منذ إنشاء دولة لبنان الكبير وحتى تاريخه، لم يعمل اللبنانيون على تأسيس دولة ووطن، فقامت الدولة الناشئة على أساس تجميع طوائف بهويّات وخصوصيّات وتجارب تاريخيّة متنافرة وهواجس ديموغرافيّة وتسابق على الأفضليّة في الحكم والمغانم. ولم يتمَ العمل كذلك على تطوير الدستور «والميثاق الوطني» لبناء دولة حديثة، فدخل لبنان بين العامين 1958 و1990 في حربين داخليتين وأزْمات، فيما بقيت بنود «اتفاق الطائف» المتعلقة بإلغاء الطائفيّةِ-السياسيّة وخطواتها، حتى الهويّة العروبية، من دون تطبيق، وطبقة سياسية حاكمة تعيد انتاج ذاتها انتخابيًا عبر جمهورها الطائفي/المذهبي. كلّ هذا فتح أبواب لبنان على مشاريع للطوائف، أوصلت البلاد اليوم إلى الانهيار، تزامنًا مع الفساد والمحاصصة والاستحواذ على المناصب والثروات والمال.
سأقارب الموضوع بردود الفعلِ لدى الطائفتين الرئيسيّتن الإسلاميّة والمسيحيّة على إنشاء لبنان الكبير بناء على الخلاف على الهويّة حتى تاريخه، ثم أنتقل بسرعة إلى مشاريع الطوائف الخاصّة، وبعدها المتعلقة بالفدراليّة والدولة المدنيّة.
1- مخاض الهويّة اللبنانيّة
من المعروف أنّ المسلمين بغالبيتهم رفضوا لبنان الكبير لاعتبارات تتعلَّق بهويّتهم العربيّة-الإسلاميّة. فبين العامين 1909 و1920 كان عليهم الخروج من العثمنة، إلى العروبة في مؤتمر باريس في العام 1913 (دعوات الكواكبي لتعريب الخلافة الإسلاميّة، وابراهيم اليازجي وعازوري، والحصري، وزريق للقومية العربية)، وأن تُفرض عليهم الهويّة اللبنانيّة في لبنان الكبير. فكيف يمكن لإنسانٍ أن يغيّر هويّته ثلاث مرات في حدود 11 سنة. لهذا، بقيت العروبة مشروعًا وحدويًا في وعي المسلمين….
أما المسيحيّون، وبخاصّةٍ الموارنة منهم، فانحصر مشروعهم منذ عهد المتصرفيّة في إقامة كيانٍ لهم مستقل عن محيطهم العربي-الإسلامي. لذا، خرجوا من «لبنان الصغير» إلى لبنان الكبير بهويّة القومية اللبنانيّة مبتعدين عن عروبةٍ ثقافيّة كانوا هم روادها، فيما طالبت أقلية منهم بالعودة إلى لبنان الصغير خَشية أن «تمتصهم» الديموغرافيا الإسلاميّة، هويةً وسياسةً.
في المقابل، اندمج المسلمون فرادى، ثم تدريجيًا، في لبنان الكبير منذ العام 1920، حاملين معهم هويّتهم العروبية التي فضلوها على لبنانيتهم، وشكَّلَ ترشيح الشيخ محمَّد الجسر نفسه لرئاسة الجمهوريّة في العام 1932 ومؤتمر الساحل الثالث في العام 1936 علامتين فارقتين على اندماجهم في لبنان، إلى أنْ تُوِّج ذلك في «الميثاق الوطني» والصيغة.
في الميثاق وُضعت تسوية للتعايش الطوائفي على أساس الديمقراطيّة التوافقية وهويّة ملتبسة وحياد لبنان عن أزمات المنطقة. فاعتبر الموارنة أنّ لبنان أضحى أزليًّا، هويَّةً وكيانًا، وغير قابلٍ للتغيير أو التعديل، فيما تمسّك المسلمون بالعروبة مجسدين ذلك بالمطالبة بالوحدة مع سورية، والانجذاب إلى الوحدة المصريّة-السوريّة. فتسبّب ذلك في تخويفٍ متبادَلٍ بين الفريقين: المسيحيّون من عروبة تزحف عليهم برداء الإسلام (الخلط بين العروبة والإسلام)، ومسلمون خائفون على عروبتهم من إلحاق دولتهم بفلك الأحلاف، بعد دخول لبنان في «مبدأ ايزنهاور»، من دون أنْ يكون مهدّدًا بالشيوعيّة.
