دفاع سقراط أمام محكمة أثينا.
كيف خاطب الحكيم قضاته في أشهر مرافعة في التاريخ؟
لا أحد يعلم إن كان الموت الذي يخاف الجميع منه باعتباره الشرّ الأعظم ليس في الحقيقة إلا الخير الأعظم
سقراط مخاطباً المحكمة:
مهما كان قراركم فعليكم أن تعلموا أنني لن أبدل نهجي على الإطلاق حتى ولو كان عليّ أن أموت مرّات عدة
رداً على اتهامه بالإلحاد
أن لديّ إيماناً عميقاً يفوق ما يدعيه
أي من الذين يقفون هنا ليتهمونني
يعتبر دفاع سقراط كما أورده أفلاطون في عمله الشهير Apology of Socrates من أعظم أعماله الفلسفية، ومن الصعب تسمية هذا العمل المهم بالمحاورة لأنه في الحقيقة يتركز على عرض الدفاع الذي قدمه سقراط أمام أهل أثينا الذين اجتمع منهم نحو 500 من الأعيان والناس العاديين لمحاكمته بتهمة إفساد الشبيبة وزعزعة عقائد العامة، ثم النظر في العقوبة التي يستحقها إذا ما تم التصويت بإدانته.
لا بدّ من التوضيح أن كلمة Apology لا تعني في اليونانية «الاعتذار» بل تعني «توضيحات» أو «شرح» بهذا المعنى فإن الترجمة المناسبة لهذا العمل المهم يجب أن تكون «مطالعة سقراط» أو «دفاع سقراط» وهذا مع العلم أن سقراط لم يحاول حقيقة أن يدافع عن نفسه بالمعنى المتعارف عليه، أي أن يوظف كل جهده وقوة الإقناع التي يملكها لدفع متهميه لتبرئته، فهو كما سيتضح لم يحاول ذلك ولو أنه حاول فإنه كان سيحقق ربما الحصول على تبرئته من التهم التي سيق إلى المحاكمة على أساسها، إذ إن محكمة أثينا أصدرت حكم الإدانة ضده بأكثرية بسيطة بلغت ثلاثين صوتاً وكان ممكناً لجهد أكثر تصميماً منه أن يحول تلك الأصوات لصالحه. أما لماذا لم يظهر سقراط اهتماماً كبيراً بإقناع المحلفين ببراءته فستبدو الحكمة منه في سياق هذا المقال. نلفت إلى أن مطالعة سقراط هي من أعلى أشكال التعليم الحكمي، إذ إن سقراط لم يعبأ بالرد على الحجج والاتهامات قدر سعيه لنصح متهميه وإرشادهم وقد تابع سقراط ذلك حتى بعد إصدار الحكم عليه بالموت بتجرع السم، وقد تضمّنت مداخلته الختامية عبارات عميقة دعت إلى عدم الخوف من الموت باعتباره انتقالاً من حال إلى حال كما تضمنت لغة في غاية الرقة حتى تجاه الذين أدانوه بما في ذلك قوله إنه يغفر لهم لأن ما يحصل له أمر مقدر وهو يحمل له الخير على عكس ما ظن محاكموه.
لقد اندثر محاكمو سقراط بل اندثرت من بعده أثينا نفسها التي جرّعته السم لكن سقراط بقي حياً خالداً على مر الدهور وتحولت مرافعته البليغة أمام متهميه إلى أشهر مرافعة فلسفية في التاريخ الإنساني، فهي في الحقيقة مجموعة دروس في الفضيلة وفي ما يجب أن يسعى إليه الناس وهي دعوة إلى عدم الخوف من الموت والتيقين بأن الصالحين لا يمكن أن ينالهم شر لا في هذه الدنيا ولا بعد موتهم.
لقد تمتّ محاكمة سقراط من قبل محكمة كانت أشبه باجتماع جماهيري لأنها ضمت ربما أكثر من 500 شخص تم اختيارهم بالقرعة من بين متطوعين من أهل أثينا وكان مسموحاً بحسب قانون أثينا أن تصدر تلك المحكمة أحكامها بالتصويت وبالأكثرية البسيطة أي انه كان ممكناً الحكم على شخص بالموت بفارق صوت واحد، بل إن محاكمة سقراط وإصدار الحكم عليه تمّا في جلسة واحدة وهو ما علق عليه الحكيم في مداخلته الأخيرة عندما لفت الى أن هذا الأمر غير قائم في مدن أخرى، وأنه لو أعطيت المحكمة وقتاً فإنه كان سيتمكن بصورة أفضل من إقناع المحاكمين ببراءته. أخيراً فإن الحكم بالعقوبة كان يصدر في أثينا كحكم مبرم لا يقبل الاعتراض أو الاستئناف كما هي الحال في الانظمة القضائية الحديثة.
كان ذلك نموذجاً سيئاً على ديمقراطية غير مقوننة كان سقراط من الناقدين البارزين لها بسبب ما تحمله من مخاطر الإنحياز بالعواطف أو الأحقاد السياسية أو التأثر بديماغوجيين يمكنهم دفع مواطنين لا يمتلكون النضج ولا الخبرة إلى إقرار أحكام جائرة ومتسرعة ولهذا السبب ربما فإن سقراط لم يتردد في مدح النظام السياسي الذي تبنته اسبارطة وهي العدو اللدود لأثينا والذي أوكل الحكم لنخبة مقتدرة ورفض الديمقراطية المباشرة التي تبنتها أثينا وكانت في نظر المؤرخين أحد أسباب سقوطها في النهاية.
