الأربعاء, أيار 14, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, أيار 14, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

النَّفسُ في مُحاورة «فايدروس» الأفلاطونية عَربَةٌ تُحلِّق بالحكمة والفضيلة إلى الملأ الأعلى

لَطالما كانت النّفسُ البشريّة مِحورَ كلّ فكرٍ فلسفيّ توّاق إلى استجلاء حقائق الوجود وعظمة خلق الإنسان، ولَطالما حيَّرَت العقول وباتت معرفةُ حقيقتها مفتاحاً لمغاليق المعرفة بجميع نواحيها، كما يختصرها قول سقراط “إعْرَفْ نفْسَك”. وفيما يتناول الباحثون محاورة “فايدروس” (Phaedrus) الأفلاطونية على الأغلب من خلال معالجتها لمفهومَيِّ “الحُبّ” (Eros: ἔρως) و”الجَمَال” (Kallos: κάλλος)، فضلاً عن نقد أساليب الفنّ والخطابة المفتقدة للحكمة، فإنّ مفهومَ “النّفْس” (psyche: ψυχή) كما صوَّره أفلاطون في قِصّته الرمزية عن “عَربَة النّفس”، هو لا ريب المَنْهلُ الرئيسي لكلّ النظريات الفلسفية والسيكولوجية حول النفس البشرية، وسُبُل تطهُّرها، ورُقيِّها، وتحقُّقها الصوفي الرُّوحاني (Henosis: ἕνωσις)، فضلاً عن كونه يُمثِّل العقلانية والبُعد الأخلاقي لدى أفلاطون و”الحماسة” في انتهاج الحياة الرُّوحية الدينيّة بكلّ حكمة واتّزان، بعيداً عن أيّ انغماسٍ مادي حِسّي وشهويّ، أو اندفاعٍ عاطفي غضبي.
كتبَ أفلاطون محاورة “فايدروس” بعد محاورتَي “الجمهوريّة” (The Republic) و”المأدُبة” (Symposium) كما يتبدّى بوضوح من الاقتباسات الواردة فيها، فيما تُحدِّدُ الخاتمةُ المنطقيّة (Epilogue) للمحاورة على لسان سقراط الصّلةَ في ما بين محاورة “فايدروس” والمحاورات التي تلتها لاحقاً، على غرار “بارمينيدس” (Parmenides)، و”السفسطائي” (Sophist)، و”السياسي” (Statesman)، و”فيليبوس” (Philebus).
يرافق الفيلسوفُ سقراط في مستهلّ المحاورة الشابَّ الأثينيَّ فايدروس إلى وادٍ خلّاب خارج أثينا، يُبدِعُ أفلاطون في وصفه، ومستهِلّا حواراً حول فن الخطابة وما قاله الخطيب الشهير ليسياس (Lysias) عن مفهوم “الحُبّ” (Eros: ἔρως) ومن ثمّ “الجَمَال” (Kallos: κάλλος)، فيؤكّد سقراط أنّ هذا الخطيب يفتقد إلى الحكمة وأنّ الحُبّ، خلافاً لمفهوم ليسياس السّلبي، هو “نعمة إلهية” ترقى بالمُحِبّ إلى الخير الأسمى وإلى التّحقُّق الصوفي الرُّوحاني، ويُعِينُ النفسَ على تذكُّر الجمال العُلوي والسُّمو إليه من جديد، وهو ما يُدرِكهُ حقّاً كلُّ مُحِبٍّ للحكمة.

الحُبّ والجمال وارتقاء النفس وسقوطها
من ثمّ يستعرض أفلاطون على لسان سقراط أبعادَ مفهوم الحُبّ الفلسفي أو “الحُبّ عند الفيلسوف” بكونه، بمنأى عن الحُبّ الجسدي، قوّةً تحثُّ على حُبّ الحكمة، أي الفلسفة، هذه القوّة التي ربّما تدفع الفيلسوف إلى مغادرة “ظُلمة الكهف” كما ورد في محاورته “الجمهورية”، تَحَرُّراً وانطلاقاً نحو النور. وبموازاة مفهوم الحُبّ، يتحدّث أفلاطون على لسان سقراط عن مفهوم “الجَمَال” (κάλλος) (وتجمع الكلمة في اليونانية ما بين الخير والجمال وهو ما يُشدِّد عليه سقراط دائماً)، تلك القوّة التي تدفعنا للرُّقي إلى الملأ الأعلى وتجعل النفوس تعود تَوْقاً إلى مصدرها بطاقة الحُبّ، فهذا الجمال إنّما يحثُّ على الفضيلة، شأنُه في الإغراء على الرذيلة، وهنا تعيش النّفس البشريّة صراعاً ما بين الجمال والحُبّ العُلوي الطاهِرَين، وحُبّ الجمال الجسدي المادّي السّفلي، ما بين ذلك الطابع المقدَّس اللطيف العُلوي، وتلك الطّبيعة المادية الكثيفة الدنيا.
وفيما يَحْسُن بذي الحكمة أن يتفادى الجَمَال الجسدي لتحقيق السَّكِينة في النفس والاقتراب من الفضيلة، فإنّ الفيلسوف برؤيته للجَمَال بحقيقته العُلوية المقدَّسة ما فوق الجَمَال الأرضي الحِسّي إنّما يُحلِّق بأجنحة فضيلته وحكمته فوق المُتَع الحِسّية على هذه الأرض نحو الملأ الأعلى حيث الحقائق الحِكميّة الإلهية، بانجذابٍ مقدّسٍ فوق عالم الحِسّ والشهوة والمادّة، فينصرفُ عمّا يهيم به الناس ويرنو بناظرَيه إلى ما هو إلهي قُدُسِي.
وفي ظل هذا الصراع ما بين الحكمة والفضيلة والشهوة والغضب، يبسط أفلاطون رؤيته لـ “الطبيعة الثُّلاثية للنفس” (Tripartite psyche)، بلغة مَجازيّة في القصة الرمزيّة عن “عربة النفس”، حيث تتبدّى جميع روائعه الحِكْميّة والفلسفيّة من المُثل العُليا والمعرفة والفضيلة إلى مفهوم الخير والشر في سياق نظريته هذه عن النفس التي تتميّز بها محاورة “فايدروس”.

نَظريّة النّفس لدى أفلاطون
قبل التطرُّق إلى الطبيعة الثّلاثية للنفس البشريّة، لا بُدّ من أن نُلقي الضوء بِتمعُّن على مفهوم النفس عند أفلاطون. فالباحث والفيلسوف الأنغلو-كندي روبرت كليندون لودج(1) (Rupert Clendon Lodge) يرى أنّ “النّفس” و”الفكر العقلاني” يتماثلان لدى أفلاطون في جميع النواحي، أمّا الباحث الاسكتلندي الكلاسيكي ويليام غوثرييه(2) (William Guthrie) فيرى من جهته أنّ أفلاطون يستخدم كلمة النفس لكي تعني تلك القوة التي تقوم بجميع الوظائف الحيوية مثل التغذية والحِسّ والفكر، من خلال واسطة الجسد، وأنّ مصطلح “النفس” يعني أيضاً لديه العقلَ أو الذكاء أو تلك القوة التي تبثّ الحياة في الجسم. وهنا ترى الباحثة الأميركية إيدث هاملتون(3) (Edith Hamilton) في دراسة مشتركة مع الباحث الأميركي هنتنغتون كايرنز(4) (Huntington Cairns) أنّ كلمة “النفس” لدى أفلاطون أفضل ما تُفسَّر اعتماداً على سياق المحاورات، فهي تعني المنطق والعقل والذكاء وكذلك الحياة والمبدأ الحيوي في الإنسان وفي كلِّ كائنٍ حَي، وهو التفسير الأقرب إلى فكرة النفس البعيدة الغور كما تَرِدُ في جميع المحاورات الأفلاطونية.
ففي محاورة “تيماوس” (Timaeus) وكذلك محاورة “ثياتيتوس” (Theaetetus) يعتبر أفلاطون أنّ العقل هو مَنْ يُدرِك المُثُل العليا والصُّوَر الهيولانية، أمّا في محاورة “فيليبوس” فيرى أنّ تلك المُثُل يستوعبها العقل والذكاء والفكر معاً، ونصل إلى محاورة “فيدون” (Phaedo) فنرى أنّ المُثُل العليا تُدرِكها النفس؛ لذا فإنّ العقل والفكر والمنطق والذكاء هي بالنسبة إلى أفلاطون يُشار إليها معاً بتسمية “نوس” (nous: νόος)، وهو أرقى قوة من قِوى النفس. ويشير في أحد مقاطع تلك المحاروة إلى أنّ النفس تنطوي على “مشاعر المحبّة والرغبات والمخاوف وجميع أنواع الأحاسيس”، وهي سِماتٌ تُعتبر عواطف وجدانية. لذا فإنّه وفقاً لأفلاطون لا تشتمل النفس على الذكاء والمنطق والعقل والفكر فحسب، بل أيضاً على العواطف.
وهو ما يتبدَّى بوضوح في محاورته “القوانين” (Laws) حيث يرى أفلاطون أنّ النفس تنطوي على “الأماني والتبصُّر والمشورة والحُكْم … واللذّة والألم والأمل والخوف والكراهية والمحبّة …”. فالأولى هي نشاطاتٌ للعقل والأخيرة هي نشاطاتٌ للجسد، بما لها من صلة بالعواطف والرغبات. هذه الثنائية في مفهوم طبائع النفس لدى أفلاطون تتبدَّى بتفصيلٍ في الكتاب الرابع من محاورة “الجمهورية”، حيث يُقسِّم النفس إلى مستويين منفصلين: “النفس العُليا” و”النفس الدُّنيا”، المنطق والعقلانية، يكمنان بحسب أفلاطون في “النفس العُليا”، أمّا الشَّهَوات والرَّغبات فتكمنُ في “النفس الدُّنيا”، وإضافةً إلى ذلك، يرى أنّ النّفس تشتمل على الشّغَف، وهو أحياناً يصطّفُ إلى جانب العقل وأحياناً أخرى ينجرفُ مع الرغبة.

إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس
إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس

العقل: القوّة الأرقى والأقدس
بما أنّ المُثُل العليا تُدْرَك عبر العقل والفكر والمنطق والذكاء، فهذا لا يعني أنّ أفلاطون يرى أنّ النفس بكلّيتها تُدرِك المُثُل العليا، بل إنّ المُثُل تُدرَك فقط من خلال العقل، ذلك الجزء الأعلى والأرقى والأقدس من قُوى النفس، وهذا ما يتبدَّى بوضوح في العديد من محاوراته، ففي محاورة “الدفاع” (Apology)، وكذلك في محاورة “فايدروس” موضوع هذه المقالة، يرى أفلاطون أنّ العقل الأرقى “نوس” هو ذلك الجزء الخالد من النفس، أي ذلك الجزء الذي يربط الإنسان بالمقدَّس العُلوي الإلهي. ويتحدَّث أفلاطون عن الأمر ذاته بمصطلحاتٍ أكثر تعقيداً في محاورة “السفسطائي” بقوله إنّ التفكُّر أو التبَصُّر من خلال النفس يصلنا بالوجود الحقيقي، وفي محاورة “المأدُبة” وكذلك في محاورة “الجمهورية” يصفُ أفلاطون الإدراك المعرفي للمُثُل العليا بكونه تذكُّراً، تماماً كما في محاورة “مينون” (Meno)، وأنّها تُدرَك أيضاً من خلال تجربة “الرؤية”، وبحسب وصف أفلاطون لنشاطات ووظائف النفس نرى أنّها ثنائية في طبيعيّتها، فالعقل الأرقى “نوس” هو الجزء المُتَحَكِّم، في حين أنّ العاطفة والرغبة هما المُتَحَكَّم بهما. فالجسد بحسب أفلاطون كما في “الجمهورية” ينتمي إلى عالم الشهادة والتغيُّر، في حين أنّ النفس تنتمي إلى العالم المُدْرَك بالعقل غير المرئي واللّامُتغيِّر. إذاً، فإنّ النفس تنتمي إلى الفئة ذاتها التي تنتمي إليها المُثُل العُليا، وهي كرابطٍ ما بين العالمَين المادي والعقلي.
ففي محاورة “فيدون”، يُلمِّح أفلاطون إلى أنّ تَعَلُّق “الدُّنيا” بلذّات “متغيِّرات الجسد” إنّما “يُلوِّث” النفس بأكملها، ويرى في هذا الصدد أنّ هناك مُتَعاً حقيقية” و”مُتَعاً زائفة”. فتلك الحقيقية هي التي تجعل الإنسان أقرب إلى العالم العُلوي، على غرار مُتَع العلم والمعرفة، وذلك من خلال السيادة على النفس. أمّا المُتَع الزائفة فهي ما يتصل بالعاطفة والشهوة والرغبة على نحو غير مُتَحَكَّم به كما ورد في محاورة “فيليبوس”؛ لذا، فإنّ أفلاطون يؤكد أنّ النفس من خلال التحكُّم والسيادة على الذات، أو تقاعسها عن ذلك، تختار بأنّ تكون إمّا خَيِّرة وإمّا شريرة، “فكما يرغب الإنسان يميل … ويكون”، حسبما قال في محاورة “القوانين”.

نظريّة الخير والشّر
يمكننا بذلك أن نرى أنّ نظرية النفس لدى أفلاطون تتّصل بنظريّته عن الخير والشر، فبحسب نظرته هذه فإنّه إذا ما وصلت “النفس العُليا” (نوس) إلى إدراك المُثُل العُليا الروحانية، فإنّ النفس بكلّيتها ستكتسب المعرفة ومن ثمّ الخير، لكنْ إذا ما ركّزت النفس اهتمامها على العالم المادي المرئي والمتغيِّر، فإنّها ستطغى عليها الشهوات والعواطف والرغبات بغية الحصول على المتعة الزائلة، أي بعبارةٍ أخرى، إذا ما سيطرت على النفس طبيعتها الدُّنيا، فما من فرصةٍ أمامها لكي تُدرِك الحقائق العُليا والخير، وبالتالي لن تُحرِز المعرفة الحقة أبداً، وهنا نلجأ إلى ما أوضحه أفلاطون في محاورة “فايدروس” في قصة “العربة” الرّمزيّة.

عربة النفس
نعود بذلك إلى محاورة “فايدروس” وقصة “عرَبَة النفس” الرّمزية موضوع هذه الدراسة، حيث يُصوِّر أفلاطون قُوى النفس رمزيّاً في قصة “الحوذي والجوادَين المُجنَّحَين”، إذ تعمل هذه القِوى معاً إمّا تناغماً وإمّا تنافراً على طريق الفضيلة أو الرذيلة. وهنا تتألّف النفس من ثلاث قُوى: العقلية، والغضبيّة، والشهويّة. فالعقلُ، أي الجزء العقلاني من النفس، هو حاكم النفس تماماً كما هو الحوذي حاكم العربة، أمّا الجزء الشَّهَوي من النفس فهو أشبه بالجواد الأسود الذي يتمرّد على العقل وتحكُّمه. وبالنسبة إلى الجزء العاطفي أو الشّغفي والغضبي فهو أشبه بالجواد الأبيض، الذي هو ضائعٌ ما بين شهوة الجواد الأسود وحِكْمة الحوذي، فيتّبع الأول تارةً ومن ثم الآخر طوراً، لكن كِلا القوّتَين العاطفيّة والشهويّة يحكمهما العقل (نوس)، تماماً كما يتحكّم الحوذي بالجوادَين.
ويصف أفلاطون الجواد الأسود بلغةٍ رمزيّة بأنّه “حيوانٌ ثقيل مُراوِغ، لونه أسود وعيناه رماديّتان، وممسوخٌ وعنيد، وثقيل الطبع، ودمويّ المزاج، وقرين الاغترار والزهو، وقلّما يستجيب للضرب بالسَّوط والوخز”. أمّا الجواد الأبيض فهو “نبيلٌ ومطواع وعيناه سوداوان، ومُحِبٌّ للمجد باعتدالٍ ولا حاجة لاستخدام السَّوط معه بل يكتفي بالكلمة والزجر”. ويقود الحوذي العربة مُتحكِّماً بالجوادَين بكلّ قوة وفعالية، ووجهته صِراطُ الجنَّة السماوية حيث ما أنْ تصل العربة بنجاحٍ، تُبصِر تلك المُثُل العُليا وجوهر الأشياء في حقيقيتها، كالجَمَال والحكمة والخير والعدل والحق والفضيلة والشجاعة والمعرفة المطلقة، فتُحلِّق عربة النفس بجوادَيها المجنَّحَين تحقُّقاً في تلك العوالم العُلويّة.
وجوادا هذه العربة في صراعٍ دائمٍ، فالجواد الأسود يسعى دائماً إلى جذب العربة إلى الأسفل نحو الأرض، في حين أنّ الجواد الأبيض يرتقي بها صعوداً إلى الملأ الأعلى، وبين هذا وذاك يسعى الحوذي إلى ضبطهما والمواءمة بين تحليقهما. وتأخذ العربة في الصعود والنزول بحسب قوّة جذبٍ كلٍّ من هذَين الجوادَين، فتارةً يجذبها ثقلُ المادة الأرضية استجابةً لمعاندة الجواد الأسود، وطوراً ترتقي نحو مشارف عالم المُثُل الرُّوحانية العُلوية فتلتقط ومضاتٍ من ذلك العالم الماورائي تكون ذخيرةً لها قبل أن تعود العربة وتهبط تثاقلاً. وإذا ما كانت قوة الجواد الأسود أقوى، يتصادم الجوادان فتهوَى العربة إلى الأرض وتتكسَّر الأجنحة وتصبح النفس أسيرةً للجسد المادي كلّياً.
ودرجة هذه السقوط تُحدِّد أيضاً كم يستغرق من الوقت للجوادَين لكي تنمو أجنحتهما مجدّداً ويتمكّنا من الطيران، فبقدر ما يلمَح الحوذي من تلك الحقائق بقدر ما تكون سقطته أقلّ تأثيراً، وأسهل ما يكون عليه أن يستجمع قواه وينطلق من جديد. وتتسنَّى إعادة نموّ الأجنحة بخُلُق النّفس الكريمة ومصادفتها لأُناسٍ واختبارها تجارب تُعيد لها تلك اللَّمَحَات العُلوية، فتستعيد ذكريات الحقائق التي شاهدتها، وهو ما يُعزِّز عودة النفس إلى عالمها العُلوي. وتفسير رمزيّة عربة النفس لدى أفلاطون يأتي على مستوياتٍ عديدة، جميعها يُفضِي إلى الارتقاء بالنفس نحو الصفاء الرُّوحي، وتحقيق الكمال الأخص بكل إنسان.

تناغُم قِوى النفس
فلنكشُف وشاح الرّمزية عن القصة قليلاً: الحوذي يُمثِّل عقل المرء، والجواد الأسود شهواته ورغباته الحسية، والجواد الأبيض قوته الغضبيّة والعاطفية. فالحوذي مُحِبّ للحكمة، والجواد الأسود مُحِبّ للكسب والطّمع والملذات وتلبية الشهوة، أمّا الجواد الأبيض فهو مُحِبّ للمجد والعُلى. ولكلّ قوة من قِوى النفس حوافزها، فالعقل يسعى إلى الحقيقة والمعرفة، والشهوات تنشدُ إشباعها بالحِسّ والمادة، أمّا القوة الغضبيّة فتسعى إلى المجد والشرف وفرض الاعتراف.
والجواد الأسود لا يسهُل تطويعه وترويضه واستخدامه، وذلك إنّما يتطلّب اعتدالاً في كلّ شيء، أو على حدّ قول أرسطو ذلك الوسط الذهبي بين طرفين، فالحياة المكرَّسة كُلِّياً لإرضاء ملذّات وشهوات الجسد إنّما تجعل الإنسان لا يختلف عن البهائم، ويُجادل أفلاطون بأنّ نتيجة الخضوع لشهوات النفس هي “عبوديّة قاسية للجزء الأقدس من الذات لذلك الجزء الأدنى والأدنس”، وأيُّ إنسانٍ يخضع لذلك إنّما يصبح تعيساً شقيّاً.
نعم، إنّ الشهوات والأهواء بالنسبة إلى أفلاطون هي أدنى قُوى النفس، وإنّ السماح للجواد الأسود بالهيمنة واستعباد النفس إنّما يقود إلى حياةٍ وضيعة ومُتّسِمة بالرّذيلة والشرّ بعيدة عن الخير والعدل والحقّ و”الفضيلة الأخلاقية” (arête: ἀρετή) و”سعادة المعرفة الحقّة” (eudaimonia: εὐδαιμονία)، ومع ذلك يُجادَل بأنّ الجواد الأسود إذا ما تمّ ترويضه على نحو ملائم فإنّما يُشكِّل طاقةً كافية لمعاونة الجواد الأبيض على التّحليق بالعربة عالياً بتناغمٍ فيما بينهما، وذلك بسيطرة الحوذي عليهما وموازنة قوتهما وتوجيه طاقتهما بطريقةٍ إيجابيّة.
وإذا ما تسنّى ترويض واستخدام كلّ قوةٍ من قوى النفس كما ينبغي وعلى نحو ملائم فإنّ الإنسان يرقى إلى تحقيق فضيلته وكماله الأخص، فالهدف الأسمى للحوذي، أي العقل، هو أن يضع أرقى الأهداف ومن ثمّ تدريب جوادَيِّ عربة النّفس على العمل سويّةً لتحقيقها، وعليه أن يتّسِم برؤيةٍ وهدفٍ واضحَين ويعلم إلى أين يتّجه ويتفهَّم طبيعة ورغبات هذَين الجوادَين للسيطرة عليهما على نحو متوازن، وألاَّ يكن خادماً لأهواء أيٍّ منهما، فكلّ جوادٍ له نقاط قوته ومكامن ضعفه، فالجواد الأبيض أيضاً يمكن أن يقود المرء في المسار الخاطئ كشأن الجواد الأسود تماماً، إذا ما جَنَح وتخطَّى انقياده للعقل، لكن إذا ما كان مطواعاً فإنّ هذه القوّة الغضبيّة المحمودة (thumos) الموجِّهة للنفس في الطريق الصحيح تصبح حليفةً للحوذي على طريق العدالة والفضيلة والحقيقة، ومعاً يُروِّضان الجواد الأسود ويُبقيانه على المسار الصحيح. فالحوذي الماهر المتبصِّر لا يدع مجالاً لتصادم الجوادَين بل يُحقِّق التناغم في ما بينهما تحت سلطانه ويضبط قواهما المتجاذبة وينطلق بهما إلى تحقيق تلك الأهداف السامية.
وبعد تحقيق تناغم النفس تَتَسهَّل جميع مهمّات الحياة، بحسب أفلاطون، الذي يقول إنّ المرء بعدما يُحرِز تلك السيادة على الذات، وذلك النظام البديع في ذاته، وبعدما يُحقِّق التناغم بين تلك القُوى الثلاث، وهي العُليا والدُّنيا والوسطى، وكلّ ما وقع في ما بينها، وبعدما يجمع فيما بينها في وحدةٍ، وتحكُّمٍ بالذات، يتّجه بنفسه نحو الفضيلة والتحقُّق الرُّوحي، وهو ما ينبغي أن يكون الهمّ الأول لكلٍّ مِنّا، وألّا تعلو عليه أيّةُ مشاغلَ دنيويّةٍ أخرى، وأن يكتسب المرء القدرة والمعرفة على التّمييز بين ما هو خيرٌ وما هو شرّ، وما يُفضِي إلى تحقيق الهدف الأسمى للنفس.

الرمزيّة في تصوير قُوى النفس
تُمثِّل هذه القصة الرمزيّة جزءاً مهمّاً جداً من التقليد الرُّوحي والفلسفي في بلاد الإغريق والعالم ككلّ، فالهدف الرئيسيّ الذي يبتغيه أفلاطون هو ارتقاء النّفس إلى العوالم المقدَّسة. وقد سعى عالِم النفس سيغموند فرويد (Sigmund Freud) عبثاً في نظريّته البُنيويّة المتشابِكة بالعُقَد والمُغرقة بالماديّة والحِسّية، إلى محاكاة هذه الطبيعة الثلاثيّة للنفس البشرية ولكن على نحو مشوَّه لا يرقى إلى الفكر النبيل لأفلاطون فتحدَّث عن “الأنا” (ego) و”الهو” (id) و”الأنا العُليا” (super ego) بغاية حسية جنسانية واجتماعيّة في حين أنّ أفلاطون في قصّة عربة النفس يرمز إلى الحياة الرُّوحيّة والفلسفية للنفس متفوّقاً على تفسير فرويد المادي والحِسّي المحدود الخالي من أيّة حكمة أو قيمة إنسانية. إنّ أفلاطون يُشدِّد في رمزيّته على التَّوق الديني الباطني داخل النفس البشرية، وحينما يستخدم الأسطورة، فإنّما يسعى إلى إثبات حقائق روحيّة وفلسفيّة سامية.
ولكي نُفسِّر مغزى أفلاطون لا بُدّ من أن نغوص عميقاً في ما يتعدّى المعنى الحرفي، فهو ليس كاتباً عاديّاً ولا عبقرياً عادياً، بل إنّ عمق تفكيره العقلاني مذهلٌ ومتفرِّد، فهو لا ريب كان يُدرِك مدى أهميّة رسالته، وكم كان توّاقاً لمشاركة معرفته لأجل صالح البشرية جمعاء. ولأجل هذا الغرض درس جميع العقائد القديمة ومن ثمّ كتبَ لكلّ الأجيال المقبلة في جميع محاوراته وأعماله.
لا بدّ من تفسير هذه القِصّة الرّمزية على الصعيدَين السيكولوجي والديني الرُّوحاني. وهذان التفسيران مترابطان. ونجد هذا التقسيم الثلاثي لقُوى النفس في جمهورية أفلاطون أيضاً، حيث يُدعَى جانب الجواد الأسود من النفس في الفكر الأفلاطوني “إيبثوميتكون” (epithumetikon) وهي كلمة ترمز إلى الشهوات. أمّا الحوذي وهو بحسب أفلاطون مرتبطٌ بالعقل والمنطق فيُدعَى “لوجيستيكون” (logistikon)، وهي تسمية مشتقّة من الكلمة الإغريقية التي تشير إلى العقل “لوغوس”. وبالنسبة إلى الجواد الأبيض فيُرمَز إليه بمصطلح “ثموس” (thumos) وهو يختصر المحبة والشجاعة والبطولة والقوة الغضبيّة المحمودة، كما أشرنا سابقاً.
ولا ريب أنّ أفلاطون استقى فِكْرةَ هذه العربةِ الروحية من الفكر الفيثاغوري، الذي بدوره نقلها عن فكرٍ هِرْمسي عريق في مصرَ حول “مركبة الرّوح”، فَمِن بين الآيات الذهبية لفيثاغورس قولُه أن “نُبقي عربةَ أنفسِنا موجَّهّةً بإلهامٍ يأتي من فوق، ذلك الذي يُحكِمُ السيطرةَ عليها”. واستلهاماً لتعاليم أفلاطون وفيثاغورس وهرمس الروحيّة الصوفيّة هذه، هلَّ أتحنا لحوذي عربة النفس بأن يضبطَ عنانَ جوادَيْها الأبيض والأسود ويحلّق بهما في سَمَوات المعرفة والفضيلة لتحقيق الغاية التي لأجلها خُلِقَتْ هذه النفس؟

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي