السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

التّربية الإيجابية للأبناء

في ظلّ التقدم التكنولوجي والتّقنية الحديثة، أدّى سوء استخدامهما إلى انعدام القِيَم ،فكان يَجدر بنا في أُسرة وطب أن نتحدث عن التربية الإيجابية وأهميتها، ووسائلها فالتربية الإيجابية بمختَلف مُسمَّياتها هي كيفية تعامل الوالدين مع أبنائهم وهي وظيفة لا تحتاج لشهادة بل عمل يحتاج إلى أن تكون على معرفة بعلم النفس، وعلم الاجتماع، وفنون الطهي، فهي مسؤولية تحتاج لاكتساب الخبرة والمهارات، فكما نهتم بالعلوم الطبية للحفاظ على صحتنا بشكل يومي، علينا أن نكون على علم بعلوم التربية الإيجابية لكي نمارس دورنا كوالدين بطريقة أفضل.

اعتقادات مغلوطة وأخطاء بشأن التربية الايجابية:

وقبل أن نتطرق إلى موضوع التربية الايجابية علينا أن نتعرف على بعض الاعتقادات الخاطئة، ومنها ما يلي:

  • أن التربية الايجابية فطرية: حيث يظن كثير من الآباء أن التربية بالفطرة، ولا تحتاج لخبرة وهذا اعتقاد خاطئ، فعلى الوالدين أن يكونوا على علم بعلوم وأسس التربية الايجابية.
  • التقليد الأعمى في التربية الايجابية لأساليب موروثة حيث يستخدم كثير من الآباء الطرق التقليدية في التربية الايجابية، ولكن لكل زمان أسلوب فتختلف أساليب التربية باختلاف العصر ومن جيل لآخر.
  • التقليد الأعمى في التربية الايجابية للآخرين حيث إنّ التقليد الأعمى للغرب دون النظر لما يتفق مع دين أو ثقافة أو ما يناسب العادات والتقاليد والأعراف.
  • تحقيق الأمنيات الشخصية في الأبناء دون النظر لما يحبُّونه وما يتمنَّوْنه.
  • الآباء الصالحون دومًا ينتجون أبناء صالحين.
  • من السهل غرس القيم الأُسرية والتربوية، وهذا اعتقاد خاطئ فالقيم تحتاج لوقت طويل لغرسها، وتأسيسها ولكي يتم غرس القيم لابد من وجود قدوة ومثل أعلى.
  • إن التربية حرب بين الوالدين والأبناء، ولابد من كسب الحرب، وهذا اعتقاد خاطئ تمامًا فـالتربية الايجابية ليست معركة علينا الانتصار فيها بل هدف مُشترك نسعى سويًّا لتحقيقه.
  • معاملة جميع الأبناء بطريقة واحدة، وهذا اعتقاد خاطئ فعلى الوالدين استخدام الأسلوب الذي يناسب كلًا منهم.
  • معاملة الأطفال أنهم كبار ناضجون.
  • تلبية جميع رغبات الأبناء ممّا ينتج عنها التدليل الزائد، والأنانية، وأفراد غير متحمّلي المسؤولية.
ما هي أهمية التربية الإيجابية؟
تكمن أهمية التربية الايجابية أنها أداة لتعديل وعي المجتمعات والشعوب من حيث قيمها وثقافتها وعاداتها وأعرافها بل في جميع موروثاتها فهي عملية يتم فيها تعزيز العاطفة، والشعور، والتنشئة الجسدية السويّة عند الطفل، فالعوامل الوراثية والبيئة المحيطة من حيث الأسرة، والأصدقاء، والمجتمع، وما فيها من أفكار روحانية تؤثر في شخصية الطفل؛ لذا على الوالدين اتِّباع طرق التربية الإيجابية السلمية لإنشاء فرد صالح قادر على التعامل والخروج إلى المجتمع.
وقد بيّن نبيُّنا الكريم أهمية التربية فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (كلّكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته)، وتتمثل أهمية التربية الايجابية في الآتي:
  • ينتج عن التربية الايجابية الصالحة تنشئة فرد صالح للمجتمع، والمساعدة في إعلاء القيم والأخلاق، فكلما ارتفع مستوى التربية الايجابية الصالحة ارتفع مستوى الأخلاق وانخفض مستوى الجرائم في هذه المجتمعات.
  • ينتج عن التربية الصالحة فرد قادر على العطاء والبذل من أجل الآخرين، ويكون على قدرٍ عالٍ من الإحساس بهم.
  • تُنتج التربية الايجابية الصالحة إنسانًا قادراً على تكوين علاقات اجتماعية سليمة وسويّة.
  • تعمل التربية الايجابية السليمة على غرس القيم والمبادئ مما ينتج عنها أفراد يميّزون بين الحلال والحرام، والصواب والخطأ، والحق والباطل؛ مما يحقّق الأمن، والطمأنينة، والتقدم المجتمعي عامة، والاقتصادي خاصة.
  • تُقوّي التربية الايجابية الصحيحة العلاقات الاجتماعية بصفة عامة والعلاقات الأسرية، والعائلية بصفة خاصة.
تعرّف على التحديات التي تواجه التربية:

هناك عدد من التحديات تعوق عملية التربية الايجابية بطريقة صحيحة فلنذكر بعضاً منها:

  • قلة الخبرة سواء قلة المعلومات أو قلة الخبرة العملية تؤدي إلى إعاقة عملية التربية بشكل سليم.
  • الضغوط اليومية المستمرة التي يعاني منها الآباء، فينتج عنها عدم الاستمرارية في أساليب التربية الايجابية الصحيحة.
  • عدم الاتفاق على أسلوب محدد من قبل الوالدين ينتج عنه شخصية غير متزنة.
  • البيئة المحيطة بالطفل تعوق عملية التربية الايجابية السليمة ، من حيث وجود أصدقاء السوء، وانعدام القيم في المجتمع.
  • التكنولوجيا، والتقنيات الحديثة، واستخدامها بطريقة سلبية.
  • غرس مفاهيم خاطئة للطفل بدون قصد من قبل الوالدين.
ما هي أسس التربية الايجابية؟

هناك عدد من التوجيهات من قبل علماء النفس، والاجتماع، وعلماء التربية الايجابية، وذلك من خلال دراسات أُجريت على ألفين من الآباء، وكانت عن عشر مجموعات من المهارات الأساسية في تربية الأبناء، حيث أُثبِتَ أن هذه المهارات لها أثر بالغ في أن الأبناء يتمتعون بالصحة، والسعادة وتتلخّص المهارات الأساسية في الآتي:

  • وجود الحب الأسري والتعبير عنه، وذلك بالاحتواء داخل الأسرة، والمصاحبة بين الوالدين والأبناء، والاستماع وحُسن الاصغاء لهم، والتقبيل اليومي لهم، فعن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قبَّل الحسَنَ بنَ عليٍّ، والأقرعُ بنُ حابسٍ التَّميميُّ جالسٌ فقال الأقرعُ: إنَّ لي عشَرةً مِن الولدِ ما قبَّلْتُ منهم أحَدًا قطُّ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن لا يَرحَمْ لا يُرحَم.
  • تعليم الاعتماد عن النفس، والاستقلال الذاتي، وتحمّلهم المسؤولية بحسب السن، وتعزيز الثقة بالنفس وذلك بتجنب التدليل الزائد.
  • التحكم في التوتر أثناء الغضب حيث إن الآباء عندما يفقدون أعصابهم وقت الغضب في المحيط الذي يوجد فيه أبناؤهم فذلك مؤشر على سوء التربية مع أولادهم، وللتحكّم في الغضب هناك عدة مهارات مثل التأمل، وتمرينات التنفس التي يمكن تعلُّمها بغض النظر عن الميول الطبيعية للإنسان.
  • الحفاظ على العلاقة الزوجية والأسرية، وتجنب الخلافات حيث إن الأطفال بصفة خاصة، والأبناء بصفة عامة لا يحبون الصراعات، وبخاصة عندما يكون طرفي الصراع أكثر شخصين لهما أهمية في حياتهما فهناك دراسة أثبتت وجود علاقة بين الحفاظ على سلامة الأبناء وبين التحكم في التوتر وتجنب الخلافات الزوجية.
  • بدء تعليم الأطفال في سن مبكر استخدام أسلوب الرفق واللين ووجود القدوة، وعدم استخدام العنف وخاصة أثناء تعليمهم لأنه يؤدي إلى نتائج عكسية، كما ينبغي تعليم الأبناء في سنٍ باكرٍ الحلال والحرام والطقوس الدينية التي تُعزز التربية السوية لدى الأطفال، فمن السائد أن ما أفسد الأبناء هو الإهمال، والتفريط من جانب الوالدين فى تعليم الدين، والعقيدة الصحيحة وقد ثبت أن الطفل في مراحل السبع سنين الأوائل يخزن المعلومات التي يتلقاها من قبل الوالدين أو من المجتمع لذلك علينا الاستغلال الأمثل لذلك.
  • تخصيص وقت للعب، والمشاركة معهم، فمن أهم وسائل التربية والتعليم هو التعلَّم عن طريق اللعب حيث باللعب تنمو قدرات الأبناء، ومعارفهم.
  • تنمية المهارات المتنوعة، وملاحظة المواهب، واستغلال أوقات الفراغ في ذلك، وبخاصة مع المراهقين.
  • استخدام التكنولوجيا في التربية الايجابية بطريقة صحيحة، وذلك بالاستماع إلى البرامج الثقافية الهادفة.
  • توفير الأمن النفسي للأولاد.
  • الاهتمام بصحة الطفل، وذلك بتعويد الأبناء على العادات الصحية الجيدة.
  • الاتفاق على قواعد أساسية للتعامل بين أفراد الأسرة، ومن هذه القواعد (التحدث بأدب بين أفراد الأسرة، والتعاون في كل أمور المنزل، اهتمام كل فرد بممتلكاته الشخصية).
ما هي أنماط التربية؟

هناك عدد من أنماط التربية نذكر ما يلي:

  • النمط التسلّطي من قبل الوالدين مما ينتج عنه الطاعة المُطلقة وتكون على أساس الخوف وليس على أساس الحب والاحترام، وينتج عن هذا النمط إما فرد جبان يهدر حقه أو فرد تسلّطي طمّاع.
  • النمط التساهُلي من قبل الوالدين ويوصف بالإهمالي يعني تصرف الأبناء كما يريدون دون محاسبة أو تعقيب، وعدم تعليمهم القيم الأخلاقية مما ينتج عنه أفراد غير قادرين على تحمّل المسؤولية كما ينتج عنه تعلّم الأنانية، والجشع .
  • النمط المرجعي ويعتمد في الأساس على مبدأ المساومة.
  • النمط الديمقراطي ويعتمد هذا النمط في الأساس على المشاركة، والحوار بين الوالدين وأبنائهم مما ينتج عنه أبناء قادرين على تحمل المسؤولية ولديهم ثقة بالنفس قوية.
  • وللوصول إلى أفضل نمط، فعليك اتباع النمط الحازم حيث الجمع بين الأنماط السابقة وتكون على علم بكيفية استخدام كل نمط في وقته المناسب.
ما هي أساليب التربية الايجابية؟

تعددت أساليب التربية الايجابية وتنوعت، ومن أهمها بل في مقدمتها المحاكاة والتقليد وخاصةً في مرحلة الطفولة المبكرة لذلك يجب أن نكون على حرص عند التعامل أمام الطفل فهناك دراسات أثبتت أن العوامل الوراثية لا تؤثر في شخصية الطفل بقدر البيئة المحيطة به وفيما يلي سنعرض الأساليب الصحيحة في التربية:

  • القدوة الحسنة في التربية الايجابية لكي يتم غرس القيم يُنصح بعدم الاكثار من الكلام عن القيم بقدر ما تُطَبَّق أمامه مع مُراقبة الوالدين للأبناء.
  • الرفق واللين في المعاملة وخاصة عند تقويم السلوك، وتعليمهم القيم.
  • النقاش، والحوار والإقناع ومشاركة الأبناء في وضع القواعد الأساسية للتعامل وفي وضع الثواب والعقاب وفي تحديد السلوكيات السيئة.
  • التغافل عن بعض الأخطاء.
  • تحديد جلسة اسبوعية للاجتماع بين أفراد الأسرة يتم فيها النقاش والحوار ونقاش ما تم في الثواب والعقاب.
  • اتفاق الوالدين على أسلوب محدد للعقاب، والثواب، والثبات عليه فعدم الاتفاق على أسلوب محدد من قبل الوالدين يؤدي إلى تشتت الأبناء.
  • استخدام أسلوب التشجيع والتحفيز، حيث تشجيع السلوك الإيجابي سواءً كان تشجيعًا معنويًا أو تشجيعًا ماديًا بالهدايا ويُفضل عدم الإكثار من التشجيع المادي فالتشجيع على سلوك إيجابي يؤدي إلى استمرارية هذا السلوك وتطويره كما يفضل استخدام ما يسمى بلوحة الشرف، وهي تناسب من سن ثلاث إلى تسع سنوات فمن يلتزم بالقواعد والقوانين يتم وضع نجمة في لوحة الشرف ويثاب عليها في الجلسة الأسبوعية.
  • استخدام أسلوب الثواب بعد الفعل مباشرة.
  • استخدام أسلوب العقاب بحسب حجم السلوك ويكون بعد الفعل مباشرة مع الحذر من استخدام الأسلوب التسلّطي أو العدوانية، والعنف، والقسوة لأنه يؤثّر على الشخصية حيث يؤدي لعدم الثقة بالنفس، وكثير من العادات السلبية.
  • تجنب التدليل الزائد في التربية الايجابية حيث يؤدي إلى عدد من العادات السلبية .
  • احترام مشاعر الأبناء أمام الآخرين، وتجنّب الحديث عن عاداتهم السلبية، وأخطائهم أمام الآخرين؛ لأن النقد والسخرية يؤديان إلى ضعف الثقة بالنفس والانطواء، وأحيانًا إلى العنَد، واستمرارية السلوك السلبي.
  • احترام الوالدين لبعضهما البعض، وتجنب الخلافات.
وهناك خطوات في التربية الايجابية للتعامل مع الأخطاء وتقويم السلوكيات ومنها ما يلي:
  • تحديد السلوكيات السيئة التي يقوم بها الأبناء ويُكررونها باستمرار، وذلك بهدف تغييرها ويتم تحديد السلوكيات على حسب العمر فمثلا من ثلاث إلى ثماني سنوات تُدوّن خمسة سلوكيات، ومن تسع سنوات إلى سن السادسة عشرة سنة تُدَوّن عشرة سلوكيات.
  • وضع قواعد تُحجّم السلوكيات السيئة فمثلا مشاهدة التلفاز لوقت متأخر، يقوم الوالدان بتحديد قوانين لمشاهدة التلفاز والمكافأة بأنواعها لمن يتبع القواعد ومن الأفضل العمل على تغيير القناعة أفضل من العمل على تغيير السلوك وذلك بالحوار والمُناقشة السّوِيّة.

وادي التَّيم أرضُ القداسة

«سبحانَك الله»، (كلمة القداسة)، كم هي بليغة روحانيّاً وعميقة فكرياًّ، ومُفعمة بالطُهر والإيمان إنسانياً.
«سبحانك الله»، كم يستريح إليها الفكر والفؤاد والجنان.
«سبحانك الله»، كما ترتاح لذكرها القلوب وتطمئن إليها النفوس وتشعّ إيماناً بين النصوص عبر الزمان.

فكيف بالأحرى أنّنا نعيش في أرضها المُسمّاة باسمها وبين أفيائها وعلى هضابها وسهولها ووديانها ونشرب من ينابيعها وأنهارها. ولا شك منذ كوني فكانت مسكنُ النّسّاك الصالحين والعبّاد القانتين المؤمنين الصادقين الصابرين وغيرهم وغيرهم إلى أوان الأوان وعبر الأيام والسنين.

وهذه التسمية (أرضُ القداسة) عائدة لوجود العديد من المزارات والمعابد للأنبياء والأولياء، ولربما بعضها ما يحفظ رِفاتهم منذ عهد آدم الصفا عليه السلام، أي منذ نحو سبعة آلاف سنة ونيّف إلى ظهور الدعوة التوحيدية عام 1017م، 408 هـ وما تبعها من ظهور أولياء كان من جراء ذلك لشد عزيمة الإيمان والتمسّك بأهداب الدين بين الأهل والأخوان. وهذا ما ينطبق على سائر الملل والأديان.

وما هذا كلّه إلا لخير البشرية وخلاصها وصلاحها وتنقيتها من جور بني الإنسان لبعضهم البعض، إذ كلّما تباعدت تاريخ الرسالات السماوية كلما عاد الإنسان إلى همجيته البربرية من أخلاق سيئة وتسلط وهيمنة وفرض شريعة الغاب وسواء ذلك، وهذا ما نعيشه في عصرنا الحاضر وعسى أن نكون على أبواب التغيّير للعودة بالبشرية إلى أيام الطُهر والخلاص كما هو الحال مطلع كل دعوة سماوية أرسلها الخالق الدّيّان.

وقد نطق القرآن الكريم أنّ عدد الأنبياء والرسل الكرام خمسة وعشرين نبيّاً منهم من له مزارات في وادي التيم ومنهم من قدّسه بمروره أو إقامته بين أبنائه وهذا ترتيبهم:
-آدم – إدريس – نوح – هود – صالح – إبراهيم – لوط – اسماعيل – اسحاق – يعقوب – يوسف – شعيب – أيوب – ذو الكفل – موسى – هارون – داود – سليمان – الياس – أليسع – يونس – زكريا – يحيى – عيسى – محمّد
ومن بين هؤلاء أربعة أنبياء عرب هم: هود – صالح – شُعيب ومحمّد (١)

والأنبياء والرسل (٢) هم الذين اصطفاهم الله تعالى من بني خلقه يحملون دعواته لعباده ويبشرون من آمن بهم وعمل عملاً صالحاً يُجاز لهم الأجير والثواب في الدنيا والآخرة. وينذرون الذين كفروا بتعاليم خالقهم ودعوات أنبيائه بالعقاب وسوء المصير. وقد نطق القرآن الكريم أيضاً في هذا الصدد «وما نرسل المرسلين إلاّ مبشّرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون» {سورة الأنعام – الآية 48}.
أمّا الفرق بين النبي والرسول (٣) : فالنبوّة قد تكون مقتصرة على صاحبها ويُسمّى حينئذ نبيّاً، وقد تكون مقترنة لتقويم سلوك جماعة من الناس، وهذا التكليف رسالة ويُدعى صاحبها رسولاً وعلى هذا فكل رسول نبيٌّ وليس كل نبيّ رسول.

