في عدد حزيران من مجلة Nature العلمية المعروفة نتائج استفتاء جرى على 12 مليون مستجوب من 60 بلداً، أجاب 83% منهم أن العالم، في معظم أجزائه، ومنذ فترة، يشهد انهياراً أخلاقياً. إلى ذلك، برز توافق واسع في تعيين مظاهر الانهيار ذاك، وأهمها الفساد المتزايد في العلاقات الاجتماعية، فقدان متزايد للعدالة الاجتماعية، تراجع فكرة الدولة ورجل الدولة المسؤول، وانهيار منظومات القيم.
وفي الأسباب، جرى تحميل نمط العولمة التجارية الذي سيطر منذ أواخر القرن العشرين، على وجه الخصوص، مسؤولية إفساد ثقافة المجتمعات والأفراد والأنظمة. فقد غدا الكسب المالي والمادي عموماً هو الهدف الأخير للاقتصادات الجديدة، وبات رأس المال العالمي والشركات العابرة للحدود والبلدان يتحكمان بتوجّه الدول والمجتمعات، حتى في أنظمتها التربوية والاجتماعية، إضافة إلى أنظمتها السياسية والاقتصادية. أدّى ذلك إلى سيطرة “ثقافة” جديدة، غير تلك التي بشّر بها عصر “الأنوار”.
لم يعد تقدّم المجتمعات، وترقي الأفراد، وتحويل العلم والتكنولوجيا أداة لتعزيز رفاه أكثرية أفراد المجتمع وتحقيق سعادتهم وتحرّرهم من الحاجة أو الارتهان لقوى عمياء مستبدة طاغية، هي الغاية الأخيرة من الأنظمة الاقتصادية والسياسية. لم يعد التقدّم غاية حركة التاريخ، بل الأسواق الحرة، ونزع الحواجز والقيود أمام حركة الرساميل والشركات ورجال الأعمال. وباتت الحرية تعني رفع أي قيد من خارج حركة السوق على تدفق السلع ورأس المال، وعدم تدخل الحكومات لحماية منتجاتها وصادراتها وثرواتها القومية، أو حماية مواطنيها من ارتفاع أسعار السلع المستوردة.
لم يعد الفساد نزوة جشعة لموظف عام هنا، أو حالة فردية هناك، مستهجنة ويعاقب عليها القانون. بات الفساد في ظل نظام العولمة التجارية الطاغي إفساداً، يجري القبول به بل والتشجيع عليه من قبل الشركات الدولية وممثليها المحليين. بات الفساد والإفساد نظاماً دولياً متكاملاً متسانداً، ثقافة جديدة في حقل الأعمال، و”صناعة” متقنة، رائجة، لها أربابها، وصنّاعها، ومحاموها، وإعلامها، والمستفيدون من فُتاتها أيضاً.
بين مظاهر الفساد بل الإفساد الكثيرة، نتوقف حصراً عند ما يُخطط له من تدمير ممنهج لنظامنا الأخلاقي والقيَمي، وبكل وسائل الإغراء المالي والإكراه الاقتصادي والضغط الإعلامي. فلنظام العولمة التجارية الفاسد، المُفسِد ذاك، من أدوات الضغط والإكراه ما لا يخطر ببال، وبخاصة الإغراء المالي والمادي من جهة، و”غسل الأدمغة” الجاري على قدمٍ وساق، من جهة ثانية.
ولأن الأسرة، أو العائلة، في بلادنا والشرق عموماً، هي الحصن الأخلاقي والمعنوي الراعي لقيام عائلة طبيعية سوية، والحارس خصوصاً لتنشئة أبناء وبنات طبيعيين، سويين؛ بات ضغط مراكز العولمة والشركات الدولية، بكل الوسائل، يتركّز الآن على الأسرة أو العائلة في بلادنا.
إلامَ أدّت الضغوط تلك؟
يجب الاعتراف، أن الأسرة الشرقية، ومنها اللبنانية، تشهد هذه الأيام، وتحت ضغوط اقتصادية واجتماعية وإعلامية لا تحتمل، مظاهر تراجعٍ كبير في تماسكها واحتفاظها بأدوارها المختلفة. الأسرة اللبنانية عرضة الآن لاختراقات وتداعيات لم تكن موجودة في ذروة سنوات الحرب الأهلية (1975-1990).
الحرب الإعلامية والنفسية الشعواء التي تُشنّ على الأسرة أو العائلة اللبنانية اليوم أقوى من الحرب العسكرية أو الاقتصادية التي تعرضت لها في سنوات التأزم الأهلي.
وإذا قيل أنها الأزمة الاقتصادية والمالية، قلنا أن سنوات الحرب الأهلية شهدت من الأزمة تلك أصنافاً وأصنافاً، ومع ذلك لم تفقد الأسرة دورها أو فاعليتها الحاسمة في حياة الشريكين وأبنائهما.
ما الذي تغيّر إذن؟ وما الذي استجدّ من عناصر بدت أقوى من الأسرة؟
ما تغيّر باختصار هو أولاً المتغيّر المادي، الذي دخل عالمنا منذ ثلاثة عقود، إذ حلّت مرحلة جديدة من الفردية القاتلة، والنفعية المطلقة، والأنانية الجشعة، والحض على الاستهلاك المجّاني في حدّه الأقصى. وثانياً، المتغيّر العلمي والتقني الذي اخترق غرف نوم أطفالنا فسحرهم بصورٍ خادعة، وفصلهم عن واقعهم، عن أسرتهم، بل فصل الأخ عن أخيه، أو أخته (نتفليكس نموذجاً واحداً بين ألاف التطبيقات). تلاعب التطور التقني المجنون بعقل الطفل في سريره، فانفصل عن واقعه، صار أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع؛ بات يعيش شخصية غير شخصيته، يقضي نهاره وليله مع أصحاب غير موجودين وتحت سيطرة مراكز تأثير وتوجية شيطانية خبيثة.
تحطّمت الآن، بعد المجتمع، العائلة، أي النواة الصغرى التي كانت إلى وقت قريب الحضن الدافئ لأفراد الأسرة وحصن الطفل الحصين على وجه الخصوص. انكسرت الآن صورة الوالد أمام أسرته، أمام أطفاله. لم يعد المثال لهم. بل ربما باتوا يخجلون به أمام رفاق وهميين، وصور وهمية، يظن أنها حقيقية، ويعيش أوهامها فلا يجني منها في آخر الأمر غير التعاسة واليأس وربما ما هو أخطر من ذلك. لم تعد الأم المثال لابنتها. صارت قديمة، تقليدية، متأخرة: فهي لا تحمل في حقيبتها أحدث منتجات الـ أي فون، ولا تصبغ شعرها بثلاثة ألوان كما باربي، أو كما “الساحرات” التي تقدمهم شاشات الموبيل والتطبيقات الخادعة.
ويزيد الطين بلة في مجتمعنا وبلادنا نمط “المسؤول” الذي يراه أولادنا في وسائل الإعلام، فإذا هو فاسد تكاد رائحته النتنة تخترق الشاشة إلى أنوفنا، أو هو طائفي مذهبي متزمت مُقرف، أو غبي. والثلاثة يزيدون في دفع أبنائنا بعيداً عن مجتمعهم وواقعهم، ويغدون أرضاً خصبة لكل شيطان خبيث متربصٍ بعائلاتنا وأولادنا الشرّ وينتظر الفرصة المؤاتية لينقض عليهم.
حتى المدارس تخلّت عن واجباتها حيال أطفالنا: فهي إما فاشلة لا تعلّمهم ولا تربيهم ولا تثقفهم، أو هي ناجحة في تعليمهم العلوم واللغات، لكن من غير قاعدة أخلاقية أو وطنية – بل إن مدارس أجنبية معينة منتشرة لا تخفي تحريض طلابها على أسرهم وعلى قيم مجتمعهم الأخلاقية.
هذه صورة بسيطة لمجمل الضغوط التي تحاصر الأسرة في لبنان الآن – وربما في غير لبنان من بلدان المنطقة. فأين الأسرة اللبنانية الشرقية من هذه الضغوط التي لا تقاوم. كيف تستطيع الأسرة في لبنان (وسوريا والعراق ومصر وسواها) أن تواجه تحدي خسارة أبنائها اجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً، ولم تُبقِ الأزمة في أيدي الغالبية الساحقة من عائلاتنا الحد الأدنى من المقومات المادية والحصانة الشرعية في دولة استقال مسؤولوها من كل مسؤولية!
العائلة في لبنان تدفع الآن فاتورة الانهيار الأخلاقي الجاري، بعد الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي. وربما الآتي أعظم!
غياب الأخلاق بداية سقوط الحضارات والمجتمعات، ووجودها هو العاصم الأكبر من الانهيار
ونصل أخيراً إلى ما أدهى من ذلك كلّه: إدخال ثقافة الانحلال الجنسي، وممارساته، إلى مجتمعنا اللبناني، بكل وسائل الإكراه والضغط غير المشروعة وغير المسبوقة.
أما الطريق الأقصر إلى ذلك فكان مزدوجاً:
استغلال الضائقة المالية الخانقة التي تتحكم بحياة اللبنانيين، من جهة، وتدمير العائلة في لبنان الحصن الأخير أمام انحراف الأفراد وشذوذهم في ما خصّ الحياة الجنسية والزواج عمّا هو طبيعي وشرعي في أخلاقنا وثقافتنا ومجتمعنا.
وبزعم المساعدة المالية، تقوم سفارات غربية وجهات دولية مشبوهة بتمويل سخي لكل الجمعيات (ميم عين، وسواها) التي تأخذ على عاتقها علانية العمل على إزالة العوائق القانونية أمام حركة الشاذين والمنحرفين وما شابه من حثالة نتنة وأمام تجمعهم وتحوّلهم إلى النشاط العلني. وكان آخر الأنشطة المشبوهة تلك ما دعت إليه “الدولية للتربية” بإقامة ورشة تدريب في أحد فنادق بيروت “لتقبّل المدرسين المثليين في المدارس اللبنانية”. وكافأت المنظمة كل رابطة حضرت بمبلغ 800 دولار، و40 دولار لكل فرد حضر الورشة.
كذلك أمكن لهؤلاء، بالضغط المادي والمعنوي، الوصول إلى بعض غاياتهم بإجبار قضاة ومحاكم (القاضي ربيع معلوف، محكمة المتن، 31-1-2017) على إصدار أحكام قضت بعدم اعتبار المثلية الجنسية والتحول الجنسي جرائم جزائية وإنما حقوق طبيعية. إن مراجعة بسيطة لميزانيات الجمعيات العاملة على تشريع الانحراف والشذوذ الجنسي في بلادنا تظهر أن ملايين الدولارات تصرف لها من منظمات مشبوهة في الولايات المتحدة وأوروبا.
وبسبب من الطمع والفساد نفسه، (على الأرجح) انضم حزب لبناني يميني صغير إلى حملة “مناهضة أفعال الكراهية ضد المثليين”. وبسبب من الإغراء المادي نفسه (على الأرجح) انضم قبل فترة قصيرة بعض النواب في البرلمان اللبناني إلى الحملة المنظمة المدعومة (بل المطلوبة) من الخارج الرامية إلى الدفاع عن حقوق المثليين والشاذين جنسياً.
واشتركت “الجمعية اللبنانية للطب النفسي” في حملة الضغط تلك (وهل تستطيع غير ذلك؟) فأصدرت في وقت مبكر (11 تموز 2013) تقريراً طلبت فيه التوقف عن اعتبار المثلية مرضاً يتطلب العلاج”. وكان لبنان بذلك أول دولة عربية تتوقف عن اعتبار المثلية مرضاً!
وكان آخر ما يُستغرب حقاً أن يكسر مجلس شورى الدولة في حزيران 2022 قرار وزير الداخلية القاضي مولوي “اعتبار تجمع المثليين بناء لدعوة من “ميم” و “المفكرة القانونية” تجمعاً غير شرعي.
أخيراً، لم تتورع الأمم المتحدة نفسها (وبسبب من التمويل المشبوه نفسه) عن إصدار بيان علني في 17 أيار 2021 يدعو إلى “مناهضة أفعال الكراهية ضد المثلية الجنسية” وضمان حماية الجماعات تلك.
غض النظر الرسمي ذاك جعل بيروت – مع الأسف – ثالث وجهة سياحة مطلوبة للمثليين على مستوى العالم!
بل شجع هؤلاء على إصدار مجلات الكرتونية ومنشورات، وسمح لهم بالمشاركة العلنية في انتفاضة 17 تشرين!
وبعض الأعلام فتح الهواء والصورة لهؤلاء ليستخدموا في واحدة من إطلالاتهم مصطلحاً بل مطلباً في منهى الوقاحة لغةً قبل المضمون، إذ طالبوا: “أن تكون منازل الشركاء المثليين، ومنازل الأزواج المغايرين ” على السوية نفسها لجهة المعاملة القانونية والخدمات! تخيلوا مبلغ الوقاحة: الفارق عادي جداً بين زواج مناف للطبيعة، شاذ، أحد أشكال الرذيلة؛ وبين زواج طبيعي شرعي موثّق بالأنظمة الدينية والاجتماعية! هو فقط حسب زعم هؤلاء الوقحين “زواج مغايرين”!.
وآخر انتهاكات القانون دفاع بعض وسائل الإعلام ومثقفون عن عرض فيلم “باربي”، الذي يناقش مشكلة المثلية عند الأطفال، وكأنما أطفالنا لا مشاكل (تربوية وأمنية واجتماعية) لديهم غير المثلية!
وننوه هنا بالموقف العلمي والأخلاقي الشجاع لمعالي وزير الثقافة، القاضي مرتضى. شكراً.
ماذا عن ردود أفعال سواد اللبنانيين الأعظم على حملة الضغط الشرسة من الجماعات المثلية ومحاموها؟
هناك لا مبالاة رسمية تكاد لا تصدّق، بل هي أقرب إلى الموافقة، لولا أن اخترقها قرار الوزير المولوي!
في مقابل اللامبالاة الرسمية تولت المرجعيات الدينية اللبنانية التنديد العلني بالنشاط المحموم للمثليين في بيروت. فكانت بيانات منددة من مشيخة العقل لطائفة الموحدين الدروز ودار الفتوى والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وسواهم، محذرة من أي تعديل في قوانين الأحوال الشخصية بهدف تشريع أفعال الشذوذ والانحراف الجنسي. ومطلب المرجعيات ومها كل اللبنانيين (السويين) التمسك بالتطبيق الدقيق للقانون (وبخاصة المادة 534) التي تحظر هذا الشكل من العلاقة المضاد للطبيعة.
وتبقى مهمة التصدي للأفعال الشاذة تلك، “المخالفة للطبيعة”، (وفق القانون، كما وفق بيان البطريركية المارونية)، واجب جميع اللبنانيين المدركين مخاطر المثلية وسائر أشكال الشذوذ الجنسي على مجتمعنا، وعائلاتنا؛ وعلينا كبشر – إذا كنا لا نريد حقاً الهبوط إلى مستوى الحيوان، الذي لا يرضى بعض أنواعه العليا بالشذوذ الجنسي! حتى الحيوان نفسه لا يرتضي الإخلال بنظام الطبيعة.
إلى ذلك، يتصدى اللبنانيون يومياً، بالمقالات والبيانات والتجمعات، لنشاط أصحاب الشذوذ أولئك، ولا يتوانون عن إظهار فضائحهم وخطورتهم في آن معاً.
اخترت من مظاهر التصدي الإعلامي مقاطع من مقالة للكاتبة ألسي خوري في 2 آب 2023، تحت عنوان “لا للعبث بهوية أطفالنا – نرفض تشريع المثلية الجنسية في لبنان”.
رأت الكاتبة أن مخاطر الشذوذ الجنسي صارت على الأبواب في لبنان، من المثلية الجنسية والتحول الجنسي إلى التلاعب بتسجيل جنس المولود. وهي ترى أن التطور ذاك هو تدمير لـ “قدسية العائلة”، وأنها حرب شرسة على اللبنانيين وقيمهم تريد أن تفرض على اللبنانيين بالإغراء المالي والتهويل الإعلامي ما لم تستطع الحرب العسكرية فرضه عليهم، من تفكيك للعائلة وللقيم التي يؤمن بها اللبنانيون. تضيف الكاتبة: “تتسلح هذه الحرب المشينة ضد المجتمع والقيم بالإعلام المرئي والمسموع والمكتوب لتضلل أولادنا، هو هجوم مسلّح على فلذات أكبادنا لقلب المجتمع وتغيير القوانين”. وتضيف: “الوقاحة في هذا الموضوع وصلت إلى حد تخييرنا بالمطالبة بحقوق أولادنا بعدم شطب كلمة أب وأم عن الهوية واستبدالها ب parent 1 و parent 2، وحتى العبث بتعريف الذكر والأنثى”.
إنها حرب أخلاقية، تقول الكاتبة، “لتغيير أفكار أولادنا وهويتنا وثقافتنا وإيماننا وسط سكوت تام من الجهات المعنية”.
تضيف: “لا لن نجعل من الباطل دستور حياتنا، وسندافع عن قيمنا ومبادئنا مهما كلّف الأمر… إذا لم تستحِ فافعل ما شئت، وإذا فعلت فلن تستطيع المجاهرة به علناً أمام أولادنا… إن الله أنزل العقاب عبر التاريخ بقومٍ آتوا الفاحشة حتى أبادهم عن بكرة أبيهم، وهو يُمهلُ ولا يهمل”.
وتختم ألسي خوري: “انتبهوا لأولادكم على هواتفهم، أولادنا بخطر”.
لا حاجة لأية إضافة إلى صرخة الأم تلك، المرتعبة بحق من شبح المخاطر التي يمثله ممارسو الشذوذ الجنسي (على أنواعه) ودعاته، ومحاموهم المرتشون، على عائلات اللبنانيين ومستقبل أولادهم.
إن عدم التساهل، بأي شكل من الأشكال، مع الممارسات والدعوات المشينة تلك هو حق اللبنانيين وواجبهم في آن معاً، ولا حلول وسط في المسألة هذه. فإما نكون مع كل ما هو طبيعي وحق وشرعي في وضوح الشمس، أو نكون مع ما هو خطأ وباطل وضلال وحرام وارتكاب الفاحشة.