قائدٌ عثمانيّ في بلد منقسم وعصيّ على الجميع
يوسف بك حسن فرض النظام في اليمـــن وصالـــح القبائـــل وكسـب محبـة اليمنييـــن
أمــرَ العثمانيــون جنودهــم بتسليــم السّــــلاح
لكــن المتصــرّف الأبــيّ رفــض الاستســــلام!!
كان حاكما وقاضيــاً وحَكَمــاً وقائــدا عسكــرياً
خاض غمار المعارك وتعرّض مراراً لخطر الموت
تمكن دون مساعدة من الدولة في اسطنبول من بسط سلطة السلطنة
وإخضاع المتمردين و تجنيد العسكر والمجاهدين، ودفعهم إلى الجبهات
وصل الموظف يوسف حسن إلى قضاء “إب” في اليمن لاستلام وظيفة قائمّقام في 20 كانون الثاني/ يناير عام 1910. وكان شاباً لم يتجاوز الخامسة والعشرين عاماً، لكنّ مواهبه واستعداداته كانت كافية لتسنّمه هذا المنصب في ذلك الموقع البعيد عن اسطنبول عاصمة السلطنة، موقع لم يكن يحظَ بأيّ اهتمام حقيقيّ من جانب الدولة العليّة طيلة فترة الوجود العثماني في اليمن.
كان الشاب” يوسف” قد تخرّج من الكلّية الشاهانية التي تخرّج منها كبار الموظّفين في اسطنبول، وأجرى التدريب اللازم في ولاية بيروت.. كانت عاصمة الخلافة في العقد الأول من القرن العشرين تحبل بمشاريع وحركات وأفكار متنوعة؛ مثل اللامركزية والعروبة والعثمنة والتتريك، وكانت الخلافة ذاتها قد أصابها الوهن وجفاف العروق، فلم تعد فاعليتها لتصل إلى الأطراف.
التقى الموظف الشاب في اسطنبول بعدد من المفكرين الإسلاميين والعروبيين؛ الذين انضمّ بعضهم إلى جمعيات سرّية، فتأثر بأفكارهم، وحاول أن يوثّق علاقاته هو ورفاقه بهم، لكنّ عيون الرقابة والاستخبارات كانت لهم بالمرصاد، سواءً في السكن أو في التنقل.
هكذا قَدِم الموظف العثماني إلى اليمن، تلك الولاية البعيدة المترامية الأطراف؛ مسلّحاً بخمس لغات؛ لم تكن اللغة العربية أجودها، ولكنّه كان قد بدأ ينظم الشعر بها، كما كان ينظمه باللغة التركية أو هو يترجم عن الفارسية.
كان قدومه من متصرّفية جبل لبنان، حيث لمعت فيها أسماء أثّرت في فكره وخياله، وأوقدت جذوة العروبة في نفسه منذ مطلع شبابه، ومن هذه الأسماء الأمير شكيب أرسلان؛ الذي كان آنذاك في عزّ عطائه للسلطنة العثمانية، وفي عز دفاعه عنها لاحقاً.. وما الرسالة الوثيقة الموجهة من الأمير إلى القائمّقام يوسف بك حسن يهنئه فيها بإنجازاته في اليمن؛ سوى دليل على عمق العلاقة بينهما، لقد كان الأمير شكيب أرسلان الأب الروحي لعدد غير قليل من المناضلين الشباب في بلاد الشام ومصر، أولئك الذين كانوا يرون إمكانية إصلاح السلطنة العثمانية، وإبقاء الولايات العربية تحت راية الخلافة، حيث كانوا يرَوْن في ذلك مصلحة للطرفين.
وقد يكون اختياره العمل في ولاية اليمن عنواناَ لطموحاته المتوقدة وأفكاره العروبية، إذ يقول في تقديم قصيدته في رثاء الأمير شكيب: “إنه أستاذي السياسي، ودافعي إلى اليمن في مهمات سياسية”، لكن رغم وجود مسافة زمنية توازي أربعة عقود، بين قدومه إلى اليمن ووفاة الأمير شكيب، فإننا لا نلاحظ في اليوميات، أو في الوثائق ما يقدم فكرة ما عن نوع تلك المهام السياسية سوى الرسالة المذكورة سابقاً.
