكنه لا يفاجئنا، ولا يتضمن جديداً. لكن المفاجىء حقاً، إنما كان التبنّي السريع من الإعلام الغربي للسردية …

في أثر الثورة الصناعية في أوروبا، والصراعات بين دول القارة الأوروبية؛ وعندما فشلت فرنسا في الحفاظ على مصر كمورد لزراعة القطن، توجهت …

النبي أيّـوب(ع)، هـو من أنبياء اللـه الذين ذكرهم القرآن الكريم في سورة النساء وذكر نبوّتهم بقوله: (وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق والأسباط …

وَرَدَ في التاريخ القديم ذكرُ نَبِيّين يحملان هذا الاسم الكريم وهما حزقيال الأوّل وحزقيال الثاني. أمّا حزقيال الأوّل فمدفنه بلدة بثينة كرَك …

جسر القاضي أقدم الجسور اللّبنانية وأكثرها شهرةً. القاضي عماد الدين التّنوخي أوّل من بناه والأمير زين الدين التنوخي أعاد ترميمه. المتصرف واصا …

إنشاءُ مجلسِ الشّيوخ في لبنان بين النصوص والممارسات أولًا: أسباب أخذ الأنظمة الديمقراطية بنظام المجلس في النظم البرلمانية بالعالم: توجد قاعدتان بالنسبة …

ذهب العديد من الباحثين في الفكر السياسي والاجتماعي حول نمط الاجتماع في لبنان بعيداً في تقدير أهمية وخطورة تعدد فئات المجتمع اللبناني …