الأنبياء جمع نبيّ والاسم مشتق من نبأ، وفي شرح القاموس والنبي بالهمزة هو المُرسَل من الله تعالى وقد أطلعه على توحيده وأعلمه عن الغيب وأخبره أنه نبيّ ورفعه عن البشر.(٤)

وهنالك أيضاً رسُل آخرون لم ترد أسماؤهم في القرآن ولكن أشار الله إليهم بقوله مخاطباً رسوله محمّد (ص) «ورسلاً قد قصصنا عليك من قبل ورسلاً لم نقصص عليك» {سورة النساء – الآية 164}.

والأنبياء ليسوا بدرجةٍ واحدةٍ من الفضل والمكانة بل قد فضّل الله تعالى بعضهم على بعض بقوله: «ولقد فضلنا بعض النبيّين على بعضهم». أما أولياء العزم من الرسل، كما نعتهم القرآن الكريم (بأولي العزم)، والذي أمر الله رسوله محمّداً بالاقتداء بهم وفي جهادهم بقوله: «فاصبر كما صبر أولو العزم من الرّسل» وإنما سُمّوا بأولي العزم لأنَّ عزائمهم كانت قوية وابتلاءهم كان شديداً وجهادهم كان شاقاً وهم: نوح – ابراهيم – موسى – عيسى – محمّد، والإسلام الحنيف جعل الإيمان بالأنبياء من أركان العقيدة الإسلامية كما نطق القرآن الكريم «قولوا آمنّا بالله وما أُنزل إلى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربّهم لا نُفرّق بين أحدٍ ونحن له مسلمون» {سورة البقرة – الآية 131}.

قصر قديم في بلدة راشيا الوادي ويبدو من خلفه جبل حرمون مطلع العشرينات.

تكريم الوادي عند أبنائه

هذا في المناسبات الاجتماعية كالأفراح والأتراح والزيارات وسواء ذلك كانت هناك أناشيد وزغاريد شعبية تُردَّد تكريماً وتمجيداً لذُرى وادي التيم ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما زغردته نساء بلدة مشغرة للأمير فخر الدين عندما حضر إليها ليصلح بين الأميرين الأخوين الشهابيين علي وأحمد بعد أن استفحل الخلاف والتقاتل بينهما على الزعامة للوادي، وقد وفّق في مصالحتهما بعد تقسيم الوادي بينهما.

إذ أعطى الأمير علي حاصبيا ومنطقتها أي جنوب وادي التيم وأعطى الأمير أحمد راشيا ومنطقتها أي شمالي وادي التيم، فكانت تلك الزغرودة التي أنشدتها السيدة فيروز بين أعمدة بعلبك (في أوبريت فخرالدين) حتى أنّ النسوة في منطقتنا، منذ عهد قديم، كنّ يرددنها لأبنائهن أمام أسرتهّن قصد المنامة.
« يا قمر مشغره
يا بدر وادي التيم
يا جبهة العالـــي
ومزنّرة بالغيـــــم
انشالله انشالله القمر يبقى قمر
وما يصيب عزّك ضَيم
وكذلك حقاً أنه «مَلفا الغيم» إذ تتجمع الغيوم المليئة بقطرات الندى صيفاً وبالأمطار شتاء والآتية جميعها من البحر كتاجٍ في أعلى قمة جبل الشيخ لتتحوّل فيما بعد خيراً وبركة فوق هضابه وشعابه.

ومشكى الضيم، إذ كان وما زال حصناً منيعاً للمضطَهدين والبائسين ينضوون بين كهوفه ووديانه وحتى مغاور قممه اتّقاءً لشر الحكام المتسلّطين والظالمين، وهرباً من جيوشهم الغازية والتي تستبيح شتّى المحرّمات وخاصة الِعِرض، وما له من كرامة وهذا ما حدث مع أهلنا أيام الغازي ابراهيم باشا المصري والأحداث والمعارك التي نشبت بينهما في معارك وادي التيم كمعركة بكّا والبيرة وحاصبيا وسواهما، ممّا حمل أهلنا في راشيا ومنطقتها إلى الانتقال إلى بلدة شبعا الحصينة والنزول عند أهلها. وهذا ليس مستبعداً أن يصبح مقراً أو ممراً للعديد من الأنبياء والأولياء وهم في تنقّلاتهم بين بلاد الشام وإلى بلاد كنعان، مهد التاريخ ومسرحاً للمعارك والقتال عبر الزمان.

حدود وادي التّيم الجغرافية كما حدّدها الأقدمون

أثبت العديد من المؤرخين ومنهم المؤرخ الشهير كمال الصليبي رئيس دائرة التاريخ في الجامعة الأميركية عن وادي التيم في كتابه «لبنان بمنازل كثيرة»، أن قبيلة بني تيم، والتي هاجرت إليه من شبه الجزيرة العربية في القرن الخامس الميلادي، قد استوطنت السفوح الغربية لجبل الشيخ ومن هنا كانت تسميته عملاً بالمبدأ الشائع «لا تُعرَف الأرض إلاّ بقاطنيها».

وحيث إنّ بني تيم من أجداد الموحدين الحاليين، لذا يمكننا القول ونقرّه إنّ القرى التي يقطنها الموحدون الحاليون في هذا الوادي هم النواة الأولى لمن سكن الوادي وعُرف فيما بعد باسمهم وإن تغيّرت معالم بعض القرى ديموغرافياً بسبب الحروب والفتن أو إنها بقيت كما هي.

إذاً يبتدئ الوادي المذكور من أقصى قرية توحيدية شمالاً وهي قرية حَلوى والتي يمر في أرضها وادي القرن أو وادي الحرير وتسلكه حالياً طريق دمشق بيروت الدولية. والدليل الثّابت لذلك أن المكان الذي يتواجد به مقام النبي هابيل عليه السلام والذي يقع على تلّة تشرف شمالاً على الطريق المذكورة وهي مُلك أصحاب بلدة حلوى، وأن صاحبها المرحوم الشيخ نسيب الداود شخصياً قد تبرّع من أرضه بمساحة 72 دونماً للمقام الشريف وعند أسفل المنخفض بجانب الطريق يقع مقام شقيقه القاتل قايين.

ثم يتدرج الوادي المذكور من هنالك جنوباً وملاصقاً لجبل الشيخ في القسم الغربي منه وهو جزء لا يتجزأ من وادي التيم لينتهي جنوباً عند القرى والمزارع الملاصقة لهضبة الجولان المحتلة والتي تُعرف بقرى العرقوب حالياً.

بالإضافة إلى ما يشير إليه الكاتب سعيد نفاع في كتابه (العرب – الدروز) (٥) ابن بلدة المطلّة اللبنانية التيمية والتي باعها صاحبها جبّور رزق الله من صيدا إلى البارون روتشيلد اليهودي الفرنسي عام 1875، كانت تشمل أيضاً قرى شمالي فلسطين الدرزية حتى بلاد الجليل. ومن القرى التي بيعت كالجاعونه وملبس وسواهما ما يدل على أن الوادي كان يتصل بالجليل ديمغرافياً ومذهبياً .

أمّا غرباً فتحدّه قمم وهضاب السلسلة الوسطى بين الوادي ومجري نهر الليطاني، وكما يعرّفها قاطنوها، إذ يبتدئ من بلدة مجدل عنجر شمالاً ثم يتدرّج جنوباً إلى بلدة السلطان يعقوب ثم البيرة والرّفيد والمحيدثة وكفر مشكي وصولاً إلى مرجعيون ثم المطلة المحتلّة والقرى التي تحيط بها وجميع هذه القرى في هذه البقعة الجغرافية من الأرض، كان سكانُها من طائفة الموحدين أو مختلطة في بعضها، إلاّ أنه حدثت بعض التّغيّرات الديموغرافية بين مقيميها، كما ذكرنا سابقا، من خلال الحروب والفتن وليصحّ القول عند العامة أنّ حدود وادي التيم من وادي الحرير شمالاً حتى جورة الذهب جنوباً أي الحولة المحتلة حالياً.

وهذه أسماء القرى التيمية وهي على الوجه التالي من الشمال إلى الجنوب:
حَلوى – دير العشائر – ينطا – بكا – كفر قوق – عيتا الفخار – مجدل عنجر – المنارة – الصويرة – بيادر العدس – الفالوج – السلطان يعقوب – عزّة – مدوخة – كفر دنيس – خربة روحا – عين عرب – البيرة – الرفيد – المحيدثة – ظهر الأحمر – راشيا – الفاقعة (دارس) – بكّيفا – بيت لهيا – تنورة – يذما (دارس) – عين حرشا – عين عطا – كوكبا أبو عرب – كفر مشكي – مرج الزهور – القنعبة – حوش القنعبة – ميراميس – العقبة – مزرعة جعفر – السفينة – الكفير – ميمس – الخلوات – عين ثنته – عين قنيا – شويّا – حاصبيا -الفرديس – عين جرفا – أبو قمحة – كوكبا – برغز – إبل السقي – بلاط – دبين – مرجعيون – القليعة – برج الملوك – دير ميماس – كفر كفلا – المطلة – الخيام (الخيم سابقاً) – سردة – العمرة – عين عرب – الماري – المجيدية – وادي خنسا – حلتا – مزارع شانوح وبسطرا – والسلامية- كفر شوبا – كفر حمام – شبعا – الهبارية والبالغ عددها نحو 75 قرية. (٦)


المراجع:

1- سميح عاطف الزين، قصص الأنبياء في القرآن، ص 5.
2- عاطف الزين، قصص الأنبياء في الكريم، مرجع سابق، ص 5.
3- عاطف الزين، قصص الأنبياء في القرآن الكريم، م.س.، ص 5.
4- عفيف طباره، مع الأنبياء في القرآن الكريم، ص 11.
5- سعيد نفاع، العرب الدروز، منشورات الدار التقدمية، ص 42 – 42.
6- غالب سليقه، كتاب وادي التيم أرض القداسة ( قيد الطبع).

مشاريع الطوائف ومستقبل لبنان

منذ إنشاء دولة لبنان الكبير وحتى تاريخه، لم يعمل اللبنانيون على تأسيس دولة ووطن، فقامت الدولة الناشئة على أساس تجميع طوائف بهويّات وخصوصيّات وتجارب تاريخيّة متنافرة وهواجس ديموغرافيّة وتسابق على الأفضليّة في الحكم والمغانم. ولم يتمَ العمل كذلك على تطوير الدستور «والميثاق الوطني» لبناء دولة حديثة، فدخل لبنان بين العامين 1958 و1990 في حربين داخليتين وأزْمات، فيما بقيت بنود «اتفاق الطائف» المتعلقة بإلغاء الطائفيّةِ-السياسيّة وخطواتها، حتى الهويّة العروبية، من دون تطبيق، وطبقة سياسية حاكمة تعيد انتاج ذاتها انتخابيًا عبر جمهورها الطائفي/المذهبي. كلّ هذا فتح أبواب لبنان على مشاريع للطوائف، أوصلت البلاد اليوم إلى الانهيار، تزامنًا مع الفساد والمحاصصة والاستحواذ على المناصب والثروات والمال.

سأقارب الموضوع بردود الفعلِ لدى الطائفتين الرئيسيّتن الإسلاميّة والمسيحيّة على إنشاء لبنان الكبير بناء على الخلاف على الهويّة حتى تاريخه، ثم أنتقل بسرعة إلى مشاريع الطوائف الخاصّة، وبعدها المتعلقة بالفدراليّة والدولة المدنيّة.

1- مخاض الهويّة اللبنانيّة

من المعروف أنّ المسلمين بغالبيتهم رفضوا لبنان الكبير لاعتبارات تتعلَّق بهويّتهم العربيّة-الإسلاميّة. فبين العامين 1909 و1920 كان عليهم الخروج من العثمنة، إلى العروبة في مؤتمر باريس في العام 1913 (دعوات الكواكبي لتعريب الخلافة الإسلاميّة، وابراهيم اليازجي وعازوري، والحصري، وزريق للقومية العربية)، وأن تُفرض عليهم الهويّة اللبنانيّة في لبنان الكبير. فكيف يمكن لإنسانٍ أن يغيّر هويّته ثلاث مرات في حدود 11 سنة. لهذا، بقيت العروبة مشروعًا وحدويًا في وعي المسلمين….

أما المسيحيّون، وبخاصّةٍ الموارنة منهم، فانحصر مشروعهم منذ عهد المتصرفيّة في إقامة كيانٍ لهم مستقل عن محيطهم العربي-الإسلامي. لذا، خرجوا من «لبنان الصغير» إلى لبنان الكبير بهويّة القومية اللبنانيّة مبتعدين عن عروبةٍ ثقافيّة كانوا هم روادها، فيما طالبت أقلية منهم بالعودة إلى لبنان الصغير خَشية أن «تمتصهم» الديموغرافيا الإسلاميّة، هويةً وسياسةً.

في المقابل، اندمج المسلمون فرادى، ثم تدريجيًا، في لبنان الكبير منذ العام 1920، حاملين معهم هويّتهم العروبية التي فضلوها على لبنانيتهم، وشكَّلَ ترشيح الشيخ محمَّد الجسر نفسه لرئاسة الجمهوريّة في العام 1932 ومؤتمر الساحل الثالث في العام 1936 علامتين فارقتين على اندماجهم في لبنان، إلى أنْ تُوِّج ذلك في «الميثاق الوطني» والصيغة.

في الميثاق وُضعت تسوية للتعايش الطوائفي على أساس الديمقراطيّة التوافقية وهويّة ملتبسة وحياد لبنان عن أزمات المنطقة. فاعتبر الموارنة أنّ لبنان أضحى أزليًّا، هويَّةً وكيانًا، وغير قابلٍ للتغيير أو التعديل، فيما تمسّك المسلمون بالعروبة مجسدين ذلك بالمطالبة بالوحدة مع سورية، والانجذاب إلى الوحدة المصريّة-السوريّة. فتسبّب ذلك في تخويفٍ متبادَلٍ بين الفريقين: المسيحيّون من عروبة تزحف عليهم برداء الإسلام (الخلط بين العروبة والإسلام)، ومسلمون خائفون على عروبتهم من إلحاق دولتهم بفلك الأحلاف، بعد دخول لبنان في «مبدأ ايزنهاور»، من دون أنْ يكون مهدّدًا بالشيوعيّة.

منذ «اتفاق القاهرة» في العام 1969 وحتى اتفاق الطائف في العام 1989، فُتحت أبواب لبنان على الخارج، وعلى الجيوسياسيتين الإسرائيليّة والسوريّة، من خلال:
أ‌- استقواء المسلمين بالمقاومة الفلسطينية مع تحوّل الديموغرافيا إلى مصلحتهم، ليس للانقلاب على لبنان الموحّد، بل لنزع مكاسبٍ من المارونيّة السياسيّة، وفي مقَدّمها رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش (تصريح كرامي بترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية بناء على تحول الديموغرافيا لمصلحة المسلمين، وكذلك النائب عدنان الحكيم لتأكيد أن الرئاسة ليست حكرًا على الموارنة).
ب‌- مشروع اليسار اللبناني لعلمنة النظام اللبناني، بحيث لا يبقى للموارنة من أعمدة الحكم الثلاثة سوى الاقتصاد المُمسكين به، أي خسارة رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش.
ج‌- تصاعد مخاوف الموارنة، بعد انهيار التوزان السابق بفعل المقاومة الفلسطينية، وتعطّل صناعة القرار. فتكتّلوا في «الحلّف الثلاثي»، وطرح بعضُهم الفدراليّة.

باندلاع حرب لبنان نعى المسلمون، سنّة وشيعة، الميثاق وطالبوا بالعلمنة السياسيّة وبديمقراطيّة الأكثريّة، على أساس لبنان دائرةً انتخابية واحدة، فيما انحصر مشروع المسلمين الدروز في إقامة دولة عادلة، ومجلس شيوخ يمثّل الطوائف المشكّلة للمجتمع اللبناني، برئاستهم، مع الحفاظ على حقوقهم كأقليّة عددية كان لها دور بارز في تأسيس الكيان اللبناني الحديث. في المقابل، جاء رد الموارنة بالمطالبة بتطبيق العلمنة في الأحوال الشخصيّة لقطع الطريق على المطلب الإسلامي بالعلمنة السياسيّة، وتصاعدت دعواتهم مطلع الحرب إلى العودة إلى «لبنان الصغير» عبر الفدرلة أو التقسيم، أي كما جاء في كراسات «القضية اللبنانيّة» الصادرة عن لجنة الأبحاث في الكسليك. هذا المشروع خبا بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 بتغيّر التوازنات من جديد، فعاد الموارنة إلى مشروع حكم لبنان كلَه.

فيما حَسم «اتفاق الطائف» عروبة لبنان وانتمائه العربي، ظهر منذ شباط 1985 مشروع حزب الله لإقامة نظامٍ إسلامي في لبنان وإلحاقه بولاية الفقيه وبالأمة الإسلاميّة بقيادة إيران. وظهر بعد الطائف سُنيّة سياسية جسّدها مشروع الحريري بإعادة الأعمار بسلطة رأس المال وبتبعية كاملة للسعودية، و»شيعيّة سياسيّة» تحمل مشروع «ديمقراطيّة الأكثرية» أو «المثالثة»، وكلاهما تُسقطان «المناصفة» التي أقرّها «اتفاق الطائف»، وبالتالي الدعوة إلى هيئة تأسيسيّة لإقامة نظام جديد يحقّق لها السيطرة على لبنان، حتى أن السنّة طالبوا مطلع الحرب بديمقراطيّة الأكثرية (تصريح حسين قوَّتلي المدير العام لدار الافتاء). صحيح أنَّ الحزب قام بدورٍ رئيسي في تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وحصل على تأييد الشعب اللبناني، إلا أن سياسة الإمساك بالدولة ومؤسّساتها والقرار فيها، خلق أسئلة وإشكاليات عدّة، كما فتح الباب من جديد على مخاوف إعادة لبنان إلى دائرة مشاريع الطوائف الكبرى.

لقد اعتقد كثيرون أنّ «ثورة الأرز» هي مشروع وطنيً جامع لإقامة الدولة القويّة، فانضمت، منذ ذلك الحين، غالبية إسلاميّة إلى هوية لبنانيّة تحت شعار «لبنان أوَّلًا»، لكن الثورة انحصرت في إخراج الجيش السوري من لبنان، ولم تصل إلى مشروع وطني تغييري، فيما تحول تكتل 14 آذار إلى «زواج الإكراه» لجمعه قوى متناقضة لم تَرْقَ إلى مشروع إقامة دولة قوية، ثم تآكلت بالاغتيالات.