لم يكن وجود السلطنة العثمانية في اليمن فاعلاً في أي وقت من الأوقات، وكان موظفوها يحكمون الألوية الثلاثة (صنعاء وتعز والحديدة) بالتراضي، أو بالتنازل أو بالتواطؤ مع القوى المحلية المتعددة المشارب والمذاهب، وهذه الولايات الثلاث – والتي كان يقطنها نحو خمسة ملايين شخص كما يقول يوسف بك حسن- كانت متباعدة متناثرة تفصلها موانع جغرافية كأداء، مثل الجبال الوعرة والأودية والبيد، والمسالك الخطرة والهضاب، ممّا يجعل التحكّم بها أمراً صعباً على دولة قوية فاعلة، فكيف إذا كانت هذه الدولة تحتضر، وينتظرها الطامعون في عقر دارها وعلى أطرافها، ويحفرون لها قبر النهاية!.
أمّا على حدود ولايات اليمن، وفي منطقة البحر الأحمر بالذات، فقد كانت الإمبرياليات الغربية تتنافس وتتناهش لسلب ما تستطيع سلبه من تركة هذه السلطنة العجوز. فالايطاليون كانوا ينطلقون من مستعمراتهم من الضفة المقابلة لليمن، ليحاولوا وضع أيديهم على بعض الموانئ والانطلاق منها إلى الداخل. وكان ميناء “المُخا” مطمعهم الأكبر، خاصة بعد الحرب الايطالية – العثمانية، واحتلال إيطاليا لطرابلس الغرب عام 1912م. وقد جرب الطليان احتلال أجزاء من الساحل، وقصفوا مدنه غير مرة، وكان يوسف بك حسن والمجاهدون من العسكر والقبائل لهم بالمرصاد، فردوهم خائبين دون أن تتوقف مطامعهم.


مطامع الانكليز
منذ أن وطأ الانكليز أرض عدن عام 1839، جمعوا السلطنات والمشيخات كمحميات تحت سلطتهم، لكنهم لم يكفُّوا عن التطلّع نحو الداخل، أو نحو السواحل امتداداً إلى الحديدة إن هم استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. فالبحر الأحمر طريق ضرورية، وحاجة استراتيجية لإبقاء التواصل بين قناة السويس من جهة، ومستعمرات الهند من جهة أخرى.
وكان الفرنسيون غير بعيدين عن اليمن بسبب وجودهم الاحتلالي في جيبوتي، حيث كانت لهم قنصلياتهم وممثلوهم في الحديدة وعدن وفي مدن أخرى.
أما ألمانيا فقد تعرضت لنكسة معنوية عندما قامت القبائل ولأسباب غامضة بقتل قنصلها في ولاية الحديدة؛ قُبيل وصول يوسف حسن إلى اليمن.
ومع اشتعال الحرب العالمية الأولى تسابقت الإمبرياليات الغربية لتنال ما تستطيعه من كيان السلطنة المترامي الأطراف، ودخلت إنكلترا وفرنسا وايطاليا في حلف معادٍ للسلطنة ولألمانيا؛ في تلك الظروف العصيبة، رأى القائمّقام الشاب الذي كان يعمل كحاكم إداري، أن يركب حصانه ويعمل كقائد حربي، وأن يحارب جميع من كانوا يتربصون شرّاً باليمن من بوابة مدينة الحُدَيدة الساحلية، التي يطل عليها من متصرّفيته في “إب”.
لقد طُلب منه أن يشتت القوى المعادية للسلطنة، خاصة الإنكليز؛ حتى لا يوجّهوا قوّاتهم إلى مِصر! كما كان عليه كذلك أن يقمع القبائل المتمرّدة التي لا تدفع الإتاوات لتمويل الجنود، ويبعد قبائل أخرى عن التعامل مع الإنكليز، خاصةً وأن هؤلاء كانوا يغدقون الأموال والسلاح على الجماعات اليمنية المختلفة، ويحاولون استمالتها. كما طُلِب من الحاكم الإداري الشاب في غير مناسبة أن ينتقل بين مناطق ومدن متباعدة خارج مُتصرّفيته، كـ “حَجَّة” و”العُدَيْن” أو إلى “زَبيد” أو “الحُدَيْدة” لإخماد فتن، أو لإخضاع تمرد، كلّ ذلك لتوطيد سلطة الدولة العليّة.
