الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, نيسان 19, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

صورة من التراث

صورة من التراث

صورة من التراث
صورة من التراث

الامير فخر الدين

“عرض دوق نابولي على فخر الدين حكماً على مقاطعة تزيد مساحتها عما كان له شرط تغيير دينه، والدخول في المسيحية، فرفض فخر الدين العرض،”

“السلطان العثماني مراد خان الرابع استعاد للدولة قوتها وجعل أول أهدافه إنهاء نفوذ فخر الدين الذي طال أمده وتحجيم الولاة وتقصير ولاياتهم”

فخر الدين الثاني
الطموح المظلوم

المعنيون مسلمون على مذهب التوحيد قبل مجيئهم لبنان
لكنهم تبنوا موقفاً متسامحاً تجاه كافة الطوائف الأخرى

عوامل القوة التي ساعدت على اتساع ملك فخر الدين

توحيد السكان وبناء جيش ضخم وتنمية الاقتصاد
وتقوية التحالفات وحسن الإدارة ومداراة العثمانيين

انتصار فخر الدين على والي دمشق في معركة عنجر
كان أهم موقعة خاضها أمير من لبنان في تاريخه الطويل

من أمير لمقاطعة الشوف إلى حاكم لكل لبنان
ولمناطق جغرافية واسعة من سوريا وفلسطين

في أول مساهمة مفصّلة من نوعها يتولى المؤرخ المدقق الدكتور حسن أمين البعيني تصحيح التأريخ الملفّق والملتبس للأمير فخر الدين الثاني المعني الكبير وهو يعرض في هذا المقال، وفي ضوء البحث التاريخي العلمي، لحقيقة الأمير كقائد فذ وكمؤسس لأول كيان لبناني متكامل سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في ظل السلطنة العثمانية مؤكداً هويّة الأمير الإسلامية الدرزية وبراءته من أي شبهات تعامل مع الإمارات الأوروبية، وشارحا في الوقت نفسه العوامل التي أدت إلى نكبة الأمير والأسرة المعنية على يد السلطان مراد خان العثماني.

لا تكفي للإحاطة بجميع جوانب حياته وتاريخه الحافل بالأحداث والإنتصارات والإنجازات على مدى 43 سنة من تسلّمه الإمارة المعنية، كما إن الحديث عن جانب معيّن من شخصيته وتاريخه يكون محدوداً جدّاً. وبناءً على ذلك سيقتصر الحديث فقط على نقاط محدّدة، هي أبرز المحطات التاريخية، وتوضيح الإشكاليات، وتصويب الأخطاء، وجلاء الغوامض، والقضايا الخلافية حول فخر الدين ورمزيته.

الأصل والنسب
إعتماداً على أسماء الأمراء المعنيين وتسلسلهم، هناك ثلاثة أمراء يحملون الإسم “فخر الدين”، أو الصفة أو الكنية “فخر الدين”. أولهم فخر الدين عثمان المتوفّى سنة 1506م، الذي أخطأ من جعلوه فخر الدين بن عثمان، وهو باني جامع دير القمر سنة 1493 حسبما هو منقوش على بلاطة في مئذنة الجامع، وكنيته أو صفته “فخر الدين” هي مضافة إلى إسمه “عثمان” كالكثيرين من الرجال سابقاً، ولا سيما الأعيان، إذ كان يُعطى لأحدهم صفة أو كنية من لفظتين، ثانيّتهما هي، على العموم، “الدين” أو “الدولة”، مثل ركن الدين بيبرس، وجمال الدين حجى، وجمال الدين محمد، وشرف الدولة علي. وثاني الأمراء المعنيين هو فخر الدين المتوفّى سنة 1544، وهو والد قرقماس. وقد يكون إسم فخر الدين هذا هو الإسم كاملاً، أو كنية تسبق إسماً لا نعرفه. وثالثهم فخر الدين بن قرقماس. وبناءً على ذلك يكون فخر الدين بن قرقماس بن فخر الدين، الذي نتكلم عنه، هو الثاني بالنسبة إلى جده فخر الدين، والثالث بالنسبة إلى جده وإلى فخر الدين عثمان، لكنه مشهور بفخر الدين الثاني نسبة إلى جده، مع العلم أن الإسم “فخر الدين” حين يُكتب أو يُلفظ يتجه دائماً إليه دون غيره، نظراً لشهرته وأهميته.
الأمير فخر الدين من عشيرة عربية عدنانية، أي من القبائل القيسية، ومن العرب المستعربة. إنه ينتسب إلى الأمير معن بن ربيعة، المتسلسل من العرب الأيوبيين المتسلسلين من ربيعة الفَرَس بن نزار بن معد بن عدنان المتحدّر من نسل إبراهيم الخليل. وقد نزح أجداد المعنيين من جهات نجد، في الجزيرة العربية، إلى الجزيرة الفراتية، ومنها إلى جهات حلب حيث قطنوا في الجبل الأعلى (جبل السمّاق) ومنه انتقلوا إلى جبل لبنان. أما سبب تسميتهم بالأيوبيين، فهي لا تمت بصلة إلى الأيوبيين الأكراد، وإنما هي نسبة إلى أحد أمرائهم: أيوب. سلسل المؤرّخ طنّوس الشدياق، المتوفّى سنة 1861، الأمراء المعنيين بدءاً بسنة 1120م (تاريخ قدومهم إلى لبنان) فذكر إعتماداً، على الأرجح، على سجل نسب خاص بهم، 16 أميراً توارثوا الإمارة المعنية قبل فخر الدين، كما ذكر أسماء أبناء فخر الدين وأبناء وأحفاد أخيه يونس وصولاً إلى آخر أمير معني من الأسرة الحاكمة، وهو الأمير أحمد، المتوفّى بدون عقب سنة 1697 1.
ظهرت مؤخّراً مقولتان عن نسب المعنيين وفخر الدين، مبنيّتان على إستنتاجات خاطئة، وأدلّة غير مقنعة، أولاهما نسبتهم إلى التنوخيين والقول بفخر الدين المعني التنوخي، وثانيتهما نسبتهم إلى آل علم الدين الرمطونيين، التي قال بها بولياك2، أو إلى الأمير معن جد آل علم الدين هؤلاء الذين هم من آل عبدالله المنسَّبين إلى التنوخيين بالمصاهرة. وقد دُعوا بإسم آل علم الدين نسبةً إلى جدهم علم الدين سليمان بن علم الدين معن، ودُعوا بالرمطونيين نسبة إلى قرية رمطون الدارسة، الواقعة في شحّار الغرب على يمين مجرى نهر الدامور، وقدأقاموا فيها من أوائل الربع الأخير للقرن الثالث عشر إلى أن خربت في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي.
إن المعنيين ليسوا على الإطلاق من التنوخيين ليقال عن فخر الدين المعني إنه تنوخي، ولو كانوا كذلك لورد، على الأقل، ما يفيد عن تنوخيتهم عند مؤرّخين توسّعا في الحديث عن التنوخيين، وهما صالح بن يحيى المتوقّف عن الكتابة سنة 1453م، وإبن سباط المتوقّف عن الكتابة سنة 1520م. وكل ما ذكره إبن سباط عن المعنيين هو وفاة الأمير فخر الدين عثمان المعني سنة 1506.
وإن المعنيين ليسوا من آل علم الدين الرمطونيين، ولا ينتسبون إلى أحد اجدادهم معن، لأن هذا (واسمه الكامل علم الدين معن) هو إبن معتب الذي يعود في نسبه إلى الطوارقة الذين هم فخذ من آل عبدالله، وأجداده وأبناؤه معروفون ومذكورون في تاريخي صالح بن يحيى وإبن سباط حتى سنة 1520 وليس بينهم أي أمير معني3، ثم إن أحفادهم مذكورون في التواريخ بعد ذلك حتى نهاية آل علم الدين في موقعة عين داره سنة 1711.
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن المعنيين قيسيون وقد تزعّموا القيسيين في لبنان، وأنهم ينتمون إلى جدهم الأعلى عدنان، وأن التنوخيين وآل علم الدين يمنيون ينتمون إلى جدهم الأعلى قحطان، ويتسلسلون من الملوك المناذرة اللخميين الذين حكموا في الحيرة.
وإذا كان النسب لا يجمع بين المعنيين وبين التنوخيين وسائر المناذرة، فإن هناك ما يجمعهم غير ذلك، وهو ثلاثة عوامل، أولها المجاورة في السكن في جهات الجبل الأعلى (جبل السمّاق) والسكن في جبل لبنان الجنوبي. وثانيها التحالف والجهاد ضد العدو المشترك الفرنجة، والتحالف في المرحلة الأخيرة من نهاية الإمارة التنوخية. وثالثها المصاهرة التي من وجوهها في القرن السادس عشر زواج الأمير قرقماس (والد فخر الدين) من الأميرة نسب التنوخية، وزواج فخر الدين من إبنة الأمير جمال الدين الأرسلاني.
كان فخر الدين يخاطب شيخ مشايخ الموحِّدين (الدروز) أو رئيسهم الروحيّ،الشيخ بدر الدين حسن العنداري، بالقول: يا خالي، لا لأنه شقيق والدته الأميرة نسب، وإنما لأنه من عشيرة معتبرة تنوخية بالمصاهرة، وذلك جرياً على المألوف في الماضي، والمتداول عند البعض اليوم، وهو قول الواحد من عشيرة للواحد من أخرى: يا خالي، إذا كانت أمه من هذه العشيرة.
ومن الأساطير والتزويرات في تاريخ لبنان عموماً، وفي تاريخ الأمير فخر الدين تحديداً، تنسيب فخر الدين إلى الفرنجة (الصليبيون)، وقد جاء ذلك أولاً في رسائل وتقارير رهبان المدرسة المارونية، وغيرهم من العاملين في الثلث الأول للقرن السابع عشر على إدخال فخر الدين في مشروع حملة أوروبية لإحتلال الأماكن المسيحية المقدّسة في فلسطين، وجاء في رسائل البابا المبنية على الرسائل والتقارير المذكورة وفي كتابات بعض المؤرّخين الأوروبيين. وهذا النسب المبتدع لفخر الدين المعني، على خلفية دينية واستعمارية، يعيده إلى غورفرو دي بويون، أول ملوك الفرنجة (الصليبيون) على مملكة بيت المقدس المؤسّسة في تموز 1099 بعد احتلال الفرنجة للقدس.

بعقلين القديمة في أواخر القرن التاسع عشر
بعقلين القديمة في أواخر القرن التاسع عشر

“الأمير فخر الدين عدناني قيسي نزح أجداده من نجد واستقروا في جبل السماق قبل انتقالــــهم إلى جبل لبنان”

فخر الدين المسلم الدرزي
الأمير فخر الدين درزي إبن درزي، لكنه أيضاً إرث وطني. وما الحديث هنا عن درزيته ودرزية أسرته المعنية إلا من قبيل ذكر الحقيقة التاريخية من ناحية، لأن هذا أخذ حيّزاً في كتابات بعض المؤرّخين المحليين والأجانب، ومن قبيل تبيان دوره ودور الموحِّدين (الدروز) في تكوين لبنان، وفي صنع تاريخه، من ناحية أخرى.
من الطبيعي أن يكون إعتناق المعنيين لمذهب التوحيد (مذهب الدروز) قد حصل إبّان وجودهم في جهات الجبل الأعلى (جبل السمّاق) قبل إنتقالهم إلى لبنان في سنة 1120م، ذلك أن الدعوة إلى مذهب التوحيد توقّفت في سنة 1047م، ولم يعد ممكناً الدخول فيه بعد هذه السنة. ومن الأدلة على درزية فخر الدين، ودرزية المعنيين، ما يلي:
1. إن بعقلين هي مكان ولادة فخر الدين في سنة 1572، ومركز إمارته في البداية، ودير القمر هي مركز إمارته بعد بعقلين. وكلا البلدتين مقّرا المعنيين منذ قدومهم إلى لبنان. وجداول الإحصاء العثمانية بين سنتي 1519، 1569 تظهر أن في بعقلين 119 متزوجاً وأعزباً جميعهم دروز، وأن في دير القمر 156 متزوجاً وأعزباً جميعهم من الدروز أيضاً. فهل يعقل أن يكون على بلدتي بعقلين ودير القمر المسكونتين بالدروز فقط، وعلى محيطهما المسكون بأكثرية درزية ساحقة، أمير غير درزي، مع الإشارة إلى أن الإحصاء المشار إليه متزامن مع نشأة قرقماس (والد فخر الدين) وفترة تسلمه الإمارة على الشوف.
2. إن والدة الأمير فخر الدين هي الأميرة نسب التنوخية، والتنوخيون غير مشكوك بدرزيتهم وحرصهم على التزاوج فقط مع الأسر الدرزية. يُضاف إلى ذلك أن جداول الإحصاء العثمانية التي ورد ذكرها تظهر أن في قريتهم عبيه 88 متزوجاً وأعزباً جميعهم دروز.
3. إن الوثائق العثمانية التي تعود إلى أواخر القرن السادس عشر، وإحداها مرسلة إلى والي دمشق بتاريخ 12 شباط 1585، تتكلم عن الأمير قرقماس (والد فخر الدين) فتقول: “إنه من طائفة الدروز مقدّم عاصٍ”4.

4. إن المحبّي المتوفّى سنة 1111هـ (1699م) يذكر عن فخر الدين أنه “إبن قرقماس بن معن الدرزي”5، كما إن المرادي المتوفي سنة 1206هـ (1791م) يذكر عن الأمير حسين إبن الأمير فخر الدين أنه “إبن قرقماس بن معن الدرزي”6.
5. إستمرار من تبقىّ من المعنيين، (المغيَّبين من التاريخ بناءً على مقولة إنقراض المعنيين في سنة 1697) في قرية إبل السقي, في الجنوب اللبناني، كانوا على مذهب التوحيد الدرزي حتى إنقراضهم في سنة 1963، تاركين في هذه القرية ما يذكّر بهم وبدرزيتهم، وهو الخلوة المعروفة بإسم “الخلوة المعنية”، واستمرار الوجود المعني (المغيّب من التاريخ أيضاً بناءً على المقولة المذكورة) ممثَّلاً بأسرة درزية تحمل إسم “آل معن” موجودة حتى اليوم في عرنة والريمة من سورية، وفي المعروفية وغريفه من لبنان7.
أخطأ بعض المؤرّخين في تحديد مذهب المعنيين، ومنهم طنّوس الشدياق الذي ذكر أنهم إسلام دون تحديد واضح لمذهبهم، بيد أننا نستشفّ من كلامه أنهم عنده على مذهب إسلامي غير المذهب الدرزي، لأنه قال عن التنوخيين وآل العماد وآل نكد وآل تلحوق وآل عبد الملك وآل حصن الدين إنهم دروز، وذلك في كتابه “اخبار الأعيان في جبل لبنان”. وفي قوله إن المعنيين إسلام وإن الأسر التي ورد ذكرها درزية، تمييز للدروز عن سائر المسلمين وجعلهم غير مسلمين، في الوقت الذي يعتبرون أنفسهم ويعتبرهم سائر المسلمين، مسلمين . فالمعنيون مسلمون دروز، وفخر الدين هو أمير مسلم درزي.
ومن غرائب الأمور أن تتلازم أسطورة النسب الفرنجي لفخر الدين، التي ورد ذكرها، مع أسطورة دينه المسيحي الذي كان له في الأصل، بناءً عليها، وقد تخلّى أجداده الفرنجة عن هذا الدين بعد هزيمتهم في حطّين سنة 1187م، ولجوئهم إلى الجبال وعيشهم في وسط درزي. ثم إن مؤدلجي التاريخ إبتدعوا أسطورة عودة فخر الدين إلى المسيحية، بتنصّره في سنة 1633، وبوجود صليب في صدره عند إعدامه سنة 1635(!)
وإذا كانت درزية فخر الدين حقيقة لاشك فيها، فإن هناك حقيقة أخرى ملازمة لها، تكمن في نهجه، وهو أنه كان مسلماً درزياً متسامحاً لا يمّيز بين أتباع الطوائف والمذاهب داخل إمارته، وكان متجاوزاً الحدود الطائفية والمذهبية والمناطقية والقواعد الموضوعة في التعاطي بين أتباع المذاهب، وهو لم يحصر نفسه في الإطار التقليدي الذي حصر فيه انفسهم – قبله وبعده- العديد من الزعماء الدروز، فكان هذا مبعثاً لعظمته وانتشار نفوذه. وهو أيضاً لم يجار السواد الأعظم من قومه المحافظين الذين يشدّدون على حصر التزاوح فقط بين المسلمين الدروز، بل تزوّج وزوّج أبناءه من سائر المسلمين، وتعاطى في موضوع الزواج من زاوية المصلحة الشخصية والسياسية. وقد عُرف عن أجداده تزاوجهم مع حلفائهم الأمراء الشهابيين، لكنه هو تزاوج مع آل سيفا وآل حرفوش إضافة إلى الشهابيين، وذلك لتعزيز شبكة التحالفات التي أنشأها لتقوية وضعيه السياسي والعسكري.

“أكبر عملية تزوير أرجعت نسب فخر الدين إلى الصليبيين وزعمت تنصره مجدداً وأدخلته ضمن مشروع حملة أوروبية لإحتلال الأماكن المسيحــــية المقدّسة في فلسطين”

خطأ مقولة نشأة فخر الدين في كسروان
حين كان فخر الدين في الثالثة عشرة من عمره، قدمت في سنة 1585 حملة والي مصر العثماني إبراهيم باشا (وهو بالطبع غير إبراهيم باشا المصري) إلى جبل لبنان لإحكام السيطرة العثمانية عليه، وتحصيل الضرائب التي امتنع الدروز عن أدائها كونها باهظة لا قدرة لهم على دفعها، وجمع البنادق الحربية التي إمتلكوها وكانت أطول من بنادق الجيش العثماني. وما قيل عن أن سبب هذه الحملة هو حادثة جون عكار، حيث جرى سلب الأموال المرسلة من مصر إلى خزينة السلطان العثماني في الآستانة، ما هو إلا زعم أثبتت بطلانه الوقائع التاريخية.
نتج عن هذه الحملة مقتل خمسمائة أو ستمائة شيخ درزي غدراً في معسكر إبراهيم باشا في عين صوفر، جاؤوا لمقابلته والتفاوض معه، كما نتج عنها تدمير وإحراق ونهب قرى جبل لبنان الجنوبي، وخصوصاً تلك القريبة من عين صوفر، وموت الأمير قرقماس (والد فخر الدين) في قلعة شقيف تيرون (قلعة نيحا) بعد أن رفض المثول أمام القائد العثماني خوفاً من غدره، وفضّل الإلتجاء إلى القلعة والإحتماء بها. فتسلّم الإمارة المعنية بعده أخو زوجته نسب، الأمير سيف الدين التنوخي، مقابل مبلغ من المال قدّمه للقائد العثماني, وقسّم إقامته بين عبيه مركز إمارته، وبعقلين مركز إمارة صهره قرقماس. وقد ذكر البطريرك إسطفان الدويهي (1630- 1704) أن الأمير سيف الدين التنوخي “أخذ إلى عنده للشوف إبني شقيقته الأميرين فخر الدين ويونس. وبعد ست سنوات، رجع إلى عبيه في الغرب وولّى الأمير فخر الدين على الشوف”8.
من هذا الكلام الصادر عن مؤرّخ قريب للحدث نستنتج أن فخر الدين وأخاه عاشا في كنف خالهما الأمير سيف الدين التنوخي، وتحت رعاية والدتهما الأميرة نسب، إلا أن هناك أدلجة للتاريخ، بإختلاق مقولة نشأتهما في كسروان، وبحسب الرواية الخازنية، عند آل الخازن في بلّونة حيث تربيا هناك، وأول من أورد المقولة المختلقة هو المؤرّخ الإيطالي جيوفاني ماريتي الذي ذكرها في كتابه: “تاريخ الأمير فخر الدين”9. وتبنّاها القسّ حنانيّا المنيّر في كتابه: “ الدر المرصوف في تاريخ الشوف”10. وحذا حذوه طنوّس الشدياق في كتابه: “ أخبار الأعيان في جبل لبنان”11. وتبنّى مؤّرخون كثيرون، معظمهم موارنة، هذه الرواية على خلفية سياسية وطائفية مفادها ان الأمير الدرزي فخر الدين نشأ في بيئة كسروانية خازنية، وبيئة ثقافية مارونية. وهذا ما أرسى في نظرهم لعلاقة مستقبلية بينه وبين آل الخازن، وأعاد للموارنة فضل تنشئة أكبر حاكم عرفه لبنان، وفضل خلق صفة التسامح عنده مع النصارى من قبيل ردِّ الجميل لمن ربوّه.
إن كل ما ورد عن نشأة فخر الدين في كسروان مختلق وغامض، ومليء بالتناقضات والأخطاء، وبالإختلافات بين أسماء المربّين المزعومين لفخر الدين. ومن الإختلافات، مثلاً جعل الحاج كيوان مربّياً للأمير فيما لم يعرفه الأمير إلا بعد تسلّمه الإمارة، وقد جعلته الرواية المختلقة مسيحياً من أسرة نعمة ضو المارونية التي توطّنت دير القمر فيما هو مسلم حجَّ مرتين، ومن الإنكشارية، ومن خارج لبنان. ويكفي للدلالة على إختلاق هذه الرواية ما ذكره البطريرك الدويهي ووردت الإشارة إليه، وهو أنه أتى بإبني شقيقته منذ سنة 1585 إلى الشوف. ثم إن مؤرّخ تاريخ الأمير فخر الدين (الشيخ الخالدي الصفدي) لم يشر إلى شيء مما تضمنته، وإن طبيبه الأب روجيه الذي ألف كتاباً إسمه “فخر الدين أمير لبنان” لم يشر إلى ذلك. كما إن المؤرّخ الفرنسي لوران دارڤيو الذي أقام في الشرق وزار صيدا سنة 1658، ومكث فيها اكثر من سبع سنوات، قال في مذكراته إن فخر الدين عاش في كنف خاله حتى أصبح مؤهّلاً أن يحكم بنفسه.12
تجدر الإشارة أخيراً إلى أن المقولة الخاطئة عن لجوء فخر الدين إلى كسروان متخفياً، وبقاءه فيها مختبئاً عن أعين العثمانيين، تخالف مقولة أكيدة، وحقيقة مسلّماً بها، وهي تسلّم خاله سيف الدين التنوخي الإمارة المعنية، وحفاظه عليها مدة خمس سنوات، وتجعل هذا الأمير الذي حكم الشوف والغرب عاجزاً عن حماية إبني شقيقته، وهذا من المسائل التي تثير الدهشة، ولا يقبلها عقل راجح.

بطريرك ماروني -إلى اليسار- وأحد رجال الدين الموارنة في عهد فخر الدين
بطريرك ماروني -إلى اليسار- وأحد رجال الدين الموارنة في عهد فخر الدين

تسلّم الإمارة وأسس بنائها
عاش فخر الدين بعد موت والده ست سنوات في كنف والدته الأميرة نسب، وخاله الأمير سيف الدين التنوخي. تعلّم الصبر والإيمان والحكمة من والدته التي ظلّت طوال حياتها مواكبةً له، ومرشدة في القضايا المهمة والمصيرية. وتعلّم من خاله إدارة شؤون الحكم، وكيفية التعاطي مع الولاة والقادة العثمانيين، حتى إذا كبر وتسلّم الإمارة في سن الثامنة عشرة، كان بفضل هذه الخبرة التي إكتسبها، وبفضل مهاراته الذاتية، مؤهّلاً للقيادة، ولتسيير شؤون الإمارة، ولإنطلاقة موفّقة في مسيرته الطويلة الناجحة.
بعض المراجع ذكر أن المعنيين أقاموا بعد قدومهم إلى لبنان في دير القمر أولاً، وبعضها الآخر ذكر أنهم أقاموا أولاً في بعقلين، ما جعل هاتين البلدتين مقرّ المعنيين في الشوف، وما جعل المعنيين فرعين، أشهرهما وأهمهما الفرع المقيم في بعقلين. وبعد أن توفي الأمير قرقماس لم يبقَ من المعنيين في الشوف سوى ولديه: فخر الدين ويونس، ذلك أن سائر الأمراء المعنيين تركوا الشوف عند قدوم حملة إبراهيم باشا سنة 1585، وأقاموا في إبل السقي في جنوب لبنان، ومنهم تحدّر المعنيون المعروفون بإسم آل علم الدين المعنيين. وبناءً على ذلك ورث فخر الدين وأخوه البيت المعني في بعقلين، والبيت المعني في دير القمر.
حين جاء فخر الدين من عبيه إلى الشوف لتسلّم الإمارة لاقاه أنصاره من القيسيين في السمقانية، وحوربوا له بهتافهم المعهود، وساروا معه إلى بعقلين، حيث بدأ حكمه فيها، واتخذها مقراً له. لكنه في سنة 1613، وقبل سفره إلى أوروبا، أمر أخاه يونس أن يقيم في دير القمر ويتولّى الأحكام فيها. وبعد أن عاد من أوروبا سنة 1618 إتخذ دير القمر مقرّاً له، لأنها كانت في ايامه أكبر من بعقلين، ولوقوعها على طريق رئيسة تنطلق من ساحل الدامور نحو البقاع، ولأن فيها نبع “الشالوط” الغزير نسبياً، الذي يؤمّن حاجة المقيمين فيها، فيما تفتقر بعقلين إلى المياه، إذ إن نهرها بعيد عنها، وليس فيها سوى عيون شحيحة أقربها “عنج النحلة” وعين حزّور” وهي تعوّض عن قلة المياه بالآبار.
إن البيت الذي وُلد فيه فخر الدين في بعقلين كان المقرَّ الأول لإمارته، ومقر إمارة ابيه وأجداده، وقد ظل قائماً إلى أواسط القرن العشرين، حين أزيل في أواخر عهد رئيس الجمهورية بشارة الخوري، لتوسيع الشارع الرئيس وسط البلدة. ولو أبقي عليه لكان معلماً يشير إلى وجود المعنيين في بلدةٍ هي مهدهم، ولكان مع التمثال الذي أقيم لفخر الدين على مسافة قريبة منه في باحة المكتبة الوطنية (سراي بعقلين سابقاً) معلمين أثريين يضافان إلى معالم بعقلين الأثرية، ومنها آثار معنية. وفي الواقع إن الحفاظ على بيت فخر الدين كان ضرورة تاريخية تراثية حتى لو اقتضى الأمر تحوير الطريق، وهدم عشرات البيوت بدلاً عنه، ودفع المبالغ الباهظة.
منذ أن تسلّم فخر الدين الحكم وهو في سن الثامنة عشرة أبدى مقدرةً في تسيير شؤون الإمارة، كانت تزداد مع تمرّسه بها، ومع مواجهته للتحدّيات المتتابعة. كان رجلاً طموحاً، ومستنيراً، وذكياً حكيماً يتقن فن السياسة وفن الحرب، ولا يتورّع عند الحاجة عن إستعمال أساليب عصره في المناورة والمداهنة والمؤامرة. عمل على توسيع إمارته وتقويتها والنهوض بها في شتّى المجالات، معتمداً الأساليب التالية:
– توحيد سكان الإمارة، لأن الوحدة بين مكوّناتها هي الأساس في بنائها والنهوض بها، وتحصينها ضد العوامل الخارجية.
– بناء جيش قوي جعله فخر الدين من عناصر وطنية، ومن المرتزقة السكمان، أو السكبان، تراوح عدده تبعاً لتوسَع مناطق نفوذه وشبكة تحالفاته. وقد وضع بعضه في القلاع، وزوّده بالأسلحة الحديثة بما في ذلك بعض المدافع.
– النهوض بالزراعة والصناعة، والتوسّع في العلاقات التجارية مع الخارج.
– ضبط الأمور الإدارية والمالية مما سهّل تنظيم الضرائب وجبايتها، ودفع المترتّب منها للدولة العثمانية دون تأخير، كما ساعد على منح الآستانة للأمير المزيد من الإلتزامات داخل لبنان وخارجه، وعلى سكوتها عن توسّعه.
– تحاشي الإصطدام مع الدولة العثمانية، والمحافظة على إنتظام العلاقات معها ، وتوسيع الإمارة وتقويتها دون إغضابها .

خارطة إمارة فخر الدين في أقصى توسعها
خارطة إمارة فخر الدين في أقصى توسعها

توحيد السكان
لم يكن المعنيون يمنيين ثم تزعموا القيسيين كما جاء في بعض المراجع، وإنما هم في الأصل قيسيون، وزعماء القيسيين في جبل لبنان، ومن أبيات الحداء المتقادمة التي كانت تُنشد في أيامهم، وتؤكّد قيسيتهم، البيتان التاليان:
نــــــــحنـــــــــــــــا عـــزاز بــــــــــحــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا بــــــــــــــــــــــــالحــــــــــــــــرب صــعـــــــــــــــــــــــب مــــــــنــــــــــــــــــــالنــــــــــــــــــــــــا
مــــــــــــــــــــن بيــــــــــــــــــــت قيــــــــــــــــــــــس ســيوفنــــــــــــــــــــا ومــــــــــــــــــــن بيــــــــــــــــــــت معـــــــــــــــــــــــن رجــــــــــــــــــــالنــــــــــــــــــــا
كان هذان البيتان من حداء القيسيين وهم يتأهبون للحرب، أو يذهبون إليها. وكان هتافهم “الهوبرة” التي هي، لفظة “هو البار” أي هو الباري بمعنى هو الله. وكان شعارهم الموضوع على علمهم الأحمر اللون: السوسن، أما هتاف اليمنيين فكان “يا المعروف” وأصلها: يا آل معروف، وهذه اللفظة هي لقب الموحِّدين (الدروز) المحبّب إليهم. وكان شعار اليمنيين الموضوع على علمهم الأبيض: زهرة الخشخاش. وقد أراد فخر الدين أن يوحّد أتباع الحزبين: القيسي واليمني، ومما فعله في هذا الصدد الجمع في علمه بين لوني علميهما: الأحمر والأبيض.
ظهرت ملامح غرضية جديدة في عهد فخر الدين، كانت جذور الغرضية اليزبكية- الجنبلاطية. وهذه الملامح نجدها في النزاع الذي نشأ بين الشيخ يزبك إبن عبد العفيف جد آل العماد، والشيخ جنبلاط. لكن فخر الدين سجن الشيخ جنبلاط في قلعة شقيف أرنون، وأنصف خصمه الشيخ يزبك، وأعطاه حكم بلاد صفد سنة، وبلاد بشاره سنة13. فلم يقوَ شأن هاتين الغرضيتين في أيامه، وإنما عاد وقوي شأنها في العهد الشهابي في صفوف القيسيين بعد نهاية الغرضية اليمنية.
وكما عمل فخر الدين على الجمع بين أتباع الغرضيتين: القيسية واليمنية لتوحيد سكان الإمارة، هكذا عمل على الجمع بين أبناء المناطق المختلفة، وأبناء الطوائف والمذاهب المتعدّدة. وقد كان له من تراثه الدرزي ذي الجذور الإسلامية ما يساعده على ذلك، إذ إن الدروز يتصفون بالتسامح السياسي والإجتماعي، ولا يعملون في المجال الديني على زيادة أعدادهم، لأن مذهبهم ليس مذهباً تبشيرياً كسائر المذاهب الدينية. وقد تجاوز فخر الدين الإطار الضيّق، الذي حصر فيه أنفسهم الكثير من الزعماء التقليديين الدروز، إلى الإطار الإسلامي الواسع الذي هو الإطار الطبيعي للدروز.
رأى فخر الدين أن العنصر المسلم الدرزي، الذي يشكّل الأكثرية الساحقة من سكان جبل لبنان الجنوبي بحاجة إلى عنصري الإدارة والعمل المتوافرين عند مسيحيي جبل لبنان الشمالي، فشجّع إنتقالهم إلى المتن والجرد والغرب والشوف، كما إنتقل إلى هذه المناطق نازحون مسيحيون من حوران وشمال سورية. وقد إستفاد فخر الدين من خبرتهم في الإدارة، ومن أيديهم العاملة والمهنية في إحياء الأرض الموات، وزيادة المساحة الزراعية وحسن إستغلالها، وفي تأمين حاجات الدروز إلى الحرف الضرورية يوم كانوا منصرفين إلى القتال والتمرّس بفنون الفروسية.
من الخطأ النظر إلى ما قام به فخر الدين من زاوية الإضطرار إلى تلبية حاجة المجتمع الدرزي إلى الأيدي العاملة والحرفية، فقط، بل إن ما قام به كان أيضاً من قبيل التسامح، ذلك أنه لم يتقيّد في معاملة المسيحيين بما كان معمولاً به آنذاك، وهو أن يسيروا إلى يسار المسلم، ولا يركبوا الخيل بسروج، وأن يلبسوا ما يميّزهم عن المسلمين. وفي هذا الصدد يقول البطريرك إسطفان الدويهي ما يلي:
“وفي دولة الأمير فخر الدين إرتفع رأس النصارى لأن أغلب عسكره كانوا نصارى وكواخية وخدامة موارنة. فصاروا يركبون الخيل بسروج ويلفّون شاشات وخرور ويلبسون طوامين وزنانير مسقّطه ويحملون البندق والقفاص المجوهرة. وفي أيامه تعمرّت الكنايس في بكفيا والعربانية وبشعله وكفرزينا وكفرحلتا، وقدموا المرسلين من بلاد الفرنج وأخذوا السكنة في البلاد”14.
ومن وجوه معاملة فخر الدين الحسنة للنصارى إعطاؤهم قرية مجدل معوش في الشوف، التي إشتراها إبنه علي من أهلها السنّة، والسماح للبطريرك يوحنا مخلوف الإهدني الماروني بالسكن فيها وبناء دار وكنيسة. وقد بلغت أخبار معاملة فخر الدين الحسنة للنصارى البابا بولس الخامس فكتب في 16 كانون الثاني 1609 إلى الأمير يشكر له عطفه على المسيحيين، خاصة الموارنة وما أتاه أخيراً في سبيلهم، “ وحثه ثانياً وثالثاً أن يواصل رعايته لأولاده المسيحيين وخاصة الموارنة”15.
قبل فخر الدين بعدة قرون كان النصارى جيران أجداد الموحِّدين الدروز، ثم جيرانهم في بدايات توّطن الفريقين لبنان: النصارى – وهم الأسبق بقليل إلى سكن لبنان– يقيمون في كسروان الذي كان يمتدُّ جنوباً حتى نهر بيروت، وأجداد الموحِّدين الدروز يقيمون إلى الجنوب منهم. وقد نشّبت بين الفريقين المواقع التي أّدّت إلى إنكفاء النصارى بإتجاه الشمال، وبعد ذلك إنحصر وجودهم في جبل لبنان الشمالي. وفي إستقدام فخر الدين لهم إلى جبل لبنان الجنوبي، وتشجيعهم على النزوح إليه، هو طيٌّ لصفحة العداء الذي إستمر من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر الميلادي، ونقلٌ لصيغة المجاورة بالسكن إلى صيغة العيش الدرزي النصراني المشترك، التي قامت عليها لقرون الثنائية السياسية الدرزية النصرانية، وخصوصاً المارونية. وهذا العيش المشترك حصل في جبل لبنان الجنوبي الذي يحمل إسم “جبل الدروز” لأن الأكثرية الساحقة من سكانه حتى القرن الثامن عشر كانت من الموحِّدين (الدروز). وبالتقاء هذين المكوّنين الرئيسين لجبل لبنان وُضعت أسس كيان لبنان الذي ستلتقي فيه معهما سائر المكوّنات، وقد إستمّرا في العيش معاً، وفي قرى مختلطة، بالرغم من حصول الأزمات والفتن بينهما، مما يدلُّ على أن قدرهما ومصلحتهما أن يعيشا معاً.