سقراط وديمقراطية العدد
كان رأي سقراط (وكذلك رأي أفلاطون) هو أن مفهوم أكثرية الشعب مفهوم سيىء للحكم لأن الناس في معظمهم جهلاء ولا يتمتعون بأي مهارات لذلك فإنهم في كل مرة يحكمون سيرتكبون أخطاء. في المقابل فإن الحكم في نظر سقراط هو حرفة متخصصة ويحتاج إلى ملكات وإلى مهارة كبيرة ويجب بالتالي إيكاله فقط إلى أشخاص أذكياء ومهرة، وهؤلاء هم بالضرورة أقلية بين الناس. وقد أنكر سقراط أن تكون المعرفة المتوافرة للناس العاديين أو ما يمكن تسميته «المعرفة الشعبية» تستحق أن تسمى معرفة وفي أفضل الحالات فإن الجمهور لديه «آراء» وليس معرفة وهو قابل للتأثر بأهوائه وأي إنطباعات من الخارج وهو في جميع الأحوال غير مطلع على حقيقة الحال وبالتالي فإنه عندما يطلب من جمهور الناس أو «الأكثرية» أن تحسم في شأن مصيري فإن الأرجح أن يؤدي ذلك إلى أخطاء توقع الضرر بالمجتمع.
بهذا المعنى، فإن حكم العديد من الأثينيين والقادة في اليونان هو أن الديمقراطية المباشرة أي الحكم برأي الأكثرية ليس سوى حكم الغوغاء على حساب النخبة، وهو ما يوازي قلب العالم رأساً على عقب.
وقد ارتكبت الديمقراطية اليونانية أخطاء فادحة أظهرت خطورة حكم الغوغاء عندما لجأ جمهور غاضب عمل كـ «محكمة شعبية» إلى الحكم بإعدام عشرة جنرالات من قادة الجيش بتهمة أنهم لم يهبّوا إلى مساعدة أثينيين خلال الحرب. واعتبرت تلك الحادثة مثالاً صريحاً على مخاطر الديمقراطية الشعبية وهي حادثة ساهمت بحسب المؤرخين في هزيمة أثينا في حرب البيلوبونيز في مواجهة إسبارطة وربما كانت أحد الأسباب وراء محاولتين لإنشاء حكم أقلية أو حكم نخبة في أثينا ، لعب دوراً أساسياً في إحداهما إثنان من تلامذة سقراط هما كريتياس (أحد أقارب أفلاطون) لكن هاتين المحاولتين فشلتا وتمت إعادة العمل بالديمقراطية الأثينية المعهودة على عِلاتها.
يعتبر مؤرخون أن محاكمة سقراط جاءت على هذه الخلفية أي وجود شكوك بأنه أيد التخلص من الديمقراطية الأثينية الهشة لصالح حكم نخبة قوي. ولا يوجد بالطبع دليل على ذلك لأن سقراط رغم قناعاته بمساوئ الديمقراطية المباشرة، فإنه اجتنب الدخول في السياسة بل كان يعتبرها خطراً مميتاً على طالب الحقيقة. وقد أثار الحكيم هذه النقطة في دفاعه أمام «محكمة الشعب» إذ قال :
«يا أهل أثينا، لو كان لي اهتمام بالسياسة فإن ذلك كان سيتسبب بفنائي منذ زمن طويل، ودون أن ينجم عن ذلك أي خير لي أو لكم. وأرجو أن لا تنزعجوا من تمسكي بصدق القول لأن الحقيقة هي أنه لا يمكن لأي رجل يفكر في الوقوف في وجهكم أو في وجه أي جمهور وأن يحاول إصلاح الظلم وأخطاء الحكم أن يفعل ذلك من دون أن يعرّض نفسه للموت، لذلك فإن من يريد أن يعمل للخير والحق ويضمن لنفسه سنوات من العمر ولو قليلة عليه أن يعمل ذلك كمجرد مواطن عادي وليس من أي موقع سياسي».
ولهذا فقد كان سقراط كارهاً للسياسة ناصحاً للسالك في درب الحقيقة بأن يبتعد عنها لأنها بيئة الهوى والشرور ومجلبة للنفاق ولأن الاقتراب من أهل السلطان عار كبير على طالب الحكمة.


” من أراد العمل للخير والحق وأن يضمن لنفسه سنوات من العمر ولو قليلة عليه أن يعمل ذلك كمجرد مواطن عادي وليس من أي موقع سيـــاسي “
سقراط المزعج
حقيقة الأمر هو أن الدور المزعوم لسقراط في محاولة التخلص من الديمقراطية المباشرة لم يرد في أسباب المحاكمة وليس هو السبب الأهم بل السبب الأساسي هو أسلوب سقراط الفريد في محاولة دفع الناس للتركيز على الحقيقة والمثل العليا وإظهار ضعف السياسيين والمفكرين و«وجهاء» المجتمع الذين يدعون معرفة الحقيقة وهم بعيدون عنها. وهذا الأسلوب في دفع الناس لأن يدركوا جهلهم كان مرتكز المنهج السقراطي إذ كان هدف الحكيم وما يعتقد أنه الخدمة التي يقدمها لأهل زمانه وخصوصاً اللامعين منهم أو الشباب هو امتحان ادعائهم العلم أو الحكمة عبر حوار وأسلوب في السؤال والتدرج من مسألة إلى مسألة إلى أن يريهم في الحقيقة أن ما يعتقدونه من علمهم أو حكمتهم ليس في الحقيقة علماً ولا حكمة. وبالطبع فإن الكثيرين من هؤلاء كانوا يشعرون بالغيظ من سقراط بسبب ذلك لأنه أحرجهم، ويعترف سقراط في دفاعه أمام «المحكمة» أن أسلوبه في امتحان أدعياء المعرفة والحكمة جعل له أعداء كثيرين في المجتمع ولاسيما وأنه اعتاد أن يحاور في الأسواق وفي الأماكن العامة وليس في مجلس خاص يجمعه مع دعاة المعرفة.
واقع الأمر أن أكثر الذين اجتمعوا لمحاكمة سقراط كانوا يعرفونه أو يعرفون عنه وعن الشهرة التي اكتسبها في كل أنحاء أثينا، بعضهم كان معجباً به وبأسلوبه لكن قسماً منهم كانوا من الذين ربما حاججهم في السوق أو في الروتندا أو غيرها من الأماكن التي اعتاد اليونانيون ارتيادها على سبيل التواصل والتحدث في الأمور العامة. سأل سقراط الذين اجتمعوا لمحاكمته: «ربما تقولون إن سقراط لا بدّ استحق الاتهام بسبب ذيوع أمره وأسلوبه في المدينة وأنه لا بدّ أن يكون وراء تلك الشهرة ما يؤكد الاتهامات الموجهة إليه. وأنا أعتبر هذا الظن ربما له ما يبرره لذلك سأشرح لكم كيف بلغ بي الأمر أن أصبحت على تلك الشهرة ولماذا أدى أسلوبي في محاجة مدعي العلم والمعرفة إلى استياء كثيرين مني ومناصبتهم لي العداء».
يقدم سقراط للمحكمة ما يعتبره سبب انطلاقه في المدينة بأسلوبه الشهير في الحوار التدرُّجي. يقول:
« بدأ الأمر كله بتصرف طائش من شيريبون كما تعرفونه. فقد قرر يوماً الذهاب إلى معبد دلفي وسأل أهل الغيب فيها أن يخبروه إذا كان هناك من حكيم أو عارف يفوق سقراط، وقد جاءه الجواب بأنه لا يوجد من يفوق في المعرفة والحكمة سقراط. ورغم أن شيريبون مات الآن فإن شقيقه موجود في هذه المحكمة وفي إمكانه أن يؤكد لكم هذه القصة. والحقيقة أنني تعجبت لهذه القصة لأنني أعلم بأنني لست حكيماً، لكن بما أن أهل الغيب لا ينطقون إلا بوحي الحق فإنني قلت في نفسي إن الطريقة المثلى لكي أؤكد فيها أنني لست أحكم وأعقل أهل المدينة هو أن أجد من هو أكثر حكمة ومعرفة. وهكذا بدأت رحلة محاوراتي للناس في كل مكان لقد كنت أبحث وأدقق وأتوجه إلى من يدعون الحكمة وأبدأ بمحاورتهم للتأكد إذا كان أحدهم يفوق سقراط معرفة وحكمة، وعندها فإنني أكون قد أثبت صحة موقفي. لكن هالني أن كل من اجتمعت بهم كانوا لا يعلمون شيئاً لكنهم يظنون أنهم يعلمون، وتبين لي أنني نفسي لا أعلم شيئاً لكنني على الأقل أعلم أنني لا أعلم، وبهذا وجدت فعلاً أنني متفوق عليهم ليس بأنني أعلم بل بأنني أعلم أنني لا أعلم، بل إنني أقسم لكم يا أهل أثينا بأنني وجدت اكثر الناس ادعاء بالمعرفة هم أحمقهم بينما وجدت أناساً بسطاء يعتبرون من الجاهلين أكثر معرفة من أولئك الحمقى».
يتابع سقراط شرحه لهذه النقطة بالقول:
«إن محاولتي استقصاء هذا الأمر وبالتالي قيامي باختبار منطق كل من يدعي المعرفة جعل لي أعداء من أسوأ الأصناف وشجع الكثيرين بالطبع على نشر مختلف أنواع الأباطيل والوشايات ضدي . لقد أسموني بالحكيم لأن من يستمع إليَّ يعتقد أنني أمتلك الحكمة التي لا يجدونها في الآخرين. لكن الحقيقة يا أهل أثين هي أن الله وحده هو الحكيم، وإذا كانت قد شاعت تسميتي بالحكيم فما ذلك إلا لأن الله يريد أن يضرب بي مثلاً كأنه يقول: أيها الناس هل يعلم أحكمكم سقراط أن حكمته لا تساوي شيئاً؟ لقد أخذت هذه الحرفة مني كل وقتي حتى لم يعد لي متسع للقيام بأي عمل آخر وهذا فقري يشهد على ما أكابده جراء تكرسي لله».
وهنا يتنبأ سقراط عن معرفة بمجتمع أثينا الذي داخله الفساد أنه وبسبب تعلقه بالحقيقة فإنه ربما ينتهي إلى أن يدفع الثمن. ويقول : «لقد أصبح لي أعداء كثيرون وهذا ما سيؤدي إلى تدميري إذا ما تمّ لهم ذلك، بل انا على ثقة من ذلك لكنني لا أردُّه إلى مليتوس ولا إلى أنيتوس (وهما اثنان من المدعين الثلاثة) بل إلى حسد وروح الأذية في المجتمع، وقد جلبت هذه الخصال الموت لكثير من الرجال الأبرار من قبل وهي على الأرجح ستأتي بالموت لمزيد منهم ولن أكون ربما آخر الضحايا».
“الإنسان الصالح لا يحسب إذا كان عمله سينتح عنه حياة أو موت، بل فقط إذا كان ما يعمله حقاً أو باطــلاً”


يكمل سقراط فيقول: «البعض قد يقول: ألا تخجل يا سقراط من اتباعك طريقاً في الحياة سيؤدي على الأرجح إلى هلاكك؟ ولمثل هذا الشخص فإن جوابي البسيط سيكون: أنت في ضلال بعيد، لأن أي إنسان فيه قدر من الصلاح لا يجب أن يحسب الأمور بحسب ما قد يرتبه عمله من حياة أو موت، بل عليه أن يأخذ في الاعتبار فقط إذا كان ما يعمله خيراً أو شراً وهل ما يقوم به هو عمل رجل صالح أم رجل فاسد». على العكس من ذلك يضيف سقراط: « لقد أمرني ربي بأن أقوم بعمل الفيلسوف أو داعية الحق وأن أقوم بالبحث في داخلي وفي الآخرين ولو أنني فكرت بالفرار من موقعي على الجبهة (خلال الحرب التي شارك فيها) خوفاً من الموت أو أي خوف آخر سيكون ذلك مستهجناً بكل مقياس، كذلك فإنني لو خالفت أهل الغيب في دلفي لأنني أخاف الموت فإنه لن يصح لي عندها ادعاء الحكمة وأنا لست كذلك، لأن الخوف من الموت هو علامة ادعاء الحكمة وليس علامة الحكمة، لأن من يخاف الموت يزعم أنه يعلم ما ليس معلوماً، لأنه في الحقيقة لا أحد يعلم إن كان الموت الذي يخاف الجميع منه كما لو كان الشر الأعظم ليس في الحقيقة إلا الخير الأعظم»!
هنا نأتي إلى أهم مقطع في مداخلة سقراط إذ يقول مخاطباً «محكمة الشعب»:
«لو قلتم لي إننا يا سقراط لن نعطي بالاً لاتهام أنيتوس وسنخلي سبيلك لكن بشرط واحد وهو أن تتوقف عن البحث والتنقيب بطريقتك، وإنه في هذه الحال لو تمّ ضبطك بعد ذلك تقوم بهذا الأمر مجدداً فإنك ستموت بالتأكيد. إذا كان ها هو شرطكم لإطلاق سراحي فإنني سأجيبكم: يا أهل أثينا إنني أكنّ أقصى الاحترام والحب لكم لكنني سأطيع في ذلك إرادة الله وليس إرادتكم. وطالما بقي فيّ رمق فإنني سأستمر في تشجيع أي شخص ألتقيه على الأخذ بطريقتي والاقتناع بقولي وسأقول له: كيف يمكن يا صديقي وأنت مواطن هذه الدولة العظيمة أثينا أن تركض خلف أكبر قدر من المال والجاه والسمعة بينما أنت لا تقوم بأي جهد مقابل من أجل اكتساب الحكمة والحقيقة والإرتقاء عالياً بالروح وهي أمور لا يبدو أنك تلقي بالاً إليها ابداً. ألا تخجل من ذلك؟ فإن أجابني الشخص المخاطب أن هذه الأمور تهمه حقاً فإنني لن أتركه يذهب قبل أن احاججه وأحاوره وأتفحص ما يعتقده، فإن رأيت فيه شخصاً مفتقداً إلى الفضيلة رغم ادعائه امتلاكها فإنني سأتركه لشأنه بعد أن أوجه إليه اللوم بأنه يقلل من شأن ما يستحق التعظيم ويعظم شأن ما هو أقل قيمة، وأنا أفعل ذلك مع كل إنسان ألتقيه شاباً كان أم كهلاً مواطناً كان أم أجنبياً زائراً، لكنني أهتم بصورة خاصة بمواطني أثينا لأنهم أخواني لأن هذا هو أمر الله لي، ودعوني أقول لكم إنه لم يحصل في أي وقت للدولة خير يوازي ما تحصل عليه من جراء هذه الخدمة التي أقدمها لوجه الله وأنا ليس لي عمل في الحقيقة سوى المشي في الأسواق أحاول أن أقنعكم جميعاً شيباً وشباناً على حد سواء أن لا تهتموا كثيراً بحاجات شخصكم وممتلكاتكم وأن تجعلوا همكم الأول العمل على ترقية الروح. أقول لكم إن الفضيلة لا تأتي من امتلاك المال وإنه من الفضيلة يأتي المال وأنواع الخير الكثيرة للإنسان وللمجتمع. هذا هو ما أعلمه فإن كان هذا النوع من التعليم فيه حسب زعمكم إفساداً للشباب فإن تأثيري عليهم ولا شك تأثير هدّام. لكن إن ادّعى أحد أن ليس هذا ما أعلمه فإنه يأتي ببهتان صرف. لذلك فإنني أقول لكم يا أهل أثينا إن في إمكانكم أن تأخذوا جانب أنيتوس أو أن لا تأخذوا جانبه. يمكنكم أن تدينوني أو أن تبرئوا ساحتي، لكن مهما كان موقفكم ومهما كان قراراكم فعليكم أن تعلموا أنني لن أبدّل نهجي على الإطلاق حتى ولو كان عليّ أن أموت مرات عدة!
“ليكن واضحاً أيها الأثينيون أنني لا أحاول هنا إنقاذ نفسي كما قد تعتقدون بل إنني أحاول إنقاذكم أنتم بحيث لا تقــعون في إثم كبير يخـــالف أمر الله “
من أجل تأكيد تمسكه بما يعتبره حقاً بغض النظر عن النتائج أوضح سقراط أمراً مهماً آخر لهيئة «المحكمة الشعبية » وهو أنه لم يعبأ باستدرار عطف الجمهور لعله يستميل أكثريتهم لتبرئته. قال لهم إن المتهم الخائف على حياته أو عقوبة شديدة غالباً ما يحضر أسرته وأولاده إلى المحكمة يبكون ويسترحمون لعل ذلك يؤثر على موقف الهيئة القاضية. أما بالنسبة إليه فهذا غير وارد البتة ويقول:« رغم أنني أمام خطر أن أفقد حياتي فإنه لا يمكن أن يخطر في بالي فعل مثل هذه الأشياء وقد يستثير امتناعي عن ذلك بعض أعضاء المحكمة فيميلون بسببه لأن يحكموا علي بصورة أقسى. أصدقائي إنني إنسان مثل غيري من البشر وأنا من لحم ودم ولست مصنوعاً من الخشب أو الحجر، كما يقول هوميروس، كما إن لي أسرة ، لكن رغم ذلك فإنني لن آتي بأي منهم للضغط عليكم من أجل تبرئتي. لم لا أفعل ذلك؟ ليس لأنني أظهر عناداً أو لأنني أستخف بهذه المحكمة، أما إن كنت بذلك خائفاً من الموت أو غير خائف فذلك أمر آخر لن أتحدث فيه الآن، لكن شعوري هو أن سلوكاً من هذا القبيل سيكون عاراً عليَّ وعلى دولة أثينا بأسرها».
لكن سقراط يحذر الأثينيين في الوقت نفسه من أن قتلهم له بغير حق سيتسبب بالأذى لهم أكثر مما سيلحقه به يقول:
«يا أهل أثينا كم أودّ منكم أن تدركوا بأنكم إن قتلتم شخصاً مثلي فإنكم ستؤذون أنفسكم أكثر من أذيتكم لي. إن مليتوس وأنيتوس لن يقدرا على إيقاع الأذى بي، لن يستطيعا ذلك لأنه ليس من طبيعة الأشياء أن يستطيع رجل وضيع أن يقود أو يؤذي رجلاً أفضل حالاً منه. وأنا لا أنكر أنه في إمكان أي منهما أن يتسبب بقتلي أو أن يرسل بي إلى منفى بعيد، أو يحرمني من حقوقي المدنية، وهو قد يعتقد وربما آخرون أيضاً قد يعتقدون أنهم بذلك يسببون أذى عظيماً لسقراط، لكنني لا أتفق معهم، لأن الشر في قيام شخص مثل أنيتوس بسلب شخص آخر حياته ظلماً وعدواناً هو أعظم بكثير مما يسببه للضحية».
«وليكن واضحاً أيها الأثينيون أنني لا أحاول هنا إنقاذ نفسي كما قد تعتقدون بل إنني أحاول إنقاذكم أنتم بحيث لا تقعون في إثم كبير يخالف أمر الله أو بحيث تستخفون بأنعامه عليكم من خلال إصراركم على إدانتي، أنكم إن قتلتوني فإنكم لن تجدوا بسهولة شخصاً آخر مثلي، إن شخصاً بلغ من العمر ما بلغته واشتهر عنه اتصافه بالحكمة (سواء أكان مستحقاً لهذا الوصف أم لا) لا ينبغي له أن يحطّ من قدر نفسه، لقد قرر الناس أن سقراط بصورة أم بأخرى يمتاز عن غيره من الرجال فلو أن من يعتبرون من كبار القوم يهبطون بقدرهم على هذا النحو فإنهم سيجلبون العار على أنفسهم. ولقد رأيت رجالاً مشهورين ورأيت كيف أنهم عندما حكم عليهم كانوا يتصرفون بطرق غريبة وبدا لي أنهم يتوهمون بأنهم سوف يتعرضون لتجربة رهيبة في ما لو ماتوا وأن في إمكانهم بالتالي أن يعيشوا إلى الأبد لو أنك أعطيتهم الفرصة لذلك، وأعتقد أن هؤلاء الرجال كانوا وصمة عار على جبين الدولة الأثينية، ولو أن غريباً رأى هذا المشهد فإنه كان سيقول إن عظماء أثينا ورجالاتها الذين حظوا باحترام وتبجيل العامة ليسوا في حقيقتهم أعلى درجة من النساء».
وسيضيف سقراط في مكان آخر من الدفاع أنه لم يتقاض في حياته أي مال على الخدمة التي يقدمها للمواطنين مشيراً إلى أنه رغم كل الإفتراءات التي بنيت عليها القضية فإن أحداً من الذين ساقوا الإتهامات ضده لم يجرؤ على مجرد الإدعاء بأن أياً من الدروس أو النصائح التي كان يقدمها لمن يطلب إنما تمت مقابل المال. ويعطي على ذلك دليلا قاطعا هو حالة الفقر التي يعيش فيها.


سقراط والإيمان
«لا يمكنكم أن تنتظروا مني أيها السادة أن أتصرف معكم (في موضوع الإيمان) بطريقة أعتبرها غير مشرفة ولا إخلاقية وغير منسجمة مع واجبي الديني. وبصورة خاصة لا يمكنكم أن تنتظروا مني ذلك وأنا المتهم أمامكم من قبل مليتوس بالإلحاد أو عدم التصديق بالألهة ومن البديهي أنني لو حاولت إقناعكم أو دفعكم بطروحاتي لكي تتنكروا لإيمانكم فإنني سأكون كمن يعلمكم أن تكفروا بعقيدتكم.إن (اتهام مليتوس ) هو أبعد ما يكون عن الحقيقة لأن لدي إيماناً عميقاً ومخلصاً يفوق ما يدعيه أي من الذين يقفون هنا ليتهمونني. وأنا أترك الأمر لكم ولله لكي تحكموا على ذلك».
في مقابل آلهة اليونان أظهر سقراط احتراماً ظاهرياً لعقائد العامة وقد ظهر ذلك أثناء محاكمته، إذ كان أحد المدعين وهو مليتوس قد اتهمه بالإلحاد وعدم الإيمان بأي من الآلهة التي تشكل مرتكزات العقيدة اليونانية، لكن قليلاً من المحللين الغربيين الذين سعوا لفهم معتقده الديني وفق ذلك لأنهم جميعاً انطلقوا من عباراته الظاهرة وبعض التصريحات المقتضبة التي تطرق فيها إلى موضوع الآلهة ولم يدخلوا في محاولة فهم سقراط العامل الأهم في تاريخه وهو أنه كان حكيماً ليس بالمعنى العقلاني الغربي بل بالمعنى الذي تأخذ به العقائد الشرقية من الهند إلى مصر القديمة مروراً بالحقبة الهيلينية التالية للفيثاغورسية وهو مفهوم الحكيم كرجل رباني مكشوف على الحقائق اللدنية، وهذا المفهوم للحكيم العارف بالله لا يختلف بين حضارة وأخرى وإن كانت تعبيراته تختلف لأنها تتبع لغة الجماعة واختيارها الروحي وأحياناً عقائدها الخاصة، وقد عرف عن الحكماء جميعاً في كل زمان أنهم يكتمون الكثير من اختبارهم الروحي خوفاً من زعزعة عقائد العامة وأنهم يتخذون دوماً موقف الاحترام للعقائد السائدة. ومن المستحيل أن تجد في التاريخ الطويل للحضارة حكيماً يفصح عن مكنونات الحكمة واختبار العرفان لأن هذا النوع من الاختبارات لا يمكن شرحه بالعبارات ولا بالإشارات، فكيف بمحاولة إفهام غوامضه للعامة؟ لذلك تبقى مضامين الاختبار الحكمي في صدر الحكيم يظهر منه ما يشاء من تلمحيات أو إشارات أو قد يكشف عن بعضه لمن يقبل باتخاذهم كمريدين، وحتى في هذه الحال فإنه لا يتحدث لمريديه كلهم بنفس اللغة بل يعطي لكلٍّ منهم على قدر استيعابه واستحقاقه. فالحكيم هو لغز وحقيقة محجوبة ويستحيل على الناس العاديين إدراك كنهه بملكات التفكير أو القياس أوالتحليل العقلاني.
لقد كان سقراط حكيماً كاملاً وقطباً للعرفان ومستودعاً للأسرار لكن الطريق التي اختارها تأثرت كثيراً بالمجتمع الأثيني الذي كان مجتمعاً وثنياً، فكان عليه بالتالي أن يكتم اختباره الروحي وأن يتخذ في الوقت نفسه موقف عدم الدخول في موضوع العقيدة الأثينية فهو لم يعارضها لكنه لم يتبناها أيضاً ووقف بذلك دوماً موقفاً ملتبساً. هذا الموقف الملتبس وتجاهل سقراط للعقيدة الأثينية في تعليمه كان بادياً لأخصامه رغم مسايرته الظاهرية للعقيدة الأثينية أو الهيليلنية القديمة وقد يكون هذا أحد الأسباب التي شجعت مليتوس ورفيقيه على الإدعاء على سقراط بتهمة الإلحاد أو عدم الإخلاص لآلهة المدينة. أبرز علامات التمايز التي أظهرها سقراط عن نظام العقائد اليوناني حديثه الدائم عن «الله» أي عن إله واحد كان يشير إليه بصورة لا تتضمن نفياً أو إنكاراً لعقيدة اليونانيين لكنه كان يتضمن تجاهلاً واضحاً لإعلان التصديق لها.


“انا في طريقي الى الموت وأنتــم إلى الحياة، فأيُّ الطريقين هو الأفضـــل؟ الله وحده يعلم الجواب”
الأمر الآخر المهم الذي تحدث فيه سقراط عن «إيمانه» المختلف والذي تسبب في استثارة شكوك جمهور المدينة حول إخلاصه للعقيدة الرسمية، كان إشارته في دفاعه أمام المحكمة وفي مناسبات أخرى لما كان يعتبره «الصوت» أو الملاك الحامي daimonion أو «الوحي» الذي كان يأتيه ويرشده، ومن أجل إبقاء الغموض،
فإن سقراط لم يرد أن يشرح حقيقة إلهام الحكيم وما يرده من كشوفات -فقد كانت البيئة الفكرية في أثينا غير مؤهلة لتقبل ذلك- لذلك ابتدع وصفاً فيه من التقية ومن الطرافة في آن عندما جعل الصوت أو الوحي مختصّاً بأن يهديه ليس لما ينبغي له القيام به من أعمال لكن فقط لما يجب أن يمتنع عنه، فإن هو أقبل على أمر ما ثم أتاه الصوت ليحذره من الإقدام على ما كان ينوي فعله فإنه يعمل على الفور بوحيه. إن فكرة وجود وحي خاص لحكيم مثل سقراط يستند إليه في تقرير أموره بدا لبعض أهل أثينا كأنه يحمل تشكيكاً بنظام العقائد الذي كانت تعمل به المدينة. وبصورة عامة فقد كانت حقيقة إيمان سقراط سراً خاصاً بقي في صدره ولم يطلع عليه -أو على بعضه على الأرجح- إلا بعض المريدين الأصفياء مثل أفلاطون وزينوفون.
في هذا السياق، وللرد على اتهامه بزعزعة عقائد العامة وإفساد عقول الشبيبة، نفى سقراط نفياً باتاً أنه كان يعلم بعض الناس سراً أي أنه يعلم في السر أموراً معارضة لما يقوله في العلن، وبالتالي معارضة لعقائد المدينة وهو يقول لهذه المحكمة التي لا تضم قضاة بل جمعاً كبيراً من الناس من شتى الأهواء: في الحقيقة إنني لم أتخذ مريدين، لكن لو رغب أي كان سواء كان شاباً أو كهلاً في أن يأتي ويستمع إليّ في الأوقات التي أتابع فيها مهمتي فإن له ذلك، لكنني لا أتحدث لأي كان لأنه يدفع مالاً ولا أحجب حديثي عن أي كان لأنه لا يدفع المال. فأي شخص سواء كان فقيراً أو غنياً يمكنه أن يسألني وأن يستمع إلى كلماتي وإذا تبين بعد ذلك أن الرجل كان صالحاً أو سيئاً فلا يمكن لأحد أن يحملني المسؤولية عنه لأنني لم أعلمه أي شيء. وإذا زعم أحد بأنني علمته سراً أشياء مختلفة عما يستمع إليه جميع الناس فإنني أود أن تعلموا أنه لا يتحدث بالحقيقة.
إدانة سقراط
عندما أصدرت المحكمة قرارها بإدانة سقراط باتت الخطوة التالية هي تحديد نوع العقوبة، وهذا الأمر كان يتطلب في المحاكمة الأثينية تصويتاً آخر مستقلاً عن الأول. وجرى بالتالي نوع من الترافع بين سقراط وبين متهميه الثلاثة أظهر بدوره جانباً من الشخصية الفذة للحكيم. بعد أن طلبت الجهة المدعية إنرال عقوبة الإعدام بسقراط، وقف الحكيم وخاطب المحكمة بالعبارات التالية، قال: لقد اقترح الإدعاء عقوبة الإعدام بعد إدانتي، فما الذي سأقترحه بدوري؟ وما هو الذي يجب علي أن أدفعه أو أن أحصل عليه؟ كيف يجب أن تتعاملوا مع رجل لم يخطر في باله السكون للراحة طيلة حياته؟ ولم يظهر أي اكتراث بما يحرص الكثيرون على ان يجروا وراءه- الثروة ومصالح العائلة أو المناصب العسكرية أو إلقاء الخطب في البرلمانات أو تولي المسؤوليات في الدولة وفي الزمر أو الأحزاب؟
“أيها الأثينيون إن العار سيلاحقكم لأن خصومكم سيقولون لقد قتلوا الحكيم سقراط، ولو انتظرتم قليلاً لكان أفضل لإننـــي رجل كهل وفي طريقي إلى المـــوت على أي حال”
يقول سقراط: «لقد فكرت بأنه من الصعب عليّ كرجل نزيه وصادق أن أتبع تلك المسالك من دون أن أتسبب لنفسي بالهلاك، لذلك فإنني لم أسر في أي طريق حيث لا يمكنني أن أقدم خيراً لنفسي أو لكم، بل حيث يمكنني أن أقدم أعظم الخير لكم ولنفسي، لقد سرت في طريقي وسعيت لأن أقنع كل شخص منكم بأن يهتم بالنظر في نفسه واتباع طريق الفضيلة والحكمة قبل النظر في مصالحه الخاصة، وأن يهتم بالدولة قبل الاهتمام بمصالح الدولة وأن يطبّق هذا النهج على كل أعماله، فما الذي يجب أن تفعلوه لرجل كهذا؟ بالتأكيد يجب أن تبادلوه الحسنى بالحسنى، يا أهل أثينا، لو أن هذا الرجل استحق مكافأة فإن المكافأة يجب أن تكون بما يلائمه، وأي مكافأة هي التي تناسب رجلاً فقيراً أحسن إليكم ويتمنى لو أن له المزيد من الوقت لكي يعلمكم؟ لا توجد مكافأة له أفضل من تأمين عيشه طيلة حياته في البيت المقدس لأثينا (البريتانيوم) وهي جائزة يستحقها أكثر بكثير من الذين حصلوا عليها بسبب فوزهم في سباق عربات الخيول في الأولمبيا، لأنني شخصياً في حاجة إلى تلك الجائزة بسبب فقري والذي فاز في السباق ليس فقيراً وهو لم يقدم إليكم سوى سعادة ظاهرة، بينما أنا أقدم لكم الحقيقة».
تعليق سقراط على حكم الموت
بعد الكلمات والمرافعات المتبادلة صوتت المحكمة فأصدرت حكماً بالموت على سقراط بتجرع السم. لم يرف جفن الحكيم الذي كان واقفاً في حالة من الحبور والطمأنينة ولم يظهر أي مفاجأة لأنه كان عملياً ينتظر تلك النتيجة، كل ما فعله أنه استمر في توجهه الأبوي للأثينيين يخاطبهم ويعظهم في ما هو خيرهم. وكان أول تعليق له أن قال:
«أيها الأثينيون إنكم لن تربحوا شيئاً (من إصدار الحكم) بل إن العار سيلحق بالمدينة لأن خصومها سيقولون أنكم قتلتم الرجل الحكيم سقراط، وهم سيطلقون عليَّ صفة الحكيم رغم أنني لست كذلك، لكن من أجل أن يدينوا أثينا. ولو أنكم انتظرتم قليلاً فإن رغبتم في موتي كانت ستتحقق بفعل قانون الطبيعة، ذلك أنني رجل تقدمت به السنون كما ترون ولم أعد بعيداً عن الموت، وأنا أتحدث الآن فقط لأولئك الذين أصدروا علي الحكم بالموت. وهناك شيء آخر أود أن أقوله لهم: أنتم تعتقدون بأن الحكم صدر ضدي بسبب إهمالي في تقديم الدفاع اللازم أي لو أنني لم أوفر أي وسيلة أو حجة لمحاولة إقناعكم فإنني كنت سأحصل على حكم بالبراءة. لكن الحقيقة هي غير ذلك! إذ إن ما أوصلني إلى الحكم بموتي ليس نقص في الكلمات أوالدفاع بل هو أنه ليس لدي الاستعداد لكي أخاطبكم بالطريقة التي كنتم تريدونني أن ألجأ إليها، وهي لغة البكاء والنحيب والتذلل وأن أسلك معكم السلوك الذي اعتدتم عليه من الآخرين فهذه الأعمال ليست من شيمي .
إنني أفضل أن أموت بسبب تمسكي بطريقتي على أن أعيش لأنني قبلت بطريقتكم، ومن غير المقبول في الحرب أو في القانون أن يلجأ المرء لكل الوسائل من أجل الفرار من الموت، ولو أن جندياً قام بإلقاء سلاحه أمام العدو ثم جثا على ركبتيه متذللاً فإن من الممكن له أن ينجو من الموت. كذلك وفي مواجهة أخطار أخرى فإن هناك طرقاً عدة مماثلة للفرار من الموت إذا كان المرء مستعداً ليقول أو يفعل أي شيء. لكن المشكلة يا أصدقائي ليست في تجنب الموت بل في تجنب الباطل لأن الباطل يجري أسرع من الموت. إنني رجل كهل وأتحرك ببطء لكن الذين يتهمونني متحمسون وعلى عجلة من أمرهم.، وقد تمكن الباطل وهو الأسرع جرياً من أن يتقدم عليهم.
والآن، ها أنا أغادر المكان وقد حكم علي من قبلكم بالموت، والذين حكموا علي أيضاً سيغادرون أيضاً وقد حكم عليهم من الحقيقة بأن يعذبوا بوزر الشر والظلم وسأتحمل أنا ما قسم لي وليتحملوا هم ما قسم لهم وربما ينظر البعض إلى مثل هذه الأمور باعتبارها مقدرة وأنا بالفعل اعتبرها كذلك بالتأكيد.
بعد ذلك توجه سقراط إلى أعضاء المحكمة الذين صوتوا ببراءته فخاطبهم قائلاً:


“أيها القضاة، أريدكم أن تحسنوا الظن بالموت واحفظوا جيداً هذه الحقيقة وهي أنه لا يمكن لأي شر أن يلحق برجل صالح سواء في حياته أو بعد الموت”
أنتم أصدقائي لذلك سأريكم ما اعتقد أنه العبرة مما حدث لي:
وسأحدثكم هنا عن أمر رائع يتعلق بالصوت الخفي الذي حدثتكم عنه وهو الوحي الذي غالباً ما يعارضني في كل مرة أهمّ فيها لعمل أمر معين تشوبه شائبة، هذا الصوت يعارضني أحياناً عندما أكون على وشك ارتكاب ولو هفوة صغيرة، الغريب في الأمر أن هذا الصوت لم يتدخل أبداً اليوم ولم يعارضني في أي أمر منذ أن خرجت من البيت متوجهاً إلى هذه المحكمة، وعندما صعدت درجات المبنى، وكم من مرة اعترضني فيها الصوت عندما أكون في حديث، لكنه اليوم لم أجد منه أي اعتراض. فما الذي أفهمه من ذلك؟ سأقول لكم إن ذلك برهان على أن ما حصل لي اليوم هو خير وأن اولئك الذين من بيننا يظنون بأن الموت شر هم مخطئون، إذ إنه لو كان الموت كذلك فإن الصوت المعتاد الذي يعارضني في كل أمر سيىء كان سيعترضني في ما وصلت إليه.
إن هناك سبباً رئيسياً يجعلنا نأمل بأن الموت فيه خير لأن الموت هو واحد من أمرين: إما أن يكون حالة من العدم وانعدام الشعور بأي شيء أو أنه كما يقول الكثيرون مجرد تحول من حال إلى حال وأنه بمثابة رحلة الروح من هذا العالم إلى عالم آخر. فإن كان البل عظيمموت عبارة عن نوم عميق لا تعكّره حتى الأحلام فإن ذلك سيكون امراً جيداً عظيماً، لأن الأزل سيكون عندها بمثابة ليلة نوم واحدة، وإذا كان الموت على العكس من ذلك هو انتقال الروح إلى مكان آخر فأي شيء سيكون أفضل من هذا أيها الأصدقاء.
ختم سقراط بالقول: أيها القضاة، أريدكم أن تحسنوا الظن بالموت واحفظوا جيداً هذه الحقيقة وهي أنه لا يمكن لأي شر أن يلحق برجل صالح سواء في حياته أو بعد الموت، فمثل هذا الشخص لا تتخلى عنه الآلهة، وأعلموا أيضاً أن نهايتي التي تقترب ليس في حدوثها أي مصادفة، وأنا أرى أن موتي وخلاصي من هذا الجسد هما أفضل لي ولهذا فإن الصوت الخفي داخلي لم يعارض ما حصل. ولهذا السبب أيضاً فإنني لست غاضباً من الذين اتهموني وحكموا علي ، فهم لم يتسببوا لي عملياً بأي ضرر وهذا رغم أن أياً منهم لم يرد بي خيراً، وعلى هذا فإنني ألومهم بشيء من اللطف.
لقد حان وقت الافتراق وكل منا يذهب في طريق:انا في طريقي الى الموت وأنتم إلى الحياة، يا ترى ما هو الطريق الأفضل؟ الله وحده يعلم الجواب.