هكذا، عادت الطوائف اللبنانيّة الكبرى تطرح مشاريع سياسية وفق مصالحها لتغيير نظام لبنان أو الانقلاب عليه، في كلّ مرّة كانت تتعرّض البلاد فيها لأزْمات، أو تشعر فيه طائفة بالضعف، أو تستقوي على غيرها من الطوائف الأخرى.

وتتضارب اليوم ثلاثة مشاريعَ مترافقة مع الانهيار السياسي والاقتصادي والمالي والنقدي والاجتماعي:
أ‌- الفدراليّة للموارنة، كردّ فعل على انهيار الدولة وقيام دولة إلى جانبها.
ب‌- مشروع «المثالثة» للشيعيّة-السياسيّة التي تضرب المناصفة التي أقرّها الطائف.
ج- مشروع الدولة المدنيّة الذي يلقى رفضًا حادًا من قبل معظم رجال الدين المسلمين والمسيحيين.

2- المخاوف المسيحية من البقاء في لبنان الكبير

أشير بداية إلى لبنانيين كثر يتشاركون مع المسيحيين في معظم مخاوفهم، من دون أن يكون لديهم مشروع للفدرالية.

إنّ الخَشية على الإنجازات والمستقبل والمصير لدى المسيحيين تأتي في صدارة مخاوفهم، بأن يتم القضاء نهائيًا على إسهاماتهم وأدوارهم في لبنان ويشعر المسيحيون أنهم فقدوا الدولة التي أسّسوها أو تأسست من أجلهم، ولم تعد تؤدّي مهامها سيادة ومؤسسات ودستورًا وجيشًا وقضاء، وما وصلت فيه الأحوال من محاصصة الوزارات والمناصب، ووجود «سلاح غير شرعي»، فضلًا عن «الحدود السائبة»، وتحليق الدولار وتدهور الأوضاع المعيشية للأسباب المعروفة، وانهيار الطبقة الوسطى من 70% إلى 40%، وازدياد الفقراء من 25% إلى 55%، وفق آخر الإحصاءات.
كذلك يقلَقُ المسيحيون من عدم تطبيق اللامركزيّة الإدارية، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهوريّة بموجب اتفاق الطائف، وتحول «المناصفة» إلى وهمية، وهناك تصاريح عديدة للبطريرك صفير حول التلاعب بالانتخابات منذ العام 1992، عبر انتخاب المرشحين المسيحيين من قبل أكثرية إسلاميّة.

بعد العام 2005 وعودة الجنرال عون من المنفى، ظهرت هناك مطالبات شعبية مارونية لتفعيل المارونية-السياسية، لاستعادة موقعها على الساحة الداخلية. ولأسباب لن ندخل فيها، نشأ صراع مُدمّر بين المارونيّة السياسيّة الجديدة الممثلة بالجنرال عون «والمارونية السياسيّة» القديمة، القوات والكتائب والمردة، تهميش مع محاولات تهميش مرجعية بكركي وتحويل كلمتها إلى غير مسموعة. فأدّى هذا الشرخ إلى تآكل الطائفة المارونية من الداخل، تزامنًا مع ضعف سياسي متزايد في دور الطائفة السنية، ومطالبة الشيعيّة-السياسيّة بـ «المثالثة» التي تقلّص دور الطوائف وتترجم اليوم في الاحتفاظ بوزارة الماليّة، فضلًا عن محاولات قضم ما أمكن من مؤسسات الدولة والقطاع العام، مترافقاً مع ضرب استقلالية الصحافة ووسائل الإعلام، وإسكات الأصوات المعارضة بوسائل عدة، أبرزها الإحالات المتكررة للأصوات المعارضة على مرجعيات قضائية وعسكرية ليست مخوّلة النظر في المخالفات الإعلامية.

تزامنًا، وجد الكثير من المسيحيين أنّ الإرهاب الذي مارسته منظمات عسكرية تزعم أنها «إسلامية» وضرب لبنان منذ نهاية القرن الماضي، وتأثّره بالأصوليّة الإسلاميّة في الإقليم، وتوسيع تركيا نفوذها هناك، بعث لدى المرجعيات المسيحية خوفاً حقيقياً على هوية لبنان التي تكرّست في الميثاق الوطني لسنة 1943.

وباندلاع الثورة السورية، وانخراط فصائل لبانية، أفراداً وجماعات فيها، يضاف إليها تداعيات اللجوء السوري للبنان، تأججت مخاوف الموارنة من جديد، فضلًا عن فشل «إعلان بعبدا» في حزيران 2012 في وضع حدّ لذلك، ما فتح الباب واسعاً لتكهنات بوجود مشاريع سياسية غير معلنة يجري تحضيرها للهيمنة على الكيان اللبناني، أو تقسيمه الفعلي تحت مسميات غير معبّرة عن حقيقة مضمونها. وكأنت أبرز تداعيات التحول الجديد الإساءة إلى العلاقات بين اللبنانيين وبين لبنان والعالمين العربي والخارجي، وبداية علامات التأزم المالي والاقتصادي والاجتماعي..
صحيح أنّ الانتفاضة اللبنانيّة عزّزت الأمل لدى الكثير من اللبنانيين بحصول التغيير المنشود، وإعادة توحيد اللبنانيين تحت عناوين وطنية واجتماعية بعيداً عن الاصطفاف الطائفي والمذهبي، إلّا أنّ الأمور لم تسر في الاتجاه الذي يخدم سفينة الوحدة الوطنية المدنية غير الطائفية. إذ سرعان ما تسرّب الانقسام إلى جمهور الانتفاضة نفسه، وفقط خطوط طائفية منفّرة، وكانت ممارسات لبعض من زعم أنه من جمهور الانتفاض (من عنف زائد مجاني ومشبوه الغايات، إلى تدمير المؤسسات، واستهداف الأنشطة الاقتصادية وغيرها) ما تسبب بإحباط شديد. ثم تلاشت الانتفاضة مع انتشار فيروس كورونا. ثم جاء تفجير مرفأ بيروت مطلع آب 2020، وتعطيل التحقيق العدلي فيه، وما حصل في عين الرمّانة في 14 تشرين الأول 2021، وعودة حوادث الاغتيالات المشبوهة، والهجرة الدافقة نحو الخارج ليخلق انهياراً سياسياً انضاف إلى الانهيار المالي. وأضيف صوت بكركي المطالب بالحياد إلى الأسباب الأخرى التي انقسم اللبنانيون فيها؛ وفيما كان الغاية كما أعلنها غبطة البطريرك النأي بلبنان عن الصراعات الإقليمية، جاءت المطالبة بإعلان حياد لبنان وعرض أوضاعه على مؤتمر دولي، لتشعر فريق من اللبنانيين (وبخاصة الطرف الشيعي) أنه المستهدف بذلك، وليغدو مطلب الحياد كرة نار جديدة يتقاذفها الفرقاء السياسيون.

لقد شعر موارنة ولبنانيون (عن حق أو من غير حق) أن تعطيل استحقاقين رئاسيّين على يد الثنائي الشيعي والتيار الوطني الحرّ بين العامين 2007 و2016، ومرّة ثالثة منذ خريف العام 2022، هو استهداف للوطن. ولا ننسى في هذه العُجالة تعطيل تشكيل الحكومات اللبنانيّة، فيما بقي صوتا البطريرك الراعي والمطران عَودة غير مسموعين، من شغورٍ مسيحي في المؤسّسات القضائيّة والماليّة والعسكريّة والدبلوماسيّة، واعتباره تهديدًا للهوية. ولم يكن تصاعد المطالبة بالفدرالية لدى أطراف مارونية عدة بعيداً عن مناخ الفوضى الذي ساد الحياة السياسية اللبنانية في الفترة الأخيرة، وخروج ملامح مشاريع سياسية أشتّم منها أنها تتضمن تغييراً في هوية لبنان التقليدية.

3- هل الفدراليّة مشروع لمستقبل لبنان أم للتقسيم؟

نشير بداية إلى دول كثيرة نجحت في اعتمادها، لأن مساحاتها الجغرافية الواسعة وتموضع سكانها سمحت بتوزيع السلطات بين المركزي والمحلّي، فضلا عن أن معظمها لديه قسط من الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، فيما سينتقل لبنان الطائفي الموحّد بهشاشته وتداخل طوائفه ومساحته الجغرافية الصغيرة إلى الفدراليّة، وهو يحمل معه أحقادًا تاريخية طائفيّة ومذهبيّة، وتبعيات للخارج، والخلافات على السياسيتين الدفاعيّة والخارجيّة، ما يعزّز الشكوك والهواجس حول مستقبل الفدراليّة وثباتها ويعيق النجاحِ. فهل تربينا على احترام الديمقراطيّة في لبنان الموحّد كي نطبقها في لبنان الفدرالي؟

عندما جرت الانتخابات في العامين 2005 و2009، أفرزت أكثرية مقابل أقليّة معارضة؛ لكن الأكثرية لم تحكم لتسلط قوى الممانعة اللبنانيّة على الحياة السياسية. وبموجب «اتفاق الدوحة» في أيار 2008، حصلت المعارضة على «الثلث الضامن»، وأخذ الحكم في حينه طابع الكيدية، من دون اعتبار لمصالح الوطن.

إنَّ توقُّع فشل الفدراليّة ومخاطرها على التعايش يعود، برأينا، إلى صغر حجم لبنان وقلّة موارده الطبيعية، وتضارب الجغرافيا مع الثقافات في الأقاليم، وبقاء الطائفيّة المجتمعية تمنع التعايش والتلاقي، ووجود ثقافة الاستقواء على الآخر، قد تؤدّي كلّها إلى صراعاتٍ وتطهيرٍ على أساس الدين، خاصّة أنّ تغيّر الديمغرافيا بفعل التكاثر الاسكّاني للأقليّات وغياب الديمقراطيّة والاعتراف بالآخر وبحقوقه، سوف يُفسد «العيش المشترك»، عبر مطالباتها بحقوق إضافية تضنُّ عليها بها الأكثريّة.

وفي الدولة الفدراليّة، يتشكل المجلس الرئاسي المركزي من رؤساء الأقاليم المنتخَبين، ما يضع علامات استفهام كبيرة حول تحوّلهم إلى وطنيين وعَلمانيين يعتمدون ثقافة التعايش الفدرالي، علمًا أن قرارات المحكمة الدستوريّة في الدول الفدراليّة نافذة. فهل ستكون كذلكَ بالفعل في لبنان الفدرالي، أم على طراز لبنان الموحّد؟ والسؤال المُلحّ: كيف سيتمكن الجيش الفدرالي المكوّن من أبناء الطوائف من حسم الأمور إذا حدثت خلافات بين الأقاليم؟ ولن تكون هناك ضمانات بوقوف الفدراليّات إلى جانب بعضها البعض في حال تعرّضها لخطر خارجي.

ومن المعروف في الدول الفدراليّة أن السياستين الدفاعيّة والخارجيّة من صلاحيات الحكومة المركزيّة، وهما مَوقِعا الخلاف في لبنان الموحّد. فكيف ستتوافق مكونات الفدراليّة على السياسة الدفاعيّة وهناك سلاح غير شرعي على الأرض، وهل ستقطع الطوائف علاقاتها بالخارج؟ وفي لبنان الموحّد لا يُحترم الدستور، وقد خُرق مرارًا منذ الطائف، واليوم في الاستحقاق الرئاسي الأخير وطريقة التصويت والورقة البيضاء). ولا ضمان لعدم خرقه في الفدراليّة (قوانين الانتخابات والجنسية، والمالية والنقد).

إنّ نظام التملّك والتنقل والإقامة والعمل في الفدراليّات هو حقّ دستوري. فهل سيقبل به المسيحيّون الخائفون من التملك وعمل الأجانب وإقامتهم في مناطقهم (بيان المؤتمر الدائم للفدراليّة)؟ وهل ستكون بيروتَ الكبرى فدراليّة إسلاميّة-أرثوذكسيّة أم عاصمة مركزيّة؟ وكيف سيكون عليه موقف حزب الله من مرفئها ومطارها خارج نطاق سيطرته؟.

يبقى سؤالان: كيف ستؤسَّس فدراليّة وطوائف البلاد مبعثرة على مساحة لبنان، وهل الحلّ بريط أبناء أي طائفة بممرات؟ إنّ صعوبات عدة جغرافية، وجيو سياسية، واجتماعية، وعسكرية، تقف حائلاً قوياً دون إمكانية تحول الفدرالية إلى كيان سياسي جديد في لبنان؛ كما أن المسوغٍ الرئيس للفدراليّة عند الموارنة هو سلاح حزب الله أمرٌ خاضع دوماً للنقاش والمقاربة كما جرى غير مرة

4- هل الدولة المدنيّة هي الحلّ؟

إذا كانت الفدراليّة ذات أُفق مسدودٍ، وقد تؤدّي إلى انهيارات على الأصعدة كافة، فهل يكمن الحلّ إذًا في الدولة المدنيّة (العلمانيّة)؟.

يُعلن بعض المسؤولين تكاذُبًا عن سعيهم إلى إقامة دولة مدنيّة. في الدولة المدنيّة لا يوجد زعماء طوائف وينبثق مجتمع مدني يراقب الحكومة، ويتقارب أبناء الوطن الواحد ويتمتّعون بالحقوق والواجبات نفسها، وينتفعون جميعًا بالثروات، ولا يشكّل الواحد منهم تهديدًا لـ «لآخر»، سياسيًّا أم اجتماعيًّا أم ثقافيًّا.
كل هذا يؤدي إلى انبثاق وحدة مجتمعيّة تؤسّس لمواطنيّةٍ،

ولعدم توافر إحصاءاتٍ عن مدى تقبّل اللبنانيين الدولة المدنيّة، سأقارب الموضوع من خلال الزواج المدني والزواج المدني الاختياري، إشارة إلى أن الزواج الاختياري لم يُطبَّق في العام 1998 بسبب المعارضة الإسلاميّة الواسعة، رغم موافقة قوى سياسية محسوبة على الجانب الإسلامي وأبرزها الحزب التقدمي الاشتراكي. إنّ حظوظ قبول المسيحيّين بزواج مدني هي أكبر من تلك لدى المسلمين، مع أنّ البطريرك الراعي رأى أنّ الزواج المدني هو خطيئة. فكيف ستؤسَّس الدولة المدنيّة إذاً، فيما الزواج بأيدي رجال الدين؟ لقد اشترطت البطريركيّة المارونيّة القبول بالزواج المدني بعقد القِران في الكنيسة أيضًا. لكن المسألة ليست هنا، بل في مفاعيل الزواج المتأتية (طلاق، ميراث، حضانة تبنٍّ الخ..). إنّ المسلمين يرفضون الزواج المدني الاختياري؛ فكيف سيقبلون بهذا الطراز من الدولة العلمانيّة التي تفصل الدين عن الدولة، ولا تُدخل التشريعات السماوية في قوانينها؟. في شباط 2021 اعتبرت دار الفتوى أنّ الزواج المدني يخالف أحكامّ المادّة التاسعة من الدستور اللبناني الذي أعطاها تلك الصلاحيات، فيما أنَّ قانونًا موحَّدًا للأحوال الشخصية، مرفوض من المسلمين والمسيحيين.

نحن نعترف بصعوبة إسقاط الدولة المدنيّة على مجتمع طائفيّ قبلَ تربيته على المواطنية والديمقراطيّة والاعتراف بـ «الآخر» وحقوقه والعيش معه. لكن أليس من الأفضل اختبار هذه التجربة، كما فعلت تركيا وتونس اللتان فصلتا الدين عن الأحوال الشخصية، بدلًا من الذهابِ إلى الفدراليّة أو نظام إسلاميّ أو هيمنة إسلاميّة؟ وإذا فشلت الدولة المدنيّة، عندها يبحث اللبنانيون عن حلّ آخر، قد لا يكون متوافرًا.

قد تكون أو لا تكون الدولة الفدراليّة هي الحلّ. لكن الوصول إلى الجواب يجب أن يسبقه حوار وطني للحفاظ على لبنان موحَّدًا، وعلى إرادة العيش المشترك تحت مظلّة نظام يجمع ولا يفرّق، بعد الاستغناء عن الطائفيّة-السياسيّة، ووضع قانون يتيح للبنانيّين الانتخاب والإتيان بممثّليهم الفعليّين إلى مجلس النوّاب، في ظل حكومة قويّة وفاعلة ونزيهة، وإنشاء مجلس شيوخ طائفي انتقالي مرحلي، والعمل تدريجيًا للانتقال إلى مجلس نيابيّ غير طائفيّ. كذلك، الاتفاق على السياستين الدفاعيّة والخارجيّة، واستقلال القضاء عن التدخلات السياسية، واعتماد اللامركزيّة الإداريّة، وتحرير الوظيفة من القيد الطائفي. وتتطلّب الدولة المدنيّة علمنة الأحزاب، وأن تكون مختلطة ولديها برامج تعزّز الوطنية، فضلًا عن الإنماء المتوازن.

وعلى الصعيد الاجتماعي التربوي، وجوب وضع الأحوال الشخصيّة في يد الدولة، وتعزيز الزواج المدني المختلط؛ مع عقد الزيجات لدى المؤسّسات الدِّينيّة كخطوة ثانية تليه لمن يشاء، وهذ هي المشكلة مع المؤسّسات الدينية. كذلك، إعادة بناء الوحدة الوطنية بمفاهيم تربويّة واجتماعيّة تعزّز المواطنيّة والتعدّديّة الثقافيّة، واستبدال التعليم الديني بتدريس القيم المشتركة للأديان (فشل الحريري الأب في جعل التعليم الديني خارج المدارس). وأخيرًا جعل الدولة اللبنانيّة وحدها مرجعيّة السلاح والقرار السياسيّ، وتعزيز الجيش الوطني.

5- استشراف المستقبل

لقد مر لبنان في العقدين الأخيرين بمخاضات كارثيّة عدة، تلاشت الدولة اللبنانيّة معها كليّا وفقدت أهم ميزة لها، وهي الإمساك بشعبها وفرض سيادتها على أراضيها وعلى سياستها الخارجيّة. وفي المخاض الأخير، فقدت القدرة على الدفاع عن ثرواتها.

