الأحد, أيار 4, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأحد, أيار 4, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان

توطئة:

صُمِّمت السياسة الاقتصاديّة الرّاهنة التي بدأ تطبيقها في العام 1993 لتحقيق هدفين مترابطين هما تثبيت استقرار الاقتصاد الكلّي وإطلاق برنامج إعادة الإعمار وما تطلّبه ذلك من موارد ماليّة تخطّت وقتها حجم الادّخار الذي كانت متوفّراً. حقّقت تلك السياسة هدفيها جزئياً، غير أنّ الاستمرار باعتمادها لعقدين كاملين بعد فورة إعادة الإعمار التي شهدها لبنان بعد اتفاق الطائف أحدث انحرافات في الاقتصاد الحقيقي ودفع بالاقتصاد الكلّي نحو هشاشة متزايدة أضحت تهدد التوازن الاقتصادي غير المستقرّ أصلاً.

إنّ التحوّل نحو سياسة اقتصاديّة مغايرة لتلك التي سادت على مدى ربع قرن أكثر من مطلوب، بغية تقويض التّوازنات الهشّة على مستوى الاقتصاد الكُلّي و توزيع الثّروات والمداخيل بعدالة تصاعدية. من الضروريّ في هذه المرحلة اعتماد سياسة تهدف إلى تحقيق نموّ مبني على الاستقرار الناجز والرّفاه الاجتماعي و على ترشيد استهلاك الموارد الطبيعيّة.

يلعب المجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان حاليًّا دوراً هاماً في محاولة صياغة سياسة اقتصادية اجتماعية و بيئيّة متكاملة للبنان لتحقيق النموّ و التنمية المُستدامة.


لمحة تاريخيّة عن الاقتصاد اللبنانيّ:

شهد الاقتصاد اللبنانيّ في العقود الثلاثة التي سبقت الحرب الأهلية فترة عُرفت بالفَورة الاقتصادية، وذلك بفعل استقطابه للحركة المرفئِيّة في المنطقة بدايةً وللرّساميل الساعية للأمان لاحقاً. لقد شكّلت مثلاً نسبة السّلع المصدّرة إلى السّلع المستورَدة 72% في العام 1973 بحسب مراجع البنك الدولي. هدفت الإجراءات النقديّة التي تمثّلت بإقرار تغطية ذهبيّة وازنة للنّقد والبدء بمراكمة الذهب احتياطاً نقديّاً إلى تعزيز الثقة بالعملة الناشئة بعد الانفصال الجمركي عن سورية ممّا أدّى إلى زيادة التدفّقات الماليّة إلى الدولة المستقلّة حديثا.

نشطت في أواسط خمسينيّات القرن الماضي قطاعات الخدمات ومن ضمنها قطاعات المال والسياحة والنّقل البحري والجوّي والبرّي على وجه الخصوص. تطوّرت هذه القطاعات متكاملةً مع الرّساميل الوافدة وأتى هذا النشاط مترافقاً مع دعم كبير من قبل السلطة السياسية عبر إقرار قانون السريّة المصرفيّة وتخصيص تلك القطاعات بالتسهيلات والاستثمارات، نذكر على سبيل المثال لا الحصر شركة طيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان.

كان من البديهي بسبب الازدهار الذي شهده الاقتصاد اللبناني في تلك المرحلة أن يسيل الحبر الكثير حول أهميّة هذا النموذج الاقتصادي ودور الاقتصاد اللبناني في المنطقة. ربطت معظم التحاليل هذا الازدهار بنموّ قطاعات الخدمات حصراً، واعتبرت بأنّه على قطاعات الإنتاج الحقيقي (الزراعي والصناعي) أن تتطوّر بمقوّماتها الذاتية من دون أيّة سياسة اقتصادية عامة ولا أيّة سياسة قطاعية حاضنة كما كان الحال في قطاع الخدمات.

إنّ النموذج الاقتصادي في تلك المرحلة، وإن شهد نموّاً منظوراً في المؤشّرات الاقتصادية، قد حمل خللاً هيكليّاً بسبب اعتماده على قطاعات غير حقيقية. أدى هذا النموذج أيضاً إلى إنماء غير متوازن وسبّب خللاً اجتماعيًّا فتفاقم الفقر في المناطق حيث لم ينشط قطاعا المال والسياحة، وكبر حزام الفَقر والبؤس حول العاصمة. ترافقت هذه المرحلة مع إهمال شديد للشأن الاجتماعي ما أدّى إلى تعميق الفروقات بين الطبقات الاجتماعية.


