حكاياتُ الحكيم السّاخر
مُــــــلاّ نَصْــــر الدِّيــــن
مقالبُ ومواقفُ طريفة وعِبَرٌ منَ الحياة
لأشهرِ الحكماء السّاخرين عبرَ العُصور
الحلقة الثالثة
في هذه الحلقة الثّالثة من حكايات ملّا نصر الدّين تختارُ «الضّحى» باقةً من حكايا وقصص هذه الشّخصيّة الشّهيرة في الإرث الأخلاقي والشّعبيّ الشّرقيّ وتُترجمها للقارئ العربي عن اللّغة الإنكليزية كما صاغها الفيلسوفُ الصّوفيّ إدريس شاه، نقلاً عن اللّغتين الفارسيّة والتركيّة، وذلك لفائدتها التّعليميّة، أدبيّاً وأخلاقيّاً وفلسفيّاً.


القميصُ الورديّ أنقذ الخُجا
ذات يوم، هُرِعَ رجلان إلى منزل المُلّا نَصْرِ الدِّين خُجا.
فسألهما الخُجا: “ما خطبكما؟”.
فأجابا: “لقد دَهست عربةٌ يجرّها حصانٌ رجلاً يُشبهك في السوق. فظنّنا أنّه أنتَ، وجئنا لنُبلغ زوجتك”.
فسألهما خُجا: “هل كان بطولي؟”.
فقال الرّجلان: “نعم”.
ومن ثمّ سأل مجدداً: “هل كان ذا لحيةٍ مثلي؟”.
فأجابا: “نعم!”.
وسألهما أيضاً: “ما كان لونُ قميصهِ؟”.
فأجابا: “وردياً”.
فتنفّس الخُجا الصعداء مُبدِياً ارتياحه، وقال: “ورديّاً! إذاً، إنّه ليس أنا” فأنا لا أملكُ قميصاً وردياً!”.
خطُّ الخُجا
ذات يوم، جاءَ نَصْرَ الدِّين خُجا جارُه طالباً منه أن يكتب له رسالة.
فسأله الخُجا: “لمَنْ تريد أن تُرسِلها؟”.
ردّ الرجل: “إلى صديقي في بغداد”.
فقال الخُجا: “أنا آسف، لا وقتَ لديّ للذهاب إلى بغداد”.
فسأله جارُه مُتعجِّباً: “مَنْ يطلب منك الذّهاب إلى بغداد! كلّ ما أُريده منك هو أن تكتب لي رسالة!”.
فقال الخُجا: “أعلمُ ذلك. لكنّ خطَّ يدي سيِّئٌ جداً، لدرجة أنّ أحداً هناك لن يكون قادراً على قراءة خطي، وفي نهاية المطاف سيُرسِلون في طلبي لكي أقرأ الرّسالة بنفسي. وكما أخبرتك، ليس لديّ وقتٌ للذهاب إلى بغداد”.
ملّا نصر الدين يحلم بالثروة
ذات مساءٍ راودَ نَصْرَ الدِّين خُجا حُلُمٌ… أنّ رجلاً قرعَ بابَه وسأله إذا كان بإمكانه أن يمضي اللّيلَ في منزله. وقال له إنّه سيدفع لقاء ذلك 10 دنانير ذهباً.
وافقَ الخُجا على هذا العرض، واصطحبه إلى غرفته.
وفي الصّباح الباكر، شكرَ الرّجلُ الخُجا وأخذ يَعُدّ له النّقود الذّهبيّة.
فوصلَ إلى تسعة وتوقّف.
فصاح الخُجا: “لقد وعدتني بعشرة”، واستفاق.
فالتفتَ من حوله بحثاً عن الرجل فلم يجده.
فأغمض عينيه سريعاً، وقال: “حسناً، حسناً، أعطني التّسعة!”.
خُجا ومَشْوَرَةُ زوجته
ذات مساء، استيقظت زوجةُ نَصْر الدِّين خُجا فوجدته قلِقاً، يروح جيئةً وذهاباً على الشُّرفة وهو في حالةِ اضطرابٍ شديد.
فسألته: “ما خَطبُكَ؟”.
فأوضح لها الخُجا: “اقترضتُ مئةَ دينارٍ من جاري الشّهر الماضي، ووعدتُه أن أُعيد له المالَ في آخر يوم من هذا الشهر”.
“غداً هو آخر يوم من الشّهر، ولستُ أملك تلك النّقود. ولا أدري ماذا أفعل”.


قالت له زوجته: “وما عساكَ تفعل! اِذْهَب واخْبِر الرّجلَ أنّك غير قادرٍ على الدّفع!”.
أخذ خُجا بنصيحة زوجته.
وعندما عادَ من منزلِ جاره، بدا مرتاحاً وسعيداً. فسألته زوجتُه: كيف تقبّل الأمر؟”.
فقال الخُجا: “آه، حسناً، الآن هو الذي يروح جيئةً وذهاباً على شُرفته”.
الحلُّ عند الخُجا
في أحد الأيام التقى ملّا َنصْر الدِّين أحد الأصدقاء في الشّارع.
بدا الرجل قلِقاً، فسأله الخُجا: “ما الذي يُضايقك؟”.
فأجاب الرجل: “ينتابني حُلُمٌ سيّئٌ، فأنا كلّ مساءٍ أحلمُ بوحشٍ يختبئ تحت سريري. وعندما أستيقظ وأنظرُ هناك، لا أجدُ شيئاً. وبعد ذلك يجفوني النّوم. إنّني في طريقي الآن إلى منزل الطبيب. فهو يقول إنّه قادرٌ على شفائي، وذلك لقاء مئة دينار”.
فقال الخُجا متعجِّباً: “مئة دينار! بوسعي أنْ أُخلِّصَكَ من مشكلتك لقاء خمسة دنانير!”.
فالتقط الرّجل على الفور خمسة دنانير ونقَدَها إلى الخُجا.
وقال بلهفة: “الآن أخبرني ما الحلّ”.
قال الخُجا، وهو يضع النقودَ في محفظته: “العلاجُ بسيط، اِنْزع أرْجُلَ سريرك” وتأكّد عندها أنه لن يمكن لأي وحش أن يختبئ تحته.
خُجا الملك!
كان نَصْرُ الدِّين خُجا غارقاً في تفكيره وهو يجتاز طريقاً بالقرب من قصر الملك، حينما اصطدمَ برَجُلٍ.
فاستشاط الرّجلُ غضباً، وبدأ يلعن الخُجا ويصيح بوجهه.
وقال بصوتٍ عالٍ: “هل تعلم مَنْ أنا؟ أنا مستشارُ الملك!”.
فقال الخُجا: “حسناً. أمّا أنا فالملكُ بعينه”.
فسأله الرجل: “ملكٌ؟ وأيُّ بلدٍ تحكُم؟”.
قال الخُجا: “إنّني أحكمُ نفسَي. فأنا أملكُ انفعالاتي. ولن تجدني أفقدُ أعصابي كما فعلتَ أنتَ للتوّ أبداً”.
فاعتذرَ الرّجلُ منه، وذهبَ في طريقه وهو يشعرُ بالخجل لما بدر منه.
جوابٌ كاوٍ كالخَلّ
ذات يوم، قال رجلٌ لنَصْرِ الدِّين خُجا: “سمعتُ أنّ لديكَ خَلّاً عمره أكثر من أربعين عاماً”.
قال الخُجا: “هذا صحيح”.
فسأله الرّجل: “هلَّا أعطيتني شيئاً منه؟”.
قال الخُجا: “لو اَنّني أعطيتُ خلّاً لكلِّ منْ يسألني، لَمَا تجاوزَ عمرُ ها الخَلّ أربعين يوماً”.
شِجارٌ وحَلوى!
تشاجرَ المُلّا نَصْرُ الدِّين ذات يوم مع زوجته. وصاحَ بوجهها حتى لم تعُد تتحمّل، فهربت إلى منزل جارهما.
تبعها المُلّا إلى بيت جاره، لكنّ الجيران تمكّنوا من تهدئة الزّوج الغاضب، وقدّموا له ولزوجته الشّاي وقطع الحلوى، للاحتفاء بالصّلح.
لكن ما أن عاد الخُجا إلى منزله مصطحباً زوجته حتى بادرها إلى الشّجار، ثم بدأ يصيح في وجهها.. عندها فتحَت الزّوجة البابَ مجدّداً وخرجت إلى الطّريق وهي غاضبة. في تلك اللّحظة لحق بها المُلّا ناصحاً إيّاها: “هذه المرّة، اذهَبِي إلى منزل الخبّاز، إنّه يصنعُ كعكاتٍ لذيذة”.
المُلّا أمام السّلطان
تسلَّل فيلُ السلطانِ إلى قرية المُلّا نَصْر الدِّين خُجا وعاثَ فساداً في الحقول.
قرّر سُكّانُ القرية أخيراً تشكيل وفدٍ، والذّهاب إلى السّلطان بغية مطالبته بإبعاد فيله عن القرية.
وحيث إنّ المُلّا نَصْر الدِّين كان معروفاً من السّلطان، فقد سأله وفد الأهالي أن يتقدّمهم ويكون ناطقاً باسمهم.
وعندما وصلوا إلى القصر، أحسَّ القرويّون برهبةٍ من هيبة المكان وخانتهم شجاعتهم. وأخذوا واحداً تلو الآخر بالانسحاب من الوفد والانسلال بعيداً، فوجدَ الخُجا نفسَه في نهاية الأمر وحيداً جَزِعاً في حضرة السلطان.
فسأله السّلطانُ المُتَكدِّر المِزاج وبصوتٍ جَهْوَريّ: “حسناً، ماذا تريد يا نَصْر الدِّين؟”.
فقال المُلّا مُتلَعثِماً: “إنّ فِيلَكَ يسْرَح في قريتنا أيُّها السّلطان”.
فردَّ السلطانُ بصوتٍ هادر: “إذاً؟”.
قال المُلّا وهو يرتجف: “إذاً…، نحن، أقصدُ أنا، جئنا نُخبركَ أنّه يشعر بالوحدة … فرجاءً أرسِل له صاحبة!”.
الفَقرُ يُنقِذ نصرَ الدّين!
استُدعِيَ مُلّا نَصْر الدِّين يوماً أمام القاضي من قِبَل رجلٍ كان قد استدان منه مالاً.
وقال الدّائن للقاضي: “هذا الرّجلُ مَدين لي بـ 500 دينارٍ استحقّ سدادُها منذ فترة طويلة. وأنا أُناشد فَضيلتكم مطالبته بأنْ يدفع لي على الفَوْر، من دون أيّ تأخيرٍ إضافي”.
أقرَّ الخُجا قائلاً: “إنّي بالفعل مَدِينٌ للرّجل بهذا المال، وأعتزم أن أُعيده له. ولهذا فإنّني قرّرت أنْ أبيعَ بقرتي وحصاني إذا اقتضى الأمر، لكنّ ذلك سيستغرق وقتاً”.
قال الرّجلُ: “إنّه يكذب، فهو لا يملك بقرةً أو حصاناً أو أيَّ شيءٍ ذي قيمة. وقد عَلِمتُ أيضاً أنّه لا يملك حتى طعاماً في منزله!”.
فقال مُلّا نصر الدين: “بما أنّه يا فضيلة القاضي يعلم مدى فَقري المُدقِع، فكيف يتوقّع منّي أن أدفع له على الفَور”.
فصرَفَ القاضي النظرَ عن الدعوى.


أقاربُ الحمار
كان نَصْرُ الدِّين خُجا في طريقه إلى السّوق مُحمِّلاً حماره سلّة كبيرة ملأى بالخضار.
وفي منتصف الطّريق، توقّف الحمار فجأة. وحاول الخُجا جاهِداً دفْعَهُ قُدُماً لكنّ الحيوانَ لم يتحرّك قَيدَ أنمُلَة.
فأخذَ الخُجا بتأثيرِ الغضبِ واليأسِ يضربُ حمارَه بعصا.
وشرعَ الناسُ يتحلّقون من حوله.
وسأله أحدُهم: “لماذا تضرب هذا المخلوق الضّعيف؟”.
ونَهَرَه ثانٍ: “توقّف عن ضربه حالاً!”.
وقال ثالث: “إنّك رجلٌ غليظ القلب!”.
فرمقَ الخُجا حمارَه بنظرة إعجاب.
وقال: “لو كنتُ أعلمُ أنَّ لديكَ الكثيرَ من الأقارب يُدافِعُون عنك، لمَا كنتُ ضربتك قَطُّ”.
“أرى أنّك متحدِّرٌ من عائلة كبيرة ومتشدِّقة”.
فانسلَّ أولئك الذين وبّخوه بعيداً وهم مُحْبَطُون، فيما انصرفَ الحشدُ تاركاً الخُجا يتعامل مع حماره كما يحلو له.
عَيِّنَةٌ تكفي
سعى نَصْرُ الدِّين خُجا إلى بيع منزله، لكنْ عبثاً.
وفي أحد الأيّام، اقتلعَ حجرَ طُوبٍ من جدارٍ في منزله.
فسألته زوجته مُرتَعِدَة: “لماذا فعلتَ ذلك؟”.
قال نَصْرُ الدِّين: “يا لَحماقتك يا امرأة، وما أدراكِ ماذا أفعل؟ فَكَي يبيع المرءُ شيئاً، لا بُدّ له من أن يعرِض عَيِّنةً منه. وأقترِح أنْ أعرِضَ هذا الحجر كعيِّنة من منزلنا”.
ثورٌ يُسابِق الجياد!
تهيَّأ المُتنَافِسون على صَهواتِ جِيادهم للانطلاق في سباقٍ للخيول.
فجأةً، وصلَ المُلّا نَصْرُ الدِّين خُجا على ظهرِ ثورٍ وطالبَ بالمشاركة في السباق.
فقال له المُنظِّمون: “هل جُنِنتَ؟ فما عسى لِثَورٍ أن يفعل أمام الجياد؟”.
فقال الخُجا: “تتحدّثون كذلك لأنّكم لا تعلمون شيئاً عن ثوري. فحينما كان عِجْلاً صغيراً، كان بإمكانه أن يعدو سريعاً كمُهر. والآن وقد كَبُر فلا بُدَّ أنّه يُضاهي الجيادَ خفةً وسرعة”.
هاتِ وأعطني الحليب!
ذات مساءٍ، أوقفَ رجلٌ يحمل وعاءً من الحليب المُلّا نَصْر الدِّين خُجا وسط الشارع، وكشفَ له أنّه يشكو مشكلةً وطلبَ مشورَته.
فسأله الخُجا: “ما هي مشكلتك؟”.
أوضحَ الرجل: “مشكلتي هي أنّني على الرّغم من عدم احتسائي للخمر، أشعرُ بالثّمَل عندما أستيقظ صباحاً”.
سأله الخُجا وهو يرمقُ وعاءَ الحليبِ في يده: “ما الذي احتسيته ليلة أمس؟”.
أجاب: “حليباً”.
قال الخُجا: “تماماً كما ظننت. إنّه سبب المشكلة”.
فأجابه الرّجل مندهِشاً: “هل الحليبُ يُثمِل (أي هل يتسبب بالسُّكْر؟)”.
فأوضحَ له ملّا نصر الدين المشكلةَ على هذا النّحو: “تحتسي الحليبَ وتخلدُ إلى النّوم. وتتقلّب أثناء نومك. فيَمْخَضُ الحليب، ويتحوّل إلى زُبدة. ومن ثمّ تَمْخَضُ الزبدة، فتتحوّلُ إلى جُبْن. والجُبْن بدوره يتحوّل إلى دهون، ومن ثمّ إلى سُكَّر، والسُّكر يتخمّر ويتحوّل إلى ما يُسكِر. فلذلك تستيقظ في الصّباح ثمِلاً”.
فاحتارَ الرّجلُ وسأله: “ماذا عساي أفعل؟”.
قال الخُجا: “ببساطة، إيّاكَ وشربَ الحليب. هاتِ واعطني إيّاه”.
وانتزعَ نصر الدّين وعاءَ الحليبِ من يد الرّجل وسار بعيداً، تاركاً إيّاهُ وهو يُدمدِم ويهذر.
امتيازٌ من السّلطان!
عادَ نَصْرُ الدِّين خُجا إلى قريته من العاصمة، وتحلّق القرويّون من حوله لمعرفة ماذا حدَثَ معه هناك.
قال الخُجا: “هذه المرّة، أوَدُّ أنْ أقولَ فحسب إنّ السلطانَ تحدّث إليَّ”.
وانطلقَ بعض القرويّين ليُذيعوا هذا الخبر الرّائع.
أمّا منْ بقِيَ فقد سأله: “ماذا قال لك السّلطانُ؟ بالله عليك أخبرنا ماذا قال؟”.
فأجابَ الخُجا بهدوء: “ابتعد عن طريقي!”.
عمّت البُسطاءَ والسُّذجَ فرحةٌ غامرة، لقد سمِعَ الخُجا كلماتٍ نطقَ بها السّلطانُ بنفسه، إنّهم يُشاهِدون الآن الرّجلَ الذي حَظِيَ بهذا الشّرف العظيم..