«حرب الإخوة» التي غيّرت تاريخ لبنان
300 سنـة علـى معـركة عيـن داره
صـــراع العائـــلات أضعـــف الموحديـــن الـــدروز
وأجهـــض إمكـــان استعادتهـــم لإمـــارة الجبـــل
قيـــام جبــل الــدروز فــي منطقــة حــوران
مــن أبــرز نتائــج معركــة عيــن داره
.
عين داره في الجغرافيا بلدة من مقاطعة الجرد في قضاء عاليه حالياً، كانت المدخل الشرقي إلى جبل لبنان من ناحية ضهر البيدر، وكانت في التاريخ مدخلَ العشائر التي نزحت إليه من معرّة النعمان وجهاتها في شمال سورية، ابتداءً من سنة 759 م، وميدانَ الموقعة التي جرت بين فريقين من أحفاد هذه العشائر في سنة 1711م. وهذه الموقعة محطة مهمة، ومفصل من مفاصل تاريخ لبنان، إذ أنها تمتاز عن سائر المواقع الحربية، بما في ذلك الأكبر منها، بنتائجها الكثيرة والخطيرة، ليس على الصعيد العسكري فحسب، وإنما أيضاً على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي. وهذه النتائج ظلّت تتفاعل في لبنان، وتجاوز تأثيرها حدوده ليصل إلى جبل حوران (جبل العرب أو محافظة السويداء حالياً في الجمهورية العربية السورية).
لكل مكان اسم يُعرف به، ويميّزه عن غيره. ومعظم أسماء المكان لها تفسيرات عدّة، ومنها عين داره التي من تفسيراتها أنها «عين الحرب والقتال» وموقعتها الشهيرة أضفت عليها هذا المعنى فبدا أقرب إلى الأذهان من معناها المرجّح، وهو «عين البيوت والمساكن».
توفي الأمير أحمد المعني سنة 1697 من دون عقب من الذكور، فانتهت بموته سلالة البيت المعني الحاكم. وكان على أعيان الموحدين الدروز أن يختاروا، بموافقة الدولة العثمانية، أميراً يخلفه على ما سمي «إمارة ابن معن». وبحسب المراجع المحلية اجتمع مشايخ البلاد من المقاطعات السبع، وهي الشوف والمناصف والعرقوب والجرد والمتن والغرب والشحّار، واختاروا الأمير بشير حسين الشهابي، أمير راشيا، أميراً عليهم، وهو ابن أخت الأمير أحمد المعني، وأعلموا والي صيدا، مصطفى باشا، واستأذنوه في تولية الأمير بشير عليهم، فقبل بذلك، وأخبر الدولة العلية العثمانية. لكن الباب العالي أخذ برأي حسين ابن الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي أبقاه السلطان العثماني حيّاً بعد إعدام أخوته ووالده فخر الدين سنة 1635، ورُبَّيَ تربيةً عثمانية. وكان رأي هذا الأخير أن يكون الأمير حيدر ابن أمير حاصبيا موسى الشهابي، وابن بنت الأمير أحمد المعني، حاكماً على مقاطعات ابن معن. وبما أن حيدراً كان لا يزال صغيراً، وعمره اثنتا عشرة سنة فعندها يتولى الأمير بشير الإمارة بصفته وكيلاً أو وصياً إلى أن يبلغ الأمير حيدر سن الرشد. هذا ما ورد في مرجعين محليين، هما تاريخ الأمير حيدر الشهابي، وكتاب أخبار الأعيان في جبل لبنان للشيخ طنّوس الشدياق. ولا يسعى المؤرخ إلا أن يأخذ بهما بحذر وأن يناقشهما إذا كان هناك مجال للمناقشة، إلى أن يظهر من الوثائق العثمانية المحفوظة في اسطنبول ما يخالفها كلياً أو جزئياً.