الهيئة العامة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في لبنان.

المؤشّرات الكُليّة في الاقتصاد:  عدم اسقرار في التوازن

يُجْمِع الاقتصاديّون في معظم دراساتهم المُعَدّة في العقود الثلاثة الأخيرة على غياب كامل للسياسة الاقتصادية أو شبه غياب، ولكن بالرغم من ذلك فإن الاقتصاد الكلّي كان ولا يزال بحالة من الاستقرار. في المقابل نرى في التقارير الدوليّة تنبيهات متكررّة تشير إلى دلالتي ضعف تقوّضان توازن الاقتصاد الكُلّي وهما عجز الميزان الجاري وعجز الموازنة العامّة، أو ما يُعرَف بالعجز المزدوج.

عجز الميزان الجاري

إنّ العجز في الميزان الجاري مُزمن ومُستدام، ولكنْ بالرغم من هذه الاستدامة لم تتوانَ التدفّقات النقدية عن تمويل هذا العجز. إنّ قدرة لبنان على استقطاب الموارد المالية لتمويل عجزه يظهر مدى مكانته لدى الدول من جهة، و مدى قدرة مُغْتَرِبيه ومكانتهم وانتشارهم في المنطقة والعالم من جهة أخرى ما يعزز قدراتهم التحويليّة التي تتخطى السبعة مليارات والنصف مليار دولار أميركي سنويّاً.

إنّ العجز الجاري يعكس أيضاً خللاً بنيويّاً يُضعف قدرة الاقتصاد على إنتاج سلع وخدمات تصديريّة ما يؤدي إلى عجز كبير في الميزان التجاري تجاوز الستة عشر مليار دولار في نهاية العام 2017 بحسب تقارير المصرف المركزي. كذلك فإنَّ التحويلات التي تموّل هذا العجز، جزئيًّا أو كلّيّاً، ليست تحويلات استثمارية طويلة الأمد تُراكم رأس المال وتعمل على تحفيز الاستثمار وتولِّد فرص عمل. هذه التحويلات هي بجزئها الأكبر تحويلات مصدرها الكفاءات اللبنانية الاغترابية التي دفعتها الأزمات السياسية والأوضاع الاقتصادية في لبنان الناتجة عن ضيق سوق العمل إلى الهجرة.

ممّا لا شكّ فيه بأنّ العجز المُزمن والمُستدام في الميزان الجاري يفرض توجّهات في السياستين المالية والنّقدية تهدف إلى الإبقاء على نِسب مُرتفعة من التّحويلات الماليّة بغرض تمويل العجز، مع ما يتأتّى من إجراءات نقديّة لها أثر على الاقتصاد برمّته. إن تمويل العجز الجاري برساميل مُسْتَقطَبة من الخارج يُعرِّض الاقتصاد عامّةً لتقلّبات دوريّة واسعة خاصةً إذا أتى جزء كبير من هذه الرّساميل بشكل استثمارات قصيرة الأجل كما كانت الحال خلال ربع قرن مضى. هناك تضارب بين التوجّهات النقديّة الهادفة إلى استقطاب ودائع لها دور في تمويل الدين العام من جهة، والتوجّهات النقدية والمالية الساعية إلى استقطاب استثمارات أجنبيّة مباشرة لها دور فاعل في خلق فرص عمل وتسريع معدّلات النموّ الاقتصادي من جهة أخرى. فالودائع من الخارج تجذبها نِسب الفوائد المرتفعة فيما الفوائد المتدنّية تساهم في جذب الرساميل المنتجة وتعزّز الدورة الاقتصادية وترفع نسب النمو.

عجز الموازنة العامّة

يكمن السبب الثاني في هشاشة الاقتصاد الوطني وعدم الاستقرار في التوازن في العجز المتمادي في الموازنة العامة وما ينجم عن هذا العجز من تسارع في وتيرة الدين العام. لا بدّ من الإشارة بأنّ الدول عامةً لا تفلس بالمعنى المالي الضيق للحالة، إلّا أنّ عدم قدرة المالية العامة بشكل دائم على ردم العجز إلّا من خلال اللجوء إلى المزيد من الاقتراض يؤدي إلى الإخلال في خدمة الدين و في القدرة على الاستمرار في الاقتراض. والحَرِيّ ذكره أنّ توجّهات السياسة النقديّة عامّة و بالتحديد في لبنان تُسَخّر مجمل إجراءاتها لتفادي الوقوع في هكذا خلل، مع ما نتج عن هذه الإجراءات من انعكاسات سلبيّة تراكمت على مدى عِقدين من الزّمن.

ممّا لا شكّ فيه أنّ هذا العجز أدّى إلى تعطيل دور أدوات السياسة المالية في إدارة الاقتصاد وإلى اضطلاع السياسة النقدية مُنفردة بمهام تلك الإدارة مع ما نعرفه عن محدودية السياسة النقدية في علاج هذا الخلل منفردةً. إنّ الاقتراض المتزايد بهدف إيفاء الفوائد على الدين العام لا يولِّد نمواً خلّاقاً لفرص العمل، لكنّه يساهم في توسيع الهوّة بين المداخيل و القطاعات ممّا يزيد من الفروقات الاجتماعية و يولّد مزيداً من التوتّر.

إضافةً إلى ذلك، فإنَّ ارتباط القطاع المصرفي برمّته بأدوات الدين العام يُضعف التصنيف الائتماني للبلاد و يؤثر على تصنيف القطاع رغم متانته من حيث معايير السيولة، والملاءة، ورقابة السلطة النقدية، والرقابة الذاتية، والتوجهات المُحافظة.


السياسة الاقتصاديّة في لبنان ما بعد الطائف:

إنّ السياسة الاقتصادية في لبنان بشقّيها النقدي والمالي، صيغت لتلائم حقبة اقتصادية محدّدة من تاريخ البلاد، فحقّقت أهدافها مرحليًّا وما لبثت أن أرخت بِوِزْرِها على الاقتصاد والمجتمع في مراحل لاحقة. يمكن إيجاز هذه الحقبة على الشكل التالي:

في مواكبة حقبة إعادة الإعمار وما بعدها

إنّ السياسة الاقتصاديّة التي واكبت وسهّلت عملية إعادة الإعمار في السنوات الخمس 1993-1997 نجحت في تجنيب الاقتصاد مخاطر عدم الاستقرار التي تولّدها ضغوط الإنفاق الإعماري على الموارد المالية كما على الأسعار بمفهومها الاقتصادي. ومن أهم ما حققته تلك السياسة من إيجابيات يمكن أن يتلخّص بالتالي:

أوّلاً، ساعد تثبيت سعر صرف الليرة تجاه الدولار الأميركي على استقرار نسبة التضخم على مستويات منخفضة فكان هذا التثبيت بمثابة المرساة التي كان يعوّل عليها لإحداث توازنات مستقرّة في كافة متغيِّرات الاقتصاد الكُلِّي.

ثانياً، أدّت سياسة تثبيت سعر صرف العملة الوطنية على مدى عقدين ومن خلال أسعار فائدة مرتفعة مقارنة بالأسعار السائدة عالميًّا إلى استقطاب رساميل وودائع من الخارج، كان لها دور مساهم و فعال في الاقتراض العام والخاص.

ثالثاً، سهّل تزاوج سعر الصرف الثابت والفائدة المرتفعة على المصارف تحقيق نمو مؤثر ومضطرد في كافة بنود ميزانياتها وعلى مدى ربع القرن الفائت، هذا ما عزز متانة القطاع المصرفي، وقدرته على تمويل الاقتصاد خلال العقود اللاحقة.

بالرغم ممّا حقّقته السياسة الاقتصادية في تلك الحقبة من نجاحات إلّا أنها حملت وتحمل بعض المخاطر ومنها:

أوّلاً، من الناحية الاجتماعية، لم تَسْتَعِد الأجور والقدرة الشرائية إلّا جزءاً يسيراً ممّا كانت عليه في الحقبة التي سبقت سنوات الانهيار النقدي 1984-1992. كما أنَّ النموّ الاقتصادي، وعلى تفاوت وَتيرَتِه خلال أكثر من عقدين من الزمن، لم يُحدث تراجعاً موازياً في نسب البطالة والهجرة بل تسارعت وتيرة ارتفاع هذه النّسب خلال السنوات السبع الأخيرة رغم ما تحقّق في تلك الفترة من نموّ اقتصادي وإنْ بمعدّلات منخفضة. وقد نتج عن ذلك، مع غياب السياسة الاجتماعية، اتساعٌ متنامٍ للهوّة الاقتصاديّة الاجتماعيّة التي باتت تهدّد بتقويض الانصهار المُجتَمَعي وحتى الوطني.