إنّ الفدراليّة المُبَعثرة على أساس الجغرافيا والثقافات المتباينة والمصالح المتضاربة لن تكون مقبولة من كل الطوائف، ولن تلبّي حاجاتها، فيما لا توجد إرادة لبنانيّة قادرة على تحقيق الدولة المدنيّة في ظلّ السدود السياسية والاجتماعيّة والدينية المقامة حولها. لقد جربنا التدخل الدولي في عهد القائمقاميتين وإنشاء متصرفية جبل لبنان، وفي سايكس – بيكو وفي التسوية بين شهاب وناصر مطلع العام 1959، وفي «اتفاق القاهرة»، واتفاقي الطائف والدوحة، حتى «إعلان بعبدا»، من أجل حل خلافاتنا، فكانت كارثيّة، أو من دون نتائج.

يبقى السؤال» أين يكمن الحلّ إذاً؟ مع العلم أن لبنان لن يعود كما كان.
إذا كان الحل الوطني المطلوب في الأمد المنظور، بما فيه معالجة معطى سلاح حزب الله، إلا أن الحل المعاكس، أي الفدرالية، سيقود إلى نتائج كارثية، وبعضها:
1- قيام حرب بين الطوائف لتحسين شروط الكانتونات من نواحي الأرض والإسكان والموارد والثروات المرتقبة.
2- قيام صراع بين مكوِّنات الفدراليّة المسيحية على الزعامة والمصالح مستقبلًا.
3- إنّ الفدراليّة هي مخلوق مَيْت في ظل الثقافات اللبنانيّة الراهنة، وستؤدي إلى التقسيم.

وبعد، فكل مشروع مستند إلى أساس، أو تبرير، طائفي، ومن أي جهة أتى، ليس حلاً، بل يزيد الأزمة اللبنانية الراهنة تعقيداً، بل تفجيراً. وحده المشروع الوطني المدني الديمقراطي، العادل في توزيع الحقوق والواجبات، والذي يتضمن مساحة للخصوصيات المحلية، هو الحلّ المستقبلي الآمن.

الفيزياء الكونية

تَهيّبتُ كثيراً من ضخامة المهمّة التي تهدف إلى نقد النسبية العامة في عالم الفيزياء، ومن وجهة نظر الفيزياء الكمومية التي غلبت على فروع الفيزياء الحديثة ورفضها عدد كبير من أهل الفلسفة المعاصرة.

نجني اليوم ثمار مرحلة متقدّمة من البحث العلمي المتواصل الهادف إلى تحصيل المعارف وتطبيقها وإغناء التراث العلمي والفلسفي الذي يقود إلى فَهم أعمق للكون، الكتاب الضخم المفتوح والمكتوب بلغة لا يزال الإنسان المجتهد والمُنصف يسعى لفك حروفها وطلاسمها على مر العصور محاولا نمذجة صيغ للقوانين الطبيعية رياضياً طوراً، ونظرياتٍ طوراً آخر قابلة للإثبات التجريبي غالباً وذلك وصولاً للحقائق المطلقة وتفسيراتها الواضحة، وبلورة المفاهيم على ضوء العقل والتمييز بين الثابت والمتحوّل منهجاً معرفيّاً أصيلا.

إنّ أساس النظرية النسبية هو الاعتقاد بمبدأ الاستمرارية بينما اكتشفت النظرية الكمية أنَّ الأساس الطبيعي هو اللا استمرارية في كل شيء، ووفقا لهذا التباين فإنَّ المسارات المستمرة للجسيمات الكمية قد سقطت في حين حافظت النظرية النسبية على المسارات الجيوديسية المستمرة التي تحتل موقعاً هاماً في بنيتها الأساسية.

ثمة خلاف جوهري آخر، فالظاهرة المرصودة رغم كونها تبدو مختلفة حين رصدها من منظومة مرجعية لأخرى فإنها تحافظ على خصائصها وصفاتها بالنسبة لجميع الراصدين، وتعد نتائج المرصد من منظومة مرجعية لأخرى متطابقة إذا استعملت قوانين التحويل النسبية بين مختلف المراجع المعتمدة في القياس.

أمّا النظرية الكمومية فقد كشفت مبدأ اللايقين والاحتمالية وعدم إمكانية الفصل بين الراصد في مرجعه والعالم الطبيعي، مما يدل على أن الوجود الموضوعي المستقل لا مكان له في الفيزياء الكمية الحديثة.

وفي الوقت الذي وفّرت فيه النظرية النسبية في فضاء رباعي الأبعاد (3 مكان + 1 زمان) مبدأ السببية في جميع الظواهر الكونية فإنَّ النظرية الكمية قد بيّنت أن العالم الدقيق ما دون الذري لا يخضع للعلاقات السببية في فضاء ذي أبعاد لانهائية.
أما عن سرعة الضوء التي افترضت النسبية العامة ثباتها ابتداء ودون أي اثبات تجريبيّ، وعدم خضوعها للتحولات المرجعية فإن أحدث التجارب توصلت إلى القيمة 299792 كلم/ثانية، إن هذا الرقم يستحق التأمل إذا أخذ في الحسبان السرعة الخطية 230 كلم/ثانية للشمس وتوابعها من الكواكب الجارية بإتجاه كوكبة النسر الواقع حول مركز المجرة إضافة لسرعة تباعد الأجرام عن بعضها البعض في المجرة البالغة 22 كلم/ثانية نحو الخارج، وهل أن الضوء يخضع كذلك لقانون تحوّل السرعات النسبية خارقًا بذلك مسلّمة النظرية النسبية.

(22 – 230 + 299792 = 300000)

يتجلى دور العلم في دراسة الظواهر الكونية، واكتشاف قوانينها دون العروج إلى ما وراء المادة خارج الزمان والمكان. ليقدم العقل العلمي صيغا عن ادراك الواقع الطبيعي تؤكد أن بنية الكون عبارة عن تناغم بين الفوضى والنظام، وتوافق بنية الحركة والسكون، وترابط بين الزمان والمكان، والتوازن الدقيق بين الحتمية والاحتمالية، والطبيعة الموجية والجسيمية، وصراع بين اليقين واللايقين، مما يستحق التأمل والبحث والتفكير والمشاركة في معركة معرفة الحقائق الكونية المطلقة.

ان مفتاح اللعبة ونضوج الفكرة في كل حقبة يكمن في معرفة حقيقة الماضي الدالة على قوة الزمن الباقية والدافعة بالزمن المعمّر وجاذبيته الى حاضر من ذكريات الماضي السحيق نحو مستقبل واعد ما هو إلا مرآة للحاضر المختصر مع التأكيد على أنّ كل المعطيات دون استثناء تخضع للمراجعة المعرفية في العلم والمنطق والفلسفة في ميزان العقل التي لا تنتهي عند أحد مهما ارتقت أحواله وتنوّعت أعماله ولا تقر للمنطق بكماله أو الفلسفة بنكرانه.

الفيزياء الكونية

تَهيّبتُ كثيراً من ضخامة المهمّة التي تهدف إلى نقد النسبية العامة في عالم الفيزياء، ومن وجهة نظر الفيزياء الكمومية التي غلبت على فروع الفيزياء الحديثة ورفضها عدد كبير من أهل الفلسفة المعاصرة.

نجني اليوم ثمار مرحلة متقدّمة من البحث العلمي المتواصل الهادف إلى تحصيل المعارف وتطبيقها وإغناء التراث العلمي والفلسفي الذي يقود إلى فَهم أعمق للكون، الكتاب الضخم المفتوح والمكتوب بلغة لا يزال الإنسان المجتهد والمُنصف يسعى لفك حروفها وطلاسمها على مر العصور محاولا نمذجة صيغ للقوانين الطبيعية رياضياً طوراً، ونظرياتٍ طوراً آخر قابلة للإثبات التجريبي غالباً وذلك وصولاً للحقائق المطلقة وتفسيراتها الواضحة، وبلورة المفاهيم على ضوء العقل والتمييز بين الثابت والمتحوّل منهجاً معرفيّاً أصيلا.

إنّ أساس النظرية النسبية هو الاعتقاد بمبدأ الاستمرارية بينما اكتشفت النظرية الكمية أنَّ الأساس الطبيعي هو اللا استمرارية في كل شيء، ووفقا لهذا التباين فإنَّ المسارات المستمرة للجسيمات الكمية قد سقطت في حين حافظت النظرية النسبية على المسارات الجيوديسية المستمرة التي تحتل موقعاً هاماً في بنيتها الأساسية.

ثمة خلاف جوهري آخر، فالظاهرة المرصودة رغم كونها تبدو مختلفة حين رصدها من منظومة مرجعية لأخرى فإنها تحافظ على خصائصها وصفاتها بالنسبة لجميع الراصدين، وتعد نتائج المرصد من منظومة مرجعية لأخرى متطابقة إذا استعملت قوانين التحويل النسبية بين مختلف المراجع المعتمدة في القياس.

أمّا النظرية الكمومية فقد كشفت مبدأ اللايقين والاحتمالية وعدم إمكانية الفصل بين الراصد في مرجعه والعالم الطبيعي، مما يدل على أن الوجود الموضوعي المستقل لا مكان له في الفيزياء الكمية الحديثة.

وفي الوقت الذي وفّرت فيه النظرية النسبية في فضاء رباعي الأبعاد (3 مكان + 1 زمان) مبدأ السببية في جميع الظواهر الكونية فإنَّ النظرية الكمية قد بيّنت أن العالم الدقيق ما دون الذري لا يخضع للعلاقات السببية في فضاء ذي أبعاد لانهائية.
أما عن سرعة الضوء التي افترضت النسبية العامة ثباتها ابتداء ودون أي اثبات تجريبيّ، وعدم خضوعها للتحولات المرجعية فإن أحدث التجارب توصلت إلى القيمة 299792 كلم/ثانية، إن هذا الرقم يستحق التأمل إذا أخذ في الحسبان السرعة الخطية 230 كلم/ثانية للشمس وتوابعها من الكواكب الجارية بإتجاه كوكبة النسر الواقع حول مركز المجرة إضافة لسرعة تباعد الأجرام عن بعضها البعض في المجرة البالغة 22 كلم/ثانية نحو الخارج، وهل أن الضوء يخضع كذلك لقانون تحوّل السرعات النسبية خارقًا بذلك مسلّمة النظرية النسبية.

(22 – 230 + 299792 = 300000)

يتجلى دور العلم في دراسة الظواهر الكونية، واكتشاف قوانينها دون العروج إلى ما وراء المادة خارج الزمان والمكان. ليقدم العقل العلمي صيغا عن ادراك الواقع الطبيعي تؤكد أن بنية الكون عبارة عن تناغم بين الفوضى والنظام، وتوافق بنية الحركة والسكون، وترابط بين الزمان والمكان، والتوازن الدقيق بين الحتمية والاحتمالية، والطبيعة الموجية والجسيمية، وصراع بين اليقين واللايقين، مما يستحق التأمل والبحث والتفكير والمشاركة في معركة معرفة الحقائق الكونية المطلقة.

ان مفتاح اللعبة ونضوج الفكرة في كل حقبة يكمن في معرفة حقيقة الماضي الدالة على قوة الزمن الباقية والدافعة بالزمن المعمّر وجاذبيته الى حاضر من ذكريات الماضي السحيق نحو مستقبل واعد ما هو إلا مرآة للحاضر المختصر مع التأكيد على أنّ كل المعطيات دون استثناء تخضع للمراجعة المعرفية في العلم والمنطق والفلسفة في ميزان العقل التي لا تنتهي عند أحد مهما ارتقت أحواله وتنوّعت أعماله ولا تقر للمنطق بكماله أو الفلسفة بنكرانه.

زِراعةُ الخضار الصّيفيّة

زراعةُ الخضار الصيفية في لبنان هي من الزراعات الهامّة التي تلعب دوراً أساسيّاً في الاقتصاد اللبناني وتعطي مردوداً جيداً للمزارع خاصة إذا ما أتقن عمله من حيث توقيت الزرع، المعاملة، المكافحة، الري، التغذية، والقطاف ثم التوضيب، البيع، والتصنيع … وخاصة الخضار الموسمية التي تعطي إنتاجا مبكراً ووفيراً هذا على صعيد زراعة الحيازات أو المشاريع الصغيرة (من دونم حتى خمسة دونم)، مما يزيد من أهميّة التوسع في زراعة الخضار وزيادة إنتاجها وتحقيق عائدا سريعا.

فقد كانت زراعة الخضار محصورة في مساحات قليلة لسد حاجة بعض سكان القرى الذين يتعاطون الزراعة. أما في النصف الثاني من القرن الماضي، بدأت تتطور وتزداد حتى أصبحت مصدراً أساسياً في حقل الإنتاج الزراعي وتدر مالا وفيرا للمزارعين الذين أتقنوا هذا العمل من تأصيل للبذار والنبات وتحديد موعد الزرع مع ممارسة الدورة الزراعية وذلك بفضل التقنيات الحديثة المتطورة التي تعتمدها هذه الزراعات وصولاً إلى المستوى الجيد في الإنتاج. ومن خلال اكتشاف نباتات مرغوبة من قبل المستهلك اللبناني وحملها خصائص وراثية جيدة ومتطورة من حيث قدرتها على مقاومة الآفات الزراعية وجفاف التربة وتأقلمها مع جميع أنواعها، إضافة الى قدرتها على إنتاج أكبر كمية ممكنة من الثمار والخضار الورقية والساقية مع مواصفات مميزة للبذور والثمار عن الأصناف السابقة، وكذلك من خلال تنظيم عملية التسميد الذواب وطرق الري والمكافحة العضوية والكيميائية حسب الحاجة لمنع إتلاف المحصول، وبعدها يتم نشرها بين المزارعين في مختلف المناطق الزراعية. كما يمكن تصدير الكثير من هذه المنتجات للأسواق الخارجية إضافة إلى تصنيع المنتجات الغذائية خاصة الخضار التي لا تصلح للتسويق والاستهلاك الطازج.

تنحصر زراعة الخضار بشكل أساسي في لبنان على عدة محاصيل خضرية، أهمها:

الفصيلة الباذنجانية تضم: البندورة، البطاطا، الباذنجان، الفليفلة.

الفصيلة القرعية تضم: الخيار، الكوسا، البطيخ الأحمر والأصفر، القرع، القثاء، اللقطين أو اليقطين.

الفصيلة البقولية أو القرنية تضم: الفاصولياء، اللوبياء، الفول، البازلاء، الحمص، العدس.

الفصيلة الصليبية تضم: الملفوف، القرنبيط، اللفت، الفجل، البروكولي.

الفصيلة الخيمية تضم: الجزر، البقدونس،…

الفصيلة المركبة تضم: الخس…

الفصيلة النرجسية تضم: البصل، الثوم، الكرّاث.

الفصيلة الرمرامية تضم: السلق، السبانخ، الشمندر السكري…

الفصيلة الخبازية تضم: البامياء…

وتختلف إنتاجية هذه الأصناف حسب اختلاف عوامل الوقت والمعاملة والأحوال الجوية وطبيعة التربة وعمقها وصلاحيتها للزرع وإصابتها بالآفات الزراعية من حشرات وعناكب وفطريات وبكتيريا وفيروسات وغيرها. هذا بالإضافة إلى عامل نقص العناصر الغذائية التي تحتاجها النباتات أو زيادة استهلاك عنصر غذائي أكثر من غيره مما يؤدي إلى ظاهرة عدم امتصاص باقي العناصر.

ونظراً لأهمية الدور الذي تلعبه الخضار في تحقيق الأمن الغذائي وفي رفع مستوى المعيشة وتدعيم الإقتصاد الوطني، نضع بين أيادي المزارع اللبناني، أكان محترفا أو تقليديا، هذا الموضوع الذي يتطرق إلى سبل كيفية زراعة الخضار بدءاً من تهيئة الأرض حتى القطاف.

أهمية الخضار الغذائية

تتصدر الخضار على اختلاف أنواعها قائمة المواد الغذائية التي تقدم لجسم الإنسان ما يحتاج إليه من الأملاح المعدنية والفيتامينات الضرورية إضافة إلى وجود الألياف النباتية الهامة للتغذية واستمرار الحيوية. فالإنسان منذ القدم أدرك حاجته لجميع أنواع الخضار الشتوية منها والصيفية فاعتمدها في قوائم طعامه اليومي.

لذا، زراعة الخضار لها أهمية ملحوظة في تأمين جزء من الاحتياجات الغذائية للإنسان. والخضار هي نباتات عشبية حولية أو ثنائية الحول. الحول الواحد معروف بالموسم الواحد أي الخضار التي تزرع في وقت أقل من سنة على سبيل المثال: البندورة تزرع بدءا من شهر نيسان في المناطق الساحلية حتى شهر حزيران في المناطق الجبلية وتتوقف عن الإنتاج في شهر تشرين الثاني عند تدني الحرارة. الحولان أي موسمان وهي النباتات التي تعطي الجزء الذي يؤكل في الحول الأول والأزهار والبذور في الحول الثاني مثل البقدونس والسلق…

وتزرع الخضار سنويا حسب حاجة السوق، منها ما تستخدم أجزاؤها للتغذية فقد تؤكل ثمارها طازجة أو مطبوخة مثل البندورة، الملفوف، البازيلا،… ومنها ما تؤكل نوراتها الزهرية مثل القرنبيط، البروكولي، أو أوراقها مثل الخس، البقدونس، السلق، الرشاد، أو جذورها مثل الفجل، الجزر، الشمندر، اللفت، البطاطا الحلوة، أو أبصالها مثل البصل، الثوم…

تقسيم النباتات

إن تقسيم الخضر يساعد على معرفة الجزء الذي يؤكل من النبات ويفيد المزارعين في التعرف على الأجزاء التي تستعمل في الغذاء من مختلف الخضروات. مما يساعد أيضا على تعدد الإنتاجية من الخضار، وإن النباتات التي تنتمي إلى فصيلة واحدة لا تتشابه جميعها في الحاجات والعمليات الزراعية من تغذية وري ومكافحة ولا في الاحتياجات البيئية من حرارة وتربة وتقسم هذه النباتات الخضرية إلى عدة مجموعات بحسب الجزء الذي يستعمل للتغذية وهي كالتالي:

  1. خضر ورقية: وتشمل الخضار التي تؤكل أوراقها وتضم: الملفوف، الرشاد، الجرجير، السلق، السبانخ، الخس، البقدونس، الهندباء، الكرفس، الشمرة، البقلي، الكزبرة…
  2. خضر ساقية: وتشمل الخضار التي تؤكل منها الساق في التغذية سواء كانت هذه الساق هوائية كما في: الهليون أو ساق منتفخة كما في: الكرنب، وإما ساقا متحورة تحت سطح التربة مثل: البطاطا، القلقاس…
  3. خضر جذرية: وتضم الخضار التي تؤكل فيها الجذور وتتضخم جذورها كما في: الجزر، اللفت، البطاطا الحلوة، الشمندر،…
  4. خضر زهرية: وتشمل الخضار التي تؤكل منها الأجزاء الزهرية مثل: الأرضي شوكي، القرنبيط، البروكولي…
  5. خضر بصلية: وتضم الخضار التي تؤكل منها الأبصال سواء كانت هذه الأبصال ناتجة عن تضخم قواعد الأوراق كما في: البصل… أو من تضخم براعم أبطية موجودة في قواعد الأوراق كما في: الثوم…
  6. خضر ثمرية: وتشمل الخضروات التي تؤكل ثمارها سواء أكانت ناضجة مثل: البندورة، البطيخ الأحمر والأصفر… أو غير ناضجة مثل: الخيار، القثاء، الكوسا، اللوبياء، الباذنجان، البامياء…
  7. خضر بذرية: وتضم جميع الخضار التي تؤكل بذورها طازجة أو جافة كما في: الفاصولياء، الفول، الحمص، البازلاء،…
الإحتياجات البيئية المناسبة لزراعة الخضار

تحتاج بعض أنواع الخضار إلى مشاتل صغيرة إما في أوان خاصة أو في الأرض، لزراعة البذور الصغيرة مثل: البندورة، الخس، الفليفلة، الباذنجان،… يتم بذرها قبل موعد الزرع بحسب النوع من 20 الى 45 يوما في أتربة مشجعة للإنبات والتي تحوي عناصر غذائية، مثل التورب،… مع تضليلها (بقطع من النيلون أو في البيوت الزجاجية إن وجدت) تتنقل الشتول الصغيرة إلى أوان خاصة (صواني أو كبايات صغيرة) لتسريع نموها مع إبقائها في الجو المضلل. بعد ذلك، يتم زراعتها في الأرض المستدامة عندما يصبح الجو ملائما والأرض مهيأة. تساعد هذه العملية في استمرار النباتات في النمو مباشرة وعدم تضليلها خاصة إذا كان الجو حاراً، مثل: البندورة، الفليفلة، الباذنجان، الخس، الملفوف…

ملاحظة إنَّ الشتول التي تُقلع من المشتل لتُزرع في الحقل تفقد قسماً كبيراً من جذورها الماصة مما يؤدي إلى تأخيرها مدة أسبوع على الأقل لتبدأ بتكوين جذور حديثة ومن بعدها تبدأ في النمو. لهذا تحتاج إلى تضليل بعد الزرع مباشرة.