لم تذكر المراجع المحلية أعيان الموحدين الدروز الذين اجتمعوا وقرّروا تولية الأمير بشير الشهابي، وإنما ذكرت أن الذين اختاروا بشيراً كانوا من القيسيين، وإنهم اجتمعوا في مرج السمقانية، وفضّلوا أن ينصِّبوا عليهم أميراً قيسياً من خارج منطقتهم بدلاً من اختيار أحد الأمراء اليمنيين، وذلك لأنه وبعد موت الأمير أحمد المعني، الذي كان يتزعّم حزب القيسية، لم يعد هناك أمير قيسي في منطقهم، لأن الأمراء الدروز المتبّقين كانوا من آل إرسلان اليمنيين الذين تراجع دورهم بعد تسلّم الأمراء التنوخيين ثم المعنيين الإمارة، كان هناك أيضاً آل علم الدين اليمنيين الذين كانوا مرفوضين من القيسيين بعد الصراعات الدامية التي نشبت ابتداءً من سنة 1633 بين القيسية بقيادة المعنيين، واليمنية بقيادة آل علم الدين. وقد جاء اختيار أعيان الدروز القيسيين للأمير بشير الشهابي من منطلق أنه من الحزب القيسي، وأن لأسرته تاريخاً طويلاً من التعاون والمصاهرة مع المعنيين. ولم يكن عندهم أي اعتبار لاختلاف مذهب الأمير الشهابي السني عن مذهبهم، بل كان منطلقهم الأساس هو عامل الانتماء الحزبي الذي غلّبوه على عامل الانتماء المذهبي، مع الإشارة إلى أن بعض المؤرخين يطرحون احتمال درزية الشهابيين. فالتحالفات السياسية كانت آنذاك قائمة على عامل وحدة المصالح والتقائها، لا على عامل وحدة الدين أو المذهب، وهذا وجه من وجوه تسامح الموحدين الدروز الديني مقابل تعصبهم العشائري والحزبي.
لم يقبل اليمنيون بالأمير بشير الشهابي، وأظهروا بوضوح رفضهم هذا الاختيار، ومعارضتهم له، لكنهم لم يقرنوا ذلك بالتحرك الميداني، نظراً لأن الأمير بشير كان قد حظيّ بدعم قوي من الدولة العثمانية ومن والي صيدا تحديداً، كما أنه أظهر في الوقت نفسه مقدرة سياسية وعسكرية، إذ استطاع وهو الوافد من راشيا إلى الشوف والهابط على عاصمة المعنيين دير القمر، أن يفرض هيبته على أعيان الجبل، وأن يوّسع منطقة التزامه الضرائبي لتشمل صفد، وينتصر على آل الصغير وحلفائهم في جنوب جبل عامل في موقعة المزيرعة سنة 1698، ويحصل على ولاء بني صعب أصحاب مقاطعة الشقيف وبني منكر أصحاب إقليمي الشومَر والتفاح. وبذلك استطاع الأمير الجديد وبسرعة أن يملأ الفراغ الذي تركه الأمير أحمد المعني.
الأمير حيدر يغتال الأمير بشير الأول
استأنس الأمير بشير الشهابي بقوته، وارتاح لوضعه واستمر في الحكم بعد بلوغ الأمير حيدر سن الرشد. ولم يكن هناك ما يمنعه من الاستمرار لمدة أطول طالما أنه حائز على رضى والي صيدا ومواظب على تقديم الضرائب المطلوبة منه. ومع تأكد رغبة الأمير بشير في الاحتفاظ بالحكم لجأ الأمير حيدر الذي كان قد بلغ سن الرشد إلى وسيلة لم تكن نادرة في ذلك الزمان، وهي دس السم لغريمه بهدف قتله، وهذا ما تمّ بالفعل إذ نجح الأمير حيدر في تسميم الحلوى المقدمة للأمير بشير وتمكّن بذلك من تصفيته. وقد كان ذلك السبيل الوحيد إلى تسلمه الإمارة التي كانت تعود إليه حسب الاتفاق الذي رعته الدولة العثمانية، وهو نجح في ذلك دونما صعوبة لأن الأمير بشير لم يكن له وريث من صلبه. ولكن على عكس الأمير بشير الذي كان يحظى بالرضى من قبل معظم الأطراف، فإن الأمير حيدر سيواجه صعوبات كثيرة فور تسلمه إمارة ابن معن، ولن يؤدي تسلمه للالتزام الضرائبي في جبل عامل إلى تعزيز وضعه وإنما سيؤدي إلى إيجاد منافس قوي له على السلطة، هو الشيخ محمود أبي هرموش من السمقانية، نائبه في جمع الضرائب من جبل عامل، والمنقلب عليه بتأييد من والي صيدا. وحين عجز الأمير حيدر عن تقديم الضرائب المطلوبة منه للدولة، وعن الصمود في وجه المعارضة اليمنية الممثلة بآل علم الدين وبحليفهم أبي هرموش، ترك دير القمر إلى غزير في كسروان، ثم وبعد طرده منها لجأ إلى الهرمل حيث توارى عن الأنظار لمدة سنة في مغارة فاطمة المعروفة أيضاً بمغارة عزرائيل، ورافقه من أعيان القيسيين الشيخ محمد تلحوق وولده شاهين.
آل علم الدين والإمارة
تسلّم آل علم الدين إمارة ابن معن، إلا أن تجربتهم هذه المرة كانت محكومة بالفشل كتجاربهم السابقة في العهد المعني، إذ لم ينجحوا في كسر حدّة معارضة القيسيين والصمود في وجهها. ويلاحظ أن أحد أحفاد الأمير حيدر الشهابي (المؤرخ حيدر الشهابي) وتلميذه الشدياق تعمدّا تضخيم حالة التذمّر التي سادت الأهلين إزاء محمود أبي هرموش، فصورّاه ظالماً متعسفاً في جمع الضرائب، كما أنهما سوّدا صورة آل علم الدين بجعلهم مُضْطَهِدين للقيسيين يجورون عليهم ولا يبقون لهم منزلة ولا حرمة.
حقيقة الأمر أن الوضع لم يكن مأسوياً وسوداوياً بالشكل الذي صوّره الشهابي والشدياق، إلا أنه لم يخلُ من صعوبات واجهت آل علم الدين اليمنيين وأبا هرموش، على الرغم من الدعم العثماني لهم، لأن القيسيين رفضوا استمرار حكمهم. وقد وصلت العداوة بين الفريقين إلى حد عدم قبول أحدهما حكم الآخر له، بصرف النظر عن حسن إدارته للأمور أو سوئها، وعن ظلمه أو عدله. وقد واصل القيسيون الاتصال بالأمير حيدر وشجّعوه على العودة، وهو الذي كان يراقب ويتابع ما يجري على الأرض، وحين وجد الأجواء ملائمة لعودته ترك مخبأه وأتى إلى رأس المتن ونزل عند الأمير حسين أبي اللمع، وقيل أنه جاء برفقة مقاتلين من آل حماده الشيعة، ووافته إلى هناك جموع القيسيين المؤيدين له.
علم محمود أبي هرموش وآل علم الدين بعودة الأمير حيدر فتجمعوا مع أنصارهم في عين داره، قاعدة آل علم الدين، وانتظروا استكمال حشدهم ووصول والي صيدا ودمشق، للزحف إلى رأس المتن، وكان هذان الواليان أظهرا لهم التأييد فقدم الأول إلى حرج بيروت وقدم الثاني إلى قب الياس. وقبل أن يتقدمّا إلى عين داره، ويكتمل فيها حشد اليمنيين، أقدم الأمير حيدر على مغامرة جريئة هي الهجوم الليلي المباغت المعروف بالمصطلحات الحربية باسم «كبسة»، ففاجأ خصومه ليل الجمعة في 15 محرم 1123 هـ/ 5 آذار 1711 م، وهاجم رجاله عين داره عن طريق وادي الجوز، إلى الشمال الشرقي منها، وعن طريق وادي قطليج الواقع بينها وبين شمليخ، وأحاطوا بها من الشمال والشرق والغرب، وكان اللمعيون في مقدمة الداخلين إليها.
أمراء آل إرسلان يلتزمون الحياد
وكما كان اليمنيون أضعف من أن يستمروا بالحكم من دون دعم فعلي قوي من الولاة العثمانيين، كانوا أيضاً أضعف من أن يواجهوا القيسيين وحدهم في معركة عين داره من دون نجدة من واليي دمشق وصيدا يعولون عليها، خصوصاً بعد أن امتنع الإرسلانيون اليمنيون من الدخول في الصراع العسكري الدائر على الرغم من ميلهم لأبي هرموش. وقد كان تفكير آل إرسلان أنه لو ربح آل هرموش المعركة فإن هؤلاء هم الذين سيجنون مغانمها، وأنهم إن خسروا المعركة فإن آل إرسلان سيكونون أول الخاسرين.
وكما هو معروف فقد أسفرت الموقعة عن مقتل الكثيرين من الفريقين من بينهم عدد كبير من اليمنيين قدّره قنصل فرنسا في صيدا (استيل) في رسالة إلى حكومته بتاريخ 23 أيار 1711 بخمسمائة رجل، ولم يذكر القنصل عدد القتلى لدى القيسيين، كما أسفرت المعركة عن مقتل قادة اليمنيين وعلى رأسهم ثلاثة من أمراء آل علم الدين وأسرِ أربعة منهم أجهز عليهم الأمير حيدر في الباروك، كما تمّ أسر محمود أبي هرموش، الذي عزم الأمير حيدر على قتله، لكنّه نزل عند طلب المشايخ القيسية ولم يقتله احتراماً للقب الباشوية الذي ناله بواسطة والي صيدا، فاكتفى بقطع لسانه وإبهاميه. وحين علم واليا دمشق وصيدا بالنتيجة، رجع كلًّ منهما إلى مقر ولايته استعداداً للتعامل مع الواقع الجديد، إذ لم يكن لهذين الواليين ومن سبقهما وأعقبهما من الولاة العثمانيين، أيّ اهتمام لمن ينتصر أو يخسر من الفرقاء المحليين، بل كان الهمّ الأساسي هو جمع الضرائب واستنزاف قوى الجماعات المحلية المتناحرة وابتزاز أموالها، وإشغال الأمراء المتنافسين بعضهم ببعض بحيث يسهل إحكام السيطرة عليهم وعلى إمارة الجبل. ولم يكن ممكناً لأي فريق منتصر، مهما كانت قوته الذاتية كبيرة، أن يستمر في الإمارة إلا بنيل رضى الولاة والمسؤولين العثمانيين الكبار في الآستانة.
أدّى انتصار القيسية بقيادة الأمير حيدر الشهابي إلى نتائج عديدة ومهمة يمكن إيجازها بما يلي:
1. فشل المحاولة الدرزية (عبر الأمراء اليمنيين) استرداد الإمارة: وبصرف النظر عمّا إذا كان محمود أبي هرموش يسعى للحصول شخصياً على السلطة أو يسعى لإعادة آل علم الدين إلى الإمارة، فإن محاولته التي أدت إلى طرد الأمير حيدر وتسلّم آل علم الدين الإمارة كانت تعني استرداد الدروز لها. وفي ما يتعلق بآل علم الدين فإنهم أحق من الشهابيين بها، لأنهم من سلالة المناذرة اللخميين الذين كانوا ملوك الحيرة لزمن طويل، ثم صار أحفادهم أمراء في جبل لبنان. ولآل علم الدين أنفسهم سابقة في تسلّم الإمارة إبّان العهد المعني، وهم من داخل إمارة ابن معن. وبهزيمتهم، وهزيمة حليفهم أبي هرموش قضي على محاولة الدروز استرداد الإمارة. ولم يقم الدروز بعد عين داره بأي محاولة من أجل إعادة الإمارة إلى صفوفهم، وضاع نتيجة لذلك من تاريخ جبل لبنان لقب « الأمير الدرزي» الذي كان يُعطى للتنوخيين والمعنيين، وحلّ مكانه لقب «أمير الدروز» الذي أُعطي غالباً للأمراء الشهابيين. والفرق بين هذا وذاك واضح إذ أن اللقب الأول يعني الأمير الدرزي المؤمّر على الدروز، فيما اللقب الثاني يعني الأمير غير الدرزي المؤمّر على الدروز وهو أمير شهابي سني.
2. تثبيت دعائم الإمارة الشهابية: كما كان الأمير حيدر بحاجة إلى تصفية سلفه الأمير بشير ليصل إلى سدّة الإمارة، فإنه كان أيضاً في حاجة إلى سحق معارضيه اليمنيين لتثبيت دعائمها. وقد فُسِح المجال له لتحقيق ذلك في موقعة عين داره، إذ تمكّن فيها من أن يقضي على آل علم الدين قبل أن ينتقل إلى تحجيم نفوذ الإرسلانيين اليمنيين. وبهذا أزاح الأمير حيدر منافسيه من زعماء الصف الأول، أي من الأمراء، فيما كان زعماء الإقطاع القيسيون مؤيدين له، لكنهم جميعاً من الصف الثاني لا يحملون لقب «أمير» ولا يحق لهم تسلّم الإمارة، وهم سيستمرون في تأييده لأنه نجح في استرضائهم والتقرّب منهم خصوصاً عندما أعاد توزيع الإقطاع، فرضوا بمراتبهم ولم يطمحوا إلى خرق السقف الموضوع لهم. وبتغييب وغياب زعماء الصف الأول بات على كل معارض من زعماء الصف الثاني يريد أن يخلع أميراً من أبناء وأحفاد الأمير حيدر الشهابي أن يسير تحت لواء أمير شهابي من ذرية الأمير حيدر.
3. نهاية الحزب اليمني: معروف أن النزاع القيسي اليمني قديم جداً بين القبائل العربية، وهو كان قائماً في مختلف المناطق التي أقاموا فيها، لكنّه في لبنان لم يبرز بوضوح إلا في عهد الدولة العثمانية. وتعتبر القيسية-اليمنية نوعاً من الثنائية السياسية التي سميت بالحزبية و”الغرضية” والَمشَرب. وكان التكتلان قد بُنيا على أسس قبلية، لكن الصراع بينهما كان صراعاً على السلطة والنفوذ. ولم يكن الولاء لأي منهما ثابتاً، إذ من الممكن أن يتغيّر تبعاً للمصلحة. وقد استطاع الأمير فخر الدين المعني الثاني أن يجمع تحت لوائه اليمنية إلى جانب القيسية التي يتزعمها، كما جمع أبناء المذاهب الدينية المختلفة. وفي ظل إمارته القوية التقى الحزبان، وبعده وأثناء ضعفها تصارعا، والغالب منهما كان يتسلّم الإمارة. إلا أنه في عين داره انزاح الحزب اليمني نهائياً عن مسرح الصراع، وغاب شعاره الأبيض عن المناسبات والاحتشادات، وطويت صفحة من الصراع الداخلي تحت عنوانه وعنوان الحزب القيسي لتبدأ صفحة أخرى من الصراع الداخلي تحت عنوان حزبين جديدين.
4. انفراد الحزب القيسي بالحكم: كان من نتائج موقعة عين داره نتيجتان متلازمتان، هما نهاية الحزب اليمني وانفراد الحزب القيسي بالحكم، ذلك أن اليمنيين الذين لم يقتلوا في عين داره، قُتل بعضهم بعدها، وهجّر الباقون بسبب التنكيل والاضطهاد، وتحول قسم منهم إلى القيسية وما عادوا يظهرون ميلهم كالإرسلانيين مثلاً، إلا أن الحزب القيسي لم يحافظ على وحدته، بل نشأ فيه حزبان أو «غرضيتان» هما اليزبكية والجنبلاطية، فكان آل جنبلاط زعماء الفريق الجنبلاطي، وآل عماد زعماء الفريق اليزبكي، يساعدهم آل تلحوق وآل عبد الملك لإيجاد نوع من التوازن مع الجنبلاطيين، في ما كان بنو نكد «بيضة القبّان» يرجّحون كفة الفريق الذي يميلون إليه. وهذه الثنائية الجديدة هي مثل القيسية واليمنية نوع من التعددية السياسية الاجتماعية، إلا أنها مثلها أضرت بالموحدين الدروز حيث توسّلها زعماء الإقطاع في صراعاتهم على النفوذ والسلطة، والتي اتخذت غالباً طابعاً دموياً في الكثير من الأوقات والأماكن فكان انشغالهم، وإشغال غيرهم من مساكنيهم ومجاوريهم، بها تعويضاً تافهاً عمّا فقدوه من نفوذ.
5. نكبة الأمراء اليمنيين مهدت لإعادة توزيع الإقطاع ومكّنت الأمراء الشهابيين من أن يضعوا يدهم على أملاك شاسعة للدروز.
6. إعادة توزيع الإقطاع: سمح الانتصار في عين داره للأمير حيدر أن يعيد توزيع الإقطاع بشكل يرسّخ دعائم سلطته، ويحفظ التوازن في إمارته، ويجعله في عداد أصحاب الثروة والأملاك في جبل لبنان. اقتص من الأمراء الإرسلانيين باقتطاع الغرب الأعلى من الأمير يوسف وإعطائه للشيخ محمد تلحوق وأخيه بشير. وزاد في إقطاع حليفه الشيخ قبلان القاضي فأعطاه إضافة إلى الشوف الذي كان معه، بعض مقاطعة جزين، وما لبث معظم إقطاع قبلان القاضي أن تحول إلى صهره الشيخ علي جنبلاط مما جعل آل جنبلاط يقفزون إلى مرتبة متقدمة بين الأسر الحاكمة. وأقطع الأمير حيدر الشيخ علي النكدي الناعمة إضافة إلى مقاطعة المناصف التي كانت معه، والشيخ جنبلاط عبد الملك مقاطعة الجرد. وصاهر الأمير حسين أبا اللمع، وأقطع ابنه ما يُسمّىً «قاطع المتن». وأبقى الأسر الإقطاعية التالية في إقطاعاتها: آل الخازن في كسروان، وآل حبيش في غزير، وآل الدحداح في فتوح كسروان، وآل عازار في الكورة، وآل الضاهر في الزاوية. وهذا أوجد مجموعة من زعماء الصف الثاني متنافسة في ما بينها، تاركة المرتبة الأولى للأمير حيدر ثم لخلفه من ذرّيته. وكان للأمير حيدر حصّته، اذ احتفظ لنفسه بقرى بعقلين وبتلون وعماطور وعين داره ونيحا. وحاول أن يضع يده على كامل تركة قبلان القاضي بعد وفاته سنة 1712، لكن زعماء الدروز حالوا بينه وبين ذلك فاكتفى بأخذ مزرعة بحنين ومرج بسري وخمسة وعشرين ألف غرش مقابل التخلي للشيخ علي جنبلاط عن باقي ورثة عمه قبلان القاضي. وحذا خلفُ الأمير حيدر حذوه فغدوا من أصحاب الثروة والأملاك في جبل لبنان بعد أن كانوا لا يملكون شبراً من الأرض فيه.
من أبرز نتائج موقعة عين داره تصفية الحزب اليمني وانفراد القيسيين بالحكم
7. ضعف الموحدين الدروز: كانت السيوف التي تضاربت في موقعة عين داره، كما قبلها من مواقع القيسية مع اليمنية في جبل لبنان، سيوفاً درزية. وقد قضت فيها السيوف القيسية على اليمنية. وما خدم الدروز المنتصرون أنفسهم بهذا، وإنما أرضوا كبرياءهم وعصبيتهم الحزبية بنصر آني لا قيمة له إزاء خسارة إخوان لهم، وخسارة إمارة ما عاد في إمكانهم استعادتها بعد أن تخلوا عنها في اجتماع السمقانية وقضوا بأيديهم على محاولة استعادتها. وترافق الضعف السياسي للموحدين الدروز مع ضعفهم اقتصادياً وعددياً بسبب انصرافهم إلى الحرب، فيما كان مواطنوهم النصارى الوافدون من شمال جبل لبنان إلى جنوبه، يتكاثرون في منطقتهم، ويزدادون ثروة بسبب انصرافهم إلى العمل، فقاسموهم الملكية والثروة، ثم النفوذ والسلطة، مما أدى إلى تحوّلٍ كبير ساهم في إحداثه أيضاً تنصّر الأمراء الشهابيين واللمعيين، والتسامح الديني عند الدروز المناقض كلياً لتعصبهم القبلي والحزبي. ومن دلالات هذا التحول حلول تسمية «جبل لبنان» مكان تسمية «جبل الدروز» و”بلاد الدروز”. وحين استفاق الدروز من غفلتهم السياسية وجدوا أنفسهم أمام شريك قوي لهم في جنوب جبل لبنان، يفوقهم عدداً وثروة، ولا يقابلهم بسياسة مماثلة في التسامح، مما كان أحد أسباب الفتن الطائفية بينهم وبين النصارى في أواسط القرن التاسع عشر.
8. نزوح اليمنيين الدروز إلى جبل حوران: كان النزوح إلى جبل حوران في سوريا الخيار الأول لليمنيين من بين المناطق التي اضطروا للنزوح إليها، لأنه وفّر لهم الملجأ الأمين وسُبل العيش معاً، وإن كان وجودهم فيه سيضعهم أمام مواجهات صعبة مع البدو من سكانه. وهذه المواجهات انتصر فيها الدروز لأنهم متمرّسون في الحروب، وقد سبقتهم إلى جبل حوران جماعة درزية نزحت إليه في سنة 1685، وكانت تلك الموجة نواة لاستقطاب موجات تالية ثم استقطاب النزوح الكبير الذي نجم عن معركة عين داره سنة 1711.
غنيّ عن القول إن موجة النزوح الكبيرة التي تسببت بها معركة عين داره أدت إلى تزايد أعداد الدروز في جبل حوران، والذي سميّ لذلك باسمهم (أي”جبل الدروز”) وقد أسّسوا فيه زعامة على رأسها آل حمدان ثم آل الأطرش. وهذا التجمع الدرزي كان تعويضاً للدروز عمّا فقدوه في جهات حلب بفشل ثورة علي باشا جنبلاط سنة 1607، وعمّا فقدوه في جبل لبنان بعد موقعة عين داره سنة 1711، وكان لهذا التجمع شهرة كبيرة، ودور بارز في التصدّي للحكم المصري والحكم العثماني، ومساهمة كبرى في الثورات الاستقلالية ضد الفرنسيين، وأهمها الثورة السورية سنة 1925، التي انطلقت من جبل الدروز (جبل العرب) وأعلنها وقادها أحد رموز الموحدين الدروز، سلطان باشا الأطرش.