شهامة معروفية
مأثرة إنسانية
من ذاكرة الجبل
مأثرة إنسانية
عنـــــدما تــــــواطأ الصّيّـــــاد مـــــع الذئبــــة


مرت أسابيع عديدة لم تطمئنّ أسرة على أغنامها وماعزها في قرية حوط التي تقع على السفوح الجنوبيّة الغربية الوعرة لجبل حوران، فبين ليلة وأخرى يسطو الذّئب على حظيرة أحدهم وينتهب خروفاً سميناً أوجَدْياً أو نعجة أو عنزاً، والذّئب وحش ماكر وماهر في التخفّي والسّطو النّهاريّ على قطعان الرّعاة، والليليّ على حظائر المواشي …
ولما كانت تلك المواشي التي يسميّها الفلاّحون بـ “الحلال” تمثّل جانباً من أرزاق الأسرة فقد كانت عملية السّطو الجريئة تلك تعتبر خسارة فادحة للرّزق. إذ إنّ تلك المواشي مصدر هامّ للّحم والحليب وصناعة اللّبن والسّمن والكثاً وكلّ هذا يشكل عنصراً مهمّاً من غذاء الأسرة وخصوصاً الأطفال، كما أنّه يشكّل العناصر الأساس من وجبة “المنسف1” التي كانت تقدّم للأضياف في زمان كانت فيه الضيافة قيمة اجتماعيّة عليا.
نشط الصيّادون في البحث عن المكان الذي يكمن فيه ذلك الذّئب الذي أقضّ مضاجع أهل القرية، وكمن كثيرون بالقرب من الحظائر المجاورة لبيوتهم وقد حشا كلّ منهم جفته أو مخزن بارودته بالخرطوش لينتقم من ذلك الوحش المعتدي الذي عكّر صفاء ليالي المزارعين…
ليلة من تلك الليالي، كان أحدهم قد اقتعد حجراً يرقب في سواد العتمة، سمع دبيباً خفيفاً على الأرض لم يتبيّن مصدره بالتّحديد، وفجأة لَحَظ جسماً يطوّح بخفّة فوق حائط الحظيرة التي يعلو أكثر من مترين وينقض إلى داخلها، حدثت جلَبة وضوضاء واختلط الحابل بالنّابل داخلها، وهُرِعت بعض الكلاب القريبة نابحة من حيث كان يشاغلها ذئب آخر في الجانب المقابل من موقع الحظيرة المُستَهدَفة، هي خطّة ماهرة يتقن الذّئاب ممارستها غريزيّاً.
في تلك الثّواني المتسارعة تبيّن الرّجل على ضوء النّجوم الخافت جسماً يطوّح في الظلمة إلى خارج الحَظيرة ثم تبعه جسم آخر لاحقاً به، أطلق رصاصة لم تُصب هدفاً، كان الذئب بغريزته الموروثة عبر آلاف السنين قد عرف أن يختار صيده، فقد قذف بجدي سمين إلى أعلى من فوق الحائط خارج الحظيرة بعد أن قطع حنجرته بأنيابه التي لا تخطئ هدفها، ثمّ تبعه سابقاً إيّاه ليلتقطه قبل وصوله إلى الأرض ويفرّ به يعدو بعيداً، ولم تنفع رصاصات عديدة أُطلقت عشوائيّاً في جوف الظّلمة سوى تهويش عبثي لكلاب القرية.
كان الذئب قد فاز بصيده ومضى، ولم تستطع الكلاب اللّحاق به، فهو يعدو لنفسه أمّا الكلاب فتركض لأسيادها…
***
في اليوم التالي جدّ الرّعاة والصّيّادون في تمشيط جرود القرية الوعرة بحثا عن الجحور التي يمكن أن تكون مخبأً للذئاب التي تتهدد “حلال” القرية.
أيام مرّت وجاء راع يقول إنّ ذئبة تكمن بجرائها في رجم من رجم أرض الخشاع، ممّا يعني أنّ هناك فرصة لقتل الوحش الذي عاث فسادا وقتلا في حظائر القرية. لكن الذّئب وحش شرِس بفطرته، وتصعب مهاجمته، وخصوصاً إن أُصيب بجرح ولم يُقتَل من الطلقة الأولى، إذ يشكّل على صائده في تلك اللّحظات خطراً قاتلاً، رغم هذا المحذور فقد تطوّع نوّاف العبد الله لقتل تلك الذئبة التي أمكن تحديد مكمنها، ونوّاف هذا من الصيادين المَهَرة في القرية ومن رجالها الأشدّاء.
ابتنى الرّجل “بنّوجاً”2 وكمن فيه بحيث تكون الطّريدة على مرمى مؤكّد من طلقات جفته ذي السّبَطانتين، وأخذ يرقب خروج الذّئبة من جحرها الكائن في الرّجم أو دخولها إليه.