ثانياً، إنّ ارتفاع نِسَب الفوائد أدّى إلى تراجع الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي المنتج (زراعة، صناعة) وإلى تراجع تراكم الرأسمال الحقيقي، ما انعكس على تراجُع في نسب العمالة.

ثالثاً، إنّ تثبيت سعر صرف العملة أدّى إلى ارتفاع كلفة الإنتاج المحليّة، ما أحدث تراجعاً في تنافسية الإنتاج.

سياسة اقتصادية ذات بُعد مُعطَّل ومُعطِّل

تقوم السياسة الاقتصادية، بتوجّهاتها التقليدية، على ركيزتين هما السياسة النقدية والسياسة المالية، وتسعى من خلال تلازمهما وتناسقهما إلى تحقيق هدفَيّ النموّ الاقتصادي والحد من البطالة في إطار من الاستقرار الكلِّي وهذا ما يُعرف بالمثّلث الذهبي في علم الاقتصاد.

لكنّ العجز في الموازنة العامة والنموّ المُتسارع للدَّين العام أدى إلى تعطُّل أدوات السياسة المالية أي: إنّها لم تعد قادرة على الاضطلاع بأيٍّ من أدوارها في إدارة الاقتصاد. فدور السياسة المالية في مواجهة التقلّبات الدوريّة للنشاط الاقتصادي معطّل لأنّ أدوات هذه السياسة أضحت مُسخّرة لتأمين خدمة الدين العام ولإبقاء عجز الموازنة على مستويات يحدّها انهيار الإنتاج في الاقتصاد الخاص، كذلك دورها معطل في إعادة التوزيع و في تمويل إنتاج الخدمات العامة.

أمّا السياسة النقدية الموكل إليها مهمّة الحفاظ على سعر الصرف ، فقد حُمِّلت منفردة مهام الإدارة الاقتصادية. غير أنَّ هذه السياسة بطبيعة أدواتها قادرة على الاضطلاع بأحد أدوار السياسة المالية فحسب ألا وهو دور مواجهة التقلّبات الدورية للنشاط الاقتصادي وذلك ضمن حدود ضيّقة. فالسياسة النقديّة هي أيضاً مُسخّرة لهدف تأمين التدفُّقات الماليّة التي تموّل المديونيّة العامّة والمديونية الخاصة. إنّها تبقي لذلك على شكل من أشكال النّمو الذي لا يترافق ونسب وازنة لتراكم رأس المال في قطاعات الإنتاج، كما لا يترافق مع تراجع نسب البطالة، لا بل يُسرِّعُها.


ضعف وانحسار التدفّقات الاستثماريّة

ترافقَ توجُّه السياسة النقديّة إلى جذب الودائع حصراً مع وجود معوقات منعت تدفق الاستثمارات الحقيقية الطويلة الأمد بالحجم الذي يتطلّبه النمو المولِّد لفرص العمل. يشكل الفساد أهمّ تلك المعوقات وأخطرها، يليه ضعف الإنتاجية في الإدارة العامة بسبب البيروقراطية وعدم تحديث الإطار التشريعي والإجرائي الملائم للاستثمار والمنافس للتسهيلات التي تقدمها اقتصادات أخرى، وتأتي بعد ذلك مُعدّلات الفائدة المرتفعة.

الفساد بمفهوم الاقتصاد السياسي وأثره على تدفّق الرّساميل الاستثمارية

إنّ التحديد الدقيق الذي يعتمده الاقتصاد السياسي لماهية الفساد يُظهر قدرة هذه الآفة على تقويض الأسس التي تقوم عليها الدولة. إنّ أساس الفساد هو جنوح الجشع عند من لديهم سلطة القرار وسلطة الإكراه، وهما سلطتان مستمدتان أصلاً من سلطات الدولة، بحيث يوظّفون هاتين السلطتين للاستحواذ على المال العام أو الموارد العامة أو لابتزاز المواطنين.

