حبيب أبو شهلا يروي قصة طريفة
عن معَّاز كفرتبنيت وموكب الرئيس
“إذا نام الراعي بيرعاها الذيـــــب
وإذا قلّت المراعي بيخف الحليب”
هذا ما قاله راعي بلدة كفر تبنيت للوزير حبيب أبو شهلا في لقاء عابر على قارعة الطريق أصبح موضوع تداول وتندُّر في مجلس رئيس الجمهورية والوزراء.
سبب هذا القول أن قطيعاً من الماعز اعترض موكب رئيس الجمهورية آنذاك الشيخ بشارة الخوري وصحبه دولة رئيس الوزراء رياض الصلح والأمير مجيد أرسلان وهم في طريقهم لزيارة الزعيم أحمد الأسعد في دارته بالطيبة أواخر الأربعينات. نزل الأستاذ أبو شهلا من السيارة وصاح بالراعي كي يُسرع بسوق قطيعه من أمام الموكب.
استهجن الرّاعي هذا التصرّف وصاح بوجهه قائلاً: مهلك يا أخي فهذه أرواح ويجب الرفق بها.
أجابه أبو شهلا هذا موكب فخامة الرئيس ولا يليق أن يتوقف. أسرع، أسرع بإبعاد هذه الماعز والأغنام عن الطريق..
ضحك الرّاعي وقال : من هو هذا الرئيس وعلى من؟؟
نرفز أبو شهلا وقال: هو رئيس الجمهورية ورئيسنا ورئيسك ورئيس كل الناس وما عليك سوى فتح الطريق وإفساح المجال!
هزّ الراعي برأسه وأجاب: عليه أن يتوقف قبل غيره لأنه رئيس الكل، وقُل له عن لساني أن مثله معنا ومع شعبه كمثلي مع قطيعي ..
اندهش أبو شهلا لفلسفة الرّاعي هذه وصراحة إجابته بعدما وجد فيها شيئاً من الحكمة، قال للراعي : ماذا تقصد بكلامك هذا؟
قال الراعي: كنت أسمع من جدي وأنا صغير كلاماً يعظني به قبل أن أسرح مع قطيعي فيقول : “إذا نام الراعي بيرعاها الذيب، وإذا قلّت المراعي بيشحّ الحليب.”
كذلك على رئيس البلاد أن يرعى جميع الناس سواسية، وإذا لم يكن ذلك فستفشل الرئاسة، ثم أدار بظهره بعدما نهر قطيعه.
هذا ما رواه الأستاذ أبو شهلا في ما بعد عن بلاغة راعي كفر تبنيت.
وبعد أن عاد الموكب الرئاسي إلى بيروت واجتمع مجلس الوزراء للتداول بشؤون المنطقة التي زارها والمشاريع التي وعدوا بها، توجه أبو شهلا إلى رئيس الجمهورية وسأله: “فخامة الرئيس ما الذي أثار إعجابكم من الخطب والأحاديث التي سمعتها سواء كان في زيارتكم لدار الطيبة أم لسرايا مرجعيون أم لسرايا حاصبيا أم سواها من الأماكن التي توقفتم عندها؟” أجاب الرئيس بصراحة: “إن مَثَل معاز كفر تبنيت الذي قاله لكم، هو الأبلغ والأشمل من جميع الخطب والأقوال، وسيبقى دائماً في البال.”
وتابع أبو شهلا بسؤال آخر: أيضاً ما الذي أعجبكم في طبيعة تلك البلاد؟
أجابه الرئيس، وكان بحقٍ أديب الرؤساء وأقواهم منطقاً وفصاحة، فقال: “في لبنان واديان مقدّسان وادي التيم ووادي قنوبين، وكلاهما متعة للعين ومسكن للنساك الصالحين. ولن أنسى مطلقاً وقفتنا قبالة مجرى نهر الحاصباني في ذلك الوادي الأشيب الأبر، يحرسه من الشرق جبل شاهق يعانق السماء كأنه أسد هصور أمام أكمة خضراء وارفة الظلال أغر”.
الوزير أبو شهلا بعدما أثار إعجابه هذا القول وهذا التشبيه، قال: “أرجو يا فخامة الرئيس أيضاً أن لا يغرُب عن بالكم أنها عرين الأهل والآباء والأجداد وأنه لم يمض على قدومنا إلى بيروت سوى ثمانين عاماً لا غير، ولتاريخه لم يزل العديد من الأعمام والأخوال والأقارب في تلك الديار، إذ أن معظم مسيحيي المصيطبة والمزرعة ومار الياس وبعض سكان الأشرفية هم من بلدات حاصبيا والكفير وميمس وما يجاورها”.