وبالفعل وفيما يشبه معجزة إنجاز، قام على عمله بكفاءة وإصرار، ونجح بفضل شخصيته الفعّالة والمحبوبة. لقد أفلح لغاية منتصف فترة الحرب العالمية الأولى بوقف تدهور الأحوال وانفلاتها في مناطق عمله التي لم تعد تقتصر على متصرّفية “إب” فقط في اليمن، وبذلك مَنَعَ تقدّم الأعداء الطامعين نحو الداخل اليمني، أو النزول إلى الشواطئ الغربيّة على البحر الأحمر. لكن أخبار الشؤم ما لبثت أن بدأت تَرِدُه مع دخول الحرب العالمية الأولى مرحلة صعبة بالنسبة للدولة العثمانية، وارتسام معالم انتصار الحلفاء، من تلك الأنباء تحالف سيف الإسلام الإدريسي أمير عسير مع الانكليز، ثم تغرير هؤلاء بالشريف حسين الهاشمي لإعلان الثورة العربية ضد السلطنة، ثم أنباء تقاسُم الحلفاء لبلاد الشام، إلى أن جاءته الصدمة الكبرى بإعلان استسلام السلطنة للحلفاء عام 1918، وطَلب تسليم قواتها وجيوشها وأسلحتها لهم، وللإنكليز في اليمن بخاصة.
لكنّ المتصرّف لم يصدِّق خبرَ الاستسلام معتقدا أنه خدعة بريطانية، غير أنّه ما لبث أن واجه الحقيقة المرة برباطة جأش؛ عندما وصله منشور بريطاني من نائب الملك في عدن للتسليم، وحتى مع وصول ذلك المنشور الرّسمي، انتظر يوسف بك حسن حتى أتاه ضابط عثماني ليؤكّد له مضمونه.. ورغم كلّ تلك الدلائل عن انهيار الدفاعات العثمانية، وهزيمة السلطنة، فإن المتصرّف الشاب الممتلئ عنفوانا عربيا وعثمانياً لم يستطع أن يبتلع تلك الخاتمة المذلّة، فرفض أن يستسلم، وبقي معه مجموعة من المجاهدين، ورجال القبائل الذين ابتعدوا عن الحديدة -التي دخلها الانكليز- وتراجعوا الى باجل.
السؤال البديهي هنا هو: لماذا لم ينفّذ متصرف الحديدة آنذاك الأوامر التي طلبت منه التسليم؟ وعلى ماذا كان يُعوِّل؟ ولماذا لم يرحل في أواخر عام 1918، وانتظر حتى أواخر العام 1921 عندما ركب باخرة إنكليزية نقلته من عدن مع قدر كبير من التكريم؟ هل كان ينتظر سقوطاً رسمياً للسلطنة، وهي التي سقطت عسكريّاً بالفعل، أو هل كان ينتظر المفاوضات الجارية بينها وبين الحلفاء قبل اتخاذ القرار الأخير؟ أم أنها “المهام السياسية” التي كلّفه بها الأمير شكيب أرسلان، التي جاء ذكرها سابقاً؟


تأثير الأمير شكيب أرسلان
يُنقَل عن الصحافي المجاهد عجاج نويهض، الذي رافق الأمير شكيب سنين طويلة في نضاله السياسي والفكري، أنّ يوسف بك حسن كان مبعوثاً سرّياً للأمير شكيب، ولشيخ العروبة أحمد زكي باشا، الذي رافقه الموظف الشاب في اسطنبول قبل قدومه إلى صنعاء، وكانت المهمة التي أوكلت إلى يوسف بك حسن هي العمل على تحقيق الاستقلال الذاتي لليمن عن الدولة العثمانية، مع الولاء المطلق للخلافة في اسطنبول.
وبعيداً عن تلك الأسئلة النظرية، وكيف جرت الأمور على أرض الواقع في أثناء السنوات الثلاث التي فصلت بين نهاية الحرب، وسقوط الدولة العثمانية، وبين مغادرة المتصرّف اليمن أخيراً متوجّهاً إلى لبنان؟ فإنّ يوميات يوسف بك حسن الذي بقي يسطّرها حتى آخر يوم له في اليمن، وكذلك الوثائق الباقية منه، وخاصة ترجمة الوثائق العثمانية؛ تُظهر أنّه نجح في الحفاظ على قدر كبير من الاستمرارية والشرعية التي كانت سائدة في منطقة عمله الإداري من قبل.