منذ «اتفاق القاهرة» في العام 1969 وحتى اتفاق الطائف في العام 1989، فُتحت أبواب لبنان على الخارج، وعلى الجيوسياسيتين الإسرائيليّة والسوريّة، من خلال:
أ- استقواء المسلمين بالمقاومة الفلسطينية مع تحوّل الديموغرافيا إلى مصلحتهم، ليس للانقلاب على لبنان الموحّد، بل لنزع مكاسبٍ من المارونيّة السياسيّة، وفي مقَدّمها رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش (تصريح كرامي بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية بناء على تحول الديموغرافيا لمصلحة المسلمين، وكذلك النائب عدنان الحكيم لتأكيد أن الرئاسة ليست حكرًا على الموارنة).
ب- مشروع اليسار اللبناني لعلمنة النظام اللبناني، بحيث لا يبقى للموارنة من أعمدة الحكم الثلاثة سوى الاقتصاد المُمسكين به، أي خسارة رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش.
ج- تصاعد مخاوف الموارنة، بعد انهيار التوزان السابق بفعل المقاومة الفلسطينية، وتعطّل صناعة القرار. فتكتّلوا في «الحلّف الثلاثي»، وطرح بعضُهم الفدراليّة.
باندلاع حرب لبنان نعى المسلمون، سنّة وشيعة، الميثاق وطالبوا بالعلمنة السياسيّة وبديمقراطيّة الأكثريّة، على أساس لبنان دائرةً انتخابية واحدة، فيما انحصر مشروع المسلمين الدروز في إقامة دولة عادلة، ومجلس شيوخ يمثّل الطوائف المشكّلة للمجتمع اللبناني، برئاستهم، مع الحفاظ على حقوقهم كأقليّة عددية كان لها دور بارز في تأسيس الكيان اللبناني الحديث. في المقابل، جاء رد الموارنة بالمطالبة بتطبيق العلمنة في الأحوال الشخصيّة لقطع الطريق على المطلب الإسلامي بالعلمنة السياسيّة، وتصاعدت دعواتهم مطلع الحرب إلى العودة إلى «لبنان الصغير» عبر الفدرلة أو التقسيم، أي كما جاء في كراسات «القضية اللبنانيّة» الصادرة عن لجنة الأبحاث في الكسليك. هذا المشروع خبا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 بتغيّر التوازنات من جديد، فعاد الموارنة إلى مشروع حكم لبنان كلَه.
فيما حَسم «اتفاق الطائف» عروبة لبنان وانتمائه العربي، ظهر منذ شباط 1985 مشروع حزب الله لإقامة نظامٍ إسلامي في لبنان وإلحاقه بولاية الفقيه وبالأمة الإسلاميّة بقيادة إيران. وظهر بعد الطائف سُنيّة سياسية جسّدها مشروع الحريري بإعادة الأعمار بسلطة رأس المال وبتبعية كاملة للسعودية، و»شيعيّة سياسيّة» تحمل مشروع «ديمقراطيّة الأكثرية» أو «المثالثة»، وكلاهما تُسقطان «المناصفة» التي أقرّها «اتفاق الطائف»، وبالتالي الدعوة إلى هيئة تأسيسيّة لإقامة نظام جديد يحقّق لها السيطرة على لبنان، حتى أن السنّة طالبوا مطلع الحرب بديمقراطيّة الأكثرية (تصريح حسين قوَّتلي المدير العام لدار الافتاء). صحيح أنَّ الحزب قام بدورٍ رئيسي في تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وحصل على تأييد الشعب اللبناني، إلا أن سياسة الإمساك بالدولة ومؤسّساتها والقرار فيها، خلق أسئلة وإشكاليات عدّة، كما فتح الباب من جديد على مخاوف إعادة لبنان إلى دائرة مشاريع الطوائف الكبرى.
لقد اعتقد كثيرون أنّ «ثورة الأرز» هي مشروع وطنيً جامع لإقامة الدولة القويّة، فانضمت، منذ ذلك الحين، غالبية إسلاميّة إلى هوية لبنانيّة تحت شعار «لبنان أوَّلًا»، لكن الثورة انحصرت في إخراج الجيش السوري من لبنان، ولم تصل إلى مشروع وطني تغييري، فيما تحول تكتل 14 آذار إلى «زواج الإكراه» لجمعه قوى متناقضة لم تَرْقَ إلى مشروع إقامة دولة قوية، ثم تآكلت بالاغتيالات.
هكذا، عادت الطوائف اللبنانيّة الكبرى تطرح مشاريع سياسية وفق مصالحها لتغيير نظام لبنان أو الانقلاب عليه، في كلّ مرّة كانت تتعرّض البلاد فيها لأزْمات، أو تشعر فيه طائفة بالضعف، أو تستقوي على غيرها من الطوائف الأخرى.
وتتضارب اليوم ثلاثة مشاريعَ مترافقة مع الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي والنقدي والاجتماعي:
أ- الفدراليّة للموارنة، كردّ فعل على انهيار الدولة وقيام دولة إلى جانبها.
ب- مشروع «المثالثة» للشيعيّة-السياسيّة التي تضرب المناصفة التي أقرّها الطائف.
ج- مشروع الدولة المدنيّة الذي يلقى رفضًا حادًا من قبل معظم رجال الدين المسلمين والمسيحيين.
2- المخاوف المسيحية من البقاء في لبنان الكبير
أشير بداية إلى لبنانيين كثر يتشاركون مع المسيحيين في معظم مخاوفهم، من دون أن يكون لديهم مشروع للفدرالية.
إنّ الخَشية على الإنجازات والمستقبل والمصير لدى المسيحيين تأتي في صدارة مخاوفهم، بأن يتم القضاء نهائيًا على إسهاماتهم وأدوارهم في لبنان ويشعر المسيحيون أنهم فقدوا الدولة التي أسّسوها أو تأسست من أجلهم، ولم تعد تؤدّي مهامها سيادة ومؤسسات ودستورًا وجيشًا وقضاء، وما وصلت فيه الأحوال من محاصصة الوزارات والمناصب، ووجود «سلاح غير شرعي»، فضلًا عن «الحدود السائبة»، وتحليق الدولار وتدهور الأوضاع المعيشية للأسباب المعروفة، وانهيار الطبقة الوسطى من 70% إلى 40%، وازدياد الفقراء من 25% إلى 55%، وفق آخر الإحصاءات.
كذلك يقلَقُ المسيحيون من عدم تطبيق اللامركزيّة الإدارية، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهوريّة بموجب اتفاق الطائف، وتحول «المناصفة» إلى وهمية، وهناك تصاريح عديدة للبطريرك صفير حول التلاعب بالانتخابات منذ العام 1992، عبر انتخاب المرشحين المسيحيين من قبل أكثرية إسلاميّة.
بعد العام 2005 وعودة الجنرال عون من المنفى، ظهرت هناك مطالبات شعبية مارونية لتفعيل المارونية-السياسية، لاستعادة موقعها على الساحة الداخلية. ولأسباب لن ندخل فيها، نشأ صراع مُدمّر بين المارونيّة السياسيّة الجديدة الممثلة بالجنرال عون «والمارونية السياسيّة» القديمة، القوات والكتائب والمردة، تهميش مع محاولات تهميش مرجعية بكركي وتحويل كلمتها إلى غير مسموعة. فأدّى هذا الشرخ إلى تآكل الطائفة المارونية من الداخل، تزامنًا مع ضعف سياسي متزايد في دور الطائفة السنية، ومطالبة الشيعيّة-السياسيّة بـ «المثالثة» التي تقلّص دور الطوائف وتترجم اليوم في الاحتفاظ بوزارة الماليّة، فضلًا عن محاولات قضم ما أمكن من مؤسسات الدولة والقطاع العام، مترافقاً مع ضرب استقلالية الصحافة ووسائل الإعلام، وإسكات الأصوات المعارضة بوسائل عدة، أبرزها الإحالات المتكررة للأصوات المعارضة على مرجعيات قضائية وعسكرية ليست مخوّلة النظر في المخالفات الإعلامية.
تزامنًا، وجد الكثير من المسيحيين أنّ الإرهاب الذي مارسته منظمات عسكرية تزعم أنها «إسلامية» وضرب لبنان منذ نهاية القرن الماضي، وتأثّره بالأصوليّة الإسلاميّة في الإقليم، وتوسيع تركيا نفوذها هناك، بعث لدى المرجعيات المسيحية خوفاً حقيقياً على هوية لبنان التي تكرّست في الميثاق الوطني لسنة 1943.
وباندلاع الثورة السورية، وانخراط فصائل لبانية، أفراداً وجماعات فيها، يضاف إليها تداعيات اللجوء السوري للبنان، تأججت مخاوف الموارنة من جديد، فضلًا عن فشل «إعلان بعبدا» في حزيران 2012 في وضع حدّ لذلك، ما فتح الباب واسعاً لتكهنات بوجود مشاريع سياسية غير معلنة يجري تحضيرها للهيمنة على الكيان اللبناني، أو تقسيمه الفعلي تحت مسميات غير معبّرة عن حقيقة مضمونها. وكأنت أبرز تداعيات التحول الجديد الإساءة إلى العلاقات بين اللبنانيين وبين لبنان والعالمين العربي والخارجي، وبداية علامات التأزم المالي والاقتصادي والاجتماعي..
صحيح أنّ الانتفاضة اللبنانيّة عزّزت الأمل لدى الكثير من اللبنانيين بحصول التغيير المنشود، وإعادة توحيد اللبنانيين تحت عناوين وطنية واجتماعية بعيداً عن الاصطفاف الطائفي والمذهبي، إلّا أنّ الأمور لم تسر في الاتجاه الذي يخدم سفينة الوحدة الوطنية المدنية غير الطائفية. إذ سرعان ما تسرّب الانقسام إلى جمهور الانتفاضة نفسه، وفقط خطوط طائفية منفّرة، وكانت ممارسات لبعض من زعم أنه من جمهور الانتفاض (من عنف زائد مجاني ومشبوه الغايات، إلى تدمير المؤسسات، واستهداف الأنشطة الاقتصادية وغيرها) ما تسبب بإحباط شديد. ثم تلاشت الانتفاضة مع انتشار فيروس كورونا. ثم جاء تفجير مرفأ بيروت مطلع آب 2020، وتعطيل التحقيق العدلي فيه، وما حصل في عين الرمّانة في 14 تشرين الأول 2021، وعودة حوادث الاغتيالات المشبوهة، والهجرة الدافقة نحو الخارج ليخلق انهياراً سياسياً انضاف إلى الانهيار المالي. وأضيف صوت بكركي المطالب بالحياد إلى الأسباب الأخرى التي انقسم اللبنانيون فيها؛ وفيما كان الغاية كما أعلنها غبطة البطريرك النأي بلبنان عن الصراعات الإقليمية، جاءت المطالبة بإعلان حياد لبنان وعرض أوضاعه على مؤتمر دولي، لتشعر فريق من اللبنانيين (وبخاصة الطرف الشيعي) أنه المستهدف بذلك، وليغدو مطلب الحياد كرة نار جديدة يتقاذفها الفرقاء السياسيون.
لقد شعر موارنة ولبنانيون (عن حق أو من غير حق) أن تعطيل استحقاقين رئاسيّين على يد الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحرّ بين العامين 2007 و2016، ومرّة ثالثة منذ خريف العام 2022، هو استهداف للوطن. ولا ننسى في هذه العُجالة تعطيل تشكيل الحكومات اللبنانيّة، فيما بقي صوتا البطريرك الراعي والمطران عَودة غير مسموعين، من شغورٍ مسيحي في المؤسّسات القضائيّة والماليّة والعسكريّة والدبلوماسيّة، واعتباره تهديدًا للهوية. ولم يكن تصاعد المطالبة بالفدرالية لدى أطراف مارونية عدة بعيداً عن مناخ الفوضى الذي ساد الحياة السياسية اللبنانية في الفترة الأخيرة، وخروج ملامح مشاريع سياسية أشتّم منها أنها تتضمن تغييراً في هوية لبنان التقليدية.
