السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

آل الحمدان

اَلُ الحمدان

في تاريخِ جبلِ حَوْرانَ

جرى الحديث عن اَل حمدان في تاريخ جبل لبنان، وعن أصلهم ونَسَبِهم، وذلك في العدد 17 من مجلّة “ الضّحى”. وفي ما يلي سيجري الحديث عن أقربائهم في تاريخ جبل حوران. وإذا كان لهذين الفرعين الحمدانْيّين تاريخ مشترك في شمال سورية وفي النزوح منه إلى جبل لبنان، ونزولهم في منطقتي “ الغرب” و “المناصف”، فإنّه صار لكلٍّ منهما تاريخ منفصل عن الاَخر منذ نزوحهم من المنطقتين المذكورتين.

نزوح الحمدان إلى جبل حوران
عُرِف آل حمدان في جبل حَوران باسم آل الحمدان وباسم الحمدانيين، لذا سنذكرهم بهذين الاسمين. كما سنذكر الجبل باسم “جبل حوران” لأنّه الاسم المتداول في زمنهم قبل أن يصبح جبل الدّروز، ثم جبل العرب، وأخيرًا محافظة السّويداء التي هي إحدى المحافظات السّوريّة.
أنشأ الأمير فخر الدّين المعني الثاني علاقات مع قبائل حوران، ورمّم قلعة صرخد (صلخد) في جبل حوران، وجعلها مخزنًا للحبوب، إلا أنّ هذا لم يتعدَّ إنشاء قاعدة مؤقّتة للحكم المعني، وذلك في إطار سياسة الأمير التّوسّعية التي أعقبت عودته من أوروبا سنة 1618.
يقترن أول نزوح درزي إلى جبل حوران بغية توطُّنه بتاريخ محدَّد، هو سنة 1685، وبأمير اسمه علم الدّين، مختلف على نسبه، إذ يقول البعض إنّه مَعْنيٌّ، ويقول البعض الآخر إنّه يمنيّ، ويقول أمين بك آل ناصر الدّين إنّه من آل ناصر الدّين التّنوخيين وإنه لجأ إلى جبل حوران خوفًا من انتقام الأمير أحمد المعني منه لجريمة ارتكبها1. وتتّفق الرّوايات على أنّ الأمير علم الدين عاد إلى لبنان وعاد معه بعض من رافقوه الذين هم عند البعض 150 فارسًا مع عيالهم، وعند البعض الآخر 1500 نسمة.
وتتفق معظم الرّوايات أيضًا على أن حمدان الحمدان من قرية كفرا (الغرب) هو من ثبَّت أقدام النازحين إلى جبل حوران، فيما هو في نظر المؤرِّخ سليمان أبو عز الدين أول النازحين. وقد ذكر هذا نقلاً عمّا سمعه من أعيان دروز حوران أثناء زيارته لهم في سنة 1897، في مقالة له بعنوان “توطّن الدروز في حوران” نشرتها مجلة “الكلّية”2. كما أنّ المؤرِّخ الدّمشقي نعمان قساطلي رأى قبل المؤرِّخ سليمان أبو عزّ الدين أنّ الحمدان هم أوّل من توطّن الجبل، وذلك في مقالته عن الجبل في سنة 1910 في مجلة “الهلال”3.
إنّ أبرز النزوحات الدّرزية الأولى إلى جبل حوران هي نزوح سنة 1685، ونزوح سنة 1711. إلا أن هناك نزوحات بينهما منها نزوح حمدان الحمدان المختلف على تاريخه، بسبب اعتباره من البعض أوّل النازحين، وبسببه عدم وضوح تاريخ إحراق كفرا، والمُختَلف فيه أيضا على علاقة آل الحمدان بالأمير علم الدين، إذ من الروايات ما ينفي أية علاقة بين الفريقين.
أما لماذا نزح الموحِّدون (الدّروز) إلى جبل حوران في أواخر القرن السابع عشر، وأوائل القرن الثامن عشر، فهذا عائد إلى الصراع القيسي اليمني الذي أسفر عن مواقع كثيرة انتصر في معظمها القيسيون على اليمنيين، وتوَّجوا انتصارهم عليهم في موقعة عين داره في 5 آذار 1711، ومن فصول هذا الصّراع هجوم آل تلحوق القيسيين بقيادة الشيخ بشير تلحوق على قرية كفرا (الغرب)، قرية الحمدانيين، وإحراقهم لها، واضطرار حمدان الحمدان وسائر الحمدانيين إلى تركها.

ساحة المشنقة في السويداء التي كانت تعرف بـ مشنقة الحمدان
ساحة المشنقة في السويداء التي كانت تعرف بـ مشنقة الحمدان

التوطُّن في جبل حَوران
أقام النازحون الأوائل في مطحنة الدّنيفات أولّاً، وفي إحدى الرّوايات في شمسكين، أي الشيخ مسكين. كما أقاموا في خربة الدّلي الواقعة إلى الغرب من إزرع. وبعد التحاق نازحين جُدُد بهم انتقلوا جميعًا إلى قرية تُبْنَة الواقعة إلى الغرب من اللّجاه المُسمّاة أيضًا “الوعرة” لوعورة مسالكها، وقد شكَّلت للموحِّدين (الدّروز) الحصن المنيع للاحتماء به في حروبهم أثناء تصدِّيهم للحملات المصريّة والعثمانيّة والفرنسيّة. وتقع اللّجاه على حدود المقرن الشّمالي والمقرن الغربي من جبل حوران، ذلك أنّه جرى تقسيم الجبل، انطلاقًا من وسطه حيث تقوم السّويداء، إلى أربع مناطق سمَّوها مفارق أو مقارن، هي المقرن الشّمالي، والمقرن القبلي أي الجَنوبي، والمقرن الشّرقي، والمقرن الغربي. وهذه التّسميات مبنيّة على معنى “المقرن” اللغوي، الذي يعني قطعان الغنم التي ترد إلى الجبل من الجهات الأربع، لترعى فيه.
أقام النازحون في تُبْنة لمدّة سنتين ازداد خلالهما عددهم، بفضل من لحقوا بهم من اليمنيّين على إثر هزيمتهم في عين داره سنة 1711، وإحراق قرية كفرا (الغرب) قرية الحمدانيين. فانتقلوا إلى المَجْدَل وريمة اللّحف، أي ريمة لحف اللجاه، المسمّاة أيضًا ريمة الفخور نسبة إلى آل أبو فخر تمييزًا لها عن ريمة خازم الواقعة أيضًا في جبل حوران. ونزل حمدان الحمدان في قصر في نجران معروف بـ “قصر مقري الوحش”. حيث عثر في أحد جدرانه على كميّة من النقود الذهبية -حسبما يروى- كانت من أسباب غناه.
كان جبل حوران مسكونًا من بعض البدو المستقرِّين، وبعض عشائر سنِّيّة ومسيحية، يتحكَّم بها البدو الذين يتخذون من الجبل ممرًّا أو مرعى لقطعانهم في فصل الصيف، ويفرضون الضرائب، ويعيثون خرابًا في الأملاك. وكانت علاقة البدو مع النازحين الدّروز علاقة مسالمة وصفاء في بادئ الأمر. إلا أنّهم ما لبثوا أن نظروا إليهم نظرة حذر وريب وخوف منهم، ومن تزايد أعدادهم، ومن مقاسمتهم الأراضي التي تسرح فيها مواشيهم، فقد صمَّموا على قتالهم وإخراجهم من المنطقة، وظنُّوا ذلك سهلاً كما فعلوا من قبل مع فئات عدة تمكنوا من تهجيرها. لكنّ المتوطِّنين الجُدُد كانوا رجال حرب أشدَّاء، متمرِّسين في القتال، فصمدوا بقيادة حمدان الحمدان، واستبسلوا زيادة في الدفاع عن مواقعهم، لاعتبارهم المعركة معركة حياة أو موت، إذ إنّ نهايتهم ستكون التّهجير من جديد بعد أن هجروا أوطانهم الأصلية، أو ستكون الذلّ والخضوع لسيطرة البدو الذين لا يرحمون.
وبما أنّ مهاجميهم كثيرو العدد، وهم من قبائل زبيد والسّرديّة والفحيليّة، اضطرَّ النازحون إلى الاستنجاد بأعداء أعدائهم، أي أبناء قبيلة المخمس، فآزرهم هؤلاء، وساهموا في صمودهم وانتصارهم، فسمّوهم الجوابرة، أي الذين جبروا خاطرهم وأنجدوهم عند الضّيق، ووقَوْهم شرّ الهزيمة.
كان لانتصار النّازحين بقيادة حمدان الحمدان أثره الكبير، ونتائجه البعيدة المدى، إذ إنّه من ناحية ثبَّت أقدامهم، وكبَّر شأنهم، وعظَّم هيبتهم في عيون مجاوريهم ومساكنيهم حتى بات الجميع يتهيَّبونهم ويحسبون ألف حساب قبل أن يخاصموهم. ومن ناحية أخرى سَرَّع وكثَّف عمليات نزوح الموحِّدين (الدّروز) من جميع المناطق الشّامية إلى جبل حوران، لأنهم رأوا فيه مكان العيش الكريم، وفسحة الحريّة المنشودة، والملجأ الأمين، والحِصن الحَصين، والمستقَرّ المضمون. وكلّ هذا صبَّ في مصلحة حمدان الحمدان بالتّأكيد على قيادته، وعلى استمراريّة هذه القيادة بشخصه وبأشخاص ذرّيته من بعده.