صحيح أنّ الإنكليز تقدّموا نحو الحُديدة، لكنّ المتصرّف الشاب بقي تحت إمرته عدد من الجنود والمجاهدين ورجال القبائل. كما أنه بقي مستحوذاً على ثقة الأهالي بفضل “إدارته الفذّة” حسب قول للوالي العثماني محمود نديم. بل إنّ يوسف بك تابع تحصيل بعض الإتاوات ليموّل بها الجنود، كما أن التواصل مع الوالي الموجود في صنعاء استمر بشكل قانوني، إذ ما معنى أن يحرّر الوالي أمر تعيين يوسف بك متصرّفاً على الحديدة بناءً على مناشدة الأخير غير مرّة، وذلك في 2 تشرين الأول عام 1919، ويحوّل ذلك الأمر إلى قائمّقام الرّقمدار في صنعاء لإجراء القيود؟ وهذه الواقعة قام يوسف بك بتدوينها في يومياته في ذلك التاريخ.
إنجاز فريد
حقيقة الأمر أن يوسف بك حسن لم ينجح فقط في اكتساب ثقة الأهالي التامة، بل هو فرض نفسه على الفرقاء الأساسيين الثلاثة في ذلك المحور الاستراتيجي وهم: الانكليز في الجنوب، والإدريسي في تهامة، والإمام يحيى حميد الدين إمام اليمن في صنعاء؛ الذي بدا أنه في تناغم مع الوالي، ويودّ بسط حكم إمامته على تهامة غير الزيدية. وبالطبع اكتسب يوسف حسن أيضا ثقة وصداقة الوالي العثماني في صنعاء؛ الذي كما يتبين من وثيقة باللغة التركية، طالب في كتاب إلى وزارة الداخلية بدفع كافة المستحقات المتراكمة للمتصرّف حتى نهاية وجوده في اليمن.
ويبدو أنّ الاتفاق الذي تمّ لاحقاً بين السلطة التركية الجديدة، وبين الإمام نتج عن بعض بنوده بقاء الأتراك كمسؤولين وجنود في اليمن، يساعد على فهم المرحلة السابقة. وتأتي حادثة احتجاز وعرقلة مهمة الوفد الانكليزي المُحمّل بالهدايا، والمتوجه إلى صنعاء لزيارة الإمام يحيى لكسب ودّه إلى جانب الإنكليز ضد العثمانيين، من قبل قبائل تهامة لتزيد من شهرة ذلك المجاهد، يوسف بك حسن ورفاقه، وهم الذين دارت الشكوك حول كونهم خلف قيام القبائل بتلك العملية الجريئة، وهذا رغم أن يوسف بك حسن نفى أيّ علاقة له بتلك الحادثة، بل ظهر لاحقاً كـ “وسيط” يعمل للإفراج عن المحتجزين. وقد اضطرّ الوفد الإنكليزي أن يعود خائباً مع هداياه، بعد احتجازه لفترة تزيد عن الشهرين في مدينة “باجل” بعيداً عن الساحل، رغم غضب الإمام وحقده وغيظه.
ورغم كثرة السفر والتنقل في اليمن، لم يصل متصرّف الحُديدة إلى صنعاء إلاّ عبر التواصل بالرسائل والتوجيهات مع والي اليمن، ولم يكن للإمام عنده مودّة، ولم يذكره بالخير في يومياته أو في رسائله. وبعد أحد عشر عاماً من الوصول حزم المجاهد حقائبه، ورحل من عدن مكرّماً كما يقول ليصل إلى لبنان عبر مصر، ويلتقي بعروسه التي انتظرته طوال تلك المدة كما يدون في مذكراته. كما ترك اليمن في بحر هائج من الصراعات بين قوى جديدة محلّية وخارجية، فلم تستقرّ الأمور إلاّ بعد حين لتتغيّر معها الخارطة السياسية في المنطقة كذلك.
لم يَطُلْ به المقام حتى زار اسطنبول بناءً على نصيحة رئيسه والي اليمن السابق، وحصل على ترقياته ومستحقاته وأوسمته، وغادر إلى سوريا بعد عام 1925 لعدم انسجامه مع تحوّل لبنان من متصرفية إلى “دولة لبنان الكبير” تحت الانتداب الفرنسي.
وعمل في سوريا محامياً، ثم قاضياً في مدينة السويداء حتى عام 1955، ليعود بعد ذلك إلى قريته الشوفية بتلون، ويمضي فيها تقاعده حتى تاريخ وفاته في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1969.
آثار يوسف بك حسن
لم يتوقّف يوسف بك عن الكتابة والتأليف ونظم الشعر في اليمن، ومتابعة شؤون السياسة العربية والدولية والتعليق عليها، شعراً ومقالات. ولعلّ الحقبة اليمنية هي أغنى ما في هذه التركة الثقافية، لأنّها كانت باكورة المغامرات، وأصدق التجارب وأوسع تعبير عن بلاد لم تكن تمتلك الصحافة أو المطابع، أو حتى المدارس، فجاءت كتاباته المتنوعة من عام 1910 ولغاية 1921 سجلاً حافلاً عن مجريات الأحداث آنذاك، وقد تكون ذخراً للدارسين والباحثين في تاريخ اليمن لتلك الحقبة.