مضى وقت من النّهار لم يرَ ما ينبئ بالهدف المرجوّ، وحَمِيت الشّمس، ولكن الرّجل كان صبوراً ورابط الجأش، مرّ وقت حسبه دهراً، ثمّ لحظات، ومن خلال الثّقوب بين الحجارة الجرديّة التي بُنِي “البنّوج” بها رأى الذّئبة قادمة تهرول باتجاه مكمن جرائها، فاستعدّ لإطلاق النّار عليها، تريّث قليلاً، دارت الذّئبة حول الرّجم، ثمّ أطلقت أصواتاً مختلفة لا تشبه الأصوات التي اعتاد سماعها من الذئاب عند عوائها، تريّث أيضاً، ثوانٍ مرّت، خرج على إثرها أربعة جراء من الجُحر داخل الرّجم ذي الحجارة المتراكمة على شكل هرم عشوائيّ الجوانب وعندما تدافع الجراء نحو الوالدة كانت قد اختارت صخرة أزليّة مسطّحة لها شكل بلاطة انبطحت عليها على ظهرها، ثم تقلّبت يمنة ويسرة وتقيّات من بطنها كومة من قطع صغيرة من لحم صيدها، كانت قد اختزنتها في جوفها وجاءت بها لتطعم صغارها، تكوّم اللّحم الطّازج الطّريّ على سطح البلاطة، وهُرِع الصّغار يتناغون فرحين وأخذوا يلتهمون بشراهة وجبتهم المُرتَقبَة التي طالما طال انتظارهم لها، ذُهِل نوّاف لمشهد الأمومة المؤثر هذا، رأى الذّئبة مخلوقاً مختلفاً عن الصورة المرعبة المختزنة في مخيلته، بدت له مخلوقا جميلاً من مخلوقات الله وجذبه مشهد الجراء الصغيرة بفرائها الرائعة، ثم رأى الجراء الجائعة وهي تُلحّ في طلب نصيبها من القوت، وأدرك أن ما كانت تصيبه من حلال القرية هو ذلك القوت. أعاد النّظر في المشهد المؤثر لأمومة الذئبة وفكر لنفسه: لو قتلت هذه الذئبة الآن، وهي في مرمى بندقيتي، فما الذي سيحدث لهذه الجراء البريئة؟ بالتأكيد فإنها لن تصمد للجوع أكثر من أيام معدودات وستموت بدورها، تراءى له أن هذه الجراء لا تختلف عن صغار بقية المخلوقات بما فيها صغار قريته وأطفالها، ثم جال في فكره أنّ الذئبة تتصرّف ليس بحب القتل بل بغريزة البقاء لكنه بالمقابل متربّص بهذه الأم ليقتلها فقط بسبب سعيها لكسب طعامها بالطريقة الوحيدة التي تملكها وهي صيد الأغنام أو الماعز أو ما تيسر لها من الطرائد السّارحة في البرية، فهذه الذّئبة تفعل ما أعدّتها الطّبيعة له وما على مالكي الماشية إلّا أن يحصّنوا حظائرهم ويهتمّوا بكلابهم وعندها فلن تجد إلى قطعانهم سبيلاً. كانت الصورة قد اتّضحت في ذهنه ولم يعد لديه أيّ شك بأنّه لا توجد لديه ذريعة حقيقيّة تبرّر له إطلاق النّار على هذه الذئبة الأم، شعر عندها براحة نفسيّة قلّما شعر بمثلها في السابق، تأبّط بندقيته وخرج بهدوء من البنّوج ومضى مبتعداً عن الذّئبة وجرائها، وبدورها كانت الذّئبة قد تنبّهت لتحرّكه مبتعداً عنها وعن جرائها، فأقعت على ذيلها مطمئنّة.
في ذلك اليوم تواطأ نواف مع الذّئبة ولم يخبر أحداً بما شاهده، وفي اليوم التّالي، داهم الرّجم مجموعة من الصّيادين، لكنّهم لم يعثروا على الأسرة التي ارتحلت عن المكان بحثاً مأوى سرّي جديد، وغارات ذئبيّة نهاريّة أو ليليّة أُخرى.
1. “المنسف” هو لون من الطعام اقتبسه أهل جبل العرب من تقاليد عرب البادية، يعد للضيوف على صدر من النحاس يملأ بالبرغل وحبات الكبة وقطع اللحم ثم يسكب عليه السمن العربي، ثم تسكب “الملاحية” المصنوعة من اللبن فوق صحن الضيف. وعادة توضع قطع اللحم الكبيرة على أطراف “المنسف” لتكون الأقرب لأيدي الضيوف
2. البنّوج: كلمة يقصد بها العامة بناء بسيط من الحجر الغشيم على شكل دائرة قطرها نحو متر بارتفاع قامة الصيّاد الذي يكمن فيه بقصد التخفّي عن طريدته


شهامة معروفية
متعب الأطرش وتاجر الحبوب الدمشقي
قبل نحو مئة عام، وفي الأعوام الأخيرة من العهد العثماني كان جبل حوران يُموّن الشام بالحبوب نقلاً على ظهور الجمال، وكان كل من تغضب عليه الدولة يلجأ إلى الجبل فتصان حياته ويعيش في أمان.