شجرة أمراء آل معن

“فخر الدين وشقيقه يونس كانا في رعاية خالهما الأمير سيف الدين التنوخي خلال حملة التأديب العثمانية وقصة تعهدهما من آل الخازن في بلونة مختلقة بالكامل”

التوسّع الذي تجاوز الحدود
تقترن أهمية الإمارة المعنية، منذ قيامها في الربع الأول من القرن الثاني عشر الميلادي حتى نهايتها في سنة 1697، بإسم الأمير فخر الدين، ولولاه لكانت محدودة الأثر والدور، فبه كبرت، وبنهايته ضعفت، ثم ما لبثت أن إنتهت بعد 62 سنة من موته. لقد توسّعت في عهده وتجاوزت حدودها السابقة حتى شملت كل أراضي لبنان اليوم، كما تجاوزت حدود لبنان إلى محيطه فشملت قسماً كبيراً من بلاد الشام.
كانت الإمارة المعنية، عند تسلّم فخر الدين لها، تشتمل فقط على الشوف، أو ما يُعرف آنذاك بالشوف المعني الذي هو جزء من جبل صيدا. وكان شوف إبن معن يشتمل في أواخر العهد المملوكي، وأوائل العهد العثماني، على الشوف الشويزاني (السويجاني) والشوف الحيطي. وتبعاً لذلك كان فخر الدين واحداً من أمراء المقاطعات التي يتشكّل منها لبنان وفق النظام الإقطاعي الذي ورثه العثمانيون عن المماليك. وكانت خريطة الإقطاع تضم، بالإضافة إليه، أمراء عديدين، هم الأمراء البحتريون التنوخيون، والأرسلانيون في “الغرب”. و آل علم الدين في “الجرد”. و آل عسّاف في كسروان. وبنو سيفا في عكار وطرابلس، ثم في كسروان وبيروت بعد أن قضى يوسف باشا سيفا على الأمير محمد عسّاف سنة 1590. وآل حرفوش في البقاع الشمالي. وآل فريخ في البقاع الأوسط. وآل شهاب في وادي التيم. وآل الصغير في بلاد بشاره من جبل عامل. وكان أخطر هؤلاء على فخر الدين، جاراه اليمنيان يوسف باشا سيفا ومنصور إبن الفريخ.
إعتمد فخر الدين في توسّعه، وفي نزاعاته مع خصومه، على التحالفات مع أمراء المقاطعات وحكامها، ومنها تحالفه الدائم مع الشهابيين أمراء وادي التيم، وهو إستمرار للتحالف التاريخي الذي نشأ بين الأسرتين: المعنية والشهابية منذ توطنهما لبنان. ومن التحالفات تحالفه مع آل حرفوش ضد آل فريخ وآل سيفا، وتحالفه مع علي باشا جانبولاد ضد آل سيفا، وتحالفه مع بعض أمراء القبائل العربية مثل الأمير مدلج الحيارى، والأمير أحمد قانصو، والشيخ حسين بن عمرو، والشيخ أحمد الكتّاني.
تقرّب فخر الدين من والي دمشق مراد باشا القبّوجي بالهدايا والزيارات، فأعاد الوالي إليه سنة 1592 صيدا التي كانت للمعنيين، وإستدرج عدوّه منصور إبن الفريخ إلى دمشق وقتله، وأوعز إلى فخر الدين محاربة إبنه قرقماس المقيم في بوارج، الذي كثرت تعدّياته في البقاع، فهاجمه مع حليفه يونس حرفوش وعرب المفارجة وآل قانصو، ثم قضى عليه، وتقاسم أملاكه في البقاع مع إبن حرفوش. وكان القضاء على إبن الفريخ يفيده من أجل تسهيل الإتصال مع حلفائه الشهابيين في وادي التيم وحلفائه آل حرفوش في بعلبك، وإيجاد الأمن الضروري للمزارعين من جبل لبنان لإستثمار أراضي البقاع الأوسط.
ورث فخر الدين عن أسرته العداء مع آل سيفا، وكان صراعه معهم أطول الصراعات مع الأسر الإقطاعية خارج جبل لبنان الجنوبي، وقد إستمر من تاريخ تولّيه الإمارة حتى قرابة تاريخ نهايتها. ولم يُجدِ تصاهره معهم في وضع حد لهذا العداء الذي تعدّدت أسبابه ومنها التجاور في الممتلكات، والصراع على النفوذ، وإختلاف الغرضية التي هي يمنية عند آل سيفا وقيسية عند المعنيين.
قضى يوسف باشا سيفا على حليف المعنيين، الأمير عسّاف، في سنة 1590، وضمّ بيروت وكسروان إليه، فصار بذلك على حدود الإمارة المعنية، ويشكّل خطراً عليها. ثم إنه وأسرته إستقبلوا قرقماس إبن الفريخ عندما هاجمه فخر الدين، وحموه. فعزم فخر الدين على محاربته، وهاجمه مع حليفه موسى حرفوش سنة 1598، وإنتصر عليه في موقعة نهر الكلب، وأخذ منه بيروت وكسروان، ثم أعادهما إليه في السنة التالية بعد توسّط إبن خاله الأمير محمد جمال الدين أرسلان الذي تجمعه الصداقة والغرضية اليمنية مع آل سيفا. لكن النزاع عاد وتجدّد بينهما بسبب إعتداءات يوسف باشا سيفا على حلفاء فخر الدين (مقدمي جاج والحرافشة)، فهاجمه فخر الدين في جونية سنة 1605 وإنتصر عليه، وضمَّ بيروت وكسروان نهائياً إليه.
آنذاك برز علي باشا جانبولاد الذي شقّ عصا الطاعة على الدولة العثمانية لقتلها عمه حسين باشا، وتسلّم ولاية حلب، وتحالف مع فخر الدين لمحاربة يوسف باشا سيفا الذي يفصل بين أراضيهما بسبب سيطرته على عكار وطرابلس، والذي عرض مساعدته على الدولة العثمانية للقضاء على إبن جانبولاد مقابل إعطائه الإمارة على عسكر الشام. وقد تمكن فخر الدين وعلي باشا جانبولاد من إخراجه من طرابلس، وتبعاه إلى دمشق، ثم هزماه في موقعة عرّاد في تشرين الأول 1606. وفيما عاد فخر الدين إلى الشوف أكمل علي باشا ملاحقته لإبن سيفا، ثم تصالح معه، وتابع ثورته إلى أن قضى عليها الصدر الأعظم مراد باشا القبّوجي، واستولى على حلب. خشي فخر الدين إقتصاص مراد باشا منه، فأرسل إليه، وهو في حلب، ولده عليّاً البالغ من العمر تسع سنوات، مصحوباً بكتخداه مصطفى وبالهدايا. فقبل مراد باشا شفاعة الكتخدا ورضي عن فخر الدين، وجدّد له بإسم ولده علي سنجقيات صيدا وبيروت وغزير مقابل دفع ثلاثمائة الف غرش للسلطان العثماني.
إستمر العداء بين فخر الدين وآل سيفا، وتمظهر إبّان حملة والي دمشق حافظ باشا على فخر الدين سنة 1613، بإنضمام آل سيفا إلى حافظ باشا، ومهاجمة حسين، إبن يوسف باشا، دير القمر، وإحراق بعض بيوتها. وبعد عودة فخر الدين من أوروبا سنة 1618، هاجم في هذه السنة عكار، وهدم قصور آل سيفا فيها إنتقاماً منهم لما فعلوه أثناء غيابه، ونقل بعض حجارتها –وهي صفراء اللون- إلى دير القمر. ومما قاله في هذا الصدد أبياتاً زجلية تتناول ذلك، وتشير إلى تعيير آل سيفا له بقصر القامة، وإفتخارهم بطول قاماتهم، وهي التالية:
نحنــا زغـار وبـعين الـعـدو كبـــــار
إنتو خشب حور ونحنا للخشب منشار
بــحـق زمـزم وطيبه والنبي المختار
ما بـعمـّر الديـــر إلا من حجر عكّار
كافأ والي طرابلس فخر الدين، بعد إنتصاره على إبن سيفا، بمنحه إلتزام مقاطعتي البترون وجبيل اللتين كانتا لإبن سيفا، ثم أعطاه بعد إنتصاره الآخر على إبن سيفا سنة 1621 إلتزام مناطق عكار والضّنية وجبّة بشرّي والبترون وجبيل. ونال في سنة 1627 إيالة طرابلس بإسم ولده حسين إبن زوجته التي هي إبنة الأمير علي سيفا شقيق يوسف باشا سيفا.
أخذ فخر الدين مقاطعة يونس حرفوش، بعد أن وقف هذا وعمر إبن سيفا ضدّه في موقعة عنجر التي إنتصر فيها على والي دمشق مصطفى باشا، في تشرين الثاني 1623، وهذه الموقعة هي أهم المواقع التي خاضها، بل هي أهم موقعة خاضها أمير من لبنان في العصر الوسيط والحديث. لقد إجتمع مع مصطفى باشا رجال إبن سيفا وإبن حرفوش فبلغوا إثني عشر ألف مقاتل، فيما كان مع فخر الدين من رجال الشوف والجرد والغرب والمتن أربعة آلاف تمركزوا بقيادته في قب الياس، إضافة إلى ألف من رجال حليفه إبن شهاب أمير وادي التيم،سبقوه إلى عنجر، مدخل لبنان الشرقي من ناحية ودمشق. وحين وصل جيش الوالي إلى عنجر، إشتبك مع رجال إبن شهاب فيما كان فخر الدين يجتاز بفرسانه السهل الواقع بين قب الياس وعنجر. ودارت المعركة على أعدائه، ووقع مصطفى باشاً أسيراً بيد رجاله، لكنه ترجّل عن فرسه، وقبّل ذيل أثوابه إحتراماً لموقعه، ورافقه مكرّماً إلى بعلبك، وأشركه في الغنائم، ما جعل الباشا يصبّ جام عضبه على إبن حرفوش وإبن سيفا اللذين ورّطاه في هذا المأزق.
صار لفخر الدين بإسمه وبإسم أبنائه مقاطعات من لبنان، هي كسروان وجبيل والبترون وبشرّي والضّنية وعكار والبقاع البعلبكي والبقاع العزيزي، ومدن بيروت وصيدا وطرابلس. وكان سبق له أن تملّك صور وسلّمها إلى أخيه يونس الذي بنى فيها قصراً شبيهاً بالقلعة، وأخذ قلعة شقيف أرنون وبلاد بشاره من جبل عامل، وبهذا يكون أول أمير معني يبسط نفوذه على جبل عامل. وبضمّه هذه المناطق إلى ما كان معه من مقاطعات يكون قد سيطر على جميع الأراضي التي يتكوّن منها لبنان اليوم.
أما توسّع فخر الدين خارج لبنان، فقد بدأ بضم صفد وعجلون وبانياس سنة 1603. ثم صار له في تواريخ مختلفة، عجلون وغزّة ونابلس والجولان وحوران. وبفضل إمتداد نفوذه إلى حوران أنقذ دمشق من المجاعة في سنة 1624، بتزويدها بمئات أحمال الجمال من الحنطة الحورانية.
جرى توسّع فخر الدين على مراحل، وفي فترتين زمنيتين، هما قبل سفره إلى أوروبا سنة 1613، وبعد عودته منها سنة 1618. وكان يحسن إلتقاط اللحظات التاريخية، وإستغلال الفرص التي سنحت له إبّان ضعف ولاة الدولة العثمانية المجاورين له، وإنشغال الدولة بحروبها مع المجر والعجم، ومعالجتها للإضطرابات الداخلية التي أثارتها الإنكشارية، وكانت آنذاك بحاجة ماسة إلى الأموال المترتبة على ولاياتها، ووصولها إليها كاملة في أوقاتها المحدّدة، ومن مصلحتها الحيوية تلزيم القادرين على ذلك، وفي طليعتهم فخر الدين. وقد إستطاع فخر الدين أن يقوم بهذا بكل جدارة ودون تأخير، وأن يملأ نقاط الضعف والفراغ في المناطق المحيطة به، في لبنان وخارجه، بما توفّر لديه من فائض القوة.
كان بوسع فخر الدين، قبل سفره إلى أوروبا سنة 1613 ،أن يجنّد من رعاياه عشرة آلاف رجل وخمسمائة فارس. وبعد عودته منها، وبعد توسّعه وضمّه المقاطعات التي ورد ذكرها، أصبح بإمكانه أن يعدَّ للقتال خمسة وعشرين ألفاً، وكان ينشط ليبلغ جيشه الثلاثين ألفاً حسبما تذكر التقارير والمصادر الأجنبية. وهذا عدد ضخم بالنسبة إلى عدد سكان لبنان آنذاك. وكان عدد السكبان الذين جنّدهم في جيشه الف وخمسمائة رجل أخلصوا له، وإستبسلوا في الدفاع عن القلاع التي تولّوا حمايتها، والتي وضع في بعضها المدافع. وبعد أن كان له عند تسلّمه الإمارة قلعة شقيف تيرون فقط، صار له في ذروة توسّعه القلاع المهمة التالية:
في لبنان: قلعة شقيف تيرون – قلعة شقيف أرنون – قلعة صيدا- قلعة أبي الحسن- قلعة سمار جبيل – قلعة المسيلحة – قلعة القليعات – قلعة طرابلس – قلعة تبنين – قلعة صور.
في سورية: قلعة بانياس الواقعة جنوب سورية – حصن الأكراد – قلعة المرقب- قلعة صافيتا- قلعة صرخد (صلخد) – قلعة مصياف- قلعة تدمر، وهي معروفة بقلعة ابن معن.

سهل عنجر حيث انتصرت قوات فخر الجين على جيش مصطفى باشا الوالي العثماني
سهل عنجر حيث انتصرت قوات فخر الجين على جيش مصطفى باشا الوالي العثماني

في شرق الأردن: قلعة كرك الشوبك16.
ولمعرفة كيفية حكم فخر الدين للمناطق التي آلت إلى عهدته، وأوضاعها، نأخذ كمثالٍ ما قاله مؤرّخه الشيخ أحمد الخالدي الصفدي الذي وصف ما ألمَّ بصفد من محن ومصائب وخراب قبل تسلّم فخر الدين لها، وما آل اليه وضعها في ايامه فقال:
“مّن الله عليهم [الصفديين] بدولة مؤيّدة، ونعمة مخلّدة،ألا وهي الدولة المعنية التي هي بإمتثال الشرع معنية، وولّى عليها من هو فخر الدين وعماد للمساكين وكهف للمرتجين ومدد للملتجين، الأمير الجليل بلا الباس المعظّم قدره عند الله وعند الناس الأمير فخر الدين … دفع الله عنه كل بلية وحرسه من الشيطان بكرة وعشية. فآمنت به الطرقات. ونجت به النفوس من الهلكات. وإنقطعت بها آثار اللصوص الذين كانوا ينصبون لأذى المسلمين فيها الشصوص وعمرت البلاد. ورجع من كان نزح منها من العباد. وساد العدل في الرعية. ورضيت بأقواله وأفعاله البرية. واتى كل غريب إلى وطنه ومسقط رأسه ومحل سكنه لما نزل على تلك الأراضي من العدل والإنصاف. وزال بسببه هشيم الجور والإعتساف…” 17 كما ان ابنه علي لم يكلف أهالي صفد شيئاً من المترتب عليهم عند إشتداد الغلاء سنة 1621.
إن حكم فخر الدين للمناطق التي يتشكّل منها لبنان اليوم، بعد ضمّه ما لم يكن أصلاً تابعاً للمعنيين، حمل بعض المؤرّخين على إعتباره مؤسس الكيان اللبناني. وهذا يستدعي طرح الأسئلة التالية: هل كان فخر الدين يرمي إلى ذلك؟ وهل كان هناك كيان سابق بإسم لبنان أعاد فخر الدين بناءه؟ ام أنه هو الذي أسس كيان لبنان الحديث؟
إن معظم ما سيطر عليه فخر الدين يتوافق مع حدود لبنان الحاضرة. لكنه لم يكن هناك كيان إسمه “لبنان” لأن لبنان، ككيان سياسي وإداري، لم يكن له وجود بلفظته تلك قبل فخر الدين، وفي عهده، وبعده بقرنين من الزمن. وهو لم ينشأ مصغّراً إلا في سنة 1861 بإسمً متصرفية جبل لبنانَ، أو ما عُرف بعد ذلك بإسم “لبنان الصغير”، ثم نشأ مكبّراً في سنة 1920 بإسم (دولة لبنان الكبير). يُضاف إلى ذلك التسميات المختلفة التي أُعطيت للمناطق اللبنانية في التقسيمات الإدارية التي أحدثتها الدول التي سيطرت على لبنان عبر تاريخه.
وإذا كان البعض يعيدون جذور الكيان اللبناني إلى فينيقيا القديمة، فإن لفينيقيا تسميات عدة، وحدوداً مختلفة تبعاً لإختلاف التقسيمات الجغرافية والإدارية مع الزمن. فهناك فينيقيا التي سّماها البعض “فينيقيا اللبنانية”، وهي تشمل المدن الساحلية الممتدة من أرواد شمالاً إلى صور جنوباً. وهناك “فينيقيا السورية” التي هي الولاية الجنوبية لسورية، التي تشمل المدن الساحلية والبقاع، حسب التقسيم الاداري الذي أجراه الإمبراطور الروماني سبتيموس سفيروس سنة 195م18. وإذا كان بعض ما سيطر عليه فخر الدين داخلاً في جغرافية لبنان اليوم، فما هو حكم المناطق التي سيطر عليها خارج لبنان، مثل صفد التي دام إلتزامه لها من بدايات عهده حتى نهايته في سنة 1633، ومثل غيرها من المناطق التي كان نفوذه فيها عابراً. وما هو حكم المناطق اللبنانية التي تحالف مع أمرائها، مثل وادي التيم منطقة حلفائه الشهابيين. إن في ما ورد إشكالياتٍ عدة تؤرجح وضع فخر الدين بين صفتين: صفة الملتزم الذي يوسّع نطاق إلتزامه، وصفة مؤسس الكيان اللبناني. كما تؤرجحه بين صفتين أخريين هما صفة العامل على إنشاء لبنان في حدوده الطبيعية، وصفة الموسّع لهذه الحدود والمتجاوز لها.

الإزدهار غير المسبوق
تكمن أهمية الإزدهار الذي تحقق في عهد فخر الدين، وبفضله، في أنه غير مسبوق في نسبته العالية، وشموليته، وتعدّد نواحيه. فلقد رافق تنامي قوة إمارته العسكرية، وتوسّعها، توسّع في العمران والبناء، ولا سيما في مدن صيدا وبيروت وطرابلس، وبلدة دير القمر، وإزدهار للإقتصاد بدعائمه الثلاث: الزراعة والصناعة والتجارة. وفيما كان التوسّع والقوة العسكرية طفرتين مؤقتتين كان الإزدهار الإقتصادي نمواً مستداماً طال جميع السكان الذين إزدادت أعدادهم، واستمرّت إنعكاساته الإيجابية لمدة طويلة.
نشّط فخر الدين زراعة التوت، وأولاها إهتماماً خاصاً، فتوسّعت كثيراً في أيامه، وزرع، وعلى سبيل المثال، أربعة عشر الف نبتة في “مغراق” طرابلس، وأكثر من ذلك في أراضي الحيصة، وكان يُصنع من دود القزّ، الذي يُربّى على ورق التوت، أجود أنواع الحرير الذي يستهوي أصحاب معامل النسيج في أوروبا، وبلغت قيمة الصادرات منه ثلث خزانة الأمير في سنة 1614. ونشّط فخر الدين زراعة الزيتون، وإستجلب أنواعاً جديدة من إيطاليا، فزادت صادرات الزيت والصابون، وتلت صادرات الحرير. وهناك مقولتان عن أشجار الزيتون المعمّرة إنها تعود إلى عصر الرومان أو إلى عصر فخر الدين. وازدهرت ايضاً زراعة القطن والكتان لتصديرهما إلى الخارج. وجرى تحسين بناء المراقي (المصاطب، الجلول) بإعتماد الطريقة الإيطالية. وكان من الصادرات أيضاً الرماد لصناعة الزجاج. وبفضل كثرة الصادرات توفّرت للأمير نفقات التسلّح والجيش، والأموال التي يجب تأديتها للدولة العثمانية، وإزدادت مداخيل السكان.
عمد فخر الدين إلى تنشيط التجارة، فمنح التسهيلات للتجار الأوروبيين وشجّعهم على الإقامة في المدن، وعلى التبادل التجاري مع السكان، وبنى لهم خاناً في صيدا، لا يزال قائماً إلى اليوم، إسمه “خان الإفرنج”، يشهد على إزدهار هذه المدينة في أيامه، إذ تحوّلت من مدينة صغيرة إلى مدينة كبيرة بمستوى إستانبول وحلب ودمشق وطرابلس، وغيرها من عواصم الملاحة والتجارة في شرق البحر المتوسط.
وعلى صعيد البناء إهتم فخر الدين ببناء القلاع وترميمها، وبنى بعض الجسور كجسر نهر الأولي إلى الشمال الشرقي من صيدا، كما إهتم بمدينة بيروت، وبنى فيها قصراً لإقامته ، عليه أبراج أعطت إسمها للساحة التي لا تزال قائمة في وسط المدينة: ساحة البرج التي غدا إسمها “ساحة الشهداء” على إسم الشهداء الذين أعدمهم القائد العثماني جمال باشا في 6 أيار 1916، وفيه حديقة للوحوش. وبنى فخر الدين إلى جانب القصر سبيلاً بإسم زوجة إبنه علي التي توفيت في ريعان الشباب. وزرع أشجار الصنوبر بالقرب من بيروت. وحين أخذ إيالة طرابلس عزم على إعمار هذه المدينة وشجّع التجّار للإنتقال إليها من أجل إعادة الإزدهار إليها بعد ضعفها.
لقد عمل الكثيرون على النهوض بلبنان، وتحديثه وتطويره على غرار ما فعل فخر الدين، وأبرزهم في هذا المجال، بعد إنشاء دولة لبنان الكبير في سنة 1920، رئيس الجمهورية فؤاد شهاب ورئيس الحكومة رفيق الحريري، اللذان يجمعهما مع فخر الدين قاسم مشترك هو بناء الدولة والإعمار والإنماء.

“رفع فخر الدين عديد جيشه من عشرة آلاف إلى خمس وعشرين ألفاً كما زاد حصونه من واحد هو شقيف تيرون إلى 30 قلعة وحصن في لبنان وسوريا وفلسطين.”

فرديناند الأول دوق توسكانا
فرديناند الأول دوق توسكانا

حملة الحافظ والخيارات الصعبة سنة 1613
كان فخر الدين يعلم، دون شك، أنه واحد من عشرات الحكّام في الإمبراطورية العثمانية، وأن إمارته ما هي إلا بقعة صغيرة على خريطتها الواسعة، وقد أخذ عبرة من الكارثة التي نزلت ببيته وبالإمارة المعنية وبقرى الجبل، من الحملة العثمانية سنة 1585، وهي ضرورة تجنّب الصدام مع الدولة العثمانية، وعدم التمرُد عليها، وطاعة أوامر سلطانها، وتأدية الضرائب في أوقاتها. لذا لم يحصل خلال ثلاث وعشرين سنة من تولًّيه الإمارة ما يعكّر صفو العلاقات مع الدولة. وما جرى له معها أثناء تمّرد علي باشا جانبولاد بين سنتي 1604 و 1607، كان صداماً غير مباشر من خلال وقوفه مع علي باشا الثائر عليها ضد نصيرها يوسف باشا سيفا.
نجح فخر الدين في هذه المرحلة في الموازنة بين ما تسمح به الدولة العثمانية، وبين طموحاته في التوسّع وإمتلاك أسباب القوة، وقد كان يدرك أن تقوية عسكره بالعدد والعتاد، وبتحصين القلاع إنجاز له حدّين، إذ إن فيه ما يحصّن موقعه، ويحمي جانبه من أعدائه، وحتى من غضب الدولة العثمانية إذا اقتضى الأمر، كما إن فيه ما يغضب الدولة ويثير شكوكها. لكنه كان يراهن على المال والهدايا من أجل ان يكسب دوماً سكوت الولاة والقادة والمسؤولين العثمانيين عمّا يقوم به، وأن يحوّل غضبهم إلى رضى. وكان من الممكن أن يزيل شكوك الصدر الأعظم نصوح باشا، ووالي دمشق أحمد حافظ باشا، من تنامي قوته وامتلاكه القلاع، لو لم يخطء بالعمل بعكس إرادتهما ما جعلهما يعتبران هذا تحدياً لهما، ذلك ان حافظ باشا الذي تسلّم ولاية دمشق للمرة الثانية سنة 1609، ونصوح باشا الذي أُعيد إلى الصدارة العظمى سنة 1611، كانا عدوّين لفخر الدين، وقلقين من توسّعه، ويريدان تحجيم نفوذه، ويطمعان في أخذ المزيد من الأموال عن إمارته. وقد امر نصوح باشا بعزل حمدان بن قانصو، حليف فخر الدين، عن عجلون، وتسليمها لأمير الحج الأمير فرّوخ، فنفّذ حافظ باشا ذلك وطرد أيضاً الشيخ عمر شيخ عرب المفارجة، وهو حليف آخر لفخر الدين. وهنا أخطأ فخر الدين بنزوله عند رأي الحاج كيوان، فأعاد حليفيه إلى مركزيهما، قبل عودة موفده إلى مراد باشا، حاملاً تقديماته لإسترضائه. فلم يكن هذا بالأمر السهل على حافظ باشا بعد أن سبق لفخر الدين أن منعه سنة 1605 من محاربة حليفيه: الأمير يونس حرفوش حاكم بعلبك، والأمير أحمد الشهابي حاكم وادي التيم.
جهّزت الدولة العثمانية حملة برّية كبرى على فخر الدين، بقيادة حافظ باشا، وأمسك أسطولها الساحل اللبناني. وأخذ الحافظ يوزّع المقاطعات التابعة لفخر الدين، فأعطى الشيخ مظفّر علم الدين المعروف بالعنداري لسكنه في عين داره- الغرب والجرد والمتن، ويوسف باشا سيفا ولاية بيروت وكسروان، وأرناؤوط حسن آغا إيالة صيدا، ومحمد آغا إيالة صفد. فانضمَّ هؤلاء إلى قوات الحافظ، وإشتركوا معها في القتال ضد فخر الدين. لقد كان بإستطاعة الدولة العثمانية إحداث التصدّع في الجبهة الداخلية، وتقويض بناء الوحدة التي عمل فخر الدين لإيجادها، وذلك بتأليبها اليمنيين على القيسيين، وبمنحها الإقطاعات للأمراء المحليين، حتى إنها أوقفت ضده الأمير محمد إبن حميه جمال الدين الإرسلاني.
كان أمام فخر الدين أحد الخيارات الثلاثة التالية: إما مقابلة حافظ باشا والتفاوض معه ووضع مصيره بين يديه، أو التصدّي لحملته والإستمرار في قتالها، أو التنحّي عن الإمارة وترك البلاد.
فبالنسبة إلى مقابلة حافظ باشا كان فخر الدين يعلم حقده وحقد الصدر الأعظم نصوح باشا عليه، وإصرارهما على الكيد له، وإضعاف إمارته وإذلاله، ودليله على ذلك كبر الحملة البرّية والحملة البحرية المساقتين عليه، وإنتزاع المقاطعات منه، بإستثناء الشوف. وقد علم من الوفد الذي أرسله مرادَ الحافظ إذلاله، ذلك أن هذا الوفد، المؤلّف من مشايخ صفد وبيروت وصيدا وبينهم مؤرّخ فخر الدين الشيخ أحمد الخالدي الصفدي، قابل الحافظ ليصلح بينه وبين فخر الدين، فقال لهم: “المعني مراده الصلح، ولكن لو ملأ هذه الخيمة ذهباً لا يمكن ذلك ما لم يدس على هذا البساط. وحق نعمة السلطان لئن جاء إلى هنا لأقرّرن عليه بلاده، وأنعم عليه بما لم يحصل لأحد من قبله، فأرسلوا إليه وإعرضوا هذا الكلام عليه”19. لكن فخر الدين ما كان يثق بالحافظ ويرى فيه وجه إبراهيم باشا الذي غُدر في مخيمّه في عين صوفر بحوالي ستمائة شيخ درزي.
وبالنسبة إلى التصدّي للحملة العثمانية رأى فيه فخر الدين مجابهة لا تعادل فيها، بعد تخلّي الحلفاء عنه وتزعزع الوحدة الداخلية. وقد تأكّد له ذلك عندما عقد إجتماعاً على نهر الدامور ضمَّ أخاه الأمير يونس، والأميرين التنوخيين: منذر وناصر الدين، ومشايخ الشوف والغرب والجرد والمتن، ومشايخ آل الخازن وغيرهم، فلمس منهم عدم إستعداد لمقاومة حملة كثيرة العدد والمدد ، لأن نتائج حملة إبراهيم باشا ما زالت مائلة أمام أعينهم.
وبالنسبة إلى الخيار الثالث، أي التنحّي عن الإمارة وترك البلاد، كان الخيار المرَّ الذي قرّره فخر الدين, لكنه الأقل مرارة من أمرّين ورد ذكرهما. وصادف آنذاك قدوم مركبين فرنسيين ومركب فلمنكي (هولندي) إلى صيدا، فإستأجرها وسافر فيها إلى أوروبا مع بعض حاشيته وأخصّائه، وزوجته خاصكية الظافري، بعد أن سلمّ الأحكام لأخيه الأمير يونس، لأن إبنه الأمير علي كان آنذاك في حوران. لكن تنحيّه وسفره لم يحلاّ الأزمة مع حافظ باشا لإصراره على تسلّم قلعتي بانياس وشقيف أرنون اللتين وضع فيهما فخر الدين مئات الجنود من السكمان مع ذخائر وعلوفات تكفيهم لسنوات، وطلب من قائديهما عدم تسليمهما، فدافع الجنود عنهما ولم يسلّموهما إلى الحافظ الذي عمد للوصول إلى ذلك، ولبسط السيطرة العثمانية كاملة على جبل لبنان الجنوبي، إلى مزيد من الضغط على أبنائه.
أراد عسكر الحافظ إحراق بلدة غريفه، لكن أهلها وأهالي القرى المجاورة تجمّعوا عليه وهزموه، ومنعوه من ذلك. وعزم على إحراق قرى الشحّار الغربي، لكنه عدل عن ذلك مقابل مبلغ خمسة آلاف غرش. وأحرق حسين سيفا إبن يوسف باشا سيفا بعض بيوت دير القمر، ومن أجل رفع أذى العسكر وعيثه في القرى، ورفع الحصار عن القلاع، ألزم أعيان الشوف الأمير يونس أن يرسل والدته الأميرة نسب إلى الحافظ لمفاوضته، فذهبت إليه ومعها ثلاثون من “المشايخ العقال”، وقدّمت له الهدايا، فقبل بترك الشوف مقابل مبلغ من المال قدره ثلاثمائة ألف غرش، دُفع أكثره وبقي أقلّه، فأخذ الحافظ الأميرة نسب رهينة إلى دمشق20. وهو لم يقبل بترك الشوف إلا لصعوبة البقاء فيه شتاءً، لأنه حين أتى ربيع سنة 1614 عاد إليه.
إضطرَّ بعض أهل الشوف إلى الهجيج، أي ترك قراهم تجنباً لإنتقام الجند، فلحقت حملة منه بهم، لكنهم هزموها في مرج بسري، وقتلوا خمسمائة من أفرادها، واسروا الباقي. فأرسل الحافظ حملة من إثني عشر الف رجل لم يستطيعوا مقاومتها، وإنسحبوا إلى قرية الجرمق. وكانت بذور النزاعات التي زرعها الحافظ قد أثمرت، إذ إشتدت المعارك بين علي إبن الأمير فخر الدين وأخيه يونس، وبين اليمنيين، وخصوصاً الذين كان يقودهم الأمير مظفّر العنداري، والامير محمد ارسلان. كل هذا جعل أعيان الشوف وغيرهم يندمون على ما فعلوه لإرضاء الحافظ، ويندمون خصوصاً على خذلانهم للأمير فخر الدين عندما طلب منهم مقاومة الحافظ في مؤتمر الدامور.

جانب من قصر المديتشي الذي نزل فيه الامير فخر الدين في توسكانا - الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد
جانب من قصر المديتشي الذي نزل فيه الامير فخر الدين في توسكانا – الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد

إشكاليات علاقات فخر الدين الخارجية
كان فخر الدين منفتحاً على الصعيد الخارجي، كما على الصعيد الداخلي، فرغب في تنشيط التبادل التجاري مع الدول الأوروبية، والأخذ بالمستجدّات الحضارية وأسباب التقدم الحاصلة عندها، لتحديث إمارته والنهوض بها، فيما كانت هذه الدول تتطلّع إلى الشرق للتوسّع فيه، وترغب في الإستفادة من موقع فخر الدين كأمير قوي، ومن موقع إمارته الإستراتيجي، ومن إنفتاحه، لتحقيق أطماعها في أراضي الدولة العثمانية. وتلاقت مصالحها مع مصلحة البابوية في السعي لبسط الإشراف على الأماكن المقدّسة في فلسطين. وكان هناك، بالإضافة إلى ذلك، عنصر محلّي في بلاد الشام هو البطريركية المارونية التي استفادت من حسن معاملة فخر الدين لها ولرعاياها ولسائر المسيحيين، فشاءت الاستفادة منه أيضاً بإدخاله في مشروع يرمي إلى نزع سيطرة العثمانيين المسلمين عن مسيحيي بلاد الشام وقبرص، وعن الأماكن المسيحية المقدّسة.
نتج مما ورد ذكره، ومن إقامة فخر الدين في أوروبا مدة خمس سنوات، إشكاليات وتفسيرات عدة لعلاقاته مع الخارج، منها إعتباره من قبل البعض مرتبطاً بمشاريع أوروبية ضد الدولة العثمانية ، مقابل إعتبار البعض الآخر له عاملاً فقط، من خلال تطلّعه إلى الغرب، للأخذ بأسباب التقدم والنمو، وإعتبار إتهامه بالتوّرط في مشاريع أوروبية مشبوهة، ظلماً له. ولا يمكن إصدار الأحكام على فخر الدين في هذا الشأن إلا بعد إستعراض موقفه ومجريات الأمور التالية: مشروع معاهدة سنة 1608، إعادة طرح مشروع المعاهدة ودور الكنيسة المارونية في ذلك، فخر الدين في أوروبا. وفي ضوء ذلك سيظهر بطلان الإتهامات الموجّهة ضده وبراءته مما نُسب إليه.

“منح التسهيلات للتجار الأوروبيين وشّجعهم على الإقامة في المدن وعلى التبادل التجاري مع الســــــكان، وبنى لهـــم خانـــاً في صــيدا”

مشروع معاهدة سنة 1608
كان فرديناند الأول، دوق توسكانا المعروف أيضاً بغراندوق توسكانا، يطمح إلى إنتزاع جزيرة قبرص من الدولة العثمانية، فإغتنم الصراع بينها وبين العجم، والتحالف القائم بين فخر الدين وعلي باشا جانبولاد الثائر ضدها، وتوصّل، بواسطة سفيره قريع، إلى عقد معاهدة تعاون سياسي وإقتصادي وعسكري مع علي باشا21، ثم شاء تطويرها لتشمل فخر الدين وشاه العجم، بحيث يتم له إضعاف الدولة العثمانية، وتحقيق أطماعه.
إنتهى تمرّد علي باشا جانبولاد بالفشل، وعجز الأسطول التوسكاني عن إحتلال ميناء فاماغوستا في قبرص. وحين وصلت إلى فرديناند الأخبار الأولى عن إنكسار علي باشا، أرسل اسطولاً بحرياً لمعاودة الهجوم على قبرص، وفيه سفينة محّملة بالبنادق والمدافع والذخائر إلى علي باشا، وأمر سفيره ليونسيني التداول مع سفيره السابق قريع، ومع قائد الأسطول بما يجدر عمله. فإن وجدوا علي باشا بحالة تسمح له بالنهوض يسلّمونه البنادق والمدافع والذخائر، وإن كان العكس يتوجّهون إلى فخر الدين ويسلّمونه البنادق فقط، ويعقدون معه معاهدة كتلك التي عقدوها مع علي باشا.
عندما وصل ليونسيني إلى قبرص، وتأكد من هزيمة علي باشا جانبولاد وخضوعه للسلطان العثماني، قصد صيدا، والتقى، بحضور ترجمانه، فخر الدين في ثلاث جلسات حضرها أيضاً القنصل الفرنسي والقنصل الإنكليزي والتاجر الإنكليزي بروكس. سلّم ليونسيني إلى فخر الدين كتاب فرديناند وفيه انه رأى أن يعهد إلى فخر الدين، بعد فشل علي باشا، بالمهمة التي كانت موكولة إليه، وهي إحتلال القدس ودمشق وغيرهما من المدن السورية، ومساعدة فرديناند في التوسّع في جزيرة قبرص فيما لو قُدِّر له إحتلال فاماغوستا، على أن يكون له، مقابل تأمين حرية الحجّاج المسيحيين في الوصول إلى الأماكن المقدّسة، مبلغ سنوي من المال.22
تعهّد فخر الدين، حسبما جاء عند الأب بولس قرألي، بإحتلال دمشق والأماكن المقدّسة، لكنه فيما يتعلّق بمساعدة فرديناند على إكمال إحتلال قبرص لم يتعّهد إلا بتقديم المؤن فقط، لأنه غير مستعد لشطر جيشه. وإستكتب الترجمان رسالة إلى فرديناند، ورسالة شكر إلى نائب ملك إسبانيا في نابولي على إهدائه إليه سابقاً قطعتين من المدفعية، وكمية من الذخائر. أما شروطه التي طُلب منه تقديمها، فهي التالية:
• وضع خبراء في صبِّ المدافع مع المواد الضرورية تحت تصرّفه.
• إستفكاك ثلاثة اسرى توسكانيين لهم تمام المعرفة بإثنتين من قلاعه.
• رسو المراكب التوسكانية، القاصدة إلى الشرق، في ميناء صيدا.
• إعطاء البابا براءة لمسيحيي الشرق، التابعين له، لمساعدة فخر الدين.
• تزويده بتذكرة مرور يسافر بها إلى إيطاليا.
• إهداؤه اربعة هواوين ودرعاً جميلاً.23

قلعة نيحا التي اختبأ فيها الأمير فخر الدين لدى حصاره من العثمانيين -
قلعة نيحا التي اختبأ فيها الأمير فخر الدين لدى حصاره من العثمانيين –

ومع أن إجتماع فخر الدين بسفير فرديناند جاء بعد بضعة شهور من قلقه على مصيره عقب الهزيمة الساحقة لعلي باشا جانبولاد، وتوسّله المال والهدايا لكسب رضى الصدر الأعظم مراد باشا، ومع أنه كان يعرف عدم إمكانية دولة توسكانا النيل من الدولة العثمانية، إذ هي عجزت عن احتلال مدينة في قبرص، وتطلب منه المساعدة على إحتلال هذه الجزيرة: مع كل هذا فإن تصريحاته للسفير تظهر إستعداده للقيام وحده بما كان سيقوم به علي باشا لأنه أقوى منه، حتى إنه بغنى عن التحالف مع شاه العجم. وهذا ما يثير التساؤل عما إذا كان صرّح بذلك وعما إذا كان فعلاً قوياً حسبما صرّح، أم أن السفير ليونسيني شاء نقل ذلك إلى دوق توسكانا ليتوصّل هذا الدوق بواسطته إلى عقد معاهدة مع فخر الدين كما توصّل السفير قريع إلى عقد معاهدة مع علي باشا.
إنتهى إتصال فرديناند الأول بفخر الدين على هذه الصورة، لأن فرديناند توفّي في السنة التالية. وفي رأينا أن ما جرى هو مباحثات أولية لصياغة مشروع معاهدة يوقّع عليها بعد الإتفاق النهائي، في حال حصوله، ولم ينتج عنها سوى تنشيط التبادل التجاري. وما يؤكّد ذلك هو طبيعة هذه المباحثات وأجواؤها، وأن ليونسيني، الذي حرص على سرية المعاهدة مع علي باشا جانبولاد، أطلع القنصل الإنكليزي والتاجر بروكس على مضمون رسالة فخر الدين إلى دوق توسكانا، ولم يحافظ على سرّية المحادثات، إذ أفشاها في كل الثغور التي مرَّ بها ذهاباً وإياباً، للفرنسيين والإنكليز والإسبان، حتى إن البحّارة أنفسهم كانوا عارفين بها24.
ومما يعزّز الشكوك حول دقة المعلومات عن لقاء الأمير فخر الدين مع السفير ليونسيني، هو أنه ليس هناك من توقيع لفخر الدين على أي مستند، ولا ذكرٌ لتاريخ اللقاء الذي رجّح الأب بولس فرألي تاريخه في ربيع سنة 1608، بينما نقل إلينا تاريخ المعاهدة بين علي باشا جانبولاد والدوق فرديناند، وهو 3 تشرين الثاني 1607. وما يعزّز الشكوك أيضاً هو عدم التزام فخر الدين بشيء مع دولة إسبانيا الأقوى بكثير من دولة توسكانا، وذلك حين كان في إيطاليا، وفي أملاك ملك اسبانيا.

إعادة طرح مشروع المعاهدة ودور الكنيسة المارونية
توّفي دوق توسكانا فرديناند الأول سنة 1609، وخلفه إبنه قزما الثاني الذي وجّه إهتمامه لدعم الأمير يحيى ضد أخيه السلطان العثماني أحمد. وحين حاول الأمير يحيى الإتصال بفخر الدين لضمه إلى العاصين على السلطان أحمد، نصحه الحاج كيوان بألا يقوم بذلك، ثم نصحه حين إلتقاه في عكا بالرجوع إلى أوروبا، وبأن لا يضع ثقته بفخر الدين، “ربما ليوفر على فخر الدين مشكلاً جديداً يوسّع الخرق بينه وبين الباب العالي”25.
ومع هذا الحذر من فخر الدين وحرص الحاج كيوان على إبقاء علاقته جيدة مع الدولة العثمانية، نرى من يريد إدخاله في مشروع ضد هذه الدولة، إذ يُنسب إليه أنه حاول سنة 1611، أثناء وجوده في إيطاليا، وسنة 1623، وسنة 1624، وسنة 1633، إعادة طرح مشروع معاهدة تدخل فيه، بالإضافة إلى البابا، دولتا إسبانيا وتوسكانا. وقد جاء في مشروع سنة 1624 “أن تقوم حملة أوروبية بإحتلال مدينة صور، والتحصّن فيها، ثم الزحف منها إلى الأراضي المقدّسة”26. وبما أن هذا المشروع فشل بسبب تحاسد أسرة بربريني في روما، وأسرة مديتشي في توسكانا، فإن فخر الدين طرح بعد ذلك -حسبما قيل عنه- أن يصبح تادي بربريني أميراً على جزيرة قبرص، وأن يتوَّج فرديناند الثاني دومديتشي ملكاً على أورشليم في حال نجاح الحملة، كما وعد أن يجاهر بعد نجاحها بنصرانيته وان يعمّد أسرته وذويه، ويحمل جميع رعاياه على الإقتداء به.
لقد قُوّل فخر الدين ما لم يقل، كقوله إنه من سلالة غودفرو دي بويون. ونُسب إليه ما ليس له علم به، كوضع مشروع الحملة على الأماكن المقدّسة، ووضع الحل لتحاسد أسرتي بربريني ومديتشي. وفي الواقع إن مشروع الحملة وارد في تقرير المطران جرجس بن مارون الذي سافر إلى إيطاليا أربع مرات، فهو من وضع الكنيسة المارونية. ولتسويقه إختلق رهبان المدرسة المارونية في روما أسطورة إنتساب الدروز إلى مدينة Dreux وإلى الكونت Dreux، وأسطورة تحدّر فخر الدين من الملك الفرنجي غودفرو دي بويون، من أجل إقناع البابا بالمشروع. ويبدو أن البابا أوربانوس الثامن صدّق مقولة الأصل الفرنجي لفخر الدين، إذ وصفه في إحدى رسائله “بالقائد القوي الشكيمة، الذي يفتخر بتحدّره من القوّاد المسيحيين”27. وللدلالة على براءة فخر الدين مما قُوّل ومما نُسب إليه، هناك شواهد كثيرة، أبرزها ما يلي:
1. تواريخ سنوات 1623 و1624 و1633 تتوافق مع حرب الثلاثين سنة بين الدول الأوروبية، وهذا ما كان يعلمه فخر الدين، وتبعاً لذلك لا يمكن أن يطلب مساعدة من هذه الدول، أو قيامها بحملة إلى الشرق لإحتلال قبرص والأماكن المقدّسة. وتاريخ سنة 1624 يتوافق مع بلوغه أوج مجده وقوته، وحصوله على دعم والي دمشق مصطفى باشا، ورضى سائر الولاة العثمانيين، وهو في هذه الحال لن يطرح مشروعاً أجنبياً لتغيير هذا الوضع الممتاز، والإنتقال من تحت سيطرة عثمانية إسلامية إلى تحت سيطرة أو وصاية أوروبية مسيحية، مصيره فيها مجهول.
2. إن ما نُقل حرفياً من كتابات لفخر الدين، أثناء الحديث عن المشروع، مختلف بنصّه وأسلوبه عما نُسب إليه من نصوص ورسائل، مما يعني أن من كتبوا هذه الرسائل والنصوص أدخلوا فيها ما يريدون.
3. إن ما ورد بخط فخر الدين يخلو من الإشارة إلى المشروع ويقتصر على عواطف تجاه من يراسلهم، وطلب إستفكاك ثلاثة أسرى موجودين عند ملك إسبانيا مقابل إثنين وثلاثين أسيراً من النصارى عند فخر الدين28.
شَكّك العديدون بمشروع المعاهدة، ومنهم المؤرّخ ياسين سويد الذي قال إنه لم يكن أكثر من تقرير وضعه المطران جرجس مارون29. وقال في مكان آخر ما يلي: “أما القول بأن فخر الدين أراد أن يعيد مملكة اورشليم الصليبية [للأوروبيين] فذلك إفتئات على الأمير، وتجريح لطموحه السياسي. ولقد ثبت بالدليل القاطع عدم صحة هذه الرواية”30.
وقال المؤّرخ عادل إسماعيل ما يلي:”الوثائق الرسمية، التي قُدِّر لنا أن نطّلع عليها في المحفوظات المديتشية وفي المحفوظات الوطنية في باريس، تحدّد بوضوح شخصية الأمير وتصحّح الكثير من التفسيرات الخاطئة التي ذُكرت عن مسيرته السياسية وعلاقاته بتوسكانا وإسبانيا والكرسي الرسولي طوال مدة إقامته منفياً في إيطاليا (1613- 1618) أو بعد عودته منها إلى بلاده. وخلافاً لما قيل، ليس في تلك المحفوظات ما يشير إلى إتفاقات وقّعها الأمير مع إحدى تلك الدول ضد الباب العالي، وقد تصرّف فخر الدين في منفاه بحكمة وكرجل دولة مسؤول”31.
وخلاصة القول، بناء على ما ورد ذكره، إن فخر الدين لم يسعَ إلى عقد اية معاهدة مع أية دولة أوروبية، ولم يرتبط بمشروع معاهدة سنة 1608، ولا علاقة له بالمشاريع التي طرحت بعد ذلك.

“راهن فخر الدين على المال والهدايا لتغطية توسِّــعه وكسب سكوت الولاة والقادة والمسؤولين العثمانيين”

فخر الدين في أوروبا
قصد فخر الدين أوروبا لاجئاً لتلافي خطر داهم، وأقام فيها ريثما يصدر العفو عنه من السلطان العثماني. وقد صدر هذا العفو في بداية سنة 1615 عندما عُزل عدوه والي الشام حافظ باشا وقُتل عدوه الآخر الصدر الأعظم نصوح باشا، ذلك أن والي الشام الجديد جركس محمد باشا أطلق سراح والدته الاميرة نسب المسجونة في دمشق، ومعها العفو عنه32. لكن خبر هذا العفو وصل إليه بعد إنتقاله من توسكانا إلى مسّينا في صقلية التابعة لملك إسبانيا، أقوى الدول الأوروبية وألد أعداء الدولة العثمانية. ثم إنتقل إلى نابولي مع دوق دسّونا الذي عيّنه ملك إسبانيا حاكماً عليها بدلاً من مسّينا، وهذا ما أطال بقاءه ثلاث سنوات، جرى خلالها وقبلها إستغلال لوجوده في أوروبا، وخلق شبهات وعلامات إستفهام حوله.
بعد أن وطأت أقدام فخر الدين أرض نابولي التابعة لملك إسبانيا، جاءه أكابر موفدون من أميرها، دوق دسّونا، يسألونه ما يمكن أن يأتي من بلاده معهم في حال قصدوها، وما يمكن أن يقدّموه من ذخائر، فأجابهم حسبما نقل شاهد عيان هو مؤرّخه الخالدي: هذا أمر دين، لا أقدر أن أكفل أحد، لا أرضي ولا ولدي ولا أهل بلادي، وأنتم تعرفون قوة دين الإسلام وقوة آل عثمان، والذي مراده قهر القوتين لا يتكل على مشترى ذخيرة من الناس33. وحين سألوه كم يستطيع أن يجمع من الرجال، أجاب أنه كان بإمكانه أن يجمع عشرة آلاف، أما اليوم فلا حكم له إلا على نفسه. ويعلّق الخالدي على ذلك بالقول: إن هؤلاء الأكابر ما عادوا إهتموا بفخر الدين، وما عادوا يعطونه العلوفة المعتادة، فباع حلى زوجته، وأخذ يصرف من أمواله طوال مدة وجوده في نابولي. ثم إنه إعتذر عن تلبية دعوة ملك فرنسا للتوجّه إليه كي يرسل معه رسائل تشفع به عند السلطان العثماني لأن فرنسا صديقة الدولة العثمانية34.
بعد ذلك أرسل دوق نابولي إلى فخر الدين، رسالة من ملك إسبانيا يعرض فيها عليه حكماً على مقاطعة تزيد مساحتها عما كان له شرط تغيير دينه، والدخول في المسيحية، فرفض فخر الدين هذا العرض، وقال إنه “ما جاء يطلب ديناً ولا حكماً ولا حكومة، وإنما جاء ليحتمي عندما هاجمه عسكر لا يقدر على مجابهته35. وكلامه هذا وكلامه إلى موفدي دوق نابولي، ورفضه مقابلة ملك فرنسا، كل ذلك ينقض ما نُسب إليه من أطروحات عند عرض مشروع معاهدة سنة 1608 عليه، وما نُسب إليه من إعادة طرح مشروع المعاهدة سنة 1611.
كان وجود فخر الدين في أوروبا موضع إستغلال من دولها ومن البابا، وخصوصاً من الدولتين اللتين إستضافتاه: توسكانا وإسبانيا. “فلقد كانت حكومة توسكانا تبغي الإفادة الخاصة من وجود فخر الدين في ضيافتها مع التركيز على ألا يتألّق نجمه شخصياً، وعلى ألا تنجح مصالحة الخاصة”36. وكان ملك إسبانيا يأمل بمساعدة فخر الدين له ضد الدولة العثمانية، للحصول على موطئ قدم لدولته في الشرق، وهو الذي طلب من دوق دسّونا قدوم فخر الدين إلى بلاده. وحين لم يتوصّل إلى إدخاله في مشروعه، ولم يوفّق في تنصيره، إختلفت معاملة دوق دسّونا له، إذ ماطل الدوق في إعطائه رخصة مغادرة نابولي، فيما أصرّ هو على المغادرة، ونوى نسف المركب الذي وضع فيه عياله إن لم يسمح الدوق له بذلك37.
مارس فخر الدين أثناء وجوده في أوروبا الشعائر الأسلامية، ولم يأكل من ذبائح الإفرنج لانها غير مذبوحة على الطريقة الإسلامية. وهو لم يرتبط بأي مشروع أوروبي، ولم يتخذ أي موقف عدائي ضد الدولة العثمانية. ولم يكن هناك سوى شبهة وجوده في بلاد معادية لها. بيد أن هذا الوجود لم يؤثّر على علاقته بها، لأنها سمحت له بالعودة إلى بلاده، وأمّرته عليها، بعد عودته، مدة خمس عشرة سنة، ظلَّ خلالها على تواصل مع توسكانا، يتبادل وأبنه علي الرسائل والهدايا مع أميرها وأميرتها.
استفاد فخر الدين من وجوده في أوروبا بناحيتين فقط، هما توفّر الملجأ الأمين له إبّان غضب الدولة العثمانية عليه، ورؤيته بأم العين التطوّر الحاصل فيها. نزل أولاً في ميناء توسكانا (ليفورنو)، ثم أقام في عاصمتها فلورنسا، وفي مدن بيزا وباليرمو ومسّينا، ونابولي، وتعّرف على جزيرة مالطا أثناء عودته من بلاده سنة 1615 بعد زيارة خاطفة لها. وهذا أتاح له التعرّف على الحضارة الأوروبية، ورؤية معالم الفن والعمارة والنواحي الحياتية في أرقى المدن آنذاك. كما شاهد التقدّم في الأساليب الزراعية والصناعية، فأُعجب بكل ما رآه من مظاهر التقدم، وحاول إدخال ما يمكن منها إلى بلاده، ولا سيما الهندسة الإيطالية التي إعتمدها في بناء قصره في بيروت، وتنسيق الجنائن المحيطة به، وكأنما شاء ان يجعل من بيروت مثالاً عن فلورنسا. وطبّق بعض أساليب هندسة القلاع الأوروبية في ما بناه ورمّمه من القلاع، وعمل على تحسين طرق ونسل الحيوانات كالأبقار، بإستقدام النوع الجيد منها.

السجن الذي أودع فيه الأمير فخر الدين وأسرته لمدة سنتين وقد جرى إعدامه داخله - الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد
السجن الذي أودع فيه الأمير فخر الدين وأسرته لمدة سنتين وقد جرى إعدامه داخله – الصورة من أرشيف الأستاذة منى معضاد

حملة الكجك والنهاية الكارثية
عاد فخر الدين إلى بلاده بعد غياب عنها مدة خمس سنوات وشهرين، فنزل في ميناء عكا، ومنه إنتقل إلى دير القمر وسط إستقبالات أنصاره ومحبيه المتشوّقين إلى حكمه على أثر الضعف الذي إنتاب الإمارة، والإضطرابات التي زعزعت أوضاعها. فتسلّم الأحكام من أخيه يونس وإبنه علي. وإنطلق في مسيرة ناجحة في العمران والإزدهار والنمو، ووسّع إمارته أكثر من ذي قبل، متجاوزاً حدود لبنان، آخذاً ما أمكن من أراضي حكام المقاطعات المجاورة، وولاة حلب ودمشق وطرابلس، بالغاً بذلك ذروة المجد والعظمة .
كان لا بدّ أن يصطدم فخر الدين عاجلاً أم آجلاً بالدولة العثمانية، لأنه توسّع كثيراً، وامتلك المزيد من القلاع، وأخذ هامشاً كبيراً من الإستقلال الداخلي، فيما هي دولة لا تزال قوية، تعمل على صيانة أراضيها من الاعتداءات الخارجية، وإحكام قبضتها على ولاياتها، وكان شأن فخر الدين في الصدام معها كشأن جميع الأمراء المحليين والولاة الذين اصطدموا بها عبر تاريخها، مع اختلاف عند بعضهم في الأسباب والأهداف.
بعد أن وضع السلطان مراد خان الرابع حدّاً لتوسّع العجم في العراق، وأنهى ثورة الإنكشارية في سنة 1632، إنصرف إلى إعادة بسط سيطرة الدولة كاملةً على بلاد الشام، وإنهاء نفوذ فخر الدين الذي طال أمده، إذ كان النهج السياسي العام هو في قضاء السلطان عند إعتلائه العرش على أخوته، كي لا ينافسوه وينافسوا ابناءه، وعدم إطالة عهد الولاة وملتزمي المقاطعات، وتبديلهم، أو القضاء عليهم، كي لا يتجذّر نفوذهم، حتى إن العزل أو التهديد به، كانا يُتخذان سبيلين للحصول على الهدايا وعلى الأموال.
ورد عند المؤرّخين أن السلطان مراد الرابع أمر بتجهيز حملة كبرى للقضاء على فخر الدين، لشكاوى وإحتجاجات رُفعت إليه، أو بلغت مسامعه ومنها إستقلال فخر الدين في شؤونه، وسوء معاملته للسكان، وتشييده الحصون وتحصينها وشحنها بالأسلحة. وبعض ما ذكره المحبّي في هذا المجال وفي معرض حديثه عن الكجك الذي قضى على فخر الدين، يقارب الحقيقة، إذ قال ما يلي: “وقد كان فخر الدين خرج عن طاعة السلطنة، وجاوز الحد في الطغيان، وأخذ كثيراً من القلاع من ضواحي دمشق، وتصرّف في ثلاثين حصناً، وجمع من طائفة السكبان جمعاً عظيماً، وبالجملة فقد بلغ مبلغاً لم يبق وراءه إلا دعوى السلطنة”38.
ليس من بين أسباب تجهيز الدولة العثمانية حملتها على فخر الدين، قلقها من إتصالاته بالخارج، ومقولة خروجه عن طاعة السلطان تهمة لتبرير القضاء عليه، لأن من الأسباب الرئيسة تجاوزه للسقف وللحدود المرسومة لأمير محلّي، وذلك بإمتلاكه القلاع وتحصينها، وبعضها إمتنع على الدولة العثمانية سنة 1613. ومن الأسباب الرئيسة توسيع نفوذه على حساب الولاة المجاورين، وخاصة والي دمشق الذي له مصلحة مباشرة في القضاء عليه وفي إعادة ترتيب أوضاع المقاطعات التابعة لدمشق كما كانت قبله ، وتحجيم الإمارة المعنية بإعادتها إلى حدودها السابقة.
أُختير لمحاربة فخر الدين أحمد الكجك باشا، الذي عينّته الدولة العثمانية والياً على الشام. والكجك هو ربيب فخر الدين قبل أن يترقّى في مناصب الدولة، إذ كان محصّلاً من قبله للأموال في وادي التيم، ويعرف الكثير من أسرار حكمه وجيشه وقلاعه. فجهّز الكجك حملة برية كبيرة، إجتمع فيها جند والي حلب، وجنود أمراء مقاطعات الشام كطرابلس وغزّة والقدس ونابلس وعجلون وحمص وحماه، فيما كان الأسطول البحري يمسك السواحل. فكان في هذا إستعادة، وبشكل أكبر، لمشهد حملة إبراهيم باشا سنة 1585 على الأمير قرقماس، وحملة حافظ باشا سنة 1613 على فخر الدين. كما فيه إستعادة لما حصل في هاتين الحملتين من تفسّخ في الجبهة الداخلية، إذ أنهار، وبسرعة، كما حصل سنة 1613، كل ما بناه فخر الدين من تحالفات ومن ترسيخ لوحدة صفوف السكان المنقسمين حول غرضيتين هما القيسية واليمنية، وذلك بمجرد أوامر وتدابير أو إشارات من الكجك باشا.

السلطان مراد خان الرابع أراد تركيز قوة السلطنة وأعتبر أولى مهماته إنهاء ظاهرة فخر الدين
السلطان مراد خان الرابع أراد تركيز قوة السلطنة وأعتبر أولى مهماته إنهاء ظاهرة فخر الدين

حين رأى فخر الدين تداعي صفوفه وتسليم قلاعه للكجك واحدة بعد أخرى، سلّم بعضها له ولقائد الأسطول البحري جعفر باشا ووضع صفوة عسكره في حصون راهن على صمودها، كما راهن على عامل الوقت، وعلى أمله بإمكانية إرضاء الكجك وجعفر باشا، لكن الإثنين كانا عازمين على تنفيذ أوامر السلطان العثماني بإنها ظاهرته، ويطمعان في الأموال التي أاضطر فخر الدين إلى تقديمها لهما لاسترضائهما.
ما كان فخر الدين يتوقّع الأمور التي جرى ذكرها، أو يتوقّع السرعة التي جرت فيها. وما كان أيضاً يتوقّع أمراً كان بداية نهايته، وهو الموقعة الكبيرة التي نشبت بين إبنه علي وقوات الكجك بالرغم من نصيحته لإبنه بتجنّب ذلك أو الإكتفاء بمناوشة هذه القوات إذا قضت الضرورة. لكن علياً الذي سارع إلى نجدة الشهابيين في راشيا عند مضايقة الجند العثماني لهم، إصطدم وهو في طريقه من صفد إليهم بقوات كبيرة من العثمانيين عند سوق الخان، هبطت إليه من التلال التي تمركزت فيها، فعوّل على بطولته وشجاعة رجاله، وخاض القتال دون أن يكون هناك تكافؤ في العدد، وقُتل في الموقعة، وقتل معظم رجاله، وجمعت جثثهم فوق بعضها ما أعطى للجسر القائم على نهر الحاصباني، الذي جمعت أو شُقعت عنده ،إسم “جسر الشقعة”.وكان من الناجين القلائل أمير معني لجأ إلى إبل السقي. وهذه الموقعة توازي في أهميتها، وإنما بنتائج معكوسة، موقعة عنجر الشهيرة التي إنتصر فيها فخر الدين وكانت منطلقاً لتألّقه، وبداية لتوسّعه بينما كانت موقعة سوق الخان بداية نهايته.
وكما فعل الأمير قرقماس سنة 1585، هكذا فعل إبنه فخر الدين، إذ إلتجأ إلى قلعة شقيف تيرون الحصينة (قلعة نيحا) وهي مجموعة مغاور قائمة وسط شاهق صخري مرتفع، يصعب الصعود إليها من تحت والنزول إليها من فوق، ومدخلها الوحيد هو ممر ضيّق من ناحية الشمال، من الصعب أيضاً إجتيازه. وكان يمكن لفخر الدين الإحتماء بهذه القلعة مدة طويلة لولا معرفة الكجك بمصدر المياه الذي يغذّي خزاناتها، وهو عين الحلقوم، وذلك بخيانة من زمّاره الذي أعلم بواسطة العزف زمّار الكجك، فاهتدى الكجك إلى المياه ورمى فيها الأقذار ودماء الذبائح ففسدت، عندها اضطر فخر الدين إلى الهرب ليلاً إلى مغارة جزين القريبة، وعرف جند الكجك مخبأه الجديد، وحفروا نفقاً تحت المغارة وقبضوا عليه.فاقتاده الكجك أسيراً إلى دمشق، ومنها أُخذ إلى الآستانة، حيث بقي أسيراً لمدة سنتين كان يأمل فيها بعفو السلطان، لكن السلطان أمر بإعدامه عندما بلغته أخبار الإضطرابات التي أحدثها ابن أخيه يونس (الأمير ملحم) والتي قتل في إحداها مدبرّ الكجك، فأعدم في سنة 1635، وقال الشاعر سعيد عقل، في الذكرى المئوية الثانية لموته، قصيدة طويلة هذا أحد أبياتها:
فيــــــــــــــــــه مـــــــــــــــــن وثبــــــــــــــــة الجريـــــــــــــــــح إلى الثــــــــــــــــأر وفيــــــــــــــــــــه مــــــــــــــــــــن إحتضــــــــــــــــــــار النســــــــــــــور
هذه النهاية الكارثية لفخر الدين كان من فصولها أيضاً إعدام زوجاته وإبنه الأصغر حسن في دمشق، وإعدام أبنائه منصور وحيدر وبلك معه في الآستانة: ولم يسلم من أبنائه سوى حسين الذي إستبقاه السلطان لصغر سنه وربّي تربية عثمانية، وغدا سفيراً للدولة في الهند، ولم ينجُ من عائلة شقيقه يونس سوى إبنه ملحم. وبهذه النهاية كانت بداية نهاية الإمارة المعنية التي إستمرت مع الأمير ملحم ثم مع إبنه الأمير أحمد ضعيفة متعثرة حتى وفاة الأمير أحمد دون عقب سنة 1697، ووراثة الأمراء الشهابيين للمعنيين.

““ليس في تلك المحفوظات (المديتشية) ما يشير إلى إتفاقات وقّعها الأمير مع إحدى تلك الدول ضد الباب العالي، وقد تصرّف فخر الدين في منفاه بحكمة وكرجل دولة مسؤول”
(د. عادل إسماعيل لبنان في تاريخه وتراثه” الجزء الأول- ص 15)”

الأمير الكبير
حمل فخر الدين ألقاباً عدة، منها لقب “أمير صيدا والجليل” الذي كان أحبّ الألقاب إليه، ولقب “أمير لواء صفد”، ولقب “امير سنجق صيدا وبيروت وصفد”. وجاء في ملحق لتاريخ الأمير فخر الدين أنه في شهر ربيع الأول من السنة 1034هـ (1624م) “أتى لفخر الدين فرمان عال بأن يكون متولياً على ديرة عرب بستان من حد حلب إلى حد القدس ومعطى إسم جده الأمير فخر الدين سلطان البر على المقاطعات المذكورة، وذلك بمسعى من كتخداه الحاج درويش مقابل مائتي الف غرش ذهبي إلى السلطان”39.
هنا تجدر الإشارة إلى أن إعطاء لقب “سلطان البر” لجد الأمير فخر الدين المعني الثاني، الحامل إسمه (فخر الدين) مشكوك فيه، لأنه جاء في رواية مشكوك فيها، هي خطبة فخر الدين الجد أمام السلطان العثماني سليم الأول في دمشق سنة 1516، بعد إنتصار السلطان على المماليك في موقعة مرج دابق في السنة نفسها، إذ من يستحق هذا اللقب آنذاك ليس فخر الدين الذي كان أميراً غير مشهور يشتمل قطاعه على الشوف فقط، وإنما أمير بدوي هو ناصر الدين إبن الحنش الذي كانت إمارته تحيط بإمارة فخر الدين وكان الأبرز بين شيوخ وأمراء مرحلة فتح العثمانيين لبلاد الشام وبداية حكمهم فيها، ومع هذا لم يحصل على لقب “سلطان البر” مع أن باشوات السلطان سليم” ألبسوه خلعة، وتسلّم نيابة بيروت وصيدا ومقدّمية البقاع، وأعطي الأمرية الكبرى وذخيرة إبن السلطان وإقطاع نوى “40.
أفاض المؤرّخ بيجيه دي سان بيير في الحديث عن أعمال فخر الدين الثاني وإنجازاته، وإزدهار إمارته وتوسّعها، وشبّهه بملك، فقال: “ وأي ملك يستحقُّ لقب “الكبير” كفخر الدين. أربعون سنة من الفتوحات والإنتصارات والتقدّم السريع الرائع في ظل حكومة عاقلة حكيمة”41.
قلّد فخر الدين الملوك والسلاطين في التوسّع، وإنما على نطاق ضيّق، وقلّدهم في بناء القصور، وإعتبر السلطنة نقل تخم كما جاء عند مؤرّخه الخالدي الذي قال في معرض الحديث عن إنتصاره في عنجر، وأخذه أملاك آل سيفا وآل حرفوش ما يلي: “فقويت نفسه وكانت قوية من قبل ذلك وراودته نفسه على السلطنة، وقال: السلطنة نقل تخم وكلما حكمنا بلاداً نتقوّى برجالها وننتقل إلى غير، وصار يعمّر في بيروت حارة للوحوش تقليداً للسلطنة42.
إذن لقّب المؤرّخ الأوروبي بيجيه دي سان ببير فخر الدين بملك كبير. ولقبّه سائر المؤرّخين بالأمير فخر الدين الكبير، لكبره وشهرته، لا لتمييزه عن الأمراء المعنيين الذين يحملون إسمه نفسه، لأن إضافة لفظة “الثاني” كافيةٌ لتمييزه عنهم، وللدلالة عليه. لقد عُرف بلقب “الكبير” قبل فخر الدين ثلاثة من أمراء “الغرب”، هم جمال الدين حجى، وأخوه سعد الدين خضر، وناصر الدين الحسين إبن سعد الدين خضر، والأمير علم الدين سليمان الرمطوني. وعُرف بهذا اللقب بعده الأمير بشير الشهابي الثاني. لكن الأمير فخر الدين هو الأكبر بين جميع هؤلاء الأمراء، والأكبر بين سائر الأمراء والحكام الأهليين في لبنان.
إن الأمراء البحتريين التنوخيين، الذين هم أشهر أمراء المناذرة اللخميين ، عُرفوا بأمراء منطقة “الغرب” وكان توسّعهم خارج هذه المنطقة محصوراً بمدينتي بيروت وصيدا وبالقرى المجاورة للغرب. وأقصى ما بلغه الأمراء الشهابيون من نفوذ خارج لبنان هو إلتزامهم لصفد. أما فخر الدين، فقد إمتد نفوذه من حلب وانطاكية في شمال سورية، إلى غزّة في جنوب فلسطين، كما وصل شرقاً إلى تدمر، وإلى صرخد (صلحذ) في جبل حوران. وتبعاً لذلك، ولإمتلاكه الجيش القوي، والقلاع التي بلغت الثلاثين، يكون قد بلغ من السيطرة البرية ومن علو الشأن ما لم يبلغه أي أمير، أو حاكم أهلي آخر، حتى إنه ما كان ينقصه ، كما قال المحبّي سوى دعوى السلطنة.
وبالمقارنة بين فخر الدين والملوك الفينيقيين، في بعض الوجوه، يمكن القول إنه إمتلك القوة البرية، وتوسّع براً في بلاد الشام، وغدا أهم حاكم أهلي فيها في زمانه. فيما كان للملوك الفينيقيين القوى البحرية، وتوسٍّعوا غرباً في حوض البحر الأبيض المتوسط حيث أقاموا المستعمرات والمحطات التجارية، لكنهم كانوا حكاماً لممالك مدينية، قلما إتحدت، أبرزها ارواد وطرابلس وجبيل وبيروت وصيدا (صيدون) وصور، ولم تتجاوز سيطرتها البرية شرقاً حدود الجبال اللبنانية.

“عرض دوق نابولي على فخر الدين حكماً على مقاطعة تزيد مساحتها عما كان له شرط تغيير دينه، والدخول في المسيحية، فرفض فخر الدين العرض،”

الرمز والشخصية الخلافية
كان فخر الدين ككل الكبار رمزاً، وكمعظمهم شخصية خلافية. إنه من أهم الرموز في تاريخ لبنان، كما هو أحد مواضيعه الخلافية فيما يتعلّق بمذهبه ومشروعه وعلاقاته بالخارج. لم يُنظر إليه، على العموم، نظرة موضوعية خالصة، بل كثيراً ما نُظر إليه من زوايا إيديولوجية، وخلفيات سياسية مختلفة، فإذا هو عند البعض نقيض ما يراه البعض الآخر. وقد نشأ الإختلاف حوله خصوصاً بين المؤرّخين اللبنانيين، وقوي بعد تأسيس دولة لبنان الكبير في سنة 1920 بحماية فرنسية، واستمرّ بعد الإستقلال، وسيظل طالما هناك خلاف على هوية لبنان وكيانيته، وصراع داخلي فيه، فئوي أو طائفي، وصراع على تاريخه عطّل حتى اليوم محاولات إصدار كتاب التاريخ المدرسي الموحّد، في الوقت الذي أنهى إتفاق الطائف، الموقّع سنة 1989، الحرب اللبنانية، ونصَّ مع الدستور اللبناني، المعدَّل على أساسه سنة 1990، على نهائية الكيان اللبناني، وعلى انه بلد عربي فيما كان معتبراً ذا وجه عربي.
برزت عند اللبنانيين إتجاهات فكرية عدة حول الدولة والقومية، هي فكرة الدولة الإسلامية التي هي إستمرار للنهج الفكري الذي كان سائداً في عهد الدولة العثمانية، وإستمر بعد ضعفها ونهايتها.وفكرة الكيان اللبناني. وفكرة الدولة العربية. وفكرة القومية اللبنانية المقترنة بصيغة الدولة المسيحية، وجلّ أتباعها من المسيحيين المؤمنيين بالكيانية اللبنانية المقترنة عند بعضهم بضرورة الحماية الفرنسية. وفكرة القومية السورية التي عبّر عنها هنري لامنس في كتابه عن سورية الصادر سنة 1920، قبل أن يعبّر عنها حزب أسسه انطون سعادة هو الحزب السوري القومي الإجتماعي. وفكرة القومية العربية.
إن صورة فخر الدين عند أصحاب الفكرة الإسلامية هي صورة المعادي للدولة العثمانية، والنصير لأعدائها. وهي عند أصحاب الفكرات الأخرى صورة البطل القومي، إذ هو عند أصحاب فكرة القومية اللبنانية بطل قومي لبناني، وعند بعضهم معيد بناء الوحدة الجغرافية والسياسية لفينيقيا القديمة. وهو عند أصحاب فكرة القومية السورية بطل قومي سوري، وعند أصحاب فكرة القومية العربية بطل قومي عربي عمل على تحرير قومه من الأتراك. وإضافة إلى هذه الصور هناك صورة لفخر الدين عند بعض المؤرّخين، هي صورة الملتزم في نطاق الإلتزام الضرائبي السائد في العهد العثماني، فلقد كان في نظر هؤلاء يوسّع منطقة إلتزامه إنطلاقاً من إمارته في الشوف، وكان أكثر ما أعطته له الدولة العثمانية هو رتبة أمير لواء، أي أمير سنجق بيروت وصيدا وصفد، فيما اخذ العديد من الإلتزامات بأسماء أبنائه.
أُعطي لحراك فخر الدين السياسي والعسكري، وللهدف منه، أوصاف عدة، منها بناء دولة قوية ومتطوّرة، والتحرّر من الأتراك المستبدّين، حتى إن الأمير شكيب أرسلان داعية العروبة والإسلام، والمشهور بتأييده للدولة العثمانية الإسلامية وبدفاعه عنها، قال: إنه لو استوسق الأمر لفخر الدين كان سلطاناً مسلماً عربياً في دولة عربية في بر الشام43.
ومن الأمور الخلافية حول فخر الدين، إضافة إلى الإختلاف حول صورته وحراكه وعلاقاته الخارجية، طائفته ومذهبه، وهذا ما إنعكس على الخطاب السياسي للطوائف اللبنانية. لقد حاول البعص تنصيره وتحديداً مورنته، وإعتبره بعض المؤرّخين مسلماً سنياً، وتمسك المؤحِّدون (الدروز) بدرزيته، وافتخروا بإنجابهم أكبر شخصية في تاريخ لبنان.
كُرّم الأمير فخر الدين بكثرة الكتابات عنه. وكُرّم بأشهر المسرحيات التي تتناول مآتيه وأبرز محطات تاريخه، وإنتصاره الكبير في عنجر سنة 1623. وأُطلق إسمه على شوارع وجادات عديدة في العاصمة اللبنانية بيروت، وفي أمكنة أخرى، منها، على سبيل المثال، الشارع الرئيس في بلدة مزرعة الشوف الذي يمّْر في “حارة المسيحيين” فيما أطلق على الشارع الرئيس الآخر فيها الذي يمرُّ في “حارة الدروز” إسم الأمير بشير الشهابي الثاني، وذلك من قبيل التركيز على الوحدة الوطنية وتجاوز الطائفية.
وأُقيم لفخر الدين تمثال، بمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لولادته، على مدخل وزارة الدفاع في اليرزة كرمز وطني نضالي، سياسي وعسكري، ونهضوي. وحين طُرحت فكرة إقامة تمثال له بهذه المناسبة في الشوف، رغب أهل دير القمر في إقامته أمام قصره ببلدتهم لأنها عاصمة إمارته. ورغب أهل بعقلين في إقامة التمثال ببلدتهم لأنها مسقط رأس فخر الدين، ومقر إمارته الأول، ومنطلقها، ومقرُّ الآباء والأجداد ، وكان لهم ما أرادوا بالإتفاق مع أهل دير القمر، مع الإشارة إلى أنه يحق لدير القمر أن يقام فيها كبعقلين تمثالٌ لفخر الدين، وخصوصاً أنه ليس في أي منهما ضريح له أو مكان يضمُ رفاته. ووضع رئيس الجمهورية سليمان فرنجية الأساس للتمثال في 6 آب 1972 ، في باحة سراي بعقلين (المكتبة الوطنية اليوم) بحضور شيخ العقل محمد أبو شقرا والنائب بهيج تقي الدين ووفد من دير القمر منه المؤّرخ جوزيف نعمة. وشّكل أهل بعقلين لجنة إسمها “لجنة تكريم فخر الدين” جمعت التبّرعات وأوكلت إلى فنّان إيطالي صنع التمثال، فأقام مدّة في بعقلين ليتعرّف على هيئة أهلها وأهل المنطقة. وقد أزاح الرئيس سليمان فرنجية الستار عن التمثال في 23 آب 1975، بعد بضعة أشهر من قيام الحرب اللبنانية، التي كانت في أحد وجوهها حروباً داخلية ذات طابع طائفي ومذهبي، كما كانت، لدخول اللبنانيين في لعبة الأمم، حروبهم من أجل الآخرين، أو حروب الآخرين على أرض لبنان.
كان من فصول الحرب اللبنانية، ومسارحها، حرب الجبل التي قامت بين قطبي الثنائية التاريخية فيه: الدروز والمسيحيين، وهي ثنائية أوجدها وعزّزها تسامح فخر الدين وقومه الدروز، بتشجيعهم وتسهيلهم إنتقال المسيحيين من جبل لبنان الشمالي إلى جبل لبنان الجنوبي، كما وردت الإشارة إلى ذلك. إنتصر المقاتلون الدروز في آخر مراحل حرب الجبل في أيلول 1983 وشباط 1984, وبعد إنتصارهم جرى نسف تمثال فخر الدين في بعقلين كردّة فعل فورية على تصريح أحد خصومهم، عند خروجه من القصر الجمهوري في بعبدا، وقوله: “نحن أبناء فخر الدين”، ولسبب رئيس أهم من ذلك بكثير، هو التعبير عن النقمة على المارونية السياسية وتزويرها للتاريخ، إذ إنها في الوقت الذي قامت بهذا التزوير، وغالت في تمجيد فخر الدين، وأدلجة شخصيته خدمة لمشروعها السياسي، عملت ميليشياتها على زعزعة أسس الثنائية الدرزية المسيحية التي أوجدها فخر الدين من خلال مشروعها الفئوي الانتحاري، وصعود مقاتليها مع الدبابات الإسرائيلية إلى الجبل أثناء الإجتياح الإسرائيلي، ومقاتلتهم للدروز، وتهديدهم إياهم بالتهجير.

قصر الأمير فخر الدين في دير القمر
قصر الأمير فخر الدين في دير القمر

تناول المؤرّخ كمال الصليبي مسألة نسف تمثال فخر الدين وتزوير المؤرخين الموارنة للتاريخ، وإستياء الدروز من هذا، وذلك في معرض حديثه عما سمّاه “الحرب حول تاريخ لبنان” في كتابه “بيت بمنازل كثيرة” الصادر في سنة 1990، فقال:
“جاء أول تعبير عن هذه النشوة [ نشوة الإنتصار] بين الدروز نسفاً لتمثال فخر الدين في بعقلين، وإزاحة حطامه جانباً. وبدا هذا لغير الدروز أمراً غريباً خصوصاً ان صورة الأمير نفسه بقيت تحتل المكان المخصّص لها في قاعة قصر آل جنبلاط التاريخي ببلدة المختارة. ولم يكن هناك بين اللبنانيين – ومنهم الدروز- من يشك في أن شخصية فخر الدين، في تاريخ لبنان حرية بالإجلال الخاص من جميع أبناء البلاد، لكن نسف تمثال هذا الأمير، وفي الوقت الذي تمَّ فيه بالذات، كان عملاً رمزياً له مغزاه العميق بالنسبة إلى الدروز. فالأمير هذا كان في أيامه شخصية درزية إختلف في شأنها إلى أن جاء المؤرّخون فأمعنوا في تمجيدها وفي التضخيم بالمنصب الذي كانت تحتله خدمةً لأغراض مسيحية خاصة لا علاقة لها بالشخصية التاريخية. وهكذا فإن تلك الشخصية البرونزية التي أسقطت عن قاعدتها أرضاً ثم ألقيت بقاياها في المهملات، كانت تمثّل فخر الدين بتمجيده المسيحي الذي لا يستحقه. وكان تمثاله قد أقيم في مسقط رأسه بالشوف من قبل المؤسسة المسيحية اللبنانية الحاكمة ليقف شخصه التاريخي المزيّف شاهد زور على ما قامت به هذه المؤسسة نفسها من التزوير بشأن تاريخ لبنان. أما الصورة التي بقيت تحتل مكانتها في قصر المختارة، فهي تمثّل من ناحيتها شخصية فخر الدين التاريخية الحقيقية التي كان للدروز قبل غيرهم أن يقولوا كلمة الفصل بشأنها”44
بعد ثلاثين سنة من نسف تمثال فخر الدين في بعقلين، وُضع تمثال بدلاً عنه يختلف عنه بإختلاف الجهة الذي وضعته والرمز الذي تراه فيه، وهو الرمز الذي ظل له في الصورة الحقيقية المائلة في أذهان الدروز، وبإختلاف إسم المكان وشكل التمثال. كان إسم المكان سراي بعقلين، وفيها سجن يكتنفه الظلام، وربما المظلومية، كان فيه عند مهاجمته وإطلاق سراح المسجونين منه، في بداية الأحداث اللبنانية ، عشرات المساجين، وقد حوّله الزعيم وليد بك جنبلاط إلى مكتبة وطنية إفتتحها في 13/3/1987، وغدت مركز ثقافة، ومنارة فكرية. وكان التمثال القديم يظهر فخر الدين ممتطياً جواداً، وشاهراً سيفاً كأنه احد الفاتحين، فيما التمثال الجديد يظهره راجلاً واضعاً يده على سيف في وسطه اي في وضع المتأهّب للقتال، وللدفاع، وقد أزيح الستار عنه في 8 تشرين الثاني 2014 في إحتفال أقيم برعاية النائب وليد بك جنبلاط.
وبعد إنتهاء حرب الجبل بثلاثين سنة، والحرب اللبنانية بأربع وعشرين سنة، لا تزال تجري في لبنان حرب باردة، وفصول من الحرب الساخنة، كما لا يزال مهدّداً في أمنه ووجوده وكيانه ومصيره. وكان من المفروض أن تقوم فيه دولة على غرار ما أنشأه فخر الدين، بل افضل بكثير من ذلك، نظراً لتوافر الإمكانيات وإنفساح المجالات واختلاف الظروف. كما من المفروض ان تكون هناك كتابة صحيحة لتاريخ لبنان كأحد الأدلة على إنتهاء، الحرب فيه، وأحد العوامل التي تحول دون تجدّدها. إلا ان الحرب على تاريخ لبنان لا تزال قائمة، ومن مواضيعها الخلافية شخصية فخر الدين. وإذا كان من الطبيعي إستمرار الإختلافات حوله عند واضعي كتب التاريخ العام، فإنه من غير المنطقي بقاؤها في كتب التاريخ المدرسي الذي يُدرّس لجميع تلاميذ لبنان.
إن ما ورد ذكره عن التفسيرات والتقييمات المختلفة لجوانب من شخصية فخر الدين ورمزيته، ناتج من إختلافات وجهة النظر إليه. لكن هناك ما يجمع بين المؤرّخين الذين كتبوا عنه، وهو إقرارهم بعظمته، إذ إن الجميع يعترفون بأنه رمز تسامح وتوحيد، ورمز نهضوي، وأكبر حاكم عرفه لبنان، وواضع أسس كيان لبنان، وقائد صنع الأحداث، وقام بدور كبير هو أحد الشواهد على أهمية قومه الدروز في بلاد الشام، وأفضل مثل عن كبر دور اللبنانيين بالرغم من قلة عددهم، وكبر دور لبنان بالرغم من صغر مساحته.

كلمة سواء

من فخر الدين إلى كمال جنبلاط

نحن والطب

يساهم المؤرخ الواسع الإطلاع الدكتور حسن أمين البعيني في هذا العدد في كشف الكثير من المغالطات التي أحاطت على الدوام بأحد أعظم الشخصيات التي انطبع بها تاريخ لبنان، وهو الأمير فخر الدين الثاني المعني، هذا الأمير الدرزي المسلم الذي تمكّن من توسيع ملكه ليشمل كافة ما يُعرف اليوم بلبنان ثم تجاوزه ليجعل من ملكه دولة تمتد من انطاكيا شمالاً إلى غزة- فلسطين جنوباً وحتى تدمر وبصرى شرقاً، وبسبب ما بلغه ملك فخر الدين فقد قال عنه أحد المؤرخين إنه «لم يعد ينقصه سوى دعوى السلطنة» فكان هذا الأمير الدرزي بذلك وبفضل سياسات التسامح التي طبّقها وبسبب دهائه السياسي وإدراكه لأهمية الاقتصاد مشروع مملكة تفرض واقعها الاستقلالي على السلطنة العثمانية لولا أن كل المعطيات التي كان يقوم عليها مشروعه غيرالمسبوق تشير دوماً إلى أنه كان طموحاً مستحيلاً ومشروعاً يحمل عناصر انهياره في داخله لأنه كان يناقض في جوهره نظام الإلتزام ومركزية الحكم العثماني الذي كان يصنع الأمراء ويزيلهم وفقاً لمتغيرات سياسة الباب العالي وتشخيصه لمصلحة الدولة في كل ظرف من الظروف التي كانت تمرّ بها الدولة العلية.
لقد نجح الأمير فخر الدين في اقتناص فرص ثمينة لتوسيع ملكه وتعزيز تحالفاته، ونجح في شراء الرضا الضمني أو المتوجس للدولة العثمانية بفضل كفاءته المشهودة في إدارة الاقتصاد ومدّ خزائن الباب العالي بالضرائب في وقت كانت الدولة تحتاج المال لتمويل حروبها على أكثر من جبهة. لكن حتى في عزّ قوته، فإن سلطان الأمير كان مستمراً بفضل سكوت الدولة العثمانية أو انشغالها وليس بسبب قوته الذاتية، وقد تبيّن خلال الأزمتين الكبيرتين اللتين تعرّض لهما حكمه (حملة حافظ باشا ثم حملة الكجك) أنه ما إن كانت الدولة تجرد الجيش على إمارته حتى كانت التحالفات التي بناها تتفكك بسرعة ليجد الأمير نفسه معزولاً في وجه القوة الساحقة للعثمانيين، وكانت تلك أدلة واضحة على أن الأمير فخر الدين رغم نجاحه الكبير كباني ملك إنما كان يركب مخاطرة كبيرة في توسيع نطاق حكمه في منطقة بالغة الحساسية للدولة العثمانية لأنها البوابة البحرية لبلاد الشام المطلّة على الأوروبيين ومصالحهم ومكائدهم المستمرة لإضعاف الدولة ولتجديد مطامح الحملات الصليبية على دار الإسلام.
لقد فوجئ السلطان مراد خان بالقوة التي بلغها فخر الدين واعتبر ذلك بمثابة وضع شاذ على قاعدة تعيين الملتزمين وتبديلهم وعدم السماح ببروز حاكم قوي. وقد تبيّن للسلطان العثماني كيف قضى فخر الدين على جميع منافسيه وكاد يمتلك من القوة العسكرية ما لو أراد توجيهها ضد الدولة بالتحالف مع الدول الأوروبية لكان قادراً على أن يهدّد موقعها في لبنان وسواحل سورية، لذك كان القرار سريعاً وحاسماً بإزالته أو على الأقل تفكيك ملكه وإعادته إلى حجم ملتزم إقطاعي لا يتجاوز ملكه حدود المناطق الصغيرة التي كان يعهد بأمر حكمها والجباية فيها لعدد من الملتزمين، وهي مناطق لم يكن ممكناً أن تجعل من أي منهم تهديداً لسلطة الدولة وهيبتها.
إن صعود فخر الدين المدهش ثم محنته يمكن النظر إليهما كدليل على شخصيته الفذة، لكن يجب في الوقت نفسه النظر إليهما كمثال على الحدود التي أحاطت على الدوام بمشروع كيان لبناني مستقل عن الداخل الإسلامي والعربي. ولقد أتاح الفراغ الذي نشأ عن انهيار الخلافة العثمانية فرصة لإنشاءعدد من الدول على أنقاض ممتلكات السلطنة، وكان من بين تلك الدول الكيان اللبناني الذي تكون بسلخ مناطق من سورية وضمها إلى جبل لبنان أو لبنان الصغير. لكننا اليوم نجد أنفسنا مجدداً في مواجهة عواصف الجغرافية السياسية لنستيقن مجدداً من الصعوبة المتجدّدة في حماية مشروع فخر الدين المعني أي مشروع إقامة كيان يمكنه الصمود مستقلاً وقوياً في مواجهة العواصف التي تضطرم بإستمرار في العمق العربي والإسلامي الذي يحيط به إحاطة السوار بالمعصم.
قدّم الدكتورالبعيني أمثلة على مشاريع مشابهة لمشروع فخر الدين تمثّلت في رأيه بالرئيس فؤاد شهاب والرئيس الشهيد رفيق الحريري ونحن نضيف إلى هؤلاء رمز مشروع بناء لبنان وطني منفتح وقوي وديمقراطي وهو المعلم الشهيد كمال جنبلاط، وقد سقط كمال جنبلاط كما سقط رفيق الحريري شهيدين للمشروع نفسه وأظهر استشهادهما مجدداً كما أظهرت محنة فخر الدين مدى ضيق الفسحة المتاحة للبنانيين لبناء كيان سياسي له حيثياته الخاصة واستقلاليته عن محيطه الجغرافي والسياسي، وهذا الوضع لم ينج منه فخر الدين ولم ننج منه نحن وقد لا يستطيع لبنان الفكاك منه إلى أن يقضي الله أمراً كان مقدوراً.

خصصنا في العدد الماضي حيزاً مهماً لموضوع السرطان لسبب أساسي هو أنه تحوّل إلى مأساة إنسانية تحصد الآلاف سنوياً وأن انتشار المرض بلغ مستوى مخيفاً وقد بات يشمل بآثاره المدمرة الصحية والاقتصادية والنفسية كافة الأعمار والفئات الاجتماعية.
إنطلقنا من دافع الرحمة بالمريض (وكثير من المرضى من أقرب الناس إلينا ونحن نعيش آلامهم وآلام أهلهم) والحرص الحقيقي على المساهمة بما قد يبعث الأمل لدى المصابين وأسرهم وينقذهم من حالة اليأس ويجعلهم طرفاً في الحل عبر ما يمكنهم فعله بأنفسهم على سبيل الوقاية أو القيام بما يدعم العلاج ويعزّز حظوظه.
«الضحى» مجلة للناس وللخدمة مثلما هي مجلة للثقافة والتنوير، وفي العدد السابق اخترنا هدف الخدمة بعد أن رأينا عدد الناس الذين باتوا يعيشون وطأة المرض في غياب أي ثقافة صحية تتعلق بأسباب المرض البيئية والغذائية والنفسية وغيرها. وقد بات مؤكداً حسب كل الأبحاث العلمية الحديثة بما في ذلك تلك الصادرة عن مؤسسات طبية محترمة في العالم أن السرطان يمكن الوقاية منه أولاً عبر اجتناب العوامل التي قد تشجّع على ظهوره أو تفاقمه بعد ظهوره، كما إن الأبحاث نفسها أثبتت أن المؤسسة الطبية في العالم وكذلك الصناعات الدوائية أصبحت تقرّ بالأثر المحدود جداً للعلاجات التقليدية مثل الكيمو والعلاج الإشعاعي وبخطورة آثارهما الجانبية وأنها باتت تطرح مقاربات جديدة تختلف بصورة خاصة في أنها تستهدف خلايا السرطان وحدها Molecularly targeted دون استهداف الخلايا السليمة، وهو ما يحصل عكسه في العلاج الكيميائي الذي يدمّر نظام المناعة ولا يصيب إلا جزئياً الخلايا السرطانية، لقد أبرزنا في المقابل أهمية السلوك الوقائي لأن المهم أن لا نخلق بيئة مشجّعة على المرض أولاً وهناك اليوم في منازلنا آلاف المواد والعناصر الكيماوية المختبئة في كل ما نستخدمه من منظفات ومعطرات ومحاليل ومنتجات استهلاكية وما نضخه من مبيدات وهرمونات في أغذيتنا اليومية وغيرها مما يحتوي على مواد مسرطنة بدرجات متفاوتة، ويكفي هنا ما كشفت عنه حملة الوزير وائل أبو فاعور لتعطينا فكرة عن حجم الخطر الذي يحيط بنا وبأسرنا يومياً.
لقد قرأ بعض الأطباء الذين نحترم في المقال موقفاً سلبياً من الأطباء وهذا أبعد ما يكون عن الواقع لأن المقال شارك فيه طبيب معروف بأبحاثه وكتاباته، كما إنه استند إلى عشرات المراجع العلمية والطبية وهناك بعض الأطباء الذين استشهدنا بهم ممن يعارضون بشدة الكيمو وقد عبّروا عن آرائهم كأطباء، و«الضحى» لم تفعل سوى إيراد المواقف العلمية ولم تدلِ كمجلة بأي رأي علمي، أضف إلى ذلك أن بعض المواقف الطبية من الكيمو أو العلاج الإشعاعي ليست موقفاً من الأطباء بل من قصور الخيارات العلاجية المتاحة أماهم، وبهذا المعنى، فإن الذنب ليس ذنب الطبيب بل هو نقص الوسائل وكذلك تدريبه العلمي الذي يجعله معتمداً بصورة شبه وحيدة على خيارات قاصرة لم تتبدّل كثيراً منذ عقود طويلة رغم مليارات الدولارات التي تنفق على أبحاث السرطان حول العالم سنوياً.
وإحدى النقاط اللافتة التي وردت في الدراسة هي أن أطباء السرطان أكّدوا بأكثريتهم أنهم لن يقبلوا الخضوع للكيمو في ما لو أصيبوا هم بالسرطان لأنهم يشكّون في فعاليته، وكان هذا المثال دليلاً كافياً على أن هناك تناقضاً وأن هناك مشكلة في المقاربة للمرض.
نحن كمجلة ليس لنا موقف من استراتيجيات العلاج لأن الأمر يعود إلى المريض وإلى الطبيب في نهاية الأمر، لكن الذي يمكننا أن ندعو إليه هو الوقاية كما عرضنا لبعض مبادئها في العدد السابق، ونحن نعتقد أن الوقاية من السرطان هي من الأهمية بحيث تستحق من وزارة الصحة الزاهرة تخصيص أسبوع وطني سنوي للتوعية بالعوامل الغذائية والبيئية التي تزيد مخاطر الإصابة وسبل الوقاية منها. وفي الختام فإننا نشدّ على أيدي أطبائنا خصوصاً في المؤسسة الصحية التي نعتبرها صرحاً صحياً للمنطقة وإنجازاً اجتماعياً ووطنياً نحرص على تقدّمه وتطوره بإستمرار.

الإخلاص للأصول الجامعة

رسالة سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز
الشيخ نعيم حسن

الإخلاص للأصول الجامعة

يتطلَّبُ الارتقاءُ إلى المستوى اللائق، الّذي يجبُ أن نتطلَّعَ إليه جميعاً، لمقاربة أسئلة كبرى مطروحة في زمننا الراهن حول تراث الموحِّدين الدروز التاريخي والعقائدي، حداً أدنى من احترام العقل، وما ينبغي أن يكون مقاربة موضوعيَّة غير واقعة تحت سيْل ما يمكن أن نسمّيه اليوم «الهرج الاعلامي».

إنَّ الانطباع العام المتولِّد من قراءة سطحيَّة للأمور لا يُمكن أن يكوِّن عِلماً ولا معرفة. ونحنُ، إذ نرى ونتابع، أو نُبلَّغ عمَّا يردُ هنا وهناك من مداخلات في هذا الشأن الدَّقيق الواسع، لا يسعنا إلا أن نعبِّر عن بالغ الأسَف إزاء هذا الكمّ المخيف من المغالطات والتلفيقات والادِّعاءات التي تقدِّمُ لنا مشهداً مُزيَّفاً وملتبساً وغريباً ليس له مع الحقيقة أيّ صلة سوى طابع الاستهتار بها، والخفَّة الممقوتة في التلاعُب بقشورها، ناهيك عن إمكان الخبث في استخدام أدواتٍ فارغة من حقائق المعاني، بل ومشحونة بسفاسف التعابير والمقاصد، لا ثمرة لها سوى تعميق فجوة الباطل، والاسهام الأثيم في بلبلة خواطر الكثير من الناس ممَّن لا يملكون القدرة الكافية على التَّمييز والتمحيص.

لا بدَّ في هذا السِّياق من التَّذكير بالأصُول التوثيقيَّة التي هي أكثر عُمقاً في الجذور من المفاهيم الشعبيَّة السَّائدة التي يجبُ، في كلّ حال، التعامل معها باحترام وفقاً لمعيار التّدقيق بين الأثيل منها والدَّخيل. ثمَّة نصوص تاريخيَّة كتبها مُوحِّدون في القرنين الثامن والتاسع الهجريَّين (الرابع عشر والخامس عشر ميلادي) ترقى إلى مصاف مصادر تاريخ لبنان في تلك الحقبة التي يصفُها العديدُ من المؤرِّخين المختصِّين بـ»العصور المظلمة»، ويشيرون إلى أهميَّة تلك المدوّنات التي من شأنها الإضاءة على ذاكرة بلدنا، والتي «لولاها، لبقيت هذه الحوادث نسياً منسياً».

الحوادث المقصودة يُمكن وضعها في إطار مشاركة أسلاف المعروفيّين في الذّبّ عن لواء «الأمَّة» بمعناها الجامع، والتي كانت تُمثَّل برمز الخلافة العبَّاسيَّة وما يبرز في ظلِّها من «إمارات» و«سلطنات» سلجوقيَّة وأيُّوبيَّة ومملوكيَّة أقرَّت على التتابع للأمراء البحتريّين والتنوخيّين ولايتهم على إقطاعاتهم على مرِّ قرون من الزَّمان. ولا نقرأ في تلك الآثار النفيسة ما يشي بأبعادٍ طائفيَّة أو فئويَّة أو رهابٍ أقلويّ، بل نقرأ عن فرسان ضحُّوا بالغالي والرَّخيص في سبيل كرامةٍ جامعَة تحت لواءٍ عزيز واحد هو لواء «الأمَّة» مهما اختلفَ ولاةُ الأمر و الحِمى.

ما يهمّ ايضاً هو استقراء ثقافة القوم وعاداتهم وتقاليدهم وآداب لسانهم إلى ما هنالك من ضروب البحث و التنقيب، فكأنَّه حجر الماس كيفما أصبته وجدته مشعّاً صلباً ومن معدِن الشَّهامة ذاتها والإباء عينه والمروءة إيَّاها. وجدتَ الأصالةَ لا تزعزعُها عن ركنها الرَّكين عواصفُ الدَّهر و لا نوائبُ القدَر ولا سفسطة العابثين.

إنَّه معين الماء تتلألأُ في صفائه صوَرُ باطن النّفوس واعتقاداتها. اقرأوا بإمعانٍ سيَر حياة الأفاضل التي يُمكن أن تُستشفّ من النصّ التاريخي، وما نهَجُوه من مسلك يرقى إلى ذروة التَّحقُّق الإنساني الأمثل، وما نصح به بعضُهُم من قواعد راسخة في متن الإرث الإسلاميّ الخالي من شوائب الاعتباط والتَّركيب. اقرأوا من دون رأي وقياس، ومن دون تفصيل الثَّوب على الوقائع الراهنة وفقاً لنـزوات ادِّعاء التَّحديث (وهذا ما نجده عند بعض الكتبة الّذين يخوضون في موضوع التراث وقوفاً فوق رمال الشاطئ العقيمة دون إبحار صوب آفاق المعنى اللطيف). وليكن الذِّهنُ صافياً مخلصاً في طلب الحقيقة بحيثُ تكونُ قراءةُ سيَر الحياة تلك في غايتها قراءةً للنَّهج وللمسلك الّذي يفرضُ قواعدَهُ وشروطه قبل استخدام الجزئيَّات ذريعةً للتملُّص من النَّهج عينه.

إنَّ أيَّ تأويلٍ يُنظرُ فيه بمعزل عن المرتكزات الأساسيَّة التي شاءها الله تعالى قاعدةً للرِّسالةِ السَّماويَّة بشكل عام، والحُجَّة القرآنيَّة بشكل خاص، هو تأويل يفتقدُ الرأسَ فاتحاً البابَ نحو شطحٍ حذَّروا الثقات من تبعاتِه. فالمسألةُ لا تحتملُ الخفَّة والسَّطحيَّة ولجاجة اللسان
و«الهرج» الّذي ولَّدته مداخلات المتطفّلين، وسهولة اللعب عبر وسائل الاتِّصال الاجتماعي في هذا المجال خصوصاً.

نحن، في مشيخة العقل، ندعو إلى استيعاب الأصُول استيعاباً لائقاً بتراثنا العريق محذِّرين من الاستسهال الرَّخيص لشؤون الرُّوح، بل والمتاجرة في شؤونها من أبوابٍ شتَّى ، فمن دون التحقُّق القلبيّ الصَّادق في السجايا الرَّفيعة للصدق والمعرفة والإخلاص والأمانة والمروءة والوفاء ، فأيّ ثمرة يمكن أن تُرتجى؟ر

هذا العدد

يصدر هذا العدد حسب العهد الذي التزمت به “الضحى” في نهاية العام الماضي ومفاده صدور المجلة في مواعيد منتظمة أربع مرات في السنة، وهو ما يعالج أموراً كثيرة أهمها وصول المجلة في وقتها إلى المشتركين وترتيب العلاقة مع المعلنين عندما تبدأ المجلة بقبول الإعلانات مع صدور العدد 14 في أول تشرين الثاني من العام الجاري علماً أن صفحاتنا ستكون مفتوحة لعدد معين من الإعلانات من المؤسسات التي لا تتعارض طبيعة نشاطها مع شخصية ونهج المجلة. وقد استكملت “الضحى” الإستعداد لقبول الإعلانات عبر تعيين مديرة تسويق ذات خبرة ووضع سياسة ترويجية مناسبة.

إننا نجد أنفسنا في وضع واعد لأن المجلة باتت تتمتع بتوزيع هو ربما أعلى توزيع لمجلة ثقافية في لبنان وقد تضاعف عدد المشتركين في “الضحى” ثلاث مرات في خمسة أشهر ونحن نتلقى بفضل الجهود المشكورة لإدارة الاشتراكات عدداً كبيراً من الاشتراكات الجديدة كل شهر بل كل أسبوع. ومن المظاهر اللافتة إقبال الناس من مختلف المشارب ليس فقط على قراءة المجلة بل وعلى الإحتفاظ بأعدادها كاملة بهدف جمعها في مجلدات تصبح من مكونات المكتبة الشخصية، ونحن نتلقى يومياً استفسارات من مشتركين وقرّاء يطلبون فيها الحصول على أعداد سابقة بحيث يستكملون مجموعة الأعداد لديهم و”الضحى” هي ربما المجلة الوحيدة التي يقبل الناس بهذه الحماسة والمتابعة على اقتناء أعدادها السابقة.

إن نجاح “الضحى” كمجلة تنوير ثقافي يعود إلى أسباب أهمها عمق المضمون والمعالجة وتنوع المواضيع وجديتها فهي كلها مواضيع أصلية أي كتبت وتمّ إعدادها من قبل فريق التحرير وفق تخطيط محدد وأبحاث جادة وتقسيم مستقر لأبواب واهتمامات المجلة. لكن من أسباب نجاح المجلة التزامها بالمبادئ التي أعلنت عنها منذ العدد الأول وهي الإبتعاد عن كل ما يفرّق والاهتمام بكل ما يجمع ثم السعي الدائم لاستقطاب كتاب جدد وتنويع قاعدة المساهمات التحريرية.

أحد جوانب التطور التي تظهر في هذا العدد هو ازدياد المساهمات التحريرية التي باتت ترد المجلة من مثقفي وكتّاب جبل العرب في سورية، وهذا شيء مفرح لنا لأننا نعتبر الجبل بتاريخه النضالي وقيمه الأصيلة جزءاً اساسياً من نطاقنا الجغرافي نسعى الى التوسع فيه وإعطائه الاهتمام الذي يستحقه. وقد حققت “الضحى” حتى الآن انتشارا جيدا في أوساط النخبة المثقفة في جبل العرب بحيث باتت تصل إلى المرجعيات الروحية وإلى القيادات والشخصيات والأندية والمثقفين وباتت مواضيعها قيد التداول وتحظى باهتمام يتمثل برسائل ومكالمات يعبّر أصحابها عن تقديرهم للمجلة وللدور الذي تلعبه في الاهتمام بتاريخ الجبل وتحقيق ربط متزايد بين المجلة والجبل وبالتالي بين الجبل ولبنان.

لا بدّ من التنويه بأن النهضة التي تشهدها المجلة لم تكن ممكنة لولا الدعم الثمين الذي يقدمه أعضاء مجلس الأمناء الذين يوفرون الدعم المالي كما يقدمون أيضاً المشورة والنصح ويلعبون دوراً فاعلاً في التخطيط السليم وتفعيل الجوانب المالية والإدارية، ولا بدّ من التنويه ايضاً بالدور الخاص الذي يضطلع به سماحة شيخ العقل الذي يرأس اجتماعات مجلس الأمناء ويساهم في توفير أفضل أجواء العمل ويدعم جهود مجلس الامناء وجهود رئيس التحرير الساعية إلى تطوير التجرية وإعطائها طابع العمل المؤسساتي والديمومة، كما إن المجلة تقدر تقديراً عالياً الدعم الذي تتلقاه من المجلس المذهبي على كافة الأصعدة.

سيلاحظ القراء الأعزاء حجم الجهد الذي وضع في العدد الجديد من “الضحى” وبخاصة الموضوع المستفيض عن الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير الذي يتضمن جهداً تحقيقياً بالغ الأهمية يضع الأمور في نصابها، ونحن نأمل أن يشكل هذا الموضوع إضافة مهمة إلى أي مكتبة تاريخ وإثراء لمعلومات أي باحث مهتم.

هناك أيضاً الاهتمام الدائم لـ “الضحى” بتراث التفكير الحكمي ورموزه عبر التاريخ وفي هذا العدد ثلاثة مقالات يمتد اهتمامها بتيارات ومدارس الحكمة من الصين القديمة إلى الجنيد البغدادي مروراً بسقراط وإرثه الحكمي والإنساني. وهناك المزيد من المواضيع الممتعة والمفيدة في مجالات الصحة والغذاء وفي تقنيات الزراعة التي تعمل المجلة بصورة ثابتة على نشرها بهدف إحياء الاهتمام بالارض وتوفير المعرفة العلمية بالزراعة وبأساليبها ولا سيما الزراعة الطبيعية التي تحترم البيئة والأرض وتراعي شروط الحفاظ على تغذية سليمة والإبتعاد قدر الإمكان عن مخاطر الزراعات والمعالجات الكيماوية.

نأمل أن ينال هذا العدد رضاءكم ونعدكم بالمزيد في الأعداد المقبلة.

الصفحة الأخيرة

الصفحة الأخيرة

حديث الموت

أهل الدنيا يحبون الحديث عن الحياة، عن الأمل والمستقبل، وفي أيامنا على الأخص هم ربما لم يعودوا يتحدثون إلا في الدنيا والحياة. من المفارفات أنه بقدر ما يزداد اندفاعنا في مجاري الحياة والدنيا، كذلك يزداد حضور الموت بين ظهرانينا كأنما يوجد بين هذين الوجهين للوجود تواصل خفي وتكامل في حركة كل منهما.

الحياة والموت وجهان لصيرورة الوجود يتبع أحدهما الآخر كما يتبع الشيء ظله، لكن رغم هذا التلازم فإن قلّة هم الذين يريدون الحديث في الموت أو أن يتفكروا فيه، لذلك نجدهم يتصرفون في عيشهم كما لو أنهم يعيشون أبداً، وهذا من أشدّ وجوه الغفلة. نظرهم كله مركز على الحياة بل إن موقف الكثيرين من أهل هذا الزمان هو أنهم «يكرهون» الموت مع أن ذلك الموقف الذي يشبه موقف النعامة لا يبدّل شيئاً ولأن كلاً منا سيغادر هذه الدنيا في الموعد المضروب شاء أم أبى.

الله تعالى جعل في الموت رحمة وحكمة فهو عنصر إيقاظ من الغفلات ومحفز على الطاعات ومحرك للتأمل والبحث في حقيقة الوجود والتقرب من رب الوجود الذي لا يتفكّر بالموت ولا يتوقف عند معنى قهره غافل محروم من نعمة الحكمة، هو يعيش كما تعيش الأنعام لا تتحرك فيه إلا جوارح الجسد وأهواء النفس لأن الأنعام لا تدرك حقيقة الموت ولم تؤت ملكة التأمل في حقائق الوجود والهدف من خلقها فهي تمضي حياتها المرسومة تقتات من حشائش الأرض إلى أن تبلغ أجلها المرسوم.

من المصادفات اللافتة في هذا العدد من «الضحى» وجود ثلاثة من حكماء البشرية العظام الذين تطرقوا جميعاً إلى الموت بلغة وتعابير جعلت الموت يظهر في كلامهم باعتباره هو الأمر الإيجابي الذي يجب انتظاره وليس الهرب منه.

سقراط الحكيم مثلاً تحدّث عن الموت بلهجة إيجابية للغاية عندما قال للمحكمة التي حكمت عليه بالإعدام: « ان من يخاف الموت يزعم أنه يعلم ما ليس معلوماً، لأنه في الحقيقة لا أحد يعلم إن كان الموت الذي يخاف الجميع منه كما لو كان الشر الأعظم ليس في الحقيقة إلا الخير الأعظم»! في مكان آخر يهزأ سقراط من أولئك الذين في مواجهة الموت يعتقدون أنهم سيمرون في «تجربة رهيبة» في ما لو ماتوا وأن في إمكانهم بالتالي أن يعيشوا إلى الأبد لو أنك أعطيتهم الفرصة لذلك» هنا يتحدث سقراط بكلام العارفين لحقيقة الموت عندما يخاطب المحكمة بالقول: «إذا كان الموت هو انتقال الروح إلى مكان آخر فأي شيء سيكون أفضل من هذا أيها الأصدقاء؟».

نأتي الآن إلى حكيم آخر هو تشوانغ زي أحد مؤسسي فلسفة التاوية في الصين القديمة الذي يعيب أيضاً على الناس الخوف من الموت بالكلمات التالية:
ما يدريني أن حب الحياة ليس إلا مجرد وهم؟ ما يدريني أن من يخاف الموت ليس إلا كطفل ضلّ الطريق فهو يبكي لأنه لا يجد السبيل إلى بيته»، أي ان الخوف من الموت سببه جهلنا لحقيقة الموت ولحقيقة أننا عن طريق الموت سنجد الطريق إلى بيتنا، والبيت هنا هو حقيقة وجودنا الأزلي التي أضعناها بسبب انبهارنا بمظاهر الدنيا وما تلقيه من حجب وأوهام فوق بصيرتنا الأصلية.

الحكيم الثالث الذي نتحدث عنه في هذا العدد هو تاج العارفين الجنيد البغدادي الذي يمكن تلخيص تعليمه كله بدعوة كل عاقل إلى ترك الدنيا على اعتبار أنه لا سبيل لنيل السعادة الحقيقية إلا بترك التعلق بالفانية (وهو بتعبير الجيلاني فعل «موتوا قبل أن تموتوا») والتفكر والمجاهدة سعياً لبلوغ عتبات عالم البقاء والصفاء وجنة السعداء.

هذه الملاحظات العميقة لحكماء عارفين يجب أن تدفعنا للتصالح مع الموت والإطمئنان إلى وعد الله الحقّ بأنه عودة النفس راضية مرضية إلى جواره وإلى جنته، بل يجب أن تشجع على التفكر في حقيقة الموت وليس الهرب منها على طريقة النعامة. وأعظم دلائل التفوق الذهني والذكاء الإنساني هو أن يرى المرء الوجود بكليته وأن يسعى لفهم اسراره وأن يقبل بحقيقة الموت باعتبار أنه ليس نهاية إلا لوهم الصورة والثوب الشحماني وأنه في حقيقته مفتاح باب الخلود ومعجزة لا تقلّ في معانيها ووظيفتها عن معجزة الحياة نفسها.

الضحى

مساهمات حرة

التشييع على أكتاف المحبين

سميح القاسم ومحمود درويش في زيارة للشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري

صورة له في شبابه

صورة مطلع

منظمات شبابية شاركت في التشييع

يلقي شعرا وهو في مطلع شبابه وإلى جانبه الشاعر الراحل توفيق زياد

” افتقاد الغجر للغة مكتوبة حرمهم أهم وسيلة للتعبير وكتابة تاريخهم الخاص وجعلهم بلا أي رواية يمكن نقلــــها إلى أجيالــــهم عبر الســـنيـن  “

صياح بك الأطرش
وقصيدة “يا ديرتي ما لِك علينا لوم”

جانب رئيس تحرير مجلة «الضحى» الغراء
أرى من واجبي الردّ على المقال الذي نسب خطأ فضل نظم القصيدة الشهيرة “يا ديرتي ما لك علينا لوم” إلى مناضل من أبطال الجبل نجلّه ونحترمه، لكنه حسب كافة الأدلة المعروفة ليس هو ناظم تلك القصيدة بل هو المناضل صياح بك الأطرش، وهذا الأمر مثبت ومؤيّد بالكثير من الإثباتات التي دونها أدباء وشعراء ونقاد، نذكر بعض أصحابها الموثوقين، وأول تلك الإثباتات ما ورد في قول صاحبها صياح الأطرش الذي دونه ابنه الدكتور عبدي الأطرش في كتابه (أوراق من ذاكرة التاريخ) والذي جاء فيه:
“ لما شعرنا بأنه لا بدّ من مغادرة البلاد نتيجة ازدياد الآلة الحربية ونتيجة الوضع الإقتصادي والزراعي المتردي الذي استغله العدو في تطويع الكثير من ضعاف النفوس في صفوفه حتى صرنا نتقاتل مع بعضنا البعض، والعدو الحقيقي يتفرج علينا شامتاً وضاحكاً ، ففضلنا مغادرة البلاد طواعية ً لأنه لم يعد بوسعنا أن نعمل شيئاً حيال هذه الظروف القاهرة، وعندها ودعت الديرة وبررت لها أسباب خروجنا واعداً بأننا سنعود مرفوعي الرأس بعد أن نسترد حقوقنا بقيادة سلطان باشا؛ فقلت :
يـــــــــــــــــا ديـــــــــــــــــرتي مالـــــــــــــــــك علــينــــــــــا لـــــــــــــوم لا تعـتبي لـــــــــــــــومك على مـــــــــــــن خـــــــــــــــــان
حنــــــــــــا روينـــا ســيوفنـــــــا مـــــــن القــــــــــــوم مـــــــــــــا نرخصك مثـــــــل الـــــــــــردى بأثمــــــان
لا بـــــــــد مـــــا تغـــدي ليـالــــــــــي الشـــــــــــــــــــوم وتنعـــــــــــــــــز غلـمـــــــــــــــــه قايــــــــــــــــــــدة ســـلــــــــــطـــــــــــــــــان
وان مـــــــا خذينــــــــا حقنـــــــا المهضـــــــــــوم يــــــــــــــا ديرتي مــــــــــــا حـنا لـــــــــــــــــك ســــــكـــــــــــــــــان

الدليل الثاني القاطع على فضل صياح الأطرش في نظم القصيدة جاء من خلال
الشيخ محمد الجرمقاني في رده شعراً على قائل تلك الأبيات وذكره بالإسم
صياح الحمود الأطرش وبنفس القافية والوزن، إذ قال:
حـــيـــــــــــــــــاك يـــــــــــــــــاعـــــــــــــلم ٍلــــــــــفانـــــــــــــــــا اليــــــــــــــــــــوم مـــــــــــــــــن عـــــــــــــــــزوةٍ قــيدومـــــــــــــــــها ســـلطـــــــــــــــــان
حيــــــــــــا ًعدد مُـــــــــــــــــزن الـبرد ونـجــــــــــــوم حيثه صدر من نخبة الشجعـــــــــــــــــان
صيـــــــــــاح رده والـــــــــــســـبـــــــــــايـــــــــــا كـــــــــــــــــــــــــــــــــوم يـــــــــــــوم الـــــــــــعســاكـــــــــــر قـــــــــــــــــــــــــــــــــايــده غـمـــــــــــلان
من فوق شقرا ما غدا بِــــــــــهْ سوم الـــــــــــمرجـــــــــــــــــــــــــــــــلــــــــــــــة قـبـــــــــــلا ًلــــــــــــــــــــــكـــــــــــم والآن
يـــــــــــا صاحبـــــــــــي مـــــــــــالك علــينا لـــــــــــــوم لومـــــــــــك على اللي بـــــــــــالقضيه خـــــــــــان
حــنـــــــــــا وقـعنـــــــــــا بـــــــــــالشـــرك وهمــــــــــــــــــــوم وأنتـــــــــــم على قب الـــــــــــرمك عــقبــــــــــــــــــــــان
اللـــــي تـــــــــــرجّــــــــــــى عــــــــــــدلـهـــــــــــم موهــــــــــــوم عــقـــــــــــب الـــمعـــــــــــزه قـــيـــــــــــدوه بـــــــــــخـــــــــــــــــــــــــــــــــان

وقال الشاعر سليم الدبيسي في جوابه على حداء ( ياديرتي) لصياح وعلى نفس المعنى والمبنى
يـــــــــــا ديــــــــــــــرتي مالـــــــــــك علــينــــــــــــــــــــــا لـــــــــــــــــوم لومـــــــــــك على اللي بـــــــــــالوطن بـــــــــــلاس
صيـــــــــــاح وربعـــــــــــو مذعريــــــــــن القـــــــــــــوم شـــــــــــــــــــــــــــــــــرابتـــــــــــا ًدم الحَمَــــــــــــــرْ بــــــــــــــــــــــالـــكـــــــــــاس

لقد ورد تأكيد نسبة القصيدة للمناضل صياح بك الأطرش في مراجع عدة رصينة نذكر بعضها في ما يلي:
كتاب “بنو معروف في التاريخ” لمؤلفه الأستاذ سعيد الصغير (صفحة 634)
كتاب “أهل التوحيد” للمؤلف المؤرخ الأستاذ يوسف الدبيسي، المجلد الخامس، الصفحة 114 – 115 تحت عنوان ( الحداء ) حيث يقول: “هذه القصيدة الشهيرة في الحداء وضع كلماتها المجاهد صياح الحمود الأطرش، في قرية الهويّا والثوار يستعدون لمغادرة الجبل إلى الأزرق عام 1927”
جريدة “الجبل” لصاحبها الأستاذ نجيب حرب العدد رقم 1287 تاريخ 6/10/1951 على الصفحة الأولى تحت عنوان “قصيدة ومناسبة منذ أيام الجهاد قبل ربع قرن”
جريدة “الجبل” بتاريخ 16 كانون الأول 1981 بقلم الأستاذ صلاح مزهر تحت عنوان “الشعر العامي في الجبل والقضية العامة”
مجلة “النهار العربي والدولي” في عددها 252 بتاريخ 7/3/1982 تحت عنوان الصحراء ولا الإستسلام.

جريدة “الأنباء” اللبنانية بعددها 1407 بتاريخ 5 نيسان 1982 بقلم الأستاذ سامي ذبيان كتب تحت عنوان (في الصحراء مع سلطان باشا والأمير عادل أرسلان وصياح الحمود وعلي عبيد وغيرهم)
جريدة “الشرق الأوسط” بتاريخ 18 أيار 1982 الصفحة الثامنة تحت عنوان (سلطان الأطرش في أربعينه- مذكرات الأديب والمؤرخ الفلسطيني السفير أكرم زعيتر)
مع وجود هذا التوافق الجامع على نسبة القصيدة إلى المناضل صياح الأطرش فقد فوجئنا مع كثيرين من المطلعين على تاريخ الجبل بتبرع الكاتب الصديق الأستاذ إبراهيم العاقل بتبديل الوقائع وإعادة رواية تاريخ تلك القصيدة بسرد يخالف ما هومتفق عليه ودون وجود أي دليل سوى الاستنساب وهو أمر غير جائز في رواية التاريخ. أُنهي كلمتي بالقول إننا كنا نتوخى من الأستاذ العاقل الأمانة في رواية التاريخ وعدم مجافاة حقيقة لا يكاد يرقى إليها أي شك. فعذراً من الراحل الكبير الذي له علينا واجب الحفاظ على تراثه وصون مآثره، وعذراً من الأستاذ العاقل الذي نأمل أن يتسع صدره لهذا التصويب فالحق أولى أن يُتَّبع.

حسام ابو مطر

قطعة أرض وقف المعهد الفني – العقبة

جانب إدارة مجلة «الضحى» الغراء
تحية طيبة وبعد
نشرت مجلة «الضحى» الغراء في عددها الصادر في 8 أيلول 2013 بقلم السيد عماد خير مقالا جاء في الفقرة الأخيرة منه وعلى الصفحة 116 قول الكاتب «لم يقف أبناء العقبة عند هذا الحد بل قدّموا قطعة أرض أخرى في منطقة «الملول» لصالح وزارة التربية والتعليم المهني والتقني لتشييد المعهد الفني الذي كان له الأثر الأكبر في دفع العملية التربوية قدما»
إن ما ذكره الكاتب عار عن الصحة تماما، وفيه تجن على حقوق صاحب المبرّة، فالواقع هو مبين في عقد وهبانية العقار رقم 1602 من منطقة راشيا الوادي لمالكه سماحة الشيخ بهجت غيث لوقف مقام النبي أيوب عليه السلام، وشهادة القيد العائدة لهذا العقار باسم مقام النبي أيوب. علما بأن تكاليف البناء بلغت حوالي سبعمائة ألف دولار وتكلفة التجهيزات حوالي مائة ألف دولار دفعت من صندوق مقام النبي أيوب عليه السلام، مرفق ربطا كتيب فيه صورة عن هذه المستندات. لذلك نرجو أن تقوم مجلتكم وفق الأصول بتصحيح الخطأ في أول عدد يصدر بعد هذا الكتاب ولكم الشكر.
المهندس نبيه أبو شقرا

تصويب1

أخي رئيس تحرير «الضحى» الغرّاء
لا أحسبني وضعتُ يوماً دراسة قط، إلا نشدت فيها الأمانة العلميّة، التي هي أساس كل بحث رصين. ولا أراني اعتمدت “العنعنات” وحدها في وضع ما أضع، ما لم ينقل إليّ الرواية بصير أمين عن بصير أمين، وكنت أتلقف رواية الرواة، فأقابل -في غياب النصّ-بينها،ثم لا اكتبها قبل أن يثبت السماع، وأكون قبل السماع، قد أفرغت الحيلة في البحث عن مصدر مخطوط، أو مرجع مطبوع، فإن لم أوفّق بشيء مكتوب، موثوق، عدت إلى السماع و “تنخّلت” ما وعته أذناي ومحّصته معرفتي وأفضيت إلى (بُرِّ) تَركن إليه الأمانة العلمية، فكتبته ونشرته.
هذا هو ديدني في البحوث والدراسات، أعتمدُ، في خلالها، الموضوعية، وأراعي الدِقّة وأتوخّى الحذر، وأحرص على قلمي، وأحترم القرّاء.
وبعد،
فقد كان الأولى بالمربّي الصديق، صاحب المقالة، وهو من أهل القلم، وأهل جبل العرب في آن معاً، أن يرى إلى ناظم قصيدة “يا ديرتي ما لِك علينا لوم”، وهي القصيدة الذائعة الصيت، التي نظمها صياح بك الأطرش، وترنّم بها الحاضر والبادي، بعد أن طارت في آفاق بلاد الشام، ووقع لي شخصياً أن سمعتها من أبناء بلدتي بعقلين، الذين ارتفعت أعمارهم عن الثمانين قبل أن أشبّ عن الطوق.
أخي رئيس التحرير، هذا ما اقتضى التصويب، بعد تحرّيه، وإني لأرى واجباً علينا أن ننعم النظر في كل ما نريد نشره، وبخاصة التاريخ، ذلك الأمس المحنَّط، الذي لا يقوى أحد على تبديل أحداثه، ولا تحريف أحاديثه.

شوقي حماده

حضرة رئيس تحرير مجلة «الضحى» الأستاذ رشيد حسن
تلقينا من جانب الشيخ الجليل سليمان فندي شجاع التصويب التالي ونحن نشكره عليه لأهمية الموضوع:
تحية طيبة
عطفا على عدد مجلة «الضحى» الأخير
وفي موضوع سيرة الشيخ أبو علي يوسف بردويل أبو رسلان
نعلم حضرتكم أن ما ذكره الكاتب ومفاده إن أول شيخ مشايخ خلوات البياضة الذي انتخب بالإجماع هو الشيخ أبو علي يوسف بردويل أبو رسلان هو أمر غير صحيح ولم نعلم به إلا من خلال المقال المذكور.
لذلك نطلب نشر هذا التصحيح وفقا للأصول
مع فائق التقدير والاحترام
الفقير إليه تَعالى

سليمان فندي شجاع

مخاطر الجلوس الطويل

النظرية العلمية التي صدمت العالم وقد تغيِّر أسلوب حياتنا

اذا كنت تفكر أن الجلوس يريح
فكر مجدداً: الجلوس يقتل

مئات الشركات وعلى رأسها «غوغل» بدّلت طرق عملها
واعتمدت إجراءات أهمها المكتب المصمم للعمل وقوفاً

البشر لم يعرفوا في تاريخهم الجلوس لفترات طويلة
وكان يومهم موزعاً بين الوقوف والحركة والنوم المبكر

في المجتمعات الزراعية متوسط الجلوس 3 ساعات يومياً
وفي المجتمعات المعاصرة يتراوح ما بين 13 و15 ساعة

أظهرت نتائج الدراسات العلمية والطبية التي تجري منذ سنوات أن الجلوس لفترة طويلة خلال اليوم يسبب ضررا بالغا لصحة الفرد ويتسبب بعدد كبير من الأمراض بما فيها زيادة الوزن ومرض السكري وارتفاع ضغط الدم وغيرها.
وجاء في خلاصة بعض تلك الدراسات أن المرء اذا جلس لمدة ساعة من دون انقطاع، فإنه يكون قد جلس طويلا وعرض نفسه للمضاعفات التي باتت تنسب إلى الجلوس الطويل. والنتيجة هي أنه لا يجوز أن تجلس أكثر من 50 دقيقة متواصلة من كل ساعة بل من الأفضل لك حسب نصيحة الباحثين أن تجلس أقل مدة ممكنة، بل حاول أن لا تجلس أكثر من ساعة يوميا.. وقد تظن أن تطبيق هذه النصيحة ليس ممكناً لكن مئات الألوف حول العالم بدأوا يعملون بها من خلال عدد من الوسائل والتغييرات التي أدخلوها على نمط حياتهم اليومية، وأخصها إدخال المكاتب المصممة للعمل وقوفاً.
في المقابل، أظهرت الدراسات التي جرت حول نمط الحياة في البيئة الزراعية أن الذين يعيشون في القرى الزراعية يجلسون حوالي ثلاث ساعات يومياً، بينما يبلغ معدل ساعات جلوس المواطن الأميركي الذي يعمل في المكتب ما بين 13 الى 15 ساعة (إذا أضيفت إلى ساعات الجلوس خلف المكتب ساعات الإسترخاء عند مشاهدة التلفزيون أو العمل على الكمبيوتر المحمول في البيت).
اللافت هو تأكيد الدراسات الطبية على أن تمتعك بصحة جيدة وحتى قيامك بالتمارين الرياضية لا يضعفان احتمال التعرّض للموت المبكر أو العجز بسبب عدم الحراك.
قد يصاب البعض بالدهشة عند قراءة هذه المعلومات، ولكن ما يقوله الدكتور «لفين» في كتابه «انهض:لماذا تتسبب كرسيك بهلاكك وكيف يمكن أن تتحاشى ذلك» حظي بدعم واسع من قبل عدد كبير من الباحثين.

الجلوس الطويل يهدد صحتكa
الجلوس الطويل يهدد صحتكa

عاصفة انتقادات
إن أي فكرة أو وجهة نظر جديدة، حتى ولو استندت إلى العلم، غالباً ما تلاقي مقاومة وعدم تصديق في بداية الأمر. فهؤلاء الذين اطلعوا على نتائج الأبحاث العلمية حول مخاطر الجلوس اعتبروا أن هناك خللاً ما في هذا الطرح، إذ كيف يمكن لنشاط طبيعي مثل الاسترخاء أو الجلوس أن يكون سبباً للأمراض وحتى تقصير عمر الإنسان؟ أليس الجلوس هو أبسط نشاط يقوم به الإنسان منذ القدم!
نتيجة للميل الطبيعي لعدم تصديق نظرية ثورية كهذه تعرّض الدكتور لفين في البدء لموجة من الانتقادات بل الإستهجان وكان مجرد التلميح بكون الجلوس في حد ذاته شديد الضرر، بل ويهدّد الحياة، كشفاً صادماً لم يرد أحد أن يصدقه، حتى أن زملاء الدكتور لفين في المؤسسة الطبية الشهيرة «مايو كلينيك» Mayo Clinic بعثوا برسائل الى كبار اعضاء الهيئة الادارية في المؤسسة يعربون فيها عن شكّهم بأن يكون لفين مصاباً باضطراب وأنه بحاجة إلى تقييم نفسي!!.
أما الآن، وبعد أن أتيح لمعاهد الأبحاث وللأطباء تفحص استنتاجات الدكتور لفين والقيام بأبحاث مستقلة أكّدت صحة ما توصل إليه، فقد تكوّن رأي عام واسع في الأوساط الطبية يؤيد نظرية مخاطر الجلوس، بل إن النتائج التي توصل إليها الدكتور لفين والتي لخصها في عنوان كتابه «إنهض» تحوّلت إلى مبادئ بدأت تأخذ بها الشركات من خلال التشجيع على تخفيف الجلوس الطويل أو إدخال مكاتب العمل وقوفاً إلى مكان العمل لديها، ومن بين أشهر الشركات التي بدأت في تطبيق نتائج الأبحاث حول مخاطر الجلوس شركة «غوغل» التي يعمل لديها نحو 55,000 موظف، وبالطبع عندما تأخذ شركة عالمية مثل «غوغل» نتائج تلك الأبحاث على محمل الجدّ فإنها تقدم دعماً كبيراً لتلك النظرية يجعل من الصعب تجاهلها. ومنذ ذلك الوقت، نُشِرت عشرات الأبحاث الرئيسية التي أيّدت نتائج أبحاث الدكتور لفين، وظهرت الحقيقة الدامغة وهي أن الجلوس يؤثر سلباً على الصحة، وأن من الضروري بالتالي البدء في تغيير نمط الحياة الذي طورناه بسبب سيطرة نظام المكاتب ثم دخول التلفزيون ووسائل التسلية الإلكترونية.
لقد أصبح على الناس أن يتعاملوا مع الجلوس في حد ذاته كأمر مغاير لطبيعة الجسم البشري المعتاد منذ القدم على العمل والحركة الدائمة. ومعروف أن الأقدمين، وحتى انتشار الحضارة الصناعية وانتقال ثلث البشر للعيش في المدن، كانوا يمضون معظم يومهم في العمل في الأرض أو في الرعي أو في أعمال البناء وغيرها من الحرف أو في صيد الأسماك أو في التنقل أو غيرها من النشاطات التي تتطلب جميعها السير أو الوقوف مع الحركة وليس الجلوس، وكانوا عند انتهاء يوم العمل الشاق يرتاحون قليلاً ثم يخلدون إلى النوم المبكر، أي أن حياة الأفراد، بما في ذلك النساء، كانت موزّعة بين العمل ساعات في وضعية الوقوف وبين فترات الطعام ثم الإخلاد إلى النوم المبكر. فلم يكن هناك دواع للجلوس بإستثناء فترات الطعام أو المسامرة في العشاء، أي أن ما أصبحنا نعتبره أمراً طبيعياً (أي الجلوس شبه الدائم) ليس في حقيقته كذلك بل هو شواذ على القاعدة التي سارت عليها البشرية لألوف السنين.
لقد كان الإستنتاج العلمي بأن التمارين الرياضية غير قادرة على حمايتنا من أخطار الجلوس لمدة طويلة صدمة لكثيرين فعلاً لأنه يظهر أن مساوئ الجلوس الطويل لا يمكن التعويض عنها بعادة التمارين اليومية مثل تمضية نصف ساعة أو أكثر على منصة المشي السريع الكهربائية Treadmill وبالتالي فإن إبعاد شبح الأمراض الذي قد يسببها الجلوس الطويل غير ممكن إلا بحل واحد هو بكل بساطة: عدم الجلوس لفترات طويلة.

زراعة-الأرز-في-النيبال---نظام-حياتنا-منذ-القدم-لم-يعرف-الجلوس-إلا-للراحة-بعد-العمل
زراعة-الأرز-في-النيبال—نظام-حياتنا-منذ-القدم-لم-يعرف-الجلوس-إلا-للراحة-بعد-العمل

أمراض الجلوس الطويل
يقول الدكتور لفين إن هناك اربعة وعشرين مرضاً مزمناً يتسبب بها الجلوس لمدة طويلة. ويشرح ذلك بالقول إنه عندما تجلس لمدة طويلة ثم تنهض، فإنه وبعد مرور 90 ثانية على نهوضك تتحرك آلية تنشط الجزيئات على مستوى الخلايا التي تعالج سكر الدم، الدهنيات، والكولسترول، كما تنشط خلايا العضلات. ان تحريك هذه الآلية بمجرد الوقوف وبالتالي تنشيط الجزيئات على مستوى الخلايا هو الذي يساهم في تحصين الجسم ضد كل هذه الأمراض.
ان تنشيط جزيئات الخلايا ينتج بكل بساطة بسبب حمل ساقيك لوزن جسمك. هذه الجزيئات هي التي تزود جسمك بالطاقة. هذا منطقي جداً يقول الدكتور لفين، ان جسم الانسان مصمم ليكون ناشطاً طوال اليوم وليس ليحشر داخل كرسي، الأمر الذي يتسبب بتوقف آلية جزيئات الخلايا. بالتأكيد نحن بحاجة إلى الراحة من وقت إلى آخر، ولكن يجب أن لا تكون الراحة هي أسلوب حياتنا. وبهذا المعنى فإن وضعية الجلوس غير الطبيعية هذه لا تؤذي فقط ظهرك ومعصميك وذراعيك بل تتسبب بتباطؤ عمل الأجهزة الاساسية التي تزود الجسم بالطاقة والتي توفق بين ما يجري داخل الأوعية الدموية مع ما يجري داخل العضلات والخلايا.
ان وضعية الجلوس هذه هي التي تسبب بارتفاع مستوى سكر الدم وارتفاع مستوى ضغط الدم وارتفاع معدلات الكولسترول وارتفاع نسبة السموم التي تسبب مرض السرطان.
الذين اعترضوا على نظرية مخاطر الجلوس الطويل كانوا يتجاهلون أو كانوا قد نسوا أن الإنسان لم يعرف الجلوس الطويل في المجتمعات الزراعية، وأن هناك فرقاً شاسعاً بين مدة الجلوس الطبيعية بعد العمل في الأرض مثلا وبين مدة الجلوس العصرية غير المناسبة. لذلك عندما نحاول أن نحدّد المدة الدنيا للوقوف خلال اليوم، يجب أن ندرك أننا نتعامل مع مسألة صحية في منتهى الأهمية. ويقترح بعض الخبراء ان نتخذ وضعية الوقوف لمدة عشر دقائق على الأقل بعد الجلوس لمدة خمسين دقيقة متواصلة. لكن الدكتور مركولا يعتقد أن هذه المدة لاتكفي وأنه يجب أن نحافظ على وضعية الوقوف لأطول مدة ممكنة والمهم هنا أن نحاول أن لا نجلس أكثر من ثلاث ساعات يومياً.
يقول الدكتور مركولا عن تجربته في تغيير نمط عمله الذي أصبح في أكثره وقوفاً: “كنت شغوفاً جداً بممارسة الرياضة طوال خمسين عاماً، وما زلت أتمتع بلياقة بدنية ممتازة ولكنني قمت بتعديل طريقة حياتي بناءً على نتائج الأبحاث حول الجلوس ومخاطره. والتعديل الأهم هو أنني أجلس الآن لأقصر مدة ممكنة وأطمح لأن أجلس اقل من ساعة يوميا، ولقد تمكنت من خفض المدة الني امضيها يوميا بوضعية الجلوس في الايام العادية – والتي كانت تتراوح ما بين 12 و14 ساعة – الى أقل من ساعة يومياً. يضيف الدكتور مركولا أنه وبعد قيامه برحلة استغرقت أسابيع طويلة قطع فيها مسافات شاسعة سيراً على الأقدام لاحظ امراً مدهشاً إذ زال وجع الظهر الذي عانى منه لسنوات. يقول:” لقد جربت سابقاً الاطباء المختصين بتقويم العظام، جميع أنواع تمارين الظهر، ولم أشعر بأي تحسن لغاية قيامي بهذا التمرين ثم خفض ساعات الجلوس بطريقة جذرية، وأنا مندهش كيف غاب عني هذا المبدأ الصحي الهام طوال هذه السنين”.
يختم بالقول: أنا على أتمّ القناعة بأن مزيجا من النشاط الرياضي والسير لمدة 9 كلم يومياً، وتحاشي الجلوس بقدر الإمكان هو أفضل طريقة للتمتع بلياقة بدنية جيدة وحياة سعيدة خالية من المرض والمنغصات..

ما الذي يمكننا أن نقوم به في مكان العمل؟
تشير دراسات عديدة الى أن الشركات التي تسمح لموظفيها بالوقوف بدلاً من الجلوس أثناء قيامهم بعملهم تزيد من انتاجيتها اضافة الى تحسين وزن موظفيها.
ما يقوله الدكتور لفين في هذا الخصوص: “من أجل ايجاد حل قابل للتطبيق في الشركات الاميركية، طورنا عدة طرق يمكن بواسطتها خفض عدد ساعات الجلوس في المكتب. مثل بسيط: اذا كانت لديك شركة يتطلب عمل موظفيها عقد عدة اجتماعات يومياً، فإن احدى التوصيات التي اقترحناها هي أن تعمد هذه الشركة إلى تطوير نظام يسمح للموظفين بعقد اجتماعات بأسلوب المشي في القاعة. فإذا تمكّنا من تحويل ثلاثة من الإجتماعات اليومية الى اجتماعات “سر وتكلم” نكون قد استبدلنا ثلاث ساعات من الجلوس بثلاث ساعات من السير. وبصورة عامة لا بدّ من أن نضع حلولاً تمكّن الناس من الوقوف ثلاث ساعات إضافية يومياً على الأقل.
بعد هذه المعلومات عن مخاطر الجلوس لمدد طويلة نعرض هنا لنتائج دراسة مطولة قام بها أربعة من الخبراء الأميركيين حول الموضوع وهم عرضوا لتلك المخاطر على الشكل التالي:

نظام-الدراسة-وقوفا-يدخل-المعاهد-باعتباره-يعزز-الانتباه-ويساعد-التلامذة-على-خسارة-الوزن-الزائد
نظام-الدراسة-وقوفا-يدخل-المعاهد-باعتباره-يعزز-الانتباه-ويساعد-التلامذة-على-خسارة-الوزن-الزائد

 

أمراض القلب
عند الجلوس لفترة طويلة، تحرق العضلات كمية أقل من الدهون ويتباطأ تدفق الدم مما يسمح للأحماض الدهنية بالتراكم وتضييق شرايين القلب بسهولة. وهناك ارتباط بين الجلوس لمدة طويلة بإستمرار وارتفاع ضغط الدم وارتفاع مستوى الكولسترول وأمراض القلب.

البنكرياس
ينتج البنكرياس الأنسولين، وهو الهورمون الذي ينقل السكر الى الخلايا لتزويدها بالطاقة. لكن الخلايا في العضلات الساكنة لا تستجيب بسرعة للأنسولين مما يجعل البنكرياس ينتج كميات أكبر من الأنسولين الأمر الذي يتسبب بمرض السكري وأمراض أخرى.

سرطان القولون
إن الجلوس لفترة طويلة بإستمرار قد يسبب سرطان القولون. ورغم وجود العلاقة لهذا المرض بالجلوس الطويل فإن السبب الفعلي غير واضح ولكن هناك نظرية تقول إن الافراط في انتاج الانسولين عندما تكون العضلات ساكنة، يعزز نمو الخلايا الخبيثة في الأمعاء الغليظة..

ضعف وتلف العضلات
عندما نجلس في كرسي دون حراك لفترة طويلة نحن لا نستخدم عضلاتنا ومع مرور الزمن تضعف تلك العضلات وتتعرض للوهن.

إرهاق الوركين
الوركان المرنان نتيجة المشي أو الوقوف يحافظان على توازن الجسم. ولكن الاشخاص الذين يجلسون لفترة طويلة باستمرار لا يحركون عضلة الورك الأمامية القابضة وهذا يتسبب بقصرها وتشنجها. وتشير الدراسات الى أن النقص في مرونة عضلة الورك القابضة هو سبب رئيسي في سقوط كبار السن.

مشاكل الساق
الجلوس لفترات طويلة من دون حراك يبطئ حركة الدورة الدموية مما يؤدي الى تجمع السوائل في الساقين الأمر الذي يسبّب مشاكل متعددة كالدوالية، تورم أو انتفاخ الكاحلين، والتخثر أو الجلطة.

نسبة الخطر عدد ساعات مشاهدة التلفزيون
4% 1-2
14% 3-4
31% 5-6
61% 7 +

 

ترقق العظام
ان النشاطات التي تحمل خلالها الساقان ثقل الجسم كالمشي العادي أو السريع تنشط عظام الوركين وعظام الجزء السفلي من الجسم بحيث تزداد سماكتها، كثافتها، وقوتها. ويعزو العلماء تزايد حالات ترقق العظام لقلة النشاط الجسدي.

آثار على الدماغ
العضلات المتحركة تضخ باستمرار الدم النقي والاوكسيجين للدماغ وتطلق جميع انواع الناقلات الكيماوية التي تنشط الدماغ وتحسن المزاج. عندما نجلس لفترات طويلة تتباطأ جميع الوظائف بما فيها وظيفة الدماغ.

التواء وتشنج العنق
اذا كنت تقوم بمعظم عملك وأنت جالس خلف مكتب، فإن حني عنقك الى الأمام نحو لوحة مفاتيح الكومبيوتر وإمالة رأسك لاستخدام الهاتف أثناء قيامك بالطباعة، سيتسببان باجهاد الفقرة العنقية وبخلل دائم في التوازن.

تشنج الظهر والاكتاف
عندما نجلس على مقعد بطريقة مترهلة، نحن لا نحني رقبتنا فقط بل نحني كتفينا أيضاً، وهذا يتسبب باجهاد لعضلات الظهر والكتفين وخاصة العضلات التي تربط العنق بالكتفين.

عمود فقري غير مرن
عندما نتنقل، تتمدد وتتقلص الأقراص الفقرية اللينة كالإسفنج وتمتص الدم النقي والمواد المغذية اللازمة. ولكن عندما نجلس لفترة طويلة دون حراك، تنسحق الأقراص الفقرية اللينة بطريقة غير متعادلة مما يتسبب بتصلب الكولاجين حول الأوتار والأربطة الداعمة.

التلفزيون وخطر الموت المبكر
أظهرت دراسات عديدة استغرقت حوالي التسع سنوات أن مخاطر الموت جراء مشاهدة التلفزيون تزداد بإزدياد عدد الساعات التي نقضيها في مشاهدة التلفزيون.
أفضل طريقة للجلوس
بناءً على الدراسات العديدة التي أجريت حول مخاطر الجلوس فقد تمّ التوافق بين الخبراء والباحثين على مجموعة من النصائح حول أفضل وضعية للجلوس في حال الاضطرار إلى ذلك مع العلم أن القاعدة الآن هي تجنبّ الجلوس قدر الإمكان، وربما ليس أكثر من ساعة أو ساعتين، واعتماد مكاتب مصممة للعمل وقوفا، وهذا النوع من «مكاتب الوقوف» Standing desks بدأ ينتشر بصورة كبيرة في الشركات، لكن إلى أن يتسنى لك اللحاق بركب العلم وشراء مكتب مخصص للعمل وقوفاً (أنظر الموضوع المرفق) فإن الخبراء والأطباء ينصحون باعتماد القواعد التالية في الجلوس أثناء العمل:
• اجلس بوضعية مستقيمة مواجهاً شاشة الكمبيوتر
• لا تنحني الى الأمام عند الكتابة أو عند إجراء أي عملية على شاشة الكمبيوتر
• إجعل الاكتاف مسترخية ولا تتركها تتشنج لا شعورياً
• الأذرع يجب أن تكون بمحاذاة الجسم
• إدعم القسم السفلي من الظهر (وسادة أو ما شابه)
• إحرص على أن تكون الأقدام ملامسة للأرض

اضافة الى هذه التعليمات يوصي الخبراء بالتالي:
• الجلوس على كرسي من غير مسند للظهر
• تمديد العضلات القابضة للوركين ثلاث دقائق لكل جهة يومياً
• المشي لأطول مدة ممكنة خلال متابعة برامج التلفزيون. (اغتنم فرصة الإعلانات لتقوم من مكانك!).
• حاول أن تمزج بين الوقوف والجلوس في مكان عملك واذا لم يكن ذلك ممكنا، حاول أن تمشي بضع دقائق كل نصف ساعة.

خاتمة
إن النتيجة الأساسية التي لا بدّ من استخلاصها من هذا المقال هي أن علينا إحداث تغيير جذري في نمط عيشنا وأن نبدأ البحث عن أسلوب لخفض ساعات الجلوس في المكتب وربما أن ننتقل إلى استخدام مكتب العمل وقوفاً، وتخفيف الجلوس على الصوفا في مقابل التلفزيون. يجب أن نقاوم إغراء إلقاء ثقلنا على الكنبة والاسترخاء، فهذه النزعة مثقلة بالمخاطر كما اتضح وأن نعتاد على حياة أكثر نشاطاً ومع نسبة جلوس أقل بكثير.
وبالطبع فإن على كل منا أن يبحث عن الحل الذي يلائمه لكن الحد ّالأدنى هو الانتباه على الأقل لتغيير وضعية الجلوس إلى وقوف بين الفينة والأخرى وأن نكون على يقين بأن عادة الجلوس هي أسوأ العادات التي اكتسبناها من مجتمع الحضارة المعاصرة والمدن ونظام المكاتب وشاشة التلفزيون.

فوائد المكاتب المصممة للعمــــــل وقوفــــا

مكتب-العمل-وقوفا-هو-المستقبل
مكتب-العمل-وقوفا-هو-المستقبل

طوّر الدكتور لفين مكتباً على نسق آلة المشي يسمح للموظف الذي يستخدمه القيام بأعماله المكتبية أثناء ممارسة المشي، كما إن هناك نماذج مختلفة من المكاتب المصممة للعمل وقوفاً في الاسواق. وكان عدد من الأطباء والمختصين شككوا في البدء في أن تكون هذه المكاتب مناسبة صحياً، وذلك بسبب الاعتقاد الذي كان سائداً في السابق، بأن الوقوف مؤذ للصحة ولكن أصبحت هناك الآن قناعة عامة بأن الوقوف، والمكاتب المصممة للعمل اثناء الوقوف، هما الحل الأفضل. ولكن كيف نفسر ذلك؟
عندما يقف شخص ما خلف مكتب مصمم للعمل وقوفاً فإنه سيتخذ وضعية الوقوف لعدة ساعات خلال يوم العمل، ولكنه لن يقف ساكناً من دون حراك، إذ سيحصل عندها أمران: الأمر الأول هو أن الشخص الواقف عادة ما ينقل ثقل جسده من ساق الى أخرى كما إنه يغير وضع جسمه بإستمرار. ان حمل ثقل الجسم ونقله من ساق الى أخرى لهما عدة فوائد فيزيولوجية لعضلات، التوازن العضلي، كما إنه مفيد لتقوية قشرة الدماغ البصرية ومنشِّط للجزيئات الخلوية. الأمر الثاني هو أن الاشخاص الذين يعملون وقوفاً خلف المكاتب يعمدون الى المشي للتكلم مع زملائهم بدلاً من تبادل الحديث عبر البريد الإلكتروني كما إنهم عندما يحتاجون للتشاور بشأن العمل يميلون للمشي أثناء المحادثة.
يقول الدكتور لفين: «الوقوف من دون حراك غير مفيد للصحة، ولكن الخبر السار هو أنك عندما تعمل خلف هذا النوع من المكاتب، فإنك تتحرك بإستمرار بصورة لا شعورية، وبالأخص عند وجود موظفين آخرين يعملون معك في نفس القاعة. وعندما يقف عدد من الموظفين في مكتب فسيح فإنهم يخلقون مناخاً محفزاً للحركة».
يقول الدكتور مركولا: ان اقصى ما اتمناه هو ان يصبح الوقوف مع الحركة هما الوضعية السائدة في عمل الموظفين العاملين في المكاتب العصرية بدلاً من الوضعية السائدة حالياً وهي وضعية الجلوس وقلّة الحركة.

دليل المزارع الى التسميد العضوي

دليـل المـزارع إلــى التسميد العضوي

ما هي الأسمدة العضوية ومصادر الحصول عليها
طريقة إنتاج السماد العضوي وتخميره وتخزينه

ما هي الآثار المباشرة لإستخدام التسميد العضوي
ولماذا لا يعتبر سماد مزارع الأبقار والدواجن عضوياً؟

خليط من روث الغنم والدجاج تم تخميره مع المواد العضوية من الحقل
خليط من روث الغنم والدجاج تم تخميره مع المواد العضوية من الحقل

لا يختلف إثنان في أن التسميد هو من أهم العوامل التي تقرّر إذا كانت الأرض التي تستثمر فيها الوقت والمال ستعطي الموسم المأمول الذي يفرح قلب المزارع. ليس السماد وحده بالطبع الذي يقرّر حجم «الغلة» أو المحصول، فالزراعة وإن كانت فناً له فروعه وأسسه العلمية إلا أنها ليست فناً دقيقاً مثل الصناعة لأنها مرتهنة بعوامل الطبيعة مثل الطقس وتقلباته الحادة ومفاجآته أحيانا أو مثل الآفات وما يجري في الطبيعة من تغيرات بسبب عمل الإنسان.. ونحن هنا نتكلم عن الزراعة الطبيعية أي التي نمارسها كما كان يمارسها أجدادنا من دون إدخال تقنيات التسميد الصناعي والمكافحة الكيماوية وغير ذلك فنحن نتكلم عن الزراعة الطبيعية التي نؤيدها ونعتبر العودة إليها أمراً لا بدّ منه إذا أردنا وقف التدهورالكارثي في بيئتنا وفي غذائنا وصحتنا.
لكن إذا كان الطقس خارج إرادة المزارع الطبيعي، فإن إدارة التربة وخصوبة الارض واستخدام التطبيقات الصحيحة وفي الوقت الملائم للتسميد تبقى هي العامل الأساسي الذي يمكننا التحكم به للحصول على أفضل النتائج من الأرض.
التسميد العضوي هو حجر الزاوية سواء للبستنة البيتية (أي التي تهتم بحاجة البيت والأسرة ) أو للزراعة الاقتصادية التي تعول على بيع المواسم في السوق وتحصيل دخل من الإنتاج. وبسبب أهمية التسميد فإننا سنعالج الموضوع على حلقتين: في الحلقة الأولى هنا سنركّزعلى التعريف بالتسميد العضوي ومصادره وأهميته وآثاره وكيفية الحصول عليه وتخميره وسنركّز بصورة خاصة على التمييز بين أنواع السماد العضوي الناجمة عن التربية المنزلية للماشية أو الدجاج والطيور وبين الأسمدة العضوية الناجمة عن مزارع الأبقار والدواجن الكبيرة والحديثة والتي تعتمد على أنواع محددة من الأعلاف الصناعية المركبة ومن المعالجة المستمرة بالمضادات الحيوية أو غيرها من المكونات غير الطبيعية.
ونبدأ هنا بلفت الانتباه إلى أن ما يقرر نوعية السماد العضوي ليس كون الماشية تربى منزلياً أو في مزارع بل نوع العلف الذي يعطى لتلك الحيوانات. فإذا كان المزارع أو هاوي الزراعة يربي ماعزاً في المنزل مثلاً طمعاً في الحصول على سماد عضوي لكنه يطعم الماعز علفاً مركباً من النوع المستخدم في مزارع الأبقار فإن ما سيحصل عليه هو سماد من نوعية متدنية جداً ويحتوي على مخلفات الهرمونات والمضادات الحيوية وبالتالي لن يكون سماداً عضوياً أو «بلدياً» ولن يكون بجودة المنتج العضوي المعتمد على السماد الطبيعي الذي لم تدخله تلك العناصر، وسنعود إلى هذه النقطة في وقت لاحق.
نعترف بالطبع بأننا عندما ندعو إلى التسميد العضوي فإننا سنواجه السؤال من المزارع : من أين نأتي بهذا السماد؟ وهذا السؤال محق لأن السماد العضوي يتراجع من حيث الكميات المتوافرة ولم يعد الموجود منه في مراكز تربية الماعز البلدي مثلاً يكفي لتلبية حاجة المزارعين. أما عن السماد البقري فلا يوجد في السوق سماد بقري طبيعي أي لم ينتج عن تغذية البقر بالعلف المركب، لذلك فإن كل السماد البقري عموماً هو من نوعية متدنية ويحتوي على نسب عالية من الهرمونات والمضادات الحيوية، وهذه يمكن تفكيك معظمها إذا تمّ تخمير السماد مع ما ينجم عن ذلك من تولّد حرارة عالية داخل كومة السماد، وهذا يعني أن السماد البقري يمكن استخدامه بشروط التخمير الجيد، وهذا النوع من السماد متوافر بصورة أفضل بسبب عدد مزارع الأبقار وانتشارها.
ينطبق الشيء نفسه على سماد الدجاج الوارد من المزارع والذي يتميز عادة برائحة منفِّرة بسبب منشئه من العلف الجاهز المختلط بالهرمونات وبالكثير من العناصر غير الطبيعية. وهذا السماد متوافر أيضاً وبأسعار رخيصة لكنه لا يعتبر عضوياً أو «بلدياً» لكن حتماً أفضل من الأسمدة الكيماوية.
للذين يودون لغذائهم أن يكون عضوياً بكل معنى الكلمة أي طبيعياً وكما اعتاد الجدود أن يحصلوا عليه، فإن عليهم أن يقبلوا بضرورة تربية بعض الحيوانات الأليفة باعتبار ذلك حلقة أساسية في دورة الزراعة العضوية. ومن أكثر الحيوانات الأليفة فائدة الماعز الحلوب وخمسة منها يمكن أن تنتج حاجة المنزل إلى السماد العضوي لكن شرط أن لا يُقدَّم للماعز العلف المركب والمحتوي على نسب عالية من الهرمونات والعناصر الكيماوية ويعطي بدلاً من ذلك خلطة طبيعية من الشعير والتبن أو يقدّم له العشب إذا لم يكن ممكناً أخذه ليرعى العشب في الطبيعة، لكن تربية الدجاج البلدي وربوالأعلاف الطبيعية والبقولية. أما الدجاج فيمكن أن يوفّر مصدراً عظيم الأهمية للسماد الطبيعي لكن ودائماً شرط أن لا يقدّم له العلف المركب وأن يقتصر غذاؤه على القمح والذرة وبقايا الخضار والأطعمة المنزلية وربما الحشائش، وتربية الدجاج في مكان مغلق يعطي إنتاجاً للسماد أكبر مما لو كان الدجاج سارحاً في الطبيعة.
أخيراً، فإنه وبالإضافة إلى المصدر الحيواني فإن في إمكان أي مزارع أن يوفّر ما يلزمه من أسمدة عضوية من خلال تخمير النفايات العضوية المنزلية وحشائش الحديقة ومخلفات عضوية أخرى وربما الكرتون والصحف وأوراق الشجر اليابسة ومخلفات محاصيل البقوليات مثل الفول والبازيللا والباقي والبرسيم والجلبانة وكلها تعتبر من «الأسمدة الخضراء»، مع إضافة بعض الأسمدة العضوية لها مثل سماد الدجاج والفوسفات الصخري (الطبيعي)، وسيتوافر من ذلك خليط ممتاز من السماد الطبيعي. إذاً ليس الأمر بهذه الصعوبة فإذا كان أي منا يفكّر باستخدام التسميد العضوي، فالحلول تتدرج من البسيط إلى الأكثر تطوراً وذلك وفق حاجة الشخص ورغباته واستعداده للمبادرة وعمل شيء من أجل الأخذ بزمام صحته وصحة أسرته.
ونحن ندعو بقوة إلى الاقتصار على التسميد العضوي لأن الأخير يعطي نتائج أفضل من حيث كمية ونوعية المحصول ولأن السماد العضوي ليست له أي آثار سلبية على البيئة حتى لو استخدم بكميات أكبر من الضرورة، بينما يؤدي الإستخدام العشوائي والمتكرر للأسمدة المعدنية (الكيماوية) أولاً الى تدهور نوعية التربة وتكوينها البيولوجي وبالتالي تراجع مواصفاتها كتربة زراعية، وكذلك تضرر البيئة بسبب تسرب الأسمدة الكيماوية إلى الأنهار والمياه الجوفية.

الأسممدة-العضوية-منتشرة-في-العالم-وتأتي-بعدة-خلطات
الأسممدة-العضوية-منتشرة-في-العالم-وتأتي-بعدة-خلطات

 

 

المكونات المعدنية والعضوية لبعض انواع الاسمدة العضوية:

مادة عضوية (%) بوتاسيوم (%) فوسفور (%) آزوت (%) نوع السماد
30 0,5 0,2 0,7 سماد بقر
60 0,4 0,15 0,7 سماد خيل
60 2,3 0,5 2,0 سماد ماعز
50 1,6 0,6 1,6 سماد دجاج
80 1,05 0,1 0,6 اسمدة نباتية

السماد العضوي : رأي العلم
تؤكد الدراسات العلمية أن الأسمدة العضوية هي المصدر الوحيد الذي يمدّ التربة بالمواد الضرورية لتكاثر الكائنات الحية الدقيقة (البكتيريا) التي تعمل على تحضير الغذاء اللازم للنبات. وتعتبر المادة العضوية ذات تأثير غير مباشر على الخواص الطبيعية والكيماوية والحيوية في التربة، فهي المسؤولة أكثر من أي عامل فردي آخر عن الثبات والتماسك، كما إنها مسؤولة عن حوالي 50% من السعة المائية للأراضي إلى جانب تأثيرها على تعديل حموضة التربة. لذا، نجد أن الأراضي الموروثة من أجدادنا كانت تعطي إنتاجاً وفيراً لأنهم كانوا لا يستخدمون الأسمدة الكيماوية والمبيدات على انواعها وأيضاً لا يستخدمون الأسمدة الحيوانية من المزارع التي تعتمد في غذائها على المركبات العلفية لأنها، ولحسن حظهم، لم تكن موجودة في ايامهم.

فوائد التسميد العضوي
للتسميد العضوي للتربة وما نضيفه من مواد عضوية فوائد كبرى للتربة والنباتات أهمها:
• يساهم في زيادة قدرة التربة على امتصاص كمية كبيرة من الماء والاحتفاظ بها، هذا اذا كانت التربة رملية او ذات حبيبات كبيرة نوعاً ما.
• يساعد التربة الطينية الثقيلة ذات الحبيبات الصغيرة جداً على تهوئتها وصرفها للماء الزائد وارتفاع نسبة الكائنات الحية الدقيقة فيها التي تفكك السماد وتحلله وتحوله كغذاء صالح لامتصاصه من قبل جذور النبات.
• إن الأسمدة العضوية تساعد جذور النبات على التغلغل بين حبيبات التربة بسهولة بحثاً عن الرطوبة والمواد الغذائية.
يكتسب التسميد العضوي أهمية خاصة في الزراعة الحديثة ولاسيما في الأراضي الرملية المفتقرة إلى المادة العضوية بالإضافة إلى تقليل نسبة الخسارة من العناصر الغذائية تحت ظروف الري المكثّف حيث تمتاز المادة العضوية بخاصية تفعيل تكوين وتركيز العناصر الغذائية الكبرى والصغرى مما يجعلها متواجدة بصورة دائمة وقابلة لإمتصاصها في منطقة انتشار الجذور، إلا أنه قد يلجأ بعض المزارعين في استخدام مخلفات الصرف الصحي الصلبة وكذلك مخلفات نفايات المنازل الصلبة؛ كلاهما يحتوي على عناصر ومواد صلبة غير قابلة للتفكك في التربة مما قد يؤدي الى ترسب هذه المواد في الثمار والخضار الورقية وبالتالي في جسم الإنسان والحيوان والمياه العذبة.

الماعز والداج مصدران أساسيان للأسمدة العضوية
الماعز والداج مصدران أساسيان للأسمدة العضوية

تركيبة السماد البلدي
يعتبر السماد الحيواني الطبيعي من أفضل الأسمدة العضوية الذي يضاف الى التربة. وتعتبر مخلفات حيوانات المزرعة غنية بمحتواها من العناصر الغذائية الضرورية للنبات وعموماً فإن حوالي 80-95% من العناصر الغذائية الموجودة في العلف الطبيعي المقدم للحيوان تفرز مع الروث والبول، ووجد أيضاً أن الحيوانات المنتجة للحليب والبيض تفرز 80%، أما الحيوانات المعدّة للحم فتفرز 95% من العناصر الموجودة في العلف، كما تمثل المواد العضوية 40% من المواد الموجودة في العلف، وأثناء تحضير وتخزين السماد البلدي فالمهم هو أن لا يفقد السماد البلدي رطوبته طوال فترة الاحتفاظ به في المزارع لأن السماد العضوي الخالي من الرطوبة يفقد الكثير من خواصه الطبيعية (المواد الغذائية والكائنات الحية الدقيقة…). ومن أهم التغيرات التي تحدث في السماد البلدي المحضر والمخزن هو تعرض النيتروجين (الأزوت) للتناقص في صورة غير طبيعية حيث تقوم الكائنات الحية الدقيقة المتخصصة في تحويل اليوريا (الأسيد البولي) الموجودة في البول إلى كربونات الأمونيوم والتي بدورها تتحلل بسهولة.
تبين أيضاً، في إحدى الدراسات، خسارة المواد الغذائية في الكومة غير المغطاة قد يصل إلى 20% للنتروجين و7% للفوسفور و35% للبوتاسيوم في حالة التخزين في الهواء، وتزداد نسبة الخسارة اذا وضعت الكومة على التراب وتحت تساقط الأمطار.
ملاحظة: إن المعدل المتعارف عليه دولياً للسماد البلدي هو أن لا يقل وزن المتر المكعب الواحد منه عن 700 كلغ اي يجب الحفاظ على رطوبته المشبّعة بالمواد الغذائية.

الطرق السليمة لإنتاج وتخزين السماد البلدي
يمكن تحضير سماد بلدي جيد بإتباع الأسس السليمة التالية:
• يجب أن تكون أرض مكان التخزين إسمنتية وغير قابلة لإمتصاص السوائل.
• الفرشة المستعملة في زريبة الماشية: من المفضّل ان تكون خليطاً من مخلفات نباتية من البساتين والحدائق والمزارع (قش الحبوب والذرة والمحاصيل الحقلية بعد تكسيرها) وتوضع الفرشة متجانسة التوزيع تحت الحيوانات بمعدل لا يزيد على 2 كلغ من المخلفات النباتية لكل حيوان يومياً يزيد وزنه على 400 كلغ.
• يفضل إضافة الجبس الزراعي أو صخر الفوسفات مع الفرشة بمعدل 20 كلغ لكل حيوان أسبوعياً بنفس الوزن حيث أن كبريتات الكالسيوم تحدّ من خسارة الأمونيوم (الأزوت) كما إن الفوسفات يسهّل عملية إمتصاص المواد الغذائية من قبل جذور النبات.
• يفضّل إبقاء السماد أطول فترة ممكنة بالمزارع حتى تحتفظ بكمية كبيرة من العناصر الغذائية من 6 الى 12 شهراً.

“مخلفات الصرف الصحي ونفايات المنازل تحتوي على عناصر صلبة غير قابلة للتفكك وقد تنتهي في جسم الإنسان خصوصاً عبر الثمار والخضار الورقية”

الطرق المتّبعة لتخمير السماد الحيواني
• السماد البارد
يخزن السماد بارداً في الأقبية على دفعات يومياً بعد تنظيف المزرعة من الروث ووضعه في كومة ثم تدك بواسطة آلات خاصة شبيهة بالمحادل الصغيرة هذا في مزارع البقر والخيول، أما في مزارع الماعز والأغنام فترص بواسطة الاقدام بعد تجميعها، لتمنع دخول الهواء الى الكومة وتحافظ على درجة الحرارة في الكومة 30 درجة مئوية تقريباً. هذه الطريقة تقلل تبخير الأزوت من السماد. لكن هذه الطريقة تنتج مواداً سامة في كومة السماد، لذا يجب عند إضافة السماد الى التربة أن يترك فترة يومين على الأقل بعد وضعه على سطح التربة قبل طمره. وتحت هذه الظروف، يتم التخلص من بذور الحشائش وكذلك الميكروبات الممرضة لارتفاع تركيز الأمونيا او الأزوت فيها.
• السماد الحامي
وفيه تتم الاستفادة من مميزات الظروف الهوائية واللاهوائية عند تخزين السماد حسب العوامل الطبيعية من حرارة ورطوبة، حيث يتم إضافة طبقات السماد إلى الكومة تدريجياً فتترك الطبقة الأولى من 2-4 أيام قبل إضافة الطبقة التالية حيث تصل درجة الحرارة إلى حوالي 50 درجة، وبذلك فإن الطبقات السفلى تتوفر فيها الظروف اللاهوائية فتنخفض الحرارة إلى 30 درجة، وفي هذه الطريقة تحتوي الكومة على نسبة عالية من المادة العضوية بالإضافة إلى ميزة التخلص من معظم بذور الحشائش والمسببات المرضية.
• السماد الناضج
وفيه يتم توفير ظروف متوازنة من هواء ورطوبة لكي تتم عملية التحلل بواسطة الميكروبات وتصل درجة الحرارة إلى 60 درجة مئوية. وبعد عدة أسابيع، يتم تقليب الكومة لتنشيط عملية التحليل ويتكون الدبال (التخمير) حيث تؤدي هذه العملية إلى توفر مادة عضوية فعالة الى جانب انخفاض كثافة المادة العضوية غير المفككة إلى النصف (50%) مما يسهل عملية التوزيع. وخلال مراحل إنتاج هذا السماد، يفضل إضافة الفوسفات الطبيعي (الصخري) حيث يتحول الفوسفور من الصورة غير المفككة إلى الصورة المفككة والمحللة عند إتمام نضج السماد، هذا بالإضافة إلى موت الكثير من بذور الحشائش والميكروبات المرضية وتفكيك المضادات الحيوية والهرمونات وبقايا بعض المبيدات، إن وجدت.

الأسمدة العضوية وأهميتها للتربة
يقصد بالأسمدة العضوية إضافة المادة العضوية للأرض أو زيادة محتواها منها وهذه المادة العضوية تعطى للتربة بعد إتمام تحللها وبما تحتويه من عناصر مغذية في صورة صالحة للامتصاص بواسطة جذور النبات إضافة إلى تأثيرها في تحسين خواص التربة الفيزيائية والكيماوية ، وتكون المادة العضوية عادة عبارة عن ناتج تحلل الكائنات الحية النباتية أو الحيوانية أو خليط بينهما .

مصدر المادة العضوية
المادة العضوية هي كل المواد النباتية والحيوانية التي تنشأ في التربة التي تضاف إليها بغض النظر عن مراحل التحلل التي وصلت إليها ، وتعتبر أنسجة النباتات هي المصدر الأساسي للمادة العضوية وتمثل أوراق الأشجار والشجيرات وأجزاء النباتات جميعها إضافة الى الأجزاء التي تترك في التربة أو تدفن فيها بالعمليات الزراعية (حراث) كما تشمل جميع فضلات الحيوانات والحشرات والكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة. ويمكن إيجاز أهم مصادر المواد العضوية في الأراضي بالتالي:
1. بقايا النباتات من أوراق وسيقان وجذور وثمار وحبوب
2. بقايا الكائنات الحية الدقيقة
3. السماد العضوي البلدي
4. السماد العضوي الصناعي (مخلفات المحاصيل ونفايات المنازل)
5. السماد الأخضر في النباتات التي تثبت الأزوت الجوي في جذورها بواسطة العقد البكتيرية التي تنمو عليها خصوصاً في مرحلة الإزهار، اضافة لما تحويه من مواد غذائية في النبات مثل الحمص، البازيللا، البرسيم، والعدس …

سماد-مزارع-الدجاج-يختوي-على-ترسبات-هورمون-ومضادات-حيوية-ويفضل-تخميره-جيدا-قبل-استخدامه
سماد-مزارع-الدجاج-يختوي-على-ترسبات-هورمون-ومضادات-حيوية-ويفضل-تخميره-جيدا-قبل-استخدامه

تحلل المواد العضوية
إن الشرط الأساسي لتحلل المواد العضوية في التربة هو توفر أعداد كافية من الكائنات الدقيقة وتوفر الشروط المناسبة لنمو ونشاط هذه الكائنات، وان النباتات المزروعة في تربة معينة لن تستفيد من المادة العضوية الموجودة في التربة إلا بعد تفكك وتحلل هذه المواد العضوية وتحولها إلى مركبات وعناصر قابلة للإمتصاص من قبل جذور النباتات.

أنواع الأسمدة العضوية
من أهم الأسمدة العضوية التي تستخدم في تسميد النباتات هي:
1. سماد الأبقار والماعز والأغنام والخيول البلدية : يعتبر السماد البلدي من أهم الأسمدة العضوية المستعملة والتي تعمل على تحسين خواص التربة الفيزيائية والكيماوية ويعدّ مصدراً مهماً لتزويد التربة ببعض العناصر الغذائية الصغيرة مثل البورون والنحاس والمنغنيز…، ومن المعروف أن التركيبة الكيماوية للأسمدة البلدية تكون معقدة وتختلف باختلاف نوع الحيوان المأخوذ منه السماد وعمره والغاية من تربيته (لإنتاج الحليب والبيض او اللحم) وأسلوب تغذيته وأنواع العلف الذي يقدّم له إضافة إلى طريقة جمع السماد وطريقة تخزينه.
2. سماد الطيور والدواجن : يعدّ من أجود أنواع الأسمدة العضوية لاحتوائه على نسبة عالية من العناصر الغذائية المختلفة، كما إن استفادة النبات منه عالية، وتتراوح نسبة الأزوت الكلي فيه حوالي 4% والفوسفور 2% والبوتاسيوم 2%.
3. بقايا نباتات وبذور الحبوب: مثل الذرة، دوار الشمس، القمح… بعد الحصاد وعصر البذور وبعد تخميرها تحتوي هذه البقايا على نسبة مرتفعة من البروتين والدهون والمواد الكاربوهايدراتية والعناصر الغذائية المختلفة المفيدة للنبات والأرض والكائنات الحية الدقيقة. أما نسبة النتروجين الكلي (الأزوت)فيه حوالي 7% والفسفور 5,2% والبوتاسيوم 2,1 % إضافة الى بعض العناصر الصغرى.

في الحلقة القادمة: دليل المزارع إلى التسميد الصحيح.

.

زراعة الفريز

الفريز الجميلة اللذيذة المفيدة
زينة للحديقة.. ولطبق الضيافة

زراعة الفريز سهلة، منتجة لا تحتاج إلى جهد
تحب التربة الخصبة والرطوبة والضوء

مضار استهلاك الفريز التجاري أكبر من فوائده بسبب كثافة استخدام الأسمدة والمبيدات

كثير منا لا يجد بين الفاكهة ما هو ألذ من ثمرة الفريز. هذه الثمرة التي عندما تكون فعلاً من الطبيعة لا تقاوم بمنظرها ولونها ورائحتها الزكية وطعمها. لكن كثيرين أيضاً الذين لا يعرفون مصدراً لهذه الثمرة المحبوبة إلا سلة البلاستيك في محل البقالة أو على العربيات الجوالة، وهذا أمر مؤسف إذا أخذنا في الاعتبار أن سلال الفريز لا تعطيك من الفريز الحقيقي إلا القليل بسبب طعمها غير الزكي وسرعة عطبها وكذلك بسبب ما تحمله غالباً من ترسبات المبيدات الضارة، وهو أمر مؤسف أيضاً لأنه رغم ما يكتب ويذاع عن الفريز التجاري فإن قليلين هم الذين جربوا الإستغناء عنه بزراعة الفريز في حديقة المنزل وهي مهمة ولا أسهل ولا تتطلب جهداً كبيراً لكن ثمارها عظيمة، علماً أن الذي يهمه إنشاء زراعة فريز عضوية بهدف تسويقها سيجد أن الفريز المنتج بالطريقة العضوية يمكن أن يباع بـ 12,000 أو 15,000 ليرة للكيلوغرام لكن يحتاج المزارع إلى الحصول على شهادة من مؤسسة فحص معتمدة تثبت كون المنتج عضوياً.
في هذا المقال، شرح مفصل لزراعة الفريز ومتطلباتها سواء كان للزراعة المنزلية أو الحقلية أم للزراعة لأهداف تجارية. نأمل أن ينتهي القارئ منه وقد وطّد العزم على تأسيس حقلة فريز في الحديقة توفّر له ولأسرته فاكهة لذيذة وصحية باتت نادرة الوجود في لبنان اليوم.

الموطن الأصلي لزراعة الفريز
تشير المصادر العلمية إلى أن الموطن الأصلي للفريز هو أميركا الشمالية وهي نبتة هجينة بواسطة التلقيح الخلطي بين صنفين هما: توت الأرض البري الذي وجد في السهول المرتفعة الواقعة في الشمال الشرقي من القارة الأميركية وتوت الأرض الساحلي الذي وجد على طول شواطئ المحيط الهادئ وعلى السواحل التشيلية وفي جزر هاواي، ومن ثم انتقل الفريز إلى بقية بلدان العالم. لقد عرفت ثمار الفريز منذ القدم واستخدمت كغذاء ودواء من قبل شعوب الحضارات القديمة إذ كان يعتبر نباتاً حرجياً معمراً ينمو في الغابات بشكل طبيعي، وبدأ استخدامه كنبات مزروع في القرن الرابع عشر حيث زرعت الأصناف التابعة للنوع البري لفريز الغابات، ثم تطورت زراعة الفريز واعتمدت كزراعة رئيسية في القرن السابع عشر، بعد ذلك بدأت تنشأ أصناف كثيرة وعديدة من جراء استقدام اصناف عديدة وزرعت في اماكن قريبة من بعضها بعضاً وتمّ تلقيحها خلطياً بين جميع هذه الأصناف، وانتشرت بشكل واسع في أغلب بلدان العالم ليصل عددها إلى آلاف الأصناف، واطلقت عليها تسميات عديدة منها ستروبري بالإنكليزية ويطلق عليها إسم الفريز في بعض البلدان العربية وهي كلمة منقولة عن الإسم الفرنسي، وتُعرف بإسم «توت الأرض» باللغة العربية وبإسم «جليك» في تركيا، أما في مصر فيعرف بإسم «فراولة» تحريفاً للإسم اليوناني «فراودولي».

ما أحلاها
ما أحلاها

التلقيح في الفريز
هل تعلم أن ثمار الفريز الملقحة من حشرات النحل تصبح دواءً للإنسان؟
ان عملية تلقيح الفريز هامة جداً وضرورية لزيادة حجم الثمار، ويعتبر الفريز من النباتات التي تعتمد في تلقيحها على التلقيح الخلطي الذي يتم بواسطة الحشرات وبخاصة النحل، ولا تقتصر عملية تلقيح الفريز من قبل حشرات النحل لزيادة حجم الثمار الذي يتناسب مع عقد البويضات الملقحة وإنتفاخها بنسبة 90% فحسب بل يساعد النحل بنقل الكثير من الفطريات النافعة التي تعمل على مكافحة العديد من الفطريات الضارة للإنسان. إن درجات الحرارة المثلى لنمو ثمار الفريز تتراوح ما بين 10 و16 درجة مئوية. ويتأثر نمو نبات الفريز بطول الفترة الضوئية ودرجة الحرارة المرتفعة خصوصاً النمو الخضري والزهري والحالة الصحية للنبات وتوفر مياه الري والعناصر الغذائية.

مراحل تطور الثمار
بعد عقد الأزهار مباشرة، يبدأ انتفاخ مبايض الأزهار وظهور الثمار أي قبل النضج الكامل بـ 35 يوماً ثم يتحول إلى اللون الأبيض قبل النضج بحوالي 10 أيام ثم تتلون جزئياً باللون الزهري والوردي حتى يصل الى اللون الأحمر.
وتجدر الإشارة إلى أن تلون الثمار يبدأ من الطرف القمي للثمرة باتجاه الطرف القاعدي أي في المنطقة المقابلة لحامل الثمرة، ويعود هذا اللون إلى وجود صبغة الأنثوسيانين Anthocyanine وتستمر ثمرة الفريز بالنمو وزيادة حجمها حتى النضج الكامل وتستغرق هذه المراحل حوالي 20-60 يوماً حسب الظروف المناخية والأعمال الحقلية.

1- البيئة المناسبة لنبات الفريز
المناخ
يناسب نمو المجموع الخضري لنبات الفريز النهار الطويل ودرجة الحرارة المرتفعة على عكس البراعم الزهرية التي تحتاج إلى نهار قصير ودرجات حرارة منخفضة لذا سميت زراعتها بالشتوية نسبة لإنتاج أزهارها.
ان نبات الفريز بحاجة لدخوله طور السكون او الراحة في فصل الخريف تجنباً لدخوله مرحلة الإزهار المبكر مما يؤدي الى ضعف النبات وعدم إنتاجه الكمية والنوعية والحجم المطلوب في الموسم القادم، فإن نبات الفريز يختلف عن الكثير من الأشجار المثمرة والخضار، اذ تنتفخ براعمه في الفترة الضوئية القصيرة والانخفاض التدريجي لدرجات الحرارة. يتم كسر طور السكون تحت تأثير الحرارة المنخفضة خلال هذه الفترة ويستأنف النبات نموه الخضري الطبيعي في الربيع، وتتكون النموات الجديدة والأزهار ثم تنمو المدادات في الصيف ويكون النمو الزهري والثمري غزيراً في فصلي الشتاء والربيع.

لتربة
يستطيع نبات الفريز النمو والتطور في مختلف الأتربة، ولكن تنجح زراعته وتجود في الترب التي تتوفر فيها المواصفات التالية:
• الترب المختلطة القوام، الجيدة الصرف والتهوئة، الغنية بالمواد الغذائية والتي تحتفظ بالرطوبة الجيدة.
• معدل حموضة التربة (PH ) ما بين 6.5% و 7.5%.
• من المفضل أن تكون التربة غنية بالكالسيوم والمغنيزيوم والمواد العضوية لأن الفريز من أكثر النباتات إستهلاكاً لهذه العناصر.
وتصبح زراعة الفريز غير مجدية إقتصادياً عندما تزرع في الترب الطينية الثقيلة والرديئة الصرف للمياه الزائدة التي تسبب أمراضاً في الجذور، أو في الترب الرملية الفقيرة التي تنتج ثماراً صغيرة، وفي الأراضي الموبوءة بالأعشاب الضارة والأمراض وفي الأراضي المالحة لأنها تعيق من نموها وإنتاجها.
الحرارة
تعتبر الحرارة المعتدلة والمائلة للبرودة مثالية لإنتاج الفريز حيث تكون الثمار أكثر حلاوة ونضارة. يتصف نبات الفريز بقدرته على التأقلم ضمن ظروف مختلفة وتجديد نفسه بإستمرار، إلا أن النمو الخضري يكون مثالياً على درجة حرارة 20-22 مئوية وينخفض بانخفاضها، ويتوقف النمو تماماً على درجة 10 درجات مئوية. أما أفضل درجة حرارة ملائمة للإزهار فتتراوح ما بين 15 و17 درجة مئوية.
تبدأ أعراض الإصابة على النبات نتيجة انخفاض درجة الحرارة اعتباراً من 8 تحت الصفر مئوية، كما تؤثر درجة الحرارة على المدة التي يستغرقها نضج الثمار بعد تفتح الأزهار وعقدها والتي قد تمتد لفترة شهر على درجة حرارة 16-18 مئوية وقد تنخفض المدة على درجات حرارة أعلى نسبياً.
الإضاءة
لا يتحمل نبات الفريز التظليل الدائم والشديد حيث تكون قدرة النبات على الإثمار محدودة، أما التظليل الجزئي والقصير فيلعب دوراً ايجابياً بالنسبة إلى نمو وتطور النبات خصوصاً في فصل الشتاء للإنتاج المبكر، لذا من المفضل في الزراعة الإقتصادية ان تظلل شتول الفريز في فصل الشتاء الى مرحلة ظهور الأزهار ثم تزال لتصبح مكشوفة لحشرات النحل لتتميم عملية التلقيح.
يتأثر نمو نبات الفريز بشكل سلبي بالإضاءة الشمسية القوية مما يؤدي الى إنخفاض جودة ونوعية الثمار، لذلك يفضل زراعة الفريز في المواقع التي تسود فيها الإضاءة المنتشرة وليس أشعة الشمس المباشرة.

“جميع العناصر المغذية الصغرى والكبرى موجودة في السماد العضوي ونبات الفريز يجود إنتاجاً وطعماً في التربة المسمدة عضوياً”

استخدام فرشة القش لمنع ظهور الأعشاب وحفظ الرطوبة في الزراعة المنزلية
استخدام فرشة القش لمنع ظهور الأعشاب وحفظ الرطوبة في الزراعة المنزلية
استخدام أغطية النايلون الأسود في الزراعة الكثيفة بهدف حفظ الرطوبة ومنع ظهور الأعشاب المنافسة
استخدام أغطية النايلون الأسود في الزراعة الكثيفة بهدف حفظ الرطوبة ومنع ظهور الأعشاب المنافسة
تكثير-الفريز-بالبذور
تكثير-الفريز-بالبذورتكثير-الفريز-بالبذور

الرطوبة
يتطلب إنتاج الفريز توفر الرطوبة الجوية والأرضية بشكل مناسب. إن للرطوبة الأرضية تأثيراً كبيراً على نمو النبات نظراً الى طبيعة نمو جذوره السطحية. يتأثر الإزهار وعقد الثمار وبالتالي الإنتاج سلباً مع تدني الرطوبة في التربة أو الرطوبة الجوية وارتفاع درجة الحرارة، كما إن زيادة الرطوبة عن الحد المناسب تؤدي إلى اختناق الجذور وتحد من نمو وتطور النبات بشكل عام.

2- إكثار الفريز
يمكن إكثار نبات الفريز جنسياً او لا جنسياً. فإن التكاثر الجنسي يكون بواسطة البذور فقط، والشتول المنتجة من البذور لا تحمل نفس الصفات الوراثية التي تحملها الأم لأنها ناتجة عن التلقيح الخلطي في هذه الطريقة من التكاثر فتنتج أصنافاً جديدة. أما التكاثر اللاجنسي أو خضرياً بواسطة (المدادات – الفسائل –زراعة الأنسجة)، فيحمل نفس الصفات الوراثية التي تحملها النبتة الأم.
الإكثار بالبذور
إن التكثير بالبذرة هو من الطرق المهمة في توليد فسائل الفريز الجديدة وفي زيادة التنوع بالأصناف، لكن يجب زرع البذور المعدة للإكثار في الموسم التالي لأخذ تلك البذور لأنها تفقد نسبة من قدرتها على الإنبات كلما تأجل موعد زرعها من موسم إلى آخر، وعموماً تحتفظ بذور الفريز بقدرتها على الإنبات لمدة ثلاث سنوات.
يتم الإكثار بالبذور بهدف التربية والحصول على أصناف جديدة وبالتالي على غراس سليمة وخالية من الفطريات والفيروسات. بعد أخذ الثمار الناضجة تماماً والتي تحمل صفات جيدة، تترك حتى تصبح غير قابلة للأكل (رخوة جداً)، فتؤخذ الطبقة الخارجية من الثمار وهي التي تحوي أو تحمل البذور ثم توضع في قطعة من الشاش ليتم غسلها بالمياه حتى لا يبقى إلا القليل من لب الثمرة. بعد ذلك، تجفف لتصبح جاهزة لزراعتها في الموسم المقبل. تنقع البذور بالمياه لمدة 24 ساعة ثم تزرع في صوان غير مقسمة معبأة بالتراب الصناعي المعقم (تورب) ثم تنقل إلى أماكن مظللة ومقفلة ذات رطوبة عالية ما بين 70 و90% مثل البيوت البلاستيكية. بعد أسبوعين يتم إنباتها، وبعد حوالي شهر على الإنبات يفضل نقل الشتول الى صوان مقسمة أو الى أكواب خاصة بعد تعبئتها بخلطة ترابية مؤلفة من ثلث تراب زراعي وثلث رمل وثلث سماد عضوي مخمر جيداً أي لا يحتوي على بذور النباتات البرية والأمراض وبيوض الحشرات أو تعبأ بالتراب الصناعي. اما زراعتها في الأرض المستدامة، فتكون خلال شهري تموز وآب لتصبح جاهزة لمرحلة الإثمار في الربيع القادم، أو تترك لتزرع في بداية الربيع.

الإكثار بالفسائل والمدادات
الإكثار بالفسائل: يتم اللجوء إلى هذه الطريقة في الأصناف التي لا تنتج إلا القليل من المدادات وتقوم هذه الطريقة على فصل الشتول الجانبية التي نمت حول جذع النبتة الأم والتي تحتوي على ساق قصيرة وبعض الجذور وزرعها في أكواب بلاستيكية او صوان معدة لهذا الغرض التي تعبأ بخليط من التراب والسماد العضوي المخمر او إستخدام التربة الجاهزة المحتوية على المواد الغذائية.
الإكثار بالمدادات: وهي بعد ان تصبح رؤوس المدادات شتولاً اي عندما تلامس رؤوس المدادات الأرض الرطبة تبدأ بتكوين الجذور التي تمتد وتنمو حتى تصبح شتولاً مستقلة وتعتمد على نفسها. تزرع مباشرة في الأرض الدائمة في الموسم القادم خلال فصل الربيع.

3- الخدمات الحقلية للفريز
إن نبات الفريز سهل النمو وهو من أسهل النبات الذي يمكن زرعه في أماكن عديدة من الساحل حتى الجبل ويتحمل الظروف القاسية سواء من التربة أو المناخ. والفريز مميز بقدرته على مقاومة الصقيع، فهناك أصناف منه تنجح زراعته على سفوح الجبال، كما إنه يمكن أن يُزرع في المناطق الحارة، وينمو ايضاً بنجاح إذا زرع في أي تربة كما إنه لا يحتاج إلى الأسمدة بذات النسبة التي تحتاجها باقي النباتات. لكن الفريز حساس للجفاف.

القيمة الغذائية لثمار الفريز (في وجبة من 200 غ)

64 السعرات الحرارية
 8% مجموع السكرياتغ  16
المكون الغذائي % من حاجة الجسم اليومية
196% فتيامين C
6% فيتامين K
12% Folate
38% منغانيز
8% بوتاسيوم
6% مغنيزيوم
4% حديد
4% فوسفور
4% نحاس

 

الفريز-في-مراحله-المختلفة
الفريز-في-مراحله-المختلفة

 

تهيئة الأرض للزرع: بعد اختيار الموقع المناسب من حيث التربة والإرتفاع عن سطح البحر وإيجاد مصدر مياه الري، تتم حراثة الأرض على عمق حوالي 40 سم وتنظف من الحجارة وبقايا النباتات البرية ثم يوضع السماد العضوي المخمر ويخلط مع التربة بواسطة الفرامة والتي بدورها تسوي وتنعم سطح التربة، ثم تقسم الأرض الى خطوط او تحفر أثلاماً بعمق حوالي 15 سم على ان توضع الأسمدة العضوية بداخلها وتخلط مع تراب قاعها وتبعد هذه الخطوط عن بعضها بعضاً حوالي 50 سم بعد ذلك توضع شبكة الري (بالتنقيط) المخصصة لهذه الغاية والمثقبة على مسافة تبعد عن بعضها 25 سم اي بين النقطة والنقطة 25 سم.
زراعة شتول الفريز: هناك عدة طرق وعلى مسافات مختلفة لكن زراعة نبات الفريز المثلى تكون على خطوط تبعد عن بعضها 50 سم وتبعد الشتلة عن الأخرى 25 سم، ويتم زرعها خلال النصف الأول من فصل الربيع وحسب الإرتفاع عن سطح البحر ففي المناطق الساحلية تبدأ الزراعة في اوائل الربيع وتنتهي في منتصفه في المناطق المرتفعة. كما يمكن أن يزرع في أواخر فصل الصيف وأوائل الخريف. أما إذا زرع الفريز في فصل الشتاء فإن الإنتاج يكون قليلاً. يمكن أن تستمر نباتات الفريز بالعطاء لمدة أربع سنوات. وبما أن نباتات الفريز التي تتميز بأنها تستنبت المدادات التي تصبح نباتات جديدة مجاورة لها، فإنه يمكن إزالة تلك النباتات الجديدة وزرعها في مكان آخر إذا زرع الفريز على مسافات قريبة، أو تترك لتعطي إنتاجاً إضافياً خصوصاً إذا زرعت على مسافات كما ذكرنا أعلاه.
ويزرع الفريز أيضاً في الأوعية والأحواض النقالة على أشكالها، حيث يشترط أن يحتوي الوعاء على خليط من السماد العضوي والتراب وفي احجام مختلفة مع الإنتباه على ان لا يقل إرتفاع وعرض هذه الأوعية عن 10 سم. في هذه الحالة، يجب أن يكون ريها مستمراً (كلما جفت التربة)، وعادة تجف التربة في الأوعية بسرعة أكبر وحسب احجامها من التربة في الحقل، لذلك قد تحتاج الى الري كل يوم اذا كان الطقس حاراً. وأخيراً لا تنسى أن تعرضها للشمس خلال النهار.
الري: إن نبات الفريز محب للرطوبة وكلما أخذ الفريز ما يحتاجه من المياه كلما كانت الثمار أفضل من حيث اللون والحجم والطعم، لذا يجب ري شتول الفريز بإنتظام وحسب الحاجة. طرق الري عديدة لكن افضل الطرق لري الفريز هي بواسطة التنقيط. من المفضل، بعد تحضير الأرض للزرع، تمديد شبكة الري المؤلفة من: الأنابيب الرئيسية، الأنابيب الفرعية، الفلتر، والأكسسوار. لكن سنتكلم بالتفصيل عن الدور الذي تلعبه الأنابيب الفرعية في انجاح زراعة الفريز، فإن تلك الأنابيب هي من أفضل طرق الري التي أدخلت الى تقنية الزراعة، لأنها مصممة خصيصاً بحيث توزع كمية المياه بالتساوي بين جميع الشتول المزروعة على نفس الخط من بدايته حتى نهايته ويوزع السماد كما المياه، وأيضاً لا يحتاج الى يد عاملة.
التسميد: ان نبات الفريز بحاجة الى الغذاء كما جميع النباتات، ويمتص نبات الفريز مثل بقية النباتات العناصر الكبرى والصغرى بعد تفكيكها وتحليلها في التربة. أما هذه العناصر هي:
العناصر الكبرى: الأزوت – الفوسفات – البوتاس – الكالسيوم.
العناصر الصغرى او النادرة: الحديد، المغنيزيم، البورون، الكبريت، المنغنيز، الزنك، النحاس، الحديد، الكبريت، المولبيديوم.
إن جميع هذه العناصر الكبرى والصغرى موجودة في السماد العضوي والتربة والنباتات، لذا ننصح بوضع السماد العضوي المخلوط مع بقايا نباتات الحبوب الجافة مثل القمح، الذرة، «البرسيم»،… التي تخمر جميعها وتوضع نثراً على الأرض المراد زرعها بالفريز وتخلط مع سطح التربة على عمق 15 سم تقريباً. إن نبات الفريز يجود في الأراضي المسمدة عضوياً لفوائدها الإيجابية. يفضل إضافة حوالي 5 أطنان من السماد العضوي المخمر في الدونم الواحد قبل الزراعة، أو يعبأ السماد المخمر في برميل من المياه على ان تغطى فوهة البرميل بقطعة من النايلون لضبط الحرارة وتسريع عملية تفكك السماد والتحلل مع تحريك محتوى البرميل من وقت الى آخر وبعد مضي اسبوعين تقريباً تصفى مياه الخليط لري نبات الفريز بها.
اما الفوائد التي تؤمنها الأسمدة العضوية للتربة التي يراد زرعها بالفريز هي التالية:
• يحسن خواص التربة وقوامها ويساعد على تحسين تهوئتها وصرفها للمياه الزائدة.
• يساعد على تحسين التربة الثقيلة غير الصالحة للزرع لتصبح جيدة وصالحة لزراعة الفريز.
• يساعد على تحسين قدرة التربة على الاحتفاظ بالمياه الضرورية للفريز.
• يحسن خواص التربة البيولوجية من الكائنات الحية الدقيقة والعناصر الغذائية بخاصة الصغرى منها.
• يحسن صفات الثمار وإكسابها لوناً جذاباً وطعماً مميزاً.
أما الاحتياجات الدقيقة لنبات الفريز من العناصر الغذائية، فهي من الصعب جداً تحديدها بنسبة مرتفعة لأن الأعمال والتجارب في هذا المجال ما زالت محدودة وأحياناً نتائجها متعاكسة لكن عند تقدير المعادلة السمادية، يجب الأخذ في الاعتبار النقاط التالية:
• لنبات الفريز جذور سطحية ولا تشغل مساحة كبيرة من التربة إذ تتركز جذور الفريز في المنطقة السطحية للتربة التي لا يزيد عمقها على 20 سم.
• تشكل الممرات (المساحة غير المزروعة) من حقل الفريز حوالي 30%.
• إن استخدام رقائق البلاستيك لتغطية أثلام الزراعة يؤدي إلى رفع درجة حرارة التربة مما يؤثر سلباً على امتصاص الآزوت.
أما في حال زراعة الفريز الكبيرة وحاجتها الى التسميد الكيميائي إضافة الى التسميد العضوي، يفضل ان لا يوضع إلا بكمية صغيرة وحسب حاجة الفريز له.
التعشيب: التعشيب من أهم الأعمال الحقلية التي يجب أن يقوم بها المزارع وهي التي تعرف بإزالة الأعشاب البرية والنباتات التي تزاحم الفريز على الغذاء، ومن المفضل ان تنزع هذه الأعشاب يدوياً اذا كانت قليلة العدد وفي المساحات الصغيرة، اما إذا كانت كثيرة والمساحات المزروعة بالفريز كبيرة يستحسن ان توضع مدات من النايلون الأسود قبل الزرع مثقوبة في أماكن الزرع او تثقب مكان الزرع، فهذا النايلون لا يسمح للأعشاب بالنمو، او توضع حول شتول الفريز الحشائش الجافة كما الصورة فهذه الطريقة لا تعيق إنبات الأعشاب الضارة فحسب بل تحافظ على رطوبة التربة ايضاً.

4- الآفات التي تصيب الفريز
الأمراض التي يصاب بها الفريز: تصاب نباتات الفريز بالعديد من الأمراض التي تظهر على النبات وتأخذ أشكالاً مختلفة: تجعد وتبقع الأوراق، اصفرار حواف الأوراق، التفاف الأوراق، وتقزم وغيرها من الأمراض. ينتج عن ذلك ضعف نمو النباتات وانخفاض في الإنتاج وبالتالي في المردود وأهم هذه الأمراض هي التالية:
فيروس تجعد الأوراق: ينتشر هذا المرض على نطاق واسع في العالم وينتقل بواسطة الحشرات، إن أعراض هذا المرض على النباتات المصابة: تقزم في الشتول وتجعد في الأوراق ويصبح لونها فاتحاً.
فيروس الحافة الصفراء: تظهر الأعراض على شكل تقزم النباتات المصابة مع التفاف الأوراق نحو الأعلى وتلونها بالبني الباهت مع اصفرار حوافها وينخفض إنتاجها للمدادات والثمار.
بهدف الوقاية والحدّ من إنتشار هذه الأمراض يجب زراعة شتولخالية من الإصابة والتخلص من النباتات التي تظهر عليها الإصابات الفيروسية من الحقل وحرقها ومكافحة الحشرات الناقلة للفيروسات.
الأمراض الفطرية: تصاب نبتة الفريز بعدة أمراض فطرية اهمها مرض الذبول فيرتيسيليوم، عفن الجذور الاحمر، عفن التاج والبراعم الريزكتوني، عفن الجذور الأسود، الذبول الفوزاريم، العفن الرمادي، البياض الدقيقي، الانتراكنوز، وتظهر هذه الأمراض على المجموع الخضري والجذري والثمار وتأخذ ألواناً كثيرة وينتهي الأمر بموت النبات.
أما الوقاية والعلاج من هذه الأمراض فيكون بإتباع الإرشادات التالية:
• زراعة أصناف مقاومة.
• تجنب زراعة الفريز بعد محاصيل العائلة الباذنجانية لأنها تحمل نفس المرض.
• عدم الاحتفاظ بالنبات لأكثر من عام دون زراعته في الأرض الدائمة.
• أثناء الزراعة، يمكن الرش بمحلول مبيد فطري مناسب.
• زراعة أصناف غير حساسة على المرض.
• غمس جذور الشتول قبل الزراعة بمحلول مبيد فطري مناسب.
• عدم زيادة الري.
• ري النباتات في أول أسبوعين بعد الزراعة بتراكيز مخففة من أحد المبيدات الفطرية.
الحشرات والعناكب الأكاروز:
يصاب نبات الفريز بالعديد من الحشرات والعناكب مثل العنكبوت الأحمر والحشرات مثل الديدان القارضة، الذبابة البيضاء، التربس وراعية أوراق الفريز.
لهذه الآفات اعداء طبيعية كثيرة، فإذا أردت أخي المزارع ان لا تستخدم المبيدات السامة فيتكفل بتلك الآفات أعداؤها الطبيعية مثل ابو العبيد (ام علي سيري)، اسد المن،… اما اذا اردت ان تستخدم المبيدات، إحرص على المكافحة بالمبيدات غير الجهازية أي التي لا تترك ترسبات في ثمار الفريز والتي تكون غير ضارة بالنحل مع مراعاة مواقيت القطاف، حسب فترة الامان، وبالكمية المناسبة.

هناك عشرات الأنواع من الفريز يمكن تمييزها من شكل الثمرة
هناك عشرات الأنواع من الفريز يمكن تمييزها من شكل الثمرة

نضج الثمار
إن علامات نضج الثمار تتوقف على العوامل التالية:
1.درجة الحرارة: تعتبر درجة الحرارة المثلى لنضج ثمار الفريز هي (18-25) درجة مئوية، وإن ارتفاعها أو انخفاضها عن هذه الحدود له تأثير سلبي على سير مراحل النضج وبالتالي على نوعية الثمار. كما إن التقلبات الحرارية المفاجئة تؤثر على صفات الثمار من حيث تجانس النضج واللون والصلابة.
2.التسميد: إن زيادة التسميد الآزوتي خلال فترة نمو الثمار تؤدي إلى خفض حلاوتها وخفض نسبة البكتين بها وبالتالي خفض من صلابتها وقابليتها للنقل والتسويق. وعلى العكس فإن توفر عنصر البوتاس يزيد من نسبة السكر والحموضة ويكسب الثمار مظهراً جذاباً ولوناً زاهياً.
3.الرطوبة: إن سقوط الأمطار خلال مراحل النضج الأخيرة وأثناء القطاف يؤثر على نوعية الثمار وإصابتها بالأعفان كما إن قلة الري يعطي ثماراً صغيرة ونقصاً في السكريات.
4.المبيدات: قد يكون لبعض المبيدات وتوقيت رشها أثر سلبي على نوعية الثمار.
تختلف الأصناف عن بعضها بعضاً في فترات إثمارها. ففي الزراعة المكشوفة، تنضج الثمار في الربيع ويستمر الإنتاج لمدة (7-8) أسابيع وهناك أصناف تثمر على مرحلتين: مرحلة رئيسية في الربيع وأخرى في أواخر الصيف. أما في الزراعة المغطاة، قد يستمر الإنتاج على مدار العام ولكن الإنتاجية تقل خلال فترة النهار القصير لقلة عدد الأزهار.
جني المحصول
يتم جني ثمار الفريز كل يومين الى ثلاثة أيام وذلك حسب درجة الحرارة ويفضل أن يتم في الصباح الباكر بعد زوال الندى..

الفريز في مراحله المختلفة
الفريز في مراحله المختلفة

الفوائد الغذائية والطبية للفريز
الفريز من الفواكه المحببة لدى الكبار والصغار، فهي تحمل مذاقاً لذيذاً وشهياً. تؤكل طازجة وتستخدم في سلطة الفواكه، وفي العصائر كالكوكتيل وغيرها، كما تصنع كمربيات. ونظراً الى فوائدها الصحية فهي غنية بالكثير من العناصر المهمة للجسم من حديد، صوديوم، بوتاسيوم، فوسفور، كالسيوم، دهون، كربوهيدرات، بروتينات، ريبوفلافيين، ثياميين، الياف. ومن الفوائد الطبية، تستعمل الفريز في الوقاية من العديد من الامراض الخطيرة كالسرطان لانها مضادة للأكسدة، كما تقوي العظام، لذا ينصح بتناولها في فترات نمو الاطفال لتساعدهم على تقوية وبناء عظامهم. تناول الفريز يقوي شبكة العين ويعزز قوتها وتقاوم مضاعفات مرض السكري وخصوصاً مضاعفاته على العين والكلى وايضاً تحمي الكلى كمدر للبول. ويمكن ان تكون علاجاً لخفض ارتفاع ضغط الدم في الجسم. ويستعمل ثمار الفريز كقناع لتعزيز البشرة وحمايتها من التجاعيد. اما اوراق نبات الفريز، فيمكن استخدامها كمنقوع لمعالجة الإسهال والروماتيزم، ومن المدادات مستحضرات كمضاد للإسهال ولمعالجة إلتهاب الحنجرة.

الفريز التجاري
مخاطره أكثر من فوائده

أحد أهم الأسباب التي يجب أن تدفع المزارع لإنتاج الفريز في حقله هو اللغط المتزايد حول كمية المبيدات وهرمونات النمو المستخدمة في إنتاج الفريز في الخيم والأنفاق البلاستيكية. والأكيد أن حجم ثمرة الفريز التي نراها في السوق يبدو غير طبيعي إذا قورن بثمرة الفريز المنتجة في البيت، والأمر الآخر هو سرعة تلف الثمار، إذ يكفي تركها ليوم واحد أو يومين حتى في البراد حتى تهترئ جوانبها وتصبح غير صالحة للأكل بينما يمكن الإحتفاظ بثمرة الفريز المنتجة عضوياً لأكثر من أسبوع حتى خارج البراد من دون أن يصيبها أي تلف. وهذا أكبر دليل على أن الثمرة المنتجة للسوق غير طبيعية وقد عرض التلفزيون وبعض المجلات المتخصصة حلقات ومقالات مقلقة عن كثافة استخدام المبيدات الحشرية والفطرية في زراعة الفريز واستخدام هرمون التلقيح، ونشرت تقارير عن حجم الترسبات من المبيدات الضارة التي وجدت في الفريز التجاري والتي تفوق أحياناً أضعافاً مضاعفة النسبة المسموح بها. إن انتشار الأوبئة والآفات سمة ملازمة للزراعات الكثيفة التي تستخدم الأسمدة والهرمونات الكيماوية وبسبب ذلك تضعف النبتة كما يندثر الأعداء الطبيعيون للآفات فيصبح محتماً من أجل إنقاذ الموسم استخدام البيدات بكثافة غالباً دون التقيد بإرشادات الاستخدام كما إن القطاف يتم دون التزام بفترة التحريم الملزمة بعد رش المبيد والتي يمكن أن تطول حتى أسبوعين في بعض المبيدات الجهازية لكن المزارع يقطف الفريز كل يومين وينزله إلى السوق مما يعني أن المستهلك يأخذ مع الفريز كميات كبيرة من المبيدات التي يمكن أن تسبب السرطان في درجة تركز معينة. كل هذه الأمور أساءت إلى سمعة الفريز اللبناني فمنع تصديره إلى عدد من الأسواق العربية والأجنبية. الحل الأمثل هو أن تكون لكل بيت حقلة فريز ولو صغيرة وهذه الحقلة ستكون كافية لتموين الأسرة بحاجتها من تلك الفاكهة اللذيذة طيلة الموسم. ونصيحتنا لك إذا لم يكن لديك الفريز المنزلي فمن الأفضل ان تستغني عنه وتأخذ من فاكهة الحديقة ما تيسر لأن مخاطر تناول الفريز التجاري أصبحت أكثر بكثير من فوائده.

الطب والجراحة في مصر القديمة

Medicine in Ancient Egypt

Imhotep

الطب والجراحة في مصر القديمة

أبو الطب أبقراط درس الطب في معبد أمحوتب
وأقرّ بمساهمة الطب المصري في تطوير الطب اليوناني

المصريون أتقنوا الجراحات وتقويم العظام وعلاج الأسنان
وطب الأمعاء وجراحة الرأس والطب النسائي والنفسي

مصر الفرعونية أنشأت كليات الطب ودونت قواعده
ووفّرت الضمان الصحي والإجازات المرضية للعاملين

يعتبر طب مصر القديمة أقدم طب موثق منذ بدء الحضارة عام 3300 ق.م. لغاية الغزو الفارسي عام 525 ق.م. لم تتغير ممارسة الطب المصري القديم طوال تلك الحقبة، وقد بلغ تطور الطب والجراحات في مصر حداً جعل من مصر القديمة محجة طالبي العلم وكل راغب في تعلم شيء من الطب أو من سبل إعداد العلاجات أو إجراء الجراحات ، وكان ملوك الدول المجاورة لمصر يبعثون للفرعون رسائل يرجونه فيها أن يرسل إليهم أطباء مصريين للعناية بمن يحبون. وقد وجد علماء الآثار خطاباً مرسلاً من أحد ملوك الحيثيين إلى فرعون مصر يرجوه فيه أن يرسل له طبيباً لعلاج أخته حتى تستطيع انجاب طفل، وقد ردّ الفرعون على ملك الحيثيين بأن سبب عدم الإنجاب لدى اخته يعود إلى تقدمها في السن وبالتالي بلوغها «سن اليأس» مما يعني أنه لا يمكن للطب أن يفعل شيئاً في حالتها. ونعرف أن ابقراط (ابو الطب) درس الطب في معبد أمحوتب في مصر وهو أقرّ بمساهمة الطب المصري القديم في تطوير الطب اليوناني. ويبدو التأثير الكبير للطب المصري القديم على حضارة اليونان وعلوم الطب فيها من واقع ان المصادر الأساسية للمعلومات عن الطب المصري القديم كانت كتابات هوميروس التي يعود تاريخها إلى العام 800 ق.م. وكذلك كتابات هيرودوتس التي تعود إلى سنة 440 ق.م.. لقد اعتنى اليونانيون على العموم بالتعلم من حضارة مصر ليس فقط على صعيد الطب بل في المجال الفلسفي أيضاً، إذ كان لمعابد مصر تأثير كبير على فلاسفة اليونان وقد درس عدد منهم أبرزهم فيثاغوراس الحكمة في معابد المصريين وعلى يد حكمائهم..

تقدم كبير في كل المجالات
وتشير الآثار المكتشفة في مصر أن طب مصر القديمة كان من التقدم بحيث شمل اجراء جراحات خارجية وتقويم العظام واستخدام عدد كبير من العقاقير، كما برع المصريون في علم الجراحة بسبب ما خبروه عن جسم الإنسان عبر مهنة التحنيط وقاموا بتطوير جملة من الأدوات الجراحية الدقيقة والفعالة. .وبالرغم من تداخل الطب المصري القديم بالسحر والتعاويذ، إلا أن الأبحاث الطبية أظهرت فعالية العلاجات المصرية القديمة في كثير من الأحيان بل واتفاق التراكيب الدوائية المصرية القديمة بنسبة 37% مع الصيغ المعروفة وفقاً لدستور الصيدلية البريطاني الصادر عام 1973. وقد ذكرت النصوص الطبية المصرية القديمة خطوات محددة للفحص والتشخيص والعلاج غالباً ما كانت منطقية وملائمة من منظور الطب الحديث.
حسب المخطوطات المصرية القديمة، فإن أحد الكهنة الكبار ويدعى «إمحوتب» يعتبر مؤسس علم الطب في مصر القديمة، كما يعتقد أنه مبتكر الكتابة الهيروغليفية ، مما جعل المصريين القدماء يقدسونه في العصور المتأخرة من عصر الفراعنة باعتباره «إله الشفاء»، كما إن تقدم التكنولوجيا الطبية بالاضافة الى التوصّل الى ترجمة النقوش والمخطوطات البردية الطبية المكتوبة باللغة الهيروغليفية عام 1822 ساهم الى حد كبير بفهم الطب المصري القديم وتقدير الأهمية الخاصة التي كانت له في العصور القديمة.

  كان الاطباء المصريون متقدمين جداً في مجال المداواة بالأعشاب والتقنيات الجراحية
كان الاطباء المصريون متقدمين جداً في مجال المداواة بالأعشاب والتقنيات الجراحية

مخطوطات ومكتشفات
وتعتبر مخطوطتا «ادوين سميث» و«إيبرس» من أهم المخطوطات الطبية البردية حول الطب في عصر الفراعنة، ومن المحتمل أن تكون مخطوطة «سميث» قد كتبت عام 1600 ق.م. ويعتقد أن هذه المخطوطة مأخوذة عن مخطوطة قديمة تعود إلى 3000 سنة ق.م. وأن أمحوتب هو من كتب هذه المخطوطة التي هي عبارة عن كتاب تدريسي يتضمن ملاحظات دقيقة حول علم التشريح ومعاينة المريض والتشخيص والعلاجات لعدد كبير من الأمراض الأكثر شيوعاً آنذاك. أما مخطوطة «إيبرس» فيعود تاريخ كتابتها الى العام 1550 ق. م. ويعتقد أنها قد نسخت عن مجموعة من المخطوطات التي يعود تاريخها الى العام 3400 ق.م. وهي عبارة عن مجموعة من التعويذات والممارسات الطقسية التي تتوخى «طرد الشياطين المسببة للمرض».
مخطوطة «ادوين سميث»
تختلف مخطوطة سميث عن باقي المخطوطات الطبية البردية التي تعتمد السحر في غالبيتها بأنها تؤكد على وجود أسس علمية ومنطقية للطب المصري القديم، إذ إن المخطوطة تتحدث عن طريقة البحث الطبي وكيفية التشخيص وتهيئة العلاج بحيث يمكن اعتبارها دليلاً تعليمياً لطب المكونات العلاجية والتي تستخدم عناصر حيوانية ونباتية فضلاً عن الفاكهة والمعادن.
تتضمن المخطوطة شروحات لطرق معالجة الجراح الناتجة عن الصدمات وبخاصة الجراح الناتجة عن المعارك العسكرية، وتبتدئ بكيفية علاج جراح الرأس ثم جراح الرقبة فجراح الاذرع ثم جراح الصدر. وحسب المخطوطة فإن العملية العلاجية يجب أن تبدأ بفحص المصاب وتشخيص الحالة ثم التنبؤ بامكانية العلاج وبعد ذلك يعرض على المصاب الخيارات العلاجية، بدءاً بتقطيب الجراح والعلاج والوقاية من الالتهاب بواسطة العسل ووقف النزف بواسطة اللحم النيء وبعض الطرق العلاجية الأخرى..
تحتوي هذه الوثيقة أيضاً على ملاحظات تشريحية فتقدم أول توصيف لعملية تقطيب الجمجمة، السطح الخارجي للدماغ، السحايا، السائل الدماغي، والنبض داخل الجمجمة.
كما إن الاجراءات المعتمدة في هذه المخطوطة تدل على مستوى معرفي في مجال الطب يتخطى معرفة أبقراط الذي مارس الطب بعد ألف سنة من تاريخ كتابة المخطوطة.

مخطوطة «إيبرس»
تعتبر مخطوطة «إيبرس» من أقدم وأضخم مخطوطات الطب المصري القديم المحفوظة، وهي تحتوي على 700 «وصفة سحرية» وعلاج، كما تحتوي على دراسة عن القلب تفترض أن القلب هو مركز التزود بالدم وتتصل به أوعية لتزويد كل عضو من أعضاء الجسم بالدم. ويبدو أن قدامى المصريين لم يعرفوا الكثير عن الكلى وجعلوا من القلب مركزاً لالتقاء عدد من الاوعية التي كانت تنقل كل السوائل الى الجسم، الدم، الدموع، البول، والمني.
تحتوي المخطوطة ايضاً على بعض النصوص المتعلقة بالامراض العقلية كالاكتئاب والخرف والتي كان ينظر اليها بنفس الطريقة التي ينظر بها الى الامراض الجسدية. اضافة الى ذلك، تحتوي المخطوطة على نصوص عن الحمل ومنع الحمل، الامراض المعوية، امراض العين، الامراض الجلدية، طب الاسنان، الحروق، وتقويم العظام..
من أهم الوصفات التي التي كان يكتبها الطبيب المصري القديم وصفات لعلاج العيون. إن كثرة الرمال وعواصف الغبار وكثرة الذباب والحشرات جعلت إصابات العين كثيرة . وكان تزيين العينين بالكحل من أساليب الوقاية الأكثر شيوعاً، وكذلك كان الطبيب المصري القديم يصف الحقن الشرجية كثيراً وكانت هناك طرق لمنع الحمل أو لزيادة القدرة الجنسية، أو القدرة على الحمل أو علاج أوجاع الجسم عند المرأة.
نعلم في عصرنا هذا أن المصري القديم كانت له معرفة بجميع الأمراض وجميع أعضاء الجسم . ونجد في بعض الموميوات أعضاء اصطناعية من الخشب، كما كان خبيراً بتقنيات فتح الجمجمة. ويدل شكل العظام المعالجة بسبب كسر أو جرح أن الشخص المعالج عاش سنوات طويلة بعد أن أجريت له العملية الجراحية. .

لائحة علاجات
في ما يلي بعض العلاجات التي تضمنتها مخطوطة إيبرس:
الربو: خليط من الأعشاب يسخن على طوبة من طين ليتنشق المريض الدخان المنبعث من الخليط.
البطن: لإفراغ البطن تمزج مقادير متساوية من حليب البقر، الحبوب، والعسل ثم تطبخ وتصفَّى وتقدم للمريض على أربع دفعات.
علامات الموت: نصف بصلة ممزوجة برغوة الجعة كانت تعتبر علاجاً لذيذاً لدرء الموت.

مخطوطة «كهون» المتعلقة بأمراض النساء
تعتبر مخطوطة «كهون» أقدم وثيقة طبية على الاطلاق. يعود تاريخها الى العام 1800 ق.م. و وهي تقدّم عرضاً لامراض النساء وطرق علاجها كمشاكل الحمل والخصوبة ومنع الحمل. تتضمن المخطوطة 34 قسماً يتطرق كل قسم الى مشكلة معينة بحيث تشخص المشكلة ويقترح طريقة علاجها من دون التنبؤ بحالة المريض المستقبلية بعد العلاج. تنحصر العلاجات باستخدام الأدوية دون اللجوء الى اية عمليات جراحية. يعتبر الرحم المصدر الأساسي للامراض النسائية التي عادة ما تظهر في اقسام مختلفة من الجسم.
تعتمد الآقسام السبعة عشر الاولى نفس التصميم بحيث تبدأ بتسمية المرض ثم تعمد الى توصيف مختصر لعوارضه التي غالباً ما تكون لها علاقة بالأعضاء التناسلية. يلي هذه الأقسام قسم يصف عملية التبخير بالدخان التي تؤدي الى حصول الحمل ثم ثلاثة اقسام تتعلق بمنع الحمل وكيفية تحقيقه بواسطة وصفة طبية مكونة من روث التمساح الممزوج بالعسل والحليب. الأقسام السبعة اللاحقة تتعلق بطريقة فحص الحمل التي تعتمد على وضع بصيلة بصل عميقاً داخل قطعة من اللحم وتعتبر الامرأة حاملاً اذا تمكنت من شم رائحة البصل. .

الغذاء
أذا اردنا دراسة الحالة الصحية ضمن حضارة معينة يجب ان نأخذ في الاعتبار العادات الغذائية لتلك الحضارة. لقد كان المصريون القدامى على وعي تام بأهمية التوازن والاعتدال في النظام الغذائي. لكن بالرغم من توافر المحاصيل الزراعية في معظم الاوقات، فإن مصر القديمة لم تنج دوماً من المجاعة.
كان القمح والشعير من أهم المحاصيل الزراعية في مصر القديمة وكان المصريون يستخدمون القمح والشعير لصناعة الخبز بطرق مختلفة ويستخدمون الشعير لصناعة الجعة، كما إن زراعة الخضار واشجار الفاكهة كانت منتشرة على نطاق واسع.
استخدم المصريون القدامى الاعشاب والتوابل والزيت المستخرج من نبتة بذر الكتان في تحضير وجباتهم. أما لحوم الغنم، الماعز، الخنزير والطيور فكانت متوفرة للطبقة العليا فقط بينما كان السمك في متناول الجميع.
كانت التقاليد الراسخة والمستمرة من أهم ميزات مهنة الطب في مصر القديمة. وكان في قمة الهرم كبير المسؤولين الطبيين، وهو الذي كان يشرف على المدراء والمفتشين الذين كانوا بدورهم يشرفون على الاطباء. كان الاطباء المصريون متقدمين جداً في مجال المداواة بالاعشاب والتقنيات الجراحية. بالرغم من ذلك، فإن بعض اطباء مصر القديمة كانوا يمارسون السحر والرقية والتعويذات، بالإضافة الى وجود مراتب في ممارسة الطب واختصاصات متعددة كطب العيون وطب الجهاز الهضمي وطب الشرج وطب الاسنان..
انتشرت في مصر القديمة مؤسسات كانت تدعى «دور الحياة» ويعتقد أنه كانت لتلك المؤسسات وظيفة علاجية إذ وجدت فيها نقوش لأسماء بعض الاطباء، وقد تمتع موظفو تلك المؤسسات ببعض الامتيازات كالضمان الصحي و تعويض نهاية الخدمة والاجازات المرضية.

“الطب المصري القديم صنع جهاز استنشاق من الصخور الساخنة والأعشاب لمداواة الســـعال والإلتهابات الرئوية”

ممارسة الطب
تحلّت ممارسة الطب في مصر القديمة بسمعة ممتازة. وكان للأطباء المصريين بعض المعرفة في علم التشريح حيث كان بمقدور المختصين بالتحنيط أن يدخلوا أداة معقوفة من خلال فتحة الأنف ليتمكنوا من كسر عظم غلاف الجمجمة الرقيق واخراج الدماغ، كما إنه كانت للمحنطين معرفة بمواقع الأعضاء الداخلية التي كانوا يخرجونها عبر شق صغير في أصل الفخذ الأيسر. يبقى أن نشير هنا الى أنه لا يمكن التأكد مما اذا كان لدى اطباء مصر القديمة المعرفة التشريحية التي كانت لدى المحنطين.
كان الاطباء المصريون أيضاً على دراية بوجود النبض وعلاقته بالقلب ولكنهم لم يميزوا بين الاوعية الدموية والأوتار والاعصاب، وكانت لديهم نظرية تقول بوجود أقنية تحمل الهواء والمياه والدم الى الجسم كما يحمل نهر النيل الماء لمصر. فاذا سد مجرى النيل تضررت المحاصيل كذلك الحال بالنسبة لجسم الانسان، اذا سدت المجاري تعرض الإنسان للمرض ولهذا السبب كانوا يستخدمون الملينات لفتح المجاري..

الجراحة
كان الاطباء المصريون يمارسون الجراحة لعلاج الاصابات المسببة للجراح، وهذه الإصابات صنفها المصريون حسب درجة الخطورة الى ثلاث فئات: الاصابات القابلة للعلاج، الاصابات المشكوك بقابليتها للعلاج، والاصابات غير القابلة للعلاج. الادوات الجراحية التي استخدمها الاطباء شملت السكاكين، الكلابات، المثقاب، ملاقط السحب، الكماشات، الميزان، الملاعق، المنشار، واوعية مخصصة لحرق البخور.
من المرجح أن ختان الذكور كان سائداً بين المصريين القدامى بالرغم من عدم ذكر الطريقة التي كانت تجرى بها، وبالرغم من عدم وجود أدلة كافية تؤكد ذلك كما إن هناك بعض الوثائق التي تشير الى ان عمليات الختان كانت تحصل اثناء الاحتفالات التي كانت تقام بمناسبة ادخال اعضاء جدد الى بعض الجمعيات الدينية، مما يوحي بأن ممارسة الختان كان امراً خاصاً وليس عاماً. الاطراف الاصطناعية استخدمت ايضاً من قبل المصريين القدامى كأصابع القدم الاصطناعية ومقلة العين الاصطناعية ولكن لغايات تجميلية فقط.
ان استخدام الجراحة والتحنيط، وتشريح الجثث على نطاق واسع سمح للمصريين القدامى بفهم وظائف معظم اعضاء الجسم بصورة صحيحة. على سبيل المثال، لقد افترض المصريون أن وظيفة القلب كانت تنقية الجسم من الشوائب وتزويده بالحيوية وهذا الافتراض لا يبتعد كثيراً عن وظيفة القلب بإمداد الجسم بالاوكسيجين وتنقيته من ثاني أوكسيد الكربون.

طب الأسنان
بالرغم من أن طب الأسنان لم يكن بارزاً كباقي حقول الطب، فقد كان حقلاً مهماً، وقد بدأ المصريون بممارسة طب الأسنان كمهنة مستقلة في بداية الألفية الثالثة قبل الميلاد.واحتوى النظام الغذائي في مصر القديمة على الكثير من المواد الكاشطة كالرمل المتبقي من عملية طحن الحبوب مما تسبب بتآكل أسنان المصريين بصورة ملحوظة – جميع بقايا المصريين تظهر اسناناً بحالة سيئة جداً – ولكن علماء الآثار لاحظوا تناقصاً ملحوظاً في شدة وعدد حالات التآكل خلال الحقبة الواقعة ما بين 4000 و 1000 سنة ق.م. ويعتقد أن يكون تحسن تقنيات الطحن قد تسبب بهذا التناقص.
علاج الأسنان لم يكن فعالا ًعلى الاطلاق بحيث أن كل ما كان يرجوه من عانى من التهاب في أحد اسنانه، أن يفقد هذا السن. ولم يعثر على أية وثائق تشير الى وجود أدوات يمكن استخدامها لقلع الأسنان من قبل اطباء الاسنان في مصر القديمة وهذا يعني أنهم لم يمارسوا عملية قلع الأسنان. بعض البقايا تظهر عمليات قلع اسنان قسرية وكان الافيون يستخدم لتخفيف حدة الألم.

صورة من أحد المعابد المصرية القديمة تظهر الحياة بعد الموت وقد صورت الروح كطائر أخضر يغادر الجسد
صورة من أحد المعابد المصرية القديمة تظهر الحياة بعد الموت وقد صورت الروح كطائر أخضر يغادر الجسد

مجموعة الأدوات الطبية
توجد على حائط معبد كوم أمبو من عهد البطالمة لوحة تُعرف بأنها «خزنة الأدوات الطبية» لا يزال علماء الآثار يبحثون في كيفية استخدام الطبيب المصري لكل من تلك الأدوات في العلاجات المختلفة . وتظهر اللوحة مقصاً و زرديات و ميزاناً و منشاراً وخرامات وقطع لوف وأكياساً وكؤوساً وشنائط. وكان المقص يشبه إلى حد كبير مقصاً موجوداً في المتحف القبطي بالقاهرة والذي استخدمه أطباء أقباط لمعالجة جروح كبيرة قبل القيام بخياطة الجرح ، وكان المقص يستخدم أيضاً في قص الأربطة لربط الجروح وكضمادات . وكانت الأكياس في الغالب تستخدم للحفاظ على العقاقير والأدوية. أما الشنائط فكانت تستخدم في الكحت أو لتنظيف العظام ولوضع الدواء .
الجهاز يعتبر خرامة لثقب الجمجمة ولفتحها، فكان الطبيب المصري القديم يقوم بقطع وإزالة قطعة من عظم الرأس إما بالكحت أو باستخدام إزميل.
لم تذكر عمليات الرأس في المخطوطات المصرية القديمة وإنما وصلت إلينا عن طريق «كوربوس هيبوكراتيكوم» ، كما عثر على عمليات في الدماغ أجريت على أناس أحياء من اقدم عصور مصر القديمة ، ومن عهد الدولة الحديثة و العصر المتأخر، وكل هذا مثبت تاريخياً وتدل علامات الشفاء على نجاح عمليات جراحية .
كان من عتاد كل طبيب عدة من الأربطة. واستخدم المصري القديم لذلك أربطة من التيل المختلفة الأنسجة والطول والعرض. من تلك الأربطة ما يسمى بالمصري القديم «فيتت» وهي ألياف نباتية، وكان هذا الرباط يغمس في المادة العلاجية مثل عسل نحل و مرهم أو زيت ، أو يستخدم جافاً أحياناً، كما كانت الألياف النباتية تستخدم كضمادات. وتذكر المخطوطات نوعين من ألياف «فيتت» و «فيتت-إن-ديبت» أي فيتت من نبات الديبت.الأربطة يصنع كل منها من نبات مختلف.
ويبدو أن الطبيب المصري القديم عرف «جهاز استنشاق» وتوجد مخطوطة تصف كيفية صناعة هذا الجهاز الذي كان يحتوي على صخور ساخنة ، وعقار طبي ، ورأس وقصبة من الغاب، وكان يستخدم لعلاج الكحة واحتقان الصدر.

مرض السل
أشار عدد من الأبحاث التي اجريت على بعض بقايا المصريين القدامى بتفشي مرض سل العمود الفقري في مصر القديمة. كانت أهم الدلائل لتفشي هذا المرض هو العثور على عدد من الحدبات في تلك البقايا والتي يسببها انهيار الفقرات الصدرية بسبب ذلك المرض، كما إن العثور على بعض المنحوتات الحجرية والخشبية والعاجية التي تمثل اشخاصاً مصابين بالحدب يدعم نتائج هذه الأبحاث.

شلل الأطفال
لا يمكن التحقق من الإلتهاب الفيروسي لخلايا القرن الامامي في الحبل الشوكي وبالتالي التحقق من وجود دليل على شلل الأطفال الا بعد انقضاء فترة الحضانة للفيروس، الا أن الباحثين اعتمدوا على قصر الساق اليسرى في بعض المومياء كدليل لانتشار شلل الأطفال في مصر القديمة.

التشوهات الخلقية: القزامة
هناك حوالي 207 حالات معروفة من القزامة من خلال بقايا الهياكل العظمية معظمها يتمثل برأس وجذع طبيعيين وأطراف قصيرة. تمثال القزم «سينيب» مع عائلته الطبيعية البنية خير دليل على أن المصريين القدامى كانوا يتقبلون الأقزام كباقي افراد المجتمع.

السحر والطقوس الدينية
كان السحر والطقوس الدينية جزءاً لا يتجزأ من حياة المصري اليومية. كان المصريون يعتقدون أن الآلهة الشريرة والشياطين هي التي تسبب الامراض ولهذا كان العلاج يبدأ بمناشدة الآلهة المعبودة. غالبية المعالجين كانوا من الكهنة الذين يستخدمون السحر والتعويذات كجزء من العلاج. ويمكن ملاحظة العلاقة بين السحر والعلاج من خلال استعراض المكونات المستخدمة والتي كانت في معظمها تستخلص من مادة معينة أو من نبتة أو من حيوان له سمات مشابهة لسمات المرض تماشياً مع مبدأ «علاج المثيل بالمثيل» الذي كان متبعاً في تلك الحقبة، وهكذا فإن بيضة النعامة كانت تستخدم لعلاج الجمجمة المكسورة، وحجاب يمثل قنفذا كان يستخدم لعلاج الصلع. وكان استخدام الحجاب أو التعويذة شائعاً جداً وخصوصاً لعلاج الامراض والوقاية منها ومن الأرواح الشريرة وفي بعض الأحيان لاكتساب بعض الميزات كالقوة والسرعة.

لوحة-وجدت-في-أحد-المعابد-تظهر-مدى-تنوع-وتعدد-أدوات-الطب-والجراحة-في-مصر-1
لوحة-وجدت-في-أحد-المعابد-تظهر-مدى-تنوع-وتعدد-أدوات-الطب-والجراحة-في-مصر

نماذج من العلاجات المصرية القديمة

العلاج بالاعشاب
صبار الألو فيرا: يزيل الصداع، يخفف آلام الصدر، يشفي الحروق، التقرحات، الحساسية، والامراض الجلدية.
الحبق: ممتاز في علاج القلب.
الهيل: يستخدم كتابل في الطعام، يساعد على الهضم، ويدواي النفخة والغازات.
الحلبة: علاج اضطرابات الجهاز التنفسي، تطهير المعدة، تهدئة الكبد والبنكرياس، وتقليص الورم.
الثوم: ينشط، يداوي النفخة والغازات، يسهل الهضم، ملين، يقلص البواسير، يطرد الأرواح من الجسم. أثناء بناء الاهرامات، كان العمال يأكلون الثوم يومياً ليتزودوا بالحيوية والقوة اللازمتين لمتابعة العمل.
العسل: كان يستخدم على نطاق واسع كمضاد للإلتهاب ولتضميد الجراح مثل استخدام زيت الخروع، الكزبرة، والجعة.
البصل: مدر للبول، يساعد على التعرق، يقي ضد الزكام، يخفف آلام عرق النسا والآلام عامة.
البقدونس: مدر للبول.
النعناع: يخفف من الغازات، يسهل الهضم، يوقف التقيؤ، وينقي النفس.
السمسم: يسكّن اعراض الربو.
التمر الهندي: ملين.
الزعتر: يسكن الألم.
الزعفران: يشفي الجراح، كان يستخدم ايضاً لصبغ البشرة والألبسة.
الخشخاش: يزيل الأرق، يزيل الصداع، مخدر، ويخفف من آلام الإضطرابات التنفسية.

قرية الكفير

افتقاد الغجر للغة مكتوبة حرمهم أهم وسيلة للتعبير وكتابة تاريخهم الخاص وجعلهم بلا أي رواية يمكن نقلــــها إلى أجيالــــهم عبر الســـنيـن

وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (فاطر: 32)

قــرية الكفـــير

موئل التآخي ومنبت النجباء

لبلدة الكفير مكانة خاصة في قلوب أهلها وفي قلوب اللبنانيين، فهي قرية التآخي الدرزي المسيحي وقرية التضامن وحنين الإغتراب وهي منبت التميّز والإبداع وهي فوق ذلك مسقط رأس أحد أبرز رجالات الإستقلال في سوريا رئيس وزرائها في ثلاث حكومات متتالية فارس بك الخوري. هذه القرية الوادعة على سفوح حرمون غنية أيضاً بالتاريخ والإرث الثقافي، غنية بالأدباء والمفكرين المبدعين والأهم أنها لا تعيش على ماضيها بل تنعم بحاضر زاهر يجعلها حالة لافتة بين البلدات الجبلية في لبنان.

منها انطلق فارس بك الخوري إلى رئاسة حكومة سورية
وفي ربوعها تفتح خيال أملي نصر الله وإبداعها الأدبي

سليم بك كيوان خدم الباب العالي وصادق جمال باشا
وتمكّن بذلك من فك شباب كثيرين من حبل المشنقة

مغتربو الكفير لم يطيقوا الحنين إلى الوطن
فأنشأوا جمعية وأتوا بالبريد والتلفون إلى القرية

تعود تسمية الكفير الى اللغة الآرامية وتعني ضيعة أو منطقة ومن المحتمل أن تكون تسمية الكفير تصغيراً عربياً للفظ «كفرا» وتعني القرية الصغيرة، أما التسمية التي شاعت هي «كفير الزيت» حيث كانت السلطات العثمانية ومن بعدها سلطات الإنتداب الفرنسي تطلب من المساحين وضع إسم كفير الزيت على الخرائط للإشارة الى بلدة الكفير والسبب في ذلك يعود الى غنى هذه البلدة بأشجار الزيتون ولشهرتها في معاصر الزيتون التي ما زالت آثارها ماثلة حتى يومنا هذا.

الموقع الجغرافي
ترقد قرية الكفير في أحضان جبل حرمون على ارتفاع يتراوح ما بين 800 و1050 متراً فوق سطح البحر وهي تقع في الجهة الشمالية لقضاء حاصبيا وتتبع إدارياً لقضاء حاصبيا ولمحافظة النبطية. وبسبب موقعها الوسيط تشكّل الكفير صلة الوصل الطبيعية بين البقاع والجنوب وتحيط بها وتجاورها عدة قرى منها بلدة عين عطا من الشرق ومن الشمال الشرقي وقرى لبايا وميمس من الغرب ومن الجنوب قرية الخلوات، ومن الشمال مزرعة السفينة وقرية مرج الزهور. تبعد الكفير عن حاصبيا مركز القضاء نحو 10 كلم، وعن النبطية مركز المحافظة نحو 55 كلم ، وعن العاصمة بيروت نحو 100 كلم.
تتميز القرية بوفرة موارد المياه والمتمثلة بعدد كبير من الينابيع الدائمة وبعض الأنهر والسواقي الموسمية، ومن الينابيع عين الطاسة وعين الزمروني وعين الزقاني في الجهة الجنوبية، أما في الجهة الغربية فهنالك نهر الفاتر وهو عبارة عن نهر موسمي يتلاشى خلال فصل الصيف ونبع السفينة في الشمال الشرقي وعين الخسف بالإضافة الى عين الضيعة وفوار الساحة في وسط البلدة .
السكان والعائلات
يبلغ عدد سكان قرية الكفير 3420 نسمة، لكن المقيمين منهم لا يزيد عددهم على 1570 نسمة بسبب إنتقال قسم كبير من أهل القرية للسكن والعمل في ضواحي العاصمة أو في المهاجر القريبة والبعيدة.
سكان البلدة، المقيمين والمغتربين، هم من الدروز والمسيحيين ويتوزعون على العائلات التالية :
موحدون دروز: نوفل، نجاد، غرز الدين، عواد، العيسمي، أبو العز، صقر، الحلبي، الدمشقي.
مسيحيون: أبو جمرا، أبو رحال، مخايل، كساب، أبو شلش، أبو رزق، أبو نصر، لاون، إندراوس، فاخوري، غنطوس، جليان، الخوري، البسيط ، أبو راشد، ثابت، حوراني، الخرباوي.

أحياء البلدة
تتألف بلدة الكفير من عدد من الأحياء والحارات التي يسكن كلا ً منها عدد من العائلات المذكورة سابقاً واللافت أن هذه الأحياء تتوزّع مناصفة تقريباً بين الدروز والمسيحيين .
وعلى الرغم من التمدّد العمراني الذي حصل في القرية واتساع مساحة الأبنية الحديثة، إلا انها ما زالت تحافظ على العمارة التقليدية القديمة في بعض احيائها، ولعلّ أبرز ما تكتنزه هو ذكرى باقة من الأعلام والنابغين الذين خلدوا إسم لبنان عالياً وفي طليعتهم فارس بك الخوري أول رئيس حكومة مسيحي في سوريا بعد الإستقلال، والكاتبة أملي نصر الله، وجيمس أبو رزق ونيك رحال وسليم بك نوفل .
كانت منازل الكفير القديمة تقام بالقرب من مناهل المياه في وسط البلدة والتي تتمثل بعين الضيعة وفوار الساحة، وكانت تلك الدور تتألف من طبقة واحدة مبنية من الطين وتحتوي على عدد من الغرف إضافة الى بيكة «أرضية» إلى جانب المنزل تأوي المواشي والحيوانات خلال فصل الشتاء وكان أصحاب اليسر يمتلكون منزلاً تعلو سطحه علّية وبجوارها مصطبة لقضاء فصل الصيف وأمامها مساحة فسيحة تعرف بالمشرقة، ومع مرور الزمن وتبدّل العادات تبدّلت أساليب العمارة واتخذت بدءاً من الأربعينات أو الخمسينات من القرن الماضي طابع البيت اللبناني التقليدي المشاد من الحجر مع الأسقف العالية والبلكونات الواسعة لكن تبدلت طبيعة البناء في ما بعد لتتخذ طابع الأبنية الحديثة المبنية من الإسمنت والمغطاة جدرانها الخارجية بالحجر الصخري والكثير من تلك الأبنية اتخذ شكل البناء المتعدد الطبقات.

الإغتراب وجمعية الإخاء الكفيري
لا تختلف الكفير عن غيرها من البلدات الجنوبية واللبنانية في توجه أبنائها نحو المغتربات البعيدة منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وقد ارتبطت تلك الهجرات أولاً بتردي أوضاع الاقتصاد في معظم ولايات الدولة العثمانية في نهايات القرن التاسع عشر ثم انتشار الفقر وأخيراً قيام الحرب العالمية الأولى مع ما جرّته من مصائب ومجاعات على اللبنانيين. وقد توجّهت الهجرات الأولى من الكفير نحو الأرجنتين وبعض دول اميركا الجنوبية ثم أميركا الشمالية، وفي النصف الثاني من القرن الماضي توجه بعض الرواد نحو استراليا وفتحوا بذلك بابا لهجرة أبناء القرية إليها، وفي وقت متأخر وخصوصاً ابتداءً من الستينات ثم السبعينات تزايدت حركة الهجرة نحو منطقة الخليج العربي لتصبح عملياً نمط الهجرة الأكثر هيمنة في يومنا الحاضر.
يجب القول هنا إن بلدة الكفير تميّزت بين البلدات الأخرى في قوة شعور التضامن بين أبنائها وعمق الرابطة العاطفية التي حافظ عليها المغتربون الكفيريون في المهاجر. وكان أبرز ثمار ثقافة التضامن تلك تأسيس جمعية الإخاء الكفيري في الولايات المتحدة الأميركية في العقد الثاني من القرن العشرين، وقد أعلنت الجمعية آنذاك أن هدفها هو تحسين الوضع المعيشي لذوي المغتربين وكذلك ردّ الجميل للبلدة عبر جمع الأموال من الناجحين في الخارج لتقديم خدمات حيوية للكفير لم يكن سهلاً توفيرها في تلك الفترة من تاريخ لبنان في ظل الإنتداب الفرنسي. ومن أجل التواصل مع الوطن ومعرفة الحاجات التي يمكنها العناية بها أسست الجمعية فرعاً لها في البلدة للمتابعة وبدأت ثمار عمل الجمعية بالتوالي لتشمل بخيرها جميع ابناء القرية دروزاً ومسيحيين. ففي مطلع العام 1930 موّلت الجمعية جرّ مياه الشفة من ساحة القرية الى مختلف أحيائها، ثم قامت بإنشاء مبنى البلدية وبناء طابق في المدرسة القديمة ومن ثم وفي العام 1950 تأسيس مركز للبريد أتبعته بتدشين مقر خاص لتوزيع البريد في المنطقة، ومن المرجح أن موضوع البريد كانت له أهميته بالنسبة إلى المغتربين وذويهم فكان لمأثرة الجمعية صدى ترحيب واسع لأنها تمكنت بذلك من ربط القرى ببلدان الإغتراب وجعلت التواصل بالرسائل متاحاً وسريعاً نسبياً خصوصاً بعد إدخال البريد الجوي. . ولنفس الغرض أيضاً ساعدت الجمعية على تأمين مركز للإتصال الهاتفي في العام 1951 بجهود المغترب رامز الخواجا، فسهلت بذلك الإتصال الفوري عبر الهاتف الدولي بالمغتربات.

جانب-من-مبنى-تراثي-في-الكفير
جانب-من-مبنى-تراثي-في-الكفير

 

أحراج الزيتون
أحراج الزيتون

 

 

 

 

 

 

 

الحراك الشبابي والإجتماعي
أدى نجاح تجربة جمعية الإخاء الكفيري إلى تفعيل الحراك الاجتماعي والثقافي في الكفير فتأسست الرابطة الثقافية في منتصف الستينات من القرن الماضي على يدّ مجموعة من الطلاب الذين حددوا هدف الرابطة بتطوير المجالات الثقافية والتربوية والرياضية والصحية مما جعل المجتمع في تلك الحقبة متميزاً عن سواه من المجتمعات المجاورة، كما تأسس في القرية نادي الحرية الرياضي الذي لعب دوراً مهماً خلال الحرب الأهلية في جمع المجتمع المحلي تحت راية الرياضة كما قام عدد من الجمعيات التي تعنى بالشأن المحلي مثل «جمعية تمكين المرأة» و«الإتحاد النسائي» وفرع «لجمعية نور».

كنيسة البلدة
كنيسة البلدة

إقتصاد القرية وإغراءات النزوح
على الرغم من أهمية الموارد الزراعية للكفير ولاسيما الزيتون ومشتقاته، فإن الاقتصاد المحلي تميّز بإنتقال تدريجي من الزراعة إلى القطاعات الخدمية مثل التجارة والعقار والوظائف وأموال الاغتراب، وزادت خلال العقود الثلاثة الاخيرة بشكل خاص نسبة الموظفين في

القطاع العام ولاسيما القطاع العسكري والقطاع التربوي، ويعود تراجع أهمية الزراعة إلى تنامي عدد السكان وتزايد حاجات الأسر وعدم كفاية الاقتصاد المحلي للقيام بتلك الحاجات. ولحسن الحظ فإن لبنان بلد اغتراب وله في هذا المجال خبرات وتاريخ طويل والاغتراب يمثل أحياناً صمام الأمان والخيار الأخير أمام الأجيال الشابة، وكذلك يمثّل النزوح إلى العاصمة بيروت أو إلى أي من المراكز الحضرية حيث يمكن الحصول على عمل والقيام بعبء معيشة الأسرة وتعليم الأولاد.

زراعة الزيتون
يعود ازدهار زراعة الزيتون في بلدة الكفير الى النصف الأول من القرن الثامن عشر وقد استمر تنامي هذه الزراعة حتى باتت تغطي ما يقارب الـ 20 % من الأراضي الزراعية في القرية، وتلقت زراعة الزيتون ابتداءً من خمسينات القرن الماضي دفعة قوية جديدة بسبب ازدياد الطلب على الزيتون وارتفاع سعر الزيت فتم خلال العقود الخمسة الأخيرة زرع المزيد من أراضي البلدة بتلك الشجرة وبات الزيتون بالتالي يغطي نحو ثلثي الأراضي الزراعية في الكفير، وبسبب أهمية الزيتون فقد تطورت في الكفير أيضاً صناعة عصر الزيتون وإنتاج زيت الطعام وكذلك صناعة الصابون الذي تستخدم فيه الزيوت الناجمة عن جمع الزيتون المتساقط قبل القطاف ويسمى «زيتون الجوال».

الصنوبر والنحل
يشكّل انتاج الصنوبر مصدر دخل متنامياً لعدد من العائلات في الكفير ولاسيما بعد الارتفاع المتواصل في اسعار الصنوبر عاماً بعد عام حتى وصل سعر كيلوغرام الحب الابيض منه إلى 90,000 ل.ل. واللافت أن بلدة الكفير تحيط بها مساحات كبيرة من الصنوبر الحكومي الذي يقع تحت تصرف البلدية والتي تعمد الى تضمينه لمن يرغب من الأهالي.
كما تنامت تربية النحل في بلدة الكفير لتتحول إلى مصدر دخل ذي شأن للعديد من نحالة البلدة والعائلات التي تهتم بهذا النشاط المجزي.

التعليم في القرية
يعود التعليم في الكفير الى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبدأ مع تأسيس مدرسة بروتستانتية عرفت بـ «مدرسة الإنكليز» ثم ومع نهاية القرن التاسع عشر أسس الروس مدرستين تابعتين للروم الأرثوذكس واحدة للصبيان والثانية للبنات لكن المدرستين كانتا مفتوحتين لجميع أبناء القرية مسيحيين ودروزاً، وبعد انتهاء الطلاب من دراستهم في المدرستين كان يتم ارسال المتفوقين منهم الى مدينة الناصرة في فلسطين لمتابعة تحصيلهم العلمي وقد ساهم بعض الخريجين لاحقاً في نشر التعليم في المنطقة من خلال ممارسة التدريس، لكن مع اندلاع الحرب العالمية الأولى توقف التعليم في هاتين المدرستين.
يذكر الأستاذ فيصل نوفل أن بعض المتفوقين في المدرستين كان لهم الأثر البارز في إحياء التعليم في القرية والقرى المجاورة بينما اشتهر من الساسة الذين تخرجوا من القرية فارس بك الخوري الذي شغل منصب رئيس الوزراء السوري في العام 1946 كما لمع إسم الاعلامية عبلة الخوري اضافة الى عدد من الذين برزوا في المجال التربوي .
اللافت أن «التعليم الرسمي» بدأ في ظل الإنتداب الفرنسي وذلك عندما قامت سلطات الانتداب عام 1920 بإنشاء مدرسة الكفير تحت اشراف نظارة المعارف العمومية، وبدأت المدرسة إعطاء الدروس للطلاب في مبنى وقف الروم الأرثوذكس ثم تمّ توسيع المبنى بدعم من قبل المغتربين بحيث أصبحت المدرسة قادرة على استيعاب عدد أكبر من الطلاب الوافدين اليها من قرى قضاءي راشيا وحاصبيا.
ويشير الأستاذ فيصل نوفل إلى أن مدرسة الكفير شهدت تطوراً لافتاً بعد الإستقلال مستفيدة من المساعدات التي يقدمها المغتربون ولاسيما جمعية الإخاء الكفيري التي ساهمت في توسيع المدرسة وتقديم كافة المستلزمات التربوية من مختبرات ومكتبة وقاعات جيدة للتدريس وتأمين مدرسين من ذوي الخبرة والكفاءة، وقد اشتهرت المدرسة بمستوى التعليم الذي كانت تقدمه وبالعديد من الخريجين الذين لمعوا في عدة ميادين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأديبة أملي نصرالله والقاضي منيف حمدان والصحافي راجح الخوري والوزير عصام أبو جمرة وعدد كبير من الأطباء والمهندسين وأصحاب المهن، لكن مما يؤسف له أن مدرسة بهذه العراقة تراجع دورها مع الأيام لصالح المدارس الخاصة إلى أن أدى الأمر إلى إقفالها من قبل الدولة لعدم توافر الحد الأدنى من التلامذة المسجلين، وانتقل من بقي من الطلاب إلى مدارس أخرى وتمّ إلحاق المدرسين من أبناء البلدة بالمدارس الرسمية في البلدات المجاورة . فهل الذنب هنا ذنب الأهالي الذين يعتقدون أن المدارس الخاصة تؤمن تعليماً أفضل أم هو تراجع التعليم الحكومي بصورة عامة أمام الزحف المستمر للتعليم الخاص؟
المفارقة هي أنه بينما لم تستطع بلدة الكفير الحفاظ على مدرستها العريقة فإنها اليوم تضم ثانوية رسمية زاهرة تقدّم التعليم للمراحل التكميلية والثانوية لطلاب البلدة والبلدات المجاورة، وحققت الثانوية نجاحاً جعلها تستقطب الطلاب من البلدات المحيطة وذلك بسبب مستوى التعليم المميز والفريق التربوي الكفوء الذي يتولى التعليم فيها.
حلّت ثانوية الكفير لفترة كمركز للتعليم الثانوي للمنطقة محل ثانوية حاصبيا الرسمية خصوصاً بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، إذ بات من الصعوبة بمكان الانتقال الى حاصبيا بعد إقفال معبر زمارية فتم انشاء فرع لثانوية حاصبيا في القرية في العام 1984 وشغل فرع الثانوية جزءاً من مبنى الكنيسة قبل انتقال الثانوية إلى مبناها الحديث الحالي وإعطائها إسم «ثانوية الكفير الرسمية التي برز من خريجيها الوزير وائل أبو فاعور.
والجدير بالذكر أنه وبسبب عدم وجود جامعة أو فرع لجامعة رئيسية في المنطقة فإن خريجي الثانوية وخريجي الثانويات الأخرى يجدون أنفسهم مضطرين للانتقال إلى صيدا أو الى مدينة زحلة حيث توجد أقرب الجامعات الرسمية او الى كلية العلوم الإقتصادية في ضهر الأحمر والكثير من الطلاب ينتقلون الى الجامعة اللبنانية في الحدث أو لفروع أخرى في العاصمة لمتابعة تحصيلهم العلمي.

منزل-فارس-الخوري
منزل-فارس-الخوري

شخصيات وأعلام من الكفير
أملي نصر الله: ولدت عام 1931 وعاشت طفولتها الأولى في بلدة الكفير كانت تختلس السمع الى الأساتذة في المدرسة المجاورة لمنزلها قبل أن تدخلها بقدر كبير من الشغف بالمعرفة ثم لتنتقل الى الكلية الإنجيلية لتبدأ مسيرتها المهنية في التعليم ثم الصحافة لتغطي تكاليف الدراسة .
عاشت طفولتها كسواها من أطفال القرى، فعملت في جوال وقطاف الزيتون وفي حصاد القمح حيث أغنت هذه الحياة ذاكرتها، فاكتسبت الحرف الاول في مدرسة الضيعة وبعد سنوات قبل أن يكتشف خالها الكاتب ايوب نصر وهو أحد أصدقاء جبران في الرابطة القلمية الموهبة الأدبية لديها فأخذ يغذيها من خلال الطلب اليها كتابة مواضيع أدبية.
روايتها الأولى «طيور ايلول» باكورة تبعتها سلسلة من الأعمال الأدبية مثل : شجرة الدفلى، الإقلاع عكس الزمن، الجمر الغافي، خبزنا اليومي، يوميات هرّ وغيرها من الروايات التي وصلت بها الى العالمية، ومازال منزلها في القرية حتى اليوم يغمره الحنين والشوق الى سنوات خلت.
فارس بك الخوري : ولد فارس بك الخوري في الكفير في 20 تشرين الثاني 1873 وتابع دراسته الأولى في مدرسة البلدة قبل ان ينتقل الى المدرسة الاميركية في صيدا ونظراً إلى تفوقه تمّ تعينه مدرساً في احدى مدارس زحلة قبل ان يعود الى متابعة تحصيله الجامعي في الكلية الإنجيلية السورية التي عرفت في ما بعد بالجامعة الأميركية في بيروت. انتقل إلى سوريا حيث عين ترجماناً للقنصلية البريطانية (1902، 1908 ) درس الحقوق ومارس المحاماة ودخل العمل السياسي ليتم انتخابه نائباً عن دمشق في مجلس المبعوثان العثماني عام 1914، لكنه اتهم بعد سنتين بالتآمر على السلطنة العثمانية التي نفته الى اسطنبول. عاد إلى سوريا بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب ثم عمل مع حكومة الملك فيصل الأول، أيضاً انتخب نقيباً للمحامين ونائباً لرئيس الكتلة الوطنية، تولّى رئاسة المجلس النيابي السوري عامي 1936 و1943 وتمّ تكليفه برئاسة الحكومة السورية وقد شكّل ثلاث حكومات متوالية في عهد الرئيس شكري القوتلي .
سليم بك نوفل : ولد سليم حمد نوفل في الكفير سنة 1865 في أسرة مؤلفة من ستة أشقاء وشقيقتين، منذ نعومة أظافره كان ثاقب البصيرة ينظر الى ما حوله نظرة تختلف عن أقرانه حيث كانت تربيته على حب العمل وتحمل المسؤولية تصنع منه رجلاً، إمتاز بحبه

فيصل نوفل
فيصل نوفل

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

للآخرين ومساعدتهم حيث كان نصير المستضعفين في مجتمعه .
كان أبيّ النفس طاهر اليدين، محباً، قليل الكلام، حاد البصر والبصيرة معاً، عُرف بهيبته ووقاره وقامته الفارعة بين الناس، شعاره خدمة الأخيار من الناس ورفع الحيف عن المظلومين، عمل في الزراعة ثم عين وكيلاً عن دروز وادي التيم وفلسطين لدى الوالي التركي في دمشق حيث مكث فترة طويلة في الشام، وكان هدفه المحافظة على استقرار منطقته، كما إنه لعب دوراً بارزاً في إبعاد حبل المشنقة عن الكثير من أبناء منطقته مستفيداً من علاقته الجيدة بجمال باشا.
بسبب خدماته الطويلة والمكانة التي حققها منحته الحكومة العثمانية لقب بك والعديد من الأوسمة الرفيعة واهداه السلطان العثماني سيفاً قيماً ما زال محفوظاً في دارة الأمير مجيد ارسلان في خلدة.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد الى قريته وهو لا يزال محافظاً على الهيبة والوقار اللذين كان يتمتع بهما وكان محط احترام ابناء الكفير من دروز ومسحيين، يستمعون الى حكمته ورأيه السديد، وأبرز ما قام به خلال تلك الفترة تعاونه مع وجهاء البلدة من دروز ومسيحيين لتجنيب القرية تداعيات الثورة السورية الكبرى عام 1925.

تاريخ من التآخي
تتميز بلدة الكفير بتاريخ طويل من التآخي بين الدروز والمسيحيين يتمثل بوجود حياة اجتماعية وثقافية مشتركة بين جميع أهل القرية وعدم وجود توترات من أي نوع وهذا ما نراه في مشاركة أبناء القرية بعضهم بعضاً في الأفراح والأتراح وتعاونهم في شؤون التنمية واحتواء المشكلات والحفاظ على السلم الأهلي، وهذا ما حصل في ثورة 1925 عندما قام سليم بك نوفل يرافقه اسبر مخايل بجولات في الليل طوال تلك المرحلة استهدفت تحييد القرية والحفاظ على الاستقرار وطمأنينة النفوس. وخلال ثورة 1958 أظهر ابناء القرية حرصهم الشديد على وحدة البلدة وقد حصل الأمر نفسه خلال الحرب الأهلية، إذ بقي المجتمع الكفيري موحداً متماسكاً وقد جعل هدفه الأول إبعاد شبح الفتنة والإقتتال عن البلدة والحفاظ على علاقات الود التاريخية بين الموحدين الدروز وأهل بلدتهم المسيحيين.

المقامات الدينية
يوجد في البلدة مقامان دينيان يأمهم الموحدون الدروز على مدار العام وهما مقام النبي شعيب في منطقة السفينة ومقام النبي شيت في منطقة شعيث. ويوجد الى جانب المقام ناووس حجري يعود الى العهد الروماني وعليه مجموعة من النقوش إضافة الى عدد من الآثار القديمة المحيطة والتي تعود الى حقبات تاريخية قديمة.
وتوجد في البلدة كنيستان: كنيسة القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس وكنيسة أخرى للروم الكاثوليك.

الشيخ سعيد الدمشقي يتذكر
الشيخ سعيد الدمشقي رجل ثمانيني يعدّ من حكماء القرية بسبب سنه وذهنه المتوقد وذاكرته الغنية بالأحداث. «الضحى» إلتقته في حوار سألت فيه الشيخ سعيد عن كفير أيام زمان وما الذي يراه قد تغير الآن، هنا ملخص الحوار.

> هل من شيء خسرته الكفير وتتمنى لو يعود الآن؟
هذه القرية على الرغم من صغر مساحتها لكنها اكتنزت الكثير. عندما كنت طفلاً اكثر ما كان يدهشني النول الذي كان يحيك الأقمشة وكانت الكفير تضم أربعين نولاً تصنع الأقمشة على أنواعها وألوانها وكانت هذه تباع في المنطقة وفي خارجها لإستخدامها في خياطة الألبسة، لكن هذه الصناعة انهارت وكان آخر هذه الأنوال في العام 1936.
> ما هي أبرز محطات الذاكرة لديكم ؟
النخوة التي كانت تعتبر الصفة العامة لأبناء القرية والتي كانت تظهر في مختلف جوانب الحياة ولاسيما بناء المنازل والتي كانت تشاد من الطين وكان سقف المنزل يحتاج الى عدد من الجسور الخشبية والتي يزيد وزن كل جسر على 1000 كلغ يجتمع ما يقارب الاربعين شاباً وينتقلون الى الحرش المجاور للقرية ويتم وضع عدد من الأخشاب تحت الجسر الخشبي لرفعه وكان ذلك يحتاج إلى 16 شاباً يقومون برفع الجسر ويبدأ الشباب بالمناوبة على حمله وكل ذلك كان يتم على وقع الأهازيج والغناء، لكن أطرف شيء كان جلوس عازف المجوز على الجسر الذي يحمله الشبان بهدف العزف وإذارة حماس الشباب وشد أزرهم، أما نحن فكنا كأولاد نركض بجانبهم ونحن نصفق.

فقدنا العافية والطمأنينة
ويقول الشيخ سعيد ان ما فقدناه اليوم في الكفير هي الصحة ويتابع: كان الجميع تقريباً أصحاء وكانت الناس لا تحتاج الى أي دواء في حياتها ولم يكن هناك أطباء، بينما نجد اليوم أن الأمراض انتشرت والأطباء كثروا ونعمة الصحة زالت ربما لأن الناس لم تعد تعمل في الأرض وتتبع نظام حياة سليمة مثل الإستيقاظ الباكر والغذاء الطبيعي من الأرض وعدم استخدام الكيماويات وغيرها مما هو شائع في يومنا.

زمان المونة
ويضيف الشيخ سعيد: جميع منازل القرية كانت تعمد الى جمع مستلزمات المونة خلال فصل الصيف فيمتلئ البيت بالبرغل والقورما والكشك واللبنة «المكعزلة» والزيتون والطحين اضافة الى الحبوب المختلفة مثل القمح والحمص والعدس والفول وأيضاً الزبيب والدبس والتين والقضامة .
كل بيت كان يضع في المنزل خروفاً يعرف بـ «المقطوع» حيث يتم علفه والإهتمام به ليصار الى ذبحه على عيد الصليب ومن ثم تحويل لحمه ودهنه الى قورما والتي تعتبر من اساسيات المونة، وتكون الأسر قد جمعت القمح من البيادر وحوّلت بعضاً منه الى برغل من خلال سلقه لينضج ومن ثم تجفيفه ونقله الى المطحنة ليصار الى جرشه برغلاً.
أما تحويل القمح الى طحين فكان يتم من خلال عدد من المطاحن في وادي القرية التي كانت تعمل خلال فصلي الشتاء والربيع عندما تكون مياه النهر الموسمي جارية، فكانت تدير حجر المطحنة، أما خلال الأشهر المتبقية من السنة فكان السكان ينقلون قمحهم الى حاصبيا او الى بلدة شبعا المجاورة .

العرس أيام زمان
كان العرس، حسب الشيخ سعيد، من أبرز العادات التي اندثرت حيث كان يستمر اياماً عدة مع ما يرافقه من لهو وفرح على وقع المنجيرة والمجوز . كان الشبان يجتمعون في ساحة القرية، وعند حلول الظلام ينتقلون الى منزل العريس بالحدى والأهازيج . وخلال تلك السهرات كانت تجري تمثيليات تهدف الى تسلية الحضور وإضحاكهم وكان اختيار العروس يتم بواسطة الأم «فهي أخبر بالنسوان» وبمصلحة إبنها.

زمن الحشمة
يتابع الشيخ دمشقي حديثه، ويستذكر طريقة ارتداء الملابس التي كانت تلتزم الحشمة عند النساء من خلال الثياب الطويلة المحتشمة. حتى الشباب كانوا شديدي الحرص على ملابس تظهر رجولتهم وكانوا يتمتعون بالحياء والأدب والشجاعة، أما اليوم فلم تعد هناك قواعد واضحة للسلوك وأصبح كل واحد يقول إنه حر في نفسه، وعندما يتصرف كل شخص على كيفه لا يبقى هناك مجتمع ولا حتى أسرة..

الكفير والتكنولوجيا
كان الفونوغراف اول الآلات الداخلة الى القرية وقد دخل في أعقاب الثورة السورية في العام 1925، وقد أتى به أيوب الالتهخوري بعد زيارة لأخيه فارس في دمشق، وكان من يمتلك الجريدة مصدراً مهماً للمعلومات بين أبناء القرية، فجريدة القلم الصريح دخلت الى القرية مع الأستاذ شوقي الحاج وكان أبناء القرية يقصدونه لمعرفة أخبار العالم، وكذلك جريدة نيويورك تايمز الأميركية وجريدة «السمير» كانتا تصلان الى أيوب نصر وكان مغترباً في الولايات المتحدة ولو متأخرتين ومما قالته الأديبة أملي نصرالله «السمير مكتبتي حيث كنت اتفرج على الصور وعلى العالم من خلالها» كما دخلت جريدة «النهار» القرية منذ عددها الأول من خلال الأستاذ سمعان الحاج ومن ثم دخل الراديو وقد استقدمه أحد أبناء القرية بعد زيارة الى الولايات المتحدة وبعد ذلك دخل التلفاز، أما الهاتف فدخل القرية في أربعينات القرن الماضي وكذلك مركز البريد.

المصادر
• سامي الخوري: أمل لا يغيب .
• الأستاذة منى عواد مدرّسة مادة التاريخ في ثانوية الكفير .
• المؤرخ عارف الخوري الكتاب الذهبي .
• بعض الشخصيات التي وردت في التحقيق.

العدد 12