الوثائق العربية
ترك يوسف بك ما يزيد عن مائة وثيقة مكتوبة، معظمها ذات أهمية تاريخية فريدة، وهي تتناول مراسلات مع والي اليمن محمود نديم، ومع السيد الإدريسي وقائد جيوشه، ومع شيوخ قبائل ورجال دين وموظفين، كما تتضمن أجوبة منه على بعض الطلبات، وتدخّلات لدى بعض الأعيان ومعايدات وتهانٍ، ولم تتوقف المراسلات مع خروجه من اليمن، بل تابع التوسّط لدى بعض سلاطين المحميات، والإجابة على رسائل لأصدقاء له، وهناك بعض الوثائق التي حملها في مجموعته، مثل منشور نائب الملك البريطاني بإعلان انتهاء الحرب، وطلب الاستسلام، ومنشور رجال دين ومشايخ يمانيين في مصر يحذّرون فيها من الخروج عن طاعة دولة الخلافة العليّة. وتتميز الوثائق التي كتبها يوسف بك بالترتيب، وحسن الخط وندرة الأخطاء اللغوية، وقد أرّخ معظمها بالسنة الهجرية أو بالسنة المالية العثمانية، في حين أنّ الرسائل التي كان يتلقاها متنوعة الخطوط، والترتيب وهي كثيرة الأخطاء أحياناً وتحمل عدداً من التعابير المحلّية.
الوثائق العثمانية
تشكل الوثائق العثمانية في مجموعة المتصرّف ذخراً مستوراً يحتاج إلى دراسة متأنّية من المهتمين والمتخصصين، وهي على الأرجح عبارة عن مراسلات إدارية مع الوالي ومع مسؤولين إداريين في اسطنبول، ومع قواد عسكريين محليين، أو ترجمة لبعض التقارير الصّحفية التي تعوّد يوسف بك أن يقدمها للوالي، كما أنّ الأرقام الواردة في بعضها قد تدل على الجبايات والمصاريف والمعاشات، وكيفية إدارة القائمقاميات ثم المتصرفية التي تسلّمها.
وفي ترجمة لبعض هذه الوثائق تحدثت إحداها عن راتب متصرّف الحديدة، وعن تنقّلات قضائية في المتصرفية، ومذكّرة تتحدث عن إرسال تقارير متعلّقة بالولاية إلى اسطنبول بواسطة متصرّف الحُديدة، ودفع أجور من الأموال العامة المحصّلة. كما تتضمن إحداها مراسلة بين القائد سعيد باشا، وقائمقام “اللُّحَيّة” آنذاك، يطلب منه الاستعداد للنزول إلى لحج وعدن لمواجهة الإنكليز.
وتعرض وثيقة موجّهة إلى وزارة الداخلية جهود يوسف بك حسن في اليمن في خدمة الدولة العثمانية، ونجاحه بالتعامل مع الأهالي، ومع الإنكليز ومع الادريسي في عسير بعد أن صدرت الأوامر الدولية بالتسليم، وكيف استحوذ على ثقة الأهالي، ممّا جعلهم يدفعون الأموال المستحقّة للدولة، والتي استطاع بواسطتها أن يوفّر احتياجات الجيش وغيرها من المصروفات حتى بعد هزيمة السلطنة عسكرياً، وتطالب هذه الوثيقة الوزارة بمنح المتصرّف مُرَتّبَه المتراكم من سنوات سابقة، ممّا يجعلنا نعتقد أن للمتصرّف دوراً في تشجيع موقّعي هذه العريضة.
وممّا يلفت النظر في ترجمة لكتاب آخر مرفوع من والي اليمن إلى وزارة الداخلية يشرح فيه أحوال البلاد بعد الحرب العالمية الأولى، ومن المعروف أنّ الوالي بقي في اليمن بعد انتهاء الحرب كما بقي يوسف بك، أو قد يكون هذا هو سبب بقاء المتصرّف كذلك.
وفي هذا الكتاب يطلب الوالي من الوزارة سرعة إرسال متصرّف الحديدة يوسف حسن بك الموجود في دار السعادة إلى محل عمله في الحديدة!
فهل غادر المتصرف الحديدة على أمل العودة؟ وماذا كانت نِيّة والي اليمن آنذاك؟
أمّا الوثيقة الأخيرة المهمّة، والتي سننقل ترجمتها في باب الوثائق، والتي تعود لآخر مهمة للمتصرّف، فهي رسالة مرفوعة من والي اليمن إلى وزارة الداخلية يستعرض فيها حياة يوسف حسن بك في اليمن منذ وصوله، ويتكلّم فيها عن قدراته الإدارية الفذّة، وقدراته العسكرية، ومشاركته في الحروب ضد أعداء الدولة. ويختم الوالي رسالته بتذكير الدولة العليّة بأن المستحقّات المتراكمة للمتصرّف من خزينة الدولة لم يتم دفعها، ويطلب صرفها له تقديراً لخدماته وجهوده الكثيرة.
وأخيراً هناك قصيدة ليوسف بك حسن باللغة العثمانية، خصّ بها متصرّف جبل لبنان يوسف باشا بمناسبة حلول سنة جديدة.


اليوميات
حين وصل القائمّقام الشاب إلى لواء تعز، وتابع سيره إلى “إب”، أدرك أنّه بدأ مرحلة مهمّة في حياته، ميزاتها المغامرة والخصوصية والتجارب، ولم تعد الشهادات التي أوصلته إلى ذلك المكان تشكّل سوى جواز مرور شرعي فقط، ليصبح مقبولاً في المنطقة المتمرّدة، والتي لم تتعود على موظفين عثمانيين يهمهم بسط نفوذ السلطنة، وكان يوسف بك حسن قد تعوّد تدوين مذكّراته قبل قدومه إلى اليمن.
وقد واظب المتصرّف المُجدّ، والشديد الانضباط على تدوين يوميّاته لمدّة إحدى عشرة سنة متتالية، وتجمّع من ذلك التدوين المنتظم ما يزيد عن ثلاثة آلاف “يوميّة” من المذكرات، لم تتوقف إلاّ مع مغادرته لتلك البلاد! وتتراوح اليوميّة الواحدة بين عدة أسطر، وصفحة مدوّنة باليوم وبالشهر الميلادي الشمسي المعتمد في بلاد الشام. وكانت ملفتة فعلا تلك العادة في تدوين كل صغيرة وكبيرة تتعلق بحياته اليومية، أم بمهماته العامة ومغامراته الخطرة أحيانا في مجاهل اليمن الجغرافية والسياسية، وفي الحقيقة، وحسب علمنا فإنه قلّما حصلت تلك المواظبة على تدوين اليوميات في تاريخ الحكام العثمانيين، ولاسيّما الذين منهم تحمّلوا مسؤوليات عامة واسعة كتلك التي اضطلع بها يوسف بك حسن لأكثر من 11 عاما في بلد صعب، وفي أحلك الظروف التي كانت تمرّ بها الدولة العثمانية.
ماذا في اليوميات؟
إنّها سجلّ حافل بتاريخ المقاطعات التي كانت تابعة للسلطنة، أو للمناطق التي تنقّل بها القائمّقام ثم المتصرّف، وهي مرآة تصور الحياة السياسية والاجتماعية والمناخية، والاقتصادية والإدارية وأحوال الناس والقبائل. ويزيد في أهمية تلك اليوميات أنها تجمّعت في فترة كانت ولاية اليمن فيها مسرحاً لحوادث داخلية، وتمرُّدات ومشكلات لا تتوقف، وهذه الأحداث والحروب كان المتصرف الشاب يتابعها بإصرار، وغالبا ما كان يحقّق النّجاح في التصدّي لها، أو استيعابها، وتمكن يوسف بك حسن دونما مساعدة حقيقية من الدولة في اسطنبول من بسط سلطة السلطنة، وإخضاع المتمردين كما حقّق نجاحاً كبيراً في تجنيد العسكر والمجاهدين، ودفعهم إلى جبهات المواجهة مع الأخطار الخارجية، كما في “المُخا” و”لَحْج” وغيرهما. والملفت أنّ يوسف بك حسن استمر حتى في فترات الحرب، والضائقة الاقتصادية في جمع “العشور” والضرائب، أو الحكم بين الناس، أو ترتيب المصالحات والتحكيم بين القبائل المتخاصمة!، لقد كان قائمّقاماً وقاضياً، وضابطاً عسكرياً اقتحم غمار المعارك غير مرة وتعرض للموت مراراً.