“انتصار النّازحين بقيادة حمدان الحمدان ثبَّت أقدامهم في جبل حــــــــوران وفتح باب النــــــــزوح إليــــه من جميع المناطق الشّـــــامية”

وبعد أن كان البدو لا يعترفون للفلاّح في جبل العرب بحق الجيرة والحمى إلا بما يحيط بمنزله فقط، أصبح الجبل كلّه بقراه وأهاليه وأراضيه حمًى واحداً، يهبُّ أبناؤه للدّفاع عن نزيل أيٍّ منهم، والدّفاع عن أرض أي فلاح، واسترجاع ماشية أيّ إنسان أو أية قرية، يسلبها البدو، حتى إن أهل الجبل كثيراً ما استعادوا المواشي المسلوبة من أطراف نجد في المملكة العربية السّعودية.
توطَّن حمدان الحمدان والنّازحون الأوائل في قرى المقرن الغربي الذي هو الممرُّ الرئيس للقادمين إلى الجبل من المناطق المأهولة بالموحِّدين (الدّروز) في لبنان وفلسطين وسورية. وبعد ذلك تمدَّد التوطّن إلى السّويداء ومقارن الجبل الأخرى إبتداء بالمقرن الشمالي فالشّرقي فالقبلي (الجنوبي). وما تناقله الرواة، وما جاء في كتب الرحَّالة الأجانب، لاسيّما الرحّالة جون لويس بركهاردت، يفيد عن قلة عشائر الجبل السنّية والمسيحية قبل تكاثر الدّروز فيه، كما يفيد عن أنّ قراه، بما في ذلك أمّاتها: السّويداء وشهباء وصلخد، كانت بقايا آثار، وبيوتًا مسكونة بأُسَر قليلة. لذا كانت القرى المهجورة والبيوت الخَرِبة تنتظر من يعيد بناءها ويؤهِّلها للسّكن، وكانت الأراضي الواسعة والخصبة تنتظر من يستغلّها في الزرع.
ازداد التوطُّن في الجبل بفضل دعوات حمدان الحمدان وأبنائه، وتشجيعهم على النزوح إليه، فعُمّر وتحوَّل من حالة البداوة إلى حالة الحضارة، ومن منطقة قليلة السّكان إلى منطقة عامرة. كما أن اسمه الذي استقرَّ عليه (جبل حوران) بعد اسمه العربي (جبل الريّان) تحوّل إلى اسم (جبل الدروز) لتكاثر بني معروف (الدروز) فيه، ولتشكيلهم أكثريّة سكانه منذ أواخر القرن الثامن عشر. فغدا اسمه جبل الدروز منذ أوائل القرن التاسع عشر في التعابير المحلية، ومنذ أواخر هذا القرن في التقارير الرسمية. ثم سمِّي مؤخَّرًا جبل العرب لنفي أبنائه الدروز الصّفة الفئوية المذهبيّة عنه، وليصبح اسمًا على مُسَمّى، أي جبل العرب المسلمين الموحدين الذين يعتزّون بعروبتهم وبمساهمتهم في التاريخ العربي والإسلامي، ويعتزّون خصوصًا بنضالهم الوطني والقومي بقيادة أحد رموزهم سلطان باشا الأطرش، ابن جبل العرب.

المَشْيَخة الحمدانيّة في جبل حوران
نزح حمدان الحمدان من كفرا (الغرب) إلى جبل حوران وبرفقته أخوه، فيما يذكر حنا أبي راشد أنه نزح وحده من كفرا وأن أخاه هو أخ بالتعاهد لا من الأب والأم، وأن اسمه خليل الحمدان، نزح من صفد في فلسطين، ونزل ضيفًا عليه فأحبَّه وقرَّبه منه وتآخيا على الحياة والموت4. وهنا يصح التساؤل: كيف أصبح حمدان الحمدان شيخًا في جبل حوران وليس له إلا أخ واحد من دمه أو بالتعاهد؟ وفي رأينا أنه غدا شيخًا في الجبل لأنه كان شيخًا لقرية كفرا وقد نزح منها ومعه بعض أقربائه وبعض أهلها، ولأنّه كان أيضاً الأبرز بين سواهم من النازحين الذين قدَّموه عليهم. وفي اعتقادنا أنّ اَل الحمدان لم ينزحوا دفعةً واحدةً، وأنّ آخر النازحين منهم نزحوا عقب هزيمة اليمنيين في موقعة عين داره.
كانت الأكثرية الساحقة من النّازحين من العشائر العاميّة، وممّن جار عليهم حكّامهم، فهربوا من ظلمهم وإجراءاتهم، أو جار عليهم زمانهم فألجأتهم الحاجة إلى النّزوح، أو تركوا مواطنهم بسبب المنازعات، فكانوا يصلون أولاً إلى دار حمدان الحمدان أو دار من خَلفَه من أبنائه وأحفاده، فيسمّي لهم قرية يقيمون فيها، ويعيِّن عليهم شيخًا هو، على العموم، كبير النازحين، هذا إذا لم يكن في القرية المسمَّاة شيخ من آل الحمدان. فلقد لاحظ بركهاردت، الذي قام برحلات في جبل حوران من سنة 1810 إلى سنة 1812، أنّ أكثر من ثماني قرى يرأسها أقرباء الحمدان، وأنّ الرّؤساء الآخرين هم من العائلات الدّرزيّة الكبرى5. كما أنّ الشّيخ الحمداني بلغ من القوة حدًّا سمح له بالتحكُّم في تعيين مشايخ قرى السّهل الحوراني، المتاخمة للجبل، إذ لا يعيَّن شيخ عليها إلا بموافقته.
وكما كان للشّيخ الحمدانيّ سلطة تعيين الشّيوخ على القرى، وحقّ إسكان النازحين في أي مكان، كان بإمكانه أن يُرَحِّل من يشاء، إذ رحَّل العديد من الأسر، لكنّه عجز عن ترحيل القويّة منها كآل أبو فخر، مثلاً، الذين أبدوا مقاومة له. ولم يكن تغيير المكان بالأمر الصّعب، إذ يستطيع ربّ البيت أن يحمّل أمتعته على جمل أو حمار ويرحل مع أفراد عائلته. كما أن إيجاد البديل عن مكان السّكن كان سهلاً لكثرة البيوت المهجورة، ولكثرة القرى الخَرِبة الخالية أو شبه الخالية من السّكان. وتِبْعًا لذلك كان سكان القرى ينقصون أو يزيدون. فمدينة صلخد التاريخية –وهي ثالث مدينة في الجبل حاليُّا- كانت مأهولة في أواخر القرن الثامن عشر، وغدت في سنة 1810 خالية من السكان.
كان شيوخ القرى مرتبطين بالتّبعيّة بالشيخ الحمداني، يدفعون له الضّرائب المترتّبَة عليهم، ويدفع هو منها ما يترتّب للمتصرّف العثماني في حوران. كما كانوا يسيرون على رأس مقاتلي قريتهم للقتال معه عند الحاجة. وإذ تتسلسل أهميّتهم تبعًا لقوة عصبيّات عشائرهم، أو تبعًا لعددها أو قدمها في توطُّن الجبل، يبقى الشّيخ الحمداني الشّيخ الأكبر، أي شيخ المشايخ. وعلى هذا الأساس استقرَّ الحكم العشائري في جبل حوران زمن المشيخة الحمدانية حيث كانت أمور كلّ قرية تُبحَث في مجلسها من قبل شيخها وشيوخ عشائرها، فيما كانت الأمور العامّة تُبحث في مجالس شُورى تضمّ شيوخ القرى والعشائر وعلى رأسهم الشّيخ الحمداني.
كانت علاقة الشّيوخ الحمدانيين حسنة مع باشوات دمشق، وظلّت كذلك حتى أواخر الرّبع الأوّل من القرن التاسع عشر، إذ إنّ الدولة العثمانية كانت تحكم جبل حوران عن طريقهم، شأنه في ذلك شأن الكثير من الأطراف البعيدة عن المركز، مستغنية بذلك عن حكم عصبيته المذهبية الدّرزية بطريقة مباشرة، وبإرسال الموظّفين والجنود. وبفضل هذه العلاقة الحسنة، وطريقة الحكم غير المباشر، تمتّع الشّيوخ الحمدانيّون بالامتيازات والحقوق التّالية:

في-منازل-وأحياء-كهذه-مبنية-كلها-من-الأحجار-البازلتية-البركانية-سكن-المهاجرون-الأوائل-بزعامة--آل-الحمدان-وأعمروا-الجبل
في-منازل-وأحياء-كهذه-مبنية-كلها-من-الأحجار-البازلتية-البركانية-سكن-المهاجرون-الأوائل-بزعامة–آل-الحمدان-وأعمروا-الجبل

• الزّعامة الأولى في جبل حوران وما يتّصل بها كإعلان الحرب، وإجراء السلم، والدّعوة إلى الاجتماعات، وعقد الاتّفاقات، والتكلّم باسم الأهالي، وتعيين الوفود لمقابلة المسؤولين.
• حقّ تعيين الشّيوخ في القرى.
• جباية الضّرائب ودفع المطلوب منها للدّولة.
• قبول النّازحين الجدد.
• استضافة الغرباء.
• ترحيل المُقيمين وفق مبدأ ألّا يملك الفلاح إلّا باب بيته.
• أخذ ربع إنتاج الفلّاحين.
• السماح للبدو بالمرور في الجبل مقابل جزية تسمّى “القود”، وبالإقامة المؤقتة مقابل جزية تسمى “القلاط”، وبالإقامة الطويلة مقابل جزية تسمى “القُصْرَة”، وذلك كي يحقّ للبدو الاستفادة من مراعي الجبل ومياهه.
• أخذ رسم “الحوّاط” ورسم “الخُلْعة” أي ما يخلع على العريس، ورسم الزواج من المسيحيين.
• أخذ ضريبة المَنْزول (المضافة).
• أخذ شاة من كل قطيع يرعى في الحمى، وخُمس ما يولد من ذكور الأغنام والماعز.
• حقّ تسخير الفلاّحين.