الموقع: يجب أن يكون في مكان مكشوف لا تتجمع فيه الرطوبة التي تؤدي الى تكاثر وانتشار الأمراض وغير معرضة للرياح الساخنة التي تؤدي إلى تلف الأزهار وجفافها، قرب الموقع من الطريق لتقليل الكلفة، ووجود نبع ماء أو خزان لتجميع مياه الأمطار.

التربة: تحتاج نباتات الخضار إلى تربة جيدة الصرف، عميقة ومفككة، وصالحة للزراعة، غنية بالمواد المعدنية الضرورية لها.

الحرارة: تنمو نباتات الخضار في حرارة معتدلة إلى حارة نسبيا كونها من الخضار الصيفية. تتراوح درجات الحرارة بين 15 الى 33 درجة مئوية. أما الحرارة التي تزيد عن 33 درجة مئوية، توقف نمو النباتات وتمنع عقد أزهارها كما في إنخفاض الحرارة عن المعدل المطلوب مما يؤدي الى إنخفاض المردود الاقتصادي لهذه الزراعة.

الري: بشكل عام، جميع نباتات الخضار تحتاج إلى ري ولكن بمعدلات مختلفة على سبيل المثال: تحتاج البندورة الى حوالي 20 ليتر من الماء في الأسبوع عند مرحلة جني المحصول. أمّا نبتة القثاء (مقتي)، فلا تحتاج لأكثر من 10 ليتر ماء أسبوعيا. إن الخضار تستجيب بشكل جيد عند إشباعها بالماء والسماد وتعطي إنتاجا ذا جَودة وكمية عالية.

التسميد: تحتاج الخضار إلى كميات متفاوتة من الأسمدة العضوية والكيميائية بشكل عام، كلما كان حجم وتفرع وعدد الأوراق أكبر، تحتاج إلى عناصر غذائية أكثر وتتفاوت حاجة النباتات الى هذه العناصر في مراحل نموّها وحسب إنتاجها. فالنباتات الورقية مثل البقدونس، الخس، الرشاد، تحتاج إلى عنصر الآزوت أكثر من الفوسفات والبوتاس. كما أن الخضار التي تعطي ثماراً مثل: البندورة، البطيخ، اللوبياء، تحتاج إلى الآزوت أكثر من غيره في مراحل النمو الأولى وتحتاج إلى الفوسفور أكثر في مرحلة الإزهرار وإلى البوتاس في مرحلة نمو الثمار لزيادة حجمها ونضجها.

إن الإفراط في زيادة كميات الأسمدة الكيميائية للخضار يؤدي إلى تراجع الخضار عن المقاومة الذاتية للآفات الزراعية وتلف الثمار في وقت قصير وترسبه في التربة كأملاح معدنية وقتل بعض الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة والتي تساعد النباتات على امتصاص العناصر الغذائية مع الماء بعد تفكيكها وتحليلها وتحويلها كغذاء صالح للامتصاص من قبل الجذور. مثلا، يعطي الكثير من المزارعين لشتلة البندورة حوالي 100 غرام في الشهر من الأسمدة الكيميائية الذوابة (20-20-20 + عناصر صغرى) بينما تحتاج البندورة الى حوالي 30 غرام من هذا السماد في الشهر ويقدم على دفعتين كل 15 يوما.

أمّا الدونم الواحد فيحتاج بين 600 و1000 كلغ من الأسمدة العضوية المخمرة. إن السماد العضوي يلعب دوراً كبيراً في تحسين خواص التربة والحفاظ على الرطوبة والحرارة. وهو الحاضن الطبيعي والأساسي للكائنات الحية الدقيقة والمساعد على تكاثرها إضافة إلى وجود بعض العناصر الغذائية فيه كالآزوت.

تهيئة الأرض قبل الزرع: تُحرث الأرض حراثة أولى متوسطة بواسطة الجرار الذي يحمل السكك على عمق حوالي 40 سم مع إزالة الأعشاب البرية والحجارة إن وجدت التي تعيق العمليات الزراعية مثل الزرع، التسميد، الري، المكافحة، القطاف. ثم حراثة سطحية على عمق 15 سم تقريبا بواسطة الفرامة أو العزاقة لتكسير الكتل الترابية ولتنعيم وتسوية سطح الأرض أو التربة. من المفضل تقسم الأرض إلى خطوط متساوية أو أثلام أو مساكب لمعرفة سعة الأرض من الخضار المنوي زراعتها. بعد تقسيم الأرض، يوضع السماد العضوي في أماكن الزرع ويفضَّل خلطه مع التربة لتحسين خواصها وإمداد النبات بالمواد الغذائية اللازمة إضافة إلى وضع محيط الجذور مفكك وسهل لتغلغلها بين حبيبات التراب. وأخيراً، تُمَدد شبكة الري المُعدة خصّيصا لهذه الغاية ليتم بعدها الزرع حسب المسافات بين الشتلة والأخرى ومتوازية للنقاط الذي يمد الشتلة بالماء مباشرة أثناء عملية الزرع.

التعشيب: إن عملية العزق أو التعشيب هي من العمليات الهامة التي تحتاج إليها زراعة الخضار لأن الأعشاب تزاحم نباتات الخضار على الغذاء والماء، وتكون الناقل والحاضن لبعض الآفات الزراعية من أمراض وحشرات مشتركة ضارة ومما يؤدي بالتالي الى انخفاض الإنتاج.

المكافحة: تصاب نباتات الخضر بآفات عديدة تندرج تحت مجموعتين: الأمراض تسببها الفطريات، البكتيريا والفيروسات والمجموعة الثانية تسببها الحشرات والعناكب. ومن المفضل أن تكون المكافحة متكاملة.

الأمراض: اللفحة المتقدمة، اللفحة المتأخرة، الرمد، التبقع، الفوزاريوم، الفيروسات،…

والحشرات: المن، الذبابة البيضاء، راعية الأوراق، دودة الثمار، الدودة الخياطة، البسيلا،…

والعناكب: الأكاروز، الحلم.
لا تحتاج جميع أمراض الخضار إلى مكافحة كيميائية متخصصة بل نستطيع أن نقي الكثير من الخضار بواسطة المكافحة: الميكانيكة، البيولوجية، العضوية.

المكافحة الميكانيكية: أي يجب إزالة النباتات المصابة خاصة بالفيروس وحرقها، كما يجب إزالة الأعشاب البرية التي تنمو عليها بعض الآفات الضارة. يجب التقليل من الرطوبة المحيطة بالنبات والجذور خاصة في مرحلة النمو الأول (بعد الزرع) .

المكافحة البيولوجية: تتم بواسطة الأعداء الطبيعية للآفات الضارة مثل: أسد المن، أم علي سيري، المتوفرين بوفرة في الحقول التي لا تعامل كيميائياً.

المكافحة العضوية: منها ما يحضّر منزلياً خاصة لمكافحة الحشرات من خل تفاح (50 ملل) والفليفلة الحارة القارس (حوالي 150 غرام) ومقطر القصعين أو الزعتر أو النعنع (50 غرام) مع القليل من برش الصابون البلدي ويضاف كبريت غروي إذا كان الخضار مصاب بأمراض فطرية. تضاف جميعها إلى 20 ليتر ماء وتُخلط جيدا وتُرش على النباتات. والمكافحة العضوية أيضا تتم بواسطة المبيدات العضوية المتوفرة في الصيدليات الزراعية منها الجنزارة وكبريت الزهرة. يخلط جيدا 1 كيلو كبريت الزهرة مع 200 غرام جنزارة (مادة نحاسية من مصدر موثوق). ويتم تعفير هذا الخليط على النباتات في بداية نموها مثل الباذنجانيات، القرعيات والبقوليات. ويعمل الكبريت والجنزارة على منع إصابة الخضار بالفطريات وتقليل من إصابتها بالأمراض البكتيرية والفيروسية وإعاقة تكاثر ووصول الكثير من الحشرات والأكاروز إلى أجزاء نبات الخضار لامتصاص عصارتها وقضم بعض أجزائها. فهذا الخليط يشكل طبقة فاصلة، نوعاً ما، بين الآفة وجدار النبات. لكن، يُنصح بعدم استخدام الخليط في حرارة تزيد عن 32 درجة مئوية وفي الأيام التي تزداد فيها الرطوبة. وبعكس ما هو سائد ومعروف منذ القدم، يجب أن لا يكون التعفير باكراً على الندى لأنه يتجمع في أماكن حاملة للندى على أجزاء النبتة مما يؤدي إلى حرقها ويبقى أجزاء غير محكمة بالكبريت مما يسمح بدخول الآفات. ومنذ عدة سنوات، بدأ يتوفر في لبنان مبيدات عضوية متخصصة.

جني المحصول: تقطف ثمار الخضار عند مرحلة النضج تدريجيا التي تحدد باللون مثل البندورة، البطيخ الأصفر، اللقطين، بالحجم مثل الكوسا، الخيار، اللوبياء، بعدد الأيام مثل البطاطا، والخضار الورقية تحدد بالحجم مثل الخس، البقدونس، الهندباء…

التوضيب والتسويق: من المُفضّل أن يتم فرز الخضار الثمرية حسب الحجم والنوعية ووضعها في عبوات صغيرة مكشوفة لأن هذا يساعد على تسويقها بوقت أسرع وبأسعار أعلى. يستحسن بيع الخضار الطازجة إلى المستهلكين مباشرة.

التصنيع: هناك العديد من الخضار صالحة للتصنيع وبعدة طرق وأشكال:

صناعة المجففات: بعد تقطيع الثمار الكبيرة إلى أجزاء صغيرة مختلفة الأشكال، مثل: البندورة، اللوبياء، البامية، الكوسا، توضع في الأجهزة المعدة للتجفيف أو في أماكن مضللة وقليلة الرطوبة ويجب أن لا تتعرض إلى أشعة الشمس المباشرة بالإضافة إلى حمايتها من الغبار والشوائب التي تؤدي إلى تلفها.

– صناعة التوابل المجففة: بعد قطاف الثمار وتقطيعها أو قطع جزء من نباتات الخضر الورقية تجفف في الظل لتصبح خالية من الرطوبة نوعاً ما، بعد ذلك يتم تنعيمها مثل: النعنع، الصعتر، المردكوش، الحبق، أو طحنها مثل: الفليفلة الحمراء، البصل، الثوم…

– صناعة العصائر: الثمار الكبيرة والمشوهة في الشكل والتي لا تصلح إلى التسويق والغير مصابة بأي مرض أو حشرة، يُعمَد إلى عصرها وتقديمها طازجة كما في الجزر، البندورة…

– صناعة المُخلّلات: الثمار التي لا تصلح للبيع أو التصدير، تُغسل وتُنظف وتُعَد لتقطيعها وترتيبها في أوان زجاجية وتوضع في محلول من الماء والملح عيار 1 ملح الى 7 أو 8 ماء تقريبا كما في كبيس الخيار، القثاء، الفطر، الفليفلة، اللفت، القرنبيط، الجزر، أو تُكبس في زيت الزيتون كما في الفليفلة الحرة، صعتر الخلاط، اللوبياء، الباذنجان المكدوس،…

– صناعة المربيات: يصنع من بعض أنواع الخضار المربيات حيث تقطف الثمار بعد نضجها كما في اللقطين وقبل النضج وهي في حجم صغير كما في الباذنجان…

– صناعة المقطّرات: إن بعض النباتات العطرية هامة جداً من حيث فائدتها الغذائية والطبية والاقتصادية للإنسان خاصة في مرحلة الإزهار مثل النعناع، الصعتر،…

– صناعة المركزات: إن بعض ثمار نباتات الخضار في غذائنا طازجة ومصنعة كما في البندورة، الفليفلة الحلوة والحارة، والثمار غير الصالحة لهذه الغاية تحضّر لتركيزها بعد غسلها وإزالة الشوائب منها ثم تركَّز على حرارة الشمس أو النار مثل: رب البندورة، الكاتشب، رب الفليفلة،…

الدورة الزراعية

تعني «الدورة الزراعية» عدم زراعة نفس محصول الخضار أكثر من موسم في نفس المكان. ويفضل اتباع دورة زراعية ثلاثية أي كل ثلاث سنوات من فصائل مختلفة. مثلا: تزرع الأرض في الموسم الأول بنبات الخيار الذي يتبع الفصيلة القرعية. في الموسم القادم، تزرع نباتات اللوبياء التي تنتمي للفصيلة البقولية. وفي الموسم الثالث، تزرع بنباتات البندورة التي تتبع فصيلة الباذنجانيات. لأن نباتات الخضار التي تنتمي للفصيلة الواحدة تحتاج تقريبا إلى نفس العناصر الغذائية ولكن بكميات ونسب مختلفة وتحمل بعض الأمراض مثل: الرمد، اللفحة، والحشرات المشتركة مثل: الدودة الخياطة، المن الأخضر، الذبابة البيضاء،… وتطفل عليها نفس النباتات المتطفلة مثل الهالوك (الجعفيل) التي تنمو على جذورها ولا تسمح بمرور إلّا القليل من الغذاء إلى القسم الموجود فوق سطح التربة من النبتة مما يؤدي إلى هلاكها.

تأصيل نباتات الخضار

إن تأصيل النبات يستوجب الأخذ بالاعتبار لعدة نقاط هامة. يجب مراقبة النبتة خلال الموسم لمعرفة قدرتها على تأقلمها مع المناخ والأرض المزروعة فيها، مقاومتها للأمراض والحشرات الضارة، تحمّلها للعطش، وأيضاً مراقبتها من حيث النمو الخضري الجيد للخضار الورقية والإنتاجية العالية للأزهار والثمار بالإضافة إلى شكل الثمار المتناسق وجودتها العالية من حيث الحجم واللون والطعم هذا في الخضار الثمرية. أما في الخضار الدرنية، فتُجمع الدرنات الصغيرة بعد القلع لتُزرع في الموسم القادم كما في البطاطا. تُجمع بذور الخضار الورقية والزهرية بعد نضجها وتُحفظ للموسم الذي يليه بعد تجفيفها ونقعها لمدة دقيقتين في محلول نحاسي مثل: البندورة، الفليفلة، القرنبيط، الباذنجان…

الشيخ الجليل أبو حسين شبلي أبي المنى

وُلد الشيخ الجليل التّقي الورع الديّان الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى في بلدة شانيه قضاء عاليه محافظة جبل لبنان في العام 1204 هـ 1788م، نشأ نشأة فاضلة حتى أصبح من المشايخ الأتقياء الأعيان الأجلّاء، امتاز بصدق ديانته ورجاحة عقله وهيبته ووقاره، فكان جهوري الصوت قوي الشخصية محباً للخير وللإخوان راغباً فيما عند الله زاهداً فيما عند الناس، وكانت له عند الأمير بشير الشهابي مكانة وإعزاز وكلمة مسموعة، كان يبذلها لمساعدة كل مظلوم أكان روحانياً أو زمنياً.

بعد فترة من الزمن عقبت وفاة سلفه في مقام مشيخة العقل، كان على أعيان الموحدين الدروز إنتخاب شيخ عقلٍ بدلاً منه. فوقع خاطرهم على الشيخ أبي حسينٍ شبلي أبي المنى في الاجتماع الذي عُقد في مزرعة الشوف، قَبِلَ الشيخ مُكرَهاً بعد الحاحٍ شديدٍ، ولكن ما لبث أن غادر البلاد متجهاً إلى خلوات البياضة الزَّاهرة يخدم إخوانه وينهل من معين المعرفة الإلهيَّة حتى أصبح مقصداً لرجال الدين ومرجعاً بين أبناء العشيرة المعروفية.

مقام الشيخ ابو حسين شبلي ابي
 دوره البارز في عهد الأمير بشير الشهابي

ورد في كتاب مناقب الأعيان نقلاً عن الشيخ أبوكمال نايف أبي المنى والد سماحة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي أبي المنى، أنّ المرحوم الشيخ أبو حسين شبلي كان يضاهي بوقاره الأمير بشير وقد أضافت العمامة المكولسة على هيبته هيبةً ووقاراً وجمالاً، وزادتها هالة جبهته المنيرة رفعةً وكمالاً وكان الأمير يقدّره ويحترم طلّته ويجلسه إلى يمينه ممّا أثار امتعاض بعض رجال الدين المسيحيين، ففاتحوا الأمير بالأمر أكثر من مرّة حتى وعدهم بأن لا يكرّر ذلك، وكانت المفاجأة عندما زار الشيخ مرّة ثانية الأمير فهُرع نحوه مسرعاً لاستقباله، عندها عاتبه بعض الزعماء المسيحيين فقال لهم هناك قوة خفية دفعتني إلى تكريمه ولم يكن باستطاعتي المقاومة، وهذه الحادثة تكرّرت مع أكثر من شيخ في ذلك العصر، ممّا يدل على قربهم من الله تعالى وتسخير من كان بموقع السلطة لخدمتهم.

محافظته على إخوانه

كان المرحوم الشيخ أبو حسين يتردّد إلى منطقة المناصف في الشوف وتحديداً في بلدة دير بابا حيث كان يحلّ ضيفاً على آل أبي نكد، وكان له سهرة دينية دورية يحييها عادة مساء الاربعاء في خلوات جرنايا قرب كفرحيم وذلك إبّان إقامته المؤقّتة في تلك المحلّة يحيي فيها برفقة مشايخ القرى المجاورة تلاوة الذكر الحكيم وتفسير آيات الكتاب العزيز.

دعاؤه المُستجاب

كان المرحوم الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى، يردّد هذا الدعاء يومياً ويتلوه عند مواجهة الأعداء خاصةً أثناء أحداث 1840 و1845، التي انتصر الموحدون الدروز فيها بعد محاولة الأمير بشير وإبراهيم باشا إبادتهم، وكان يدعو به كلّما احتدم الصراع فيتبارك به المؤمنون المعروفيون، وهذا نص دعاؤه أو ابتهاله رضي الله عنه:

يا قدرة الحق حلّي عَقد ما ربطوا
وشتّتي شمل أعدانا بما ارتبـطوا
يا قدرة الحق سيف الحق قاطعهم
كلّما عَلَوْا في جَبرهم هبطوا.

محافظته وابن عمه المرحوم الشيخ أبو يوسف حمدان أبو المنى على جيرانهم المسيحيين

يُشهد للمرحوم الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى وابن عمه الشيخ أبو يوسف حمدان أبي المنى محافظتهم على حق الجيرة في بلدات الجُرد ولو لم يكن سكانها من بني معروف. يورد الشيخ أبو صالح فرحان العريضي في كتابه مناقب الأعيان أنه بعد انتهاء معارك 1840 و 1845 وانتصار بني معروف دخلت القوات الفرنسية إلى قرى الموحدين الدروز للاقتصاص كما تزعم من مسببي المجازر التي وقعت آنذاك بحق النصارى من قبل الموحدين الذين كانوا في موقع الدفاع عن أنفسهم، ولمّا وصلوا إلى الجرد- مشارف بلدة شانيه فكّر البعض بمغادرة البلدة وتحييد العائلات تفادياً للخطر، إلَّا أنّ الشيخ وابن عمه ورفاقه قرّروا ملاقاة الفرنسيّين عند مدخل القرية، وعند مواجهتهم مع القوات الفرنسية تقدم الشيخ من قائد القوات الفرنسية طالباً منه عدم الدخول إلى القرية حاملاً في قلبه قوة اليقين فأجابه القائد أنّه آتٍ ليقتصّ من قتلة المسيحيين ومن الذين اعتدوا على أملاكهم، فجاوبه الشيخ بكل قوة وبسالة: نحن لم نعتدِ على أحد، أجابه القائد متسائلاً: وما الإثبات على ذلك، عندها قُرِع جرس كنيسة بلدة بحمدون. فقال الشيخ هذا هو الإثبات إذ لو حصل اعتداء على البلدة لما كان جرس الكنيسة صالحاً ليُقرع فأمر القائد الفرنسي قواته بالتراجع عن البلدة وذلك ببركة الشيخ ويقينه وكما قيل «يقيني بالله يقيني».

ابرز كراماته

من أبرز الروايات المُتناقَلة في بلدته شانيه عن أقاربه، أن الشيخ طلب مرّة من حرم ابن عمه وهي شيخة فاضلة أن تُحضّر الزَّلابية وهي من أصناف الحلوى المقليّة بالزَّيت فأجابت لا زيت لدينا في البيت، فقال لها من قلب مليء بالإيمان: «حضّري العجين واتكلي على الله»، فنزلت عند رغبته ولم يمضِ وقت يُذكر حتى وصل ضيوف أجاويد من بلدة بشتفين وهم مشايخ من آل فياض الكرام، كانت تربطهم علاقة قُربى وأُخوّة مع عائلة الشيخ، وقد حملوا معهم هدية زيت زيتون وكأن الشيخ بحدسه وصفاء عقله كان يتوقع تشريف الضيوف وانَّ عليه تكريمهم ولمَّا لم يكن لديهم زيت شعر بأن هدية زواره ستكون زيتاً فتحقّق فيه القول المآثور، «من توكل على الله عز وجل كفاهُ جميع مهمَّاته، وجبر العالمين على مرضاته».

وفاته

توفّي الشيخ أبو حسين شبلي أبي المنى رحمه الله سنة 1272 هـ، فكان له مأتم مهيب حضره يوسف بك عبد الملك من بلدة بتاتر المجاورة حيث كانت بلدة شانيه تعتبر ضمن إقطاعه، وعند إقامة الصلاة على روحه الطاهرة شوهد رفّ من الطيور البيضاء يحوم فوق الجنازة ثم انتقل نحو الشرق، مما أثار إعجاب يوسف بك عبد الملك وانذهال الحاضرين بهذه الكرامة فقرّر بناء مزارٍ لهُ على نفقته الخاصّة. وضع على مدخل المقام نقش كُتب عليه:

شَيّد هذا المقام الجليل
رجا رضا رب الفلك
الشّهم بين أقرانه
يوسف بك عبد الملك.

أمّا ضريحه فيظهر عليه نقش بديع مُتقَن يضم آيات قرآنية كريمة، كُتب على جهته اليمنى «لا إلهَ إلَّا هو فاتَّخذه وكيلاً واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً». أمّا على الجهة اليسرى فكُتِب «إنَّ هّذِهِ تَذْكِرة فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً»، كَما كُتبت آية الكرسي على الشاهد لجهة الرأس وعلى الجهة الأُخرى كُتبت أبيات من الشّعر تؤرّخ لوفاته جاء فيها:

يا زائراً ذوي الفخر السَّني
من فازَ بالأعمال طوباه هني
قد حلّ في الفردوس مقعده لوا
في زمرة الأبرار فوزاً قد جني
أعني به الشيخ الجليل وطاهراً
الحاذق الديّان شبلي أبي بالمني
أهديته مدحاً بتاريخه رقا
فاز بجنَّات النعيم لقد هني (1272 هـ)

هذا غيض من فيض ممّا هو مُتناقَل شفهياً عن هذا الشيخ الجليل رحمه الله ورزقنا وإياكم حُسن الخِتام وعسى أن نكون من المقبولين عند الله عز وجلّ.

مقاما المحبة والصدق في مسلك التوحيد

رغم ما يجمع الحبّ إلى المحبة؛ فهما متمايزان، دون أن يكونا متناقضين.
المحبة أوسع من الحبّ. الحبّ جزئي، المحبة مطلقة.

الحبّ هو الودّ أو الإيجاب، أو الشوق المحدد، في المكان والزمان، المتّجه إلى غرض مقصودٍ بعينه دون سواه غالباً؛ وأحياناً على حساب سواه. هو أمرٌ جيّد محمود، لكنه يبقى محدداً، محدوداً، لا يتعدّاه، بل لا يخلو غالباً من تعلّق شخصي، نفعي، ظاهر، ولا يخلو من «الأنا» تحديداً.

أما المحبة (في معناها القريب) فهي الودّ، أو الإيجاب، أو الشوق بالمطلق غير المحدود بغرض مباشر، أو منفعة شخصية، أو غاية جزئية.

المحبة هي التخلّي عن «الأنا»، نحو المُطلق؛ والتوجّه بكلِّيتنا نحو ما هو أسمى من «الأنا»، والشوق، والتعلّق، بما هو أسمى من الظاهر والمتغيّر والجزئي والمحدود.

ولعل أظهر أشكال المحبة، محبة الإنسان لباريه، خالقه. وليست المحبة هنا عبادة في عدم، بل هي أبسط واجبات العبد تجاه خالقه، خالق كل شيء، مُوجِد كل موجود، فيضٌ من وجوده وخيره وكرمه…. ومحبته.

فمحبة الخالق سابقة لمحبة المخلوق. فمن محبة الخالق كان المخلوق، وكان معها وبها كل ما يجعل حياة هذا المخلوق، بل وجوده، أمراً ممكناً، مثمراً، جميلاً، ويبعث في نفسه الرضا وراحة البال والسلام والسعادة (وهي الغاية العملية لكل إنسان)، ولكن شرط أن يتوفّر لديه (أولاً) الإيمان الحق والمعرفة الحق – لا الإيمان اللفظي، أو المعرفة الجزئية القاصرة – وأن يتخلّق (ثانياً) بسلوك عملي نابع من المعرفة الحق والإيمان الحق، يعكس التزامه الداخلي، الطوعي، بهما، في كل شأن، صغير أو كبير. ويندرُ في آيات القران الكريم أن يرد مصطلح «الذين آمنوا»، إلا ومعها مباشرة «والذين عملوا الصالحات». فلا خير في علمٍ لا يلحق به عملٌ بالموصَفات والإلزامات نفسها. وهو عموماً مدارُ علم الأخلاق.

أمّا إذا توسّعنا أكثر في مفهوم المحبة – وهو خارج وظيفة هذه الفقرة المحدودة – فسنجد أن المحبة صفةٌ من صفات الله تعالى (وإن لم تُذكر حرفيا). ففيضُ الله في خلقه، وعلى خلقه، هو في باب المحبة، ولا تفسير آخر له غير ذلك. وقد ألمح القرآن الكريم إلماحاً يقترب من حد الإيضاح التام، إذ ورد في الآية الكريمة: «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً» (مريم).
وكما في القرآن الكريم، كذلك في الأناجيل التي سردت عِظات يسوع الرسول، وكلها دالةٌ إلى حب الخالق لمخلوقه، ومنها قوله: «من يحبُ أخاه يثبتُ في النور؛ أما من يبغضُ أخاه فهو في الظلمة».

حبّ الخالق لمخلوقه بستدعي، في أبسط الواجبات، حب المخلوق لخالقه. وطالما أن الخالق مستغنِ بطبيعته عن أي أمرٍ أو شأن، وجبَ أن يتحول حب المخلوق نحو خلق الله في كل الأحوال، لا بشراً فقط بل في كل ما يحمل آثار فيض الله، في طاعة ما أمر به، وتجنّب ما نهى عنه.

هذه مجرد مُقدَّمة تُدخلنا إلى ما أسهم به، بتمكنٍ وعمق، المرحوم الدكتور سامي مكارم. وسنخصص الفقرة التالية لنصٍ مطوَّلٍ من كتابه «مسلك التوحيد».

وفق الدكتور مكارم «على الموحّد إذ يسبح في بحر التوحيد أن يملأ قلبه بالحب….ولا يتحقق ذلك إلاّ إذا تجاوز الموحّد علمه إلى معرفة يقينية، وذلك لا يكون إلّا يحبّه للواحد الأحد حُبّاً كما يحبّه الواحد الأحد، أي حُبّاً مُتبرِّئاً من «الأنا»، متوجّهاً إليه سبحانهُ الذي لا موجود غيره. هذا الحبّ لا يصلُ المرء إليه بتكلّفِ الحبّ أو بتكلّفِ وسائلِ الحبّ تكلّفاً. لا يصلُ الإنسانُ إلى هذا الحبّ إلآ بالصدق، وبحفظِ حقوقِ أخيه الإنسان وهدايته إلى الخير وإرشاده إلى العدل وإعانته على قيامه بما هو حقٌّ وصلاحٌ وقضاء حاجاته المادية والروحية والعقلية بقدر الإمكان، ونهيهِ عن الشرّ والظّلم ومنعهِ من العدوان ومخاطبتهِ بالتي هي أحسن وقبولِ نُصحه وإرشادِه. كذلك، لا يصلُ المرء إلى التوحيدِ الحق إلا بالتخلّي عن عبادةِ العدم، وعن السيرِ على طريق البهتان والظلمة والغَيبة عن وجود الحق. فإذا تمّ له ذلك حقق التبرُّؤ من الإبليسية التي تعوقه عن التوجه إلى الحق. والإبليسية إنما تكمنُ في الأنانية التي تجرّهُ إلى طغيان الرغائب الدنيئة عليه. فإذا حقق الإنسان هذه الخصال دخل حالة من السلام الداخلي وانعتق من استبعاد الأهواء والشهوات والرغبات له التي تعوقه عن تحقيق كماله الأخصّ به، وارتقى في سلّم المعرفة وحقق الحرية؛ فإذا هو إنسان سيّدٌ على نفسه، مستغرقٌ بصفات الناسوتية الحق، أهلٌ لإدراك غايته ووعي حقيقةِ وجوده؛ فيعرف الله بوحدانيته الأحدية ويدرك أن لا موجود إلّا الله، فيحقق التوحيد الحق. وتنقله هذه الحالةُ المعرفية التوحيدية إلى حالة من الرضا، إذ يكون قد أيقن أن الله في وحدانيته هو الخيرُ المَحض، وأن ما يصدرُ عنه تعالى إنَّما هو مظهرٌ من مظاهر وجوده، وأنه حقٌ وخيرٌ وجمال؛ فيسلمُ ذاته إليه، إذ يدركُ أنه في ملكوتِ الله العالّ لكلّ علّة، الموجودُ الواحدُ الأحد الذي لا غيرَ له ولا حدّ.» (مسلك التوحيد، ص 121)

هذا في مقام «المحبة»، على أن نكمل البحث لاحقاً بمقام «الصدق»: وجهان لحقيقة واحدة.

في الذّكرى 75 للنّكبة: 1948 – 2023

تقول الوثائق البريطانية التي أُفرج عنها أخيراً، أنّ مخطط الدولة العبرية التي استولت على الأراضي الفلسطينية سنة 1948، في أعظم جريمة إنسانية وحقوقية عرفها التاريخ، كاد يفشل ويتلاشى غير مرة، وبخاصة في إضراب سنة 1936، ثم بعد أيار 1948، لولا التدخّل المباشر والحاسم للبلدان الغربية، والبريطاني قبل سواه.

وقبل ذلك، يُروى أنّ رئيس بلدية تل أبيب أراد في العشرينيات تعريف ونستون تشرشل الذي كان وزيراً للمستعمرات على إنجازات بلديته الحضارية. ولمّا كان الأمر حدث على عجل، فقد استقدم رئيس البلدية عشرات أشجار الصنوبر من المشاتل وزرعها لتبدو حديقة للساحة حيث يجري الاحتفال.

تقدمت صبيّةٌ يهودية لتلقي كلمة البلدية، لكنّها تعثرت بإحدى الشّجرات تلك، فسقطت على جارتها، والثانية على الثالثة، وسقط معظم الشجر المدسوس في الأرض باعتباره شجراً حقيقياً. تبسّم تشرشل وقال: أخشى أن يكون مستقبل الدولة العبرية مشابهاً لما حدث لهذه الحديقة.

أجل، قلَّةٌ هي التي صدّقت أنه بالإمكان اقتلاع شعبٍ بأكمله، وزرع شعب آخر بدلاً منه. فأرضُ فلسطين قبل 1948 لم تكن خالية، لا من السكان ولا من المنشآت الحضارية، المادية والمعنوية؛ ولا من المظاهر الثقافية والحضارية والفنية والإعلامية البارزة. تكفي ملاحظة أن «سكة حديد فلسطين» هي التي كانت تتولى بكفاءة عالية الاتصال البري بين مصر وبلاد الشام. وأن الموانئ الفلسطينية، وبخاصة حيفا، كان صلة الوصل التجارية الناشطة بين بلدان الشرق من جهة (وخصوصاً سوريا والعراق) والموانئ الأوروبية من جهة مقابلة – الوظيفة التي تولّاها مرفأ بيروت بعد قيام دولة إسرائيل. إلى ذلك، كان في فلسطين صحفٌ ومجلات ودور نشر ومدارس ( في القدس والناصرة وغيرهما) يؤمّها طلاب العلم من بلاد الشام ومصر، وكان فيها إرساليات تربوية مهمة من الغرب ومن الشرق (من روسيا وكنيستها)، ومستشفيات رائدة. والّلافت عدد الطلاب الفلسطينيين الكبير الذي كان يتخرج من الجامعة الأميركية في بيروت، كان الطلاب بالمئات، ويتخرجون في الاختصاصات كافّة.

لم تكن فلسطين إذاً – كما زعم ويزعم الإعلام الصهيوني والغربي – أرضاً بلا شعب. بل كان هناك شعب، بكل مواصفات الشعب، اقتُلِع غصباً وعنوة من أرضه التاريخية والطبيعية، ومن غير وجه حق، ليستوطن فيها بدلاً منه شعبٌ آخر.

من المحزنِ حقاً، أن قرارات عصبة الأمم (1922) التي أوكلت إلى بريطانيا إدارة فلسطين، أرضاً وشعباً، ومساعدة شعبها على التقدم الحضاري، وتأهيله للاستقلال، قد ضُرِبَ بها عرض الحائط، بل رُميت في سلّة المهملات. فمنذ اللحظة الأولى كان كل همّ بريطانيا المساعدة على إقامة كيان يهودي في فلسطين لأسباب عدّة، دنيوية أكثر منها دينية – متصلة بإبعاد الرأسمال الصهيوني عن لندن الذي كان يسيطر على بورصتها، وإقامة أسواق حديثة جديدة للمُنتجات الغربية التي كانت تشهد كساداً ملحوظاً، والأهم من كل ذلك زرع سكين عريض في قلب الوطن العربي ليمنع أي اتصال بري بين عرب المشرق وعرب المغرب، وليجعلَ أي حُلمٍ بالوحدة العربية أضغاث أحلام. وحين كشف الروس سنة 1917 نصوص معاهدة سايكس – بيكو التي تضمنت وعداً بوطن قومي لليهود؛ ثم لمّا أرسل جمال باشا نصوص المعاهدة إلى الشريف حسين التي لم تتضمن أيَّ وعد بحكومة استقلالية عربية ما تسبب بحرج كبير للشريف حسين، هُرِع مندوبو بريطانيا يكيلون الوعود للشريف حسين بأنهم مع الدولة العربية المستقلة، وأنه سيكون ملكاً عليها؛ وأن الكيان اليهودي لن ينشأ إلّا بالتفاهم مع الفلسطنيين والعرب – إحدى الأكاذيب البريطانية المألوفة. (1)

هذه الأكاذيب، وطبيعة الدولة العبرية، ومخاطرها على لبنان تحديداً، هي ما أفاض في الكشف عنها، وتفصيلها، المفكر اللبناني (المسيحي لمن يهمّه الأمر) ميشال شيحا، وهي مدار الجزء الثاني من هذه الافتتاحية.

قدّم المفكّرون اللبنانيون، كما معظمُ المفكرين العرب، وعياً مُبكراً بالطبيعة العنصرية العدوانية المتوقعة للكيان العبري العتيد الذي عملت له بكل ما أوتيت من قوة الدوائر الاستعمارية الغربية، وبخاصة البريطانية منها.

إلا أن أحداً لم يبلغ في معرفته بالطبيعة الداخلية للدولة المزمع إنشاؤها، ثم الوليدة، والتحذير الصريح من مخاطرها، الحدّ الذي بلغهُ المفكرُ اللبناني الاقتصادي- السياسي ميشال شيحا.
بخلاف كثيرين، لم يستخفَّ شيحا بالقدرات الضخمة التي ينطوي عليها العقل اليهودي، قبل المال اليهودي، ودوره في تنفيذ مشروع إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. ففي أيديهم (اليهود) من أدوات الضغط، كما من الكفاءات والعقول، ما يجب أن يُحسب له ألفُ حساب.

يقول شيحا في طبيعة الدولة اليهودية، والدور المنوط بها، وكيف أن لا أحد أخذ الاحتمالات السيِّئة على محمل الجد:
«لا أحد كان يريد أن يعي ذلك منذ سنتين أو ثلاث…. فإذا في قلب الشرق الأدنى دولة متوسطيّة، جدُّ صغيرة في ظاهرها، عالمية في الواقع. وهي في رأي من يعرف كيف يستشفّ الأمور تنعمُ منذ أمد بعيد بخصائص الدولة الكبرى».
ويضيف: «ولئن كان للاستعمار معنى، ومعنى للعنصرية، فإنّ إسرائيل هي بالتحديد الدولة الأشدّ عنصرية والأشدّ استعماراً على وجه الأرض… هذه الإسرائيل التي تتمدد وتسترسل من يستطيع إنكار طابعها العالمي، ومقدار نفوذها ومداه، وما تتمتع به، إلى جانب دبلوماسيتها الرسميّة، من شبكة دبلوماسية شبه رسمية.» ص 111

ولا يتردد شيحا في التنبيه من أن لبنان يجب أن يُدرك أهمية تنمية اقتصاده، زراعة وتجارة وصناعة؛ وإلى بناء مواطنين قبل ذلك؛ قبل فوات الأوان؛ إذ تنتظره أخطارٌ جمّة من هذا «الجار» الجديد، و»لنا مما يحدث لفلسطين عبرة»، يقول:
«ولئن كنا في حاجة لتجارة مزدهرة وصناعة ناهضة وحياة زراعية منوّرة (والأخطار أقلّها في القطاع الزراعي)، ولئن كنا في حاجة لتجّار وصناعيين ورجالات أعمال وأموال من الرعيل الأول، فشدّ ما نحن بحاجة إلى مواطنين! وليكن لكل منّا في ما يجري بفلسطين عبرة». ص 73-74

ويضيف: «فإذا لبنان لم يبادر إلى صنع جماعات تلوَ جماعات من المواطنين فقد يمسي على التمادي مهدّداً. وهذا ما يثبته التاريخ برمّته عبر أربعة ألاف سنة من حياتنا السياسية والاجتماعية. وتكاد تكون هذه حال جيراننا. أضف إلى جمّ المخاطر المتوارثة جوار إسرائيل وما يثيره هذا الجوار من خَشية، إذ لن تتناهى إلينا من هذا الجار موسيقى عذبة وحسب، بل محاولة للسيطرة يتعهدها أبعد المفكرين بصيرة، وأشدّ النظم حزماً، وأكثر وسائل النفوذ تنوعاً وفعاليةً».ص 74

يتوجب قراءة البضعة أسطرٍ قليلةٍ أعلاه بكل عناية ودقة. فهو أولاً يعيّن بشكل جليّ أنّ الجار الجديد مصدر أخطار، ويتوجب الخشية منه. ثم هو يعيّن أسباب قوة هذا «الجار» ومكمن المخاطر فيه: فليست قوته العسكرية ما يجب الخشية منه بالدرجة الأولى، بل لأنه يمتلك تحديداً، وفق شيحا، «أبعد المفكرين بصيرةً»، كذلك «اشدّ النظم حزماً»، ويمتلك «أكثر وسائل النفوذ تنوعاً وفعاليةً».

لو أحسن الاستراتيجيون العرب قراءة تحذيرات شيحا الدقيقة وتعييناته المحددة لمكامن قوة الدولة العبرية، لتغيّرت، ربما، صفحات وصفحات من التاريخ.

ولكن، مع الأسف، من اهتمّ من هؤلاء بكيف يفكّر العقل اليهودي؟ وبطرائق التنظيم لديه؟ وبأدوات النفوذ العالمي الذي يمتلكها، وهي «الأكثر» تنوّعاً وفعالية؟
يقول شيحا، وبكثير من الموضوعية: «في ودّي هنا أن أكون موضوعياً قدر ما ينبغي أن أكون، فأكتفي بهذا القول: لا الدول العربية، ولا كبريات الدول، قدرت حقّ القدر ما يمثّله هذا الواقع وهذا الحضور». ص111

لن استرسل في عشرات النصوص من شيحا، وجميعها تعود إلى الأربعينيات ونهايتها من القرن العشرين؛ يقول:
«ما من أحدٍ أكثر مني…. حذّر من مخاطر جوارهم الخطير. ففي جنوب لبنان، على التّخوم، كما على تخوم مصر والأردن وسوريا، تقوم واحدة من أشدّ القوى نفوذاً في الأرض، حيث الّلاملموس واللامرئي يفوقُ كثيراً ما يستطاعُ لمسه ورؤياه.»111

ويقول في نص آخر: «أمّا في الجنوب فهناك إسرائيل، بدعةُ الأرض، وواحدة من أغرب مغامرات العصر وأبعدها دوِيّاً. إسرائيل ليست في الواقع بلداً كالبلدان. فمن يتاخمها يتاخمُ دولة عالمية نسيجَ وحدها، ومشتلاً للعنصرية في صميمها، حيث المواطنيةُ يرسمُ حدودها دينٌ يتسم بالتستّر على الأقل…. ففي جنوبي لبنان، وعلى عتبة بابنا بالذات، ينصبّ الجهد على تجربة سياسية ولا أغرب. ذلك أن إسرائيل إذ تصبح دولة تصبحُ عاصمة لليهودية جمعاء، ممثلون من الطراز الرفيع له يده الطولى في سياسة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودولٍ أخرى فضلاً عمّا يملكه هذا الشعب من موارد طائلة وأواصرَ تتناهى سرّاً وعلانية على مدى الأرض…» ص 137-138

ونختم، بين نصوص عدّة من المفكّر اللبناني ميشال شيحا:
«من جهتي قلتُ وكتبتُ عشرات المرّات ما أحسبه الحقيقة عن إسرائيل. فحذارِ حذارِ جارتنا الجديدة، لأن جارتنا الجديدة ستطالعنا بالأخطار على صنوفها ونحن مهما عملنا، فلن نؤتى الراحة بعد اليوم، أو لن نؤتاها طويلة الأمد على الأقل. هذا ما ينبغي أن نجاهر اللبنانيين به، لأنه الحقيقة بعينها». ص138 (٢)
هذا قليلٌ من كثيرٍ تمخّضت عنه، باكراً، عقلية المفكّر اللبناني ميشال شيحا التحليلية الثاقبة، فكانت تحذيراته القويّة الصادقة، وتنبؤاته التي لم تزل تتحقق فصلاً بعد آخر.


المراجع:

١- تقدّم المصادر الدولية الإحصاءات التالية التي تظهر العنصرية التامة للدولة الوليدة واستهتارها بالقوانين الدولية وبشرعة حقوق الإنسان:
– شرّد الاحتلال 950 ألف فلسطيني من أصل مليون و400 الف فلسطيني، توزّعوا في 58 مخيّما كما يلي:
10 في الأردن، 9 في سوريا، 12 في لبنان، 8 في غزة، و19 في الضفة الغربية.
– استولوا على 85% من الأراضي الفلسطينية،
– أزالوا من الوجود 531 قرية فلسطينية،
– ارتكب 70 مجزرة بحق الفلسطينيين
٢- النص جميعه من كتاب شيحا: “لبنان في شخصيته وحضوره” (نقله إلى العربية، فؤاد كنعان)، منشورات الندوة اللبنانية، بيروت، 1962

كلمةُ العدد 38

غابت «الضّحى» عن قرّائها وأصدقائها لبعض الوقت؛ لكنّها كانت غيبة اضطرار لا اختيار.
لم تكن «الضّحى» يوماً مشروعاً للكسب المادي؛ ولم يُرتجَ منها يوماً حتى التوازن المادي بين الأكلاف والمداخيل.

لكن الذي حدث في لبنان في السنتين الأخيرتين تجاوز كل الحسابات والتوقعات، بل تجاوز حدود المنطق والمعقول. فكان أن ترك ذلك آثاراً مدمّرة في كل حقل ومجال، ومنها مجال الصحافة، من صحف ومجلات وكتب مطبوعة.

فجأة ومن دون مقدمات يرتفع سعر الكتاب المطبوع من 5 آلاف ليرة إلى 300 ألف ليرة، وأحياناً إلى 500 أو 600 ألف ليرة.

هذه عيّنة توضح لنا كيف صارت كلفة إصدار المطبوعات الورقية في لبنان، وكيف باتت تجعل أسعار مبيعها كيما تتمكن، وبالحدّ الأدنى، من الاستمرار في الصدور. لذلك أقفلت أكثر من صحيفة يومية عريقة، وأكثر من مجلة أسبوعية أو شهرية، لعجزها عن تأمين الحد الأدنى المادي المطلوب للاستمرار في الطبعة الورقية. فاتجه معظمها نحو الفضاء الإلكتروني، لتبقى على اتصال مع قرائها، ومن دون كلفة النسخة الورقية التي لم تعد تُحتمل – في بلد لا تدعم الدولة فيه صحفها ومجلاتها، وبخاصة الثقافية منها.

وعليه، كان من الطبيعي أن ينال «الضّحى» – المجلة، الفصلية، الورقية، الفخمة لجهة مستلزمات الطباعة، ونوعيتها – من شدّة الظلم والكلفة الباهظة ما نال شقيقاتها من الدوريات والمجلات، التي لا تبغي الربح، بل أكثر منها لأنها لا تستطيع قبول الإعلانات كيفما كان، نظراً لخصوصيتها المعروفة.

لكن «الضّحى»، وتحت إصرار قرّائها وأصدقائها، تعود من جديد إليهم بالمواصفات نفسها، شكلاً ومضموناً، وهي ستحاول ما وسعها تجاوز الأزمة المادية الحادة، من خلال رفع رسم الاشتراك والمبيع بعض الشيء؛ ولا سبيل آخر غير ذلك للاستمرار – ونرجو أصدقاءنا القرّاء والمشتركين تفهم هذه الصعوبة. مع استمرار فاعلية موقع «الضّحى» الإلكتروني كما كان.

يبقى القول أنّ ما سمح بعودة «الضّحى»، بالمواصفات نفسها، ليس قانون الربح والخسارة المادية؛ وإنما استجابة كريمة من مشيخة العقل والمجلس المذهبي (ومتابعة حثيثة من أمين سرّ المجلس)، واستعدادهما (مشيخة العقل والمجلس المذهبي) لتحمّل الخسارة المالية (المتوقعة) مقابل استمرار «الضّحى» منصّةً توحيدية، إعلامية، ثقافية، تزرع قيمَ التَوحيدِ السامية والمواطنية الحقّة في نفوس جمهورها، والوطن عموماً، بعيداً عن كل تعصّب مذهبي أو انغلاق اجتماعي.

تكراراً نتوقع من أصدقاء «الضّحى» الأعزّاء، وبخاصة المشتركين، تفهّم الصعوبات المادية الحالية غير العادية، ومشاركتنا بعض أعبائها.

رسالة الوحدة والتوحيد

بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيم

«وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحدِّثْ». صدق الله العظيم

تبرُّكاً بالآية الكريمة المُنزَلة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإيماناً منَّا بأفضلية العمل للآخرة وبألَّا ننسى واجبنا الدنيويّ، وتقديراً للهداية ولنعمة الله علينا، وبالواجب القاضي بأن نحدِّث بنعمة الله، وسعياً لإيجاد صلة ثقافية بيننا وبين أبناء مجتمعنا ومساحة معرفية نتشارك فيها ورئاسة التحرير ومجموعة الكتَّاب والمحرِّرين لنشر ما هو مفيد ومغذٍّ للفكر والروح، والتزاماً بنهج من سبقنا في مشيخة العقل ورئاسة المجلس المذهبي، ومحاولةً لإضافة ما يمكن أن يساهم في حفظ التراث وفتح آفاق الارتقاء والمسافرة في درجات العلم والتعاليم.

لأجل ذلك كلِّه كانت «الضّحى»، ولأجل ذلك تعود إلى قرّائها الأعزَّاء، ولن تغيب عنهم، وستبقى بعونه تعالى سبيلاً لتثبيت الهوية التوحيدية العرفانية الإسلامية للموحدين، ولترسيخ الهوية «المعروفيّة» الأخلاقية المشبَعة بمكارم الأخلاق والمناقب الاجتماعية، والهوية الوطنية العربية لـ «الدروز»، بكلّ ما تعنيه تلك الهوية من تاريخٍ مثقَلٍ بالتضحيات والبطولات دفاعاً عن الثغور والانتماء والوجود، ومن واقعٍ مليءٍ بالمحبة والرحمة والأخوّة، ومن اندفاعٍ صادقٍ للتسامح والتصالح والحوار.

وفي إطلالتها الأولى لهذا العام، نرى من واجبنا تضمينها رسالة مشيخة العقل والمجلس المذهبي التي أطلقناها منذ اليوم الأول لتكليفنا وتشريفنا بهذه المهمّة، وهي رسالة الوحدة والتوحيد؛ الوحدة الداخلية على صعيد الطائفة «المعروفية» بما تتضمنُّه من معاني الإيمان والإحسان و»حفظ الإخوان»، والوحدة الإسلامية الإسلامية على صعيد الطائفة الإسلامية الكبرى بما تَعنيه من ترفُّعٍ عن الحزازات والعداوات والاختلافات ومن اعتصامٍ بحبل الله؛ «وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا»، والوحدة الإسلامية المسيحية على مستوى الوطن والمنطقة بما تحتويه من مبادئ الاحترام والحوار وعدم الإكراه؛ «لا إكراه في الدين»، وفي هذه وتلك مسيرة فكرٍ وعملٍ وهدمٍ للجدران وبناءٍ للجسور، مدركين أنّ الغنى يكمن في التوُّع، وأنَّ نعمة العقل تفرض علينا تقديرها أوّلاً، وتدعونا لتذليل العقبات والمعوقات المتربِّصة بنا هنا وهناك، لكننا واثقون «أنّ لله رجالاً إذا أرادوا أراد»، وأن مساحة الخير ستتسع، وإرادة الحقّ ستتغلّب في النهاية على إرادة الباطل؛ «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» صدق الله العظيم.

إنَّها رسالتُنا إلى جميع اللبنانيين والموحدين أينما كانوا، تُحمِّلُنا وتحمِّلُهم المسؤولية في مواجهة التحديات والعواصف التي تكاد تدمِّر المجتمعات والأوطان؛ مسؤولية القيادات الروحية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومسؤولية الرُّعاة وأُولي الأمر على كلِّ المستويات؛ الداخلية والخارجية، الرسمية والشعبية؛ «فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه»، وكلٌّ يتحمَّلُ المسؤولية على قدر موقعِه وطاقتِه وتأثيره، ولكن ما ليس مقبولاً هو أن يتحوَّلَ الوطنُ إلى ساحة مستباحة للصراعات، وأن يُحمَّلَ أكثرَ ممّا يحتمل من أعباء، وأن يُترَكَ الشعبُ في معاناته المعيشية والاجتماعية يواجه مصيره المشؤوم بعجزٍ ويأس، وأن يتنكّر أهلُ الحكم لمسؤولياتهم ويتقاذفونها كما كرةُ اللعب فتضيع وتضيع معها المؤسساتُ الحافظة للوطن والناهضة به، ويتشتّت أو ينزوي الشبابُ وأصحابُ الكفاءات، بدلاً من احتضانهم وفهمهم والأخذ بأيديهم وإطلاقهم على الطريق الصحيح والاستفادة من قدراتهم واستثمار طاقاتهم.

أمّا القضية الفلسطينية فلا تزال تقلق الأمّة، في عالَمٍ تطغى فيه القوة المتغطرسة على الحقّ المسلوب والمُغتصَب، بينما المطلوب تضافر الجهود لردع العدوان بالوسائل السلمية أولاً وباحترام القرارات الدولية وحفظ حقوق الشعوب، وبوسائل المواجهة المشروعة ثانياً، والتي توجبُ وحدة الشعب الفلسطيني والاحتضان العربي لهذه الوحدة والتضامن الإسلامي والعالمي لنصرة الحقّ.

ختاماً نقول: كم من الأحلام تذهب سُدىً في غياب القانون والعدالة والنظام والتخطيط! وكم من الأوطان تتدهور وتفقد هيبتَها إذا لم تلتقِ فيها إرادات الوحدة والتعاون والنهوض! وكم من الرؤى تتلاشى إذا لم تتماشَ مع العصر والتقدُّم! ولكن وفي الوقت نفسه، كم وكم من الآمالِ تتغلَّب على مشاعر اليأس والأسى! وكم من الطموحات تتحقَّق إذا ما تلاقت العقول وتعانقت القلوب وإذا ما وضع الجميع مصلحة الشعب والوطن فوق كلّ اعتبار وإذا ما انطلق الجميعُ إلى ميدان المحبة والعمل إرضاءً للضمير وللناس ولله أولاً وأخيراً!؛ «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ». صدق الله العظيم.

انتفاضة راشيّا ضدّ السُّخرة (1878)

تزامنت انتفاضة راشيّا (1878) مع انتفاضةِ أخرى في قرية المطلّة أسفل وادي التّيْم ذات السكن الدرزي وشيخها وقائدها علي الحجّار الذي ضاقت السلطة العثمانية ذرعاً به بعد الانتفاضة، كما ضاق بوجوده المستوطنون الصهاينة فدبّر الفريقان اغتياله في العام 1895 الذي آل عمليّاً إلى استيلاء الحركة الصهيونية على المطلة وتشريد سكانها في قرى المنطقة وجبل حوران.

1. الظروف العامة

أ- محاولة السلطة العثمانية تحديث الدولة على مقياس الدول الأوروبية، وهي محاولة سابقة لهذا التاريخ، إلّا أنّ جديدها في هذه المرحلة كان تنصيب السلطان عبد الحميد في سنة 1876، واستعانته بنخبة متنوّرة وجادة في مشروع التحديث، وأبرزهم مدحت باشا، في مقابل استمرار الطاقم القديم من الولاة والإداريين الذين درجوا على نمط الإدارة السابقة مدعومين من بنية اقتصادية واجتماعية تقليدية. والمثل الأبرز لذلك في هذه المرحلة محاولة السلطان والمتنورين في الإدارة تكريس الحكم الدستوري بإقرار الدستور (المشروطية) في سنة 1876، ثم تجميده في السنة التالية. وعبّرت هذه المحاولة عن الصراع بين مشروع تحديث الدولة و«مشروع» الإبقاء على طبيعتها التقليدية، سياسياً وإدارياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً، ولكل منهما قواه، فحملت نخب مدينية في إستانبول ومراكز الولايات همّ تقليد التجربة الرأسمالية في إنتاج السلطة، ولم تكن البُنى الإدارية في الدولة تحاكي هذا النزوع، لا بل تصدت له مركزياً ومحلّياً، وكان مدحت باشا والياً على الشام.

ب- اشتداد صراع الدول الأوروبية على الدولة العثمانية، وكانت أحداث بلاد الشام ما بين 1831 و1861 نموذجاً عنه؛ إنْ بالتدخل لمواجهة الحملة المصرية أو في الأحداث الطائفية بعدها، وتكرّست، رسميّاً، في نظام المتصرفية وحكمها الذي تلازم، عربيّاً، مع احتلال تونس (1881) وفرض الحماية على مصر (1882).

ج – نشاط الحركة الصهيونية في شراء الأراضي في فلسطين وإقامة المستعمرات عليها التي شهدت في هذه المرحلة تجدّدها.

د- إقدام السلطة على التشدد في تطبيق قانون التجنيد الإجباري، وهو قانون صدر في سنة 1260ه / 1844م، وعُدّل في سنة 1870 لجهة شموله وتخفيض أعوام الخدمة.

ه- صدور قانون الأراضي (1858) وقانون الطابو (1859) اللّذَين استُكملا بصدور قانون الجزاء (1284هـ / 1867م)، و«مجلة الأحكام العدلية» (1285 – 1283هـ / 1868 – 1882م)، ولم يُعرف ما إذا حدثت عمليات تلاعب بالقوانين الصادرة في هذه المرحلة، وأهمها قانونا الأراضي (1858) والطابو (1859) اللذان استهدفا تشجيع الزراعة وحماية حقوق العاملين فيها، خلافاً لما كان سائداً، وذلك على قاعدة الحفاظ على الوضع السابق وشرعنته، فضلاً عن خدمة مصالح المتنفذين الجدد، وقد حدث مثل ذلك في البقاع.

٢. الظّروف الدرزية

تزامنت انتفاضة راشيّا (1878) ومثلها انتفاضة المطلّة مع حالتَي اعتراض واسعتين وعميقتين بين الموحدين الدروز:
الأولى في الشوف ووادي التّيم وما بينهما في البقاع وتعود إلى الحَيْف الذي لحق بهم في تسوية العام 1860 وما كبدتهم من اضطهادٍ وتشريدٍ لقادتهم ووجهائهم، ومن خسائر اقتصادية ومالية باهظة استمرت مفاعليها لفترة طويلة، وتنبئ وثيقة عثمانية في ذاك العام عن تخوّف من حادثة بسيطة وقعت في 25 كانون الثاني 1876 (مشاجرة بين ماروني ودرزي في عبيه جُرح الثاني فهاجم أقارب الجريح مع 200 رجل بقيادة شيخين من آل نكد الحي المسيحي وهددوا سكّانه بالقتل إلّا أنّ المتصرف رستم باشا سارع لتوقيف الشيخين مع 18 درزياً وتوقيف المعتدي).

الثانية في حوران؛ إذ شهد جبله نزوحاً كثيفاً من دروز الشوف ووادي التيم واقليم البلّان وصفد، وبعضهم من المشاركين في أحداث العام 1860، وكان تيّار في السلطة العثمانية مدعوماً من السلطة الفرنسية يعمل لملاحقة هؤلاء بذريعة ردّ المسروقات، وكان النازحون من فعل أحداث الستين يجهدون لتأمين لقمة العيش بالتوسع في جوار موطن من سبقهم من أبناء طائفتهم، سكناً في القرى الخْرٍبة وزراعة ورعياً في الأراضي الخصبة، فكان الصدام المتكرر مع مَن هم في جوارهم، وتمثل بُعيد سنة الانتفاضتين بقتال بين الدروز وأهالي بصرى الحرير في أيار – كانون الأول 1879، وسعي السلطة لردع اعتداءات الدروز مع تفضيلها الحل السلمي بتسليم من بقي حياً من القتلة.

وارتبط بهذين الاعتراضين وعبر عنهما حركة النزوح الكثيفة من الشوف ووادي التيم والجليل الأعلى نحو حوران؛ إنْ هرباً من الاضطهاد، كما في أحداث 1860 وبعدها حين فرضت السلطة العثمانية التجنيد الإجباري وحين قامت بعمليات اعتقال واسعة بعد أحداث 1860 في مناطق راشيا وحاصبيا وإقليم البلان (1860-1862)، أو طلباً للاسترزاق كما حصل إبّان التشدد لانتزاع ملكيات الاقطاعيين الدروز في البقاع وما يعنيه من تشريد الفلاحين (1860-1872)، وفي العام 1867، إبَّان نقص محصول الحرير وقلة الأراضي الزراعية واضطهاد الموالين للغرضية الجنبلاطية. أو نجدة لربعهم،كما في معارك جماعتهم مع السلطة أو الجوار تمثل بالنجدة للمقاتلين الدروز في جبل حوران، كما حصل في أحداث الكرك (1881) ، وأحداث المِسمية وشعارة (1886) ، وأحداث مجدل شمس – حوران (1894 – 1896)، وأحداث 1905 وقد كانت التعليمات العثمانية بالتشدد في منعها وإرسال قوى عسكرية إلى منافذ طرقها.

٣. الظروف المَحليّة

انعكست الظروف العامة والدرزية على الظروف المحلّية وظهرت في:
أ – اصطدام محاولات فرض تجربة التحديث للإنتاج «الديمقراطي» للسلطة بالإنتاج الزعاماتي التقليدي، وخصوصاً في الأرياف، إذ رافق محاولات تحديث الإدارة، ولا سيما بناء جيش حديث، في الدولة العثمانية رفض السكان ذلك، والإصرار على التهرب منه ومواجهته، كما قوبل إصدار قانون الأراضي وقانون الطابو وما استتبعهما، وهما قانونان أريد بهما تمليك الفلاحين وتعزيز الإنتاج، بحركة التفاف من النافذين والملتزمين السابقين للأراضي والتجار والإداريين من جهة، وبثقاقة تقليدية قائمة على الولاء للنافذ – الزعيم من جهة ثانية، وبجهل العامة لمندرجات القانون من جهة ثالثة. وجرت بفعل ذلك عمليات تملّك للأراضي من طرف النافذين والتجار، عبر تحايل على القانونَين أفقد الفلاحين مصادر رزقهم وحوّلهم إلى أجراء، من دون أن يعوا مبكراً مخاطر ما حدث، وقد ذكرنا، آنفاً، مثلا عن ذلك في البقاع.

ب – استهداف حركة الاستيطان الصهيونية المناطق السهلية في فلسطين، والحولة أكثرها سهلية وخصباً، وكانت أولى المستعمرات في طبرية وصفد.

ج – حركة النزوح الكثيفة من الشوف ووادي التيم وإقليم البلان والجليل الأعلى نحو حوران؛ إمّا هرباً من الاضطهاد، كما في أحداث 1860، وحين فرضت السلطة العثمانية التجنيد الإجباري وحين قامت بعمليات اعتقال واسعة بعد أحداث 1860 في راشيا وحاصبيا وإقليم البلان (1860-1862)؛ وإمّا طلباً للاسترزاق مثلما حدث في أثناء التشدد لانتزاع ملكيات الإقطاعيين الدروز في البقاع وما يعنيه من تشريد الفلاحين (1860 – 1872)، وكما وقع في سنة 1867، في إبان نقص محصول الحرير وقلة الأراضي الزراعية واضطهاد الموالين للغرضية الجنبلاطية؛ وإمّا نجدة لربعهم، كما في معارك جماعتهم مع السلطة أو الجوار تمثل في النجدة للمقاتلين الدروز في جبل حوران، مثلما جرى في أحداث قرية ّالكرك الحورانية (1881) وأحداث المسمية وشعارة (1886).

وأحداث مجدل شمس – حوران (1894 – 1896)، وأحداث 1905، وكانت التعليمات العثمانية بالتشدد في منعها وإرسال قوى عسكرية إلى منافذ طرقها.

ويتبدّى النزوح من قرى الوادي بفعل الملاحقات من جهة والهرب من الخدمة الإجبارية من جهة ثانية ومواجهة الأزمات المعيشية من جهة ثالثة وفي استعراض أصول عائلات في الجبل من كل قرى المنطقة، وكان لبعضهم مشاركة فاعلة في عمليات التوسّع والقتال، وأبرزهم أحد زعماء الوادي، محمّد نصار، وذويه.

د – الوضع الاقتصادي المتردي، وقد عبّرت لسان الحال عن ذلك في الأعداد المتزامنة مع الانتفاضة، وتمثل التردّي في العوز والضنك وارتفاع الأسعار وتفاقم العسر وانتشار الجراد وهلاك الماعز وكثرة الثلوج، ويظهر تقرير للقنصل الفرنسي بتاريخ 7 حزيران 1877 ونشره قيس فرّو في كتابه تاريخ الدروز خلافاً بين الفلاحين في راشيا حول الأراضي ومصادر المياه (حزيران 1877).

ه – تردي الوضع الأمني، إذ ذكرت لسان الحال في سنة 1878 العديد من حوادث السلب والتشليح والقتل في كل من: إبل السقي (تموز / يوليو)؛ حاصبيا (حزيران / يونيو)؛ طريق صيدا – صور (تشرين الأول / أكتوبر)؛ راشيا (تشرين الثاني / نوفمبر)؛ جسر الغجر (تشرين الثاني / نوفمبر)؛ كفر كلا (كانون الأول / ديسمبر).

٤. انتفاضة راشيا

وقعت في أواخر تشرين الأول وأوائل تشرين الثاني 1878 وكانت أكثر محدودية من انتفاضة المطلّة التي سبقتها( شباط 1878) وأضيق تأثيراً، إذ استمرت مفاعيلها حتى نهاية العام، وقضيتها السخرة، إذ مسك العساكر في راشيا بغلاً لرجل من آل القزّاز من ظهر الأحمر لتسخيره إلى دمشق فحشد له جماعة من دروز راشيا وتضارب الفريقان وكان الضرب مبرحاً للعسكريين الذين فروا إلى السرايا فاستنفر ضابطهم وأرسل 24 نفراً لتأديب الضاربين فحاولوا اعتقال محمّد سيّور، أول من تحشّد وأغرى الجميع به، فكثر تجمع الدروز للحؤول دون ذلك ولم يفلح إطلاق النار في الهواء في تفريقهم، لا بل شجع الدروز على استحضار أسلحتهم وإطلاق النار على العسكر فجرح عشرة منهم ودرزي واحد، كما وفد الدروز من القرى المجاورة لمحاصرة السرايا، فاشتد التصادم بإمساك الدروز اثنين من العسكر وقتل العسكر، بالنار، اثنين من الدروز، ثم تدخل مشايخ بيت العريان «المشهورين بحب السلام» والشيخ يوسف زاكي للتهدئة وقد هدأت، إلّا أنه استمر تحشد القوى الدرزية باتجاه راشيا في حين هرب النصارى. ولم يرد في الأعداد اللاحقة من الجريدة ما يشير إلى تجدد الاشتباك، كما لم يرد في أي مصدر آخر خبر عنها.

إلّا أنّ وقْعَ هذه الانتفاضة كان مؤثّراً، فقد استنفرت قوى السلطة فيما يتجاوز حدود القضاء، فقدم قائمقام العسكر، يوسف باك، ومعه 50 خيالاً وحسن آغا بوزق وحضر متصرف حوران، عثمان بك، ومعه 40 خيالاً ثم حضرت فرقتان من العسكر المشاة، وبعني هذا تحسباً وحذراً شديدين عند أركان السلطة بإرسالها قائمقام العسكر (العسكر المركزي) وقائمقام قضاء آخر، وبالتحديد حوران، لما له خبرة بالدروز، فضلاً عن عدد الخيالة المرسل، إذ قدِّر بحسابات وقته.

كما حرر واثق باشا، متصرف بيروت، ومرجعيون تابعة له، إلى قائم مقاميات الأقضية حول كثرة التعديات في بعضها، على ما اتضح في حال حاصبيا وراشيا ومرجعيون، فألقى أحدهم، قائمقام صيدا، على 11 شقياً من البدو وأرسلهم إلى مركز متصرفية في بيروت.

وتظهر الدلالة المؤثرة للانتفاضة في التعليقات عليها؛ إذ ختمت «لسان الحال» رواية الخبر بالقول إنّ الدولة لا تحب زيادة المشاكل والدروز ليس من صالحهم تحريك أمر يأتي عليهم بالخسران وأردفت: «إلّا أنّ وجود بعض الأشقياء في القضاء يكثرون الاعتداء ولا يهابون أرباب الأمور يحمل الأهالي على التحسب» .

كما نشرت «لسان الحال» رسالة طويلة لمراسلها في الشام يردّ فيها على القائلين نَسْب حوادث راشيا «لضغائن قديمة» ويردها إلى عدم كفاءة المأمورين وعدم مراعاتهم الوقت والمقام وأطباع الأهالي من جهة، وتدني رواتب العسكريين من جهة ثانية، وتجاوز حدود الأمر المُعطى من جهة ثالثة» .

تؤشر معطيات الانتفاضة إلى مشاركة سكان القرى المجاورة في التحشد، وإنْ لم تسم، فقد كان تحشد القرى على مرحلتين: الأولى حين الحادثة ويفترض التحشد من القرى الملاصقة لراشيا، والثانية، بعد الحادثة، إبان وفود القوات الإضافية، ويفترض التحشد من قرى المنطقة كلها.

والجدير ذكره أنَّه لم يرد في حوران في الوثائق العثمانية وثائق عن الانتفاضتين، وقد يكون ذلك لاهتمام الباحث بوثائق حوران، وما ورد فيه عن منطقتي الانتفاضتين وثيقتان في 10 كانون الثاني 1877، و31 أيار 1878 ووضع لهما الباحث عنوان «خلاف بين دروز حاصبيا والمتاولة (1878)، استناداً إلى مندرجات الوثيقتين «تحويل البرودة والخلاف بين دروز حاصبيا والمتاولة إلى احترام ووفاق» . وما ورد في «لسان الحال» يمتّ بصلة لموضوع الوثيقتين مقدمة خبر عن مقتل خليل وعباس من سكان حاصبيا على جسر الغجر وتتحدث المقدمة عن التباعد بين الدروز والمتاولة.

إلّا أن التدقيق في الوثيقتين يردُّهما إلى أحداث في راشيا غير معروفة في الوثيقة الأولى 10 تشرين الثاني 1877 وكذا في الوثيقة الثانية (31 أيار 1878)، وقد تكون أحداث الوثيقة الأولى الخلاف الذي أشار إليه فرّو بين الفلاحين في راشيا حول الأراضي ومصادر المياه (حزيران 1877).
ففي التقرير، الرواية واضحة أكمل عثمان بك متصرف حوران التحقيقات التي كُلِّف بإجرائها في راشيا واتجه إلى قضاء القنيطرة واتخذ بانياس التابعة للقنيطرة مركزاً له والقنيطرة (التابعة لمتصرفية حوران) بينما قضاء راشيا تابع لمركزا لولاية مباشرة (دمشق) ولا وجود للشيعة فيها، الأمر الذي يعني استمرار مفاعيل الحدثين اللذين عرفتهما راشيا، وقد يكون الاجتماع بوجهاء الأقضية المجاورة، وكل تابع لمتصرفية (مرجعيون – بيروت، حاصبيا وراشيا – دمشق القنيطرة – حوران) تحسُّباً لخلاف محتمل أو ذريعة لضبط ذيول الانتفاضتين في المطلة – مرجعيون – حاصبيا وراشيا، وبخاصة أنَّ خطوات أخرى اتخذت، ومنها تكليف نجيب بك قيس بضبط حاصبيا (تموز 1878).

وقد يبدو في وصف ما حدث في راشيا بالانتفاضة مغالاة في ذلك، وقد يكون ذلك لمحدودية المعلومات التي عُرفت عنها، لكن الاهتمام الذي أولته السلطة يقود إلى أهمية ما حصل الأمر الذي يرقى إلى استنتاج وصفها بالانتفاضة وذلك لـ:
1. مواجهة العسكر، بحد ذاتها، وهي مواجهة ذات دلالة للهيبة التي كانت تتمتع بها قوى السلطة والقمع الشديد الذي تمارسه.
2. تحشد القرى المجاورة، وهي قرى تتجاوز منطقة راشيا الحالية وتمتد إلى قرى حاصبيا وقرى في الاقليم (سوريا راهناً)، وقد سبق ذلك تحشد مماثل في انتفاضة المطلّة استدعى الطلب إلى زعماء الشوف التدخل لإنهائه.
3. حضور أكثر من والٍ عثماني إلى راشيا وحشد السلطة قوى عسكرية مركزية ومن الألوية الأخرى، وما يعني ذلك من ضخامة ما حدث.
4. حضور الوادي الفاعل في عاصمة الولاية، دمشق، فقد سُمي الحي الذي ما زال الدروز يقطنونه في دمشق، باب مصلّى، بحي التيامنة، وكان لهذا الحي حضوراً في حوادث دمشقية كما كان لموقع الوادي على الطريق بين دمشق وبيروت أهمية عُرِفت إبّان المعارك ضد قوات ابراهيم باشا وإبّان الثورة السوريّة الكبرى عام 1925.

العدد 38