السبت, نيسان 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, نيسان 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

دروز بلغراد

ربيع جابر في روايته الأخيرة «دروز بلــغراد»

استحضار روائي من عــتمة التاريخ

غسلوا رأسه ورقبته ويديه وما استطاعوا من بدنه بقميص مبلولة. اصطفّوا واقفين كأنّهم في جنازةٍ فوق الأرض وأدّوا الواجب. عزّوا قريبَه وشدّوا على يده واحدًا واحدًا

“دروز بلغراد” هي رواية العام 2011 في سجلّ الرّوائي ربيع جابر، الذي أصدر في عشرين عاماً سبع عشرة رواية وفقاً للائحة مؤلّفاته الأخيرة. روايته الأولى “سيِّد العتمة” نالت في عام 1992 جائزة مجلَّة “الناقد” للرواية، حيث رأت فيها لجنةُ التّحكيم “جنساً أدبيّاً يسعى لتعزيز شخصيّته الخاصَّة”، حكى فيها أجواء قرية لبنانيَّة في العهد العثماني، وما تبقّى في الذاكرة من آثار “الجوع المذِلّ والعاطفة المتأجِّجة والتّصدّي للقهر”.
الروايات الست التي تلت باكورته المنشورة، بدَت كأنّها إيغالٌ في وضع النّزعة الطبيعيَّة للسّرد لديه فوقَ سكَّة نهجٍ حكائيّ ليغذّي “شخصيّته الخاصَّة” عبر استِبار الإمكان الرّوائيّ لوقائع لافتة ومغريَة ومثيرة لشهيَّة الكتابة القصصيَّة التي ينجذبُ نحو اكتمالها كفراشةِ النار. هكذا، هامَت في رواق الرّوائيّ الشاب أطياف شتّى. الشاب السّارب وسط رماد المدينة (شاي أسود، 1995)، المخرج مارون بغدادي الذي هوى في حجرة مصعد مظلم (البيت الأخير، 1996)، الأستاذ الجامعي المنتحر صاحب التحليل النفسي لعاشوراء (رالف رزق الله في المرآة، 1997) وفراشات وأمير وسحَرة وذرائع للخروج من فجوةِ اصطراع بين يقين التصديق بوهميَّة العالم، وشغف ابتداع النّص كأنّه هوَ عين الواقع.

بدايات
وُلد جابر عام 1972 في “مستشفى صغير محتهُ سنوات الحرب عن وجه الأرض”، إذ كان في جوار المتحف الوطني، أي على خطّ التماس منذ عام 1975 واندلاع حروب لبنان. أمضى سنوات اليفاع في الجبل “بين المدارس والملاجئ، وبين الملاعب والحقول وأخبار الاقتحامات والنّزهة إلى خطّ الجبهة حيث المتاريس ومرابض المدفعيَّة”. وفي عام 1989 قصد بيروت لدراسة الفيزياء، لكنّ مساراً آخـر كان في انتظار روحِه في الجامعة الأميركيَّة بعد “اكتشافه”، كما يقول، لـ”كنوز مكتبة يافث”، حيث دلفَ الطالبُ المسكون بهوس القراءة إلى “قبو تحت الأرض غائصاً في أرشيف الجرايد العثمانيَّة”. ويعبِّرُ جابر عن حالته آنذاك قائلاً: “من عام 1992 إلى 1995 عشتُ في القرن التاسع عشر… كنتُ أخرجُ من غرفة الميكروفيلم المظلمة إلى شوارع القرن العشرين المضاءة بالكهرباء فقط كي آخذ حاجتي اليوميَّة من الماء والهواء النقي والطعام”. كان لأثر تلك القراءات، وما واكبها من تكوين الرؤى التاريخيّة للحكايات، نتائج حاسمة في مقاربة ربيع جابر لعمله الروائي الذي تراكم بوتيرةٍ لافتة: “تحوّلتُ إلى شخصٍ آخَـر. أعتقـدُ أن تلكَ كانت البداية الحقيقيّة”.

استحضار التاريخ
تبدّى ذلك التحوّل بشكلٍ جليّ في روايته “يوسف الانجليزي، 1999” التي سردَ فيها حكاية أسرة الشيخ ابراهيم خاطر جابر وأبنائه على خلفيّة تاريخيّة لجبل لبنان في القرنين السابع عشر والثامن عشر، برزت فيها عبر نسيج السرد آثار رؤية شبه أنثروبولوجيّة لعائلة درزيّة، ومحمول ذاكرةِ تعلُّق ثيوصوفي بالأرض ومعناها والدّفاع عنها. ثمّ التحوّلات المعبَّر عنها بالنتيجة التي آل إليها مصيرُ يوسف بن إبراهيم وركوبه البحر مغادراً إلى أوروبا.
تشبَّعَ الإيقاعُ السّرديّ، المتأصِّل عند ربيع جابر، بحسٍّ تاريخيّ دفعهُ الخيالُ دفعاً نحو التماهي الملتبس بين الماضي والحاضر. لذلك، كان قدرُ هذا الرّوائي الانخراط في عمق الخيال لقراءةِ واقعٍ تتطابقُ فيه صورُ القرون الماضيَة بواقع المدينةِ المعاصِر. وعبّر جابر بذاته عن “ماهيّة” ذلك “السّروب الكبير” قائلاً: “لا أسمع صوت بيروت القرن الحادي والعشرين. أحاول أن أضيع في متاهة الوقت. أن أسلك تلك الدروب غير المرئية التي تردّنا إلى الزمن البائد الذي لم نعرفه، ولكنّه حاضر موجود في أعماق الحجارة الباقية في مادة الخيال، في طبقات الطلاء المتراكمة على هذا الحائط، في المجلدات القديمة وفي الصكوك والحكايات.”
ذلك “الإصغاء العميق إلى مجرى الزمن” ولَّد ثلاثيَّة روائيّة عـن المدينة (بيروت مدينة العالم، 2003، 2005، 2007)، حيث تلقّـت مئات الصفحات مثل اندلاقٍ عارمٍ لمخزون هائل من الرؤى التي راكمها الهوَسُ المحموم في إعادة تكوين التاريخ “الخلفي” للمكان وأزمنته بقوّة الإمكان الروائيّ الزّاخر في ذات الكاتب الذي “لا يجيد فعل شيءٍ في حياته سوى كتابة الرّوايات لكي يتأكّد من هذه الحقيقة.”
جاءت روايةُ (الاعترافات، 2008) بعد ذلك كأنّها لتستكمل لوحة بانوراميَّة عن بيروت التي تجد خواتيمها في الزمن الراهن بمأساة الحروب المتناسلة بلا انقطاع. والذاكرة هنا مستباحَة لأطياف المتقاتلين الناهبين فرصة السقوط في الفجوة الهائلة التي تهاوى فيها البلد بعد أن “صيَّره الصّراعُ الدوليّ ما يُشبه قعر العالم”.
(أميركا، 2009) كانت رواية المهاجرين السوريّين إلى العالم الجديد عبر سرد حكاية “مرتا حداد” التي غادرت قرية بتاتر في جبل لبنان لتعبر المحيط وصولاً إلى “إليس آيلاند” بحثاً عن زوجها. لكنّ المسألة تمضي لتروي جانباً ممّا سمِّي “ملحمة الاغتراب” عبر الدخول إلى عالم الحيّ السوري المجاور لوول ستريت في بدايات القرن العشرين، والبدايات المتمثّلة ببيع السّلع بواسطة حمل “الكشّة” والتجوال الحثيث بحثًا عن مقوّمات العيش، والثراء المرتقَب.

دروز بلغراد
يُبنى النصّ الروائي في (دروز بلغراد – حكاية حنّا يعقوب، 2011) استناداً إلى حدَثٍ تاريخيّ وقع إثر “حركة الستّين” (القرن التاسع عشر) التي اجتاحَت بأحداثِها الدامية الأليمة جبل لبنان ووادي التيم ومناطق أخرى مجاورة، حيث سارعت الدول الكبرى آنذاك إلى تشكيل لجنة دوليّة مهمّتها السفر إلى بيروت وإعادة السلام إلى لبنان ودمشق. وقد حدّد “المجلس الدولي” في أولى جلساته التي عقدها يوم الجمعة 5 تشرين الأوّل 1860 في مقرّ المندوب الفرنسي في بيروت أهدافاً لتحقيقها، أوّلها: تقصّي مصدر وأسباب الحوادث التي كانت سوريا مسرحاً لها، وتحديد درجة مسؤوليّة قادة الفتنة ورجال السلطة، والعمل على إنزال العقاب بالمذنبين. أدّى هذا السّياق إلى إلقاء القبض على ألف ومئة وخمسين درزيّاً، تمّ إيداع القسم الأكبر منهُم في سجن المختارة، والباقي في “القشلة البيروتيّة”.
عُقدت الجلسة السادسة والعشرون في 21 آذار 1861، واختُــتم محضرُها بإشارة قيام مندوب السلطان بتسليم اللجنة الدولية لائحة بأسماء الدروز الذين نُـقلوا بناء على أوامره إلى طرابلس الغرب، حيث سيمضون في القلعة عقوبات السجن الصادرة بحقّ كلّ منهم، وقد تضمّنت اللائحة 247 اسماً. ويشير حسين غضبان أبو شقرا (الحركات في لبنان، وهو أحد مصادر ربيع جابر التي يدرجُها في نهاية روايته) إلى نفي هؤلاء “المحبوسين المتبقّين” إلى المنفى المعدّ لهم، موضحاً بأنه كان قد تمّ نفي عدد كبير من الدروز إلى بلغراد “وأكثرهم ممّن كانوا أودِعوا حبس بيروت” دون أن يغفل عن ذكر العديد من أسمائهم.
يشرح جابر في مقالةٍ له عنوانها “اختراع التاريخ… أو تأليفه” رؤيته الخاصّة للصلات المحبوكة بين التاريخ والخيال، يقول: “إنّ قراءة مدوّنات أبكاريوس الأرمني عن تلك الحقبة تطرح أمامنا مشهداً للعالم (لبيروت والجبل اللبناني بين عامي 1840 و1860) ليس هو ذاته المشهد الذي تصنعه مدوّنات أخرى، رسائل المبشّرين البروتستانت مثلاً، أو بعض المخطوطات الدّرزيّة. كلّ أثر من هذه الآثار يصنع صوَره الخاصة للعالم الواقعي، والقارئ يقرأ هذه الصوَر ويستخرج منها صورة تخصّه. هذه الصورة الأخيرة “المؤلَّفة” ليست الواقع. نستطيع أن نفترض أنها الواقع. إنها الحقيقة التي بلغناها بعد طول تنقيب. لكن هل هذه “الحقيقة” واقعيّة فعلاً؟ وهل نسمّيها تاريخًا؟”
الجواب عند ربيع جابر معروف: بل نسمّيها رواية. هكذا، يدخل الروائي مشهد ترحيل المنفيّـين الدروز من ميناء بيروت على متن البواخر العثمانيّة في ذلك الزمان، حاملاً معه فكرة إدخال عنصر ليعزِّز به أجواء السّرد، بل ليجعل منه العصب الروائيّ الذي يضفي على الحدَث التاريخيّ الواقعيّ بُعداً متعدِّد الدلالات.
بائع البيض حنا يعقوب، زوجته هيلانة وابنته بربارة التي لا تتجاوز السادسة، هو ذلك العنصر. خرج صباح ذلك اليوم من كنّه العائلي إلى عمله. كان العسكر العثماني يحصي المنفيّـين الذين نقصوا واحداً هو ابن الشيخ غفّار زين الدّين. وكان والده قد قصد الوالي متشفّعاً في أبنائه الخمسة المعتقلين والمحكوم عليهم بالنفي إلى بلغراد. أجابه الباشا بعد لقاء عصيب: “من أجل مكانتــك عند قومك، ومن أجل منزلتــك بين أقرانك المشايخ، ومن أجل أعوامك وشيبة شعرك سأعطيك ما أعطي… انتقِ واحداً من أولادك الخمسة وخذه معك من الزندان…”
هكذا، تمّ اقتياد حنّا المسيحي ليكون واحداً من المحكومين الدروز، منتحلاً غصباً عنه اسم سليمان غفّار عزّ الدّين.
مدخل السّرد هو سجن في “الجبل الأسود” (البلقان)، قيود الحديد، خبطات مرعبة من الخارج، خوار فظيع، تسلّل الموت، ظلام كامل ورطوبة ناخرة، صرير الأسنان وصليل السلاسل، إنه قبو عميق جدّاً، منسيّ، أسوأ من زريبة. حنّا وحيد بعد مرور السنوات الطّوال في هذا المنفى الرّاعب. يستعيد الراوي الحكاية من أوّلها عبر تقنية الفصول الإخباريّة التي كأنّها محطات الذّاكرة التي تُستحضر عبر عين مشهديّة مثل كاميرا دائرة في الزمن (flash-back). حنّا وسط “إخوته” المفتَرَضين في سجن “قلعة بلغراد” في أوّل سنوات النفي. لا يتردّد جابر أمام الإيغال في وصفِ اللحظات القاتمة التي ينوء تحت وطأتها المساجين المنفيّين بعيداً عن عوائلهِم وحقولهم وبلادهم التي باتت مثل حلم مستحيل. لكنّه يرصِّع هذه العتمة بحركةِ علاقاتٍ إنسانيّة دائرةٍ بين القوم أنفسهم (الدروز) في جانب، وبين الأخوة عزّ الدّين وحنّا المُسمّى سليمان في جانبٍ آخَر.
هذا التلازم بين القسوة الرّاعبة لظروفٍ عصيبة (جحيميّة)، وبين التماعات الموقف الإنساني الذي لا يزحزحه الألم الهائل قيد أنملة عن طبائعه الرّاسخة، هو ميزة روائيّة راسخة في “دروز بلغراد”. حنّا الممدّد بين “الأجسام الراقدة التي تغطي الأرض” في ظلام حالك لا يتبدّى فيه النور إلا بشكل “سراب شعاع من قنديل أو شمعة في طرف الدهليز”، يستيقظُ على طرقاتٍ غريبة، قبل أن يدركَ أنّ أحدهُم يقرعُ الحائط بجمجمته بعد أن سمع صرخات وأنيناً، “تسلّق رفاقه الظلام” محاولين الوصول إليه. كان واحداً منهُم: “أريد أن أموت. اتركوني”. لم يتركه أحد. أصغوا إلى أنينه حتّى لفظ أنفاسه. لكنّ السّرد، يلتقطُ هذِه اللحظة الحزينة، ليصوِّر تقليداً راسخاً عند الدروز: “غسلوا رأسه ورقبته ويديه وما استطاعوا من بدنه بقميص مبلولة. اصطفّوا واقفين كأنّهم في جنازةٍ فوق الأرض وأدّوا الواجب. عزّوا قريبَه وشدّوا على يده واحداً واحداً. كانت الحركة صعبة واستغرق العزاء زمناً لكنّهم فعلوا ذلك بطيبة خاطر… كانت الإيماءات ضائعة في الظلام ومع هذا كرّروا الطقوس كاملة كأنّهم في دار فسيحة عذبة الهواء تحت شمس الجبل وراء البحر.”
تتخلَّلُ هذا المدى الإنساني الحبيس مناسبات يخرجُ فيها السجناء إلى فسحةِ الطبيعة لإنجاز أعمال السّخرة، أوّلها قطاف الثمار من بساتين نازلي هانم بأوامر الباشا، وحفر أقنية ريّ، إصلاح حيطان جلول متهدّمة. هكذا، أتيح لهم الخروج يوميّاً من قبور الظلام إلى “جنّة على الدانوب”. بقوا رجالاً كأنّ شقاء المحنة لم يفعل إلاَّ أن يصهرَ أفئدتَهُم في معادنها الأصيلة. “قطفوا الكرمَ كأنّه كرم أبيهم… تجنّبوا النّظر إلى القاطفات الموزّعات في الكروم المجاورة… لم يُرَ واحد منهُم يأكل بالسّرقة ولو حبّة تين.” ويشير جابر مراراً إلى أصحاب “الطاقيات البيضاء القطن” الذين هم على الدّوام “العمود الفقري” لكلّ ورشة.
يتشابك في نسيج الرّواية تطوّر خفيّ، ولكن عميق وحقيقي، لعلاقةٍ ملتبسة غامضة بين أبناء الشيخ غفّار وحنّا يعقوب. في كلّ المراحل الخطرة من ذلك النّفي الرّهيب، كان الأخوة يحيطون حنّا بعين رعايتهم. من الشكّ والخوف إلى شعور الأمان، بل إلى الألفة الإنسانيّة التي تلمعُ كالضوء الشافي في ليل الظلم الدامس. قاسم، الذي بدا منذ البداية ممتعضاً من حنّا، بل ومتباعداً عنه على نفور، انتهى به الأمرُ، في رحلةِ سيرٍ طويلة شاقّة للانتقال إلى سجنٍ آخر بعد قصف الحدود، أن “حمله كالخروف على كتفه” مسافات طويلة لينقذه من موتٍ محقَّق.
لا يتكلَّف ربيع جابر في شيءٍ من إيقاع سردِه المتواصل أبداً، لكي يستثمرَ حركة هذه العلاقة ليفصحَ عن مثــلِ دروس في التعايش وعبثيّة الحروب. لكنّ الأسئلة تمثـل تلقائياً أمام القارئ من دون تدخّل في نصّ الرواية، إذ أنّ الحقيقة تتبدّى ساطعةً فوق أجواء هذا العذاب المذهل والقدَر الطاحِن: العلاقة الإنسانيّة سامية وراسخة وجوهــريَّة، أنقى من كلِّ الأحقاد، وأبقى للمرء من كلّ صراعٍ عقيم.
ربيع جابر روائي يقيم الصّلة بين الحياة عينها، بأبعادها الثلاثة، وبين إدمانه الكاسح للسرد الروائي. رواياته كلّها مثل مجرى نهر ضابطٍ إيقاعه في حاضره، وفي أصداء تاريخه المتراكم. الضفافُ بلا نهاية حدودُه. والزّمنُ لا يستحمّ في دفقات مائه مرّتين.

زيت الزيتون البكر الممتاز

زيت الزيتون البكر الممتاز

كيف نحصل عليه وكيف نخزّنه؟

حسب المجلس الدولي لزيت الزيتون، فإن زيت الزيتون البكر الممتاز هو “الزيت الذي نحصل عليه من ثمار زيتون سليمة وبطرق فيزيائية على درجة حرارة حوالي 27 درجة مئوية، ويكون خالياً من عيوب الطعم والرائحة والمذاق ولا تزيد فيه نسبة الأحماض الحرة على 0.8 في المئة ورقم البيروكسيد على عشرين”.
ولكن ما يجب أن نعلمه ايضاً هو أن زيت الزيتون البكر الممتاز يختلف من موقع لآخر، ومن بستان إلى آخر في الموقع نفسه أحياناً. فزيت حاصبيا في جنوب لبنان يختلف عن زيت الكورة في الشمال وهذا يختلف عن زيت الخليل في فلسطين وزيت إدلب أو حلب في سوريا أو زيت أضنة في تركيا أو كريت في اليونان، لذلك تمّ الاتفاق على ذكر اسم المنشأ عند تسويق الزيت وكتابة ذلك بشكل واضح على ملصق العبوة مع ذكر تاريخ وطريقة العصر.
إن العوامل المسببة للإختلاف في نوعية زيت الزيتون البكر الممتاز متعددة ويمكن أن نذكر الأهم منها وهي:
أ‌- الصنف: فلكل صنف من أصناف الزيتون زيت مميز من ناحية اللزوجة والطعم والرائحة والمذاق.
ب‌- التربة: تؤثر التربة بشكل كبير على نوعية الزيت، فزيت الأراضي ذات التربة البيضاء يختلف عن زيت الأراضي الرملية الفقيرة بالعناصر الغذائية المختلفة وخاصة النادرة منها كالحديد والزنك والكبريت والكوبالت والمنغنيز وغيرها.
ت- فترة وشدة الإضاءة: كلما اتجهنا نحو خط الإستواء زادت فترة وشدة الاضاءة ( اتجاه الأشعة الشمسية عامودي على الأرض عند الإستواء)، لذلك فثمار الزيتون في فلسطين مثلاً تحصل على كمية أعلى من الأشعة الشمسية من تلك المنتجة في شمال تركيا، كما أن مواجهة المواقع في المنحدرات للأشعة الشمسية تختلف بين موقع وآخر.
ث- الريّ: إن الزيت الناتج عن الزيتون المروي يحتوي على كميات أقل من المواد العطرية ومضادات الأكسدة والعناصر الكيميائية لذلك فهو يعتبر زيتاً خفيفاً غير قابل للتخزين وطعمه حلو مستساغ وغير حار.
ج- التسميد: يؤثر التسميد الكيميائي المكثف وخاصة الآزوتي على نوعية وطعم الزيت بشكل سلبي، بينما التسميد العضوي يحسّن صفات الزيت بشكل عام.
ح- المكافحة الكيميائية: اذا لم يتم التقيّد بشروط المكافحة وفترات الأمان والنسب المستخدمة يؤدي ذلك الى وجود كميات أعلى من الحدود المسموح بها من بقايا أدوية المكافحة في زيت الزيتون مما يؤثر على نوعيته وعلى إمكانية تصديره الى الكثير من الأسواق العالمية.

كيف نحصل على زيت الزيتون البكر الممتاز؟
يمكن تصنيف مستهلكي زيت الزيتون الى ثلاث فئات. فئة الذين يعتبرون زيت الزيتون مادة كمالية في مطبخهم، وفئة الذين يستهلكون زيت الزيتون مع القليل من الأطباق كالتبولة والحمص والفول المتبل، أما الفئة الثالثة فهم الذين يعتبرون زيت الزيتون المادة الدهنية الأساسية في مطبخهم وهم يستهلكونه نيئاً ومطبوخاً وفي القلي، وهذه الفئة هي التي تهتم بطريقة الحصول على الزيت من مصادره الأساسية وبالكميات المطلوبة.
مهما تكلمنا عن طرق معالجة ظاهرة المعاومة (سنة حمل، سنة محل) والحدّ منها، فلا بدّ من القول إن علينا دائماً تأمين حاجتنا من زيت الزيتون البكر الممتاز بكميات كافية لاستهلاكها خلال فترة سنتين. فاذا كنا نستهلك (15-10) كلغ من زيت الزيتون البكر الممتاز في السنة لكل فرد من أفراد العائلة فيجب تأمين (30-20) كلغ لكل فرد من أفراد العائلة في سنة الحمل وتخزينه بالشروط المطلوبة والتي سنذكرها لاحقاً.
إن الحصول على زيت الزيتون البكر الممتاز يمكن أن يتم بطرق عدة ولكن بعضها أفضل من البعض الآخر، وسنرتّب هنا تلك الطرق بالتدريج من الأفضل إلى الأقل ملاءمة.


الطريقة الاولى : أن نقصد بستان الزيتون الذي نثق بتطبيقه لكافة المعاملات الزراعية الجيدة، والذي نحب طعم زيت الزيتون المنتج في نطاقه الجغرافي فنشتري منه كمية الزيتون المطلوبة، والتي تمّ قطفها في اليوم ذاته وتكون سليمة من أي اصابة وننقلها فوراً الى المعصرة التي نكون قد أخذنا موعداً فيها، فنعصر الزيتون ونأخذ الزيت الناتج الى المكان الذي سنخزنه فيه.
الطريقة الثانية: أن نعتمد على أحد المزارعين الموثوقين فنشتري منه كمية الزيت المطلوبة ويمكن ابقاء جزء من الزيت في خزاناته، اذا كانت لديه خزانات من الستانلس ستيل ولم يكن لدينا مكان لحفظ الزيت.
الطريقة الثالثة: أن نقصد إحدى المعاصر المميزة بنظافتها ودقة عملها وثقة أصحابها فنشتري منها كمية الزيت المطلوبة.
شروط أساسية يجب عدم التهاون بها عند الحصول على زيت الزيتون البكر الممتاز وهي:
أ‌- الحصول على زيت من زيتون تمّ قطافه في بداية موسم النضج، لأن الزيتون الناضج تماماً يعطي زيتاً غير قابل للتخزين لأن كمية مضادات الأكسدة الموجودة فيه تكون قليلة جداً.
ب‌- أن تكون معدات المعصرة التي تلامس الزيتون والزيت جميعها مصنوعة من الستانلس ستيل.
ج- أن لا تتجاوز درجة حرارة الزيتون والعجينة والزيت الناتج 28-27 درجة مئوية طوال مراحل العصر المختلفة.
د- أن يكون العصر متواصلاً دون أي تأخير لمنع تأكسد الزيت أثناء الطحن والعجن والعصر وحفظ الزيت في الأوعية المناسبة.
هـ- أن تكون المياه المستخدمة أثناء العصر صالحة للشرب وخالية من أي شوائب. وأن تكون كمية المياه المستخدمة محددة تماماً لأن أي زيادة تؤدي الى ضياع المواد المضادة للأكسدة.
و- أن تكون أوعية نقل الزيت نظيفة تماماً ولا تسبب أي تغيير في مواصفات الزيت الناتج.
ز- أن لا يتعرض الزيت أثناء نقله من المعصرة الى المخزن لأي ارتفاع لدرجة الحرارة أو ملامسة أي مواد غريبة.
ح- إذا كانت المعصرة تقليدية فيجب أن لا تترك القفف، أي طَعْم في الزيت الناتج، لأن القفف المتسخة والمتخمرة والمتعفنة تترك آثاراً سيئة جداً على الزيت الناتج وتجعله زيتاً لا يحمل صفة البكر الممتاز ولو كانت كافة الشروط الأخرى متوفّرة.
أما بالنسبة للتخزين فيجب مراعاة ما يلي:
أ‌- تخزن الكميات الكبيرة في أوعية مصنوعة من الستانلس ستيل مجهزة بفتحة سفلية للتخلص دائماً من المواد المترسبة في قاع وعاء التحزين، وبغطاء متحرك ينخفض مع انخفاض كمية الزيت في الوعاء وذلك لمنع الأكسدة السطحية.
ب‌- تخزن الكميات الصغيرة للإستهلاك المنزلي في أوعية زجاجية سميكة متوفرة في الأسواق ورخيصة الثمن سعة أربعة لترات، على أن توضع في مكان معتم و بارد، فيتم استهلاكها تدريجياً ويتم تنظيف كل وعاء بعد استهلاك زيته، استعداداً لاستقبال الزيت الجديد في الموسم المقبل.
ت‌- عند نقل الزيت من المعصرة الى البيت يترك في مكان بارد دون أي تحريك لمدة خمسة عشر يوماً كي يترسب ما تبقى من مياه ومواد صلبة (عكر) في قاع أوعية النقل، ثم يتم نقل الزيت بهدوء دون تحريك إلى أوعية التخزين الزجاجية فتُملأ تلك الأوعية حتى الفوهة وتغلق بإحكام.
ث‌- الشقق السكنية في المدن غير ملائمة لتخزين الزيت الا إذا كانت مبرّدة بإستمرار والمكان الأفضل للتخزين هو الأقبية في المناطق الجبلية، وخاصة تلك الموجودة تحت سطح الأرض، حيث لا ترتفع درجة الحرارة الى أكثر من 20 درجة مئوية حتى في أيام الصيف الحارة. و في المعاصر يجب أن تكون خزانات الزيت في مكان منفصل عن المعصرة والأفضل أن تكون في طابق سفلي تحت سطح الأرض نظيف وجيد التهوئة.
ج‌- اذا كنا قد حصلنا على الزيت على دفعتين أو أكثر فنقوم بتخزين زيت أول الموسم ويكون آخر زيت نستهلكه. أما زيت نهاية الموسم فنبدأ بإستهلاكه مباشرة.
إن زيت الزيتون البكر الممتاز هو عصير طبيعي طازج يحتوي على مضادات الأكسدة والفيتامينات التي يجب أن نحافظ عليها، كما يحتوي على الأنزيمات المساعدة على الأكسدة وتحرر الأحماض الدهنية اذا توافرت الشروط المناسبة كإرتفاع درجة الحرارة والضوء ووجود البقايا الصلبة والمياه في الزيت واتصال سطح الزيت بالهواء الحر، كما أن تخزين الزيت في أوعية بلاستيكية غير مخصصة للتخزين وفي صفائح معدنية (حديد) يؤدي الى تفاعل الزيت مع هذه الأسطح ودخول مواد اليه تفسده وتغيّر طعمه ويمكن أن تجعله ساماً ومسرطناً.
إن كشف عيوب الزيت وغشه عن طريق التذوق هو عملية تحتاج الى خبرة أشخاص موهوبين ومدربين وخبراء في هذا المجال فلا يمكن الركون لذوقنا نحن وخبرتنا المحدودة، لذلك يجب اتّباع الخطوات التي ذكرناها للحصول على هذه المادة الحية التي هي أساس مطبخنا الصحي وأول دواء في صيدليتنا المنزلية.

المهندس أديب غنّام

راماكريشنا الحكيم

راماكريشنا الحكيم

عاش نصف حياته في حال السكر الروحي
وترك للعالم إنجيلاً كاملاً حول السلوك إلى الله

من أقواله الشهيرة

> كـــل الأديـــان هي طـــرق إلـــى الله لكـــن الطـــرق ليســـت الله

> الله المنـــزه عـــن الحدثـــان يمكنـــه أن يتلبـــس أي شكـــل
لكنـــه يبقـــى منـــزهاً عـــن جميـــع الصـــور والأشـــكال

> النـــاس يذرفـــون سيـــلاً مـــن الدموع من أجـــل نسائهـــم أو أموالهـــم
لكـــن أيـــن هـــم أولئـــك الذيـــن يبكـــون فـــي محبـــة الله؟

يعتبر الحكيم راماكريشنا ظاهرة فريدة طبعت الإرث الروحي لشبه القارة الهندية في القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين. ويوضح هذا العرض الموجز لتعاليمه بأنها لا تختلف في جوهرها عن تعبيرات الاختبار العرفاني والإيمان كما عرفته العديد من التيارات الفلسفية الإنسانية ومدارس الترقي الروحي في أزمنة وأماكن مختلفة. ولا بد من الملاحظة أن تعبيرات الحقيقة اختلفت لدى الحضارات والشعوب باختلاف الثقافات والاستعدادات وبسبب حاجة أهل الحقيقة لتقديم المعاني اللطيفة بلغة يفهمها أهل المكان والزمان على حدّ سواء. وقد شبه أحدهم الحقيقة التي يسعى الحكماء للتعبير عنها بالماء الذي يتخذ شكل الإناء ولونه لكنّه يبقى في جوهره الماء الصافي الذي لا يداخله شكل ولا لون. وهذا ما يجعل من الضروري النظر بسعة أفق وتبصر في التنوع الكبير الذي عبّر عنه حكماء كل شعب أو بلد عن اختبار الحقائق، وقد جاء في الريغ فيدا Rig Veda أن “الحقيقة واحدة لكن الحكماء أعطوها أسماء مختلفة”، أو كما عبر راماكريشنا نفسه عن ذلك بالقول “أن الله تعالى المنزه عن الحدثان يمكنه أن يتلبس أي شكل لكنّه يبقى منزهاً عن جميع الصور والأشكال.”
ولد راماكريشنا سنة 1835، وكما في العديد من ولادات الصالحين فقد سبقت ولادته بشارات ورؤى بشرت فيها والدته بقدوم طفل نوراني يكون له شأن كبير في العالم. ويروى أن الطفل وقع في أول مشاهدة وغيبة روحية وكان بعد في السادسة من عمره، وقد روى بنفسه أنه كان يوماً ماراً في حقل منبسط حتى الأفق، وكان يتأمل في سحابة ماطرة سوداء تتجمع في السماء عندما مرّ رهط من طيور البجع البيضاء وارتسم بذلك منظر رائع يتكامل فيه السواد والبياض في وحدة الطبيعة، وكان لهذا المشهد وقع روحي لا واعي على الطفل الذي سقط أرضاً في نوع من الحال الصوفي. وتذكر السيرة التي تركها مريدو راماكريشنا ولا سيما تلميذه المقرب ماهندرانات غوبتا أن الحكيم أمضى نصف حياته تقريباً في حال من السكر الصوفي Ecstasy وقد احتفظ تلامذة الحكيم بصورة شهيرة له وهو يدور في مجلسه في حال من الطرب الروحي الذي يغيب فيه عن الوجود وقد أمسك به أحد تلامذته ليساعده على حفظ توازنه.
على الرغم من أن الحكيم لم يكتب مطلقاً، فقد أمضى حياته كلها في التعليم الحكمي واجتمع من ذلك عدد كبير من المؤلفات التي جمع فيها تلامذته تعاليم راماكريشنا، وأحد أهم تلك المؤلفات قطعاً هو المعنون “إنجيل راماكريشنا” كما جمعه ماهندرانات غوبتا.
يتحدث راماكريشنا عن الأنبياء والحكماء فيعتبرهم مثل الأمواج التي تصل إلى الشاطئ قادمة من المحيط، أي أن حقيقتهم من حقيقة المحيط الذي يرسلهم إلى شاطئ البشرية المتعبة رحمة منه وبحيث يستدل من تلك الأمواج على حقيقة المحيط.
في وصفه لمساره الروحي حدث بهذه الكلمات: “لقد مارست وعشت جميع الأديان كما اتبعت مختلف الطرق والمذاهب الهندوسية فوجدت أن كل هذه الأديان والطرق تتوجه إلى الله الواحد ولكن بأساليب وطرق مختلفة. لكني أرى العديد من الناس يتقاتلون باسم الدين في وقت الجميع يبحثون عن الجوهر نفسه وإن تحت أسماء مختلفة. وما سبب اختلاف الأسماء سوى اختلاف المكان والأمزجة والمناخ لكن الجوهر الذي نبحث عنه جميعاً واحد لا يتغير.
قال يوماً لجلسائه:” في أحد الأيام جاءني رجل وقرأ لي كتاباً عن المسيحية حيث كان التركيز دوماً على الخطيئة. في الحقيقة أن الذي يستمر في الاعتقاد بأنه خاطئ أو آثم ينتهي به الأمر بأن يصبح كذلك فعلاً. من المهم أن يكون إيماننا بالله من القوة بحيث يمكننا أن نبتهل بصوت عالٍ قائلين:”كيف يمكن لي وأنا الذي أنكب بكليتي على عبادة الله أن أكون خاطئاً؟ إلهي لقد ارتكبت بالتأكيد الكثير من الآثام والمعاصي إلا أني أتوب إليك وأشهد بأني لن أعود إليها أبداً. أنك أنت أملي ومقصدي”. وعند هذه النقطة وقع راماكريشنا في الحال وغاب عن وجوده بالتمام. (إنجيل راماكريشنا: ص 138)
وأضاف القول داعياً جلساءه: “اذكروا الله بكل وجدانكم ومن صميم كيانكم. تأوهوا وابكوا عند ذكره. إن الناس يذرفون سيلاً من الدموع من أجل نسائهم أو أطفالهم، بل هم يسبحون في بحر من الدموع بسبب الركض وراء المال، لكن أين هم أولئك الذين يبكون في محبة الله؟” (إنجيل راماكريشنا: ص83).

من تعاليم الحكيم راماكريشنا

وجود الله وصفاته
في الليل يمكنكم بسهولة أن تروا عدداً لا يحصى من النجوم تتلألأ في الظلام، لكنكم لن تروا تلك النجوم عند بزوغ الشمس في الصباح. فهل يمكنكم في هذه الحال القول أنه لا توجد نجوم ومجرات في وقت النهار؟ بنفس المعنى أيها الناس إذا كنتم لا ترون المولى جل وعلا في نهار جهلكم لا تقولوا بسبب ذلك أن الرب غير موجود.
كان راماكريشنا يتحدث يوماً عن الله وقوته وسلطانه عندما علق أحد الحاضرين المتشككين بالقول:”إن الله يعمل أيضاً وفق قوانين الطبيعة” عندها أجاب راماكريشنا على الفور بالقول:”ماذا تقول؟ أن الله هو القوي الجبار وهو فعال لما يريد وفق ما يشاء. عندها رد السائل نفسه بالقول: “إذن هل يمكنه أن يخلق فقط بفعل إرادته وردة بيضاء على شجرة الورد الحمراء تلك (وأشار إلى شجيرة ورد كانت بادية للحاضرين). “بكل تأكيد”، أجاب راماكريشنا “إذا أراد الله لهذه الوردة الحمراء أن تحمل ورداً أبيض فسيكون له ذلك”. وانتهى الحوار لكن بدا أن السائل لم يقتنع بالجواب.
لكن حصل بعد بضعة أيام أن نبتت على شجرة الورد الحمراء في حديقة معبد داكشيناوار وردتان واحدة بيضاء والأخرى حمراء على الغصن نفسه. فما كان من راماكريشنا إلا أن حمل الغصن وعليه الوردتان إلى المريد المتشكك الذي ذهل لما شاهده وتاب إلى المعلم قائلاً: أيها المعلم أقسم على نفسي بأني لم أجادلك في أمر بعد ذلك أبداً.
خاطب راماكريشنا جلساءه يوماً بالقول:”لو أني وضعت بيني وبينكم حجاباً من القماش فإنكم لن تروني على الرغم من أنني أجلس معكم كالمعتاد. كذلك، رغم أن الله هو أقرب إليكم من كل شيء فإن حجاب النفس لديكم يحرمكم من مشاهدته”.
الله وحده يعرف حقيقة ذاته

وحدة الله في الأديان
كل الأديان هي طرق تقود إلى الله لكن الطرق ليست الله
كما أن الذهب الخالص يتم تشكيله في مختلف أنواع وأشكال الحلي كذلك يعبد الله جل وعلا بصور مختلفة في كل زوايا الأرض وفي كل الأزمنة، كل ينسب إليه اسماً أو تصوراً أو وصفاً ويعبده وفق مستوى إدراكه أو طريقته. لكن في الحقيقة الله الواحد المنزه عن كل وصف هو المعبود في كل تلك الحالات والتصورات.

ذكر الله وتجليات الرحمة
سواء بعلم أو بغير علم وبقصد أو غير قصد فإن مجرد ذكر الله في أي حال أو أي صيغة يعطي للذاكر الفائدة والبركة على الفور. إن الرجل الذي ينزل إلى النهر بقصد الاستحمام ينال الفائدة من الماء. كذلك الأمر لذاك الذي دفع دفعاً إلى النهر من قبل شخص آخر أو ذاك الذي بينما هو نائم ملء جفنيه جاء أحدهم بالماء وألقى به عليه.
في بعض الفصول لا يمكن الحصول على الماء إلا بشق النفس ومن عمق الآبار. لكن في موسم الأمطار وعندما تفيض الأنهار يصبح الحصول على الماء هيناً في كل مكان. كذلك الأمر فإن بلوغ أعتاب الحق يتم بكثير من المشقة وما لا يحصى من العبادات وقهر النفس. لكن عندما ينزل فيض التجلي فإن الله سيرى في كل وقت وفي كل مكان.

رجال الله
هناك أسطورة تتحدث عن جنس من الطيور تسمى “الهوما” وتعيش في أعالي السماوات وتتعلق بعالمها إلى درجة تأنف معها الهبوط إلى الأرض . حتى بيض تلك الطيور عندما يتم وضعه يبدأ بالسقوط بفعل الجاذبية الأرضية لكنه يفقس في الطريق إلى الأرض وتخرج منه صغار تلك الطيور، وهذه ما أن تشعر بأنها متجهة نحو الأرض حتى تبدل بصورة غريزية مجرى طيرانها وتحلق مجدداً إلى الأعالي إلى حيث موطنها الأصلي. إن الأنبياء والحكماء العظام هم مثل تلك الطيور فهم حتى في طفولتهم أو صباهم يلقون بكل علائق الدنيا وينطلقون بروحهم إلى أعلى ذرى المعرفة والنور الرباني. وهؤلاء يطلق عليهم اسم “المولودون أحراراً”.
أحد رجال الله كان يوماً سائراً في الطريق عندما وقع طرف عصاه من دون قصد على قدم رجل شرير الذي استشاط غضباً وألقى بالحكيم على الأرض وأوسعه ضرباً حتى غاب عن الوعي. وأسرع مريدو الحكيم إليه يحاولون إسعافه حتى إذا أحسوا بأن الرجل المسكين بدأ يستعيد وعيه سألوه: هل تعرف يا مولانا من الذي يقف إلى جانبك الآن. أجاب الحكيم دون تردد: هو نفسه الذي ضربني. كذلك فإن العابد الحق لا يفرق في حال التسليم الكامل بين عدو وصديق.

الاختبار الروحي في الحياة اليومية
يمكن للذبابة أن تحط على جرح متقيح لكنها قد تحط أيضاً على هدايا الفاكهة أو التقدمات التي يجلبها المؤمنون إلى المعبد. كذلك فإن الجاهل قد يخوض أحياناً في أمور الدين لكنه سرعان ما ينغمس بعد ذلك في متاع الحياة الدنيا ومشاغلها.
لا ضير أبداً في أن تعوم السفينة على مياه المحيط لكن شرط أن لا يحوي أسفلها ثقوباً تجعل الماء يتسرب إلى جوفها فيغرقها. كذلك فإن السالك إلى الله يمكنه أن يعيش حياته في الدنيا لكن عليه أن لا يسمح بأن يدخل العالم وحب الدنيا في وجدانه.
الريح يحمل عبق الصندل والبخور كما أنه يحمل أيضاً رائحة القاذورات لكن الريح في الحالين لا يختلط بأي منهما أو يبدل طبيعته. كذلك فإن الإنسان الكامل يعيش في هذا العالم لكنه لا يخالطه أو يمتزج به.
العقبات أمام التقدم الروحي
مهما كان الثقب صغيراً في جرة الماء فإنه سيؤدي إلى تسربه وضياعه حتى لا يبقى منه شيء. كذلك فإن كل الجهود التي يبذلها السالك تبقى هباء لا فائدة منه طالما بقيت فيه ذرة من التعلق بهذا العالم.
إني أبحث دون جدوى وللأسف عن أشخاص يرغبون في ما هو أرفع من الأغراض التافهة لهذا العالم. الكل يركض خلف المرأة والذهب وقليل هم الذين يتطلعون إلى معالي الأمور. كل ما يجذبهم هو جمال الشكل أو المال أو الجاه والألقاب، وهؤلاء الناس لا يدركون أن ما يعتبرونه أغلى الأشياء أو أرفع المراتب يبدو مثل حطام لا قيمة له إطلاقاً في نظر أولئك الذين أنعم الله عليهم بمشاهدة جماله.
قليل من الناس هم الذين ينجحون في قتل “الأنا” أو الوصول إلى حالة السلام والفرح، لأن فكرة “الأنا” شديدة العناد ولا تغادر النفس إلا بصعوبة شديدة. وهي تشبه في ذلك شجرة العليق التي تقطعها كل مرة لكنها تعود دوماً فتنبت فروعاً جديدة.
الذين يركضون وراء السمعة والمجد الشخصي يخدعون أنفسهم، لأنهم ينسون أن كل ما لديهم إنما هو من إنعام مقسم الأشياء ومسببها وأن كل شيء في النهاية هو ملك لله ولا أحد سواه. الرجل العاقل يردد دوماً: “أنت يا مولاي أنت!” أما الجاهل والمحروم فيردد على الدوام: “أنا، أنا!”

مجاهدة النفس
سأل أحد المريدين راماكريشنا يوماً عن ما ينبغي له أن يفعله لكي يطرد خواطر السوء التي ترد على فكره، وهذا رغم حرصه على السلوك القويم والعبادة. أجاب الحكيم بالقول:” كان لأحد الناس كلب يحبه كثيراً وكان غالباً ما يلاعبه أو يربت عليه أو حتى يعانقه. ومرّ به يوماً أحد الصالحين فنصحه ونهاه عن رفقة هذا الكلب. وبالفعل قرر الرجل العمل بنصيحة الرجل الصالح فأصبح لا يلقي بالاً لكلبه. لكن هذا الأخير لم يفهم هذا التبدل في سلوك صاحبه، وبقي يتمسح به ويتودد إليه بإلحاح طلباً لاهتمامه ومحبته. ولم يجد الرجل بدا من أن يحمل عصاً يهول بها على الكلب أو يضربه بها كلما اقترب منه، وعندها يئس الكلب وفارق صاحبه ولم يعد إليه. كذلك الأمر بالنسبة لنفسك، والتي وعلى الرغم من سعيك لطرد الكلب الذي قمت بتغذيته وتدليله لسنوات فإن هذا يرفض مفارقتك. لا بأس في ذلك، لكن عليك أن تواظب على تأديبه والنفور منه كلما اقترب منك، فإن واظبت على ذلك فإن كلب نفسك سيقرر تركك وشأنك في نهاية الأمر.
الصخرة الممغنطة تجتذب إليها السفينة التي قد تمر فوقها فتقتلع مسامير السفينة وتخلِّع أخشابها وتؤدي في النهاية إلى غرقها في أعماق المحيط. كذلك عندما تنجذب الروح البشرية بمغناطيس الوعي المطلق فإن هذا الأخير يدمر في لحظة فرديتها وحس “الأنا” الذي يختلط بها ويجعلها تغرق في محيط المحبة اللامتناهي لله.
لا يمكن لمياه الأمطار أن تمكث في الأماكن المرتفعة من الأرض، بل هي تنساب على المنحدر لتصل إلى أدنى نقطة من التراب. كذلك فإن نعمة الله تمكث في قلوب البسطاء ولا يمكنها أن تبقى في قلوب أي متكبر أو معتد بنفسه.

رغم أن الله هو أقرب إليكم من كل شــيء
فإن حجاب النفس لديكم يحرمكم من مشاهدته

راماكريشنا في حال من الغيبة الروحية ويبدو أحد مريديه المقربين يسنده
راماكريشنا في حال من الغيبة الروحية ويبدو أحد مريديه المقربين يسنده

الإيمان والتسليم بمشيئة الله
إذ نظرت إلى أوراق الخريف رأيت الريح تدفع بها ذات اليمين وذات الشمال دون أن يكون لهذه الأوراق الميتة الخيار في الوجهة أو الهدف التالي من حركتها. كذلك فإن الذين يتوكلون على الله في كل شيء يجعلون قيادهم بالكلية رهن مشيئته وهم يقولون (آمين) ويلقون بأنفسهم بين يديه بتسليم تام.
الفكر ضعيف. لكن الإيمان قوته غير محدودة. الفكر لا يمكنه الذهاب بعيداً إذ لا بد أن يتوقف عند حد معين. لكن بواسطة الإيمان يمكن للإنسان أن يجتاز المحيطات دون صعوبة، بل أن كل قوى الأسباب والطبيعة يزول مفعولها في مواجهة الإيمان. بل أكثر من ذلك فإن كافة الأدران والمفاسد والجهل تفر هاربة في حضور الإيمان.

كل الجهود التي يبذلها السالك تبقى هباء لا فائدة منه طالما بقيت فيه ذرة من التعلق بهذا العالم

لا تغتر بعلمك
جاء أحد المريدين إلى مرشده قائلاً:” إن إيماني بك يا سيدي هو من القوة والرسوخ بحيث أعدك أن في إمكاني أن أجتاز هذا النهر العميق سيراً على الماء فقط بمجرد ترداد اسمك. وبالفعل قطع المريد النهر مشياً على الماء وهو يردد بإيمان وخشوع اسم مرشده. لكن هذا الأخير الذي شهد تلك الكرامة لمريده لم يأتِه مما شاهد إلا الاغترار بالنفس فهو قال في سره: كم يجب أن أكون عظيماً وذا سلطان ليكون مجرد ذكر اسمي كافياً لأن يجتاز ذاك الرجل النهر مشياً؟ وفي اليوم التالي جاء المرشد إلى النهر وقرر اجتيازه كما فعل المريد. لكنه لم يجد ما يذكره خلال اجتياز النهر سوى كلمة “أنا ..أنا..” فكان كلما تقدم في النهر كلما غاب جسمه في مياهه إلى أن غرق وهلك في النهاية لأنه لم يكن يحسن السباحة.
يمكن لشعور الغرور أو الخيلاء السطحي لدى الجهّال أن يخف أو يلين مع الزمن، لكن شعور العجب أو الاغترار الذي قد يصيب الرجل الصالح بعد بلوغه بعض الدرجات هو أشد عناداً وأعصى على العلاج.

الذوق الروحي يوجب الصمت
كما أن الكثيرين يسمعون عن الثلج لكنهم لم يروه في حياتهم كذلك فإن العديد ممن يتحدثون ويعظون بالدين قرأوا في الكتب عن صفات الله لكنهم لم يصلوا إلى تحقيق تلك الصفات في حياتهم. البعض الآخر ربما رأوا الثلج لكنهم لم يتذوقوا طعمه كذلك فإن العديد من السالكين أو المتدينين قد يحظون بالتماعة خاطفة عن حقيقة الله وعظمته لكنهم لم يدركوا مع ذلك جوهره الحقيقي. إن الذي يتذوق الثلج وحده يمكنه أن يخبر عنه وعن مذاقه، وكذلك فإن ذاك الذي حظي بإنس الله والقرب منه تارة كعابد وتارة كخليل وتارة كعاشق وتارة كفاقد لوجوده في حضرته هذا الشخص وحده يمكنه أن يشرح عن حقيقة الله وصفاته.
عندما نبدأ بملء جرة الماء فإننا نسمع قرقرة لكن ما أن تمتلئ الجرة حتى يتوقف ضجيج الماء. كذلك الأمر فإن الرجل الذي لم يتذوق حقيقة الله يصرف الوقت في تقديم الشروحات والبراهين على وجود الله وصفاته. لكن الذي عرف الله يتذوق النعمة في صمت ولا يحدث فيها.
النحلة تستمر في الطنين طالما بقيت تحوم فوق كأس الزهرة ولم تحط عليها لتذوق الرحيق. لكن ما أن تدخل النحلة جوف الزهرة وتبدأ بارتشاف الرحيق حتى يتوقف الطنين ويحل السكون التام. كذلك فإن الرجل الذي ينهمك بمناقشة المذاهب والأفكار يدل على أنه لم يتذوق بعد رحيق المعرفة الحقة. فلو كان تذوقها للزم الصمت.
احتفظ بإيمانك ومشاعرك لنفسك ولا تحدث بها الآخرين لأنك ستضيع الكثير منها في هذه الحال. وكلما أمكنك أن تخفي رياضاتك الروحية كلما كان ذلك أفضل.

لا تتلهوا بتوافه الأمور
دخل رجلان بستاناً من أشجار الفاكهة. الأول وهو من الذين ما زالوا متعلقين بالأشياء الدنيوية بدأ وفور دخول البستان بعدّ الأشجار وملاحظة كم تحمل من الثمار، وكم تساوي تلك الثمار لو بيعت في السوق. أما رفيقه فقد ذهب فور دخوله إلى صاحب البستان وتعرف عليه ثم توجه إلى إحدى أشجار المانجو وبدأ يقطف منها ويتذوق ثمارها الشهية. فأي الرجلين أعقل يا ترى؟ وأي فائدة تأتي من التلهي بعدّ الأشجار وثمارها وإجراء الحسابات؟ كذلك فإن الرجل المغتر بعلمه أو ذكائه يضيع الوقت بالمناقشات والجدالات حول الدين والله. أما الرجل العاقل والمحب لـ لله فإنه وقد فاضت عليه النعم الربانية يعيش بالغبطة والسكينة في هذا العالم.

زراعة الزيتون رهان المستقبل

زراعـة الزيتـون رهـان المستقبـل
كيف نجعل من «شجرة النور» زراعة اقتصادية ناجحة

الزيتون يحتل 20 % من إجمالي المساحات المزروعة في لبنان
لكن ضعف المعاملة ونقص الخبرة يتسببان بإنخفاض الإنتاجية

التسميد والريّ التكميلي ومكافحة الآفات عوامل
أساسية لتحسين الإنتاجية

مساحات واسعة تضاف الى المساحة المزروعة بالزيتون سنوياً في لبنان وحول العالم في دول كالولايات المتحدة وايران والصين وغيرها من الدول التي لا عهد لها بزراعة الزيتون في الماضي. هذا الاهتمام بزراعة الزيتون يؤكد الأهمية الاقتصادية لهذه الزراعة، وخاصة بعد أن اثبتت المراكز الطبية العالمية أهمية ادخال زيت الزيتون بكميات أكبر في الوجبة الغذائية العصرية، وذلك لتصحيح الخلل الحاصل في الوجبة بين محتوى الوجبة من الأوميغا 6 ومحتواها من الأوميغا 3.
في لبنان، تقدّر المساحات المزروعة بالزيتون بستين ألف هكتار
(12 مليون شجرة)، أي حوالي 20 % من إجمالي المساحة المزروعة، وهي موزّعة على المحافظات الأربع على الشكل التالي: 35 % في الشمال، 30 % في الجنوب، 20 % في جبل لبنان، 15 % في البقاع. يستخدم جزء من الزيتون الناتج كزيتون مائدة، أمّا الباقي فيتم عصره في حوالي 300 معصرة تنتج سنوياً حوالي 25 ألف طن من زيت الزيتون كمعدل عام، فتكون حصة الفرد في لبنان حوالي خمسة كيلوغرامات من زيت الزيتون، وهي نسبة قليلة جداً، مما يعني أنه يمكن التوسّع بزراعة الزيتون في لبنان لتغطية الإستهلاك المحلي.
إن زيادة الإنتاج يجب أن تتم أيضاً برفع إنتاجية الأشجار المنتجة حالياً، وليس فقط بزيادة المساحة المزروعة، لأنه وكما تدل الإحصاءات المذكورة أعلاه فإن إنتاجية الشجرة حالياً من زيت الزيتون لا تتعدى الكيلوغرامين كمعدل سنوي ويمكن بالمعاملات الزراعية الجيدة رفع هذه الإنتاجية الى أربعة وحتى الى خمسة كيلوغرامات.

إنتاجية الشجرة من زيت الزيتون في لبنان لا تتعدى الكيلوغرامين كمعدل سنوي لكن يمكن بالمعاملات الزراعية الجيدة رفع هذه الإنتاجية إلى خمسة
إنتاجية الشجرة من زيت الزيتون في لبنان لا تتعدى الكيلوغرامين كمعدل سنوي لكن يمكن بالمعاملات الزراعية الجيدة رفع هذه الإنتاجية إلى خمسة

شروط إنشاء بساتين الزيتون
قبل ذكر المعاملات الزراعية الجيدة يجب ذكر الشروط التي يجب اتّباعها عند انشاء بساتين الزيتون، لأن هذه الشروط هي عوامل محدِّدة للإنتاج في المستقبل وأي خطأ يتم ارتكابه يصبح من الصعب إصلاحه في ما بعد، فتحصل إضاعة للجهود والوقت ورأس المال.
أمّا الشروط الأساسية التي يجب مراعاتها عند إنشاء بساتين الزيتون فهي:
1. اختيار الصنف المناسب من حيث:
أ- مقاومة الأمراض والآفات
ب- ملاءمتها للهدف المقصود من الزراعة، وعلى سبيل المثال فإن الأصناف الجيدة لإنتاج زيتون المائدة قد لا تكون الأفضل لإنتاج زيت الزيتون.
ج- تحمّل الظروف المناخية للمنطقة المراد زراعتها. (صقيع، ثلوج، رياح، رطوبة).
2. توفر النوعية الملائمة من التربة ورطوبتها، فالزيتون لا يحب التربة الطينية الثقيلة وخاصة الرطبة منها مثلاً.
3. عمق التربة الزراعية، فأحياناً تكون التربة الزراعية الجيدة قليلة العمق تليها تربة صخرية أو دلغانية.
4. التأكد من خلو التربة من بعض مسببات الأمراض كالفرتيسيليوم الذي يمكن أن يصيب أشجار الزيتون، ومن الصعب مكافحته في الزراعات الواسعة.
5. التأكد من توفّر أشعة الشمس بكمية كافية، فبعض الأراضي توجد على منحدرات لا تصلها أشعة الشمس إلا ساعات قليلة في اليوم.
6. زراعة النصوب على مسافات لا تقل عن سبعة أمتار.
7. أن تكون حفر الزراعة كبيرة قدر الأمكان والأفضل أن يتم ذلك آلياً كي يصل عمق الحفرة الى متر اذا أمكن ذلك.
8. أن يتم وضع كمية من السماد العضوي المتخمر في أسفل الحفرة وخلطها بالتربة السطحية مع حفنة (حوالي 100 غرام) من الفوسفات لتسريع نمو الجذور.
9. اختيار نصوب سليمة قوية (عمرها سنتان أو ثلاث سنوات) ذات مجموع جذري كامل وقوي، حيث أن في بعض الأحيان يكون حجم النصوب الخضري كبيراً ولكن المجموع الجذري قد تمّ قطعه ولم يبقَ منه سوى بعض النموات الجذرية البسيطة داخل وعاء الغرسة المعدّة للبيع.
10. أن يتم ريّ النصوب في السنوات الثلاث الأولى للزراعة على الأقل لتسريع النمو والوصول خلال فترة زمنية أقل الى مرحلة الانتاج.
11. أن لا يتم تقليم النصوب المزروعة إلا بعد ثلاث سنوات من الزراعة، حيث نبدأ بتربية الشجرة واعطائها الشكل المرغوب.
12. شرط يجب إضافته ولو لم يكن زراعياً وهو أنه يجب مراعاة مستقبل المنطقة المراد زراعتها من حيث التمدّد العمراني وانشاء الطرق وغيرهما، لأن الإنتاج الاقتصادي لشجرة الزيتون يبدأ بعد عشر سنوات من الزراعة.

المعاملات الزراعية الجيدة في بساتين الزيتون
إن شجرة الزيتون هي شجرة حرجية تستجيب للخدمات الزراعية (ريّ، تقليم، تسميد)، فيصبح بالإمكان زيادة انتاجها لتصبح شجرة اقتصادية، أي ذات مردود أعلى من مجموع التكاليف الضرورية لإتمام عمليات الإنتاج والقطاف والعصر.
عندما نقول إن شجرة الزيتون هي شجرة حرجية يعني ذلك أن هناك توازناً طبيعياً في بساتين الزيتون بين العوامل الممرضة والحشرات الضارة وبين أعدائها الطبيعية. وأن أي خطأ يتم ارتكابه يؤدي الى خلل في هذا التوازن يستوجب معالجة مكلفة وأحياناً دائمة تجعل المردود أقل من التكاليف، وبالتالي تصبح زراعة الزيتون غير ذات جدوى اقتصادية فيتم اهمالها ومن ثم اقتلاعها واستبدالها بزراعات أخرى. ومن هذه الأخطاء:

زراعة الزيتون من أقدم الزراعات في جبل لبنان
زراعة الزيتون من أقدم الزراعات في جبل لبنان

أ- زراعة أشجار أخرى بين أشجار الزيتون كالدراق والتفاح والإجاص وغيرها فتنتقل الأمراض والحشرات من هذه الأشجار الى أشجار الزيتون.
ب- القيام بعملية المكافحة التي تعتمد التغطية الشاملة وخاصة بالمبيدات الحشرية التي تقتل كل أنواع الأعداء الطبيعية، فتنشأ سلالات مقاومة من الحشرات لا ينفع معها المكافحة الكيميائية ولا توجد أعداء طبيعية لإفتراسها أو إفتراس بيوضها فتتكاثر بشكل هائل، كما يحصل في الحشرة القشرية السوداء على الزيتون التي تكون أعدادها محدودة جداً، وبعد المكافحة المستمرة تغطي الشجرة وتقوم بإفراز مادة عسلية ينمو عليها الفطر الأسود فتصبح أشجار الزيتون كتلة سوداء دبقة لا يمكن حتى الإقتراب منها لوجود أعداد هائلة من الزراقط والدبابير والحشرات الأخرى التي تجذبها المادة السكرية.
ت- إعتماد برامج المكافحة الموضوعة مسبقاً دون الأخذ في الاعتبار العتبة الاقتصادية للآفة المطلوب مكافحتها.
ث- عدم دراسة الأثر البيئي لأي عملية سيتم القيام بها داخل أو حول بساتين الزيتون.
أما المعاملات الزراعية الجيدة فهي معاملات يجب أن تكون متكاملة كي نحصل على النتائج المرجوة، كما يجب القيام بكل عملية في وقتها المحدد وبمواصفاتها المحددة. وهذه المعاملات هي:
1. الريّ: لقد أعطيت هذه المعاملة الرقم واحد نظراً لأهميتها، حيث تتطلب زراعة الزيتون ريّاً تكميلياً في فترتين مهمتين.
الفترة الأولى هي فترة الإزهار وتكوُّن الثمار في أشهر نيسان وأيار، وفي هذه المرحلة تكون المياه ما زالت متوافرة بعد فصل الشتاء مباشرة.
الفترة الثانية هي نهاية شهر آب وبداية شهر أيلول، ولكن في هذه المرحلة تكون المياه غير متوافرة بسهولة ولكن تأمينها لأشجار الزيتون يؤدي الى مردود اقتصادي عالٍ يتمثل بزيادة كمية الزيت الناتج وزيادة حجم الثمار.
أما المحافظة على مياه الأمطار وتسهيل تغلغلها في التربة الى منطقة الجذور فيتم عن طريق الحراثة الخريفية والحراثة الربيعية.
ملاحظة: يمكن الاستغناء عن الحراثة اذا قمنا بتأمين الكمية الكافية من الرطوبة في منطقة الجذور عن طريق الريّ بالتنقيط مثلاً.
إن المياه عامل محدد لكمية ونوعية الانتاج، فيجب دائماً التعويض عن النقص في مياه الأمطار بالريّ التكميلي المناسب والمدروس في كل سنة وفي كل مرحلة.
2. التقليم: إن الشكل النموذجي لشجرة الزيتون هو شكل الشمسية التي تقترب أغصانها الطرفية من ملامسة سطح الارض، وخاصة أثناء فصل الخريف أي قبل القطاف. المطلوب من عملية التقليم هو تأمين:
أ- أكبر كمية من الطرود التي ستحمل موسم السنة التالية.
ب- تقليل كمية الخشب في الأشجار المعمرة بشكل تدريجي وليس في سنة واحدة.
ت- ازالة الأغصان الداخلية والمتشابكة واليابسة وحرقها بعد أن تكون قد شكلت ملجأً لحشرة خنفساء فروع الزيتون.
3. التسميد: يتطلب التسميد توفّر الكميات الكافية من المياه وإلا أدى ذلك الى نتائج عكسية على نمو الشجرة وعلى انتاجها. فكلما أمكن تأمين كمية أكبر من المياه أمكن زيادة كمية الأسمدة المضافة، والتسميد يمكن أن يكون بأشكال متعددة منها:

شجرة الزيتون هذه تمت تربيتها بصورة صحيحة فهي غنية بالنموات الخضرية التي تحمل الثمار كما أن أغصانها قريبة من الأرض ويمكن بصورة عامة قطافها من دون صعوبة
شجرة الزيتون هذه تمت تربيتها بصورة صحيحة فهي غنية بالنموات الخضرية التي تحمل الثمار كما أن أغصانها قريبة من الأرض ويمكن بصورة عامة قطافها من دون صعوبة

أ- إضافة الأسمدة العضوية المتخمرة وخاصة زبل البقر والماعز ويتم ذلك بحفر خندق حول الشجرة بعيداً عن جذعها بعمق حوالي 30سم وعرض حوالي 50 سم، حيث يتم وضع السماد في الخندق وخلطه بالتربة ثم تغطيته بالتراب،كما يمكن إضافة حوالي 4-2 كلغ للشجرة من السماد المركب NPK فيخلط مع السماد العضوي ويطمر معاً، ويمكن أن تتم هذه العملية مرة كل سنتين.
ب- التسميد الآزوتي في نهاية شهر شباط حيث يتم نثر حوالي 4-3 كلغ من سلفات الأمونياك تحت المجموع الخضري للشجرة قبل بدء سقوط الأمطار مباشرة، وعادةً يتم ذلك في سنوات الحمل.
ث- إضافة الأسمدة الكيميائية الذوابة عبر أنابيب الريّ في المواعيد السابقة نفسها على أن تكون كمية المياه كافية لوصول السماد الى منطقة الجذور.
ملاحظة: إن زيادة التسميد الكيميائي تؤدي الى زيادة كمية الإنتاج وزيادة عدد الثمار، ولكن يقابل ذلك انخفاض في نسبة الزيت الناتج وكبر حجم النواة بالنسبة للمادة الشحمية المغلفة لها فتزداد كلفة القطاف والنقل والعصر وتنخفض نسبة الزيت الناتج. لذلك يجب إضافة الأسمدة الكيميائية وخاصة المركبة باعتدال، كما أن زيادة التسميد الآزوتي تؤدي الى كثافة النمو الخضري وضعف مقاومة الأشجار للأمراض والآفات المختلفة، وعدم وصول أشعة الشمس الى داخل الشجرة لذلك يجب ايضاً إضافة الأسمدة الآزوتية باعتدال.
4. القطاف: إن أكثر العمليات الزراعية كلفة في زراعة الزيتون هي القطاف حتى أنه يتم في لبنان ضمان بساتين الزيتون بشكل يحصل فيه الضامن على 50 % من الانتاج مقابل فقط القيام بعملية الجني. إن جني الزيتون يجب أن يتم من دون الحاق الأذى بالثمار ومن دون تكسير النموات الطرفية التي ستحمل موسم السنة التالية، وأفضل طريقة قطاف هي القطاف اليدوي باستخدام الأمشاط اليدوية ولكنها عملية مكلفة لذلك يتم اللجؤ الى طرق أخرى كاستخدام الفراطة الآلية والعصا وهز الأغصان.

الحدّ من خطر بعض العوامل الممرضة والحشرات الضارة
من أبرز المهمات التي يجب أن ينتبه إليها المزارع في هذا المجال ما يلي:

أهلاً بشيـخ السفــرة
أهلاً بشيـخ السفــرة

الحدّ من ضرر الإصابة بذبابة ثمار الزيتون: إن الصيف الحار الطويل يحدّ من تكاثر ذبابة ثمار الزيتون، وبالتالي يخفف من ضررها أحياناً بشكل كامل، بينما الصيف المعتدل الحرارة يساعد على تكاثر الذبابة وانتشار خطر الإصابة، فيجب مراقبة ذلك عن طريق المصائد المختلفة الأنواع، وعن طريق معرفة نسبة الثمار المصابة وعندما تقترب هذه النسبة من 4-3 % نقوم برش جزء من الجهة الجنوبية من الشجرة المواجهة للشمس بمزيج مركز من المادة الجاذبة (هيدروليزات البروتين) والمبيد الحشري ديمتوات. وفي كل الأحوال يجب القيام بالقطاف المبكر اذا كان الطقس مساعداً لانتشار الذبابة واذا كنا لا نرغب بوجود بقايا الديمتوات في الزيت الناتج لأن فترة الأمان عند المكافحة بالديمتوات هي عشرين يوماً على الأقل من تاريخ المكافحة.
الحدّ من ضرر الفطر المسبب لمرض عين الطاووس: عندما تكون الأشجار ضعيفة وغير مقلمة وعندما تكون الرطوبة عالية جداً في بطون الأودية ينتشر مرض عين الطاووس بشكل يمكن أن يؤدي الى تعرية قسم كبير من الشجرة، وذلك بسبب جفاف الأوراق المصابة وسقوطها، ولكن الأشجار القوية والمقلّمة والموجودة على السفوح المشمسة لا يشكل سقوط نسبة من أوراقها حالة تستوجب المكافحة.
إذا كانت الحالة تستوجب المكافحة، فإن ذلك يتم بالمبيدات النحاسية بعد القطاف في فصل الخريف شرط أن لا يلي الرش سقوط الأمطار، ويمكن أن يعاد الرش في بداية فصل الربيع قبل تفتح الأزهار.
الحدّ من ضرر البكتيريا المسببة لمرض سل الزيتون: يجب قص الأفرع المصابة وحرقها مباشرة على أن يتم تطهير وسيلة القص بمادة مطهرة بعد كل قطع، لأن البكتيريا تنتقل بواسطة وسائل القطع مسببة انتشار الإصابة في الأفرع السليمة.
الحدّ من ضرر خنفساء فروع الزيتون: نقوم بتقليم بعض الأفرع المطلوب تقليمها ونبقيها في البستان لتشكّل مصيدة لخنفساء فروع الزيتون، وعندما تظهر الثقوب على الأفرع المقلّمة معنى ذلك أن الحشرات أصبحت بداخلها فنقوم بحرقها مباشرةً.
أمّا عثة الزيتون وبسيلا الزيتون ونمشة الزيتون السوداء، فالأعداء الطبيعية كفيلة بالتحكم بأعدادها وعدم وصولها الى العتبة الاقتصادية إلا إذا قمنا بالأخطاء التي ذكرناها سابقاً.

إن بساتين الزيتون المنتشرة على سفوح جبالنا والتي كانت تعطي آلاف الأطنان من ثمار الزيتون يجب أن تعود الى انتاجها الأمثل، ويجب أن تشكّل مصدر أمان اقتصادياً لأجيالنا المقبلة. فلماذا لا يُخصص جزء من الرساميل الهائلة التي نضعها في قطاعات أخرى كالعمران والسياحة والخدمات لقطاع الزراعة ؟ فالزراعة، ومنها زراعة الزيتون هي ما يجب أن يتوجّه اليه اهتمامنا في السنوات المقبلة اذا كنا نريد لأولادنا حياة كريمة على أرض بلادهم وأجدادهم.

الشاعر الفارسي سنائي

سنـــائي

كـــان حجـابـــاً مـــن نـــور
وكـــل حجـابٍ كـــان حجـــاباً لِحِجابْ

كــلام بليــغ مـن مجنون في حديقـة
بـدل مجرى حياته نحو الزهـد والخلوة

تلفظت بقول هو بمثابة أثر كامل ونطقت ببيت شعر هو بحجم ديوان
(سنائي)

يعتبر الشاعر الفارسي الكبير سنائي أحد أبرز عمالقة الشعر الصوفي في القرن الثاني عشر الميلادي، ومن غريب المصادفات أنه عاصر كلاً من فريد الدين العطار وجلال الدين الرومي اللذين تربعا إلى جانب سنائي في أعلى مقامات الشعر والحكمة، وقد كان الثلاثة أكثر من شعراء لأنهم كانوا متحققين ومرشدين كاملين جلسوا للإرشاد وقبلوا المريدين وكان لكل منهم أثره الذي لا يمحى، بل أن السنين لم تزد هؤلاء الثلاثة إلا شهرة وتعظيماً بحيث ما زال شعرهم يتردّد على كل شفة ولسان وعشرات اللغات حول العالم.

فضل سنائي
لكن من الممكن القول إن سنائي الذي سبق في الزمان كلاً من الرومي والعطار كان السبّاق بين الثلاثة إلى بلورة الأسلوب الشعري الزاخر بالقصص والصور والأمثلة من القرآن والسيرة النبوية وسير الصالحين، وقد كان شاعر الصوفية الأكبر جلال الدين الرومي أول معترف بفضل سنائي وبسبقه في ميدان العشق ولغة القلوب. وها هو يقول شعراً في ذلك:
تركت طريق الصبابة ولم أكن قد نضجت بعد
فلتستمع الآن إلى القصة الكاملة لحكيم غزنة

كما أنشد في مكان آخر يقول:
كان العطار هو الروح، وكان سنائي العينان
أما نحن فنسير على أثر سنائي والعطار

ولد الشاعر الحكيم سنائي (واسمه الكامل أبو المجد بن مجدود بن آدم سنائي) في “غزنة“ التي تقع اليوم في ما يعرف بأفغانستان، وذلك في أواسط القرن الخامس الهجري، وعاش في ظل حكم الملك بهرمشاه. وقد حظيّ سنائي منذ يفاعه بمكانة رفيعة، إذ اشتهر باعتباره أحد أبرز العلماء والصالحين في زمانه، كما حظيّ بأسمى عبارات التقدير والتعظيم على ألسنة الخلق، إذ أنه جمع إلى مسلكه الصوفي وحكمته قلباً رقيقاً وأدباً رفيعاً وموهبة فريدة في نظم الشعر والتعبير الشعري عن أعقد المسائل الروحية والدينية.
اعتزل الدنيا وانقطع عن مشاغلها ومتعها وهو بعد في عز الشباب، ويقال إنه اتخذ قراره بصورة مفاجئة وعلى أثر حادثة عجيبة تروى كالتالي:
كان الحكيم سنائي ضيفاً دائماً على بلاط الملوك والأمراء، حيث كان ينظم الشعر في مدح خصالهم وإسهامهم وما ينجزونه من عمارة وعدل في الملك وازدهار. وحدث أن قرر السلطان إبراهيم الغزنوي شن هجوم على “عَبَدة الأصنام” في الهند المجاورة، فنظم سنائي قصيدة في مدح السلطان إبراهيم وأخذ طريقه نحو القصر ليلقيها بين يديه قبل انطلاقه بالحملة على شمال الهند.

قصته مع مجنون غزنة
وكان في غزنة في ذلك الوقت رجل غامض “مجنون” يلقب بـ “لاي كور” (أي آكل الثيران)، وكان معروفاً عنه أنه كان ينطق وأسلوبه الخاص بأقوال فيها القدر الكبير من الحكمة وغالباً ما كان لكلامه وهو المجنون في الظاهر وقعٌ عميقٌ على الناس لأنه يلامس لا وعيهم ويشير إلى حقائق كبرى ومواقف لا يجرؤ الناس العاديون على اتخاذها. وكان “لاي كور” يعاقر الخمرة ويتردد كثيراً على الحمام العام . وحصل في ذلك اليوم أن مر ّسنائي في طريقه إلى قصر السلطان بحديقة فتناهى إلى سمعه شعر وغناء فتوقف قليلاً وأصغى لما يقال. وبعد قليل كان المغني – الذي كان في الواقع المجنونة “لاي كور“- يخاطب الساقي بالقول: أيّها الساقي املأ لي كأساً ولنشرب على نية أن يحل العمى بالسلطان إبراهيم. وسمع سنائي الساقي يوبخ المجنون بالقول: “حرام عليك أن تدعو بالعمى على ملك عادل مثل السلطان إبراهيم، فأجاب المجنون بأن السلطان يستحق العمى بسبب حماقته وتركه لمدينة رائعة مثل “غزنة“ التي تحتاج لوجوده ورعايته في سبيل مغامرة حمقاء في أرض بعيدة وفي عز الشتاء القارس.“ وتابع المجنون فطلب من الساقي أن يترع له كأساً ليشرب هذه المرة على نية أن يصاب الحكيم سنائي بالعمى أيضاً. وعندها وبخه الساقي بعبارات أقوى، إذ كيف يعقل أن تتمنى العمى لرجل لا يكن الناس له سوى المحبة والتعظيم؟ وعلى هذا أجاب المجنون بالقول: أما سنائي يستحق اللعن حتى أكثر من الملك لأنه ومع كل علمه ورجاحة عقله لا يبدو أنه يعلم لأي هدف خلقه الله، ولأنه عندما سيواجه الخالق ويسأل عمّا حمل معه من الأعمال الصالحات لن يكون لديه ما يعرضه سوى قصائد المديح للملوك والأمراء وهم من عبيد الفناء مثلهم مثل الشاعر.
ويبدو أن هذه الكلمات كان لها وقع الصاعقة على سنائي وشخصيته الرقيقة والورعة، وقد قرر الشاعر على الفور اعتزال الدنيا والتخلي عن كل مباهج الحياة ومخالطة البلاط وجاهه الفارغ.

سلوكه طريق التصوف
وتبع سنائي اعتزاله بالسعي لأخذ مرشد روحي كامل وجده في شخص الشيخ القطب يوسف الحمداني، والذي كانت زاويته الصوفية قد اشتهرت باسم “كعبة خراسان”.
ويبدو أن أهل البلاط صدموا بهذا الانقلاب الكبير في حياة الشاعر وافتقدوا حضوره، الأمر الذي دفع السلطان برهم شاه بعرض تزويج الشاعر سنائي من شقيقته، وهو شرف لم يتردد سنائي في شكر السلطان عليه لكن مع الاعتذار في الوقت نفسه عن عدم قبوله، وقرأ سنائي في ذلك العرض أن عليه أخذ خطوة حاسمة تبعده عن غزنة فحث السير بهدف الحج إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ويشير سنائي في ديوانه الشهير “الحديقة” الذي كتبه بعد العودة من مكة المكرمة إلى هذه الحادثة مكرراً بالصيغة الشعرية اعتذاره من الملك بالقول:
لست من أولئك الذين يهمم الذهب
أو الحصول على زوجة،
أو على مكانة رفيعة بين الناس.
بالله العظيم أحلف لك،
بأني لا أسعى وراء تلك الأشياء
ولا أرغب فيها.
بل أنك لو قررت بوافر فضلك وإنعامك
أن تقدم لي تاج الملك
فإني أقسم برأسك أنني لن أقبل به.

مذهبه
هوجم سنائي أثناء حياته في أكثر من مرة بتهمة الخروج عن الشريعة لكن بلاط الخليفة في بغداد ردّ على هذه التهم بإصدار فتوى تؤكد الإيمان الصحيح لسنائي والتزامه الدين الحنيف.
لكن من المرجح أن تكون تلك التهم قد صدرت بسبب المنحى الخاص الذي اتبعه سنائي، والذي تميّز برفض التفريق بين المذاهب، فهو أخذ مسلك العرفان على يد أحد أقطاب الصوفية المسلمين السنة لكنه أظهر في الوقت نفسه حبه للإمام علي (ر) وآل البيت.
ومن الصعب في الواقع تشخيص مذهب سنائي إذا ما قرأنا شعره في “حديقة الحقيقة”، وهي مجموعته الشهيرة والرئيسية والتي توازي في أهميتها “مثنوي” جلال الدين الرومي، فقد عبّر في ذلك الديوان عن نزعة واضحة إلى الوحدة فاستهل ديوانه بمدح رسول اللّه (ص) ثم ثنّى بأبي بكر وثـلّث بعمر ثم عرج على عثمان وخـلـص أخـيراً إلى مدح الإمام علي (ر) وتساوي الصفحات المخصوصة بـبـيـان مـنـاقـب الإمـام الـصـفـحات التي تتحدث عن الخلفاء الثلاثة، وحين فرغ الشاعر من مدح أمـير المؤمنين، انتقل إلى مدح الإمام الحسن، فالإمام الحسين وأخيراً أبي حنيفة والشافعي. لكن سنائي يحرص في كلماته على إظهار المحبة للإمام علي (ر) والذي كتب عنه بهذه الأبيات في “الحديقة”:
نصب اللّه خليفة المصطفى أميراً يوم الغدير
و لأجله دعـا الـمـصـطـفـى ربـه قـائلاً:
“الـلـهـم والِ مـن والاه”.
هو للنبي وصي و صهر
وسُرَّت روح النبي لجماله”
ولهذا السبب ربما فإن الملا محمد طاهر القُـمِّي المناهض للصوفية ينكر عدّ سنائي من شعراء الـصـوفية، كما ينكر تشيّعه ومن أدلته على ذلك أن أحداً من العلماء المتقدمين لم ينص على تشيعه.
يبقى القول إن الفصل حول معتقد سنائي نجده في شعره العرفاني الذي يستوعب الإنسانية كلها وليس مذاهب الإسلام فحسب، في رؤيته التوحيدية التي تستصغر كل ما في الدنيا وتنشد التقرب من الله وحده ولا ترى مكاناً لإضاعة الوقت في الاختلاف، وهذا شعر سنائي يدعونا تكراراً أن نأخذ طريق المحو والتجرد التام من كل التعلقات أملاً في القرب من الله تعالى والانكشاف على نوره وحقيقته. فكيف يمكن لشاعر كهذا أن يبقي في صدره ولو خاطراً صغيراً يجعله في صف هذا أو ذاك ومخاصماً لهذا أو ذاك من الناس أو المذاهب.

آثاره الشعرية
تشتمل آثار سنائي باللغة الفارسية على سبع مثنويات وديوان. أما المثنويات فهي:
حديقة الحقيقة: وهي الديوان الأشهر ويبلغ عدد أبياته أحد عشر ألف بيت – طريق التحقيق – غريب ‌نامه – سير العباد – كارنامه – عشق نامه – عقل نامه
أما الديوان: فهو صدر بعنوان “ديوان” ويشتمل على اثني عشر ألف بيت من الشعر، موزّعة بين القصائد والترجيعات والتركيبات والغزليات والرباعيات.
وفي ما يلي نعرض لباقة رائعة من شعر سنائي، وكما يلاحظ فإن مضمون كافة الأبيات التي كتبها سنائي يتعلق بترك الدنيا والتقرّب من الله والاقتداء بالصالحين.

مختارات من شعر الحكيم سنائي

التصديق
تصديقي بك يقربني إليك
لكن فقط حتى الباب
فقط عندما أغيب في سرك
سيمكنني الدخول

مثل وردة
نارك المحرقة
جعلتني أتفتح مثل وردة
متُّ على قدميك
وعدت بسرعة إلى الحياة
حريتي الوليدة
لم تحمل لي أي مغنم
لكنني الآن حرّ
بعد أن أصبحت عبداً لك

تفكر ساعة
اجمع فتات الفكر
واملأ نفسك
شيئا فشيئاً بالمعاني
إن العبد الذي يتفكر
ستين دقيقة
في أسرار الخلق
يحصل من الشرف والمقامات
قدر ما يحصله الناس
في ستين عاماً من الصلاة والصوم
التفكر يجعل باز الفكر المحلق عالياً
يهبط أخيراً على فرع مزهر
ينبثق من القلب

حديث في الألغاز
يا عزيزي
لا أعتقد أن رجليك
تقويان على هذا الطريق
فلم هذا الجهد المضني
ليست لك فكرة أين توجد الأصنام
فلم هذا الحديث الروحي الطويل؟
ما الذي يمكن عمله مع رفاق الطريق
الذين يجادلون باستمرار
الممتلئون زهواً مثل تجار البازار
أنت روح صافية
لكنك تظن نفسك جثماناً
أنت ماء قراح لكنك تظن نفسك الوعاء
كل ما تريده عليك البحث عنه
..إلا الصديق
لأنك إن لم تجده
فإنه لن يكون بإمكانك حتى أن ترى أي شيء
نعم يمكن القول دوماً بأنك لست هو
إلا إن أمكنك أن ترفع حجاب نفسك
من بين وجودك ووجوده
لأنك في هذه الحال سترى أنك أنت هو

لسان وأذن
لا يوجد في الدنيا لسان يمكنه أن يفصح عن سرك
لأن قياس الكلام يغشى على حقيقتك
لكن موهبة الأذن أنها تسمع
ما لا يمكن للسان أن يشرحه

حب الوحدانية
عندما يضيء قلب رجل على الطريق
لا يبقى أحد في مكانه
القدم تطأ الأرض لكن ليس لوقت طويل
ولأنه حيث يبدأ القلب البوح بأسراه
لا يوجد هناك “أنت” ولا يوجد فكر
الفارس يحث حصانه على الانطلاق
لكنه بذلك يلقي بنفسه تحت الحوافر الطائرة
في حب الوحدانية لا يوجد قديم أو جديد
كل شيء هناك لا شيء
الله وحده هو الموجود

كن عارياً مثل حبة القمح
في أعين الأحبة فإن حجاب الظاهر
لا يخفي شيئاً
يداك وقدماك يجب أن يتحركا
كما يتحرك الينبوع في مساره الحثيث نحو المحيط
عندها لن يبقى هناك من يتحدث عن البحث
أن تكون شهيراً أو منبوذاً،
أن تكون في المقدمة أو في الخلف،
تلك اعتبارات أشبه بالحجارة التي تؤخرك عن السير
فكن عارياً مثل حبة القمح الخارجة من غلافها
كن مضيئاً مثل آدم
لا تسأل عن أي شيء سوى الحضرة
لا تتحدث عن “أنت” يكون منفصلاً عن “ذاك”
الوعاء الممتلئ لا يمكنه أن يكون أكثر امتلاءً
فكن كل شيء ولا شيء


عالم بلا أرض ولا زمان
عندما تواجه الطريق لأول وهلة، تشعر بأنها مظلمة.
ترى فيها جبالاً شاهقة شامخة،
وترى فيها جماعات من السباع والوحوش الضارية.
اصعد إلى الدرجة التي ترى فيها العالم كله، فسترى مُلكاً بدون أحزان
وسترى عالماً بلا أرض أو زمان، وملكاً دون مكين أو مكان
فارتفع واتجه إلى العلا، حتى ترفع رأسك شرفاً وعزة
وعندما تصل إلى العلا، فسوف نبعد عنك الدنايا
حتى نفتح عيون قلبك، وننظر إليك بدون حجاب
وعندما تنظر إلينا بعين العقل، سوف تدرك ضآلة نفسك وعجزك
وتتجرد من التخيل والتخمين، ولن تستطيع أن تعد نفسك شيئا
فهدئ من غلوّ كبريائك، واستعد
لترى في قلبك برهاننا، لترى التاج والعرش وملكنا.
إن الجاهل يسمع كلامه فحسب، ولا يلقي بالاً إلى كلام الآخرين
خطاب إلى النفس
عندما حل العشق في قلبي، نزع قيد العبودية عني
ورفع عني جميع القيود، فصرت مولى بعد أن كنت عبداً
فتحولت جميع أحوالنا، وتبدلت جميع صفاتنا
فرفع القيد عني ووضعه عليك، فأنت الآن عبد، وأنا حر
أنت أسيري وأنا أميرك، فكيف يقترب الأسير من الأمير؟

إذا استيقظ القلب
العارفون طيور هذا البستان
والعاشقون صيادو هذه الغابة
بصرهم حاد في ظلمة الليل
في هذا الزمن الأعمى والعالم الغادر
يرون النار وجنة الخلد عيانا
نار العشق في قلوبهم، والدموع في أعينهم
إذا استيقظ القلب فالكلام ذِكر
وإلا فهو مجرد صوت

مأساة حمار
مر حمار ذات يوم على دكان حداد
شاء القدر أن تنبعث شرارة من الكير فتصيب حزمة الحطب
انبعثت النار في الحطب فاحترق، وفي النهاية احترق الحمار بين ذلك
ومن العجب أن تمر على نار وأنت تحمل الحطب ثم تنجو بنفسك !!
لأنك لن تمر وتتجاوز النار بسبب ثقل الحمل
فأنت رهينة ذلك الحمل
والأكل والنوم عادتك،
وهذا كل نصيبك من السعادة.

عصر الظلم
لقد خرب الظلم أساس بنيان العالم
واختفى وجه شمس العدل تحت السحاب
الظلم أياً كان فاعله خطب عظيم، والظالم قبيح لعين
أينما توجه العدل بوجهه، حلّت النعمة وفاضت
وكل مكان تُزرع فيه شجرة الظلم، تُقتلع منه جذور المُلك
العدل شمعة تضيء الدنيا، وظلم الملِك نار تحرق الممالك
فأنا كالشمع أنير المجلس، ودائماً ما احرق خيوط روحي
هذه الأشعار من لب روحي، فان خرجت طيبة أو سيئة فمن لساني
فلست في الشعر عالة على أحد، ولا أطير بأجنحة أحد أو قوادمه.

آلام الطريق
كان اثر خدي على الطريق، كأثر خف الإبل
كنت كالطفل الذي فرض عليه صعود الجبل
فكانت دموعي تجري مثل اللؤلؤ
وكان السيف من كثرة سقوط البرد عليه مثل الماس
صار قلبي كالحجر، وعيني دامعة كالبدر
ووجهي مصفراً من دموعي، وظهرت فيه نقاط مثل جلد الفهد
وعندما كان الفهد يرى هذا المنظر،
كان يفرّ خوفاً على نفسه وليس من الغضب
لم يمكث أحد على تلك الجبال، إلا وكسرت عظامه
أصبحت دموعي كالياقوت، برغم انعدام قوُتي، وانتهاء قوَّتي
و كان مؤنسي في هذه الطريق، صوت السباع والحمير
حجاب النور
جلت سنوات طويلة في تلك المقامات
للعبرة والنظر والتدبر في الكون
فحيناً كنت في بغداد للعلم
وحيناً كنت في بيداء الوهم
وحيناً كنت في الفردوس وآخر كنت في الهاوية
حيناً كان قلبي شمع طريق الغيرة،
وحيناً كانت نفسي غريقة في بحر الحيرة
حيناً كنت في الكشف والمكاشفة، وآخر كنت تحت الحجب والستور
حيناً كان لطف البسط يسكرني، وحيناً كان عنف القبض يرهقني
وحينما مزقت هذه الحجب، وصلت إلى حجاب آخر
حجاب ذاته الذي كان من النور،
كان حجباً، وكل حجاب كان حجابا لحجاب.

لا تبحث عنه
لا تحكي عن عذابك لأنه هو يحكي
لا تبحث عنه في كل مكان، لأنه هو يبحث عنك
لو أن رجل النملة لامست ورقة الشجر فسيشعر بها
لو أن حصى النهر تحرك من مكانه فإنه سيعلمه
لو أن دودة من ديدان الأرض اختبأت في صخرة
فإنه سيعرف عن جسدها حتى ولو كان أدق من الذرة
كما أنه سيسمع همهمة تسبيحها ونشوتها في السرّ
كل ذلك يعلمه هو بالعلم الرباني
وهو الذي أعطى أصغر الديدان قوتها
وهو الذي فتح لك الطريق إلى أهل الله

الطريق إليك
الطريق إليك
تشق مسارها كالنهار في قلبي
لكن لا يمكن للفكر أن يراها أو يعرفها
وعندما تتحول كلماتي نحو الصمت
فإن حلاوتك تحيط بكل كياني

وردة التسبيح البرية
أولئك الذين لا يعرفون كيف يحزنون
أو كيف يتحدثون عن حبهم
أو كيف يشكرون،
أولئك الذين ليس في مقدورهم
أن يتذكروا الله
باعتباره منبع كل شيء
هؤلاء يمكن وصفهم بأنهم مثل الريح الأجوف
أو مثل السدان البارد للحداد
أو مثل جماعة من الكهول المذعورين
ألا فلتنطق باسمه واجعل لسانك رطباً بذكره
وكن مثل بساط الربيع
وعندما تبدأ الامتلاء بالحكمة
وعندما يمتلئ قلبك حباً
فلن تظمأ بعدها أبداً
كل ما يبقى هو الاصطبار
وأنت واقف على عتبة الباب
غير مبالٍ بما تسمعه
من نصيحة المارة في الطريق

1 التطبيقات المنزلية للطاقة البديلة

التطبيقات المنزلية للطاقة البديلة

حلـــــول اقتصاديـــــة وصديقـــــة للبيئـــــة
تؤمـــــن الطاقـــــة المستديمـــــة للمنـــــزل

في هذا العدد سوف نقوم بدراسة وتجهيز أحد البيوت الجبلية بالطاقة الكهربائية عبر تزويدها بألواح شمسية وبتوربين هوائي على أن يفي ذلك بحاجة المستهلك لتغطية مصروفه اليومي الضروري من الطاقة الكهربائية. ونشدّد على كلمة الضروري لأن أكثر الناس يستهلكون من الطاقة ربما ضعف ما يحتاجونه نتيجة الهدر أو البذخ الفارغ ولو أنهم بحثوا عن تقنيات ووسائل توفير الطاقة لأدى ذلك حتماً إلى خفض الاستهلاك بصورة كبيرة وربما بأكثر من النصف.
نشير إلى أن الحالة التي نعرضها هنا هي لمنزل ما زال بعيداً عن اقرب نقطة لشبكة الكهرباء، وهذا إضافة إلى كون صاحب المنزل من أصدقاء البيئة ويرغب بأن يقدم نموذجاً عملياً يشجّع الناس على تبني حلول الطاقة البديلة والمساهمة بالتالي في تخفيف انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون التي تنتجها المولدات العاملة على المازوت أو البنزين. أضف إلى ذلك الرغبة في التخلص من الضجيج والأدخنة الضارة والمنفِّرة التي تصدر عن المولدات وتوفير التكلفة العالية للمحروقات بما في ذلك المازوت. أخيراً فإن صاحب المنزل الذي ندرسه يعتقد بأن الحصول على نظام للطاقة الكهربائية يعمل بطاقة الشمس والرياح يحقق له «الأمن الكهربائي» بحيث لا يكون مصدر الطاقة الذي يستمتعون به مرتهناً بأي تقلبات أو عوامل خارجية وهذه العوامل كثيرة وغالباً ما نشهد أمثلة عليها في لبنان. وبالطبع فإن ميزة الاستقلال الكهربائي مهمة لجميع قاطني الجبال الذين يحتاجون إلى تأمين مقومات العيش في جميع الظروف خصوصاً مع احتمال تفاقم معضلة التقنين أو حصول انقطاع في توافر المحروقات في حال وقوع أزمات تموين أو حالات تعتيم مشابهة لما أصاب البلد أثناء عدوان تموز 2006.

متطلبات أساسية
يحتاج إدخال نظام للطاقة البديلة إلى عملية تقييم ودرس أولية تستهدف تعيين كمية الطاقة التي يحتاجها المنزل ثم اختيار المكونات المثلى التي تسمح لهذا النظام بتوفير الطاقة المتوقعة منه في جميع الظروف المناخية.
والخطوة الأولى في نطاق عملية التقييم يجب أن تكون زيارة الموقع لتفحص مسارب الهواء في المكان ولمعرفة ما إذا كانت هناك أي تكوينات طبيعية أو غابات أو أبنية قريبة تعيق حركة الرياح. ومن ثم يجب القيام بتحديد المكان الأنسب لتركيب الطاقة الشمسية وهي الجهة الجنوبية حيث لا توجد أي أشياء تظلل المكان أو تعيق وصول أشعة الشمس باستمرار إلى الألواح الفوتوفولطية. بعد ذلك نقوم بتحديد الحاجة الكهربائية للمستهلك ثم تحديد اللوازم الكهربائية منخفضة المصروف التي تسمح بعمل النظام براحة تامة ودون تعرضه لضغوط السحب التي قد لا يتحملها. ومن الأمثلة على اللوازم الموفرة للطاقة أنظمة الإضاءة العاملة بنظام LED أو نظام DLP (وهو الأحدث والأكثر توفيراً) أو البراد المصمم خصيصاً لتوفير الطاقة بحيث لا يتعدى مصروفه الـ 0.6 أمبير في الساعة، ومن الأمثلة أيضا التلفاز العامل بشاشة LED و LCD الذي لا يتعدى مصروفه 75 واط في الساعة في مقابل التلفاز التقليدي الذي يصرف 300 واط على الأقل في الساعة أي أربعة أضعاف مصروف التلفاز الموفر للطاقة. ولكي نعرف كمية الطاقة المطلوبة لتأمين حاجات المنزل من الكهرباء يجب تحديد نوع الأجهزة اللازمة وعددها ومصروفها ومدة استعمالها خلال النهار أو الليل وهي كالتالي:
1. لمبات توفير عدد 10 تصرف 300 واط في الساعة، في حال استعملت لمدة 7 ساعات في اليوم فإن مصروفها الإجمالي يكون 2100 واط في اليوم.
2. براد Economy يصرف 130 واط في الساعة، وفي حال تمّ تشغيله لمدة 15 ساعة في اليوم يصرف 1950 واط .
3. تلفاز بشاشة LED يصرف 75 واط وجهاز استقبال Receiver يصرف 15 واط في الساعة، لمدة 7 ساعات يومياً مما يجعل المصروف الإجمالي للتلفاز 630 واط.
4. مكواة Economy تصرف 200 واط بالساعة لمدة 3 ساعات أسبوعيا أو نحو 600 واط في الأسبوع ونحو 85 واط في اليوم.
5. جهاز كمبيوتر محمول يصرف 20 واط، يشحن لمدة 6 ساعات في اليوم، يصرف 120 واط.
6. نشاف شعر، مثقاب Drill، ومروحة، مصروفات متفرقة مختلفة = 750 واط في اليوم.
طبعاً هناك المزيد من الأجهزة الكهربائية ما زالت ناقصة كالتبريد(المكيّف) في فصل الصيف والتدفئة في فصل الشتاء. ولكن في هذه الحالة تتم التدفئة عبر الحطب أو عبر تركيب توربين هوائي يعمل في فصل الشتاء كثيراً لكثرة وجود عواصف تجعل من التوربينات تدور بسرعة لتنتج كمية كبيرة من الطاقة الكهربائية، أما التبريد فيتم عبر المراوح المجهزة برذاذ المياه ذات المصروف القليل.
كما ترون في هذه الدراسة فإن إجمالي المصروف اليومي لهذا المنزل بلغ حوالي 5635 واط ، طبعاً هناك بعض اللوازم الكهربائية التي لا تستعمل يومياً كالغسالة مثلاً ولكن يمكن شراء غسالة صغيرة بطاقة 300 واط لا تصرف المياه والكهرباء كالغسالات الأوتوماتيكية.
من أجل تأمين هذه الحاجة تمّ تركيب أربعة ألواح فوتوفولطية بقوة 230 واط لكل منها، وهذه الألواح يمكنها شحن أربع بطاريات بقوة 250 أمبير للواحدة، وسيتم لاحقاً الاستعانة بتوربين هوائي بقوة 1500 واط يستخدم في فصل الشتاء أو عند هبوب الرياح وتراجع ضوء الشمس بسبب الغيوم الكثيفة والأمطار والضباب، وهذا مع العلم أن المنزل موضوع البحث يقع في ممر هوائي على قمة جبل مواجهة للبحر وهو على علو يزيد على 1000 متر عن سطح البحر.
إن أربع بطاريات موصلة مع بعضها البعض قادرة على تخزين ما يعادل 12000 واط أي أن هذه البطاريات قد تكفي حاجة هذا المنزل لمدة يومين أو على الأقل في حال تمّ فصلها عن الطاقتين الشمسية والهوائية، وهذا الاحتياط يساعد في المحافظة على قوة التيار الكهربائي في حال ضعفت التوربينات الهوائية أو انخفضت الطاقة الشمسية في فصل الشتاء، كما أنه يساعد في إراحة البطاريات باستخدام نصف كمية الأمبير المطلوبة وهذا يساعد في زيادة عمرها الافتراضي.
أما مجمل الإنتاج الكهربائي فسيتم عن طريق الطاقتين الهوائية والشمسية بشكل دائم ومستمر، فما أن تطلع الشمس حتى تبدأ عملية إنتاج الكهرباء من الخلايا الشمسية وتنضم إليها الطاقة الهوائية والتي بدورها قد تستمر في إنتاج الكهرباء في الليل كما في النهار.
هذا النظام يستعمل في المنازل البعيدة عن الشبكة الكهربائية وكلفته حوالي 12000 دولار أميركي . أما البيوت المتصلة بالشبكة العامة فتكون أقل تكلفة لسبب بسيط هو أن شحن البطاريات يتم عبر توصيلها بكهرباء لبنان. ولكن لسوء الحظ هناك انقطاع كثير بالتيار لأسباب التقنين ولأعطال فنية كثيرة وخصوصا في فصل الشتاء. لذا يضطر المواطن إلى أن يشتري مولدا خاصا له يستعمله عند الحاجة أو يشترك مع آخرين في مولد عام قريب في المسافة من المنزل، وكل هذا يؤدي إلى زيادة المصروف الشهري من شراء محروقات للمولد الخاص أو دفع الاشتراك الشهري لصاحب المولد العام، علما أن أسعار المحروقات كلها في ارتفاع مستمر. على العكس من ذلك فإن تركيب نظام يعمل بالطاقة الشمسية وحدها أو بطاقتي الشمس والرياح يتم بتكلفة تنخفض سنة بعد سنة بسبب تقدم التقنيات وزيادة فعالية الخلايا الشمسية، كما أنه وبعد تركيبه لا يكلف أي مصاريف جارية إطلاقاً.
لذلك وبدلاً من شراء مولد خاص وتحمّل تكلفة المازوت والصيانة واستهلاك المولد في سنوات قليلة وبدلاً من الاشتراك في مولد عام وتكبّد تكلفة الاشتراك كل شهر فإن الحل الأفضل يكون بتجهيز منزلنا بنظام للطاقة البديلة يريحنا من العناء ويريح سماءنا من الأدخنة السوداء الملوثة.

تراجع تكلفة الطاقة البديلة وتطور جيل المصابيح والأدوات المنزلية الموفرة للطاقة يجعلان من الطاقة البديلة حلا أفضل من الاشتراك أو اقتناء المولدات الخاصة

الخطوات المطلوبة لتشغيل نظام الطاقة البديلة
1. يجب استبدال ادواتنا الكهربائية ذات المصروف العالي بأدوات منخفضة المصروف. فعلى سبيل المثال بدلاً من استعمال التلفاز التقليدي الذي يصرف 400 واط نستبدله بشاشة بنفس المقاس تعمل بنظام LED تصرف 75 واط وهكذا دواليك….
2. نستبدل السخان الكهربائي بنظام تسخين المياه على الطاقة الشمسية .
3. بعد كل هذه التجهيزات يصبح تيار بطاقة 5 إلى 10 أمبير كافياً لتزويد منزلنا بالطاقة الكهربائية .
4. نقوم أخيراً باستبدال المولد والاشتراك بجهاز UPS أو APS اللذين يعملان فوراً عند انقطاع التيار. وهذا الجهاز يتم توصيله على الشبكة ويمكن شحن البطاريات عبر شركة كهرباء لبنان أو عبر ألواح فوتوفولطية أو توربين هوائي، وهذا إذا كان صاحب المنزل قادراً على توفير هذا الاستثمار. نشير إلى أن تكلفة تركيب جهاز UPS أوAPS بقدرة 10 أمبير وبنظام sine wave وكذلك تكلفة البطاريات اللازمة له وربطه بشبكة المنزل لا يتعدى الـ 1500 دولار أميركي، وهذا المبلغ يعادل تكلفة الاشتراك في مولد لمدة سنة.
على سبيل الاستنتاج نقول بأن الجدوى الاقتصادية في تركيب أجهزة كهربائية مؤكدة ضمن شرط معينة، كما أن ربط شبكة المنزل بالأجهزة المذكورة قد يوفر على أصحاب المنازل حوالي 70 % من فاتورة الكهرباء الإجمالية، وهذا بالإضافة إلى حماية البيئة في المدينة والقرية لما تؤديه تلك الأجهزة من فائدة في توفير الطاقة النظيفة والصامتة ومكافحة التلوث والضجيج خصوصاً التلوث والضجيج اللذين يلازمان عمل القسم الأكبر من الموتورات.

أبرز ميزات أنظمة الطاقة البديلة العاملة على الطاقة الشمسية وطاقة الرياح

تكلفة نظام الطاقة البديلة تدفع مرة واحدة وهي عبارة عن تكلفة الألواح الشمسية أو المروحة الهوائية والبطاريات وأجهزة التحكم وجهاز التغذية UPS والكابلات الكهربائية.
لا يتطلب تشغيل النظام أي مصاريف جارية كما هي الحال مع اشتراك المولد العام أو تكلفة المازوت عند اقتناء المولدات الخاصة
في حال اختيار الأجهزة ذات النوعية الجيدة وإتباع تعليمات التشغيل بدقة فإن النظام لا يحتاج إلى صيانة لسنوات طويلة.
يتمتع نظام الطاقة البديلة بمرونة كبيرة وبإمكان التكيف مع القدرة المالية للمستهلك، إذ يمكن تركيب نظام بتكلفة لا تزيد على 3000 دولار لتأمين الإضاءة الدائمة لبيت واسع بالإضافة الى التلفزيون والكمبيوترات المحمولة.
يمكن زيادة الطاقة المولدة من نظام الطاقة البديلة في أي وقت عبر زيادة الألواح الشمسية أو إضافة توربين هوائي أو مضاعفة عدد البطاريات.
من الضروري تكملة نظام الطاقة البديلة بتركيب سخان للماء على الطاقة الشمسية لأن ذلك يوفّر قدراً كبيراً من الطاقة الكهربائية التي تذهب لتسخين قارورة المياه الساخنة، ويذكر أن تكلفة جهاز تسخين المياه على الطاقة الشمسية تتراوح بين 600 و1000 دولار.
أهم شيء في هذا النظام أن المستهلك سيتمتع بطاقة كهربائية نظيفة ومن دون ضجيج المحرك أو رائحة المازوت 24 ساعة على 24 ساعة وطيلة أيام السنة صيفا وشتاءً.

مصادر الطاقة المتجددة

مصــــادر الطاقــــة المتجــــددة
نفــــط لبنــــان الحقيقــــي

90 % من بيوت قبرص تستخدم الطاقة الشمسية
لتسخين المياه مقابل 3 % من بيوت لبنان!

ارتفاع أسعار المحروقات عامل مهم لنمو الطاقة المتجددة
لكن غياب الخطة الوطنية والحوافز المالية عائق أساسي

كتب المحرر الاقتصادي:

إحدى أبرز المفارقات التي يعيشها قطاع الطاقة في لبنان هو الغياب التام لأي سياسة بعيدة الأمد لإدخال الطاقة المتجدّدة وتطوير استخدامها على الصعيدين العام والخاص. يستمر هذا الفراغ الملفت على الرغم من وجود عوامل يفترض أن تدفع إلى ملئه بأسرع وقت. ومن هذه العوامل:
إن لبنان يفتقد لمصادر الطاقة الطبيعية المعروفة مثل النفط والغاز أو الفحم الحجري بينما يتمتع بقدر من الطاقة المنتجة من مساقط المياه. ويعتقد بأن أكثر من 95 % من الطاقة المستهلكة في لبنان سواء في إنتاج الكهرباء أم على شكل محروقات يستوردها لبنان من الأسواق الدولية.
إن قطاع إنتاج الكهرباء في لبنان يعاني من مشكلات عدة، من أهمها ضعف الجدوى الاقتصادية وتراكم العجز السنوي بسبب سوء الإدارة والإهدار وسوء الجباية والتعديات الواسعة على الشبكات. وهذا يعني أن للدولة مصلحة أكيدة في حفز القطاع الخاص سواء كأفراد أم كمستثمرين للإستثمار في الطاقة المتجدّدة، لأنه كلما اتسع نطاق استخدام الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية كلما خفف ذلك عن الدولة والخزينة.
إن الاستثمار في مصادر الطاقة المتجدّدة بات السياسة الثابتة لجميع دول العالم بما في ذلك الدول التي تمتلك مصادر للطاقة التقليدية كما هي الحال في بلدان الخليج.
إن تكنولوجيا إنتاج الطاقة من المصادر المتجدّدة حققت قفزات هائلة في السنوات الأخيرة، الأمر الذي أدى إلى خفض تكلفة الإنتاج بالكيلوات إلى معدلات اقتصادية بالنسبة لطاقة الرياح وإلى معدلات مقبولة بالنسبة للمستهلكين الذين يهمهم تحقيق اكتفاء ذاتي أو “استقلالية” كهربائية.
إن تبني سياسات لزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة بات جزءاً أساسياً من الالتزامات الدولية للدول الموقعة لمعاهدة كيوتو، ولغيرها من المعاهدات المتعلقة بخفض انبعاثات الغازات المسببة للتبدّل المناخي، ولاسيما ثاني أوكسيد الكربون الناجم بصورة خاصة عن إحراق مصادر الطاقة الإحفورية Fossil Fuels مثل النفط ومشتقاته والغاز والفحم الحجري. وبالنظر لالتزام لبنان تلك المعاهدات فإن الجدية في تنفيذ بنودها يقتضي أن تبادر الحكومة اللبنانية لتبني سياسات طويلة الأمد لخفض الاعتماد على مصادر الطاقة الملوثة ووضع أهداف كمية محددة في ما خص تطوير مصادر الطاقة المتجدّدة.

المثال القبرصي
إن التأخر الكبير للبناني عن ركب الطاقة المتجددة يظهر عند مقارنة وضعه بما يجري في دولة صغيرة مجاورة هي قبرص التي تعتبر قصة نجاح حرية بالدرس بسبب التقدم الذي حققته في ميدان استخدام الطاقة المتجددة. إذ بلغت مساهمة الطاقة الشمسية في إنتاج الطاقة في قبرص نحو 4 % من المجموع، علماً أن القسم الأكبر من هذه الطاقة يستخدم في تسخين المياه. وتبلغ مساحة اللاقطات الشمسية المركبة في قبرص اليونانية اليوم نحو 690,000 م2 (في مقابل 30,000 م2 فقط في لبنان) كما أن نحو 90 % من البيوت و80 % من الشقق و50 % من الفنادق يستخدمون الطاقة الشمسية لتسخين المياه، وهو أمر جعل قبرص تحتل المرتبة الأولى في العالم من حيث معدل استخدام الطاقة الشمسية بالفرد.
في المقابل، فإن 1 % فقط من المنازل في لبنان كانت تستعمل الطاقة الشمسية لتسخين المياه في العام 2002 وقد ارتفعت هذه النسبة إلى 3 % تقريباً في الوقت الحالي.
وعلى عكس التلكؤ الحاصل في لبنان، فقد بدأت قبرص جمع الإحصاءات عن معدلات سطوع الشمس خلال أيام السنة منذ العام 1959، أي منذ أكثر من 50 عاماً، وأنجزت حكومة الجزيرة أول خطة لتطوير مصادر الطاقة المتجددة في العام 1985 وتمت مراجعة تلك الخطة في العام 1989، وتمّ في العام 2000 إنشاء مركز تطبيقات دراسات الطاقة ومؤسسة قبرص للطاقة. كما أعلنت مصلحة الكهرباء موافقتها على شراء الطاقة الكهربائية المتولدة من المصادر المتجددة ونُشر أول قانون يستهدف التشجيع على الاستثمار في الطاقة المتجددة في العام 2003، وتمّ في إطار ذلك القانون تأسيس الهيئة الناظمة لقطاع الطاقة في قبرص في العام 2004.

ملامح التأخر اللبناني
في مقابل ذلك، فإن الوضع في لبنان يتمثل بالتالي:
غياب أي إرادة سياسية واضحة على مستوى الدولة لتطوير مصادر الطاقة المتجددة، وأبرز مظاهر ذلك الغياب هو عدم وجود خطة وطنية لتطوير مصادر الطاقة المتجددة، ولا أهداف كمية ملتزم بها ولا موارد ولا أبحاث وطنية مخصصة لهذا الغرض حتى الآن.
عدم وجود تشريع أو آليات تسمح ببيع الدولة فائض الطاقة المنتجة من المصادر المتجددة، علماً أن تنظيم إمكان بيع الدولة فائض الطاقة التي قد ينتجها الأفراد أو المستثمرون يعتبر شرطاً لا بدّ منه لإطلاق مبادرات القطاع الخاص في مجال الطاقة المتجددة.
الدعم المرتفع لسعر الطاقة الكهربائية وتراجع تكلفته النسبية بالنسبة للمواطن هما من أهم العوائق أمام تحول المستهلكين نحو مصادر الطاقة المتجددة.
الملفت أن هناك سياسة ضمنية تسمح بشراء وتشغيل المولدات الكبيرة وبيع الطاقة الكهربائية منها إلى المنازل لكن لا تسمح بإقامة مشاريع كبيرة مماثلة بالاستناد إلى طاقة الرياح مثلاً أو الطاقة الشمسية. وهذا الأمر يعكس ربما ثقل المصالح المالية للوبي شركات النفط ومستوردي ومشغلي الموتورات.
حتى في مجال طاقة الرياح، فإن هناك عقبات إدارية مثل السياسة الجمركية التي تمنع الأفراد من استيراد توربينات هوائية تزيد طاقتها على 3 أو 5 كيلوات على سبيل المثال.

نفط لبنان
بعد إهمال الموضوع لسنوات طويلة، فإنه من المؤكد أن عوامل عدة تدفع الآن باتجاه تطوير مصادر الطاقة المتجددة التي تتوافر بصورة كبيرة في لبنان وخصوصاً الرياح والطاقة الشمسية. أما العامل الأهم فهو الارتفاع الكبير والمستمر في أسعار النفط ومشتقاته وهو ما يؤدي إلى زيادة العجز الحكومي في إنتاج الكهرباء وإلى ارتفاع تكلفة الموتورات وارتفاع تكلفة الفاتورة الكهربائية عموماً. ويمكن القول إن هناك تلازماً طردياً بين ارتفاع سعر النفط وسعر المازوت وبين تحول مشاريع الطاقة المتجددة إلى خيار اقتصادي بالنسبة للمواطنين. .
تشير الرسوم البيانية المرفقة في هذا المقال إلى أن لبنان يتمتع فعلاً بفرص كبيرة لإنتاج الطاقة من المصادر المتجددة. وقد أصدرت الدولة اللبنانية مؤخراً خارطة الرياح في لبنان، وهي خارطة تبين حركة الرياح ومعدلات سرعتها في مختلف الأماكن والمرتفعات والجبال. وقد تم إعداد تلك الخارطة بناءً على قاعدة بيانات تمّ جمعها عن حركية الرياح في لبنان. وتبين تلك الخارطة أن لبنان يحتوي على مئات المواقع الجبلية التي تتمتع بممرات هوائية قوية على مدار العام، وهذه النقاط تصلح لتثبيت التوربينات الهوائية لإنتاج الكهرباء يما يكفي حاجة مناطق لبنانية بكاملها. كما أن معدلات السطوع اليومي للشمس على مدار العام تعتبر نموذجية أيضاً وتجعل من تبني توليد الطاقة من اللاقطات الفوتوفولطية أمراً ممكناً من الناحية الاقتصادية.

شروط انطلاقة الطاقة المتجددة في لبنان
بناءً على ما سبق، فإن الدولة اللبنانية في حاجة ماسة لإعادة النظر سريعاً في موقف عدم الاكتراث الحالي من ملف الطاقة المتجددة، وذلك بالانتباه إلى المسائل التالية:
تنظيـــــم إمكــــان بيــــع الدولــــة الطاقــــة المنتجــــة من مصــــادر الطاقــــة المتــــجددة.
توفــــير قاعــــدة بيانــــات وأبحــــاث متكاملة عن مصادر الطاقة المتجــــددة فــــي لبنــــان بمــــا يسمح من تقدير جــــدوى كــــل مــــن تلك المصــــادر.
إلغاء الرســــوم الجمركيــــة علــــى كافــــة تكنولوجيــــات ومعــــدات الطاقــــة المتجــــددة.
منح حوافز مثــــل زيادة المساحة التي يمكن البناء عليها مقابل إدخال مصــــادر الطاقة المتجددة من قبل المطــــورين.
تعميم التوعية بتكنولوجيات الطاقــــة المتجــــددة في مختلف وسائل الإعــــلام.
توفيــــر برامــــج تسليــــف ميســــر لإدخــــال تقنــــيات الطاقــــة المتجددة في الاستخــــدام الفردي المنــــزلي أو المشاريــــع الخاصة لإنتاج الطاقــــة.
رفع ضــــريبة القيــــمة المضافــــة عــــن وحــــدات تسخيــــن الميــــاه بالطاقة الشمسية.
فــــرض إدخــــال أنظمــــة تسخيرن الميــــاه بالطاقــــة الشمسية على كافة البيوت والأبنيــــة الجديــــدة، واشتراط ذلك كجزء من الترخيص، كذلك فــــرض هذا النظام في حالات الترميم والتوسيع لمنازل قائمــــة.

معدل الالتقاط الشمسي اليومي في لبنان حسب أشهر السنة
معدل الالتقاط الشمسي اليومي في لبنان حسب أشهر السنة

الجبن يفسد الميل ويقطع الحيل

شـــــاور ســـــواك إذا نــابتك نائبة وإن كنـــت من أهل المشـــــورات
فالعـــــين تنـظر ما دنا وما نــــأى ولا ترى نفســـــــــها إلاّ بــــــــمرأة
(أحد الشعراء)

كلمة “أجير” شائعة عند القرويين للرجل الذي يخدم عند سيده طيلة حول كامل لينقده أجره آخر السنة بعد تقديم المأكل والمشرب والكساء وحتى الحذاء خلال خدمته.
أما الأجر السنوي للأجير، فيختلف من فلاح إلى آخر، أو من سيد الى سيد حسب الاتفاق، وحسب المحاصيل والمداخيل.
فمنهم من يأخذ أجره قمحاً أو حبوباً عند الذين يتعاطون زراعة المحاصيل، ومنهم من يأخذه زيتاً أو زيتوناً عند أصحاب كروم الزيتون، ومنهم من يأخذه ماعزاً أو غنماً أو عجولاً عند مالكي المواشي، وذلك كله حسب المتفق عليه.
أما ما نحن بصدده، فهو أجير يرعى الماعز عند أصحابها في إحدى قرى وادي التيم الأعلى. وكان الإتفاق بينه وبين المالك عند نهاية العام أن يقف الأجير وسط الزريبة، وكل رأس ماشية يتمكن من رفعه ورميه خارجها يكون من نصيبه، أي من أجره. صاحب الماعز عارف وعالم بنتيجة الاتفاق، حيث دأب على تزويد الراعي بالجبن كغذاء يومي حسب الاتفاق، إلى أن كانت نهاية العام (العام الزمني عند القرويين للأجراء يبدأ من عيد الصليب في أواخر أيلول وينتهي في التاريخ نفسه من السنة التالية).
عندما بدأ الأجير، محاولاً أن يرفع أحد الرؤوس الكبيرة (أي ما يسمى بالكراز) قصد رميه خارج الزريبة، وقف عاجزاً عن إتمام ذلك. ثم استصغر رأساً آخر، ولكن النتيجة كانت نفسها، بعدها تقدم جدي صغير، ولم تكن النتيجة أفضل من سابقاتها أيضاً اصفرَّ وجهه، ثم لوى برأسه وخرج كسير الخاطر الى والدته التي تنتظر أجره كي تعتاش منه وتفي دينها المتراكم طوال العام.
احتارت الأم في أمرها، وكيف يأكل تعب ابنها رجل غني محتال، وهي فقيرة معتلة الجسم والجيب أيضاً؟ ماذا تفعل؟ وكيف تتصرف؟ وما العمل لاسترجاع حق ابنها؟
راود فكرها مثل يقول: “شاور ألف، وخالف ألف، ثم ارجع لمشورة نفسك”. إذاً، عليها مشورة جارها أبو علي، ذلك الرجل الرصين العاقل علّه يرشدها إلى سبيل استرجاع حق ابنها، أو – وهذا هو الأهم- علّه يعرف ما السبب في تأخر قدرة جسم ابنها، مع العلم أنه كان كالحصان يسابق الريح والفرسان.
قصّت لجارها ما حدث مع ابنها، وكيف فشل في رفع حتى جدي صغير وخسر بالتالي الشرط وأجر العام.
هزّ أبو علي رأسه وقال: “ماذا كان يقدم صاحب الماعز لولدك من طعام؟ قالت: “أنه كان يكرمه بتقديم الجبن له يومياً، فيأكله وهو مسرور بطعمه اللذيذ الطيب”.
هنا تكمن الحيلة يا أختي عند صاحب الماعز، ألا تعلمين أن الجبن يقطع الحيل ويفشل الجسد. اذهبي لصاحب الماعز من جديد، وجددي الاتفاق معه شرط أن لا تعلميه بشيء، وعندما يتم الاتفاق أوصي ولدك بأكل الحليب الطازج يومياً ورمي الجبن جانباً، وأنا الكفيل بأنه سيرفع الكراز وليس الجدي آخر السنة.
وهكذا حدث. فعندما عاد الشاب يرعى الماعز، كان يضع الجبن في جوف (قرقارة) زيتونة رومانية قريبة من الزريبة، ثم يعمد إلى شاة فيحلبها ويأكل حليبها الطازج.
في نهاية العام، وعندما حان أخذ الأجر، وقف الشاب كالمارد وسط الزريبة يختار أفضل الماعز وأكبرها، ثم يرفعها ويرميها خارجها الى أن أتى على آخرها وصاحبها واقف ذاهل مندهش. كيف تغيّرت قوة الراعي؟ ثم صرخ به :”ألا تترك لي رأساً واحداً؟”.
ضحك الشاب بسخرية، وقال :”ألم يكن في إمكانك إعطائي رأساً واحداً بدل إيجار العام الماضي؟”.
تمتم صاحب الماعز، ثم قال: “لك ما تريد، لكن أخبرني ماذا كنت تفعل بالجبن الذي أزودك به يومياً؟”.
ضحك الراعي وأجاب:”أنظر الى تلك الزيتونة كيف يبست من جذورها، وقد حصل لها ذلك بفضل جبنك الذي يقطع الحيل ويقضي على الأخضر واليابس”.


المكاري الفطن
كذب المنجمون ولو صدقوا
(حديث شريف)

“للخط”، والشعوذة، والسحر مفعول خطير على البسطاء من الناس خصوصاً في العصور السابقة وربما عند البعض في عصرنا الحاضر.
روى أمامي أحد أبناء قريتنا، وكان قد قضى قسماًَ من حياته مغترباً في المهجر، عن رجل رافقه في غربته يدعى علي من بلدة نيحا الشوف. كان يعمل قبل سفره مكارياً في نقل الحبوب من جبل الدروز الى بلدته قصد التجارة وتأمين رزق عياله.
قال: “بينما كنت عائداً بتجارتي يوماً، مررت بإحدى قرى وادي التيم الأعلى، وكان الوقت ليلاً، والطقس ماطراً، والبرد والزمهرير يعضان كياني. طرقت عدداً من أبواب المنازل، فلم يرد على طرق الباب إلا القليل. وعندما كان البعض يفتحون الباب ويشاهدون دابّتي معي، يقولون ربما كان في ودنا استقبالك، غير أن دابتك ليس لها مكان عندنا. وقد بقيت حتى الهزيع الأخير من الليل، وأنا أتنقل من منزل إلى منزل، ومن حارة إلى حارة، والأجوبة نفسها تطرق سمعي”.
“بعدما أعياني الصبر وأنهكني البرد وانهمار المطر، شاهدت من بعيد بيتاً منعزلاً يلتمع ضوء في داخله. وعندما اقتربت منه، سمعت صوت هرج ومرج، وصراخ وتوجّع. لكنني تجاسرت وطرقت بابه، وإذا برجل يطل من النافذة ويقول :”يا أخي، كان أهلاً وسهلاً بك لولا أن المرأة جاءها المخاض، وهي بحالة صعبة من الضيق وعسر الولادة، ولا نعلم ما العمل، وكيف الخلاص؟”.”
ربما عسر المكاري يوازي تعسّر المرأة التي تلد. لهذا، فما أن حادثه زوجها، حتى أجابه قائلاً :”يا أخي، أعتقد أن خلاصها على يدي سهل بإذن الله”.
ما إن سمع الزوج هذه العبارة، حتى خرج من الباب مهللاً ومرحباً، قائلاً:”كيف ذلك؟”، أجاب المكاري:”إعتدت في قريتي ان أكتب بعض الحجابات لمثل هذه الأمور، وعندما تضعها النساء تحت رأس المولّدة، لا يمضي من الوقت إلا قليله حتى تكون المرأة قد انجبت وتخلصت من آلام المخاض”.
رحّب زوج المرأة أجمل ترحيب بالضيف، ثم ادخله منزله بسرعة كي يكتب الحجاب.
أخرج صاحبنا المكاري من جيبه ورقة وكتب عليها بعض العبارات، ثم طواها بشكل مثلث وربطها بقطعة قماش محكمة الربط وناولها لزوجها، قائلاً:”الفرج قريب بإذن الله، شرط أن لا يفتحها أحد كي لا يتغيّر فحوى مدلولها”.
وما أن وُضِع الحجاب تحت رأس المرأة بعض الوقت، حتى علا الهرج من غرفة النساء، ورنات الضحك والفرح والمرح والمنادات – صبي – صبي – صبي، لنا البشارة، منادين على زوجها، مهلّلات مزغردات .


لا تسل كم كان لصاحبنا المكاري من تكريم وتبجيل بعد الذي حصل. فالدجاج المحشي عشاؤه، والمغلي مع الجوز واللوز مشروبه، والشعير والتبن للحمار غذاؤه.
حدث هذا، والمكاري صاحب الحظ السعيد ذاهل بين الحقيقة والحلم. فبعد التهنئة والمباركة عمد الى طلب الحجاب كي لا يفضح أمره قائلاً:”لربما إحتاجته إمرأة أخرى”.
عند الصباح، ودّع من قبل مضيفه بكل إكرام واحترام، محموداً مشكوراً، مزوداً بالعديد من الهدايا.
فالمولود وحيد ومن بعد طول انتظار، لكنه في قرارة نفسه، وهو معتل ظهر الحمار راجعاً، كاد ينفلق من الضحك ويسقط أرضاً وهو يردد ما كتبه في حجابه:”ما زال تأوى علي والحمار، إن ما ولدت بالليل بتولد بالنهار”. لكن الولادة كانت ليلاً، والحظ جلب لهذا المكاري الفطن أكثر بكثير مما كان يحتسب ويطلب.

للتاريخ فقط عروس تُزَفّ من المختارة إلى حاصبيا فلا تمر إلاّ في أرض زوجها وبيّا
للذكرى، للتذكير، للرجوع إلى الماضي القريب. وإن يكن لا يروق للبعض سماعه، إلا أن الحقيقة والواقع يجب أن يقالا دوماً.
منتصف العقد الثاني من القرن التاسع عشر، رغب زعيم وادي التيم الجنوبي آنذاك، الوجيه سليم بك شمس، في زفاف ولده طاهر من زاهيّة ابنة نجيب بك جنبلاط، زعيم الشوف وسيّد المختارة.
أعدّت العدّة لذلك الفرح الكبير، فالوقت صيف، والناس جنوا المواسم وملئت الكواير والجرار، وتلبية دعوة الكبار واجب وتقرِّب من هم أسياج الأرض وحماة الدار والجار.
الدعوة وجّهت للجميع، كباراً وصغاراً فرساناً ومشاةً، وجمهور المحتفين يزداد عدده كلما مرّ بقرية إذ ينضم إليه شيوخها وشبانها حتى بلغ الوفد المرافق للعريس المئات عند وصوله إلى قصر المختارة منزل والد العروس.
بقيت الأفراح عامرة نحو يومين كاملين، والكل ممتلئ فرحاً ومرحاً وغبطة وتكريماً، إذ غصّت الباحات الداخلية والخارجية بحلقات الرقص والدبكة ولعب السيف والترس، ونصب ميادين الخيل، والكر والفر من وقت لآخر.
حدثني عن هذا الفرح رجل غيبه الموت منذ أمد بعيد، من بلدة راشيا الفخار، بعدما عاش عمره كاملاً، قال:
“كان من جملة من دعي للذهاب الى جلب العروس، جدي لأمي، نقولا عبدالله الخوري، شاعر الفرديس والمنطقة آنذاك، لأنه بالحقيقة كانت لا تتم الأفراح إلا بحضوره فهو سيّدها وشاعرها، وللمناسبات الاجتماعية علَمُها وقيدومها.
المهم أن حلقات الرقص والدبكة، أقيمت يومها، وفقاً للتقاليد، لكل جنس بمفرده فالرجال تغص بهم باحات القصر الخارجية وجنائنه، والنساء ملأن القاعات الداخلية، والكل يتبارون رقصاً ودبكة وغناء وحداء، وسيّد ذلك كله، الزجل والشعر الشعبي والتباري بهما. سيّد الشعراء الموجودين هنالك، كان شاعر الفرديس ومختارها نقولا الخوري، من حيث بلاغة شعره وتنظيم فرقته المرافقة له. وفرقة الزجل مع الدف والشبّابة، آنذاك، لا يوازيها أو يشابهها في عصرنا الحاضر أي فرقة موسيقية مهما علا تنظيمها وكثرت آلاتها. وبالطبع، وبسبب ما كان لشاعر الفرديس وفرقته من شهرة ومكانة في طول الجبل وعرضه فقد بادرت والدة العروس وأنجالها، علي وفؤاد، والد الزعيم كمال جنبلاط الى استدعائه للغناء والقول أمامهما وأمام جمهور المحتفلين والمحتفلات. فكانت له قصيدة زجلية طويلة يفوق عدد أبياتها المئة بيت، توّج مطلعها بالأبيات التالية:


يــللـــي مـــــا شــــاف الجـنــة يقصــــد دار المخـــــــــــــتارة
الله يخليـــــــــــلك هِنــــّـــــــــي هالجوز مـثـــل القــــــــــمارة
أنا شاعــر من الفرديـــــــس هزّلي الشــــوق ســريــــــري
بقـدّس هالديري تقديــــس الِمثــــلا مـــا خلــــق ديــــــري
أسّســـــنا الإلفـــي تأسيــــس وعـنا لو سْألتــــو الجيــــري
عشنــــــا زنبــــق عمبيمــيس سنـــــّي ودروز ونـصـــــــارى
ويلـــــّي مـــا شـــاف الجــــنـة يقصـــــــد دار المخــــــتــــارة
بعد فراغ الشاعر من إنشاد قصيدته، قلّدته والدة العروس عباءة وضعها على كتفه نجلها فؤاد، بقيت بحوزته يفاخر بها أكثر من نصف قرن، بعد أن وضعها في خزانة زجاجية زين بها صدر منزله.
لكن، بعد وفاته، توجه أولاده نحو المهجر، فانتقلت العباءة إلى بيت حفيده في بلدة راشيا الفخار لتضيع أو تهمل في ما بعد.عند الانتهاء من مراسم الأفراح، نهض الموكب صباحاً إلى سهل بسري، فقرى وادي جزين، فإلى عين مجدلي، ثم كفرحونة، وصولاً إلى القطرانة.
وجميع هذه القرى التي مرّ بها المحتفلون وما يحيط بها من أملاك تخص آل جنبلاط والد العروس. بعدها إنتقل الوفد عبر طريق مزرعة حورتا، فإلى برغز، ثم كوكبا، فوصولاً إلى منزل زوجها في حاصبيا، وهذه أيضا أملاك تخص زوجها، مع العلم أن مزرعة حورتا كان قدّمها جدّها لأبيها، الشيخ بشير جنبلاط، إلى جدّي عريسها، الشيخ خليل شمس بعد اقترانه بإبنة الست إم علي نايفة جنبلاط شمس. وهكذا صح القول الذي تداوله الناس لفترة من الزمن:
“عروس تنتقل من المختارة إلى حاصبيا، فلا تمر إلا بأرض زوجها وبيّا”.

حكايــات حمّــــــود بشنــــــق

حمّــود وسارقو العنب

حمّود بشنق واحد من أولئك الرجال الذين يتميّزون ويثبتون جدارتهم أينما وَضَعَتهم الظّروف، أو حطّت بهم الأقدار. كانت «الرافقة» خربة قديمة ترقد على الحضن الشرقي لقمّة مشرفة من قمم السفوح الجنوبية لجبل الدروز، إلى الجنوب من مدينة صلخد. ومنذ قرون لم يشقَّ تربة تلك الخربة محراث، حوّلها الخراب المتمادي إلى مراعٍ للبدو يرتادونها في الربيع والصيف، وينأون عنها بعيداً عن براري الحماد في الخريف والشتاء هرباً من الثلوج وبرد الجبل. وقد زاد نشاط الرعي تلك البقعة خراباً، فلا زراعة ولا شجر، بل قفر ووحوش، وبريّة تذكّرك بالعصور الأولى.

لكن حال «الرافقة» تبدلت جذرياً منذ أن نزل بها حمّود وبعض أقاربه من آل عبيد وشرف، إذ قام حمّود وجماعته بحرث الأرض إلى الأسفل باتجاه الجنوب المشمس، وغرس كروم من عنب وتين، بعد أن سوّر الحقل المستحدث بسور من الحجارة الدّبش، وهو الأسلوب القديم الذي اختطّه الأنباط الذين كانوا أوّل من استزرع أرض ذلك الجبل قبل أكثر من ألفين من الأعوام، وأصبح كرم حمّود مضرب المثل بجودة عنبه وتينه، وحسن صيانته.

بعيداً من كرم حمود، إلى الجنوب منه ببضعة عشر كيلومترات، وراء تل الشيح، جماعة من البدو الرعاة، خيّم عليهم الظلام، وما من قمرٍ تلك الليلة من أوائل شهر أيلول، كانوا قد قرّبوا قطعانهم إلى بعضها بحيث تسهل حمايتها من غارات اللصوص أو الذئاب الكاسرة، هم قرروا بدورهم أن يكلّفوا ثلاثة منهم أن يغيروا على كرم حمود ليسرقوا من عنبه.

مشى الرجال مع ظلام الليل قاصدين هدفهم، وصلوه بعد نحو ثلاث ساعات من مسير عبر طريق وعرة؛ كانوا قد اقتربوا من سور الكرم، كفّوا عن الحديث إلاّ همساً ومشَوْا على رؤوس أصابع أقدامهم التي خشّنها الحفاء فما عرفت حذاءً، انتشروا ثلاثتهم على حافة سور الكرم الجنوبية متباعدين قليلاً، ظلمة حالكة تلفّ السفوح، والنجوم غائرة في الليل العميق.

أمسك أحدهم (ويدعى زيدان) حجراً ملء قبضته وقرع به حجراً آخر أعلى السور ضرب ضربتين، فعل ذلك ليختبر إن كان في الكرم مَنْ يحرسه، لحظة صمت مريب انقضت، أعاد زيدان قرع حجر السور بضربة ثالثة للتأكّد، برهة صغيرة، دوّى إثرها طلق ناريّ هشّم الحجر الذي ضُربَ عليه قبل لحظة إلى شظايا متناثرة، رُعِبَ الرجال لسرعة الرد ودقّة الرمي، صاح زيدان لشدّة الخوف: ” آ حمّود، حِنّا بوجهك” أي نطلب عفوك وحمايتك.
أجاب حمود : انزلوا

تسوّر الرجال حائط الكرم ومشوا باتجاه الصوت، لاقاهم حمود قائلاً: «والله لو لم تقولوها لكنت قنّصتكم واحداً واحداً ، هيّا اقطّفوا عنباً وكُلوا وخذوا ملء عباءة أحدكم وولّوا».

حمّود والولد خاطف البارودة

العام 1925، لم يتخلّف حمّود بشنق عن المشاركة في معارك الثورة السورية الكبرى. ذات يوم والوقت عند العصر كان الرجل عائداً على ظهر فرسه من إحدى المعارك ضد الفرنسيين بعد أن أصيب بشظية من قنبلة مدفع في رجله، لكنه ظلّ متماسكاً، وقد ضمّدوا له جرحه في الميدان على ما تيسّر ريثما يصل إلى أهله، لم يكن للثوّار من مستشفيات، وعندما صار قرب قرية العفينة جنوب السويداء أحسّ بثقل جرحه وبآلام تشتد عليه.

ربّما أصابه نعاس، كان يتّجه جنوباً إلى المقرن القبلي، بصحبة رتل من العائدين، جرحى ومتعبين، هم إلى قراهم، وهو إلى قريته. سقطت منه إحدى البارودتين اللتين غنمهما في المعركة، هو لا يستطيع النزول من على ظهر فرسه وتناوُل البارودة والعودة إلى ظهر الفرس ثانية، الجرح يصعّب عليه الأمر، نادى صبيّاً كان يلعب مع أترابه على جانب الطريق ليناوله البارودة، التفت الصبي إلى الرجل وركض قاصداً البارودة، انقضّ عليها كنمر غائرٍ على صيده، تناولها ومضى هارباً عبر الزواريب الضيّقة في القرية.

بادر بعض من كانوا في رتل العائدين يتبعون الصبي ليستردّوا البارودة، صاح بهم حمّود: «اتركوه، لو لم يكن يستأهلها لما هرب بها، هي حلال عليه».

الأمير شكيب إرسلان في أُم الرمّان

كان المغفور له الأمير شكيب إرسلان نائباً عن جبل الدروز في مجلس المبعوثان – المجلس النيابي العثماني – في الفترة الأخيرة من حكم بني عثمان في اسطنبول ( الآستانة ) وبقدر ما كان الرجل واسع الاهتمام بشؤون الأمّة العربيّة والإسلاميّة عموماً، إذ كان من أوائل المبشّرين بفكرة الجامعة الإسلاميّة قبل العربيّة، فقد كان يؤرقه ما حلّ ببلاد الإسلام من تأخّر، وما أصابها من أطماع استعماريّة أوروبيّة خاصة مع نزول الفرنسيّين في شمال أفريقيا (الجزائر وتونس والمغرب ) والطليان في ليبيا والإنكليز في عدن والبنجاب وأفغانستان …

كان الأمير التنوخي شريكاً لجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده في حمل هموم العرب والمسلمين، والبحث عن مخارج للمحنة التي وقعت بها الأمّة بسبب الهجوم الشرس للدول الأوروبية التي كانت منشغلة بتقطيع أوساط الدولة العثمانية والتسابق على الفوز بأطرافها شرقاً وغرباً في ما بدا أشبه بحرب صليبية جديدة تستهدف بلدان الشرق الغنية بثرواتها والمهمة جداً في موقعها ودورها في التجارة الدولية.

إلى جانب كل ذلك كان الأمير شكيب يكن محبة كبيرة لبني معروف، وهم قاعدته الاجتماعيّة وقومه الذين يعتز بدورهم وبتضحياتهم الكبيرة والتاريخية في نصرة العرب والإسلام.

وهنا حادثة لطيفة تضيء جانباً من شخصية الأمير الحماسية واهتمامه الشديد ببني معروف وحرصه على كل ما يؤلف بين قلوبهم ويبقيهم جبهة واحدة في مقاومة الأطماع والطامعين.

فقد علم الأمير شكيب أنّ أهالي قرية أم الرمّان، وهي قرية تقع على التخوم الجنوبيّة لجبل الدروز ( محافظة السويداء حالياً ) وقع بينهم خلاف، ولمّا كانت القرية في ذلك الزمان تواجه مع سائر الجبل علاقات متوتّرة مع الدولة العثمانية، بما في ذلك غزوات بدو الصحراء من جهة ثانية، فقد سارع الأمير شكيب إلى أم الرمّان، وأقام فيها أيّاماً حتّى أنجز المصالحة بين المتخاصمين من أهل القرية الذين أولموا ابتهاجاً بنجاح مسعاه، وقرروا على سبيل التكريم والتعظيم له إقامة «عرض» وسباق للفرسان في ميدان القرية الرئيسي.

وبالفعل، ومن على الرّجم الضخمة المشرفة على الميدان (الرجم كومة من الحجارة تشرف على ما حولها من أرض ) رُتّبت مقاعد حجريّة وفُرشت عليها البُسط، وجلس الأمير ووجهاء القرية والناس من حولهم يشاهدون السبق، ويروي الأحفاد عن الأجداد بأنّ الفرسان انطلقوا بأسلحتهم في باحة الميدان، وانعقد الغبار سحابة في السماء وصدحت زغاريد المبتهجين، ولعلع الرصاص في الجو.

في تلك اللحظة أخذ الأمير الحماس حتّى بدا وكأنّ طربوشه يرقص اعتزازاً فوق رأسه ورَبّت على كتف جليسه حمد الأطرش، شيخ أم الرمّان قائلاً له: « ليك إبن عمّي ليك، عز جبل لبنان معقود بحوافر خيل جبل حوران».

الوصايا الفيثاغورسية

الوصــــــــايا

موجز التعليم الفيثاغورسي
على لسان بعض كبار تلامذة الحكيم

الحلقة الأخيرة

هذا هو القسم الأخير من هذه السلسلة عن حياة وتعليم الحكيم فيثاغوراس وعن الأثر الهائل الذي تركه عبر شخصيته الفذّة ومذهبه وأتباعه على العرفان اليوناني عبر الأزمنة والعصور.
اختلف فيثاغوراس عن بقية حكماء تلك الفترة الذهبية بأنه لم يقتصر على الجلوس للتعليم أو التحاور مع مريديه، بل في اهتمامه ومنذ عهد مبكر من حياته بتحويل تعليمه إلى رسالة، وإلى معتقد يضع الأسس للسلوك الفردي والإنساني ويرسم الطريق للأخلاق القويمة وللمجاهدة المؤدية إلى الحقيقة وإلى الخلاص الروحي. وسبق القول إن العناية قدرت لهذا المذهب أن يتجسّد بنظام نموذجي تمّ تطبيقه في منطقة كروتونا والعديد من نواحي جنوب الجزيرة الإيطالية حيث ازدهرت الفيثاغورسية بعد هجرتها من ساموس في اليونان. وقد أتاح المثال العملي والتكريم اللذان حظيّ بهما فيثاغوراس وأتباعه للدعوة أن تغرس جذورها عميقاً في النفوس وأن يتتلمذّ عليها مئات المريدين البارزين والدعاة الذين نشطوا في نشر التعليم الفيثاغورسي حتى بعد المحنة التي تعرضت لها الطائفة في كروتونا.
وفي هذه الحلقة الثالثة والأخيرة حول فيثاغوراس والفيثاغورسية نعرض لخلاصة ثمينة من التعليم الفيثاغورسي كما نقله تلامذة الحكيم عنه في عصره وفي العصور التي تلت المحنة، وقد قسمنا هذه التعاليم أو الوصايا إلى قسمين:
القسم الأول: يتعلق بما يمكن اعتباره “الإلهيات”، أي تعليم الفيثاغورسية حول المفاهيم الكلية الكبرى مثل الله والحكيم والإيمان وآداب السلوك وسُبل التدرج الروحي.
القسم الثاني: يمكن اعتباره متعلقاً بـ “المعاملات” أو الأخلاقيات. وقد اخترنا في هذا المجال مقتطفات حول رأي الفيثاغورسيين في قدسية الأسرة وفي واجبات المرأة الفاضلة ودورها.
ويذكر هنا أن الإرث العام لهذه الجماعة غني جداً، وقد ساهم فيه عدد كبير من التلامذة البارزين للحكيم كما ساهمت فيه أيضاً نساء صالحات كن يتمتعن باحترام كبير وسط المجتمع الفيثاغورسي، لكن يجب القول إن أكثر الوصايا والحكم المعروضة تعود في أصلها إلى الحكيم، وهي غالباً ما تمثل ما سمعه المريدون المقربون مباشرة منه. ومن أبرز دلائل القوة الهائلة لفيثاغوراس هي الطريقة التي طبع فيها تفكير الألوف من المريدين والتابعين وأنتج نهجاً واحداً متسقاً على صعيدي الفكر والعمل. وهذه الوحدة التامة في الفكر والعمل هو ما مكّن الفيثاغورسية من التحول إلى مذهب وإلى مسلك ونظام اجتماعي ساد لفترة غير وجيزة وأثبت فعاليته في الإدارة الرشيدة للمجتمع.

[su_accordion]

[su_spoiler title=”القسم الأول: الحكمة وآداب الطريق” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

سكتوس الفيثاغورسي (300 قبل الميلاد)
الله، العقل،الحكيم وآداب الطريق

الله هو النور الذي لا يمكنه أن يتصل بضده (أي الظلمة)
إن أكبر تعظيم لله هو أن تعرفه وأن تتشبه به

من أقوال سكتوس الفيثاغورسي

1. إهمال الأشياء الصغيرة ليس أبداً من الصغائر في الحياة.
2. الحكيم والذي يحتقر الثروة هما أكثر الناس تشبهاً بالله.
3. لا تبحث في اسم الله لأنك لن تجده. لأن كل شيء يعطى اسماً إنما يتلقى الاسم من جهة تعلوه في المكانة. فهناك شخص ينادي وآخر يسمع النداء. من هو إذاً ذاك الذي يمكنه أن يعطي اسماً لله. وحتى اسم “الله” لا يدل على حقيقته وإنما يدل على صورة الله في فكرنا.
4. الله هو النور الذي لا يمكنه أن يتصل بضده (أي الظلمة).
5. إن في ذاتك شيئاً مشابهاً لحقيقة الله لذلك إجعل من نفسك معبداً له تمجيداً لهذا الذي فيك منه.
6. مجِّد الخالق فوق جميع الأشياء لعلّه يأخذ بناصيتك ويجعلك تحت حكمه.
7. كل شيء تمجده فوق جميع الأشياء يكتسب سلطاناً عليك، لكن إذا وضعت نفسك تحت سلطان الله فإنك بذلك ستعطى سلطاناً فوق جميع الأشياء.
8. إن أكبر تعظيم لله هو أن تعرفه وأن تتشبه به.
9. لا يوجد في الكون إطلاقاً ما هو شبه لله، لكن الله يرضى ويحب أن تسعى المخلوقات الدنيا لأن تتشبه به.
10. الله غني حقيقة عن كل شيء والرجل الحكيم مفتقر إليه وحده. لذلك، فإن من يستغني عن كل شيء ويقنع بالقليل الضروري فإنما يتشبه لهذه الجهة بمن هو غني عن كل شيء.
11. اسعَ بكل قواك لكي ترتفع في عين الله ولا تمد نظرك إلى ما متع الله به غيرك من الخلق.
12. الحكيم الذي لا يحصل على حقه في التعظيم من الناس أثناء حياته يشتهر وتعرف حقيقته بعد موته.
13. كل لحظة لا تفكر فيها في المعبود هي وقت ضائع من عمرك.
14. العقل الراجح هو آلة الله.
15. العقل الخرب هو آلة الشيطان.
16. اخضع لما هو حق لمجرد أنه حق.
17. لن تخفى عن عين الله عندما تعمل سيئة ولا حتى عندما تحدث نفسك بها في خاطرك.
18. أساس التقوى هو العفاف لكن قمتها هو محبة الله.
19. أدعو الله أن يعطيك ما ينفعك لا ما يسرك.
20. كل ما تتمنى من جارك أن يؤديه لك من حق الجيرة أده أنت له.
21. كل ما أعطاك الله لا يمكن لأحد أن يأخذه منك.
22. لا تفعل ولا حتى تفكر بخاطرك بفعل ما لا تريد لله أن يعلمه عنك.
23. قبل القيام بأي عمل اذكر الله لعل نوره وحكمته يسبقان قوتك.
24. ذكر الله نور القلب.
25. أكل الطعام الحيواني لا ضير فيه لكن الأفضل هو الامتناع عنه.
26. لا يمكن أن ينسب لله أي شر.
27. لا يجب أن تمتلك ما يزيد على حاجة جسدك وقوتك.
28. وامتلك تلك الأشياء التي لا يمكن لأحد أن يأخذها منك.
29. استحوذ على ما هو ضروري طالما بقي ضرورياً.
30. اسأل الله من العطايا ما يليق بقدسه أن يمنح لعباده.
31. العقل الذي فيك هو النور الذي يقود حياتك.
32. اسأل الله ما ليس في استطاعة البشر أن يمنحوك إياه.
33. لا ترغب في أن تحصل من دون جهد على الأشياء التي لا بدّ من جهد للحصول عليها.
34. لا تشغل فكرك في مراضاة الناس.
35. من الخطأ أن تهمل العمل على ما ستحتاجه بقوة بعد أن يزول الجسد.
36. لا تطلب من الشرف ما لا يمكنك الحفاظ عليه إلى الأبد بعد أن تناله.
37. عوِّد نفسك (بعد تعرفها على صفات الربوبية) على أن تقوم بما يجعل منها ربانية أيضاً.
38. أي شيء يمكن لإنسان شرير أن يأخذه منك أنظر إليه كهباء لا قيمة له.
39. يكبر الرجل في عين الله عندما يعتبر معالي الأمور ما يعتبره الله كذلك.
40. كل ما هو سطحي هو ضرر لنفسك.
41. الذي يعمل لمعالي الأمور لا يمكن أن يميل قلبه إلى صغائرها.
42. عقل الحكيم هو دائماً في حضرة الحق.
43. والله مقيم في عقل الرجل الحكيم.
44. الرجل الحكيم له حقيقة دائمة لا تتغير ولا تتبدل.
45. لا توجد رغبة يمكن إشباعها ، وكل رغبة هي لذلك في حالة افتقار.
46. العلم بالله والتشبه به وحدهما كافيان لنيل السعادة الأبدية.
47. تجرّع الكذب كما تتجرّع السمّ.
48. لا شيء تتفرد فيه الحكمة مثل تفردها بالحقيقة.
49. إذا كنت حاكماً على الناس فتذكر أن الرب حاكم عليك.
50. تذكر دوماً أن هدف الحياة هو أن تعيشها وفقاً لمرضاة الخالق.
51. الأهواء الفاسدة هي أول طريق الأحزان.
52. الأفكار الآثمة هي مرض الروح لكن الظلم وجحود الخالق موتها.
53. تعامل مع الناس كما لو كنت بعد الله الموكل على جميع الأشياء.
54. الذي يسيء معاملة البشر يسيء معاملة نفسه.
55. فكّر في أن تكون مفيداً حتى لأعدائك.
56. اصطبر على كل شيء في سبيل أن تعيش حياتك بما يرضي الله.
57. تكريمك للرجل العاقل هو تكريم لنفسك.
58. في جميع أعمالك اجعل الله دوماً نصب عينيك.
59. قد تحجم عن الزواج من أجل أن تكرّس حياتك كلها لتكون مع الله، لكن إن كنت خبيراً في مصارعة النفس وراغباً في مجاهدتها فاتخذ زوجة وأنجب منها الذرية.
60. أن نعيش عمراً محدداً هو في الحقيقة خارج قدرتنا لكن أن نعيش عيشاً صالحاً هو في مقدورنا بالتأكيد.
61. لا تسمح بأن يقدم أحد في حضورك على القدح في أهل الصلاح والحكمة أو اتهامهم.
62. إن كنت راغباً في أن تعيش حياة ناجحة فاجتنب الكثير مما لا يمكنك فيه أن تسبق الجميع.
63. كل كأس يداوي عطشك تذوقه كما لو كان طعمه حلواً كالعسل.
64. اهرب من السِّكْر كما تهرب من الجنون.
65. لا خير يأتي من الجسد.
66. اعتبر أنك قد تعرضت لعقوبة كبيرة في كل مرة تحصل فيها على غرض شهوتك، لأن الشهوة لا يمكن أن ترضى بالحصول على أغراضها.
67. اذكر ربك دوماً باعتباره الشاهد على أعمالك.
68. الرجل الشرير لا يتجه فكره إلى العناية الربانية.
69. الرجل الحق هو ذاك الذي في داخلك يمدك بالحكمة.
70. الرجل الحكيم يشترك في صفات الله.
71. حيث توجد الحكمة فيك يوجد خير ما فيك.
72. كل ما لا يؤذي الروح لا يؤذي الإنسان.
73. كل من يطرد ظلماً وعدواناً رجلاً حكيماً من صحبته فهو يقدّم لضحيته بهذا الظلم أفضل خدمة لأنه بذلك يحرره من قيوده.
74. السبب الوحيد لاكتئاب الإنسان وخوفه من الموت هو الجهل بحقيقة الروح.
75. لن يمكنك اكتساب العقل قبل أن تقتنع بأنك تمتلكه أصلاً.
76. عندما تدرك بأن جسدك إنما هو مجرد وعاء للروح فإنك ستعنى به وتبقيه طاهراً.
77. المطبوع على الفساد ينجذب بطبيعة نفسه إلى الأرواح الفاسدة.
78. لا تحدث عن الله من هو غير أهل لذلك.
79. هناك مخاطرة حقيقية في الكلام عن الله حتى في الأمور التي قد تكون صحيحة.
80. أي تأكيد حول حقيقة الله هو من إلهام الله.
81. إياك ثم إياك أن تتحدث عن الله للدهماء من عامة الناس.
82. من لا يعبد الله لا يمكن أن يعرفه.
83. من هو جدير بالوقوف بين يدي الحق هو بالضرورة من أخيار البشر.
84. من الأفضل أن تحوز القليل بدلاً من امتلاك الكثير الذي لن تنفع به أحداً.
85. الذي يعتقد بوجود الله لكن ينكر محبته لا يختلف أبداً عن رجل لا يؤمن بوجود الله.
86. أفضل تعظيم لله هو أن تأخذ طريق التشبه به بأكبر قدر ممكن.
87. من لا يؤذي أحداً لا يمكنه أن يخاف من أحد.
88. لا توجد الحكمة في من يمشي باستعلاء في الأرض.
89. أن تكذب هو أن تخدع الآخر وتخدع نفسك.
90. اعرف الله واعرف ذاك الذي في داخلك يعرف الله.
91. ليس الموت سبباً في فساد الروح بل هي الحياة الفاسدة.
92. إذا عرفت ذاك الذي صنعك عرفت نفسك.
93. لا يمكن لإنسان أن يحيا وفقاً لما يأمر به الله ما لم يكن متواضعاً حقاً.
94. الحكمة الربانية هي العلم الحقيقي.
95. إياك أن تتحدث عن الله إلى نفس نجسة.
96. الرجل الحكيم هو في معية الله والله في معية روح الرجل الحكيم.


97. رعية الملك هم مصدر سعادته، كذلك فإن الله يبتهج بالرجل الحكيم. والحاكم لا ينفصل عن من يحكمهم كذلك فإن الله لا ينفصل عن روح الرجل الحكيم بل ينصره وييسِّر حياته.
98. الرجل الحكيم أمره كله في يد الله ولهذا السبب فهو مبارك على الدوام.
99. المعرفة الحقيقية بالله تجعل الرجل في حاجة للقليل من الكلام.
100. استخدام الكلام الكثير في الحديث عن الله يحجب الكثير من حقيقة الموضوع.
101. من يعرف الله لا يمكن أن يلهيه طموح كبير لهذه الدنيا.
102. العالِم العفيف والحكيم هو النبي المبشر بحقيقة الله.
103. عود نفسك على التطبع دوماً باتجاه الربوبية.
104. عقل الحكيم مرآة الحق.

مختارات من الحكم الفيثاغورسية
كما سجلها ستوبيوس

• لا تقل القليل بكلمات كثيرة بل قل الكثير بكلمات قليلة
• تخلّق بالعفاف لأنه أكبر مصادر القوة وصحة الجسد
• عندما يفتح العاقل فمه ينساب جمال الروح من كلماته

1. لا تسمح حتى بمجرد التفكير بفعل ما لا يجب فعله.
2. اعتنِ بقوة الروح أكثر من اعتنائك بقوة الجسد.
3. كن على ثقة بأن الأعمال التي تتطلب جهداً تسهم أكثر من الملذات في تكوين الشخصية الفاضلة.
4. كل انفعال للنفس هو من أشد القواطع أمام خلاصها.
5. قال فيثاغوراس إن من الصعب جداً أن يختط الإنسان مساراً في الحياة ثم يضيف إليه مسارات عدة أخرى في الوقت نفسه.
6. قال فيثاغوراس إن من واجب الإنسان أن يعيش أفضل حياة ممكنة لكنه قال أيضا إن الثروة أساس هش للسعادة أما الجاه فهو أكثر هشاشة والجسد أيضاً، والمُلك والألقاب كل هذه أمور فارغة ولا قوة لها إطلاقاً. ما هي إذاً الأسس المتينة للحياة المثلى؟ إنها الحكمة وكرم النفس والثبات على الطريق. فهذه الفضائل لا يمكن لأي عاصفة أن تهزها. قانون الله تعالى هو أن الفضيلة هي الأمر الوحيد الذي يمنح القوة وأن كل الأمور الأخرى عبث.
7. كل أوجه الحياة مثلها مثل الأوجه العديدة لتمثال رائع يجب أن تكون جميلة.
8. احرق البخور للإله وقدم الاحترام والتمجيد لأهل الفضيلة والصلاح.
9. إن من الواجب الدفاع عن المظلومين الذين يتهمون زوراً بارتكاب جرائم، ومن الواجب أيضاً أن تقدم المديح لأولئك الذين يقدمون الكثير في مجال البرّ.
10. لا يقال عن الحصان أنه أصيل بسبب ما يوضع عليه من الزينة بل بما يظهره في الميدان من قوة وأصالة، كذلك فإن الرجل لا يعطى المقامات بسبب ثروة يمتلكها بل بسبب أصالته وكرم نفسه.
11. عندما يفتح العاقل فمه ينساب جمال الروح من كلماته.
12. قال فيثاغوراس إن أكثر الناس يقرون بأن الحكمة هي أثمن الأشياء في الحياة لكنْ قليلون هم الذين يجاهدون حقاً للحصول على هذا الكنز.
13. عليك باجتناب الخمر وأن تكون مستعداً للإيمان، لأن اليقظة والتصديق هما عماد الحكمة.
14. من الأفضل لك أن تجعل سريرك عشب الحقل على أن تنام على سرير من ذهب قلقاً مشوشاً.
15. قال فيثاغوراس: لا تشعر بالإفتقار لأي شيء يمكن للنعمة أن تمنحك إياه أو تحرمك منه.
16. انظر باحتقار إلى جميع الأشياء التي لن تكون في حاجة إليها عند تحررك من الجسد وجاهد لأن تكتسب تلك الأشياء التي ستحتاجها عند انعتاق الروح. واذكر الله دوماً واسأله العون.
17. قال ديموفيليوس: من المستحيل إخفاء الدناءة في السلوك القويم كما يستحيل إخفاء النار المشتعلة في الثوب.
18. الريح تزيد النار اشتعالاً لكن العشرة تزيد المحبة.
19. الله يحب أولئك الذين ينتفضون في وجه الظلم.
20. قال أريستوكزينوس الفيثاغورسي: إن حاجات الجسد الضرورية متاحة لأي كان من دون إرهاق. لكن متاع الدنيا التي تتطلب الكثير من الجهد والضنك لتحصيلها هي حاجات الشهوة لا الجسد، وهي وليد فساد الرأي.
21. قال أريستوكزينوس: تحدث فيثاغوراس عن الشهوة بهذه الكلمات: الشهوة متعددة الأشكال ويلازمها الجهد في جميع الأحوال. بعض الشهوات يتم اكتسابها بالتعود أو التطبع وبعضها الآخر مستبطن بالغريزة. والشهوة هي اندفاع في النفس ورغبة في الإشباع كما أنها بنت الحواس أو نتيجة الفراغ كما أنها نتيجة الوهم. وأنواع الشهوة الثلاث الأكثر فساداً أو انحرافاً هي الشهوة الفاسقة والشهوة العارمة والشهوة الشاذة. والشهوة غير لائقة في كل مظاهرها كما أنها غالباً ما تكون فظة ومثيرة للبلبلة. وحتى لو لم تكن كذلك فإن الشهوة تتميز بالطيش والإلحاح ، وفي المقام الأخير فإن الشهوة قد تنشأ في الوقت الخطأ أو تتركز على الموضوع غير المناسب.
22. قال فيثاغوراس: لا تحاول أن تغطي أخطاءك بالجدال بل جاهد لإصلاحها بتأنيب النفس.
23. قال فيثاغوراس: كما أن من الصعب جداً مداواة المرض إذا تم إخفاؤه أو التمويه على وجوده فإن من أصعب الأمور مداواة النفس العليلة التي يكابر صاحبها ويصر على إخفاء علته.
24. أن تمتلك حساماً غير قاطع أمر لا جدوى منه مثل استخدام حرية التعبير في غير محلها.
25. قال فيثاغوراس: أكرم من ينتقدك بالنصح لا من يمدحك. واهرب من المتملقين كفرارك من عدوك.
26. حياة الإنسان الجشع أشبه بمأدبة في مأتم. فعلى الرغم من احتوائها على كل ما هو مرغوب إلا أنه لا أحد يشعر بالسرور حولها.
27. قال فيثاغوراس: تخلّق بالعفاف لأنه أكبر مصادر القوة وصحة الجسد.
28. قال فيثاغوراس: عبد الشهوات لا يمكن أن يكون حراً.
29. قال فيثاغوراس: معاقرة الخمر والسكر هي الطريق نحو الجنون.
30. سئل فيثاغوراس: كيف يمكن لمدمن الخمر أن يقلع عن إدمانه؟ أجاب بالقول: يمكنه ذلك إذا استذكر كيف تكون عليه حاله وأفعاله عندما يكون ثملاً.
31. قال فيثاغوراس: ما لم يكن لديك شيء أفضل من الصمت فمن الأفضل لك أن تبقى صامتاً.
32. أفضل لك أن ترمي بحجر دون هدف من أن تنطق بكلمة لا فائدة منها.
33. قال فيثاغوراس: لا تقل القليل بكلمات كثيرة بل قل الكثير بكلمات قليلة.
34. سئل فيثاغوراس: كيف ينبغي للفرد أن يتصرف عندما يقع عليه الظلم من بلده؟ فأجاب: كما يتصرف الولد تجاه أمه.
35. الحكيم يجد في كل بقعة من بقاع الدنيا مقاماً مناسباً له لأن الروح المنعتقة وطنها العالم بأسره.
36. قال فيثاغوراس: أول ما يدخل المدن الرفاهية ويتبع ذلك التخمة ثم يتبع التخمة الفسق ثم يتبع الفسق الفجور ثم يتبع كل ذلك دمار المدينة على أهلها.
37. قال فيثاغوراس: أفضل المدن هي التي يسكنها أفضل الرجال.
38. قال فيثاغوراس: الذين لا يوقعون القصاص بشرار الناس يودون فعلاً إيقاع الأذى بخيار الناس.
39. قال فيثاغوراس: كما أن من غير الممكن ضبط الفرس من دون لجام كذلك من الصعب ضبط الثروة من دون التعقل في الإنفاق.
40. صاحب المال المغرور بنفسه هو أشبه بحصان السباق المندفع في ميدان مليء بالمنزلقات.
41. الرجل الحكيم يحتمل الفقر بالرضى والاتزان.
42. قال فيثاغوراس: احفظ حياتك وإلا فإنك ستنفقها في الأحزان والهموم.
43. في كلام لفافورينوس عن الشيخوخة قال: عليّ أن أذكر بأن أفلاطون وفيثاغوراس كلاهما لم ينظرا إلى الكهولة باعتبارها نهاية للحياة الحاضرة بل باعتبارها بداية لحياة جديدة ومباركة.
44. يقول فيلالاوس عن فيثاغوراس إن الحكماء القدماء والكهنة أكدوا دوماً أن الروح متحدة بالجسد كنوع من العقوبة وأنها دفنت في البدن كما يدفن الميت في القبر.
45. يقول فيثاغوراس: “أي شيء تراه في اليقظة هو الموت وأي شيء تراه في النوم هو الحلم”.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”القسم الثاني: قدسية الأسرة والمرأة الفاضلة” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

لا يجوز إيذاء الوالدين سواء بالقول أو بالفعل، وبغض النظر عن مكانتهما في الحياة سواء أكانت عظيمة أو وضيعة فإن الواجب طاعتهما. وعلى الأولاد أن يبقوا معهما وأن لا يتخلوا عنهما أبداً وأن يطيعوهما إلى حد الخضوع لهما حتى ولو أصابهما أو أحدهما الخرف ومهما نابهما من زمانهما من أمراض البدن أو النفس أو من الابتلاءات الأخرى في الصحة والمال والسمعة والمكانة الاجتماعية. وهذا الالتزام التام بالأهل يقبل عليه الرجل الورع بكل رضى وسرور. أما ذاك الذي يحتقر والديه فإنه سينال أشد العقاب من الله في حياته وفي موته، وسيحتقره الناس وسيلقى تحت التراب جنباً إلى جنب مع السفهاء والمارقين أشد العقاب من قبل ملائكة الموت التي يختص عملهم بالتدقيق في هذا النوع من الأعمال.
وعلينا أن نجل والدينا في حياتهما وبعد موتهما، وأن لا نعارضهما في شيء يقولانه أو يعملانه. وحتى إذا ما فقدا التمييز بسبب كبر السن أو المرض فإن علينا أن نهوّن عليهما ونواسيهما لكن دون أي تذمر أو تأفف أو عداء لأنه لا توجد جريمة أو إثم في الحياة يفوق عقوق الوالدين وعدم احترامهما من قبل الأولاد.

حول رسالة المرأة

فينتس ابنة كاليكراتيس (400 ق.م.)

على المرأة أن تكون صالحة ومتواضعة، لكنها لن تبلغ ذلك من دون الفضيلة والتي ترفع قيمة صاحبتها. وفضيلة العين هي النظر وفضيلة الأذن هي السمع وأول الفضائل التي يجب أن تتمتع بها المرأة هي الاستقامة لأنها بهذه الصفة يمكنها أن تحب وتكرّم زوجها.
قد يعتقد البعض أنه لا يليق بالمرأة أن تنخرط في شؤون الفلسفة كما أنه لا يليق بها أن تركب الخيل مثلاً أو أن تخطب في الناس. وأنه على الرغم من وجود أعمال مخصصة لكل من الرجل والمرأة فإن هناك أيضاً وظائف مشتركة بينهما. بالنسبة لما يعود لكل من الجنسين فإن وظيفة الرجل أن يقود الجيش وأن يتولى الشأن العام ويخطب في الناس بينما وظيفة المرأة أن تعتني بالمنزل وأن تخدم الزوج والأسرة كما أن عليها التحلي بالجَلَد والإنصاف ورجاحة العقل.
لكن في ما يتعلق بما هو مشترك، فإن على الرجل والمرأة كليهما أن يصونا الجسد والروح. وكما أن صحة البدن مفيدة لهما فإن صحة الروح مهمة لكليهما. وفضيلة الجسد هي في الصحة والقوة والنشاط والجمال. لكن أهم فضائل المرأة هو الاستقامة. وهذه الفضيلة تتبدى في خمسة أشياء:
أولاً: الحرص على قداسة الرابطة الزوجية والسرير الزوجي.
ثانياً:طريقة التزين واللباس.
ثالثاً: في تنقلها خارج المنزل.
رابعاً: في الابتعاد عن الطقوس الماجنة للعامة.
خامساً: الاعتدال والحيطة في تقديم الأضاحي.
لكن بين هذه الفضائل فإن أهمها هو عدم تدنيس السرير الزوجي وعدم التطلع إلى أي رجل سوى الزوج. إن استهتار المرأة بهذا الواجب يعتبر إثماً عظيماً تجاه الله الذي أمر بحفظ الأنساب كما أنها تخون عهدها الذي التزمت بموجبه بإقامة علاقة شرعية مع الزوج الهدف منها الشراكة في الحياة وإنجاب الأولاد. كما أن تدنيس الرابطة الزوجية يؤذي الجماعة وقوانينها لأنه يضحي باستقرارها في سبيل ملذات عابرة وسلوك وقح وغير مقبول، وهذا السلوك الشائن يحكم عليه بالموت كما أن الله لا يغفره.
أما في ما يتعلق بزينة المرأة فإن لباسها يجب أن يكون أبيض وبسيطاً ومحتشماً. ولكي يكون ثوب المرأة كذلك يجب ألا يكون شفافاً أو ملوناً أو مصنوعاً من الحرير وأن لا يكون باهظ الثمن. بذلك تجتنب المرأة الصالحة الاقتداء بالنساء الفاسدات والسطحيات. ولا يجوز للمرأة لبس الذهب والجواهر لأنها غالية الثمن وتعكس حب الظهور ومحاباة الدهماء، بل أن الحكم الرشيد في أي مدينة يجب أن يقضي بإخراج صانعي المجوهرات منها.
إن على المرأة أيضاً أن تزين وجهها ليس بالمساحيق أو الحمرة بل بالنور الطبيعي للرداء الأبيض الذي تضعه ويزينها بالحشمة بدلاً من فنون الزينة. بذلك فإنها ستكسب الشرف لنفسها ولزوجها.
بالنسبة للتنقل خارج المنزل فإنه لا يجوز للمرأة ترك منزلها قبل الفجر أو بعد المغيب أو دخول السوق قبل أن يكون عامراً بالناس على أن يكون في رفقتها على الأقل خادم أو إثنان.

واجبــــات المـــرأة الفاضلـــة

الفيثاغورسية بريكتيون (430 ق.م)

المرأة الفاضلة يسرّها ما يسرّ زوجها ويكدّرها ما يكدّره، وهي توافقه في أمور المنزل وتستقبل ببشاشة جميع الأقارب والأصدقاء الذين يقدمون لصحبته أو ضيافته.

لا يجوز للمرأة ترك منزلها قبل الفجر أو بعد المغيب أو دخول السوق قبل أن يكون عامراً بالناس على أن يكون في رفقتها على الأقل خادم أو إثنان

على المرأة أن تمثل تناغماً بين الحصافة وضبط النفس، ويجب أن تكون متحمسة لإكتساب الفضيلة وأن تنفر من الشهرة الفارغة، حتى إذا أصبحت زوجة كانت مثال السلوك الحسن تجاه زوجها وأولادها وأسرتها. وعليها أن تكون وفية لزوجها وأن تحاذر الوقوع في الزنى لأن فيه دمار كل رابطة بين الرجل والمرأة.
عليها أن تدرب جسدها على الاعتدال في الطعام واللباس والاستحمام وتصفيف الشعر وارتداء الحلي. إذ يكفي للطعام والماء أن يسدا الجوع والعطش، وهو ما يمكن تأمينه من أشياء بسيطة ومتوفرة بسهولة. كما أن في إمكان المرأة حماية نفسها من البرد عبر ارتداء أكثر الثياب بساطة، ومن الإثم أن يأكل السالك من أطعمة مستوردة من بلدان بعيدة يتم شراؤها بأغلى الأثمان، كما أن من الحماقة البحث عن الثياب الباهظة الثمن واللماعة والموشاة باللون الأحمر وغيره من الألوان الثمينة.
إن الجسد نفسه لا يطلب منا سوى حمايته من البرد والعري وهذا كل ما يحتاجه. وبسبب الجهل والحمق يطلب الرجال توافِه الأمور والفضول. لا يجوز للمرأة التزين بالذهب أو الجواهر المستقدمة من الهند أو أي بلد آخر ولا أن تتفنن في جدل أو تصفيف شعرها ولا أن تتعطر بالعطور العربية ولا أن تصبغ وجهها بحيث يزداد بياضاً أو احمراراً ولا أن تكحل حاجبيها أو جفونها ولا أن تصبغ شعرها عندما يبدأ الشيب بالظهور ولا أن تكثر الاستحمام. لأن المرأة التي تفعل كل ذلك إنما هي مسرفة وتسعى لاجتذاب الأنظار. على العكس من ذلك فإن الجمال الناجم عن سمو الروح والاستقامة وحده يجلب السرور للمرأة الأصيلة.
ولا ينبغي للمرأة أن تبحث عن الثروة أو الجاه أو صداقة كبار القوم أو حاشية الحكام. وعلى روحها أن تأنف هذه الرغائب ولا تحلم بها لأن هذه الأمور ضررها أكثر بكثير من نفعها ولأنها تسوق المرء في طريق الضلال والمِحَن، والخيانة والحسد والنميمة وتقضّ بالتالي مضاجع أصحابها وتحرمهم هناء العيش.
على المرأة الفاضلة أن تعيش مع زوجها برضى تام وأن تصطبر على مصاعب العيش التي قد تصيب الزوج سواء كان ذلك في خسارة تجارة أم في ارتكاب الحماقات، وسواء كان الزوج مريضاً أو مخموراً أو حتى غير وفيّ، وعليها أيضاً أن تتحمل غضب الزوج أو تقتيره أو شكواه من سوء حاله أو غيرته وأي أخطاء قد تكون في طبعه. كل ذلك باصطبار تام ومع دوام الاحترام والطاعة للزوج.
عليها أيضاً أن لا تحب زوجها فقط بل أولادها وأقاربها وخدمها وجميع أفراد عائلتها، وعليها أيضاً أن توافق رأي زوجها في أمور المنزل وأن تستقبل ببشاشة جميع الأقارب والأصدقاء الذين يقدمون لصحبته أو ضيافته، وما لم تكن مفتقدة للمودّة فإن المرأة الفاضلة يسرّها ما يسرّ زوجها ويكدّرها ما يكدّره.

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

رسالة الغفران

رسالـــــة الغفــــران
لأبــــــي العــلاء المعــــــرّي

إيمـــــان العامــــة فــــي ميــــزان العقــــل

هي من المؤلفات العربية النادرة التي صنفت ضمن الأدب العالمي، لشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء «أبي العلاء المعري»، بقيت غير معروفة حتى أواخر القرن التاسع عشر حيث أعلن المستشرق الإنكليزي «بيكلسون» أنه حظيّ بمخطوطات قديمة قيمة أهمها رسالة الغفران، مع العلم أن أبا العلاء المعري توفي سنة 1057م. ونحو سنة 1901م قدّم بيكلسون وصفاً للمخطوطة التي خضعت لدراسات عدة، ولكن عربياً بقيت مهملة حتى سنة 1950م، حيث نشرت أول طبعة محققة في مصر، وبالمقارنة تبين أن هناك نسخة قديمة في سوهاج في مصر كانت تحمل عنوان «في علم الأدب: مجهول المؤلف».

أحدث اكتشاف رسالة الغفران ضجة كبيرة في أوساط أوروبا الأدبية، إذ تبين أن الأديب الإيطالي العالمي «دانتي» أخذ فكرة كتابه العالمي الشهير «الكوميديا الإلهية» عن رسالة الغفران لأبي العلاء، وكذلك الشاعر الإنكليزي «جون ميلتون» في قصيدته «الفردوس المستعار والفردوس المفقود».

وقبل البدء بوصف وقراءة رسالة الغفران لا بدّ من التعريف بإختصار بأبي العلاء المعري، أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري ولد سنة 973م نسبة الى معرة النعمان قرب حلب، شاعر وفيلسوف وناقد عربي كبير لقب برهين المحبسين لأنه أصيب بالعمى في سن الرابعة والتزم بيته زاهداً أكثر سنين حياته، درس في حلب وأنطاكية وزار بغداد.

منهجه عقلاني متطرف أثار عليه نقمة العلماء والفقهاء المعاصرين الى حد اتهامه بالزندقة، سبب هذا الاتهام هو أنه كان يرفض التسليم بظاهر العديد من النصوص والأفكار والطقوس الدينية، بل يحاول الولوج الى عمقها ومعناها الحقيقي المقصود. ويقال إنه نسبت اليه الكثير من الآراء وبيوت الشعر المغرضة بهدف الإساءة إليه، مما اضطره للقول في كتابه «سقط الزند»: «أنا شيخ مكذوب عليه». ومن أساليبه التي ساهمت في اتهامه بالزندقه هو اعتماد مبدأ «الشك» في بعض الأمور للوصول بعدها الى اليقين، ولكن الباحث المتعمق يلاحظ بسهولة أن هذا المنهج يصح في الإسلام إذ إن الإمام «الغزالي» حجة المسلمين طور هذا المنهج واعتمده، ومن المفيد القول إن الإمام الغزالي ذكر في أحد كتبه كرامة من كرامات أبي العلاء التي تدل على تقواه وإيمانه، وقبل ختم الحديث عن أبي العلاء لا بدّ من القول إن هناك العديد من الكتب والرسائل التي تدافع عن أبي العلاء مثل كتاب «رفع التجري عن المعري» للعلامة «كمال الدين بن العديم»، وغيره مثل «ياقوت الحموي» في معجمه، و«الصفدي» في «الوافي بالوفيات» و«نكت الهميان»، والعباسي في «معاهد التنصيص».

أسلوب رسالة الغفران ظاهره هزل وإمتاع وباطنه مواقف قوية للشاعر من مسائل دينية وأدبية شغلت عصره

أما رسالة الغفران فقد كتبها أبو العلاء رداً على رسالة بعثها اليه أحد معاصريه «علي بن منصور» الملقب بإبن القارح. يصف «إبن القارح» في هذه الرسالة توبته وتغير أفكاره في شيخوخته وأنه يأمل دخول الجنة، ويختم رسالته بسؤال «أبي العلاء» عن رأيه في هذه الرسالة. حركت رسالة «ابن القارح» خيال «أبي العلاء» فكتب رسالة الغفران يثني فيها على توبة «إبن القارح»، واعتمد أسلوباً مسرحياً استطرادياً غريباً، أطلق فيه أبو العلاء صاحبه «ابن القارح» في رحلة ميتافيزيقية علوية يلتقي فيها بشعراء في الجنة، وآخرين في النار، وشخصيات من البشر والجن والحيوانات. ويدير «ابن القارح» معها مناقشات لغوية، ونحوية، وأدبية ذات عمق ديني، فضمن «أبو العلاء» في هذه المناقشات والحوارات العديد من أفكاره ومواقفه على شكل قصص ووصف ونقد وعلم وفلسفة وتاريخ ودين، وتطرّق إلى هذه القضايـا بأسلوب مبطّن ظاهره هزل وإمتاع وضحك وباطنه مواقف من بعض المسائل الإجتماعية والدينية والأدبية، وبكاء لما آل إليه مآل العقيدة، وتحطيم لبعض الأصنام التي صنعتها العامّة في أذهانها.

على الصعيد الإجتماعي، عكس «أبو العلاء» حالة التهتّك والمجون والإستهتار في الملبس والمسكن، وانتشار المحسوبيات واحتكار رجال الدولة للمقدرات والثروات ومبالغتهم في الإسراف، في مقابل تفشي الفقر بين كثير من الناس. ومن المعلوم أن العامة يسقطون واقعهم على الغيبيات فيتصورونها من حيث هم، وهذا ما جسده «أبو العلاء» في رسالته، إذ أطلق العنان لخياله حول الجنة كما تفعل العامة، فعكس الطبقية الإجتماعية في عصره الى داخل الجنة، كأن أسكن البعض في قصور جميلة وأكسبهم جمالاً ونضارة، أما البعض الآخر فأسكنهم في الأطراف داخل بيوت وضيعة. ولم ينسَ «أبو العلاء» أن يجسد صورة التعلق والهوس بالملذات والشهوات الجسدية بدلاً من التعلق بالتطور والعمل الفكري، وهو يبين لنا في أحد مقاطع الرسالة كيف أن الشيخ «إبن القارح» أوقف سعيه لسماع بعض أشعار الجن كي لا يضيع على نفسه فرصة اللقاء والتمتع ببعض الحوريات.

على الصعيد الديني، أضاء «أبو العلاء» على الفهم الخاطئ لهدف وغاية الدين من قبل الناس، حيث يُستعمل في كثير من الأحيان لتمرير السياسات الدنيوية بما فيها من الزندقة والنفاق، وكذلك كيف أن الناس دنست المقدسات إذ تنظر الى الجنة كبقعة تستباح فيها كل المحرمات فترتكب الكبائر من دون رادع أو وازع، وكأن ترك الناس للملذات في الحياة الدنيا هو فقط للحصول عليها أضعافاً مضاعفة في الحياة الباقية الآخرة.

أما على الصعيد الأدبي، فقد صال «أبو العلاء» وجال كاشفاً عن الكثير من آرائه ومواقفه حول العديد من قضايا الشعر والأدب، واستعمل لهذا الغرض صديقه «إبن القارح» عبر إجرائه حوارات عدة مع الأدباء والشعراء الذين منهم في الجنة ومنهم في النار، فبين ازدرائه بمن يحاولون التكسب بالشعر، وكذلك التذلل والتزلف لقاء المنافع الخاصة والمادية والتقرب من الملوك والأمراء، ومنها ما يوجب المبالغة غير المستحبة في الوصف، وكذلك يبدي رأيه وموقفه في كثير من الشعر المنحول وغيره.

حقيقة الأمر، إن رسالة الغفران عمل أساسي في تاريخ الفكر الفلسفي العربي والإسلامي، وهي جديرة بأن تقرأ في زمننا هذا كما في سائر الأزمان الأخرى، فما زال العديد من المعتقدات والأفكار الساذجة رائجاً في مجتمعنا كما كان رائجاً في أزمنة سبقت، ولكن شرط القراءة المفيدة هو أن تقرأ بعقل منفتح وعميق لا يقارنها بظاهر النصوص الدينية بل بمغزاها ولبّها، ولا شك أن القارئ يستمتع بقراءتها لما فيها من الصور والمشاهد المسرحية، ويستفيد منها لغوياً لما فيها من غرابة الألفاظ والكلمات، وكذلك يستفيد منها دينياً واجتماعياً وفكرياً وتاريخياً، بل يمكن القول إن كل قارئ سيجد نفسه في كثير من المواضع مكان إحدى شخصيات الرسالة، فينتقد ويقيم نفسه من دون أن يشعر.

مدينة السّويداء

مدينـــة السّويــــداء قلعــــة العــــروبــــة والكرامــــــــة

(تحقيق في حلقتين)

مدينة السويـداء في التاريخ

بناها النبطيون واستوطنها الموحدون الدروز
فجعلوا منها معقلاً ومنطلقاً لمقاومة المستعمرين

الأمويون اهتموا بها والخليفة عمر بن عبد العزيز امتلكها
لكن انتقال الخلافة إلى بغداد مع العباسيين أضعفها

تعتبر السويداء –السّوده، كما سمّاها الأنباط بسبب اسوداد حجارتها البازلتية- واحدة من أقدم الحواضر التي بناها الإنسان في ما كان يُعرف بجبل حوران سابقاً، والأنباط قوم من العرب دخلوا جنوب سورية في مطلع القرن الأول قبل الميلاد، وإليهم يُنسب بناؤها. وقد سكنوا المنطقة الممتدة من شمال الحجاز والأردن الحالية منذ القرون الثلاثة السابقة للميلاد، وأسّسوا حضارة تجاريّة وزراعيّة مركزها مدينة البتراء في جنوب الأردن، ولم يلبثوا أن توسّعوا شمالاً فهزموا السلوقيين الإغريق، خلفاء الإسكندر واحتلّوا دمشق نحو العام 88 قبل الميلاد.
ازدهرت السويداء في العصر النبطي، وبُني فيها معبد للإله ذي الشرى إله الأنباط، بفن بناء متقن تعلّموه من الإغريق، كما يشير إلى ذلك المهندس منهال وهب في مجلّة الحوليّات الأثرية السورية، المجلّد 41 ص51، وحُفرت بركة عظيمة تتسع لعشرات الآلاف من الأمتار المكعبة من مياه الشتاء، تم استجرارها من المرتفعات، ومضخ كبير لتخزين المياه، وزرع الأنباط الأراضي حول المدينة بالحبوب والأشجار المثمرة وخصوصاً العنب والتين.
في ذلك العصر كانت السويداء تتبع دينيّاً لـ «سيع»، وهي اليوم آثار خربة إلى الشمال الشرقي منها، وقد تفوّقت «سيع» على السويداء آنذاك لأن الأنباط والبدو الصفائيين جعلوها محجّة أو بمثابة كعبة تُزار. أمّا إدارياً فقد أُتبعت إلى «قنوات» التي كانت تفوقها أهمية، وربّما يعود ذلك إلى كون قنوات أقرب إلى «سيع» ذات المركز الديني المتميز. سنة 149م كان النفوذ النبطي قد أخذ بالتراجع لصالح النفوذ الروماني، وفي عهد القيصر كومودو تطوّرت المدينة بسرعة إلى مدينة من الطراز اليوناني، فظهرت فيها الشوارع العريضة الطويلة، والمباني المنظّمة، والمعابد التي لا تزال بقاياها شاهدة على تطور المدينة، بالإضافة إلى كنيستين إحداهما تعود للعصر الروماني والأخرى للبيزنطي.
وفي عهد الغساسنة، في القرن الخامس الميلادي وما تلاه حتى الفتح العربي الإسلامي، استمر إعمار المدينة وأصبحت مقر مطرانيّة تدير شؤون السكان وتشرف على كنائس وأديرة في ما حولها.

السويداء في عصر بني أُميّة وما بعده
بقيت السويداء عامرة بعد الفتح العربي الإسلامي، وخاصة في العصر الأموي، حيث أصبحت إقطاعة من ممتلكات الأمير الأموي عمر بن عبد العزيز، الذي أصبح خليفة في ما بعد. أما في العصر العباسي فقد تراجع دورها لأسباب أبرزها انتقال مركز الخلافة بعيداً إلى بغداد، وإهمال العباسيين لبلاد الشام، وتراجع الحضارة في العصر العباسي الأخير، وغَلَبة البداوة على البلاد التي ضعفت هيبة الخلافة والدولة فيها، ولم يكن الوضع أفضل في العصر المملوكي، إذ تدهورت الأحوال إلى الأسوأ في العهد العثماني خصوصاً في القرن السابع عشر الميلادي وما يليه، بسبب تسلّط البدو والقبائل الوافدة من الصحراء على البلاد، الأمر الذي دفع سكّان القرى والمدن للهجرة إلى الغرب الحوراني، والشمال إلى حوض دمشق كما يشير د. عادل عبد السلام، الأستاذ في جامعة دمشق، في مجلّة الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة، مجلّد 41 ص37.

الأمير فخر الدين المعني الثاني لم يهتم بالسويداء وركز اهتمامه على صلخد بسبب الموقع الاستراتيجي لقلعتها على تخوم الصحراء العربيّة

المعنيّون والسويداء
لم يهتم الأمير فخر الدين المعني الثاني بالسويداء، لكنّه عني بصلخد، وذلك بسبب موقع قلعتها الاستراتيجي على تخوم الصحراء العربيّة، ويذكر المؤرخ الخالدي الصفدي أنّ الأمير أرسل ابنه عليّاً على رأس حملة عسكريّة لترميم قلعة صلخد وجامعها سنة 1624 ففعل، كما بنى قلاعاً عدّة في بلاد الشام منها قلعة في تدمر التي لا تزال تحمل اسمه في قلب سوريا وإلى يومنا هذا، ومما يدلّنا على أنّ هذا الأمير المعني قد بسط نفوذ دولته على أجزاء واسعة من بلاد الشام، ويذكر الأمير حيدر الشهابي في تاريخه المعروف باسمه بأنه « في سنة 1630 سار الأمير فخر الدين إلى بلاد حوران، وبنى قلعة صلخد وجمع الذخيرة (ويقصد بذلك البارود العضوي الذي كان يستخدم في بنادق ومدافع ذلك الزمان) من تلك البلاد، ولمّا تضايق أهل الشام من الغلاء وشكوا له أحوالهم، أرسل إليهم ألفي حمل جمل محمّلة بحنطة حوران».
أما أوّل هجرة بقصد التوطّن فقد كانت هجرة إجباريّة، وقد حدثت على يد الأمير علم الدين المعني الذي اضطرّ إلى النزوح نحو العام 1685 أمام ضغوط الشهابيين وأحلافهم الذين أخذوا يضغطون على المعنيين حتّى قبل أن يصبحوا ورثتهم الفعليين سنة 1697 في الحادثة المعروفة باجتماع مرج السمقانيّة. لقد كان الأمير حيدر الشهابي المدعوم من والي دمشق وصيدا وعكّا معاً، يضيّق على الأمراء المعنيين الذين يرى فيهم خطراً على المشروع الشهابي الصاعد والرامي لوراثتهم، الأمر الذي أجبر الأمير علم الدين المعني إلى اللجوء مع مائتي فارس إلى الّلجاة شمال غرب جبل حوران. ولمّا وجدوا فيها مأمناً قاموا باستقدام أسرهم، وتذكر محفوظات المحامي ماجد الأطرش في السويداء، أنّ علم الدين آنذاك استدعى حمدان الحمدان وكانت أسرته قد استوطنت الكرك في جنوب الأردن بعد انكسار المشروع الاستقلالي الذي حاوله الأمير فخر الدين، ذلك أنّ والده كان أحد قادة فخر الدين الفارين من البطش العثماني، وعيّنه وكيلاً بدلاً منه، وعاد إلى لبنان بعد نحو سنتين من إقامته في اللجاة، لأن أنصاره هناك طلبوه لمواجهة الخصوم.

رجال في السويداء في الأربعينات
رجال في السويداء في الأربعينات

آل الحمدان يعبرون إلى السويداء
سنة 1694 استشهد الأمير علم الدين في موقعة الغلغول قرب بيروت، فحمل حمدان الحمدان عبء قيادة الدفعة الأولى من بني معروف في تلك البلاد وكان جديراً بالمسؤوليّة الثقيلة، دعم قوّته بتتابع نزوح العائلات الدرزية من جبل لبنان، بتأثير النزاع القيسي اليمني، وكان الشهابيون يؤججون هذا النزاع بهدف تعزيز موقفهم في وراثة الإمارة المعنية التي أفل نجمها بعد مقتل الأمير علم الدين، ولجوء من تبقّى من المعنيين إلى المقلب الثاني من جبل الشيخ في الجولان، علماً أن الشهابيين استمروا في ملاحقتهم غدراً وتقتيلاً لإبعادهم عن جبل لبنان.
قاد الحمدان قومه في مرحلة حرجة، بشجاعة وحنكة، فقد كاتب الدروز في لبنان، وكذلك في فلسطين حيث زيّن لهم القدوم إلى المنطقة التي استطاع الصمود فيها، وتمكّن خلفه علي الحمدان من الانتقال إلى السويداء التي كانت شبه خربة، تستوطنها أسرتان، الأولى مسيحية من آل الدحدل. ومما يجدر ذكره أنّ نصارى حوران هم السكان الأقدم في البلاد ويعودون بأصولهم إلى الغساسنة العرب قبل الإسلام، أمّا الأسرة الثانية، فهي مسلمة من آل سويدان، والأسرتان كانتا تدفعان الإتاوة للبدو الذين كانوا يفدون إلى الجبل أواخر الربيع والصيف ويرتحلون شتاءً إلى البادية. في سنة 1804 هاجم والي الشام وادي القلمون قرب دمشق وهدم مجالس وبيوت الموحّدين، ومن نجا منهم لجأ إلى الجبل، منهم آل عامر وياغي والغضبان، من وادي بردى والزبداني، وآل الحكيم من الشام وقس على ذلك تهجير الموحدين من جهات حلب.
كان الشيخ الحمداني يختار مكاناً لكل جماعة قادمة، فيعيّن شيخاً من أقاربه أو أتباعه على كل قرية يُعاد إعمارها، وهكذا أعيد إعمار القرى المجاورة للسويداء كالرحى والسهوة ورساس، وعرى وعتيل وقنوات ومصاد وغيرها، وصارت السويداء مركز سلطة وقرار لآل الحمدان، وبذلك أصبح الدروز أصحاب النفوذ في الجبل، فللشيخ الحمداني جماعة من الفرسان يبلغ عددهم نحو تسعين فارساً، هم أداة سطوته، وكان يعاقب مخالفيه بعقوبات تصل للإعدام.
باستثناء نزول آل الحمدان ومن والاهم من بني معروف، نحو النصف الأوّل من القرن الثامن عشر، لم تمرّ أحداث بارزة في حياة ذلك المجتمع الناشئ، ويمكننا القول إنّه كان مجتمعاً ينمو بالتكاثر الطبيعي من جانب، وبقدوم الوافدين إليه من جانب آخر، ومع أنّ غالبية القادمين هم من بني معروف، الهاربين من تسلّط الشهابيين في لبنان، وبني زيدان وولاة عكّا في شمال فلسطين وغيرهم من الإقطاعيين، ومن تلك الأسر الوافدة إلى السويداء، ولم يزل الأحفاد يقيمون فيها آل أبو عسلي ورضوان ومرشد وقطيش والجرماني وعزّي مزهر وعبيد والشعّار وجربوع ونعيم وبدر وأبو الفضل وبوّز وعلم الدين وسري الدين وأبو سعدة والفقيه واشتي ورجب وكرباج والباروكي وحميدان والعشعوش والأسعد وشيّا ورشيد وعبد الدين وطربيه وأبو لطيف وتقي وحاتم ودوّارة وحمزة وبلاّن وأبو ذياب والبعيني وجانبيه ومحاسن وارشيد وعماشه ودويعر وسْعيد وبدران وقرضاب والحلبي ونصر وسواهم كثير، فقد كان يلجأ إلى المنطقة قادمون من المسيحيين، الذين وجدوا في العيش بين الدروز عيشاً أكثر تسامحاً وما زال أحفادهم يعيشون في مدينة السويداء إلى يومنا هذا، كآل الجهيّم والهزيم ومطر وأبو جمرة وحوشان والذيب والنمر وقندلفت وعزّام وفلّوح والظواهري وغيرهم، وكذلك وافدون من السنّة كآل النصّار والغوثاني والحْمود ورعد وسواهم، بالإضافة إلى بدو الجبل من قبائل الشنابلة والمساعيد، الذين كانوا يعملون كرعاة لمواشي الدروز الذين حرّروهم من الإتاوات التي كانوا يدفعونها للقبائل الأقوى.

مدينة السويداء اليوم
مدينة السويداء اليوم

ترهّل المشيخة الحمدانية وسقوطها
لم يكن الحمداني الوارث كالحمداني المؤسّس، فحمدان الحمدان الذي كان يرحّب بالقادمين الجدد، ويقدّم لهم الأرض والبذار وأدوات العمل والحرّية من ظالميهم، مات، وجاء من بعده وارثو الإمارة والسلطة، وأصبح الحمداني الوارث يعتبر السلطة حقّاً مطلقاً له، فهو إن غضب على أحد من رعاياه طرده من منزله إلى منطقة أخرى، لاحقّ له إلاّ أن يحمل باب منزله ويمضي بعيداً. لا يحق لأحد أن يطبخ القهوة أو يستقبل الضيف إلاّ الشيخ الحمداني. له خُمس ذكور الحيوانات والطيور كما يذكر ذلك الدكتور حسن أمين البعيني في كتابه “جبل العرب …ص 204” ، له عشر الإنتاج وتكاليف إطعام الجنود، واحتكر لنفسه ( القلاط ) وهي الضريبة المفروضة على البدو مقابل الرعي وورد الماء، ثمّ أنّ تنافراً وقع بين الشيخ يحيى الحمدان وهو شيخ السويداء آنذاك، والشيخ إبراهيم الهجري في منطقة نفوذ الحمدان في قرية قنوات، وهو يمثّل رئاسة روحيّة للموحّدين، وهذا كلّه أضعف هيبة الشيخ الحمداني الذي كان قد طرد حمد النجم جربوع وهو أحد أعيان السويداء إلى قرية أم الرمّان بعيداً ثم كناكر جنوب غرب السويداء.
بالإضافة إلى ما سبق فإنّ حرب اللجاة في سنة 1837 وما تلاها ضد قوّات محمد علي باشا وابنه إبراهيم المؤيّد من الأمير بشير الشهابي الثاني الذي تميّز حكمه باضطهاد بني معروف في لبنان وملاحقتهم إلى جبل حوران، والمواجهات مع القبائل البدويّة الغازية من الصحراء، وحرب 1860 في لبنان، كل تلك الأحداث أبرزت قيادة بديلة تمثّلت بظهور اسماعيل الأطرش المؤيّد بعشيرة قويّة من أقاربه وثمانية من أبنائه المعروفين بفروسيّتهم، وكان واكد قد خلف والده يحيى في المشيخة، أقدم على تدبير اغتيال اسماعيل مرّتين، نجح في المرّة الثانية بتسميمه متعاوناً مع قائمّقام بصرى العثماني سنة 1869.
كان اسماعيل قد انتزع بلدة «عرى» من آل الحمدان في سنة 1859، ولم تؤخّر عمليّة اغتياله تنفيذ خطّة كان قد أقرّها من قبل الغدر به، وهي دخول السويداء وطرد آل الحمدان منها، ولما كان واكد الحمدان قد رفض مطالب أهل السويداء المتمثّلة بعدم تسخير الفلّاحين وترحيلهم، والسماح بتمليك الأرض لغير الملاّكين، وتحويل الأرض المشاع في السويداء إلى أرض زراعيّة، ودفع الضّرائب المتأخّرة المفروضة عليهم من قبل العثمانيين، من أموال ( القلاط ) وعدم أخذ ضرائب من الفلّاحين.
لم يهتمّ الحمداني بمطالب السويداء، ولاحت الفرصة التي ينتظرها الأطارشة وفي مقدّمهم إبراهيم، لدخول السويداء وطرد الحمدان والحلول محلّهم، بعض أبناء عم إبراهيم أظهر تردّداً في عمليّة اقتحام المدينة، وحدث هرجٌ في أوساط العشيرة التي اعتادت أن تتحرّك كقبضة مضمومة منذ أن تجرّعت هزائمها المريرة أمام الشهابيين وحلفائهم في لبنان بيارقٌ مرفوعة وسيوفٌ مًشهرة وبلبلة مريبة لم يحتملها حمد العبد الله الأصم، وكان فارساً مشهوداً له في المعارك ضد العثمانيين وسواهم، في سائر الوقائع التي خاضها اسماعيل الأسطوري، سأل حمد ابن عم آخر له هو حمد المعّاز عن حقيقة الأمر، فأوضح المعّاز له سبب تردّد العشيرة فما كان منه إلاّ أن لكز حصانه، وأرعش سيفه وانطلق هازجاً :
المرجلـــــهْ كــــارٌ لنــــا مــــا نهــــابْ المــــوت وســـــــــــط رياضهـــــــــــا
إن هــــا بهــــا ولـــد الرديّ وعاب حِنّـــــــــــــا نــــــــَرِدْ لحيــــاضهــــــا
هنا، تبعه الرجال نحو السويداء، وقد حسم ذلك كل تردّد …

الحرب ضد قوات محمد علي وابنه إبراهيم عززت موقع آل الأطرش وزعامة اسماعيل الأطرش المؤيّد بعشيرة قويّة من أقاربه وثمانية من أبنائه المعروفين بفروسيّتهم

القديم والحديث في السويداء
القديم والحديث في السويداء

دخول الأطارشة السويداء
اشترط أهل السويداء على الأطارشة النزول في دور آل الحمدان والحلول محلّهم في ممتلكاتهم فقط دون المساس بسواها، والقبول بما رفضه الحمداني من مطالب. كانت المقاومة من جانب آل الحمدان عملاً لا جدوى منه، فخرجوا من المدينة بلا قتال بعد أن عزلتهم الأحداث التي استغلّها واستفاد منها خصومهم، وعجزوا هم عن مواجهتها، فخسروا ما ورثوه من ملك وعزّ أورثهم إيّاه حمدان الحمدان، ذلك الرجل الذي لا يقل أهميّة عن اسماعيل وشبلي وسلطان واغتاظ أحمد العليّان وهو شاعر سهل حوران وقتذاك لسقوط الحمدان وحلول الأطارشة محلّهم فنظم قصيدة يترحّم على زمانهم، فيقول منها : « راح الشيخ وتنصّب المعّاز» وذلك لأنّ آل الحمدان ومن والاهم كانوا « يعيّرون اسماعيل الأطرش وعشيرته بـ «المعّاز» لأنّ هذه العشيرة التي تنتسب إلى آل معن أصلاً قد اضطرّت إلى اقتناء الماعز عبر الملاحقات الدامية التي تعرّضت لها في ترحّلها القسري من لبنان إلى الجولان، فجنوب دمشق فاللجاة فجبل حوران الذي حمل اسم جبل الدروز في ما بعد. هذا ولم يزل أحد فروع تلك العشيرة يحمل كنية «المعّاز» إلى اليوم.
نزل في دور الحمدانيين في السويداء كلٌ من إبراهيم الأطرش وأقاربه من آل العبّاس والمعّاز، وتوزّع أبناء اسماعيل أخوة إبراهيم الآخرون وسائر العشيرة على قرى عدّة في المقرن القبلي والشرقي من السويداء، وبرهن إبراهيم من عاصمته في السويداء على مقدرة في إدارة شؤون الجبل، ووظّف علاقاته مع العثمانيين لترسيخ زعامته، فاعترفوا به كزعيم أوّل للجبل، وبعد استقالة سعيد تلحوق، الدرزي اللبناني من منصب القائمقام، عيّنه العثمانيون قائمقاماً في السويداء في سنة 1882، واستطاع أن يساهم في إنهاء أكثر من نزاع محلّي كالذي وقع بين آل عزّام الدروز وسكان بصرى الحرير الحوارنة، وفي حالات أخرى نجح في مساعيه حيث فشلت مساعي الولاة العثمانيين في حل الكثير من النزاعات الداخلية في جبل الدروز.
الزعامة الجديدة في السويداء ترث أزمة سالفتها !
بعض من ارّخوا للحركة التي أسقطت آل الحمدان في السويداء، يسمّونها بالعاميّة الأولى، ولم يكن لهذه الحركة من خسائر في الأرواح إلاّ عملية اغتيال اسماعيل الأطرش، لكنّ العاميّة الثانية التي قامت في وجه آل الأطرش أمر مختلف، صحيح أنّ أحداث هذه الحركة بدأت في قريتي مَلَح وعرمان من المقرن الشرقي – جنوب شرق السويداء- الذي يحكمه آل النجم الأطرش، لكنّ جذورها كانت أوسع من قرية أو مقرن، كانت الأسباب ماثلة في الجبل كلّه عموماً وفي السويداء خصوصاً، ذلك لأنّها مركز القرار.
ولعب الشيخ وهبة عامر من شهبا دوراً محرّضاً في تأجيج العامية في السويداء وسواها ضد الطرشان، ذلك لأنه كان يطمح ليكون شيخ مشايخ بدلاً من الأطارشة، وعلى مدى أعوام بين 1885 و1890 تتابعت أحداث ثورة العامية الثانية، كانت أعنفها في السويداء حيث قتل اثنان وأربعون قتيلاً.
واضطر المشايخ من الأطارشة للجوء إلى قلعة المزرعة وما حولها لمدة أكثر من شهرين، وطلب إبراهيم من حيث موقعه كقائمقام من قبل العثمانيين مساعدة الوالي العثماني في دمشق، فوجدها هذا فرصة سانحة لاحتلال السويداء وفرض شروطاً كانت الدولة العثمانية قد عجزت عن فرضها على الدروز سابقاً .
أعاد العثمانيون إبراهيم الأطرش والمشايخ المهجّرين إلى مواقعهم، ووضعوا حلاً يرضي الطرفين، مصالحة على أساس منح الفلاحين حق التملّك، ومنع السخرة، والترحيل وفرض الضرائب وأن يدفع المشايخ ديّات القتلى وأن يتنازلوا عن نصف ما يملكون من الأرض للفلاحين ( لهم ثُمن الأرض فقط ). وقد توفي إبراهيم الأطرش في سنة 1892 فخلفه أخوه شبلي كقائمقام في السويداء وكان شخصاً ذكيّاً محبوباً من قومه، كريماً وشاعراً.

العدد 4