وها هو يقول في يوميات 20 أيار 1916 “تفكرت في أحوالي وأنا في القطر اليماني، ونصيبي كان في خضم الكوارث والحروب، فمنذ مجيئي إليها وأنا أعاني الأهوال، وقد حضرت لغاية هذا التاريخ ثماني عشرة معركة استعمِلت بها المدافع، أربعاً منها في المُخا في مواجهة السفن الإيطالية سنة 1327، وأربعاً في بيت الفقيه مع الزرانيق المشهورين بالتمرد” قبيلة بدوية شديدة البأس على ساحل تهامة اليمن”، وثلاثاً منها مع قبائل أخرى، وأربعاً منها في لحج مع الانكليز وسلاطين لحج، وثلاثاً في مواجهة سفن الإنكليز في الحُديدة.
أما الوقائع التي لم تستعمل بها المدافع فهي كثيرة، والمسلّم الله. هذا حتى منتصف عام 1916، فكم معركة خاض لغاية 1921؟!
يذكر في مذكرات عام 1919، وبعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعد لقائه مع قلّة من المجاهدين ورجال القبائل في “باجل” في منطقة بين الإنكليز في “الحُديدة”، وسيف الإسلام الإدريسي في تهامة عسير، والإمام يحيى الطامع في تمديد سلطته نحو السواحل، يذكر أنّ “باجل” أصبحت مركزاً للسياسة، ومحوراً لعمل دوائر القبائل والحكومة.
فالوفد الانكليزي المؤلّف من ثمانين فرداً، والذي كان متوجّهاً إلى منطقة الإمام مع كميّة من الهدايا احتُجز في “باجل” ما يزيد عن الشهرين، وبدأت القبائل تضع الشروط للإفراج عنه، وحاول المتصرّف أن يقف وسيطاً بين الطرفين – كما يقول- لكنّه في الحقيقة لم يكن يريد للوفد أن يتابع سيره لملاقاة الإمام، كما أنه لم يكن يريد للقبائل أن تهاجم الوفد في دار الحكومة.
وهو يذكر كيف قامت طائرة إنكليزية بالتحليق فوق “باجل”، وفوق الجزيرة القريبة منها في البحر، وكيف كانت ردة فعل الأهالي على هذا السلاح الذي لم يعرفوه سابقاً، إذ هددت القبائل باقتحام دار الحكومة إذا أعادت الطائرة تحليقها، وأطلقوا عليها النار من بنادقهم.
ويذكر في عام 1920 مقابلاته مع سيف الإسلام مصطفى الإدريسي، ومحاولات التوسّط بينه وبين الإمام يحيى بطلب من والي اليمن محمود نديم. وفي يوميات عام 1921 يذكر بداية التنازع على تهامه بين الإدريسي والوهّابين الذين فرضوا شروطاً فقهية وسلوكية غير مسبوقة.
وفي كل مرة يذكر فيها الإمام يحيى كان يكيل له الأوصاف السلبية، كالجشع والتسلّط والتزمّت، ويذكر جازماً صعوبة تمدّد سلطته نحو تهامة نظراً للفوارق بين الزيدية والشوافع..
وإلى جانب المواضيع السياسية والعسكرية؛ اكتست اليوميات بالقلق والأسى، والشعور بالهزيمة بعد ورود أخبار احتلال بلاد الشام من قبل الانكليز والفرنسيين، ونكث الانكليز بوعودهم للشريف حسين وثورته العربية. وكم كان يأسى عندما يتلقّى الأنباء المحزنة التي تخبر بوفيّات بين الأهل والأقارب؛ تلك الأنباء التي كانت تحملها الرسائل جرّاء الحرب والمجاعة في موطنه.
ولأنّه كان يسجل صادقاً ولنفسه، فكم من مرّة سجل المعاناة والقلق، وتلك الهواجس، وكم انفرد بنفسه في أمسيات الحُدَيدة وباجل، ليذرف دمعاً غزيراً على غياب الأحبّة في موطنه البعيد، وكم أفاق في الأصبحة، وقد تبلّلت وسادته بالدموع!. وكم منّى نفسه بالعودة إلى الوطن، وقد أتته وعود مفرحة أحياناً. إنها الغربة حقاً، إنها المكابرة غير المجدية أحياناً، لقد بدت المعاناة الإنسانية في أصدق صورها لدى ذلك المجاهد الصابر.


ديوان الشعر
إلى جانب العمل الإداري والعسكري، والأحداث المتلاحقة، وجد يوسف بك فسحة ليمارس ميوله الأدبية، وقراءة الدواوين المتوافرة وقرض الشعر، وقد كانت له تجربة وثقافة أدبيتان بخمس لغات، وحتى كان يذكر في اليوميات أنّه لولا المطالعة وتحرير الرسائل لضاقت به الدنيا. وقد ترك المتصرف باقة غضّة من الأشعار؛ جمعها ولده عاصم في كتاب اسمه “لبناني وسيف يماني” (الدار التقدمية – لبنان 2007)، وتشمل المجموعة مواضيع متنوعة، أكثرها من الشعر السياسي الذي كان يُنفّس به عن كربته، ويعبّر عن مبادئه وتوقه لتحرّر الشعوب ومناهضة الاستعمار، وكان يرى في كلّ حركة تحرّر أو استقلال عيداً، ومناسبة لكتابة قصيدة شعرية، وظل يوسف بك يمارس الشعر حتى وفاته.
حقّاً لقد كانت فترة اليمن فترة حافلة غنيّة في تراثه، وأفرد لها في الديوان باباً خاصّاً نظم فيه أشعاراً عن طبيعة اليمن، وجمال بعض المناظر، وطباع الناس وبعض السجالات مع الأصحاب، فأطرى البعض وهَزَأ بالبعض الآخر، وقد نالت قرية “الدفدف” في العدين نصيبها من هجائه بسبب طباع سكانها، كما ترك قريحته لتعبّر عن مفاخر اليمن وماضيه، وعن لواعج غربته، ولم يتوانَ عن أن يتغزّل باستحياء ببعض الوجوه أو ما بدا منها!.
كما حاول أن يكتب قصائده بأوزان شعرية متنوّعة، ونترك للعروضيين تقييمها، مع الملاحظة أنّ القائمقام الشاب، ثم المتصرّف، كان يواكب حركة شعرية ناشطة في مصر وبلاد الشام، وكانت أصداؤها تصل إلى بلاد اليمن ولو متأخّرة.
الإرث النثري
لم يترك يوسف بك نتاجاً نثرياً أثناء عمله في اليمن، سوى كتابات إدارية كانت عبارة عن تقارير صحافية يضعها بيد الوالي، أو مذكّرات متعلّقة بسير العمل، وأهم ما تركه عن تلك الفترة تقرير عن أوضاع تهامة، قد يكون أعدّه حين عُيّن متصرّفاً للواء الحديدة، يعرض فيه أحوال اللواء، وطرق تطويره المتمثلة بالأمن والمعارف والمواصلات، وهو يقترح مَدّ خط سكة الحديد من الحجاز إلى الحديدة، لكنّ المتصرّف عاد إلى الكتابات السياسية بعد انتقاله للعمل كمحام في سوريا، وشارك في السّجالات القومية والنضالية التي لم يتخلّ عنها طيلة حياته.


خاتمة
ينتمي يوسف بك حسن إلى جيل من المجاهدين الذين انخرطوا في صفوف الثورة العربية، وناضلوا من أجل التحرر والاستقلال في وقت كانت فيه السياسات الدّولية، وشهوات الاستعمار والمؤامرات تعمل في اتجاهات مغايرة وأكثر تعقيداً، فجاءت نتائج الحرب العالمية الأولى لتحبط نِضالات هذا الجيل، ولتُقيِّد البلاد العربية بأشرطة من الشوك تحرسها الإمبرياليات الجديدة. ثم جاء وعد بلفور ليصبح كسرطان تجذّرت أورامه في فلسطين.ثم إلى ما حولها. وحين ذهب المجاهدون العرب لنصرة أشقائهم في فلسطين في عام 1948 كان من بينهم ابنه الشاب ناصر يوسف حسن، وقد اندفع للجهاد هناك بتشجيع من والده، لكن هؤلاء المجاهدين أيضا عادوا خائبين لتضاف نكبة فلسطين إلى باقي الهزائم التي باتت عنوان جيلهم، وأكبرها بالطبع هزيمة العرب في حرب حزيران 1967
بعد سنتين من الهزيمة توفّي المجاهد يوسف بك حسن في بلدته بتلون، لكنه كان قبل وفاته طلب أن يُنقَشَ هذان البيتان من الشعر على ضريحه وقد جاء فيهما:
فإذا قضيتُ ولم أُشاهـــِد أمَّتي بلغتْ بسُؤدُدِها السِّمــــــــاكَ الأعــزَلا
فليُكْتَبَنّ علــــــــــى ضريِحــــــــــيَ إنَّ ذا قبرَ امرئٍ قد خابَ فــــــــــي مَــــــــــا أمَّـــــــــــلا