وأضاف أبو شهلا القول: “رجاءنا الوحيد هو مدّ يد العون إليهم وخصوصاً بلدتي ميمس عبر إيصال المياه الجارية إليها لأنها ورغم قربها من نبع الحاصباني يصح فيها قول الشاعر البدوي:
كالعيس في البيــداء يقتلها الظمــا
والمـــاء فــوق ظهورهـــا محمــــــول
وكان للوزير أبو شهلا فيما بعد أن جرت المياه إلى بلدته ولكن من نبع عين جفور وليس من نبع الحاصباني وهو الأقرب والأغزر.
المشهور عن المحامي أبو شهلا أنه سيد من أسياد المنابر وظريف من ظرفائها كونه مستحضراً لجميع القوانين ومصادرها وكذلك للطرائف النادرة وقد كان صاحب بداهة في استحضارها حسب كل موقف.
تسلم رئاسة مجلس النواب وكذلك عمل رئيساً لحكومة الإستقلال في بلدة بشامون لفترة وجيزة مع الرئيس صبري حمادة والأمير مجيد أرسلان، وكان لخطابه المثير الذي ألقاه من شرفة أحد بيوت بشامون، المركز المؤقت لحكومة الاستقلال، الأثر الكبير في اشتعال الثورة الوطنية ضد الإنتداب، والتصدّي للفرقة التي أتت لمحاصرتهم واستشهد آنذاك سعيد بو فخر الدين عند مدخل البلدة المذكورة قبل أن يتم الإفراج عن الحكومة الأصليّة من معتقلها في قلعة راشيا، وكانت تضم الرئيس الشيخ بشارة الخوري ورياض الصلح وكميل شمعون وعبد الحميد كرامي وعادل عسيران وسليم تقلا.
وفي يوم، وبصفته نائباً لرئيس مجلس النوّاب، طلب من أحد زملائه الجنوبيين أن يتكلم فإذا هو يغطّ في نوم عميق، فاستدار نحو الحاضرين وقال: زميلي يعبّر عن واقع حالنا والبلاغة في نومه ..
فضحك الجميع وعلا التصفيق مما جعل النائب الغافل يفيق من نومه مصفقاً مع الجميع دون أن يعلم ما سبب ذلك.
كان أبو شهلا يُصنّف رجال السياسة في لبنان إلى ثلاثة، فسألوه كيف ذلك؟!
قال: كان لأحدهم ثلاثة أبناء.
الأول يصدق دائماً في كل أقواله.
والثاني كاذبٌ دائماً في كل أقواله.
أما الثالث فمتقلبٌ حسب مزاجه ومصالحه.
الأول والثاني كان يعرف كيف يتعامل معهما.
أما الثالث، فكان يحار في كيفية التعامل معه. وكان يقصد أن السياسيين هم من الصنف الثالث الذي يحار المرء كيف يتعامل معهم.
عمل حبيب أبي شهلا محاميا لشركة التابلاين، وقد وصفه الأديب يوسف غانم في كتابه “مشاهير الرجال” بالقول: “الأستاذ أبو شهلا في وجهه معانٍ كثيرة كلها مدعاة للإفتتان والإعجاب، فمن إشراقٍ واستدارة وسعة جبين إلى نظرات حادّة، شوارد يتشطّى منها شرر الذكاء إلى إبتسامات كثيراً ما تتحول إلى الضحك والتطرب، فتُصوِّر لك ما في صاحبها من عذوبة ومرح واغتباط”.
مَثلٌ للثقافة العالية بين السياسيين الأوائل، فقد كان يحمل دكتوراة دولة في الحقوق من باريس، ومحامٍ بارع وخطيب مفوّه، وكاتب وأديب ومُحدّث طريف، وكان إلى أدبه المورق الزّاهر حسنُ التصرف بضروب الكلام، له في المجالس نواصي الحديث بطبعه المنصف فتحلو عنده النكتة، وينقاد إليه البيان فتسمعه وأنت معجب فيه مرتاح إلى نبراته، متعلق بعباراته وربما ازددت غبطة إذا جمعك وإياهُ مجلس للغبوق والإنس حين يصير الحديث لهواً وعبثاً.
وحقيقة الناظر إلى تمثاله أمام باحة الأونسكو، في بيروت، يقر ويلمس الكثير من هذا الوصف الجميل البديع الطروب.