3- هل الفدراليّة مشروع لمستقبل لبنان أم للتقسيم؟
نشير بداية إلى دول كثيرة نجحت في اعتمادها، لأن مساحاتها الجغرافية الواسعة وتموضع سكانها سمحت بتوزيع السلطات بين المركزي والمحلّي، فضلا عن أن معظمها لديه قسط من الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، فيما سينتقل لبنان الطائفي الموحّد بهشاشته وتداخل طوائفه ومساحته الجغرافية الصغيرة إلى الفدراليّة، وهو يحمل معه أحقادًا تاريخية طائفيّة ومذهبيّة، وتبعيات للخارج، والخلافات على السياسيتين الدفاعيّة والخارجيّة، ما يعزّز الشكوك والهواجس حول مستقبل الفدراليّة وثباتها ويعيق النجاحِ. فهل تربينا على احترام الديمقراطيّة في لبنان الموحّد كي نطبقها في لبنان الفدرالي؟
عندما جرت الانتخابات في العامين 2005 و2009، أفرزت أكثرية مقابل أقليّة معارضة؛ لكن الأكثرية لم تحكم لتسلط قوى الممانعة اللبنانيّة على الحياة السياسية. وبموجب «اتفاق الدوحة» في أيار 2008، حصلت المعارضة على «الثلث الضامن»، وأخذ الحكم في حينه طابع الكيدية، من دون اعتبار لمصالح الوطن.
إنَّ توقُّع فشل الفدراليّة ومخاطرها على التعايش يعود، برأينا، إلى صغر حجم لبنان وقلّة موارده الطبيعية، وتضارب الجغرافيا مع الثقافات في الأقاليم، وبقاء الطائفيّة المجتمعية تمنع التعايش والتلاقي، ووجود ثقافة الاستقواء على الآخر، قد تؤدّي كلّها إلى صراعاتٍ وتطهيرٍ على أساس الدين، خاصّة أنّ تغيّر الديمغرافيا بفعل التكاثر الاسكّاني للأقليّات وغياب الديمقراطيّة والاعتراف بالآخر وبحقوقه، سوف يُفسد «العيش المشترك»، عبر مطالباتها بحقوق إضافية تضنُّ عليها بها الأكثريّة.
وفي الدولة الفدراليّة، يتشكل المجلس الرئاسي المركزي من رؤساء الأقاليم المنتخَبين، ما يضع علامات استفهام كبيرة حول تحوّلهم إلى وطنيين وعَلمانيين يعتمدون ثقافة التعايش الفدرالي، علمًا أن قرارات المحكمة الدستوريّة في الدول الفدراليّة نافذة. فهل ستكون كذلكَ بالفعل في لبنان الفدرالي، أم على طراز لبنان الموحّد؟ والسؤال المُلحّ: كيف سيتمكن الجيش الفدرالي المكوّن من أبناء الطوائف من حسم الأمور إذا حدثت خلافات بين الأقاليم؟ ولن تكون هناك ضمانات بوقوف الفدراليّات إلى جانب بعضها البعض في حال تعرّضها لخطر خارجي.
ومن المعروف في الدول الفدراليّة أن السياستين الدفاعيّة والخارجيّة من صلاحيات الحكومة المركزيّة، وهما مَوقِعا الخلاف في لبنان الموحّد. فكيف ستتوافق مكونات الفدراليّة على السياسة الدفاعيّة وهناك سلاح غير شرعي على الأرض، وهل ستقطع الطوائف علاقاتها بالخارج؟ وفي لبنان الموحّد لا يُحترم الدستور، وقد خُرق مرارًا منذ الطائف، واليوم في الاستحقاق الرئاسي الأخير وطريقة التصويت والورقة البيضاء). ولا ضمان لعدم خرقه في الفدراليّة (قوانين الانتخابات والجنسية، والمالية والنقد).
إنّ نظام التملّك والتنقل والإقامة والعمل في الفدراليّات هو حقّ دستوري. فهل سيقبل به المسيحيّون الخائفون من التملك وعمل الأجانب وإقامتهم في مناطقهم (بيان المؤتمر الدائم للفدراليّة)؟ وهل ستكون بيروتَ الكبرى فدراليّة إسلاميّة-أرثوذكسيّة أم عاصمة مركزيّة؟ وكيف سيكون عليه موقف حزب الله من مرفئها ومطارها خارج نطاق سيطرته؟.
يبقى سؤالان: كيف ستؤسَّس فدراليّة وطوائف البلاد مبعثرة على مساحة لبنان، وهل الحلّ بريط أبناء أي طائفة بممرات؟ إنّ صعوبات عدة جغرافية، وجيو سياسية، واجتماعية، وعسكرية، تقف حائلاً قوياً دون إمكانية تحول الفدرالية إلى كيان سياسي جديد في لبنان؛ كما أن المسوغٍ الرئيس للفدراليّة عند الموارنة هو سلاح حزب الله أمرٌ خاضع دوماً للنقاش والمقاربة كما جرى غير مرة
4- هل الدولة المدنيّة هي الحلّ؟
إذا كانت الفدراليّة ذات أُفق مسدودٍ، وقد تؤدّي إلى انهيارات على الأصعدة كافة، فهل يكمن الحلّ إذًا في الدولة المدنيّة (العلمانيّة)؟.
يُعلن بعض المسؤولين تكاذُبًا عن سعيهم إلى إقامة دولة مدنيّة. في الدولة المدنيّة لا يوجد زعماء طوائف وينبثق مجتمع مدني يراقب الحكومة، ويتقارب أبناء الوطن الواحد ويتمتّعون بالحقوق والواجبات نفسها، وينتفعون جميعًا بالثروات، ولا يشكّل الواحد منهم تهديدًا لـ «لآخر»، سياسيًّا أم اجتماعيًّا أم ثقافيًّا.
كل هذا يؤدي إلى انبثاق وحدة مجتمعيّة تؤسّس لمواطنيّةٍ،
ولعدم توافر إحصاءاتٍ عن مدى تقبّل اللبنانيين الدولة المدنيّة، سأقارب الموضوع من خلال الزواج المدني والزواج المدني الاختياري، إشارة إلى أن الزواج الاختياري لم يُطبَّق في العام 1998 بسبب المعارضة الإسلاميّة الواسعة، رغم موافقة قوى سياسية محسوبة على الجانب الإسلامي وأبرزها الحزب التقدمي الاشتراكي. إنّ حظوظ قبول المسيحيّين بزواج مدني هي أكبر من تلك لدى المسلمين، مع أنّ البطريرك الراعي رأى أنّ الزواج المدني هو خطيئة. فكيف ستؤسَّس الدولة المدنيّة إذاً، فيما الزواج بأيدي رجال الدين؟ لقد اشترطت البطريركيّة المارونيّة القبول بالزواج المدني بعقد القِران في الكنيسة أيضًا. لكن المسألة ليست هنا، بل في مفاعيل الزواج المتأتية (طلاق، ميراث، حضانة تبنٍّ الخ..). إنّ المسلمين يرفضون الزواج المدني الاختياري؛ فكيف سيقبلون بهذا الطراز من الدولة العلمانيّة التي تفصل الدين عن الدولة، ولا تُدخل التشريعات السماوية في قوانينها؟. في شباط 2021 اعتبرت دار الفتوى أنّ الزواج المدني يخالف أحكامّ المادّة التاسعة من الدستور اللبناني الذي أعطاها تلك الصلاحيات، فيما أنَّ قانونًا موحَّدًا للأحوال الشخصية، مرفوض من المسلمين والمسيحيين.
نحن نعترف بصعوبة إسقاط الدولة المدنيّة على مجتمع طائفيّ قبلَ تربيته على المواطنية والديمقراطيّة والاعتراف بـ «الآخر» وحقوقه والعيش معه. لكن أليس من الأفضل اختبار هذه التجربة، كما فعلت تركيا وتونس اللتان فصلتا الدين عن الأحوال الشخصية، بدلًا من الذهابِ إلى الفدراليّة أو نظام إسلاميّ أو هيمنة إسلاميّة؟ وإذا فشلت الدولة المدنيّة، عندها يبحث اللبنانيون عن حلّ آخر، قد لا يكون متوافرًا.
قد تكون أو لا تكون الدولة الفدراليّة هي الحلّ. لكن الوصول إلى الجواب يجب أن يسبقه حوار وطني للحفاظ على لبنان موحَّدًا، وعلى إرادة العيش المشترك تحت مظلّة نظام يجمع ولا يفرّق، بعد الاستغناء عن الطائفيّة-السياسيّة، ووضع قانون يتيح للبنانيّين الانتخاب والإتيان بممثّليهم الفعليّين إلى مجلس النوّاب، في ظل حكومة قويّة وفاعلة ونزيهة، وإنشاء مجلس شيوخ طائفي انتقالي مرحلي، والعمل تدريجيًا للانتقال إلى مجلس نيابيّ غير طائفيّ. كذلك، الاتفاق على السياستين الدفاعيّة والخارجيّة، واستقلال القضاء عن التدخلات السياسية، واعتماد اللامركزيّة الإداريّة، وتحرير الوظيفة من القيد الطائفي. وتتطلّب الدولة المدنيّة علمنة الأحزاب، وأن تكون مختلطة ولديها برامج تعزّز الوطنية، فضلًا عن الإنماء المتوازن.
وعلى الصعيد الاجتماعي التربوي، وجوب وضع الأحوال الشخصيّة في يد الدولة، وتعزيز الزواج المدني المختلط؛ مع عقد الزيجات لدى المؤسّسات الدِّينيّة كخطوة ثانية تليه لمن يشاء، وهذ هي المشكلة مع المؤسّسات الدينية. كذلك، إعادة بناء الوحدة الوطنية بمفاهيم تربويّة واجتماعيّة تعزّز المواطنيّة والتعدّديّة الثقافيّة، واستبدال التعليم الديني بتدريس القيم المشتركة للأديان (فشل الحريري الأب في جعل التعليم الديني خارج المدارس). وأخيرًا جعل الدولة اللبنانيّة وحدها مرجعيّة السلاح والقرار السياسيّ، وتعزيز الجيش الوطني.
5- استشراف المستقبل
لقد مر لبنان في العقدين الأخيرين بمخاضات كارثيّة عدة، تلاشت الدولة اللبنانيّة معها كليّا وفقدت أهم ميزة لها، وهي الإمساك بشعبها وفرض سيادتها على أراضيها وعلى سياستها الخارجيّة. وفي المخاض الأخير، فقدت القدرة على الدفاع عن ثرواتها.
إنّ الفدراليّة المُبَعثرة على أساس الجغرافيا والثقافات المتباينة والمصالح المتضاربة لن تكون مقبولة من كل الطوائف، ولن تلبّي حاجاتها، فيما لا توجد إرادة لبنانيّة قادرة على تحقيق الدولة المدنيّة في ظلّ السدود السياسية والاجتماعيّة والدينية المقامة حولها. لقد جربنا التدخل الدولي في عهد القائمقاميتين وإنشاء متصرفية جبل لبنان، وفي سايكس – بيكو وفي التسوية بين شهاب وناصر مطلع العام 1959، وفي «اتفاق القاهرة»، واتفاقي الطائف والدوحة، حتى «إعلان بعبدا»، من أجل حل خلافاتنا، فكانت كارثيّة، أو من دون نتائج.
يبقى السؤال» أين يكمن الحلّ إذاً؟ مع العلم أن لبنان لن يعود كما كان.
إذا كان الحل الوطني المطلوب في الأمد المنظور، بما فيه معالجة معطى سلاح حزب الله، إلا أن الحل المعاكس، أي الفدرالية، سيقود إلى نتائج كارثية، وبعضها:
1- قيام حرب بين الطوائف لتحسين شروط الكانتونات من نواحي الأرض والإسكان والموارد والثروات المرتقبة.
2- قيام صراع بين مكوِّنات الفدراليّة المسيحية على الزعامة والمصالح مستقبلًا.
3- إنّ الفدراليّة هي مخلوق مَيْت في ظل الثقافات اللبنانيّة الراهنة، وستؤدي إلى التقسيم.
وبعد، فكل مشروع مستند إلى أساس، أو تبرير، طائفي، ومن أي جهة أتى، ليس حلاً، بل يزيد الأزمة اللبنانية الراهنة تعقيداً، بل تفجيراً. وحده المشروع الوطني المدني الديمقراطي، العادل في توزيع الحقوق والواجبات، والذي يتضمن مساحة للخصوصيات المحلية، هو الحلّ المستقبلي الآمن.