جدول بأسماء اّل حمدان حتى سنة 1925
تميّز اَل الحمدان بأنهم لم يتكاثروا، بل ظلّوا قلائل خلال قرنين وربع. وفي ما يلي ثَبْتٌ بأسمائهم حتى سنة 1925 اعتماداً على حنّا أبي راشد الذي قام سنة 1925 بجولات ميدانيّة في جبل حَوران، المعروف اَنذاك باسم “ جبل الدروز” وسلسل أسماء اَل حمدان بدءاً بحمدان الحمدان، وبأخيه (خليل). إلّا أنه، في رأينا، لم يذكر جميع أسمائهم بدليل أنّه لم يذكر شبلي الحمدان الذي ذكره الرحّالة بركهاردت، وابن شبلي الذي ذكره الرحّالة بورتر، والأخوين حمد ومحمود وابن محمود (خطّار) الذين ذكرهم حيدر الشهابي، وسترد هذه الأسماء لاحقاً، وبدليل أنّ هناك العديد من الشّيوخ الحمدانيين غيرهم، ومنهم وهبي ابن شيخ السّويداء (حسين)، وخزاعي الحمدان وشيخ السويداء وهبي الذي كان معاصراً لشيخ عرى شبلي الحمدان ومنهم الشيخ سلامة حمّود والشيخ سليمان حمّود.
المشيخة الحمدانية في السّويداء
أثناء إقامته في نجران بالمقرن الغربي علم حمدان الحمدان أنّ إلى الجنوب الشرقي منها مدينة كبيرة دارسة اسمها السويداء، وأنّ الإقامة فيها أفضل من إقامته الحالية. ففضَّل الانتقال إليها تاركًا نجران لأخيه خليل. وأخذ السّويداء من عشيرتين كانتا تتناوبان المَشْيَخة فيها، هما عشيرة إسلامية من بني سويدان، وعشيرة مسيحيّة معروفة بدحدل.
إنّ السّويداء مدينة تاريخية قديمة، غنيّة بالآثار الّنبطية والرّومانية، لا يقلّ محيط خرائبها عن عشرة أميال، الأمر الذي وفّر للشّيخ الحمداني الإقامة في أحد دورها الكبيرة، ووفَّر للقادمين الكُثُر إليها بناء منازل من حجارتها ومن حجارة خرائب سيع القريبة منها. ومُناخ السّويداء جيد ومعتدل، وهي وسط الجبل، وعقدة المواصلات فيه، وكانت على طريق الحجّ سابقًا بدليل وجود بركة للمياه اسمها “بركة الحَجّ”، وحولها أراض واسعة وغنيّة. كلّ هذا وفَّر للسويداء عوامل النمو، فغدت أكبر بلدات الجبل، وقاعدته أو عاصمته، ومقرًّا للشيخ الحمداني.
تسلَّم مشيخة السويداء بعد حمدان الحمدان أبناؤه وأحفاده. ويذكر حنّا أبي راشد أنّ يوسف ـــ وهو حفيد خليل الحمدان الذي ورد ذكره عنده كأخ لحمدان الحمدان الأوّل بالتّعاهد- انتزع زعامة السّويداء من يحيى الحمدان، ورحَّله إلى عرى، وحين شبّ ولدا يحيى: هزاع وواكد استرجعا السّويداء، وظلّا زعيمَيّ عرى والسّويداء إلى أن انتزعهما منهما آل الأطرش6. وقد لجأ الشّيخ بشير جنبلاط وأخوه الشّيخ حسن إلى الشّيخ الحمداني في السّويداء عندما تركا الشّوف بعد أن قضيا على ابني عمّهما الشّيخ نجم جنبلاط، في نيسان 1793، وقد أمضيا في ضيافته في السّويداء مدة سبعة أشهر.
تخلَّى الأمير بشير الشّهابي الثاني عن الإمارة في سنة 1820، ولجأ مع حليفه الشّيخ بشير جنبلاط إلى جبل حوران، وبعد أن رضيَ عنه والي صيدا عبد الله باشا عاد إلى شفا عمرو في فِلِسطين فيما بقي أبناؤه والشّيخ بشير جنبلاط في ضيافة آل الحمدان. وقد وصف المؤرِّخ حيدر الشهابي إكرام الشّيوخ الحمدانيين للشّيخ بشير جنبلاط ولأبناء الأمير بشير ومرافقيهم، فقال: “وفي 2 رمضان 1236 [3 حزيران 1821م] رجعوا المراسيل من عند الأمير بشير يأمر أولاده وناسه بالتوجّه لعنده حالاً فساروا من قرية “الكفر” نهار الأحد في رمضان إلى نبع خراشي الذي شرقي قرية السويده [السويداء] وحضروا المشايخ بيت الحمدان لوداعهم. وقد كانوا المشايخ المذكورين في مدّة إقامة الأمير وناسه في جبل حوران أبدوا كل خدامة ومعروف في الزخاير والإكرام وقدَّموا كلما قدروا عليه. وهم أناس مشايخ دروز حوران. ولم يوجد أكرم منهم في تلك البلدان. وهؤلاء أصلهم من بلاد الدّروز من مقاطعة الغرب من قرية كفرا التي هي الآن خراب فحضر جدّهم حمدان لديار حوران واقتنى قرايا ومواشي. وتظاهر عند الدّول إلى أن حصلوا على هذه الحالة والذين هم موجودين الآن من أكابرهم المشايخ يوسف ويحيى وحمد وأخوه محمود والد خطَّار”7.
ويذكر المؤرِّخ حيدر الشهابي أيضًا لجوء آل الحمدان إلى جبل لبنان سنة 1244هـ= 1828/ 1829م، وإكرام الأمير بشير الشهابي لهم، فيقول: “وفي هذه السنة غضب صالح باشا والي الشام على بيت الحمدان مشايخ حوران وقبض على كبيرهم الشّيخ يوسف، وبعدما سلب ماله قتله. فنزحوا جميع أهله إلى جبل الشّوف فقبلهم الأمير بشير بكلّ إكرام وعَيَّن لهم الميرى وسكنوا في قرية نيحا وقدَّم لهم كلّما يحتاجوا وبقَوْا في حمايته إلى أن عُزِل صالح باشا وولِّي مكانه محمد باشا. فحرَّر إلى الأمير أن يأمرهم في الرجوع إلى أوطانهم وأن يكونوا متسلّمين كما كانوا. فقبل الأمير بشير سؤال الوزير ورجعوا بعدما أكرمهم الأمير في الخُلَع وهم ناشرين رايات الثّنا والحمد من الأمير بشير”8. وقد استقرَّ حسين بن يوسف شيخاً في رساس المجاورة للسويداء. وهنا يصحّ التّساؤل التالي: لماذا سكن اّل حمدان في نيحا ولم يسكنوا عند اّل حمدان في باتر المجاورة لنيحا؟. وفي رأينا أنّ هذا يعود إلى أنّ تاريخ سكنهم يتزامن مع تاريخ غضب الأمير بشير على اَل حمدان لنصرتِهم خصمه الشيخ بشير جنبلاط، ولربما شاء هذا الأمير ردّ الجميل لاَل الحمدان بإنفاقه عليهم.
حضر الرَّحَّالة الأوروبي بورتر إلى جبل حوران سنة 1852، وكتب سنة 1853 عن مشاهداته فيه، فقال: “إنه قابل إبن الشيخ شبلي الحمدان في عرى”. وذكر أربعة زعماء آخرين، وقال: “إنّ الحمدان ما زالت العائلة الأقدم وجاهة”. ووصف الشّيخ واكد الحمدان، شيخ السويداء، فقال: “يمتطي مُهرًا أبيض أنيقًا، ويرتدي عباءة قرمزية وعمامة بيضاء.. من أشرف عائلات حوران، مُعترف به كأعلى مرتبة شيوخ الدّروز. ولكن ليس من شجاعة كبيرة في ميدان القتال”9.