الأمير توفيق أرسلان والشيخ سليم خير الدين
في زيارة موفقة للرئيس شارل دبّاس
“يا ليتكم طالبتم بالجمل كلِّه وليس بأُذُنِه”
ثورة 1925 ضدّ الفرنسيين التي اشتعلت في جبل العرب ما لبثت أن امتدت نيرانُها إلى لبنان مع قدوم مجموعة من قادة الثوّار من جبل العرب إلى جنوب لبنان. كان في طليعة هؤلاء زيد الأطرش شقيق قائد الثّورة سلطان باشا الأطرش وحمزة الدرويش وفؤاد سليم وشكيب وهّاب وسواهم. وقد وصل هؤلاء حاصبيّا بتاريخ السابع من تشرين الثاني سنة 1925، وحال وصولهم عقدوا الاجتماعات مع وجهاء حاصبيّا وخلَصوا إلى توزيع منشور سعى لطمأنة سكان المنطقة ولاسيّما المسيحيّين منهم إذ جاء فيه “إن قدوم الثّوار إلى هذه الدّيار ما هو سوى لإنقاذها من السّيطرة الأجنبية وأنهم قاموا بعملهم هذا باسم الوطن لا باسم طائفة دون أخرى، وأنهم يعتبرون أبناء الوطن جميعهم أخوة في النفس والمال والحرّيّة الشخصيّة، وعلى مبدأ رئيسي واحد: الدّين لله والوطن للجميع”.
لإتمام تلك الأهداف تألّفت لجنة كان الناطق باسمها المحامي نسيب أفندي غبريل المسيحي الأرثوذكسي، وهي بشكل حكومة مُصَغّرة، ثم كان بدء مهامها طرد الحامية الفرنسيّة المتواجدة في محلّة زغلة (محل دار الخليل حالياً) سلميّاً والبالغ عددهم نحو خمسين جنديّاً، وقد أوصلوهم إلى منطقة مناجم الحُمّر قرب الحاصباني بعد أن زوّدوهم بالمأكل والمشرب، ومن هنالك انتقل الجُند إلى مرجعيون بأمان.
بعد ذلك كان الثوار يُوَدّون تعزيز الأمن والأمان في منطقة حاصبيّا وراشَيّا. لكنّ عملاء القوّات المحتلة لجأوا إلى الدّسائس، وبذلك قرّروا طرد الحامية الفرنسيّة من راشيّا ومرجعيون وإبقاء وادي التّيْم بأكمله تحت سيطرتهم، غير أنّ حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، فبعد محاولتهم طرد الحامية الفرنسيّة من ثُكْنَة مَرجعيون دون التعرّض لأيِّ فريق من اللبنانيين، دخلت المخابرات الفرنسية على الخطّ، وعملت على افتعال حادثة طائفية كان الهدف منها تخويف المسيحيين من الدّروز بحيث يتعزّز شعورهم بأنّ فرنسا هي الحامية الوحيدة لهم. وبالفعل أرسلت القوات الفرنسيّة ثلاثة من عملائها وهم غطّاس كرم ونايف الحصان وخليل الجِزّيني، وقد أشار إلى تلك الحادثة الأديب سلام الرّاسي في أحد كتبه، وهو الخبير المعاصرُ لتلك الأحداث، إذْ ذَكَر بأنّ الثلاثة كَمَنوا للثوّار الذاهبين إلى مرجعيون في منطقة زيتون المغاريق قرب بلدة كوكبا. يومها كان كاهن البلدة قد دعا المجاهد حمزة الدرويش ورفاقه لاحتساء القهوة في منزله، وكان هدفه إظهار أنّ كوكبا وسكّانها بلدة مسالمة، وكانت أملاك القرية يومها بمجملها ملكاً لآل شمس في حاصبيّا. لكنّ أول عمل قام به عملاء القوّات الفرنسيّة هو إطلاقهم النار على الكاهن فأردَوْه قتيلاً.، ثم وَجّهوا رصاص بنادقهم نحو الثوّار السائرين على الطريق العام نحو مرجعيون فقتلوا ثلاثة منهم، اثنين من آل أبو دهن وآخرَ من آل شرف، وكان ما كان.. اعتقد الثوّار أنّ الرصاص أُطلق من داخل كوكبا، لذا هاجموها وأحرقوا عدداً من بيوتها وقتلوا 31 من شبانها.
