أحياناً… عندما لا يكون للوقائع والأحداث تفسير منطقيّ (يقتنع به فكرنا) يصبح من الأسهل أن نقول مصادفة.
ربّما تكون مصادفة… ربّما لا.
منذ أيامٍ قليلة إستوقفتني عبارة لمحي الدين بن عربي تقول: «الزمانُ مكانٌ سائلٌ، والمكانُ زمانٌ متجمّد». عبارة إختصرت الكثير من العلوم، وأفضت إلى تأمّلاتٍ عميقة في عملية الإحتواء، إحتواء السائل للجامد أو الجامد للسائل، إحتواء النقطة للدائرة أو الدائرة للنقطة، إحتواء البذرة للشجرة أو الشجرة للبذرة، إحتواء النسبي للمطلق أو المطلق للنسبي، وغيرها الكثير الكثير من الإحتواءات التي تشمل كلّ منظور وغير منظور؛ لدرجة يصبح فيها المُحتوي والمُحتوَى كياناً واحداً لا يختلفان إلاّ بإختلاف درجة تذبذبهم في الكون. وقد يتوافق هذا مع ما أظهرته الدراسات التحليلية للعلوم الدينية على إختلافها من أن الوجود هو تجلٍّ للطاقة الإلهيّة غير الظاهرة، وإظهار مجال تمدّدها في المادّة الظاهرة. وبذلك من الممكن القول أنّ مفهوم الزمان والمكان لا وجود لهما إلاّ في حدود العالم النسبيّ المنظور، وفي حدود الفكر المادّي البشري. هذا الفكر الذي ليس باستطاعته العمل إلاّ بحدود هامش معيّن، تماماً كالهامش الذي ترى من خلاله العين، أو تَسمع من خلاله الأذن، وكل ما عدا هذا الهامش أو يتجاوزه، يُعتبر غير موجود بالنسبة للفكر، لأنه ببساطة لا يستطيع ترجمته بواسطة الحواس الخمس.
إن التسارع بوتيرة الإكتشافات والأبحاث العلمية، تثير اليوم أكثر من أي وقت مضى حفيظة الفكر الهائج الذي، لو سلّم جدلاً بوجود أبعاد غير منظورة لامتناهية، عليه أن يسأل كيف يمكن تأكيدها أو الإحساس بها؟
يقال بأن الإنسان لديه من الأجهزة ما يكفي لمعرفة كلّ حركة بالكون، وهذه الأجهزة تسمى أجهزة إستشعار. وعملية الإستشعار هي عملية ميكانيكية في الجسم البشري مرتبطة بمدى قدرة أجهزة الجسم على نقل المعلومات إلى الفكر، ومرتبطة أيضاً بمدى إنفتاح وإتساع الفكر ليلحظ كلّ المتغيرات من حوله. لكن ما يعيق عمليات الإستشعار هو إنجذاب العقل وحصره دوماً بالعالم المادّي، وعدم إدراك حقيقة الكائن خلف هذه المظاهر الماديّة. وبحسب العالم الطبيعي «آرثر أدينجتون Arthur Eddington» الذي قال بأن البشر ليس لديهم أدنى فكرة عن معنى حقيقة الوجود لأي شيء سوى ما تراه أعينهم. وهذا ما يؤكد أنه في حالات الوعي العادي، هناك ما يزيد عن 99% من الذبذبات الكونية غير مرئيّة. لذلك إن إدراك اللامنظور يتطلّب معرفة المنظور أي العالم المادّي ومصدر قوانينه.
كل شيء في الكون يتمدّد ويتقلّص، إنه قانون الكون وسرّه (التمدّد والتقلّص) وقد جاءت النظريات والعلوم الحديثة لتُقرّ بأن الإنسان جزءٌ متمدّدٌ من هذا الكون، وأن الفكر البشري قادر على التمدّد بشكلٍ يستطيعُ تجاوزَ محدوديته، وبالتالي تجاوز حدود الزّمان والمكان. وفي هذه الحالة من التمدّد، يشعر الإنسان بأنه موصول بالكون، ويستمد طاقته من هذا الكون بإعتباره جزءاً لا يتجزأ منه.
أن حالة التمدّد هي عمليات كيميائية في الجسم تحدث نتيجة الوعي، والشعور بالحبّ، والرضا، والإنسجام مع موسيقى الذات ومع قوانين الطبيعة… من هذا المنطلق، كل حركة وكل معلومة تصدر من الكون، تتسرّب إلينا بطريقة إنسيابية عبر ما يسمى «أجهزة الوعي»، من دون أن تتعرض لحواجز الفكر الكثيف؛ لأن الفكر في هذه الحالة، يكون أيضاً بحالة تمدد، ممّا ينتج عنه قبولاً وتسليماً لأيّ فكرة، أو حالة، أو معلومة، دون تحليلٍ أو تعقيد. فيحدث أحياناً أن نكتب أو نتكلّم أشياءً بشكلٍ إنسيابي عفوي دون تحضيرٍ مسبقٍ لها، وكأن أحدٌ ما يمليها علينا، أو كأن الكونَ يكتبُ أو يتكلّم من خلالنا. ويَحدث أحياناً أن تصلُنا معلومات عن أحداثٍ قبل وقوعها، فنستغرب ولا نجد لها تفسير. هذا ببساطة عمل أجهزة الوعي بالإنسان.