“بقيادة الحمدان تحوَّل جبل حوران من البداوة إلى الحضــــارة ومن منطقة مقفرة إلى منطقة عامرة وتبدّل اسمه إلى «جبل الدروز» بعد أن أصبحوا أكثرية سكــــانه”

المَشيخة الحمدانية في عرى
كان هناك عدة شيوخ من آل الحمدان في قرى الجبل، أبرزهم شيخ عرى الذي يُعتبر الزّعيم الثاني بعد الزّعيم الأوّل المُقيم في السويداء. وكان شبلي الحمدان شيخ عرى في العقدين الأولين من القرن التاسع عشر. وقد وصفه الرحَّالة بركهاردت بأنّه ألطف وأكرم إنسان تعرَّف عليه في سورية، وأنّه شديد الشّغف بتوسيع معارفه وتعلَّم اللغات الأجنبيّة والاطِّلاع على عادات الأوروبيّين وأخلاقهم، كما أنّه جواد مضياف يطعم أكثر من 40 إنسانًا يوميًّا، بالإضافة إلى الأعراب الذين يمرُّون في طريقهم إلى مضارب البدو. وقد جذب بصفاته هذه، وبتسامحه، الفلّاحين إلى قريته بمن فيهم جميع أفراد الطّائفة المسيحيّة في السّويداء وعلى رأسهم خوري الرّوم حتى صارت عرى واحدة من أكثف قرى المنطقة، “بحيث بات يصحّ القول بأنّه الزعيم الدرزي لحَوران [جبل حوران] مع أنّ هذا اللقب يُطلق على حميّه حسين بن حمدان شيخ السّويداء”10.
كان الشيخ شبلي الحمدان كريماً كمن سبقه ومن أعقبه من الحمدانيّين الذين وصفوا بالجود، وإنّ هذه الصفات التي تمتّع بها، وخصوصاً تسامحه مع الفلاّحين والمسيحيّين، إضافة الى كرمه وحسن ضيافته، ورغبته في التثقّف، هي إحدى الصفحات المضيئة من تاريخ الحمدانيين، الذين تمادى البعض عند الكتابة عنهم، في الحديث عن ظلمهم للفلّاحين.
تقدَّمت في عهد شبلي الحمدان القوّات الوهَّابيّة إلى بلاد الشام، ووصلت طلائعها إلى سهل حوران وتجاوزته إلى جبل حوران في تموز 1810، فبلغت قريتي صَبحة وصُبحيّة اللّتين كانتا خربتين من خرائب الجبل، ضُمّتا فيما بعد إلى شرق الأردن عند تخطيط الحدود بين منطقتي الانتداب البريطاني والانتداب الفرنسي، وقد جرت فيهما الموقعة الأولى مع القوّات الوهّابية، ثم جرت موقعة أخرى معها في عرى حيث هُزمت وارتدّت. وقد رأى الرحَّالة بركهاردت آثار القتال مع الوهّابيين في حقل محروق لا يزال حتى اليوم يعرف عند أهالي عرى بـ “كرم المْوَهّب” نسبة إلى الوهابيين، وقد غنم شبلي فرس وبندقيّة القائد الوهابي الذي قتله.

المهارة القتالية للدروز وشجاعتهم الأسطورية كانت العامل الأهم في تثبيت استقرارهم في الجبل ونجاحهم في إعماره
المهارة القتالية للدروز وشجاعتهم الأسطورية كانت العامل الأهم في تثبيت استقرارهم في الجبل ونجاحهم في إعماره

في الثورة على إبراهيم باشا
أرسل محمد علي باشا، والي مصر، ابنه ابراهيم على رأس ثلاثين ألف جندي لاحتلال بلاد الشام التي طمع بالسيطرة عليها وانتزاعها من السلطان العثماني محمود الثاني. وبعد احتلال ابراهيم باشا لها تقرَّب من السكّان، وأصلح النّظام الضرائبي، وأضعف الإقطاع، وأنشأ مجالس المَشورة لإدارة المدن، ووضع الأنظمة الحديثة، وحقَّق المساواة بين النّاس أمام النّظام، وألغى تمييز المسلمين عن النّصارى. فبدا الحكم المِصري في بدايته أفضل من الحكم العثماني في أعين النّاس.
لكنَّ ابراهيم باشا ما لبث أن عدَّل في سياسته، فاتّخذ، بضغط من الحاجة، ومن ضرورات الاستعداد والتجهُّز لمتابعة القتال ضدّ الدولة العثمانية، مجموعة من الإجراءات والتّدابير التي ضايقت الناس ونفَّرتهم من الحكم المصري ودفعتهم إلى الثّورة عليه، هي زيادة الضرائب، وإحتكار بعض السلع، والسخرة، ونزع السلاح، والتشدُّد في تنففيذ التجنيد الإلزامي. فقامت بوجهه الثّورات في طرابلس وعكار ومنطقة العلويّين وجبل نابلس والخليل، وفي صفد التي أدت ثورتها إلى نزوح أكثر من خمسمائة عائلة درزية منها إلى جبل حوران. وقد استطاع ابراهيم باشا إخماد هذه الثّورات، وتجنيد السكّان بالقوة بمن فيهم دروز جبل لبنان الذين، بعد أن رفضوا ذلك وفرَّ بعضهم إلى جبل حوران، قبلوا بتجنيد 450 شابًّا بدلاً من 1500 شابّ طلبهم في البداية، لكنّهم اشترطوا بأن يكونوا في فرق خاصة بهم.
وبعد أن أعفى ابراهيم باشا دروز جبل حوران من التّجنيد الإلزامي في سنة 1834، عاد وطلب من شريف باشا حكمدار الشام تنفيذ ذلك. فاستدعى شريف باشا شيوخهم إلى دمشق، فنزلوا اليها وعلى رأسهم الشيخ يحيى الحمدان. وحين طلب منهم تقديم 150 شابًّا للخدمة الإلزامية، أجابه الشّيخ يحيى الحمدان أنه لا يمكن للدّروز أن يقدِّموا شبابًا لأنّهم على تخوم البادية، وبحاجة إلى الرجال ليدافعوا عن قراهم ومزروعاتهم ضد تعديات البدو، وأنّه يمكنهم تقديم ضرائب إضافية عن مائتي فدان إذا أُعفي الجبل من التجنيد الإلزامي11. وعندما ألحَّ الشّيخ يحيى في رجائه إعفاء الدّروز من التّجنيد، غضب شريف باشا وتقدَّم منه وصفعه، وأمره بتنفيذ التّجنيد خلال عشرة أيام. وقد جاء في مخطوطة بعنوان “قصّة اللّجاه” كتبها في سنة 1842 الرئيس الروحي للموحِّدين(الدّروز) في جبل حوران، الشّيخ حسين ابراهيم الهجري، ما يلي:
“فجعل المشايخ يبدون الرّجاء لشريف باشا إعفاءهم عن ذلك، فلم يزداد عليهم سوى حَتمًا وجبرًا وتشديدًا، وجعل يبدي لهم الغيظ والكظم والتهديد، فلجَّ بالرّجاء من أجل هذا الشّأن من أخذته الغَيْرة على العيال والولدان الشيخ يحيى الحمدان طمعًا بقبول الرّجاء، فعند ذلك مشى الوزير بنفسه إليه وقيل إنه صفقه بيده على خدِّه وغضب غضبًا شديدًا عليه12”.
كان دروز جبل حوران يؤمِّنون حمايةً لمنطقتهم تعجز عنها الدولة ويريحون الجيش المِصري من تأمينها، كما أنّ تجنيد 150 شابًّا منهم لن يزيد في قوة الجيش المصري في بلاد الشام، ومع هذا أصرَّ ابراهيم باشا ونائبه في الشّام شريف باشا على ذلك، لا لكسب هذا العدد القليل جدًّا، وإنما للتّمهيد للسيطرة على الجبل وعلى اللّجاه اللّذين أصبحا ملجأً للفارّين والعاصين، يهدِّدون منهما أمن منطقة حوران، وكانا يريدان كسر شوكة الدروز الذين يظهرون آنذاك استثناءً عن محيطهم، وقد تمظهر ذلك بدايةً في إهانة شريف باشا للشّيخ يحيى الحمدان.
عاد الشّيخ يحيى الحمدان ومرافقوه إلى الجبل، واجتمعوا في السّويداء مع سائر الشّيوخ، وتباحثوا في إساءة بالغة لهم ولجميع الدروز ممثَّلةٍ بإهانة شيخهم الأكبر، وفي طلب صعب التحقيق. لقد وُضِعوا أمام أمرين مُرَّين: إمّا إفراغ جبلهم من عدد كبير من شبابهم، وهذا يجعله مكشوفًا أمام غَزَوات البدو، والعيث بالأملاك والمزروعات، والتعدِّي على العيال، وإمّا الثورة وما فيها من صعوبات وخسائر، لأنّهم قلَّة وجيوش ابراهيم باشا كبيرة وقوية، هَزمت الوهابيين واليونانيّين والجيوش العثمانية، وأخضعت كلّ الثّورات في بلاد الشّام. وكان اتخاذ أيِّ قرار بشأن هذين الأمرين صعبًا أمام الشّيخ يحيى الحمدان وسائر الشّيوخ، لذا قرَّروا مشورة الرئيس الرّوحي الشّيخ إبراهيم الهجري، فذهب إليه بعضهم، ودخل عليه الشّيخ حسين أبو عسَّاف شاكي السلاح –وكان في المسجد (المجلس) يتعبَّد- فقال له: “فزت يا أبو عسَّاف دخلت الجنة بسيفك ورمحك”. وكان هذا موافقة منه على ثورة يعتبرها حربًا مقدَّسة؛ وهو القائل: “ما لابراهيم إلا ابراهيم”.
قرَّر دروز جبل حوران الثّورة والهجيج، وكان هذا في كانون الأول 1837. والهجيج هو انتقال الجميع: رجالاً ونساءً وشيوخًا وأطفالاً، مع المواشي إلى مكان آمن. وآمَنُ الأمكنة بالنّسبة إليهم كانت اللجاه أو الوعرة التي تحميهم بكثرة صخورها البركانية ومغاورها، ووعورة مسالكها التي يعرفونها ويجهلها الغرباء. وبدأوا الثورة بمهاجمة القائد علي آغا البصيلي في الثعلة، وكان قد جاء ليباشر بجمع الشّباب وسوقهم إلى الجندية، فأبادوا حملته. وتتالت بعدها الحملات المصرية عليهم، وتتالت وقائعهم معها فبلغت 60 موقعة، أو بحسب مصطلحاتهم، 60 شرًّا أو يومًا أو كونًا، سمّوا بعضها ذبحة كذبحة البصيلي. وقد انتصروا في أكثرها مع أنهم ما كانوا يزيدون عن ألفي رجل، حتى إن لفظة “ درزي” باتت تثير الجزع والخوف في قلوب المصريين لما لاقوه من الأهوال في مواقع اللّجاه مع الدروز. ولا مجال هنا للتكلُّم عن تلك الحملات والوقائع التي تحدّثنا عنها إذ تحدّث عنها الكثيرون13. وإنما هناك ضرورة للتحدُّث عن أبرز الحملات والمراحل، وعن دور الشّيخ يحيى الحمدان.
بعد إبادة الحملة المصرية الأولى أرسل شريف باشا حملة ثانية بقيادة محمد باشا مفتش الجيش المصري، وعددها ثمانية آلاف جندي، وفي المراجع الدّرزية إثنا عشر ألف جندي مزوَّدين بالمدافع التي تعامل معها دروز حوران لأوّل مرة وغنموها وتمكّنوا من سحق تلك الحملة.
إزاء هذا قاد شريف باشا بنفسه حملة ثالثة عددها عشرون ألف جنديّ وفي المراجع الدرزية أكثر من ذلك، لأنها تألّفت من معظم القوات المصرية في بلاد الشام، إضافة إلى جيش يقوده وزير الحربية أحمد منيكلي باشا. لكن الثوَّار هزموها فتشتَّت الناجون منها في مجاهل اللّجاه.

صورة لمجموعة من أفراد قبيلة الرّوله مع أحد الضيوف تعود للعام 1934- تمكن الدروز من كسر شوكة هذه القبيلة التي تحكمت طويلا بالجبل ومراعيه وسكانه
صورة لمجموعة من أفراد قبيلة الرّوله مع أحد الضيوف تعود للعام 1934- تمكن الدروز من كسر شوكة هذه القبيلة التي تحكمت طويلا بالجبل ومراعيه وسكانه

كان يحيى الحمدان، بصفته شيخ مشايخ جبل حوران، القائد الأوّل للثوار، إلا أنّه لم يكن في المواقع الحربية أبرز من بعض القادة المقاتلين الشجعان، وبعض حمَّالي البيارق الذين يصبحون القادة الفعليين في المعارك، لأنّ القتال يتركَّز حول البيرق، وإنّ الدروز الذين يقدِّمون أعيانهم عليهم في المجالس والمضافات كثيرًا ما يتقدمونهم في المعارك، ويبزُّونهم في الشّجاعة والبطولة. ولقد برز لقب “سبع اللجاه” وغيره على العديد من الفرسان، وبرز من الأبطال إبراهيم الأطرش الذي قُتل في إحدى المواقع، وابن أخيه اسماعيل الأطرش، وحسين أبو عسَّاف، وحسين درويش، وقسَّام الحنَّاوي. وكان الشّيخ يحيى الحمدان على رأس مجالس الشورى التي تُعقد للنّظر في كيفية التصدِّي للحملات الزاحفة، وكيفيّة تحرّك هجيج الدروز وتنقُّلهم في اللّجاه، وكيفيّة توسيع نطاق الثّورة للتخفيف من الضّغط على الثوَّار المعتصمين باللّجاه. وبرز إلى جانبه الرئيس الروحي الشيخ إبراهيم الهجري. ومن محاولات توسيع نطاق الثّورة الطّلب من شبلي آغا العريان إيقادها في سفحي جبل حرمون: الشّرقي والغربي.
بعد أن هزم الثوّار الحملة الثّانية أرسل الشّيخ يحيى الحمدان رسائل إلى بعض أعيان دمشق وغوطتها يستحثّهم على الثورة، ومنها رسالة إلى كلّ من الأعيان الآتية أسماؤهم: شيخ ومفتي قرية الهِيجَانة إحدى قرى المرج، وشمدين آغا أكبر أعيان أكراد دمشق، وأبو السّعود أفندي، وعمر آغا البوزلي من أهالي حي الميدان، وعبد المحسن أحد عساكر الجهادية الفارّين من الجيش المصري. وهذا ملخّص الرّسائل، وهو أن الدروز شتَّتوا العساكر المرسلة إليهم فلم يبقَ منها إلا القليل، وأنهم غنموا المدافع والجبخانة والذخيرة، وأنّهم لا يحتاجون إلى مساعدة، بل هم مستعدُّون لمساعدة أهل الغوطة ودمشق إذا هبُّوا إلى الثورة، ليطردوا المصريين من دمشق “ولينقذ الله جمع الإسلام من قوم أهل ضلال”، وأنّهم، أي الدروز، “يضربون بسيف الله والسلطان فيما غيرهم ماتت المروءة فيه”14.
لكن حكمدار الشام شريف باشا تمكّن من منع قيام الثورة في دمشق وغوطتها بأساليب الشدّة والقمع التي بلغت حد إعدام كل يوم أو كل يومين ثلاثة من الدّروز لإرهاب الناس كما يقول معاصر لذلك.
حين علم إبراهيم باشا بهزيمة الحملة الثّالثة حضر بنفسه إلى جبل حوران، ومعه معظم قواته، وأمدَّه والده محمد علي باشا بنجدات كبيرة، فبلغ مجموع حملته عشرين ألف جنديّ فيهم خيرة القادة والضّباط والجنود، وفيهم القائد سيف المعروف بسليمان باشا الفرنساوي. أحاط إبراهيم باشا باللجاه من كل الجهات، وضيَّق الحصار على الثوّار المحاصرين فيها، وسمَّم ينابيع المياه، وبركها التي تسمَّى الواحدة منها “المصنع” وفي تعابير أهل جبل حوران “المطخ”، لكي يضايق الثوار ويميتهم عطشًا إن لم يستسلموا. وبفضل هذا الأسلوب غير الإنساني وغير الأخلاقي، الذي عارضه ناظر الصحة في جيشه كلوت باشا، استطاع أن يجبر الثوار على القبول بالصّلح والتسوية، بعد أن تمكّن من إخضاع الثورة التي قام بها شبلي آغا العريان في جهات وادي التّيم، وشارك فيها دروز جبل لبنان بقيادة الشيخ حسن جنبلاط والشّيخ ناصر الدين العماد.
كان إبراهيم باشا مضطرًّا لترك دروز حوران وشأنهم والعودة إلى شمال سورية لمواجهة الجيوش التي أعادت الدولة العثمانية تجهيزها. وكان دروز حوران مضطرّين لوقف القتال لعدم قدرتهم على مواصلته بعد خسائرهم البشرية والمادية، وبعد أن أصبحوا وحيدين في معركة غير متكافئة. وتوصّل الفريقان إلى تسوية تقضي بخضوع الدروز التام للحكم المصري، وتسليمهم 700 بندقيّة من سلاحهم و2000 بندقية مما استولوا عليه من أسلحة الجيش المصري، مقابل إعفائهم من التجنيد الإلزامي والسخرة، والسماح لهم بحمل السلاح. وهم يعيبون على إبراهيم باشا تسميمه المياه من أجل إخضاعهم، لكنهم يذكرون مأثرته بعدم السماح لأي جندي بالاعتداء على النّساء.

“كان الشيخ شبلي الحمدان كريماً متسامحا مع الفلاّحين ومع المسيحيّين وكان حسنُ الضيافة راغباً في التثقف فسطّر إحدى الصفحات المضيئة من تاريخ الحمدانيين”

أسباب نهاية المشيخة الحمدانية
عاشت زعامة الحمدان في جبل حوران أكثر من قرن ونصف، وكانوا في البداية حكَّامه، وشيوخ مشايخ عشائره. لكنهم مع الزّمن وجدوا أنفسهم أمام عشائر كثيرة، تزداد أعدادها بفضل النزوحات الفرديّة والجماعيّة المتتابعة، وأكبرها بعد سنة 1711، ونزوح عائلات كثيرة من الجبل الأعلى في سنة 1811 على إثر نزاعهم مع جيرانهم، ونزوح عائلات كثيرة من جبل لبنان على إثر انتصار الأمير بشير الشّهابي على الشيخ بشير جنبلاط سنة 1825، ونزوح أكثر من خمسمائة عائلة من صفد إبّان الثورة فيها على إبراهيم باشا. وكانت من بين هذه العشائر، التي تكاثرت أعدادها في الجبل، عشائر ذات نفوذ في الماضي، مثل آل الأطرش وآل عز الدّين وغيرهم، فيما لم يتكاثر آل الحمدان، بل ظلُّوا قليلي العدد لا يستطيعون تأمين الشّيوخ على القرى إلا لأقل من عشرة.
وبهذا أصبح شيوخ عشرات القرى من العشائر الوافدة التي عمدت إلى تقوية وضعها بالتّحالف فيما بينها، والتي كان منها قادة أبطال مثل الشيخ إسماعيل الأطرش والشيخ حسين أبو عساف والشيخ حسين درويش، وهؤلاء برزوا في معارك اللجاه، كما برز غيرهم فيها وفي مجابهة حملة السّاري عسكر سنة 1852، التي انتصر فيها الدروز انتصارًا باهرًا على تلك الحملة وغنموا المدافع والأسلحة، في الوقت الذي لم يشترك الحمدان في الهجوم عليها، كما لم يسجِّل لهم أي دور قيادي للدروز في معاركهم بعد ذلك.
ومع ازدياد عدد النازحين إلى الجبل، وتكاثر المقيمين القدامى فيه، ازداد عدد “الفَلتيّة” وهم الذين لا يملكون أرضًا، ويعملون بالأجرة أو مرابعين، وتوسَّعت دائرة الصّراع الطبقي وازدادت حدّته بين مشايخ يملكون النّسبة الكبيرة من الأراضي، وهم مُعفَوْن من الضّرائب، ويأخذون الضّرائب من الفلّاحين، وبين عامّة الناس (العاميّة) الذين يتطلَّعون إلى التّغيير وإلى تحسين أوضاعهم، ويرفضون الواقع المعاش. ففيما دار الصراع بين دروز جبل لبنان على أساس الغَرضية القيسيّة واليمنيّة، تم الغرضيّة الجنبلاطيّة واليزبكيّة، دار الصراع بين دروز جبل حوران على أساس طبقي وعشائري.
ومقابل شعور “العاميّة” بالغبن وتكتّلهم، وترافق ذلك مع رغبة شيوخ العصبيّات القويّة بالمزيد من النّفوذ، لم يكن المشايخ الحمدانيّون موحَّدين، بل كانوا منقسمين على أساس الفرعين الرّئيسين وهما فرع حمدان الحمدان وفرع أخيه بالتعاهد خليل، وكانت عندهم ثنائيّة الزّعامة وازدواجيتها المتمثَّلة بالزّعامة الأولى في السويداء التي هي المقرّ الأساس، والزّعامة الثانية في عرى. كما كانوا متفرِّقين يكيد بعضهم لبعض، ويعمل شيوخ عرى على أخذ مكان شيوخ السويداء من أجل تسلّم الزعامة الأولى. وهذا ما قام به شيخ عرى يوسف الحمدن من فرع خليل الحمدان الذي أجبر شيخ السويداء يحيى الحمدان من فرع حمدان الحمدان على الانتقال إلى عرى، و حلّ هو مكانه، وهذا ما قام به أيضاً شيخ عرى واكد يحيى الحمدان الذي استعاد السّويداء من الشيخ حسين ابن يوسف الحمدان، وحلّ مكانه فيها. يضاف إلى ذلك وقوف بعض آل الحمدان المصاهرين لآل الأطرش إلى جانب آل الأطرش في صراعهم مع آل الحمدان الآخرين وذلك للوصول إلى زعامة عرى.
إضافة إلى هذه العوامل التي أضعفت الحمدانيين جاءت سياستهم إزاء الفلاَّحين، وبعض شيوخ العشائر، تزيد من النقمة عليهم، وتؤلِّب المزيد من العشائر ضدهم، ذلك أن بعضهم تمادَوْا في ظلم الفلاحين وتسخيرهم، وفرض الضّرائب عليهم، وترحيلهم، والاقتصاص من معارضيهم، واللّجوء في بعض الحالات إلى الشنق في قنطرة من بناء أثري قديم، سُمِّيت لهذا السبب بـ “المشنقة”، وسُمّي الحي الذي تقوم فيه بالسويداء “حيّ المشنقة”. ولقد حاول الشّيخ الحمدانيّ شنق ظاهر عامر الذي حال بينه وبين زواج فتاة لم ترتضيه، لكنّ الدّروز الذين دعاهم إلى الاجتماع في هذه المناسبة منعوه من تنفيذ حكمه الجائر.
كان المشايخ الحمدانيون يستمدُّون، خلال تولّيهم المشيخة، السّلطة والهيبة من رضى الوالي العثماني ومن متصرّف حوران، لكنهم فقدوا جزءًا منهما في سنة 1828 عندما غضب والي دمشق عليهم وقتل أحد شيوخ السويداء الشّيخ يوسف الحمدان. كما فقدوا أيضًا الغطاء المعنوي الدّيني بنزاع شيخ السويداء واكد الحمدان مع الرّئيس الرّوحي الشّيخ إبراهيم الهجري، الذي تطلَّع الفلّاحون إليه لوقوفه إلى جانبهم، وكانوا يتجاوزون الشّيخ الحمدانيّ في سلوكهم الطّريق إلى مقرّ الشيخ الهجري في قنوات، ما أغاظ الشّيخ الحمدانيّ، فهدَّد وتوعَّد مقسمًا على إهانة “هذا الشّوفاني”، أي الشّيخ إبراهيم القادم من الشّوف، إذا لم يلزم حدّه. ومع أنّه لم ينفِّذ ما توعَّد به، فقد خَطَّأته والدته لتجرُّؤئه على هذا الشيخ الجليل الذي يُطلب رضاه وبركته، وأنذرته بقرب زوال سعده. وهكذا كان إذ لم يَطُل الأمر بعد ذلك حتى انتهت المشيخة الحمدانيّة على يد الطّرشان.

مجموعة من قبيلة السردية في سوريا التي بدأت عهدها بقتال النازحين الدروز ثم أصبحت حليفا مهما لهم
مجموعة من قبيلة السردية في سوريا التي بدأت عهدها بقتال النازحين الدروز ثم أصبحت حليفا مهما لهم

نهاية المشيخة الحمدانية في عرى
فيما كانت الزّعامة الحمدانية تشيخ وتضعف، ودوحتهم تذبل، كانت زعامة شابّة تنشأ بشخص الشّيخ إسماعيل الأطرش الذي وصفه الرحّالة بورتر قائلاً: “إنه الأشجع، يتحدَّر من عرق شجاع، فهو يتفوَّق على كثير من الزّعماء الآخرين في شجاعته وبراعة شخصيته. بهذا حصل على نفوذ وتأثير كبيرين، ليس عن طريق مكانة إجتماعية أو ثروة، وليس عن نسب قديم وشريف، بل كمقاتل استطاع بسيفه أن يشقّ طريقه نحو الزعامة”15. وقد أقدم اسماعيل الأطرش حيث أحجم الحمدان في مجالات عدّة، منها نصرة تاجر من دروز لبنان وتحصيل حقِّه من بدو في سهل حوران، ونصرة دروز لبنان في الفتنة الطائفية التي نشبت سنة 1860. وهذا، إضافة إلى شجاعته وقوّة شخصيته، جعل أبناء مجتمع يمجِّد الفروسية، ويزعِّم الأبطال، يتجهون إليه. ثم إنّه زاد من مؤيّديه بالتّحالف مع آل القلعاني وآل عزّام، وبالتّحالف والتصاهر مع آل الحجلي وآل الحنَّاوي.
قال ابن خلدون في مُقدَّمة تاريخه: “ولا بدّ في الرّئاسة على القوم أن تكون من عصبيّة غالبة لعصبيّاتهم واحدة واحدة، لأنّ كلّ عصبيّة منهم، إذا أحسَّت بغلبة عصبيّة الرئيس لهم، أقرُّوا بالإذعان والإتباع”16. فلم تعد عصبية آل الحمدان هي الغالبة بل نافستها عصبيّة آل الأطرش ثم تفوَّقت عليها، وغدت هي العصبيّة الغالبة وفق مبدأ ابن خلدون.
كان الصّراع يشتدّ في الخفاء بين اسماعيل الأطرش وآل الحمدان، وينتظر سببًا مباشرًا، ولو بسيطًا، لينفجر، فجاء هذا السبب سنة 1859 حين أرسل شيخ السّويداء، واكد الحمدان،ومنهم من يقول شيخ عرى هزّاع الحمدان، بائع أمواس للحلاقة إلى اسماعيل الأطرش في القريَّا، من قبيل الهزء به والاستخفاف بشأنه. وحين وصل البائع إلى دار اسماعيل وعلم اسماعيل أنه مُرسَل من الشّيخ الحمداني فسَّر ذلك أنّه رسالة فيها إهانة وتهديد له ولأسرته بالقتل. فاستدعى أنصاره وأعلمهم بالأمر، وسار على رأسهم إلى مكان الزّعامة الحمدانيّة الأقرب، وهو عرى حيث طرد الشّيخ هزَّاع الحمدان منها بدون إراقة دماء.
بات هناك زعامتان في الجبل: زعامة الشّيخ واكد الحمدان في السّويداء، وهي الأهمّ والأقوى على الصّعيد الرسمي، وزعامة الشّيخ اسماعيل الأطرش في عرى، وهي زعامة ناشئة باتت الأقوى على صعيد الوقائع، وعلى الصّعيد الدّرزي خصوصاً. لكن الشّيخ الحمدانيّ قدَّم لوالي دمشق مبلغًا كبيرًا من المال اشترى به موافقته على التخلُّص من الشّيخ اسماعيل الأطرش، فكتب الوالي إلى قائمّقام بصرى أن يسمِّم لاسماعيل، فدسَّ له السّم في فنجان قهوة، ما أدَّى إلى وفاته بعد أسبوع. لكنّ ابنه إبراهيم ورث الزّعامة الطّرشانية بعده، وأكمل ما بدأه.

نهاية المشيخة الحمدانيّة في السّويداء
إن الأسباب التي أدَّت إلى نهاية المشيخة الحمدانيّة في عرى هي في معظمها من الأسباب التي ستؤدِّي إلى نهاية أختها في السويداء، ذلك أنّ واكد الحمدان الذي استطاع أن يزيح بالرّشوة أكبر خصومه وأخطرهم، اسماعيل الأطرش، فشل في تلبية مطالب الفلاَّحين الذين تكاثرت أعدادهم في جهات الجبل بما في ذلك السّويداء التي رحَّل منها واكد الحمدان اَل جربوع إلى أم الرمّان، فوقف هؤلاء ضدّه.
تكتل الفلاَّحون الناقمون على الحمدان، وانضوَوْا تحت لواء قادة منهم ومن مشايخ العشائر المتنفّذة، وقدَّموا إلى الشيخ واكد الحمدان المطالب التالية: “عدم تسخير الفلّاحين وترحيلهم من قراهم- السّماح للفًلتيّة [الذين لا يملكون أرضًا بامتلاك الأرض ولأهل السّويداء بتحويل الأراضي المشاع إلى أراض زراعيّة- دفع الضرائب المتأخرة للدّولة العثمانية من أموال القلاط وهي الضريبة المفروضة على البدو الذين يؤمّون الجبل- عدم أخذ ضرائب تعسّفية من الفلّاحين”17.
لم يكترث واكد الحمدان لمطالب الفلّاحين فزادت معارضتهم له، فاتّجهوا نحو إبراهيم الأطرش الذي تبنَّى مطالبهم، واتّخذ منهم وسيلة لتحقيق طموحه الشّخصي، وهو القضاء على المشيخة الحمدانيّة في السّويداء، وتزعّم الجبل، فسار بهم وبأنصاره نحو السّويداء عام 1869، وما إن وصلت البيارق إلى الكوم الواقعة جنوبها حتى كان الحمدانيّون قد غادروها إلى ولغا بعد أن رأوا كثرة الجموع الزّاحفة إليهم، ولمسوا عدم مقدرتهم على مواجهتها ومواجهة خصومهم في السّويداء نفسها، لقلّة عددهم كأسرة ولقلة مناصريهم من الأسر الأخرى كاَل عزّي وبضع أسر صغيرة غيرهم وهذا يثبت كثرة أعداء الحمدان في المرحلة الأخيرة من عهدهم، كما يثبت وصف بورتر لواكد الحمدان حين قال عنه “إنّ لا شجاعة عنده في القتال”، إذ إنّه تخلَّى بسهولة عن السّويداء حتى أنه تركها بسرعة مع أقربائه دون أن يتمكّنوا من أخذ مقتنياتهم وأموالهم، لكنّ المنتصرين أرسلوا لهم قسمًا منها إشفاقًا عليهم، وإظهارًا للوفاء لهم لما قدّمه أسلافهم للجبل، وتقديرًا لتوفيرهم الدّماء ولتركهم السّويداء بدون مقاومة وبهذا رُحِّلوا بعد أن كانوا هم يُرحِّلون.

في عرى بنى شبلي الأطرش دارا للزعامة الطرشانية ولم يبق في البلدة أو في السويداء آثار بناء تعود إلى آل الحمدان
في عرى بنى شبلي الأطرش دارا للزعامة الطرشانية ولم يبق في البلدة أو في السويداء آثار بناء تعود إلى آل الحمدان

“أهان الحاكم المصري شيخ الحمدانيين فاندلعت ثورة أباد الدروز خلالها ثلاث حملات كبرى للمصريين وشتتوا شملها فاضــطر ابراهيم باشا لقيادة جيش جرار بنفسـه لإخماد الثورة”

لم يتحمّل واكد الحمدان الصدمة إذ لم تمضِ أيام قلائل على تركه السّويداء حتى توفِّي فجأة في ولغا تم تبعه أخوه هزَّاع، وولده إسماعيل خلال أسبوع واحد، ودُفنوا جميعًا بالقرب من زيتونة لا تزال حتى اليوم منتصبة أمام مضافة داود أبو عسَّاف18.
انتقل آل الحمدان من ولغا إلى بصرى الحرير في سهل حوران، وبعدوا عن قومهم وأصبحوا عرضةً للتعدِّيات والمضايقات. فطلبوا من صهرهم شيخ شهباء، أبي طلال وهبه عامر، النّظر في أمرهم، فدعا إلى اجتماع في شهبا حيث قرَّر المجتمعون إعادتهم إلى الجبل. ووافق الشّيخ ابراهيم الأطرش على ذلك شرط ألّا يجتمعوا في مكان واحد، وأن يوزَّعوا في أكثر من قرية. وبناءً على ذلك عادوا إلى الجبل وتوزَّعوا في سليم وشهبا والعفينة وكناكر. وبناءً على الاتّفاق المعقود قبل الزّحف إلى السويداء وطرد اَل الحمدان منها، أخذ اّل الأطرش وأبناء عمّهم ما كان فيها لاّل الحمدان المطرودين، أي ربع الأراضي، فأخذ إبراهيم الأطرش وسط دار الحمدان، وأخذ اّل المعّاز الجانب الجنوبي، واّل العبّاس الجانب الشمالي. واستقرّ إبراهيم في السويداء وله زعامتها، فيما استقرّ أخوه شبلي في عرى، وله زعامتها وربع أراضيها. وأصبح الطرشان شيوخ مشايخ الجبل، ولهم المرتبة الأولى، يليهم آل عامر فآل هنيدي فآل عز الدّين فآل نصّار فآل مرشد، وغيرهم من العشائر التي تتسلسل في الأهمية، لكنّ العامة سيثورون عليهم بعد عشرين سنة، اي سنة 1889 للمطالبة بحقوقهم، كما ثاروا من قبل على الحمدان، وسيتجدّد الصراع الاجتماعي السّياسي في سنة 1947 باسم نزاع الشّعبية والطّرشان.
إنتهى دور آل الحمدان في سنة 1869 على صعيد مشيخة السّويداء التي هي قاعدة جبل حوران، لكنه بقي لهم دور في التّنظيم الإداري الذي أحدثه العثمانيّون بجعلهم الجبل قضاء، وإحداثهم مجلسًا فيه للإدارة والدعاوى، يرأسه قائمّقام، وفيه أعضاء منتخبون من كبار مشايخ العائلات المتنفِّذة، فكان الرئيس الروحي الشّيخ حسين ابراهيم الهجري الشّخصية الثّانية بعد القائمّقام، يليه الرئيس الروحي الشيخ أبو علي قسَّام الحنَّاوي فالشيخ يحيى واكد الحمدان الذي استمرَّ في مجلس إدارة القضاء حتى سنة 191877
وإضافة إلى هذا الدور الإداري المحدود الذي انتهى سنة 1877، حاول الحمدان استعادة دورهم القياديّ، فأبلوا بلاءً حسنًا في موقعة قرّاصة ضد الحملة العثمانيّة التي قدمت سنة 1878 إلى الجبل بقيادة جميل باشا، بينما تراخى إبراهيم الأطرش في ذلك، فلامه أحد أبناء السّويداء، وهدَّده قائلاً: “إنّ صاحب السّويداء سيعود إليها”. ويبدو أنّه كان في نيّة آل الحمدان المقيمين في سليم الانتقال إلى السّويداء “وقد اعتزم أحدهم العودة إليها لولا أن فاجأته المنية، ثم أراد أخوه بعد وفاته أن ينتقل إليها، ولكن المنيّة أيضًا فاجأته قبل أن يحقِّق رغبته. وهكذا لم يتمكّن الحمدانيون من استعادة زعامتهم المفقودة”20.
ناصر شبلي الأطرش العاميّة في ثورتهم على الطّرشان سنتي 1889 و 1890، على أمل أن يتسلّم بفضل ذلك زعامة الجبل مكان أخيه ابراهيم. لكنّه تحوّل عن نصرتهم لأسباب لا يتسع المجال لذكرها. وكان من أطروحات هؤلاء إحلال سعيد بن يحيى بن واكد الحمدان مكان ابراهيم الأطرش.
ظلَّ هناك من يأسف على سقوط آل الحمدان من أبناء حوران جبلاً وسهلاً. ومن هؤلاء الشاعر الحوراني المشهور أحمد العليّان الذي دعا على السّويداء بالخراب والحرق لأنّها رضيت بعزل آل الحمدان الذين كانوا أسياد الجبل، وقيام مشيخة الطّرشان مكانهم، وبعض هؤلاء كانوا رعاة ماعز، لا يزالون إلى اليوم يحملون شهرة “المعَّاز” وهذا ما قاله أحمد العليّان:
يبلاك يا دار السّويدا بطوب يهدّك ويصبغ حنوتك21 بنيل وجــــــــــــــــــــــاز
عـــــــــزلت ابن حمــــــــــــــــــدان قـــــــــدوة بلادنا غاب الملك وتنصّب المعَّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاز

زرنا في سنة 1982 آل الحمدان المقيمين في شهباء، في إطار جولاتنا الميدانيّة التي كانت آنذاك لجمع المعلومات عن بحثنا الذي أصدرناه في سنة 1985 بعنوان “جبل العرب”، فوجدناهم يجهلون تفاصيل ما جرى لأسلافهم في الثّلث الثاني من القرن التاسع عشر، ولا يعلمون إلا القليل من المدوّن عن تاريخهم في جبل حوران. أما المحامي حازم الحمدان من قرية كناكر، وهو ابن يحيى بن عسّاف بن مصطفى بن هزّاع بن يحيى (قائد الثورة على إبراهيم باشا) فقد أرسل إلينا إبّان إعدادنا هذه المقالة رسالة تتضمّن في ما تتضمّنه الأمرين التاليين:

أولاً: أسماء الأكثريّة السّاحقة من أبناء آل الحمدان منذ نزوحهم إلى جبل حوران حتى اليوم ووجود فروع من اَل الحمدان خارج جبل العرب، نشأت بعد انتقال الحمدانيين منه في فترة انتقال المشيخة منهم إلى اّل الأطرش، فلقد نزح قاسم وشعلان وعلي الحمدان إلى جهات حمص وحماه، ومن أبنائهم وأحفادهم تكوّنت الفروع التالية:
1. اّل حمدان في الرستن التابعة لمحافظة حمص.
2. اّل الشيخ في بلدة صوران في منطقة حماه.
3. اّل رزّوق في بلدة صوران في منطقة حماه.
ثانياً: وجهة نظر اَل الحمدان في بعض مجريات الأمور، نوردها كما هي دون مناقشتها، مكتفين فقط بالإشارة إلى انفرادهم بها، وإلى مخالفتها للشائع والمتداول، ومفادها نفي صحّة روايات ثلاث ورد ذكرها سابقاً، هي رواية شنق الشيخ الحمداني لبعض الفلّاحين في القنطرة الأثرية القديمة المعروفة باسم المشنقة، ورواية نزاع الشّيخ الحمداني مع الشّيخ إبراهيم الهجري، ورواية بائع أمواس الحلاقة الذي أرسله الشيخ الحمداني إلى إسماعيل الأطرش. فهذه الرّوايات هي، في رأي المحامي حازم الحمدان نقلاً عن السّلف، من أساليب الدّعاية التي اعتمدها الطرشان وأنصارهم لتشويه سمعة اّل الحمدان، وتأليب الناس عليهم22.
إن وجود اَل الحمدان في الأماكن التي ورد ذكرها -وإن كسائر عموم الناس- هو مما يذكِّر بأسرة قامت بدورٍ بارز في تاريخ جبل حوران (جبل العرب) بحيث لا يبحث أحد فيه إلا ويتطرَّق إليهم لأنّ لهم الفضل الأول والأكبر في تأسيس تجمّع درزي غدا أكبر تجمّعات الموحِّدين (الدروز) في دول لبنان وسورية وفلسطين. ولا يزالون يُذكرون بالفخر والخير بالرّغم من الشوائب التي اعترت مسيرتهم وشوَّهت بعض بهاء صورتهم، وأدَّت في آخر الأمر إلى نهايتهم.
ذكرت لنا المعمِّرة السيدة فايزة فلحوط (مواليد 1895) وهي والدة الشاعر والمسؤول الثقافي والسياسي في سورية، الدكتور صابر فلحوط، أنشودة قيلت في الهجيج أثناء قدوم حملة ممدوح باشا على الجبل، وهي تصف ما حلَّ بالأراضي أثناء الحملة، وتذكر طلبات ممدوح باشا الشبيهة بطلبات من سبقه من القادة العثمانيين وتذكّر بإبراهيم باشا المصري، وباَل الحمدان23. ومما جاء في أبياتها الخمسة البيتان التاليان:
أرض حوران صـــــــــــــــــــــــــــارت بــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــور ومـــــــــــــــــــــــــــا ظل فيها فــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدَّان
وما ظل فيها ولا فــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدّان هيـــــــــــــــــــــــــــذي قرايــــــــــــــــــــــــــــــــــــا الحمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدان

الهوامش

1. أمين اَل ناصر الدين: الأمراء اَل تنوخ، مجلة “ أوراق لبنانية”، المجلد الثالث ص 300-303
2. مقالة سليمان أبو عز الدين في مجلّة “الكلية” عدد تشرين الثاني 1925، وقد اوردناها كاملة في كتابنا: جبل العرب… دار النهار، دار عويدات 1985، ص399-402.
3. مجلة “ الهلال” عدد أوّل كانون الأول 1910. وقد أوردنا نص مقالة المؤرخ نعمان قساطلي في كتابنا: جبل العرب… ص 379-383.
4. حنا ابي راشد: جبل الدروز، منشورات مكتبة الفكر العربي، طبعة 1961، ص 50.
5. بركهاردت: رحلات إلى سوريا، تعريب سلامة عبيد، بعنوان: جبل الدروز في القرن التاسع عشر، ص 43.
6. حنا أبي راشد: جبل الدروز، ص51.
7. تاريخ حيدر الشهابي المعروف بالغرر الحسان، منشورات الجامعة اللبنانية 1969، القسم الثالث، ص 674.
8. المرجع نفسه، ص795.
9. برجيت شيبلر: انتفاضات جبل الدروز – حوران، دار النهار 2004، ص 79.
10. بركهاردت: المرجع المذكور سابقاً، ص 41-42.
11. مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا لمؤلف مجهول، تحقيق أحمد غسان سبانو، ص 81.
12. قِصّة اللّجاه للشيخ حسين إبراهيم الهجري (مخطوطة) ص 48 من النسخة التي نحتفظ بصورة عنها في مكتبتنا.
13. للمزيد من المعلومات أنظر كتابنا: جبل العرب ص 177-189. ومقالتنا في مجلة “ الضحى” بعنوان: ثورة الموحِّدين الدروز على الحكم المصري”، العدد 10 نيسان 2014، ص 28-37. وعباس أبو صالح: تاريخ الموحِّدين الدروز السياسي في المشرق العربي، منشورات المجلس الدرزي للبحوث والإنماء 1980، ص 209-232.
14. أنظر عن هذه الرسائل، ونص إحداها، أسد رستم: المحفوظات الملكيّة المصريّة، منشورات المكتبة البولسيّة، طبعة ثانية 1986، المجلد الثالث، ص 334-336. أيضاً مذكرات تاريخيّة عن حملة إبراهيم باشا على سوريا، ورد ذكرها، ص84.
15. برجيت شيبلر: انتفاضات جبل الدروز، ص 79.
16. ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: تاريخ ابن خلدون، مؤسسة الأعلمي، ص 132.
17. هيثم العودات: انتفاضة العاميّة الفلاحية في جبل العرب، ص 32. وللمزيد من المعلومات انظر كتابنا: جبل العرب ص 202-208. وعبد الله حنا: العامية. الانتفاضات الفلّاحية في جبل حوران، دار الأهالي 1990، ص 107 وما بعدها.
18. علي أبو عسّاف: تاريخ اّل أبي عسّاف، دار جبران، السويداء 2012، ص 86.
19. فندي أبو فخر: تاريخ لواء حوران الاجتماعي 1840-1918، دمشق 1999، ص 38-39. وعبد الرحيم أبو حسين: حوران في الوثائق العثمانية 1842-1918، ص41.
20. شبلي العيسمي واَخرون: التعريف بمحافظة جبل العرب، وزارة الثقافة والإرشاد القومي السورية 1962، ص60 -61.
21. حنوتك: حجارك.
22. رسالة المحامي حازم الحمدان إلينا بتاريخ 10 ايلول 2016، وفيها إجابات عن أسئلة عدة وجّهناها إليه.
23. شريط مُسجّل بتاريخ 21ــ 12ــ 1987.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي