بعضُ أهميَّة كتابات السيد بحر العلوم هو ما تمتع به من غنى موسوعي لجهة المادة، والتوثيق الدقيق لجهة المصادر والمراجع، والعَود باستمرار للوقائع والشواهد منهجاً في دعم نتائجه واستنتاجاته. هذا في كتابات السيّد بحر العلوم عموماً، فكيف إذا كان الموضوع سيرة الخليفة الفاطمي السادس، الحاكم بأمر الله، بل صورته التي تناقلتها المُدوَّنات التاريخية.
ولا يَخفى القارئ التحامل والتجنّي اللّذين تعرضت لهما سيرة الحاكم وصورته، من عدد من الكتّاب غير، إمّا لدواعٍ أيديولوجية صريحة، أو نقلاً عن روايات مختلقة اختلط فيها الخبر بالأسطورة، والحقيقة بالخيال. وبعض الصورة التي رُسمت للخليفة الحاكم بأمر الله، قسوته في الأحكام، بل دمويَّته، والتناقض في قراراته.
يفنّد السيّد بحر العلوم في الجزء الثالث من كتابه «تاريخ الدولة الفاطمية» المزاعم تلك جملة وتفصيلاً، ويعيد إظهار سيرة الحاكم الحقيقية، كما كانت في الواقع، نقلاً عن عشرات المصادر والمدوّنات التاريخية: « ….أقف إزاءها بنِظرة عالية فيها من الدقة والتفكير، بالسَّير الاجتماعي الأخلاقي ما يجعلني أُكبِر هذا الرجل وأبعده عن اتهامات الكتّاب». (ص 182)
وضعت وفاة والد الحاكم، الخليفة العزيز، المبَكِّرة الفتى في موقع الخليفة وهو يافع السن لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر. لكن الأمر لم يطُل بالفتى حتى أظهر معدنه المتميّز، فتخلّص من قادته الأقربين الفاسدين، ابن عمّار وبرجوان، المتشاحنَين المتطاحنَين على الدوام.
أمسك الشاب اليافع ذو الشخصية الجبّارة، على ما يصفه المؤلف، بناصية الخلافة لثلاثة عقود، مُصلحاً شؤون الدولة ومُندَرجاتها ودوواينها، وباعثاً لسياسة جديدة تخفف عن كاهل مواطني الدولة الأعباء الضريبية حتى الحدّ الأدنى، ومختطّاً لسياسات كانت الأكثر عدلاً، وكأفضل ما يكون عليه الإصلاح، وتكون عليه السياسات على الإطلاق، جالباً من خلالها الأمن والأمان والعدالة لأرجاء الدولة، وضارباً في الوقت نفسه بيد من حديد على أيدي الفاسدين والمحتكرين والمتّجرين بقوت الناس.
يسهب المؤلف في تفاصيل الصعوبات العملية التي واجهها شاب يدير دولة معقدة، وتضم قادةً شرسين وخلفهم قبائل وجيوش؛ لكن الشاب وعلى توقُّع أنجز ما لم يكن بالحسبان. ففي خلال ثلاث سنوات لا أكثر بدت الدولة الفاطمية في ذروة قوتها، وبدت دولة الحاكم بأمر الله، لا دولة سواه، يشرف على الصغيرة قبل الكبيرة فيها، ويتابع القضايا والمسائل الشائكة، يحضر «المجلس الوزاري»، ويكون صاحب الرأي الأخير في كيفية تدبير المملكة. ويعلّق المؤلف على ذلك:
«من الممكن أن تكون قابليته كَيفّته لأن يكون شاباً مثالياً يؤْثر العمل المُتعب، ويعاني الإجهاد المُضني في سبيل مصلحة بلاده حتى أنه أبدى نشاطاً مدهشاً في مجاله، فهو لم ينغمس في اللذة وينهمك في اللهو واللعب كما هو شأن أمثاله من الشبّان ممّن تسنّى لهم هذا المركز، وأتيحت له هذه المكانة، وإنّ حياة العبث والمجون لم تتمكن من الوصول إليه فلم نلمس عنده جانباً ليّناً وميلاً نفسياً، وإنما كان منكبّاً على عمله في تدبير دولته يواصل ليله بنهاره.» (ص 201-202)
في صفات الخليفة الفاطمي الشاب، الحاكم بأمر الله، ينقل المؤلّف عن مؤرّخين معاصرين لحقبة الحاكم الميزات غير الاعتيادية التي كانت له، في هيئته الجسدية، وفي طباعه وخصاله، كما في طبيعة الحكم الذي مارسه لنحو من ثلاثين سنة.
ينقل السيد بحر العلوم عن المؤرخ الأنطاكي (تاريخ الأنطاكي) قوله:
«وأظهر – أي الحاكم – من العدل ما لم يُسمع بمثله، ولعمري إن أهل مملكته لم يزالوا في أيامه آمنين على أموالهم… مطمئنين على نفوسهم، ولم تمتد يده قط إلى أخذ مالٍ من أحد، بل كان له جود عظيم، وعطايا جزيلة، وصلات واسعة…. وأسقط جميع الرسوم والمكوس التي جرت العادة بأخذها، وتقدم إلى كل من قبض منه شيء من العقار والأملاك بغير واجب أو في مصادرة في أيامه وأيام أبيه وجدّه أن يُطلق له ما قُبض منه.» (ص206)
ويورد عن الكاتب عبدالله عنان:
«والخلاصة أنَّ الحاكم بأمر الله لم يكن تلك الشخصية الساذجة ولا تلك العقلية المُخرِّفة التي تُقدِّمها لنا الرواة، ولم تكن أعماله وأحكامه كما صُوِّرت على كرّ العصور….وإنما كان الحاكم لغز عصره، وكان ذهناً بعيد الغَور، وافر الابتكار، وكان عقلية تسمو على مجتمعها وتتقدم عصرها بمراحل، وكان بالاختصار عبقريّة يجب أن تتبوّأ في التاريخ مكانها الحق.»(ص 209)
أمّا في سخائه وكرمه، فيكتب السيّد بحر العلوم:
«ولعل هذه الصفة العالية إحدى الخلال الرفيعة التي كان يتحلّى بها هذا الخليفة، فهو بخلاف غيره من الخلفاء لم تهشّ نفسه للمال أو يهتم لجمعه، رغم وفرته عنده ويسرته لديه. ولقد أجمعت الروايات على اختلاف نزعاتها وأهوائها على جوده وسخائه فلم يحسب له (المال) حساباً ولم يقم له أي وزن، فقد زهد بالمادة وبعُد عن بهرجتها وزينتها، وكان لدى الخزانة الخاصة بالدولة الفاطمية الشيء الغزير من التُّحف والمال والنوادر مما يدل على ثروتها الطائلة الأمر الذي ترك المؤرخين يدونون الكثير عن هذا الموضوع وتكدّس لدى الحاكم من الأموال والتحف ما يجلّ قدره ووصفه. غير أن هذا الخليفة الصلب لم يعبأ بكل هذه الثروة الطائلة، ولم يغرق بذلك البذخ المُسرف وإنما كان مثال السخاء والكرم….. «وما زال التاريخ يروي مثلاً مشاهد السنين التي شحّ فيها ماء النيل وكيف كان الحاكم يقف وسط شعبه مستجيباً لكل رجاء، دائب السعي لدفع ويلات المجاعة» (ص 210-211، الاقتباس الأخير عن دائرة المعارف الإسلامية، مجلَّد 7، ص 269-270).
هذا قليل مما أورده العلاّمة الدكتور محمّد بحر العلوم في الجزء الثالث من كتابه «تاريخ الدولة الفاطمية» من صورة الحاكم بأمر الله وخِلالِه وصفاته المضيئة، أمّا ما يَعلق بتلك الصورة من تجنٍّ فيردّه المؤلف إما لرغبة الرواة المعروفة بنسج الأساطير، أو لجهل بالوقائع، أو حتى «للعصبية (دفعتهم) للطعن بهذه الشخصية الجبّارة» (ص 215) وفي أسباب التحامل والتجني أيضاً، ينقل المؤلف عن دائرة المعارف الإسلامية قولها في الذين تأثروا بروح «التعصب» حتى «أنهم لم يقدِّروا هذه الشخصية الفذّة في نهجها، وعدُّوْه حاكماً متعطِّشاً للدماء، وبادروا فنسجوا حول شخصيته سلسلة من الأقاصيص السخيفة التي ما تزال تفتقر إلى تمحيص دقيق…. فمن البيّن أنَّ كثيراً من النظم التي سنّها واشتدّ الناس في ذمّها قد رمى بها إلى كبح جماح الفساد الذي تردّى فيه شعبه وقد ضرب لهم مثلاً رائعاً بسلوكه الذي لا تشوبه شائبة» (دائرة المعارف الإسلامية، مجلد 7، ص 269).