يُظهر هذا التعريف المُقْتضَب خطر الفساد على بنيان الدولة. فالعقد الاجتماعي بمفهومه المبدئي والمجرد أعطى الدولة حق اللجوء إلى الإكراه في حالات ثلاث أساسية أُضيفت إليها حالة رابعة فرضها التطور نحو اقتصاد السّوق. الحالات الأساسية للجوء إلى السلطة الإكراهية هي أوّلاً، واجب إحقاق الأمن والانتظام العام وفرض العدالة المُستمَدة من المبادئ الإنسانية والقوانين، ثانياً، واجب الحفاظ على الملكية الخاصة وضمان احترام الالتزامات التعاقدية، وثالثاً واجب فرض الرسوم والضرائب. أمّا الحالة الرابعة فتطال سلطة التدخل لتصحيح الاختلالات التي قد تُحدثها قُوى السوق في النظام الاقتصادي المبني على التبادل الحرّ.

هذا التعريف المُختَصر للفساد يُظهر السبب الأقوى لفشل السياسة الاقتصادية في استقطاب الرساميل الاستثمارية، فيما نجحت إلى حدٍّ ما في استقطاب الودائع. فالمُستثمر ينظر أوّلاً وأساساً لكيفيّة استعمال السّلطات لسلطتها، إذ إنّ ربحيّة الاستثمار أو عدمها تكمن في شرعيّة هذا الاستعمال أو عدمها، كما يكمن حق المستثمر في ملكيّة أصول استثماره وكيفيّة إدارتها، وعدم الخوف عليها. لذلك يأتي تقييم المُستثمر لمؤشّر الفساد في بلد ما في طليعة المُعطيات التي تُحْتَسب على أساسها المخاطر الملازمة لاستثماره.

ضعف الإنتاجيّة في الإدارة العامّة

تُعتبر البيروقراطيّة و غياب التشريعات الحديثة من معوقات الاستثمار في لبنان كونها تزيد من كلفة الاستثمار مالاً مبدَّداً ووقتاً مهدوراً. إنّ مرتبة لبنان المتدنِّية على سُلَّم سهولة الأعمال هي خير دليل على أنّ البيروقراطية هي أحد أسباب ضعف قدرته على جذب الاستثمارات. يتطلب استخراج ترخيص بناء في لبنان مثلاً ما معدله 244 يوماً مُقارنة بـ 49 يوماً في الإمارات بحسب تقرير ممارسة أنشطة الأعمال 2017 الصادر عن البنك الدولي. يُصَنّف لبنان بحسب هذا التقرير في المرتبة ما قبل الأخيرة بين الدول العربية يليه السودان. هنا نشير إلى أهميّة اتّخاذ الإجراءات التشريعية و التنفيذية اللازمة لتطبيق المشروع المُعَدّ من قبل حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في بداية تسعينيّات القرن الماضي لاعتماد ما يُعرف بالشبّاك المُوَحَّد لتأسيس الشركات one stop one shop. من الضروري أيضا إعداد المراسيم التطبيقيّة والمباشرة بتطبيق قانون الحكومة الالكترونية.

أسعار الفائدة المرتفعة

هي من معوقات الاستثمار كونها تدخل في صميم النموذج المتَّبع لتقييم جدوى أيّ مشروع استثماري، بحيث إنَّ الفائدة المرتفعة على القروض الاستثمارية تقود إلى استبعاد مشاريع استثماريّة قد تكون مجدية في ما لو قُورن المردود الاستثماري بنسبة فائدة أدنى على القروض.


المجلس الاقتصادي و الاجتماعي في لبنان:
نظرة جديدة للوضع الاقتصادي الاجتماعي و البيئي

إنّ الإنماء الذي ننشده كمجلس اقتصادي واجتماعي للبنان هو إنماء اقتصادي واجتماعي وبيئي. فالنّمو الاقتصادي في هذا الإطار الإنمائي هو هدف تحدّ بلوغه قيود ثلاث وهي: الاستقرار المالي، التقدم الاجتماعي المتمثّل بتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص عن طريق الإنفاق العام الرِّعائي، وحماية الموارد الطبيعيّة من الاستنزاف المُتَفلِّت. وما الإخلال بأيٍّ من هذه القيود سوى تقويض للأُسُسِ التي يُبنى عليها المسار الإنمائي المُستدام برمته.

من المُسَلَّم به أنّ التزام السياسة الاقتصادية المنشودة بالضوابط الصارمة التي يفرضها الإنماء المستدام سوف يكبت النمو الاقتصادي بالمقياس والقياس التقليديين. فالقياس التقليدي للنشاط الاقتصادي لا تشمل حساباته التقييم السلبي لمدى التدهور الاجتماعي والبيئي، ولا التقييم الإيجابي للتقدّم على هذين المَيدانين.

لذا تطوّرت أسُس احتساب النشاط الاقتصادي راهناً باتّجاه مقاربة تشمل الوقع الاجتماعي والبيئي للنموِّ الاقتصادي. فالموارد البشريّة والموارد الطبيعية هي بحق أصول رأسماليّة لها المساهمة الأكبر في النشاط الاقتصادي، والمحافظة عليها وتطويرها هي السبيل لتحقيق الإزدهار الحقيقي. وما هدف الحَوْكَمة الجيِّدة في هذا السِّياق إلّا التوصُّل إلى توازن مُستدام بين متطلّبات النُّمو من جهة، وبين الضوابط الاجتماعية والبيئيّة لذلك النموّ من جهة أخرى.

يتألَّف المجلس الاقتصادي و الاجتماعي في لبنان منذ تشكيله بنسخته الحالية الثانية في نهاية العام 2017 من 71 عضواً مُنتخباً يمثلون الهيئات الاقتصادية والنقابات العمالية ونقابات المهن الحرّة والخبراء في لبنان. انبثق عن الهيئة العامة هيئة مكتب مؤلّفة من 9 أعضاء بالإضافة إلى عشَر لجان متخصّصة هي التالية: لجنة القضايا الاقتصادية العامّة، ولجنة القضايا الاجتماعية العامّة، ولجنة التنمية البشرية وحقوق الإنسان، ولجنة النشاطات الإنتاجية، ولجنة العلوم والتكنولوجيا، ولجنة البيئة، ولجنة السياحة، ولجنة قضايا المناطق وشؤون الزراعة، ولجنة قضايا العمل والمهن والحرف، ولجنة الشباب والرياضة. يشكل هذا المجلس ذو الدور الاستشاري منصّة نقاش وتفاعل بين كافة قوى الإنتاج و تجمع خبرات تعمل جاهدة لصَوْغ رؤية اقتصاديّة اجتماعيّة بيئيّة مُتكاملة للبنان.

لم يكتف المجلس بانتظار أن تُبادر السلطتان التشريعية و التنفيذية و تطرح عليه قضايا للبحث، بل بادر إحساسا منه بدقّة الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و البيئية في لبنان و دعا أصحاب الشأن لتدارس سُبُل الخروج من الوضع الراهن.

في هذا السّياق، تنصرف اللجان بحسب اختصاصها إلى دعوة أصحاب الشأن في لبنان للنقاش بغية الوصول إلى رؤى مشتركة تسهّل عملية صَوْغ توصيات تُرْفَع للسلطتين التنفيذية والتشريعية في لبنان. كما أن أعضاء اللجان من أصحاب الاختصاص يعملون على تحليل الوضع ودراسة أنجع السُّبل للخروج من الأزمة.

المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و وثيقة الأحزاب

بادر المجلس ومنذ تشكيله في نهاية العام 2017 إلى درس خطوات متعدّدة للمساهمة في تقديم الأفكار والاقتراحات الهادفة إلى تحريك الدورة الاقتصادية واستيعاب الخلل القائم. من أبرز تلك الخطوات كانت دعوة الأحزاب اللبنانية الأساسية لتقديم الشقِّ الاقتصادي في برامجها الانتخابية إلى المجلس، بغية صياغة رؤية اقتصادية تتوافق عليها معظم القوى السياسية في لبنان. بناءً على ذلك، لبّى سبعة أحزاب تلك الدعوة، وأقيم في المجلس طاولة حوار اقتصادية جمعت حولها الأحزاب السبعة. بذل ممثِّلوا الأحزاب على مدار ستّة اجتماعات جهداً استثنائياً من أجل الوصول إلى حدٍّ أدنى مشترك على الرغم من تباين الخلفيّات السياسية والاقتصادية التي ينطلقون منها. كانت باكورة الاتفاق فيما بينهم إصدار وثيقة من اثنين وعشرين بنداً تهدف إلى خفض النّفقات العامة. تصلح تلك الوثيقة لأن تكون في صلب البيان الوزاري للحكومة المرتقبة لأنّها تساهم من دون أدنى شك، وعلى مدار ثلاث إلى خمس سنوات، إلى خفض العجز في الموازنة العامة إلى ما دون الخمسة بالمائة من الناتج المحلي، خاصةً وأنّ الأحزاب السياسية المساهِمة في إعداد الوثيقة والموافِقة على هذه البنود موجودة في السلطتين التنفيذية والتشريعية.

التحديات الأساسيّة الرّاهنة للاقتصاد وسُبُلُ معالجتها

يسعى المجلس الاقتصادي والاجتماعي في حركته باتّجاه الكتل النيابية وصحاب القرار السياسي، بالإضافة إلى القوى المشاركة في العملية الإنتاجيّة (أصحاب عمل وعمال)، إلى حثّهم على وضع سياسة اقتصادية ترتكز على تفعيل القطاعات الإنتاجية.

لقد أعَدَّت لجنة القضايا الاقتصادية العامة في المجلس ورقة إجراءات فوريّة وتوجّهات على المدى المتوسط لتحفيز النمو الاقتصادي، وتمت مناقشة هذه الورقة وأُقِرَّت من قبل الهيئة العامة للمجلس في أواسط تشرين الأوّل من العام 2018 الحالي. تهدف الورقة إلى تحفيز النمو الاقتصادي العادل والمُستدام و تلحظ نقاطاً عديدة ذات أبعاد اجتماعيّة وتنموية. كما تأخذ بعين الاعتبار معالجة هموم الناس وتحقيق آمالهم وتطلّعاتهم لتأمين نمو مُستدام لاقتصاد حقيقي مُؤَنْسن يرتكز على الإنتاج أوّلاً وهذا يتطلَّب رزمة من الإصلاحات البنيويّة على الأصعدة الاقتصادية والمالية والإدارية.


خُلاصة

يواجه لبنان حاليًّا تحدّيات ناجمة عن ضعف بنيوي في اقتصاده منها عدم وجود فرص عمل وعدم القدرة على توفيرها، والعجز المزدوج المتمثل بعجز الميزان الجاري وعجز الموازنة، إضافة إلى عجز كبير في الميزان التّجاري و ارتفاع حجم الديون الخاصة والالتزامات المترتّبة على القطاع الخاص (أسر، شركات). كلّ هذا بالإضافة إلى ثقل الدّين العام على الاقتصاد وعلى بنية الفوائد في السوق المحلّية، وضعف مستوى الخدمات العامّة. كما يعاني لبنان من تحديات ناجمة عن عوامل ظرفية مُتَمثّلة بأزمة النازحين السوريين والتراجع في قيمة التحويلات الماليّة والبطء في إنجاز المشاريع (استخراج النفط والغاز، الكهرباء، الخ). يواجه لبنان أيضا تحديات ناجمة عن غياب الحَوْكَمة منها عدم الالتزام بالقوانين والأنظمة، وضعف أجهزة الدولة وغياب هيبتها، وغياب دَوْر الهيئات الرّقابية. تدفع كلّ تلك التحديات إلى انخفاض نسبة النّمو الاقتصادي وارتفاع معدّلات البطالة.

المطلوب لتفعيل الاقتصاد وزيادة النمو خطوات من شأنها توسيع قاعدة الاقتصاد الوطني وحجمه، بما يسمح بإعادة تكوين الطبقة المتوسّطة وتوزيع فرص العمل ومجالات الإنتاج على أكبر شريحة من المواطنين إضافة إلى تأمين شبكات أمان اجتماعي (ضمان اجتماعي، ضمان الشيخوخة، نظام تقاعد، إلخ.)

يشكّل إصلاح القضاء وتعزيز استقلاليته وزيادة فعاليته نقطة عبور إلى تحسين أداء مؤسسات الدولة، وضمانة للاستثمار المحلّي والاجنبي. المطلوب أيضا توفير البيئة الاستثمارية والبنية التمويلية، مع التنويع في سبل التمويل (توسيع نشاط بورصة بيروت)، وإشراك المواطنين في القاعدة الرأسمالية للقطاعات الاقتصادية. من المُهم أيضا الالتزام بالشراكة بين القطاعين العام والخاص والإسراع بإعداد المراسيم التطبيقية للقانون رقم 48 الصادر بتاريخ 7 أيلول 2017. من الضروري أيضا إزالة التعديات على الأملاك العامة وإدارتها بشكل فعّال لصالح الدولة، والحفاظ على التّراث الوطني واستثمار الموارد الطبيعيّة من أصول وموجودات لصالح الأجيال الحاضرة والمقبلة، من خلال إدارة شفّافة لصندوق سيادي بعد إنشائه.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي