الحكمة الهِرمسيّة نور العالم
أَمَــــدَّت حكمــــة الإغريـــق وألهمــــت العـــــرب
وأرْسَت أوّل نظـــرة توحيديّة لفهـــم الوجـــود
ليس ثمّةَ مَنْ هو خيّر سوى الله، فهو الخير وحده
«خلَقَ الإلهُ عقلَ الكون، وعقلُ الكون خلَقَ الكونَ، والكونُ خلَقَ الزمنَ، والزمنُ خلَقَ التغيُّرَ. وجوهرُ عقل الكون هو الثّبات. وجوهرُ الكون هو النظـــام الجميل، وجوهرُ الزمن هو الحركة».
(النصوص الهرمسيّة)
“مقدَّسٌ هو الإلهُ الواحد الذي يريد أن يُعرَف.”، إنّه نصٌّ هِرمسي له ما يُشبهه في الكتب السماوية المقدّسة، وهو جزء من نصوص تعتبر أقدم أنواع الوحي، وأول نظام أفكار قدم شرحا متكاملا – من منظور التوحيد – لحقيقة الوجود والعالم وهو شرحٌ بليغ تحول مع الوقت إلى مصدر إلهام للحكماءُ والفلاسفة والعلماء لدى جميع الشعوب، كما أنّه كان أحد أهمّ أسباب الدّور الكبير الذي لعبته مصر القديمة (الهِرمِسيّة) في تطوّر الفلسفات القديمة، ولاسيّما فلسفة الإغريق وكذلك فسلفة التصوّف الإغريقي ثم المسيحي ثم الإسلامي.
وقد بقيت “النصوص الهِرمسيّة” المعروفة بالتسمية اللاتينية (Corpus Hermeticum) لزمن وديعة الحكمة المصرية القديمة؛ حَرِص المصريون القدماء على حفظها في حِرْز حريز وعدم البَوْح بمضامينها إلاّ لِمن تأكدت أهليته، وكانت معابد المصريين لذلك عوالم مغلقة لأجيال، قبل أن تبدأ تلك الحصون الفلسفية بفتح بعض أبوابها لرواد وطلبة الحكمة من الإغريق الذين بدأوا يتوافدون على مصر لتحصيل الحكمة المكتومة، والمصانة إلاّ على أهلها، ثمّ وعن طريق الإغريق، وحركة النقل الإسلامية انتقلت إلينا هذه الحكمة باللّغة اليونانية في صياغة تعود إلى القرون الأولى للميلاد في مصر، وتحديداً الإسكندرية.
ولا بدّ من القول إنّ النصوص الهرمسية مُوغِلَة في القِدم، وهو ما أثبتته الكتابات الهيروغليفيّة القديمة بعد فكّ شيفرتها واستطلاع أسرارها، حيث وُجِدَت مُدوّنات تعود إلى آلاف السنين استقت منها النصوص الإغريقية الشهيرة التي عُرِفَت أيضاً بـ “المُتون الهِرمسيّة”. فأنَّى تطَّلّع علماءُ الآثار والمِصريّات ظهرت لهم على جدران المعابد والأهرامات نصوصٌ تُنسَب إلى “تحوت”، هِرمس المُثلّث العَظَمَة، أو تشير إليه وتُمجِّده، وهو ما صاغه الإغريق في توليفةٍ “إغريقية – مصرية” (Graeco – Egyptian) لتأمُّلاتٍ عُرفانية هِرمسيّة حول الإله الواحد الأوحد، والعقل المقدَّس والكون والإنسان.
فما هي حقيقة النصوص الهِرمِسيّة وما هو مضمونها الروحي الفلسفي، وأيُّ رسالة تحملها لنا نحن أهل هذا الجيل المعاصر.
في القرنين الأول والثاني الميلاديّيْن، عَمِلَ الإغريقُ على استنباط تعاليم “هِرمس المُثلّث العَظَمَة” من مصادرها المصرية القديمة، وإعادة صياغتها بلسانهم ونهجهم الفكري، وذلك فيما يُسمى “النصوص الهِرمسيّة” (Corpus Hermeticum)، وهي الترجمة اللاتينية التي قام بها مارسيليو فيسينو لمخطوطة أحضرها كوزيمو دي ميديتشي (Cosimo de’ Medici) حاكم فلورنسا الإيطالية العام 1460م، وهي في أربعة عشر فصلاً، وطُبِعَت منها ثماني نسخ قبل العام 1500م، ومن ثم اثنتان وعشرون قبل العام 1641م. وقد حُفِظَت هذه النصوص في مدرسة فيلسوف الأفلاطونية المُحدَثة أمونيوس ساكاس (Ammonius Saccas) ووُجِدَت نسخة منها من خلال الفيلسوف البيزنطي مايكل بسيلوس (Michael psellus) محفوظة ضمن مخطوطات من القرن الرابع عشر الميلادي. أمّا الفصول الثلاثة الأخيرة في النسخات الحديثة فقد قام بترجمتها لودوفيكو لازاريلي Lodovico Lazzarelli (بين عامَي 1447 و 1500) المعاصر لفيسينو على نحو مستقل؛ نقلاً عن مخطوطة أخرى. وقد نُقّحَت هذه النصوص مقارنةً بمخطوطات أخرى نُقِلَت عن اللّغة العربيّة.
مكتبة نجع حمادي
في مقابل ذلك، فإنّ قِدَم الفكر الهِرمسي وسبقه طويلا للإرث الفلسفي الإغريقي تأكد بعد العثورُ على نصوص عُرفانية في ما يُسمَّى “مكتبة نجع حمادي” في مصر وتعود إلى القرن الرابع ميلادي، وبدا واضحا مدى تشابهها الكبير مع الحكمة المصرية القديمة من حيث الأناشيد والصيغة التعليميّة الإرشاديّة بين مُعلِّمٍ وتلميذه (هِرمس وأشقليبيوس)، وكُتبت هذه النصوص التي أشارت إلى مدارس الأسرار الهِرمسيّة باللغة القبطيّة.
الهِرمسيّة أساس الحكمة المصرية
اعتُبرت الحكمةُ الهِرمسيّة الحكمةَ الأوّلية الأساسية وراء “حكمة المصريين” التي تحدّث عنها “سفر الخروج” التوراتي، وكذلك نبّهت إليها محاورات أفلاطون لا سيّما محاورتَي “تيماوس” (Timaeus) و”فايدروس” (Phaedrus) (حيث تحدّث سقراط عن أسطورة “تحيوت”، أو “تيوث” Theuth باليونانية، الذي نُسبَ إليه اختراع الكتابة والحرف وانتشار الحكمة).
ويرى الباحث ستريكر (1949) أنّ نصوص Corpus Hermeticum الإغريقية هي إعادة صياغة للحكمة الهِرمسيّة المصرية. وكان بطليموس الأول سوتر (304-282 ق.م) وابنه بطليموس الثاني فيلادلفوس (282-246 ق.م) وَعَدا بنشر الأدب السرّي للمصريين القدامى في مصر البطلميّة. ويؤكد ستريكر أنّ “الكوربوس” ما هو إلا نسخة إغريقية عن الفكر الحكمي المصري، فالشكل إغريقي لكنّ المضمون مصري.
وكان الباحثان المختصّان غارث فاودين وجان زاندي ذكرا أنّ جزءاً من نصوص “الكوربوس” يعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، في حين أوردَ الباحثُ فلندرز بيتريي (1908) أنّ بعض المقاطع تعود إلى كتابات مِصريّة خلال فترة الحُكْم الفارسي، وأنّ معظمها مُستَقى من الفكر الهِرمسيّ السرّي في ما يُسمّى “ماورائيات هرموبوليس (Hermopolis) وممفيس (Memphis) المصريّتَين”، حيث وفَّرت المنبع الأساس للهِرمسيّة البطلميّة (أي في عصر البطالمة في مصر)، وذلك ردّاً على بعض الباحثين الأوروبيين المُغرِضين الذين أرجعوا هذه النصوص إلى مصادر يونانية بل وفارسية ويهودية؛ إنكاراً لاستمداد هذه النصوص من التراث العرفاني المصري الهِرمسيّ القديم.
“الهِرمِسيّة دخلت الفكر الأوروبي في القرون الوسطى عن طريق الترجمات من الّلغة العربيّة”
دين العقل
الحكمةُ المِصريّة التي تتّبع “نهج هِرمس”، على حدّ قول الفيلسوف الإغريقي أيمبليخوس في كتابه “حول أسرار المصريين”، هي لاهوتية وفلسفية في آن وهذا الدِّين الإغريقي-المِصري الذي سادَ في فترة حُكم البطالمة لمِصر قبيل ظهور المسيحية، يضرب جذوره عميقاً في تقليد الأسرار المِصريّة القديمة، وتبدّى ذلك في النسخة الإغريقية للهِرمسيّة العريقة التي اتّسمت بكونها وِفقَ الوصف الإغريقي “دين العقل”.
أمّا الهِرمسيّة الهيلّينيّة العقلانية فصمدت على مر القرون لتُطلِق شرارة عصر النهضة في أوروبا، وتطوُّر العلوم، والفكر الإنساني كَكُلّ. وكان العالِم إسحق نيوتن يؤمن بوجود عقيدة لاهوتية قديمة نقيّة لا تزال تحتفظ بقيمتها، قام بدراستها بعناية لتساعده على فهم العالم المادي. وهو يُورِد في العديد من مخطوطاته مدى عكوفه على دراسة نصوص Corpus Hermeticum الهِرمسيّة المتناقلة منذ الأزمان الغابرة.
محبّة عقلانية وعُرفان
مّهَّدت الهِرمسيّة الفلسفيّة الطريق بروحيّةٍ تأمُّلية وصوفية إلى “محبّة عقلانية للواحد” تماماً كما يصف هذه المحبّة لاحقاً في القرون الوسطى الفيلسوفُ سبينوزا (Spinoza).
و”العرفان” (Gnosis) في الهِرمسيّة الإغريقية، وهو سرٌّ يتناقله الخاصة بالمفاتحة الرُّوحيّة، هو إشراقٌ يأتي نتيجة النشاط المّعْرفِيّ، والتأمُّل الفكري، والتطهُّر المَسلَكِي. لذا فإنّ هذه النسخة الإغريقية من الهِرمسيّة، لا سيّما الإسكندرانيّة منها، “لم يكن لها طقوسٌ ولا كهنة ولا مراسم، بل هي جماعة” تتآلف بهذا الفكر الفلسفي والوَجْد الرُّوحي وتبجيل “كلمة” الإله الواحد الخلّاقة المقدّسة1
وهذا الإثبات الوجودي الفلسفي للنسخة الإغريقية من الهِرمسيّة؛ يؤمِن بثلاثة أوجه للحقيقة: الإله الواحد، وعالم الكائنات العُلوية، والإنسان وما حوله من وجودٍ مادي ومخلوقاتٍ حيّة، وكلُّ ما في الكون “مرآةٌ” تسمح لنا بِلَمْح تبدّياتٍ للجمال الإلهي. والإلهُ الواحد هو خالقُ كلّ الوجود ومُتَعالٍ عنه وليس هو كلّ الوجود، كما جاء في وحدة الوجود الهندوسية على سبيل المثال، وهو مُتَرفِّعٌ، مُنَزَّهٌ عن “الحُلوليّة”وبالتالي تسعى الهِرمسيّة إلى الارتقاء من المعرفة إلى العِرفان (Gnosis)، ومن المعرفة حول الإله الواحد إلى معرفته هو، وهو جوهر فلسفة فيثاغورس، وهنا نجد تلاقيا وتكاملا بين الفكرَين الهِرمسي والفيثاغورسي.
ولا بُدّ من التوضيح في هذا المقام أنّ بعض الباحثين عَمَدَ، نتيجةً لعدم تضلُّعه بأبعاد المصطلحات اليونانية وجذورها، إلى الخلط بين الكائنات الإلهية العُلوية (Deities) باليونانية وبين الآلهة، فتبدو الفكرة كما لو أنها تتحدث عن تعدُّد للآلهة، وهم لم يُفسِّروها بمعناها الحقيقي أي الجواهر العُلوية أو “الجواهر الأُوَل” أو العِلَل”، وفق المفهوم الأرسطوطاليسي.
وفي الهِرمسيّة، الإنسانُ هو أشرف المخلوقات، تُحفِّزه “شرارةٌ مقدّسة” في داخله، لذا فإنّه في أعماق كينونته كائنٌ مقدّس بالفعل، وهدف التقليد الهِرمسيّ هو إيقاظ الإنسان على حقيقة “كينونته الداخلية”. والخيار الحاسم أمام الإنسان إذاً هو بين العالَم المادي والعالَم الرُّوحاني، بين الجسدي والنفسي. ويُطلَق على إحراز معرفة الذات ومعرفة الحقائق العُلوية هذه وصف “الولادة من جديد” (النصوص الهِرمسيّة، الفصل الثالث عشر)، وهي على نقيض الولادة الجسديّة: تُحرِّر النفسَ ولا تسجنها في أحابيل الجسد، إنّها ارتقاءٌ للنفس خلال الحياة بفضل “نور العقل” الحاضر. وتُفضِي هذه الولادة الرُّوحيّة، بفضل “المُعلِّم الرُّوحاني” العظيم، إلى ترقِّي النفس في معرفة الإله الواحد، فيما يُسمَّى بالنصوص الإغريقية “معمودية بالعقل” وهي تَطهُّرٌ بمعرفة الذات، والتضحية بما هو مادي حِسّي للاطّلاع على الأسرار العقلية أو الرُّوحيّة.
والروحانية الهِرمسيّة الإغريقية تلحظ في مفهوم “خلاص الرُّوح” تصوُّرَ موت رمزي للمُتَهيِّئ روحيّاً، بالنأي عن كلّ ما سبق من معتقدات فاسدة وملذّات حِسّية، والولادة من جديد تنعُّماً بأنوار العقل المقدَّس.
و”العقلُ المقدَّس” هو سيّد العوالم، والمُعيِن الذي يساعد النفس البشرية على التحرُّر من أشراك الجسد المادي، ويجعلها تستنير بنور العرفان. و”المعلِّم الرُّوحي” العظيم الذي يُنير النفس بأنوار العقل المقدّسة، هو تجسُّد لهذا العقل العُلوي، الذي يحتوي على “البذور العقليّة” لكلِّ ما هو موجود ومخلوق (تماماً كما في فكر أفلاطون، وما ردّده لاحقاً سبينوزا). فكلّ ما في الكون هو تبدٍّ لهذا العقل.
وجاء في النصوص الهِرمسيّة: “خلَقَ الإلهُ عقلَ الكون، وعقلُ الكون خلَقَ الكونَ، والكونُ خلَقَ الزمنَ، والزمنُ خلَقَ التغيُّرَ. وجوهرُ عقل الكون هو الثبات. وجوهرُ الكون هو النظام الجميل، وجوهرُ الزمن هو الحركة”.


«إذا ما كانت لك القدرة على أنْ ترى بعينَيّ العقل، عندها يا بُنيِّ، سيتراءى الإلهُ الواحد لك. فالمولى يتجلَّى في الكون، ويمكنك أن ترى صورتَه بعينيك».
(النصوص الهِرمسيّة -الفصل الخامس)
الهِرمسيّة الصُّوفيّة العرفانيّة
إذاً، الهِرمسيّة هي عُرفانية لأنّها ترى إمكانية معرفة الإله الواحد بالاتحاد مع “العقل العُلوي”، وتلقِّي لطافة نور منه تُحقِّق استنارة داخليّة أو “عُرفاناً”. لكن ما لم يتّضح في الهِرمسيّة الإغريقية وهو مسألة التّضادّ أو وجود “وسيط الشر” (Evil Demiurge)، سيتّضِح فيما بعد في “العرفانيّة الأفلوطينية”، فكلّ الخلق خيرٌ وجمال، وإنّما يعود الأمر إلى خيار الفرد وطبيعته وخضوعه لأهوائه وجهله بالميل إلى هذا التضادّ.
وكان كليمُنت الإسكندري على قناعة بأنّ المِصريّين القدماء كانت لديهم اثنتان وأربعون صحيفة مقدّسة تعود إلى هِرمس. وممّا يُلفت الانتباه أنّ المِصريّين كانوا يُقسِّمون بلاد الكنانة إلى اثنين وأربعين إقليماً!
وفي هذا يقول الباحث البريطاني فريدريك غرين (1992) إنّ ثمةَ رابطاً بين الحكمة المِصريّة “الهِرمسيّة “والتعاليم المسيحية والفكر الإسلامي في القرون الوسطى من ناحية العلاقة بين المعرفة العقلانيّة والإلهام والوحي”.
وهذا يكشف دخول المفاهيم الهِرمسيّة إلى أوروبا بعدما نشرتها الترجمات العربيّة، وقد نُقِلَت نصوص هِرمسيّة من العربيّة إلى العديد من اللغات الأوروبية، بدءاً من اللاتينية وصولاً إلى الإنكليزية وتحديداً على يد العالِم الكبير إسحق نيوتن، الذي اعترف بفضل الهرمسية على انطلاقته العلميّة.


الهِرمسيّات والتّهرمُس في الإسلام
كتبَ المستشرقُ لوي ماسينيون أنّ أهل الكوفة “ اطّلعوا على نصوصٍ هِرمِسيّة” وكذلك أهل البصرة، في إشارة إلى علوم وفلسفة “إخوان الصفاء”، في حين أنّ الفيلسوف هنري كوربن (Henry Corbin) تحدّث عن “التّهرمُس” في الإسلام، وأنّ الإسلام “عرفَ الهِرمسيّة قبل أن يعرف قياس أرسطو وماورائياته”.
ولفتَ الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى تأثير الهِرمسيات على التصوُّف الإسلامي وذلك من طريق ذي النون المصري (المتوفى عام 859 ميلادي) والذي شُهِرَ عنه انشغاله بالكيمياء أو الخيمياء الهِرمسية.
ويتحدّث معظم المؤرّخين العرب القدامى عن هِرمِس بأنّه نبي الله إدريس، وأنّه المذكور في التوراة باسم أخنوخ، وأنّه هو الذي بنى الأهرامات. ونجد تأثير الهِرمسيّة على التصوُّف الإسلامي في ما يُسمَّى “رسالة هِرمس في زجر النفس”، المعروفة ضمن إرث الأفلاطونية المُحْدَثة، وهي عبارة عن مناجاة للنفس وتأنيبها ودعوتها للتطهُّر والتقديس، أشبه بمناجاة الصّوفيّة وأشعارها، ونلمس مدى هذا التأثير أيضاً في كتاب “في مسالك العرفان على خطى هِرمس الهرامسة” للمعلّم كمال جنبلاط.
ويشير الباحث البروفيسور تشارلز بورنيت في هذا الصّدد إلى أنّ النصوص اللاتينيّة الأولى حول الخيمياء تمّت ترجمتها من العربيّة إلى اللاتينيّة في القرن الثاني عشر، في كتابَين كما وُجِدَت نصوص خيميائية باللغتين العربيّة واللاتينية تحمل كتابات ورموزاً سرّية. وبذلك تكون النصوص الهِرمسيّة بانتقالها عبر الفكر الفلسفي الصُّوفي العربي وانتشار أصداء هذه التعاليم في أوروبا وراء انطلاق “عصر النهضة”، أكثر من التأثير الذي أحدثه سقوط القسطنطينيّة وانتقال علمائها إلى أوروبا.
وعظمة هِرمِس أقرَّ بها أساطينُ النهضة الأوروبية أمثال: إسحق نيوتن، وكوبرنيكوس، وروجر بايكون، وليوناردو دافنشي، وكذلك توماس مور، ووليم بلايك، وحتى شكسبير، وجميع قادة الإصلاح الديني، وعالِم النفس الشهير كارل يونغ. وأينما حَلّت الهِرمسيّة ومهما كانت حِلَّتُها، تطوّرت العلوم وازدهرت الثقافة والحضارة، من مكتبة الإسكندرية إلى حرّان، وثابت بن قُرّة وقومه الصابئة الذين اعتبروا هذه النصوص كتاباً مقدّساً مُنزَلاً؛ هي صحف هِرمس، وصولاً إلى بيت الحكمة في بغداد، ودار الحكمة في القاهرة، ومن ثم إلى قلب أوروبا إلى أحضان العُرفانييّن في فلورنسا حيث انطلقت شرارة النّهضة الأوروبيّة بفضل العقلانيّة الهِرمِسيّة.


تسبيح من هِرمِس المثلّث العظَمة
“وأنَّى لي (يا مولاي) أن أُسبِّح بِحَمْدِك؟ فهل أنا حَاكِمٌ على ذاتي؟ وهل لي ما هو مِلكي؟ .لقد أبدعتَ منّي كائناً جديداً لم يعُد يَرى بعينِ الجسد ولكنّه يَشهدُ بنورِ العقل.”
الوجه الإنساني للتجلّي الإلهي
وجاء الفكرُ الإغريقي في الإسكندرية ومصر ليُعيد “الوجه الإنساني الهِرمسيّ الأصيل” للتجلّي الإلهي، وهنا يشير الباحث “ميد” الذي قام بترجمة النصوص الهِرمسيّة من اللاتينية إلى الإنكليزية، إلى أنّ الفكر الهِرمِسيّ المُتَنَاقل عبر الأجيال إنّما يُبجِّل جمالَ وكمالَ الهيئة البشرية أو الصورة البشريّة.
وتحثّ النصوص الهرمسية على لسان هِرمس متحدِّثاً إلى تلميذه تات Tat)، على التفكُّر في الخلق الإلهي؛ في الشمس والقمر والنجوم، والنظام الذي يعمّ الكون، والسّماوات والبحار والأفلاك الدوّارة، وفي خلق الإنسان في الرحم، كلّ هذا يدلّ على وجود صانعٍ خالقٍ مُدبِّرٍ، “هو الإلهُ الواحد فوق كلّ الأسماء، غير المتجلِّي، ومع ذلك يتجلّى ويتراءى للعقل” المتيقّن (المقاطع 3، 5، 6، 10 من الفصل الخامس).
وتؤكّد النصوص بنَفَسٍ توحيديٍّ، ولو غشّاه وشاحٌ من الغموض التأمُّلي، أنّ الإلهَ الواحد “ثابتٌ صَمَدٌ، ومع ذلك هو أصل الحركة ذاتها. لا يشوبُه نقص. هو الباقي دوماً، هو الخالد أبداً. هو الحقّ كما أنّه المُطلق الأكمل الأسمى. لا تُدرِكه الحواس. ولا تُدرِكُه المعرفةُ مهما عَظُمَت”.
ويبتهلُ هِرمس إلى الإله الواحد قائلاً في تسبيحٍ صوفي عُرفاني: “وأنَّى لي (يا مولاي) أن أُسبِّح بِحَمْدِك؟ فهل أنا حَاكِمٌ على ذاتي؟ وهل لي ما هو مِلكي؟ … لقد أبدعتَ منّي كائناً جديداً لم يعُد يَرى بعينِ الجسد ولكنّه يَشهدُ بنورِ العقل..!”
بيدَ أنّ هذا العرفان الذي نعِمَت به مِصْر في أدوارٍ من التاريخ، كان له في كلّ دورٍ نهاية مؤسِفَة. ففي النصوص الهِرمسيّة “نبوءةٌ” مُحزِنَة، فمصر “الحبيبة التي كانت مقرّاً للرُّوحانيات، سيأتي زمنٌ لا يسعى أحدٌ فيها إلى الحكمة، وسيسود الجهل، وستصبح مُوحِشَة، وسيغيب عنها الإله.
حــــوار حــــول حقيقــــة الكــــــون
بين هِرْمِس وتلميذه أشقلبيوس
الله ليس العقل بل مُعِلّ العقل وهو الخير٫ والخير يعطي الأشياء كلَّها ولا يأخذ منها
في ما يلي نبذة من النصوص الهِرمسيّة تمثّل حواراً بين هِرمس مُثلّث العَظَمَة وتلميذه أشقلبيوس:
هِرمس: كلّ ما هو متحرّك يا أشقلبيوس، أَلا يتحرّك بواسطة شيء آخر؟
أشقلبيوس: بالتأكيد.
هِرمس: وألا يجب أن يكون ذاك الذي يُحرِّك، أعظم من المُتحرِّك؟
أشقلبيوس: لا بدّ أن يكون كذلك.
هِرمس: والمُحرِّك هذا، أليسَ له قوة أعظم من المُتحرِّك؟
أشقلبيوس: بالطّبع.
هِرمس: أضِفْ إلى ذلك، إنّ طبيعة الوسط الذي يتحرّك فيه المُتحرِّك، أليست مختلفة تماماً عن طبيعته؟
أشقلبيوس: حتماً، مختلفة بالكامل.
هِرمس: أليسَ هذا الكون شاسعاً حيث لا يُضاهيه في الاتساع جسمٌ أعظم؟
أشقلبيوس: بالتأكيد.
هِرمس: وهائل أيضاً إذ إنّه يكتظ ويزخر بأنظمة عظمى أخرى في داخله.
أشقلبيوس: إنّه كذلك.
هِرمس: ومع ذلك، فإنّ الكون جسم.
أشقلبيوس: نعم، إنّه جسم.
هِرمس: وهو جسمٌ متحرّك.
أشقلبيوس: بكلّ تأكيد.
هرمس: فبأي حجم ينبغي أن يكون الفضاء الذي يتحرّك فيه وبأي طبيعة، ألا ينبغي أن يكون أكثر اتّساعاً (من الكون) كيما يفسح مجالاً للحركة المستدامة،
ولا يقيّد المُتحرِّك فيفقده حركته؟
أشقلبيوس: أجل أيُّها المُعظَّم، وأضخم اتّساعاً.
هرمس: وأي طبيعة له، ألا ينبغي يا أشقلبيوس أن تكون نقيضة تماماً، أليسَ نقيض الجسد ما هو غير مجسَّد؟
أشقلبيوس: موافق على هذا.
هرمس: الفضاء إذاً غير مجسَّد… وأكثر من ذلك، كلّ ما هو مُتحرِّك فإنّما يتحرّك بالثابت، وذاك الذي يُحرِّك هو بالطبع ثابت مستقر من المحال أن يتحرّك.
أشقلبيوس: فكيف إذاً، يا مُثلّث العَظَمَة، تتحرّك الأشياء هنا في الأسفل من قِبَل متحرّكات أخرى؟ إذْ إنّك قد قلت إنّ الأفلاك المتحرّكة تُحرِّكها الأفلاك الثابتة.
هرمس: هذا ليس تحريكاً من قِبَلها يا أشقلبيوس، بل تحرّك تجاه بعضها البعض، إنّه هذا التضاد، هو الذي يُحوِّل مقاومة حركتها إلى استقرار، حيث إنّ تلك المقاومة هي استقرار للحركة. وهنا أيضاً فإنّ الأفلاك المتحرّكة لكونها تتحرّك معاكسة للأفلاك الثابتة، فإنّها تتحرّك معاكسة لبعضها البعض، بشكلٍ متبادَل غير التضادّ عينه. ومجموعات الدّبَبَة في السماء (الدب الأكبر والدب الأصغر) والتي لا تطلع ولا تغيب، ما تظنُّ بها، هل تستقرّ أم تتحرّك؟
أشقلبيوس: إنّها تتحرّك يا مُثلّث العَظَمَة.
هرمس: وما هي حركتها يا أشقلبيوس؟
أشقلبيوس: تلك الحركة التي تلتف دائرة إلى الأبد.
هرمس: لكنّ الدوران، الحركة الدائرية حول محور واحد، هو ثابت بالاستقرار،
إذ إنّ الدوران حول محور واحد يُوقِف الحركة التي تتجاوز هذا المحور، فتصبح ثابتة، والعكس يبقى راسخاً أيضاً بفعل التضاد أيضاً. وسأضرب لكَ مثلاً هنا على الأرض ممّا تشاهده العين، رجلٌ يسبح، الماء يتدفّق ومع ذلك فإنّ مقاومة يديه وقدميه تُعطيه ثباتاً، فلا هو ينجرف معها ولا هو يغرق أيضاً.
أشقلبيوس: لقد قدّمت مِثالاً جَلِيّاًّ، لكن أيُّها المُعظَّم؛ ماذا نُسمِّي إذاً الحيّز الذي يتحرّك فيه الكلّ؟
هِرمس: “غير المجسَّد” يا أشقلبيوس.
أشقلبيوس: وما هو الإله إذاً؟
هِرمس: ليس هو كذلك، إنّما هو مُعِلٌّ لكلّ تلك الأشياء، ومُسبِّب وجودها، وليس ثمّةَ وجود من دونه.
أشقلبيوس: فماذا تقول عن الإله؟
هِرمس: الله إذاً ليس العقل؛ بل مُعِلّ العقل، وليس هو الرُّوح بل مُعِلّها، وليس هو النُّور إنّما هو مُعِلّ النور، لذا يجب أن نُمجِّد الله بهذَين الاسمين: الخير والأب، اسمين يختصّان به وحده وحسب. فليس ثمّةَ مَنْ هو خيّر سوى الله، فهو الخير وحده. وتبرز عَظَمة الخير الكبرى كمُوجِد للموجودات، المُجسَّدة وغير المُجسَّدة منها، المحسوسة والمُدرَكة، فلا تدعُ خيراً بعد الآن سوى الله؛ وإلا ستكون جحوداً، ليس ثمّةَ شيء يُدعَى خيراً في أي وقت كان سوى الله وحده، ادْعُهُ خيراً، ولن تكون جاحداً به أبداً بعد اليوم.
ورغمَ أنّ الجميع ينطِقون بالخير فإنّهم لا يفهمونه، وبذلك فَهُم لا يفهمون الله لجهلهم الخير وعجزهم عنه، إنّهم يختلفون تماماً عن الله، فيما الخير لا يتميّز عنه أبداً. لذلك فإنّ طبيعة الإله والخير واحدة. الخير هو الذي يُعطي الأشياء كلّها ولا يأخذ منها. والله إذاً هو الذي يعطيها ولا يأخذ أيضاً، فالله هو الخير والخير هو الله.