بعد ذلك، ووفقا لما خطّطَته المخابرات الفرنسيّة، اعتُبِرَت تلك الحادثةُ مُبرِّراً لتدخُّل الجيش الفرنسي للقضاء على الثّورة بذريعة الدّفاع عن المسيحيين المُهَدّدين. وأرسلت القيادة الفرنسيّة بقوّاتها المتمثلة بجيش الشّرق (إحدى الفرق في الجيش الفرنسي) ومساندة الطّيران الحربيّ المرابط في مطار ريّاق العسكري. وبدأ القصف والهجوم، واستغرقت معارك حاصبيّا عدّة أيام، وبفعل القوّة الحاسمة للقوات الفرنسية وتسليحها الحديث اضطُرّ الثوّار إلى مغادرة بلداتهم، ثم كان دخول الجيش الفرنسيّ وأتباعه، فنُهِبت حاصبيّا وأحرقت، وهكذا كان حال شتّى قرى وادي التّيْم، وتشرّد الأهالي إلى الجليل والجولان وبلاد حوران لأكثر من عشرة أشهر. غير أنّه عند عودتهم إلى ديارهم لم تعمل السّلطات الرّسمية اللّبنانية على مساعدة العائدين لترميم منازلهم وممتلكاتهم، بل عَمَدَت فقط إلى دعم فئة مُعَيّنة بنت القصور والبيوت المسقوفة بالقرميد الأحمر، وهي لم تزل ظاهرة للعيان إلى يومنا هذا في راشيا وحاصبيا ومرجعيون، بالإضافة إلى بناء الكنائس وسواها من دور العبادة، بينما لم يَنَل المواطنون الدّروز الّذين أُصيبوا أكثرَ من غيرهم تعويضات تُذكَر لتساعدَهم على إعادة بناء بيوتهم ودورهم التي احترق الكثير منها على يد الفرنسيين، كانت تلك السّلطات تعمل في حينها بإمرة القوّات الفرنسية.


مع تمادي الدّولة في سياسات التّمييز بين المواطنين طَفح الكيل وقرّر عدد من المُتنوّرين الدروز ووجهائهم التحرّك للطّلب من الدّولة إنصاف الجميع، والكفّ عن التّمييز بين مواطنيها. في تلك الأثناء كانت خلوات البيّاضة قد تعرّضت لعمليات حرق، وهبّ المشايخ وأعلام الطائفة يطالبون بأن تساهم الحكومة في إعادة بنائها وصرف الأموال لهذا الغرض، لأنّ عمليّة التّرميم كانت تتطلّب أموالاً تفوق طاقة النّاس على احتمالها.
الشيخ سليم قاسم خير الدين، الذي كان تاجراً يجلب بضاعته من بيروت كلّ ثلاثة أشهر، قرّر في إحدى رحلاته التجاريّة تلك إلى العاصمة أنْ يزور الأمير توفيق أرسلان، ويعرض عليه وضع المنطقة وخصوصاً خلوات البيّاضة وما آل آليه الأمر، ثم سأله أنْ يسمح له بأن يرافقه لمقابلة الرّئيس اللبناني آنذاك الرّئيس شارل دبّاس قائلاً:” عطوفة الأمير قد دبّت الغَيْرَة والاستغراب في نفوس الجميع، وهالنا أن نرى أنّ الكنائس والجوامع مُدّت يدُ العون إليها من قِبَل الدولة من حيث إعادة بنائها أو ترميمها، وأعتَقِدُ أنّ خزينة الدّولة للجميع!، ولهذا أليس من واجبنا أنْ نطالبها بالمساعدة على ترميم خلوات البيّاضة وسقف بنائها من جديد، إذ إن إمكانياتنا لا تسمح بذلك؟”
أجابه الأمير: “كيف يا شيخ أبو اسماعيل ستطلب من الدّولة ذلك وأنت تعلم أنّ المستشار الفرنسي هو الحاكم الفعلي، وطبعاً ستكون الإجابة سلبية وغير إيجابية، لأنّ المستشار سيرفض متذرِّعا بأنّكم حاربتم الدّولة الفرنسية وألحقتم الأذى بجنودها”
تبسّم الشيخ أبو اسماعيل وأجاب:” عطوفة الأمير، لكلِّ سؤال جواب، وكلّ ما أرجوه منكم أن تقبل عطوفتكم بمرافقتي لكم في زيارة رئيس البلاد، وعلى الله الاتكال”.
قال الأمير: “ ماذا في اعتقادكم أنّكم ستحصلون عليه من أموال؟”
أجاب الشّيخ: “إذا أعطَوْنا من الجمل أُذْنَه فهذا جزء يساعدنا يا عطوفة الأمير”.
وفي الوقت المحدّد من جانب رئاسة الجمهورية لاستقبال الأمير وصحبه، وعند مدخل القاعة في القصر الجمهوري لم يكُنْ من الأمير إلا أن طلب من الشيخ أبو اسماعيل أن يدخل أمامه فرفض الشيخ كُليّاً وأجاب:”عطوفة الأمير هذا لا يجوز والعين لا تعلو فوق الحاجب”.
تبسّم الأمير توفيق وقال:” لاعليك، أنتَ اْدخل كما طلبت منك وسترى القصد من ذلك”، وأخيراً أذعن الشيخ لرغبته ثم دخلا، وحيث أنّ البروتوكول الرّسمي يقضي بأن الداخل أولاً يجلس إلى جانب الرئيس، وبما أنه لا يوجد سوى كرسي واحد فقد أُجلس الشيخ إلى يمين الرئيس وجلس الأمير إلى جانبه.
ابتدأ الأمير بالحديث قائلاً: “ يا فخامة الرّئيس، الشيخ أبو اسماعيل قادم من حاصبيّا وباسمه وباسم مشايخ البيّاضة يطلبون من جانبكم المساعدة على إعادة بنائها لأن ذلك يفوق إمكاناتهم وخصوصاً أنّهم منهكون بتكاليف ترميم منازلهم”.
أجاب الرئيس:” هذا صعب، وربّما مستحيل يا عطوفة الأمير، فكيف ستساعد الدولة من حاربها وقتل جنودها وبعض المواطنين الأبرياء، وفوق هذا تعلمون لمن القرار اليوم، إذ ما من أمر يتمّ إلا بإذن من المستشار الفرنسي، وأعتقد أنّ الموافقة التي ترجونها من المستحيلات”.
آنذاك تَرَحْرَحَ الشيخ أبو اسماعيل في مقعده، ثم استأذن الأمير بالكلام وتوجّه إلى الرئيس شارل دبّاس بالقول:”فخامة الرّئيس، نعترف ونُقِرّ بأنّنا قد حاربنا الدولة المُنتدَبة -وليس دولتنا- وأنتم تعلمون أننا قوم نعشق الحريّة والكرامة، وأنّه لم يمضِ على تحرّرنا من الاستعمار التّركي أكثر من بضع سنوات، أمَا يكفي ذلك لكي نُستعمر من جديد؟ أمّا ما حدث في منطقتنا وخصوصاً حريق بلدة كوكبا وقتل كاهنها فهذا ولا شك من قبل عملاء، وليس للدّروز أيّة علاقة بذلك، كون البلدة المذكورة بحدّ ذاتها هي ملك لآل شمس زعماء المنطقة، والحكومة المنتدبة تعرف من المسبب وكيف تمّ ذلك، وفي النّهاية كنّا نحن الضّحيّة إذ أحرقت جميع بيوتنا وممتلكاتنا وأرزاقنا وعشنا مشرّدين نحو سنة كي يسمح لنا بالعودة. ويا فخامة الرئيس إذا أردتم مساعدتنا فليس ذلك بالمستحيل، وأرجو أنْ تنقل هذه العبارة وبالحرف إلى فخامة المستشار الفرنسي فتبلغه عن لساني ولسان بني معروف: “إن الدّولة هي بمثابة الأمّ لشعبها وإذا أخطأ الولد مع أمّه فهل تبقى حاقدة عليه إلى الأبد أم تصفح وتسامح مع مرور الزمن؟؟”.
ضحك الرئيس دبّاس طويلا ثم أجاب:”خيراً إنْ شاء الله”.
وهكذا، وبعد مدّة اتّصَلت دوائر القصر الجمهوري بالشيخ أبو اسماعيل، وطلبت إليه أن يحضر ويستلم مبلغ ثمانماية ليرة ذهبية وليرتين، وعندما أخبر الأمير توفيق بما حدث ضحك الأخير وقال له: “ياليتكم يا شيخ أبو اسماعيل طالبتم بالجمل كلّه وليس بأُذُنِه!”.
على أثر تلك المساعدة الماليّة الحكوميّة اشترت اللجنة المشرفة على أعمال خلوات البيّاضة بتلك الأموال أرضاً من السّهل، وقرب الطريق العام لصالح الخلوات، ولم تزل تلك الأرض المشتراة حينها تُعرف إلى اليوم بـ “أرض الحرام” لكونها اشتريت بمال الدولة الذي يعتبره المشايخ الملتزمون مالا حراما بسبب ظلم الدولة أو الحاكم، أما القيمة الحالية للأرض فأصبحت ربما توازي ملايين الدولارات، ويبقى الأجر عند الله لمن سعى للخير دون غاية أومِنّة.