في تلك الفترة كان بين الشيخ متعب الأطرش شيخ قرية رساس الواقعة جنوب مدينة السّويداء ببضعة كيلومترات وبين تاجر الحبوب الدّمشقيّ عبد الله حبّاب تعامل تجاري، متعب يورّد له الحبوب إلى بادية الشام ليبيعها له، وحبّاب يسلّفه دراهم عن حبوبه ليتصرّف بها لسد حاجات بيته ومضافته المفتوحة على الدوام للضيوف.
عند تصفية الحساب في ذلك العام والبلاد على أبواب الحرب العالمية الأولى، وفي الوقت الذي كانت فيه تجارة الحبوب مزدهرة بين الجبل وبين عاصمة الولاية دمشق، والطلب عليها مرتفع بسبب من مصادرة الوالي جمال باشا للحبوب لتموين الجيش العثماني الذي كان يعدّه للهجوم على قناة السويس وتحريرها من قبضة المحتلّين الإنكليز، لم يرضَ الحبّاب بالربح المشروع الذي كان يحصّله من حبوب متعب الأطرش ، فما كان منه إلاّ أن زاد مبلغاً “هو بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف قرش فضّة (عملة عثمانيّة من عملات ذلك الزمان)، وكان المجموع الذي أراده التاجر سبعة عشر ألف قرش.
كتب الرّجل سَنَداً وقدّمه للشيخ متعب ليوقّعه، تمنّع متعب عن التوقيع بادئ الأمر، فقال له الحبّاب آمراً:
– احفظ كرامتك ووقّعه.
كان الشيخ متعب وحيداً في بيت الحبّاب، فقال له:
– أَترضى أن أوقّع مُجبَراً؟
– نعم وقّع مُجبَراً.
فما كان من متعب إلاَ أنْ قال لمن حوله:
– اشهدوا أنا أوقّع على هذا السند مُجْبَراً
قال الحبّاب بصلف المسيطر على الوضع:
– اشهدوا أنّه مغصوب على هذا التّوقيع.
وقّع الشيخ متعب على سند الحبّاب مُكرَهاً، ودفع لغريمه المبلغ المطلوب منه.
مرّت فترة قصيرة من الزمن تسلّط بعدها جمال باشا على أهل الشام (دمشق) بسبب الأوضاع الحربية الناشبة، وكان عبدالله حبّاب من جملة التّجار الذين نفاهم جمال باشا إلى الأناضول، لكن الرّجل تمكّن من الهرب من منفاه وعاد متخفّياً إلى الشام، غير أنّه لم يستطع البقاء فيها والرقابة العثمانية ترصد حركات وسكنات الناس في الشوارع والزواريب والبيوت، وهكذا وجد نفسه مضطرّاً للجوء إلى “جبل الدروز” كما كان يُدعى آنذاك.
كان الرّجل يريد أن يأمن على حياته، ولم يكن من مكان يحتمي فيه الدخيل في بلاد الشام غير الجبل في تلك الفترة، إذ كان جمال باشا آنذاك يعمل جاهداً على تجنّب خلق فتنة مع بني معروف لحساسية موقع جبلهم على قرب من طريق تحرّكات الجيش العثماني باتجاه الجنوب نحو فلسطين ومصر.
***
ثلاثة خيّألة نزلوا عصر ذلك اليوم في دارة الشيخ متعب، عرف الرّجل من فوره اثنين منهم، كانوا عبد الله حبّاب غريمه تاجر الحبوب الدمشقيّ الذي سبق له أن ابتزه عندما كان وحيداً في مدينته دمشق، مستغلاًّ انفراده به بعيداً عن قومه، وكان برفقته ابن أخ له اسمه كمال، ومعهما شخص ثالث قريب لهما.
استقبلهم الشّيخ متعب ببشاشة وترحاب وكأنْ لم يكن بينه وبين أحد منهم أيّة مشكلة تثير ضغينة ما!، وكان يعلم بقصّة نفي جمال باشا لعبد الله ولكنّه لم يكن يعلم بهروبه من المنفى، غير أنّه أدرك الآن أنّ صاحبه جاءه ناحراً يطلب اللّجوء والدّخالة1
قال له: لا يداخلك شك أنني أسلّمك لجمال باشا ولو خربت داري2، حياتك من حياتي وراحتك من راحتي.
وهكذا أفرد الأمير متعب لثلاثتهم غرفة في دارته الكبيرة، وطابت لعبد الله الإقامة في راحة وأمان في رساس، ولمّا اطمأنّ كمال على عمّه عبد الله تركه عند الشيخ متعب وعاد إلى دمشق.
بعد زوال غيمة جمال باشا عن البلاد وعودة الشام إلى حياتها الطبيعية رجع عبد الله حبّاب إلى مدينته وهو يقدّر حسن صنيع الشيخ متعب معه أحسن تقدير، وتوفي عن صداقة بينهما.
1. الناحر والدّخيل: أي من يطلب الحماية.
2. قام الفرنسيّون بتدمير دار الشّيخ متعب الأطرش في قرية رساس على أثر اشتراكه في المعارك الأولى من الثّورة السورية الكبرى.