الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, أيار 1, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

طب الطوارئ في أيام الحرب

يختلف عمل أقسام الطوارئ في المستشفيات أيام الحرب عن أيام السلم. في أيام الحرب تستقبل أقسام الطوارئ عدداً كبيراً وعادة دفعات عدّة من المرضى في نفس الوقت. الإصابات تكون مختلفة الخطورة، وهنا يأتي دور الفريق الطبي والإداري في المستشفى للقيام بما يلي.

يتم تصنيف الإصابات حسب خطورتها وفرز المصابين على المناطق:
المنطقة الحمراء، وهي الإصابات الخطرة وتعطى الأولوية لهؤلاء المصابين، لأن التأخير في مباشرة العلاج والإسعافات تعرّض حياتهم للخطر، إذ أنّ الوقت وسرعة العلاج حاسم بالنسبة إلى حياتهم ووضعهم الصحي.
المنطقة البرتقالية، الإصابات ذات خطورة عالية وهي بالخطورة أخفّ من المنطقة الحمراء.
المنطقة الصفراء، يتم إرسال المرضى إلى المستشفى والذين هم بحاجة إلى علاج طارئ
المنطقة الخضراء، حيث يوجد الحالات المستقرّة.
وأخيراً الحالات الميؤوس منها، أو الموت السريريّ.
تقييم الفرز يعتمد على تقييم الضرر في الأعضاء الحيوية للحياة؛ الدماغ، جهاز التنفس، القلب والأوعية الدموية، الوعي، التنفس، النزيف إلخ.

العناصر المهمة في خطة الطوارئ عديدة وتشمل:

– إمكانيات المستشفى وتجهيزاتها (أسرّة، تجهيزات غرف العمليات، المعدات الطبية، بنك الدم والأدوية، إلخ.).
– الطاقم الطبي ذات الاختصاصات الطبية الجراحية المتنوعة المطلوبة.
– الطاقم الإداري المساعد.

مِن الأسس:

– حماية الطاقم الطبي.

– تنظيم الفوضى التي تحدث عادة عند وصول عدد كبير من الإصابات دفعة واحدة، بالإضافة إلى وصول عدد كبير من الأقارب أو المرافقين.

– متابعة المرضى حسب التشخيص المعطى لكل مصاب.

– دقة التنظيم تلعب دور مهم في إنقاذ الأرواح.

خلال الأعمال الحربية، الإصابات تكون في أنحاء مختلفة من الجسم. أخطرها في منطقة الرأس، الرقبة الصدر والبطن، والتي تسبب أكبر نسبة من الوفيات.
إصابات الأطراف شائعة أيضا والسبب الرئيسي للوفاة يكون عادة النزيف الحاد من الشرايين الرئيسية أولاً وثانياً من الكسور المتعددة والتي تسبب نزيف وصدمة للجسم.

النزيف:

الإسعافات الأولية في مرحلة ما قبل المستشفى تكمن في وقف النزيف إذا كان من الأطراف عبر الضغط على الجرح وربط الساق أعلى من مكان الجرح النازف، والأفضل كتابة تاريخ وساعة شد الربطة على الساق لأن أنسجة الساق والعضلات تحتمل عدم وصول الدم لمدة أقل من ٦ ساعات قبل أن تصاب بالغرغرينا.
كما يجب الإسراع في نقل المصاب إلى أقرب مستشفى لكي يتم تقييم حالته من قبل فريق الفرز الطبي وتقديم العلاج الطارئ له.

درجات خسارة الدم (النزيف)

– الدرجة الأولى
خسارة ٧٥٠ ملل. من الدم (أي 15% من كمية الدم الموجودة في الجسم): لا تحتاج إلى تعويضها بإعطاء المريض دم.

– الدرجة الثانية
خسارة ما بين ٧٥٠ ملل – ١.٥٠٠ ملل. (أي 15% – 30% من كمية الدم الموجودة في الجسم): تتميز بتسارع ضربات القلب وانخفاض في ضغط الدم، وشحوب الجلد واهتياج المريض.

– الدرجة الثالثة
خسارة ما بين 1،500 ملل. – 2،000 ملل. (أي 30% – 40% من كمية الدم الموجودة في الجسم): ازدياد ضربات وتسارع دقات القلب، هبوط أكثر للضغط، تقلّ كمية البول عند المصاب، وبداية دخول المصاب في حال الصدمة.

– الدرجة الرابعة
خسارة أكثر من 2،000 ملل. (أي أكثر من 40% من كمية الدم الموجودة في الجسم): برودة الجسم الشحوب الكبير للجلد، بداية فقدان الوعي أو فقدانه، يسبقه ازدياد الاهتياج عند المصاب.
إنّ أولى الأولويات تكمن في تأمين وصول الأوكسيجين إلى الرئتين وعدم انسداد مجاري التنفس، وتأمين المؤشرات الحيوية للجسم. ومه هنا يأتي الدور الأساسي للفرز الطبي للمصابين حسب خطورة الإصابة، والتي يتم تقييمها عدة مرات من خلال مراقبة المؤشرات الحيوية، وتحديد الأولوية للذين سيخضعون للعمليات الجراحية.

إنّ أخطر الإصابات كما ذكرنا هي إصابات الرأس والصدر والتي تكون من أكبر المسببات للوفيات.

أهم الأدوية والمواد المطلوب وجودها في الطوارئ:

– الأمصال وأنواعها المختلفة وتوابعها.
– الأدوية المسكنة للآلام.
– الفئات المختلفة للدم.
– أدوية التخدير والمسكنات.
– الأدوية التي تساعد في استقرار المؤشرات الحيوية والتي ترفع ضغط الدم (الأيبينفرين ومشتقاته).
– مخارج وأنابيب الأوكسيجين.
– المضادات الحيوية.
– المواد المطهرة والشاش وغيرها من المواد للتغيير على الجروح.

زراعات الكفاية المنزلية

في النصف الثاني من القرن الماضي، بدأت زراعة الخضار التي كانت محصورة في مساحات قليلة تتطور وتزدهر حتى أصبحت مصدرًا أساسيًا في حقل الإنتاج الزراعي وتدرّ مالًا وفيرًا للمزارعين الذين أتقنوا هذا العمل من تأصيل للبذار والنبات وتحديد موعد الزرع مع ممارسة الدورة الزراعية، وذلك بفضل التقنيات الحديثة المتطورة التي تعتمدها هذه الزراعات وصولًا إلى المستوى الجيد في الإنتاج.

ومن خلال اكتشاف نباتات مرغوبة من قبل المستهلك اللبناني وحملها خصائص وراثية جيدة ومتطورة من حيث قدرتها على مقاومة الآفات الزراعية وجفاف التربة وتأقلمها مع جميع أنواعها، إضافة إلى قدرتها على إنتاج أكبر كمية ممكنة من الثمار والخضار الورقية والساقية مع مواصفات مميزة للبذور والثمار عن الأصناف السابقة، وكذلك من خلال تنظيم عملية التسميد الذواب وطرق الري والمكافحة العضوية والكيميائية حسب الحاجة لمنع إتلاف المحصول، وبعدها يتمّ نشرها بين المزارعين في مختلف المناطق الزراعية. كما يمكن تصدير الكثير من هذه المنتجات للأسواق الخارجية إضافة إلى تصنيع المنتجات الغذائية خاصة الخضار التي لا تصلح للتسويق والإستهلاك الطازج.

لما كانت زراعة الخضار من أهم الزراعات في لبنان والتي تعطي مردودًا ماديًا وفيرًا للمزارع خاصة إذا ما أتقن عمله واهتمّ بالمزروعات من حيث توقيت الزرع، أنواع الأتربة، المعاملة، المكافحة، الري، التغذية، القطاف ثم التوضيب، البيع، والتصنيع… فإنّ زراعة الخضار تلعب دورًا أساسيًا في الإقتصاد اللبناني وخاصة على صعيد زراعة الخضار الموسمية السريعة الإنتاج التي تعطي إنتاجها في وقت قصير لا يتجاوز ستة أشهر، نتكلم هنا على زراعة الأراضي أو المساحات الصغيرة، وغالبًا ما تستخدم هذه الزراعة في حدائق المنازل أو في الحقول الجبلية الصغيرة المساحة ممّا يزيد من أهمية التوسع في زراعة الخضار وزيادة إنتاجها وتحقيق عائدًا سريعًا من المال، أو توفير المصاريف التي تنفق على شراء الخضار، ويعلم أنّ الخضار التي زرعها واعتنى بها على ما تحتوي.

ومن المهم جدّا أن يلجأ الإنسان إلى زراعة وتأمين حاجاته اليومية من الخضار التي يستهلكها بشكل أساسي في غذائه، من خلال زراعة حدائق وشرفات وأسطح المنازل بواسطة الكثير من الأواني مثل الأصص والصناديق الخشبية والأكياس…..كما هو وارد في الصور المرفقة.
تنمو الخضار بشكل عام في جميع الأتربة لكنّها تفضل وتنمو جيدًا في الأراضي التي تحوي أتربة مختلطة وعميقة ومفككة وخصبة (أي غنية بالمواد الغذائية) والجيدة الصرف للمياه الزائد.

مواعيد الزرع: تختلف حسب أنواع الخضار وإلى أي مجموعة تنتمي، فمنها ينتمي إلى مجموعة الخضار الشتوية وأخرى إلى الربيعية أو الصيفية أو الخريفية، وإنّ ارتفاع مواقع الزرع عن سطح البحر يحدد في الكثير من الأحيان نوع الخضار وتوقيت الزرع.

النضج: لكل نوع من الخضار موعد خاص لمراحل النضج (حسب الإستهلاك وليس النضج النهائي وتكوين البذور) بمعنى آخر، في أي مرحلة من نمو النبات أو الثمار يراد أكلها طازجة أو مطهية، وحسب الغاية من زراعته والأجزاء التي تؤكل (الأوراق، الدرنات، الساق، الثمار، الأبصال، الأزهار، السوق الهوائي والأرضية).

تقسم نباتات الخضار إلى عدة مجموعات من حيث تشابه صفاتها في كل مجموعة معينة أو بعدة صفات. هذا يسهل لنا دراسة أنواع النبات. إنّ التقسيم النباتي من أفضل الأعمال التي استخدمت في دراسة مورفولوجيا نباتات الخضار، لأنّ هذا التقسيم مبني على أساس الصفات الفيزيولوجية (الطبيعية) ودرجة القرابة الوراثية بينها، واتخذت الزهرة كأساس لتقسيم النبات، لأنّها عضو ثابت في تركيبتها ولا تتأثر أو تتغير بتغيّر الظروف البيئية المحيطة بها فتبقى كما هي وللعائلة التي تنتمي إليها.

يمكن من خلال هذا التقسيم التعرف على درجة القرابة الوراثية بين النبات وإمكانية تلقيحها بين بعضها البعض لإنتاج أصناف جديدة او أصناف محسنة من حيث جودة إنتاجها وشكلها ولونها ورغبة المستهلكين لها، كما يفيد التقسيم في العمليات الزراعية وحاجات النبات للخدمات الحقلية مثل الحراثة، مكافحة الأعشاب والآفات، التسميد العضوي والكيميائي،…

تمّ تقسيم الخضار حسب الأجزاء التي تؤكل وتضم المجموعات التالية:
1- خضار جذرية: تضم الخضار التي يؤكل جذرها، وتشمل الجزر، الفجل، اللفت، الشمندر، البطاطا الحلوة.
2- خضار ساقية: وتشمل الخضار التي تؤكل منها الساق في التغذية سواء كانت هذه الساق هوائية كما في: الهليون أو ساق منتفخة كما في: الكرنب، وإمّا ساقًا متحورة تحت سطح التربة مثل: البطاطا والقلقاس،…
3- خضار بصلية: تضم الخضار التي تؤكل أبصالها، وتشمل البصل، الثوم، الكراث.
4- خضار زهرية: تضم الخضار التي تؤكل منها الأجزاء الزهرية، وتشمل القرنبيط، أرضي شوكي، البروكولي.
5- خضار ورقية: تضم الخضار التي تؤكل أوراقها، وتشمل الملفوف، الخس، السبانخ، الرشاد، الهندباء، البقدونس، الشمرة، البقلة، الروكا.
6- خضار التي يؤكل منها أعناق الأوراق، وتشمل السلق، الكرفس.
7- خضار ثمرية: تضم الخضار التي تؤكل ثمارها قبل نضجها أو ناضجة. وتشمل الناضجة: البندورة، البطيخ الأحمر والأصفر. غير الناضجة: الكوسى، الخيار، المقتي أو القثاء، القرع، اللوبياء، البامية، الفليفلة، الباذنجان.
8- المحاصيل البذرية: تضم النباتات التي تؤكل بذورها، وتشمل البازيلا، الحمص، الفاصوليا، الفول، الذرة.

الزراعات الربيعية

تقسم بحسب موعد الزرع، وتضمّ مجموعتين:
– الزراعات الربيعية المبكرة للخضار التي تعطي إنتاجًا في فصل الربيع مثل: الفجل، الروكا، الرشاد…..
– الزراعات الربيعية المتوسطة والمتأخرة للخضار التي تعطي إنتاجها خلال فصل الربيع وتمتد إلى فصلي الصيف والخريف، وهي التي تبدأ بالإنتاج بعد زراعتها بحوالي بين 20 إلى 50 يوما مثل: الخيار، القثاء، الكوسا، اللوبياء، السبانخ، الهندباء… ومنها ما يعطي إنتاجا في أواخر الربيع ويستمر حتى فصل الخريف مثل: الفليفلة، الباذنجان، السلق، البامية… ومنها يبدأ بالإنتاج بعد زراعته بحوالي 80 يوما مثل: البندورة والفاصولياء. أمّا البطاطا فتزرع في أوائل فصل الربيع وتقلع بعد حوالي من 90 الى 150 يوما أي بعد اكتمال نضج درنات البطاطا وحسب أنواعه ومعاملته أو العناية به من حيث الري والتسميد والتحضين أو التطمير والتعشيب ومكافحة الآفات التي تعتريه وتؤدي إلى تخفيض إنتاجيته….

الزراعات الخريفية

بعد أن ترتوي الأرض بمياه الأمطار خلال شهري أيلول وتشرين الأول ويكون قد تمّ إنبات غالبية بذور النباتات والأعشاب البرية التي تزاحم الخضار المراد زرعها على الغذاء والماء، وعندما (يطيب يد الأرض للحراثة) أي تصبح التربة قليلة الرطوبة نوعا ما نعمد إلى حراثتها حراثة عميقة بواسطة السكة على عمق حوالي 40 سم، التي تؤدي هذه الحراثة إلى موت النباتات البرية بالإضافة إلى خلط التربة مع السماد العضوي المخمر إذا ما وضع لتحسين خواص التربة وتغذية النباتات التي تزرع في المستقبل القريب، ثم تزرع بذور القمح أو الفول أو البازيلا مع الحراثة السطحية بواسطة الفرامة، وإذا ما أراد المزارع زراعة الثوم فيلجأ بعد الحراثة العميقة وموت النباتات البرية إلى تقسيم الأرض على خطوط وتحديد أماكن إنشاء الأثلام، ثم حفرها ووضع السماد العضوي المخمر في الأثلام وخلطه مع تراب قاعها وتسويتها وزراعتها بفصوص الثوم.

زراعة الخضار الصيفية

زراعة الخضار الصيفية في لبنان هي من الزراعات الهامة التي تلعب دورًا أساسيًا في الإقتصاد اللبناني وتعطي مردودًا جيدًا للمزارع، خاصة إذا ما أتقن عمله من حيث توقيت الزرع، العناية بالنبات من مكافحة الآفات، ري النبات، التسميد العضوي والكيميائي لتغذية النبات، القطاف والتوضيب ومن ثم البيع والتصنيع … وخاصة الخضار الموسمية التي تعطي إنتاجا مبكرًا ووفيرًا، هذا على صعيد زراعة الحيازات أو المشاريع الصغيرة (من دونم حتى خمسة دونم)، مما يزيد من أهمية التوسع في زراعة الخضار وزيادة إنتاجها وتحقيق عائدًا سريعًا.

تنحصر زراعة الخضار بشكل أساسي في لبنان على عدة محاصيل خضرية، أهمها:
– الفصيلة الباذنجانية تضمّ: البندورة، البطاطا، الباذنجان، الفليفلة.
– الفصيلة القرعية تضم: الخيار، الكوسا، البطيخ الأحمر والأصفر، القرع، القثاء، اللقطين أو اليقطين.
– الفصيلة البقولية أو القرنية تضم: الفاصولياء، اللوبياء، الفول، البازلاء، الحمص، العدس.
– الفصيلة الصليبية تضم: الملفوف، القرنبيط، اللفت، الفجل، البروكولي.
– الفصيلة الخيمية تضم: الجزر، البقدونس،…
– الفصيلة المركبة تضم: الخس،…
– الفصيلة النرجسية تضم: البصل، الثوم، الكراث.
– الفصيلة الرمرامية تضم: السلق، السبانخ، الشمندر السكري،…
– الفصيلة الخبازية تضم: البامياء،…
وتختلف إنتاجية هذه الأصناف حسب اختلاف عوامل الوقت والمعاملة والأحوال الجوية وطبيعة التربة وعمقها، وصلاحيتها للزرع وإصابتها بالآفات الزراعية من حشرات وعناكب وفطريات وبكتيريا وفيروسات وغيرها. هذا بالإضافة إلى عامل نقص العناصر الغذائية التي تحتاجها النبات أو زيادة إستهلاك عنصر غذائي أكثر من غيره مما يؤدي إلى ظاهرة عدم امتصاص باقي العناصر.

ونظرًا لأهمية الدور الذي تلعبه الخضار في تحقيق الأمن الغذائي وفي رفع مستوى المعيشة وتدعيم الإقتصاد الوطني، نضع بين أيادي المزارع اللبناني، أكان محترفًا أو تقليديًا، هذا الموضوع الذي يتطرق إلى سبل كيفية زراعة الخضار بدءًا من تهيئة الأرض حتى القطاف.

أهمية الخضار الغذائية

تتصدر الخضار على اختلاف أنواعها قائمة المواد الغذائية التي تقدم لجسم الإنسان ما يحتاج إليه من الأملاح المعدنية والفيتامينات الضرورية إضافة إلى وجود الألياف النباتية الهامة للتغذية واستمرار الحيوية. فالإنسان منذ القدم أدرك حاجته لجميع أنواع الخضار الشتوية منها والصيفية، فاعتمدها في قوائم طعامه اليومي.

لذا، زراعة الخضار لها أهمية ملحوظة في تأمين أجزاء من الإحتياجات الغذائية للإنسان. والخضار هي نباتات عشبية حولية أو ثنائية الحول. الحول الواحد معروف بالموسم الواحد أي الخضار التي تزرع في وقت أقل من سنة على سبيل المثال: البندورة تزرع بدءًا من شهر نيسان في المناطق الساحلية حتى شهر حزيران في المناطق الجبلية، وتتوقف عن الإنتاج في شهر تشرين الثاني عند تدني الحرارة. الحولان أي موسمان وهي النباتات التي تعطي الجزء الذي يؤكل في الحول الأول والأزهار والبذور في الحول الثاني مثل البقدونس والسلق والملفوف…

وتزرع الخضار سنويّا حسب حاجة السوق، منها ما تستخدم أجزاؤها للتغذية فقد تؤكل ثمارها طازجة أو مطبوخة مثل البندورة، الملفوف، البازيلا،… ومنها ما تؤكل نوراتها الزهرية مثل القرنبيط، البروكولي،… أو أوراقها مثل الخس، البقدونس، السلق، الرشاد،… أو جذورها مثل الفجل، الجزر، الشمندر، اللفت، البطاطا الحلوة،… أو أبصالها مثل البصل، الثوم،…

تأصيل نباتات الخضار

إنّ تأصيل النبات يستوجب الأخذ بالإعتبار لعدة نقاط هامة. يجب مراقبة النبتة خلال الموسم لمعرفة قدرتها على تأقلمها مع المناخ والأرض المزروعة فيها، مقاومتها للأمراض والحشرات الضارة، تحملها للعطش، وأيضا مراقبتها من حيث النمو الخضري الجيد للخضار الورقية والإنتاجية العالية للأزهار والثمار، بالإضافة الى شكل الثمار المتناسق وجودتها العالية من حيث الحجم واللون والطعم هذا في الخضار الثمرية. تجمع بذور الخضار الورقية والزهرية بعد نضجها وتحفظ للموسم الذي يليه بعد تجفيفها ونقعها لمدة دقيقتين في محلول نحاسي مثل: البندورة، الفليفلة، القرنبيط، الباذنجان،… أمّا في الخضار الدرنية، فتجمع الدرنات الصغيرة بعد القلع لتزرع في الموسم القادم كما في البطاطا.

دور الأنشطة اللّاصفية في إثراء العملية التربوية “تجربة مدارس العرفان”

يعتبر النّشاط المدرسي عنصرًا أساسيًا في العملية التربوية التي تساهم في تربية النشء تربية شاملة متكاملة، وامتدادًا للمناهج الدراسية وميدانًا تطبيقيًا يمارس فيه المتعلمون ما تلقونه من معلومات. وتنقسم الأنشطة التربوية المدرسية إلى قسمين:

الأنشطة الصفية (Classroom Activities) وتتمّ داخل الغرفة الصفية، والأنشطة اللاصفية (Extracurricular Activities) وتتمّ خارج الغرفة الصفية.

تسهم الأنشطة اللاصفية بكل أشكالها في تنمية شخصيات المتعلمين وتربيتهم إجتماعيًا ونفسيًا وجسديًا وفكريًا، ما يساهم في إعدادهم لحياة مستقبلية ذات أثر كبير في تعلمهم بقدر يفوق أحيانًا التعليم داخل غرفة الصف.

مفهوم الأنشطة اللاّصفية

هي أنشطة تعليمية مخططة ومقصودة تنمّي لدى المتعلمين إتجاهات ومهارات تساعدهم على التكيّف مع المجتمع الذي يعيشون فيه، والمشاركة في حلّ المشكلات والقضايا الإجتماعية. وعادة ما تكون هذه الأنشطة مكملة للمنهاج التربوي الكلي، بحيث تخطّط لها الأجهزة التربوية وتوفّر لها الإمكانات اللّازمة لتحقيق الريادة في العملية التربوية.

تؤدّي الأنشطة اللاّصفية دورًا هامًا في إكساب المتعلمين المهارات اليومية وفي الكشف عن مواهبهم وقدراتهم واستثمار طاقاتهم، وتحسين التحصيل العلمي والمعرفي لديهم، وتنمية مهارات البحث، وإثراء ميولهم وإثارة دافعيتهم، وعلاج بعض الحالات النّفسية التي يعانيها بعض المتعلمين مثل الخجل والإنطوائية والخوف.

أشكال وصور الأنشطة اللّاصفية التقليدية:

1- الإذاعة المدرسية: تعتبر من أهم أشكال تفعيل الأنشطة اللّاصفية التي تجعل المتعلم فاعلًا وايجابياً، ولها دور هام في تنمية الثقة بالنّفس لديه وتعويده على النطق السليم والقراءة الصحيحة، فضلًا عن دورها في تثقيف المتعلمين إجتماعيًا، سلوكيًا، وطنيًا، وعلميًا. وكلما كانت فقرات الإذاعة متنوعة (رياضية، فنية، مسرحية، دينية..) تضاعفت الفائدة منها وزاد تأثيرها على المتعلمين.

2- النّوادي المدرسية: يساهم وجود هذه النوادي في القدرة على العمل ضمن فريق، واتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية، فضلًا عن تنمية المهارات والقدرات وتعزيز الشعور بالإنتماء والولاء. مثل: النادي الكشفي، نادي الفنون الشعبية، نادي الموسيقى والمسرح، نادي البيئة.

3- العمل التّطوعي: يعتبر انخراط المتعلمين في الأعمال التّطوعية داخل أو خارج حدود المدرسة أحد أبرز أشكال المشاركة الفاعلة في الأنشطة اللاّصفية، حيث ينمّي لديهم شعور المساعدة والعون في المجتمع، ويحفزهم على الإنتاج وتحمل المسؤولية، ويمنحهم القدرة على حلّ المشكلات.

4- الرّحلات العلمية والتّرفيهية: تعتبر من الأنشطة التي تربط المتعلم بمجتمعه وتكوّن له مجموعة مهارات اجتماعية. ومن أمثلة الرحلات العلمية الزيارات الميدانية للشركات والمؤسسات، زيارة المتاحف والمجمعات العلمية، زيارة المواقع الأثرية التاريخية..

5- الدّورات التدريبية وورش العمل: وهدفها العمل على تزويد المتعلمين بمهارات تكنولوجية وفنية، والقيام بدورات خاصة باللّغات والذكاء العقلي والإنفعالي وغيرها.

برامج الإثراء المدرسي الحديثة (Extracurricular Activities ECA)

هي أنشطة لاصفية تتمّ بشكل أسبوعي أثناء اليوم الدراسي أو بعده، وتوفر فرصًا للمتعلمين لاكتشاف مواهبهم وقدراتهم وتسمح لهم بالإبداع والإبتكار، فضلًا عن تنمية روح المنافسة الصحيحة وروح الفريق. وتتضمّن برامج الإثراء:
– اللغات والثقافة
– تعزيز التعليم (دورات مكثفة، مجموعات للدراسة والعمل..)
– العلوم والتكنولوجيا الرقمية (الروبوتات، نادي العلوم، انتاج الأفلام، مهارات علوم الحاسوب..) ويساهم الروبوت تحديدًا في تقديم المثال العلمي الأفضل لمفهوم التكامل بين العلوم، إذ يعتمد المتعلم على ما يمتلكه من معلومات ومعرفة سابقة من خلال المواد والمناهج الدراسية (الرياضيات، العلوم، الهندسة، التكنولوجيا..) لاستخدام الأدوات والقطع وتصميم جسم الروبوت.
– الفنون الإستعراضية والإبداعية (الدراما، الحرف اليدوية والفنون..)
– مهارات الخطابة ومهارات القيادة
– الرياضة والمغامرة
– الطهي
– خدمة المجتمع والمسؤولية الإجتماعية
– قسم السعادة (أو نادي السعادة): يتيح للمتعلمين اكتشاف شخصياتهم الفردية وتطوير ابداعاتهم وتعزيز الاستفادة من هواياتهم بالإشتراك مع المعلمين والمعلمات.

تجربة مدارس العرفان

اعتمدت مدارس العرفان منذ تأسيسها الأنشطة اللاصفية وعملت مع الوقت على تطويرها مواكبةً لكل عمليات التطور المعرفي والتكنولوجي والبحثي. وبالتّالي هي تعتمد اليوم أنجح برامج الإثراء المدرسي، أهمها:

– الأنشطة الرياضية المختلفة
– الرّحلات التّرفيهية الهادفة
– الدراما والموسيقى: حيث أدخلت برامج التربية المسرحية والموسيقية بشكل منهجي ولا منهجي بإشراف مختصّين، ما ساهم في تكوين شخصيات المتعلمين بعيدًا عن الخوف والخجل والتردّد فضلًا عن تنمية الحس الفني لديهم.
– الحساب الذّهني الفوري: والذي تميّزت به مدارس العرفان على مستوى العالم، حيث احتلت المركز الأول عالميًا بين 25 دولة في العام 2019 في دبي، فضلًا عن التفوق الذي أحرزه طلابها خلال مشاركاتهم الدولية في تركيا، جنوب أفريقيا، تايلاند وغيرها..
– الروبوت و Rubik’s cube: حيث عمدت إدارة مدارس العرفان إلى إدخال مفهوم الروبوت بدءًا من مرحلة الروضة (3 سنوات) حتى المرحلة الثانوية بحيث يصبح المتعلم قادرًا على تشكيل الروبوت وبرمجته.
– برامج القيادة: من خلال تدريب المتعلمين على الخطابة والإلقاء والحضور والتفاعل مع الجمهور.
– المختبرات الإفتراضية: وهي عملية منهجية ولامنهجية واكبتها مدارس العرفان لاكتشاف مواهب وقدرات المتعلمين وتنمية الإبتكار والإبداع لديهم.
– النّوادي المتنوعة: النادي البيئي، نادي التصوير، نادي الفنون الشعبية، نادي اللغات..
– قسم السعادة: وهو محور كل ما ذكر سابقًا، حيث يشرف هذا القسم على برامج الإثراء والأنشطة اللاصفية من خلال فريق عمل متكامل، هدفه تعزيز روح المرح والسعادة في نفوس المتعلمين وتكريس مفهوم الأنشطة والألعاب، والبرامج التربوية المسلية الّتي تساعد في تطوير شخصيات المتعلمين.

حقوق الملكية الفكرية والفنية:
هل لا تزال محميّة؟ وكيف؟!

يشعر قارئ الكتب ومثيلاتها، والمستمع إلى الألحان وما شابهها، والمشاهد للشاشات على أنواعها. بأن ثمة تعدّ يصيب مثيلاتها بطريقة أو بأساليب أصبحت مبتكرة، وتؤدي إلى التعدي بالضرر على أصحابها فيقعون بالخسارة المادية والمعنوية معاً، وقد قيل منذ زمن طويل، إن من يفقد مالاً، فإنه فاقد بعض الشيء، أما من يفقد أفكاراً، فإنه فاقد كل شيء؛ كون المال المفقود ممكن تعويضه، بينما الأفكار المبتكرة من المستحيل المجيء بما يعوّضها ولو من زمن بعيد.

من هنا، عمل المشرع الدولي والمحلي معاً على وضع نصوص قانونية مبتكرة من شأنها، ووفق أحكام رادعة، أن تتدارك الخسائر المحكي عنها والحؤول دون التمادي في ارتكاب الجرائم المؤدية إليها ولو لمجرد الردع بفرض غرامات أو تعويضات تحول دون حصولها أو بإعادة الحال إلى ما كانت عليه، قبل ارتكاب فعل التعدي المشكو منه؛ مع مساعي الاجتهاد القضائي للوصول إلى حلول عملية في حال حصل الفعل الضار؛ كما كان للتحكيم ووسائل حل النزاعات البديلة الأخرى الدور الفاعل في هذا المجال…

فماذا عن النصوص والمؤسسات الدولية، الحامي لحقوق الملكية الفكرية؟!

ماضياً وحاضراً؟ وسيكون لجوؤنا إلى نصوص بعض التشريعات والاتفاقيات والاجتهادات الدولية والعربية، دون الدخول في تفصيلاتها المتفرقة والمتشعبة، وإنما العمل على استنتاج مكوناتها منذ العمل على استخراجها وحتى الوقت الحاضر وإلى الحدود التي تخدم معرفة مضمونها، وبالشكل الواضح والمفهوم لغوياً وتشريعياً.

قد يكون ناقل القول ترداد ما أحدثته «ثورة المعلوماتية» من تغييرات أساسية ملفتة في اللجوء إلى أدواتها المختلفة لمعرفة الكثير من الأمور التي كانت طي الكتمان، والاطلاع زمن عدم وجود تلك الآليات، ومن هنا أهمية الحديث عن القوانين التي تنظم كيفية التعامل معها بالنظر لأن الإنسان يبقى هو المرجع الأساسي للتقصي عن تلك المعلومات سواء إيجابياً أو سلبياً ولا سيما فيما يتعلق بالمساس بحياة هذا الإنسان اليومية وملامسة الأمور الشخصية من تلك الحياة في كل ما يتعلق بتصرفاته أباً وأخاً وصاحب عمل وعامل إلى غيرها من مواقع مختلفة فرضت آليات التواصل الاجتماعي اللجوء إليها في كل لحظة وعلى مدار الساعة.
من هذه المنطلقات نقرأ الاهتمام البالغ بالجانب الحقوقي للتعاطي مع مصادر المعلومات المستحدثة وخاصة في الجوانب الإلكترونية منها؛ إلا أن ما يستدعي الانتباه كأولوية وجوب حماية أصحاب الملكية الفكرية، الأدبية والفنية منها، وهذا ما عملت التشريعات على تنظيمها بالشكل الذي ينظم الحماية المطلوبة، لتصبح مرجعاً هاماً لضمان حقوق التأليف والنشر والتوزيع وعلى مختلف مراحل الإنتاج الفكري، وهو ما من شأنه تعزيز تلك الحماية بما يشكل رادعاً للغير عن سرقة الملكية المعنوية، والتي قد تكون الملكية الوحيدة التي يقتات منها مالكها هو وربما عائلته معه لمواجهة متطلبات حياته المادية، الأمر الذي يحول بالطبع دون تمادي البعض من «تجار الورق» في هذه التعديات على أنواعها والتي كثرت في الآونة الأخيرة وفي مختلف البلدان سيما المتنامية منها أو ما يسمى الدول المنتمية إلى العالم الثالث.

إن أصحاب الحق بالحماية يتطلعون إلى الجهات المعنية بحمايتهم تجاه من يعتدي على حقوقهم المشروعة والواضحة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً؛ وهي بالطبع المحاكم صاحبة الاختصاص والصلاحية بالموضوع، والتي لم تغيّر لديها حتى الآن، وإلا فيما نذر على اجتهادات ملفتة وبالأعداد المطلوبة لطمأنة أصحاب الحقوق، لا بل بالعكس، نلاحظ تمادياً من المعتدين لضربهم، غير عابئين بالجهات المسؤولة عن ردعهم، وهذا أبشع ما يواجه النصوص الجيدة تجاه الحماية السيئة أو المنتقصة المضمون.

هذا ما سنعالجه بقدر الإمكان في الواقع الحقوقي القائم حالياً سيما في بعض الدول الأوروبية (فرنسا وإنكلترا) وبعض البلدان العربية المعنية بالموضوع (مصر، لبنان، الأردن)، إن هذا يستتبع العرض للطبيعة القانونية لحق المؤلف بشكل عام في النظام الفرنكفوني والأنجلو ساكسوني على حدّ سواء…

طبيعة حق المؤلف

يقسم الفقه عادة الأموال، إلى أموال مادية؛ وأخرى غير مادية، أما الأولى منها فهي الأموال التي لها وجود مادي والتي يمكن إدراكها بالحس، والأموال المادية، إما أن تكون أموالاً منقولة، أو أن تكون غير منقولة أي عقارات، والتي لا يمكن إدراكها بطريق المشاهدة والحس وإن صح أن تكون محلاً لبعض الحقوق كحقوق الابتكار أو الاختراع بالمعنى الواسع للكلمة.

هذا وقد ذهب العلاّمة عبد الرزاق السنهوري في موسوعته المعروفة إلى أن الشيء هو ما يصلح أن يكون محلاً للحقوق المالية، فشرط الشيء – كما يعتقد – أن يكون خارج عن التكامل، أي أنه قابل للتعامل…
إن حقوق الابتكار، سيما في التأليف بمختلف أشكاله وصوره، تعتبر من الحقوق المستحدثة في معارف القانون، إن برزت أهميتها نتيجة تطوّر العلم والفن والأدب وتطور وسائل نقلها للجمهور، لذلك فإن الفقه لم يستقر على رأي واحد في تحديد طبيعة حق المؤلف هذا، وانعكس هذا الاختلاف على قرارات المحاكم، فذهبت هي الأخرى إلى اتجاهات مختلفة في تحديد طبيعة المؤلف، مما أسهم في تباين النزعات الفكرية وظهور المذاهب الفردية أو الجماعية التي نظرت إلى طبيعة حق المؤلف نظرات متباينة بظروف المجتمع ومنطق تطوره.

وواقع الحال، إن النظريات المعنية بتحديد طبيعة حق المؤلف متعددة ومتباينة، ذهب بعضها إلى القول، أن حقوق المؤلف المعنوية والمالية من طبيعة واحدة؛ غير أن أصحاب هذا الاتجاه اختلفوا في تحديد هذه الطبيعة، فمنهم من رأى أن حقوق المؤلف المعنوية والمالية حقوق ملكية، ومنهم من اعتبرها جمعاً حقوقياً لصقيه بشخصه، وذهب البعض الآخر إلى التمييز بين حقوق المؤلف المعنوية وبين حقوقه المالية.

ومع تحفظنا الدائم لعرض النظريات المجردة، لا نجد مفراً من الاطلاع على بعضها، لما لهذه النظريات من انعكاس واضح في فهم مضمون مواد القانون المعني بالموضوع لاحقاً.
– فماذا عن هذه النظريات؛ ودائماً باختصار مفيد؟!

1- نظريّة وحدة حق المؤلّف:
ذهب أصحاب هذه النظرية، إلى أن حقوق المؤلف المختلفة عن طبيعة واحدة، لكنهم لم يتفقوا على تحديد طبيعة هذه الحقوق، وإن اتفقوا على وحدة طبيعة مختلف حقوقه.

لقد ذهب فريق من هؤلاء إلى أن حقوق المؤلف المعنوية والمالية تعتبر حق ملكية، بالنظر لما لهذه الحقوق من مزايا حق الملكية، كحق احتكار واستثمار المؤلف إنتاج فكره، والحقوق التي يمارسها على إنتاجه، غير أن هذا الجانب من الفقه وبعض القضاء لم يتفق على وضع حقوق المؤلف هذه من نوع واحد من أنواع الملكية، فمنهم من ذهب إلى اعتبارها من أقدس أنواع الملكية، لا بل تعلو ملكية العقار، وذهب رأي آخر إلى اعتبارها حق لملكية منقول، كما نادى رأي رابع بأنها ملكية خاصة قائمة بذاتها تختلف عن أنواع الملكية الأخرى.

فيما اعتبر البعض الآخر أن حقوق المؤلف تنحدر من منبع واحد هو شخصية أو ذات المؤلف، إذ لم ينظر إلى المادة المنتجة وشكلها المادي المحسوس، وإنما إلى هذا الإنتاج باعتباره جزءاً من شخصية منتجة متأصلاً فيه، لأن الابتكار ينطوي على براعة موهبة، ويتوقف على مقدار من المعرفة يمتلكها المؤلف نفسه، وتكون الفكرة جزءاً من شخصية ويطلق على هذه النظرية، النظرية الشخصية.

2- نظرية حق المؤلف؛ حق الملكية:
إن تشريع حماية الإنتاج الذهني، يعتبر حديث الظهور حتى في المجتمعات الغربية، والتي سبقتنا في هذا المجال، إذ سارت هذه الحماية جنباً إلى جنب مع احترام الحريات والحقوق الفردية والعامة معاً، فقد كان أصحاب المكتبات والتجار في روما القديمة في أوائل عهد المسيحية يبيعون كتب المؤلفين المشهورين بعد شرائهم الأصول من أصحابها، ويلجأ الناشرون من جهتهم إلى إبرام اتفاقيات مع المؤلفين فينتشرون بها الأصول من أصحابها، ويلجأ الناشرون من جهتهم إلى إبرام اتفاقيات مع المؤلفين فينشرون بها الأصول منها بمبالغ يحددها الاتفاق ويريدون الكثير من النسخ لطرحها في السوق، وبذلك كان المؤلفين يفقدون حقوقهم من ثمار انتاجهم، لأن الكتاب بمجرد صدوره، ومتى اشتريت أصوله، اعتبر في متناول يد الجميع (الدكتور أحمد العمري؛ «إبرام الاختراع» القاهرة، دون ناشر أو سنة الصدور).

ظلّ الوضع على هذا النحو حتى اندلاع الثورة الفرنسية، وهو وضع يفهم منه، أن حق المؤلف هو حق ملكية، ينتقل بالبيع إلى الغير بصورة كاملة، ويعقد صاحب المؤلف عندئذ جميع حقوقه على إنتاجه الذهني، معنوية كانت تلك الحقوق أو مادية، ويتغير الوضع مع الثورة المذكورة تغير الوضع، ذلك لأن القوانين التي صدرت في الفترة ما بين عام 1791 – 1793 أكدت حق استثمار المؤلف بحق التأليف: (P. Roubies; Le Droit de propriete industrielle. Paris. 21 No 1952).

ومنها تشريع نابليون الصادر في العام 1791 المتعلق بحماية حق الملكية الفنية والأدبية والذي جاء فيه: «كل اكتشاف وابتكار جديد أياً كان نوعه يكون ملكاً لمؤلّفه».

بناءً عليه، إذا ظهر المصنف إلى الوجود اختص به الفنان وحده وحقّ له احتكاره؛ كما نص القانون الفرنسي الصادر عام 1793 في مادته الأولى على ما يلي:
«يتمتع المؤلفون الذين يدبّجون كتباً من أي نوع، والملحنون والموسيقيون والمثالون ومبدعو الصور على اختلافها الذين يرسمونها أو يحفرونها، بحق الاستئثار ببيعها وتوزيع منتجاتهم في مختلف أنواع الجمهورية الفرنسية طوال حياتهم وبحق التنازل عن ملكيتها كلاً أو عن جزء منها للغير».

وبذلك تكون هذه النصوص قد حددت طبيعة هذا الحق بأنه ملكية حقيقية تتحول في ظل القانون إلى كسب مادي يحتفظ به المؤلف، وفي ذلك يقول الشاعر الكبير «لامارتين» في تقرير رفعه إلى الجمعية الوطنية عن الملكية العلمية والأدبية في 13/4/1841 بمناسبة النظر في مشروع قانون حماية الملكية الأدبية: «إن فكرة المؤلف مستمدة من روح الله وهي بمثابة الإلهام، وهي تهبط إلى عقله لتساعد البشر، ثم تعود إلى قواعدها الأولى وتترك أثراً لامعاً في ذهنه وذهن من انتفع بعبقريته كما تتناول أولاده من بعده، وعليه؛ إذا الكتاب نزل إلى السوق التبادلي التجاري، تحوّل إلى قيمة منتجة ورأسمال له ربحه، شأنه في ذلك شأن أي شيء آخر له قيمته ويمكن بما له من قيمة ويمكن بما له من قيمة أن يصبح من عداد الممتلكات الخاصة» (د. العمري، المرجع السابق نفسه ص 17 وما بعدها).
ويقول «روسكو باوند»: «إن الملكية الأدبية هي أقدس أنواع الملكية وإن قانون الملكية يشمل في أوسع معانيه الملكية الأدبية المذكورة».

أجهزة الوعي

أحياناً… عندما لا يكون للوقائع والأحداث تفسير منطقيّ (يقتنع به فكرنا) يصبح من الأسهل أن نقول مصادفة.
ربّما تكون مصادفة… ربّما لا.

منذ أيامٍ قليلة إستوقفتني عبارة لمحي الدين بن عربي تقول: «الزمانُ مكانٌ سائلٌ، والمكانُ زمانٌ متجمّد». عبارة إختصرت الكثير من العلوم، وأفضت إلى تأمّلاتٍ عميقة في عملية الإحتواء، إحتواء السائل للجامد أو الجامد للسائل، إحتواء النقطة للدائرة أو الدائرة للنقطة، إحتواء البذرة للشجرة أو الشجرة للبذرة، إحتواء النسبي للمطلق أو المطلق للنسبي، وغيرها الكثير الكثير من الإحتواءات التي تشمل كلّ منظور وغير منظور؛ لدرجة يصبح فيها المُحتوي والمُحتوَى كياناً واحداً لا يختلفان إلاّ بإختلاف درجة تذبذبهم في الكون. وقد يتوافق هذا مع ما أظهرته الدراسات التحليلية للعلوم الدينية على إختلافها من أن الوجود هو تجلٍّ للطاقة الإلهيّة غير الظاهرة، وإظهار مجال تمدّدها في المادّة الظاهرة. وبذلك من الممكن القول أنّ مفهوم الزمان والمكان لا وجود لهما إلاّ في حدود العالم النسبيّ المنظور، وفي حدود الفكر المادّي البشري. هذا الفكر الذي ليس باستطاعته العمل إلاّ بحدود هامش معيّن، تماماً كالهامش الذي ترى من خلاله العين، أو تَسمع من خلاله الأذن، وكل ما عدا هذا الهامش أو يتجاوزه، يُعتبر غير موجود بالنسبة للفكر، لأنه ببساطة لا يستطيع ترجمته بواسطة الحواس الخمس.

إن التسارع بوتيرة الإكتشافات والأبحاث العلمية، تثير اليوم أكثر من أي وقت مضى حفيظة الفكر الهائج الذي، لو سلّم جدلاً بوجود أبعاد غير منظورة لامتناهية، عليه أن يسأل كيف يمكن تأكيدها أو الإحساس بها؟

محي الدين ابن عربي

يقال بأن الإنسان لديه من الأجهزة ما يكفي لمعرفة كلّ حركة بالكون، وهذه الأجهزة تسمى أجهزة إستشعار. وعملية الإستشعار هي عملية ميكانيكية في الجسم البشري مرتبطة بمدى قدرة أجهزة الجسم على نقل المعلومات إلى الفكر، ومرتبطة أيضاً بمدى إنفتاح وإتساع الفكر ليلحظ كلّ المتغيرات من حوله. لكن ما يعيق عمليات الإستشعار هو إنجذاب العقل وحصره دوماً بالعالم المادّي، وعدم إدراك حقيقة الكائن خلف هذه المظاهر الماديّة. وبحسب العالم الطبيعي «آرثر أدينجتون Arthur Eddington» الذي قال بأن البشر ليس لديهم أدنى فكرة عن معنى حقيقة الوجود لأي شيء سوى ما تراه أعينهم. وهذا ما يؤكد أنه في حالات الوعي العادي، هناك ما يزيد عن 99% من الذبذبات الكونية غير مرئيّة. لذلك إن إدراك اللامنظور يتطلّب معرفة المنظور أي العالم المادّي ومصدر قوانينه.
كل شيء في الكون يتمدّد ويتقلّص، إنه قانون الكون وسرّه (التمدّد والتقلّص) وقد جاءت النظريات والعلوم الحديثة لتُقرّ بأن الإنسان جزءٌ متمدّدٌ من هذا الكون، وأن الفكر البشري قادر على التمدّد بشكلٍ يستطيعُ تجاوزَ محدوديته، وبالتالي تجاوز حدود الزّمان والمكان. وفي هذه الحالة من التمدّد، يشعر الإنسان بأنه موصول بالكون، ويستمد طاقته من هذا الكون بإعتباره جزءاً لا يتجزأ منه.

أن حالة التمدّد هي عمليات كيميائية في الجسم تحدث نتيجة الوعي، والشعور بالحبّ، والرضا، والإنسجام مع موسيقى الذات ومع قوانين الطبيعة… من هذا المنطلق، كل حركة وكل معلومة تصدر من الكون، تتسرّب إلينا بطريقة إنسيابية عبر ما يسمى «أجهزة الوعي»، من دون أن تتعرض لحواجز الفكر الكثيف؛ لأن الفكر في هذه الحالة، يكون أيضاً بحالة تمدد، ممّا ينتج عنه قبولاً وتسليماً لأيّ فكرة، أو حالة، أو معلومة، دون تحليلٍ أو تعقيد. فيحدث أحياناً أن نكتب أو نتكلّم أشياءً بشكلٍ إنسيابي عفوي دون تحضيرٍ مسبقٍ لها، وكأن أحدٌ ما يمليها علينا، أو كأن الكونَ يكتبُ أو يتكلّم من خلالنا. ويَحدث أحياناً أن تصلُنا معلومات عن أحداثٍ قبل وقوعها، فنستغرب ولا نجد لها تفسير. هذا ببساطة عمل أجهزة الوعي بالإنسان.

شهر كانون أول، ذكرى مولد: الأمير شكيب أرسلان (الرابعة والخمسون بعد المئة)، والمعلّم كمال جنبلاط (السادسة بعد المئة):
ما مثّلا؟ وما الباقي من نهجهما وتراثهما المشترك!

كان الإمام الغزالي يقول (في المنقذ من الضلال): «لا تعدم أمتي من مصلحٍ على رأس كل مئة».

استشراف الإمام الغزالي ينطبق، وعن حق، على قادة ومفكرين ومصلحين عظام، في غير زمان ومكان، ولدى معظم الشعوب؛ وهذا دأب البشرية، لا تعدمُ أملاً وهي في مستنقع اليأس، ولا نورًا ولو ادلهمّت الظلمة.

وهو حالُ الأمير شكيب أرسلان، وبعده كمال جنبلاط، لدى شعبنا بالتأكيد.

الأمير شكيب أرسلان، (1869-1946)، «أمير البيان وشيخ العروبة والإسلام»، هو المجاهد «الأممي» في سبيل حاضر قومه ومستقبلهم، بكل طريقة كانت متاحة، ومهما غلت التضحيات.
ناصبَ الاستعمار، وبخاصة الإنجليزي والفرنسي، العداء الشديد، لأنّه أدرك باكرًا بحسّه السياسي الرفيع أنّ مزاعم الحرية التي جعلاها عنوانًا لحربهما على السلطنة العثمانية عشية الحرب العالمية الأولى لم تكن صادقة. لقد كانت الفخ الذي وقع في الإستقلاليون العرب، وبخاصة مؤتمر باريس (1912) الذي جمع الإستقلاليين العرب المطالبين بالخروج من الحكم العثماني، وحركة الشريف حسين في الحجاز التي تحوّلت لبعض الوقت قبلة كل الأحرار العرب، إلى أن تكشّف غدر الإنجليز بها وإعطائهم الوعد بدولة يهودية في الوقت الذي كانوا يعدون الشريف حسين بمملكة عربية مستقلة.

ما بقي من شكيب نضاله الأممي في سبيل كل قضية تخص العرب والمسلمين بين نهاية القرن التاسع عشر وإلى اندلاع الحرب العالمية الثانية، 1939. بعضُ تجليات هذا النضال الأممي، بعضها فقط، أن كان في حوزته أربعون تكليفًا من جمعيات وهيئات استقلالية عربية كي يمثّلها أمام عصبة الأمم في جنيف، وكانت أحد أسباب انتقاله من منفاه الطوعي في برلين (1919-1925) إلى جنيف ليكون قريبًا من مقر عصبة الأمم ومداولاتها.

ما بقي من شكيب في نضاله العملي الميداني هو قيادته سنة 1911 لكتيبة من متطوعة جبل لبنان (حوالي 500 مجاهد) سار بهم من مقره الصيفي (صوفر) إلى بئر السبع في فلسطين، حيث أوقفه الإنجليز، إلى أن تمكن مع بعضهم من متابعة مسيرتهم (تحت ستار الصليب الأحمر) إلى ليبيا للقتال مع المجاهدين الليبيين ضد الغزوة الإيطالية على ليبيا. وحين سأله صحافيّون في مصر، لماذا تأتي من بلاد الشام لتقاتل في بلد بعيد؟ ذهب جوابهُ مثالاً لكل القوميين العرب لاحقًا؛ قال: «إن لم ندافع عن صحارى طرابلس الغرب، لن نستطيع حفظ جنائن طرابلس الشام».

يضيق المجال عن سرد تأثير شكيب في العالمين العربي والإسلامي، من أندونيسيا إلى طنجة. وواحدٌ فقط من الأدلة أنّ كتابه «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيره، أعيد طبعه أكثر من مرّة. لقد آنس هؤلاء فيه الرجل الموثوق الذي لا يسعى لمصلحة شخصية أو فئوية، وإنّما لمصلحة شعبه وأمته. قال فيه الأمير عبدالله، أمير شرق الأردن، في مهرجان تأبينه في حيفا سنة 1947: «لقد مات الذي لم يكن فوقه فوق؛ لم يكن كرجال هذا الزّمان الذي يسعون وراء مآرب شخصية».
وما بقي من شكيب أكثر من عشرين كتاباً، بعضها موسوعي (حاضر العالم الإسلامي)، وأكثر من ألفي مقالة، في دوريات العالم العربي، من مشرقه إلى مغربه، وفي كل باب فكري أو أدبي أو سياسي يخص العرب والمسلمين.

أمّا كمال جنبلاط، وكان «المعلّم» بحق، فيختصر في شخصه كلّ الميزات الأثنتي عشرة التي رآها الفارابي ضرورية في «رئيس المدينة الفاضلة» عنده. ولأنّ الاثنتي عشرة ميزة تلك يصعبُ اجتماعها في شخص واحد، قال: إنّ ستًّا منها تكفي ليستحقّ رأس المدينة الفاضلة مكانه. لكنّ المثير أنّ الاثنتي عشرة ميزة اجتمعت كلّها في شخصية المعلّم كمال جنبلاط: من امتلاك الفهم العميق والشجاعة والفضيلة الأخلاقية وسائر القيم، إلى الزهد في الدينار وسائر متاع الدنيا. وهذه لم تجتمع لشخص كما اجتمعت في كمال جنبلاط، المعلّم.
وهاكم بعض القيم التي جسّدها كمال جنبلاط، أي لم تكن شعارات ومُثُلاً فحسب، على سبيل المثال لا الحصر:
– قيمة الحرية في معانيها، لا يساوِم عليها، ولا يتخلّى عنها، مهما كلفه ذلك.
– قيمة التقدّم السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي بما يساعد شعبنا على السير إلى الأمام.
– قيمة الحداثة، بما تعنيه من فكر عقلاني وعلم ونظام بعيدًا عن الخرافات والشّخصنة وعبادة الشخص أو الفكرة، وبعيدًا عن الفوضى.
– قيمة الأخلاق الصارمة، إذ لا شيء يغدو ذا معنى إذا افتقد قيمته الأخلاقية، أو إذا ساوم عليها.
وأولها قيمتا الصدق والإخلاص، إضافة إلى رفض مظاهر الإنحلال كافة، إلى التعفف، في أقصى ما يحمله من معنى، والذي غدا مثالاً!
– قيمة الشجاعة، حين يكون على حق، لا يهاب سلطانًا أو قوة ولو كانت أعتى قوى الأرض.
– قيمة المثابرة والعمل المباشر، فكان ينتقد الكثيرين بوصفهم «كلامويين» و«كسالى»، وقد طبّق العمل المباشر على نفسه، شخصيّا، في أكثر من مناسبة.
– قيمة القوة في الحق، وإعلانه، والتضحية في سبيله؛ مع شجاعة الإعتراف بالخطأ والاعتذار.
– قيمتا المثالية والواقعية في آن معًا، فالمثالية المطلوبة يجب أن لا تعني الطوباوية والابتعاد عن الوقع والوقائع؛ كذلك ليست الواقعية التنكر للمثل والقيم الصحيحة والمفيدة.
– قيمة النقد الصارم، العميق، لا للآخر فقط، بل لنفسه أيضًا، وبكل قسوة كما رأينا في كتابيه: «الممارسة السياسية» و«هذه وصيتي»؛ كتابان لم يُستفد منهما بالقدر الكافي.

وأخيراً، قيمة محبة الناس، وبخاصة الفقراء، الذين منحهم كل ما يملك تقريبًا؛ من راتبه في مجلس النواب الذي وقفه للمحتاجين طوال حياته، إلى منحه ما يملك من أراضٍ للفلاحين أو الساكنين فيها، إلى منح قضية الفقراء حياته، في النهاية!
ألم يقل الشاعر الجنوبي شوقي بزيع يرثيه: «…أبا المساكين، إرجع نحنُ ننتظرُ»
أمّا ما يجمعهما، أو المشترك النضالي والثقافي بينهما، فالمقال الموقوف للذكرى فقط يعجز تعداد المشتركات تلك.
بعض ما جمع المعلّم كمال جنبلاط إلى الأمير شكيب أرسلان، على سبيل المثال لا الحصر:
– مناضلين مخلصين لشعبهما وأمتهما.
– زهدهما بكل المراكز والمناصب السياسية
– عداؤهما الشديد للاستعمار ومخططاته وسياساته
– ثقافتهما العالمية الواسعة
– إنتاجهما الفكري الكثيف: 20 كتاباً و 2000 مقالة لشكيب، ورسائل في كل بيت تقريبًا، قال فيها البعض، لو جمعت لكان وزنها طنّا من الورق!
وأكثر من 4000 فقرة ثقافية من كمال جنبلاط، بين كتبٍ (جاوز عددها الستين) ومقالات ومحاضرات.

وأخيراً، فقد جمعهما الإخلاص لفلسطين وقضيتها الكبرى المحقة؛ وبعض ذلك عند شكيب:
– أن آخر كلمتين نطق بهما، بل كتبهما وقد أعياه المرض النطق قبيل وفاته بساعات، «أوصيكم بفلسطين»!
– أمّا كمال جنبلاط فقد كان نصير القضية الفلسطينية الأكثر إخلاصًا لها، في لبنان وسائر العالم العربي على الأرجح. وقد كافأه أصدقاء فلسطين في العالم العربي بأن كرّسوه «الأمين العام للجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية».
وكافأه شعب فلسطين في الداخل بأن جعلوا اسم كمال جنبلاط لميادين ومدارس ومؤسسات، ( في نابلس وسواها) بل جعل شارة الحداد على روحه على سور المسجد الأقصى في القدس الشريف.
وبعد، فنحن نظلم شكيب أرسلان وكمال جنبلاط حين نحشرهما في إطار ضيّق، هنا أو هناك،
وبالمقابل نحنُ نطلق قيمتهما الفكرية والأخلاقية كاملة حين نرنو إليهما باعتبارهما نهجًا يستحثنا على متابعته، ومدرسة في أكثر من باب نتعلم فيها ومنها باستمرار.

التزوير في السردية الاعلامية الغربية المتصلة بحرب غزة
التزوير والإنحياز والتقصير

شكّلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد معركة طوفان الاقصى في السابع من تشرين الاول (اوكتوبر) من العام 2023 محطة مهمة في فهم ومعرفة السياسات الإعلامية الغربية تجاه القضية الفلسطينية وما يعانيه الشعب الفلسطيني من قبل العدو الصهيوني من جرائم انسانية وحرب ابادة تنتهك كل معايير حقوق الانسان والمعاهدات العالمية حول الحروب وكذلك كل المعايير الانسانية والاجتماعية، ان من خلال قتل واستهداف العدد الكبير من السكان الفلسطينيين والذي تجاوز عشرات الالاف ومن ضمنهم الاف النساء والاطفال او من خلال تدمير واستهداف المستشفيات والكنائس والمساجد وسيارات الاسعاف، وكذلك فرض الحصار لفترة طويلة على سكان القطاع ومنع وصول الماء والطعام والادوية والوقود.

لكن الخطير في هذه الحرب اللانسانية والمدمرة والتي وصلت الى ما يمكن وصفه «بحرب ابادة» بكل ما تعنية الكلمة، ان العديد من وسائل الاعلام الغربية ساندت العدو الصهيوني في هذه الحرب وبررّت جرائمه وعدوانه وعمدت الى شيطنة قوى المقاومة والشعب الفلسطيني وخصوصا حركة حماس.

وسنحاول في هذه المقالة تقديم بعض النماذج عن كيفية التزوير في السردية الاعلامية الغربية لحرب غزة وكيفية شيطنة قوى المقاومة وكيفية تبرير جرائم العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني.

وسنتطرق في هذه المقالة الى عدة نقاط ومنها:

أولاً: من يتحمل مسؤولية ما قامت به حركة حماس في معركة طوفان الاقصى وكيف تعاطت بعض وسائل الاعلام الغربية في هذا المجال .

ثانياً: كيفية مقاربات وسائل الاعلام الغربية للجرائم التي ارتكبها العدو الصهيوني ضد قطاع غزة .

ثالثاً: الحلول التي كانت تعرضها بعض وسائل الاعلام الغربية لانهاء الحرب والدعوة لانهاء حركة حماس وعدم الاخذ بالاعتبار لكل حقوق الشعب الفلسطيني .

أولاً: من يتحمل مسؤولية معركة طوفان الاقصى

من يتحمل مسؤولية ما قامت به حركة حماس في معركة طوفان الاقصى وكيف تعاطت بعض وسائل الاعلام الغربية في هذا المجال؟

منذ أن أطلقت المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها (كتائب عز الدين القسام – الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) – في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عملية طوفان الأقصى، أصبحت كثير من وسائل الإعلام الغربية تعتمد رواية الاحتلال الإسرائيلي على ما سواه متجاوزة في كثير من الأحيان الضوابط المهنية والحياد وقد ظهر ذلك في أكثر من مناسبة.

وعندما يتبني الاعلام الغربي والمسؤولون الغربيون كل الأخبار الواردة من الكيان الاسرائيلي دون استثناء، مثل خبر «قطع حماس رؤوس أطفال إسرائيليين»، والذي تحدث عنها الرئيس الامريكي جو بايدن، وتناقلته وسائل إعلامية غربية معروفة، وبقيت تكرره على انه حقيقة، رغم انه تم تكذيب الخبر لاحقا، بعد ان تبين ان مصدره جندي اسمه ديفيد بن زيون، وهو من عتاة المستوطنين المؤيدين لقتل الفلسطينيين، تناقلته قناة «إسرائيلية»، وتبناه الاعلام الغربي دون تردد او تحفظ.

كما تبنى الإعلام الغربي تحميل «حركة حماس» مسؤولية ما جرى في معركة طوفان الاقصى دون العودة الى ما كان يجري قبل السابع من تشرين الأول (أوكتوبر) من ممارسات عدوانية صهيونية ضد الشعب الفلسطيني، سواء من خلال محاصرة قطاع غزة لاكثر من 17 سنة او الاقتحامات المستمرة للمسجد الاقصى او وجود الاف السجناء الفلسطينيين في السجون الاسرائيلية وعدد كبير منهم دون محاكمة وفي ظل معاناة كبيرة داخل السجون، وكذلك قتل الفلسطينيين من قبل الجنود الصهاينة او ممارسات المستوطنين الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة وكل الممارسات اللانسانية طيلة عشرات السنين من قبل العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني.

في حوار تلفزيوني اجراه الصحافي ادم شمس الدين عبر قناة نيو تي في مع المسؤول الاميركي السابق دايفيد ساترفيلد حول ممارسات اسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، اعتبر ساترفيلد انه من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها حتى لو ادى ذلك لقتل مائة الف فلسطيني او اكثر. وهناك مقابلة كاملة حول هذا الموضوع على موقع قناة نيو تي في.

ثانياً: الاعلام الغربي وجرائم العدو الصهيوني

كيفية مقاربات وسائل الاعلام الغربية للجرائم التي ارتكبها العدو الصهيوني ضد قطاع غزة.
رغم فظاعة ووضوح الجرائم الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، سواء من خلال العدد الكبير من الشهداء والجرحى ومعظمهم من النساء والاطفال، او عبر استهداف المستشفيات وسيارات الاسعاف واخراج المرضى والاطباء بالقوة من المستشفيات واستهداف المدارس، فان بعض وسائل الاعلام الغربية حاولت تبرير جرائم العدو الصهيوني من خلال تبني الرواية الاسرائيليية بان المستشفيات هي ماركز عسكرية لحركة حماس او تحميل حركة الجهاد الاسلامي مسؤولية قصف المستشفى المعمداني، كذلك اللافت أن «بي بي سي» نشرت، قبل يوم واحد من قصف المستشفى تقريرا يتساءل: «هل تقوم حماس ببناء الأنفاق تحت المستشفيات والمدارس؟.»

ويضيف التقرير أنه «من المرجح أن تتدفق شبكة الأنفاق تحت أحياء مكتظة بالمنازل والمستشفيات والمدارس، مما يمنح الاحتلال الإسرائيلي ميزة الشك عندما يتعلق الأمر بقصف مثل هذه الأهداف».

وجاء الجواب من الاحتلال في اليوم التالي بارتكاب مجزرة المستشفى وقتل المئات من المرضى وذويهم من النساء والأطفال، في مجزرة ربما لم يشهد التاريخ مثيلا لها.

وكررت مراسلة «سي إن إن» الأميركية ما قاله جيش الاحتلال، وقالت إن «حماس ربما أخطأت في إطلاق الصواريخ لتسقط على المستشفى في غزة، وفقا للجيش الإسرائيلي» ويمكن مراجعة تقرير حول هذا الجانب على موقع قناة الجزيرة.

ومن الواضح ان الاعلام الغربي عمد مرارا الى تبني الروايات الاسرائيلية والى منع وجود اصوات داعمة للقضية الفلسطينية وأحد أهم النماذج لقمع الاعلام الغربي لأي صوت عربي مؤيد للفلسطينييين طرد الإعلاميين العرب أو إيقافهم عن عملهم والتحقيق معهم كما حصل مع مراسة البي بي سي في بيروت ندى عبد الصمد وكذلك مع صحافيين عرب آخرين في مؤسسات إعلامية غربية في المانيا وكندا.

ثالثاً: حول الحلول المطروحة القضية الفلسطينية والدعوة لانهاء حركة حماس

الحلول التي كانت تعرضها بعض وسائل الاعلام الغربية لانهاء الحرب والدعوة لانهاء حركة حماس وعدم الاخذ بالاعتبار لكل حقوق الشعب الفلسطيني.

معظم المقالات في وسائل الاعلام الغربية التي كانت تطرح حلولا للقضية الفلسطينية بعد معركة طوفان الاقصى والحرب على قطاع غزة كانت تركز على كيفية انهاء حركة حماس وقوى المقاومة ومواجهة الجهات الداعمة لها، وتعتبر انه لا يمكن التوصّل الى حلول نهائية للقضية الفلسطينية دون القضاء على حركة حماس، وحتى عنكما كانت بعض الاوساط الغربية، سواء من مسؤولين رسميين او وسائل اعلام، من اجل تبني حل الدولتين واقامة دولة فلسطينية كانت تشترط ضرورة انهاء حكم حماس لقطاع غزة وصولا الى انهاء وجودها كليا، ويعتبر هذا الطرح اساءة للشعب الفلسطيني ومقاومته، ومن ابرز الصحافيين الغربيين الذين دعوا الى هزيمة حركة حماس ومن يدعمها الصحافي الاميركي توماس فيردمان والذي أشار في مقال له في صحيفة «نيويورك تايمز»: إلى أنّ هناك صيغة واحدة تعزّز فرص انتصار قوى الاعتدال والتعايش في الحروب الثلاث، وهي: هزيمة حماس، طرد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو وحلفائه المتطرّفين، ردع إيران، وإعادة تنشيط السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية بالشراكة مع الدول العربية المعتدلة، وإحياء خيار الدولتين. (عن مقال فيردمان المترجم في موقع اساس ميديا).

وهناك مقالات اخرى في الصحف الغربية تدعو لانهاء قوى المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان لان ذلك هو الطريق الوحيد لضمان أمن الكيان الصهيوني .

طبعا لا يعني ذلك انه لم يحصل تغير في مواقف وسائل الاعلام الغربية تجاه القضية الفلسطينية بعد الحرب على غزة وما ارتكبه العدو الصهيوني من ممارسات اجرامية، فقد برزت مقالات ومواقف غربية تدعو لوقف الحرب على قطاع غزة والعمل للوصول الى حلول سياسية، وكان لمواقع التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في نشر صور ما يجري في غزة وهذا انعكس ايجابا على الاوساط الشعبية والطلابية في الدول الغربية وتغيير موقفها من القضية الفلسطينية والمشاركة في المسيرات الشعبية الكبرى في معظم مدن العالم لنصرة للشعب الفلسطيني.

وقد قامت العديد من المؤسسات العربية المختصة بالشأن الفلسطيني ومنها مؤسسة الدراسات الفلسطينية ومركز الزيتونة للدراسات والابحاث بنشر مقالات ودراسات تشرح حقيقة القضية الفلسطينية باللغات العربية والانجليزية والفرنسية وكان لها دور مهم في هذا المجال، اضافة لما قام به العديد من القنوات العربية والتي نجخت في الوصول الى الجمهور الغربي وخصوصا قناة الجزيرة، وهناك قنوات اخرى وصلت الى اميركا اللاتينية مثل قناة الميادين، اضافة الى دور اعلام المقاومة وما اعتمدته حركة حماس من اطلالات اعلامية وكيفية اطلاق الاسرى عندها، وبعض المواقف التي اطلقها عدد من الاطباء والدبلوماسيين العرب والغربيين والذين شرحوا حقيقة ما يجري في قطاع غزة، وهذا كله ساهم بالرد على السردية الاسرائيلية ولو بشكل محدود.

وفي الخلاصة نحن أمام معركة اعلامية وثقافية وفكرية إلى جانب المعركة العسكرية والنضالية من أجل شرح حقيقة ما يجري في فلسطين المحتلة ومواجهة الرواية الإسرائيلية في الإعلام الغربي، وقد تكون معركة طوفان الأقصى والحرب على قطاع غزة قد أتاحت للعرب والفلسطينيين إعادة طرح القضية الفلسطينية مجدداً على الصعيد العالمي، وهناك حاجة كبيرة لمواصلة الجهد في هذا المجال لان المعركة مستمرة ولن تنتهي بأسابيع او أشهر، وسيكون العالم في المرحلة المقبلة، وبغض النظر عما ستنتهي اليه الحرب العسكرية أمام تحديات كبيرة في كيفية مواجهة الجرائم الصهيونية ومحاكمة المجرمين الصهاينة وتوثيق ما جرى وإعادة كتابة تاريخ القضية الفلسطينية من وجهة نظر أصحابها الحقيقيين ولإعادة الحقوق الى أصحابها.

حرب غزة تفضح المعايير الزائفة في الإعلام الغربي
التزوير والإنحياز والتقصير

في أوقات الأزمات والحروب يبرز دور الإعلام وأهميته، إذ تشكل وسائل الإعلام الوجهة الرئيسية للمهتمين بمتابعة الحدث ومراقبة التطورات. ولا يختلف اثنان على مدى تأثير هذه الوسائل في تكوين وجهات النظر لدى المتلقين عن طريق السياسة التي تعتمدها في تسليط الضوء على الحدث، فهي تتحول من كونها مسؤولة عن نقل «الحقيقة» إلى المساهمة في تشكيل الرأي العام وصوغ مواقفه وتحركاته.

وللإعلام ضوابط ومعايير مهنية متعارف عليها تقتضي أن تلتزمها وسائل الإعلام، تتمثل في التقيد بمجموعة من المبادئ والقيم والسلوكيات، أهمها: نقل الواقع والحقيقة بتجرد، والدقة في نقل المعلومة، والشفافية، وتجنُب كل ما من شأنه إثارة خطاب الكراهية والعنصرية، وغيرها…

هذا من الناحية النظرية، لكنّ واقع الأمور بالنسبة إلى الإعلام، بصورة عامة، ربما لا يتطابق دائماً مع المعايير والضوابط، وفي كثير من الأحيان تصبح أخلاقيات المهنة مجرد مصطلحات نظرية، وهو ما جرى خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الفائت.

فممّا لا شك فيه أنّ الحرب الشعواء التي أعلنتها إسرائيل على القطاع، في أعقاب عملية طوفان الأقصى، كشفت كيفية تعامل الإعلام الغربي مع الحدث، ومدى التزامه المعاييرَ المهنيةَ؛ إذ سارعت أغلبية وسائل الإعلام الغربية الساحقة إلى تبنّي السردية الإسرائيلية منذ الساعات الأولى للعدوان، وهي سردية تجاوزت المعايير المهنية والأخلاقية، فقامت على مجموعة من الأكاذيب مظهرة تحيُزاً واضحاً إلى جانب إسرائيل، وخصوصاً في المراحل الأولى من الحرب.

وعلى الرغم من بعض التحول في توجهات الرأي العام الغربي، وهو تحوّل فرضته حقائق ما يجري على أرض الواقع من همجية إسرائيلية فاقت الوصف وكشفت زيف الإدعاءات الصهيونية، فإنّه من المفيد التوقف عند عدد من السرديات الإسرائيلية التي تبنّاها الإعلام الغربي من دون مراجعة أو تدقيق، وفرضها على الرأي العام عبر تبنّيها بصورة مطلقة وتكرارها:

السّردية الأولى: «حماس» قطعت رؤوس الأطفال

كان من اللافت انزلاق الإعلام الغربي في ترديد هذه الأكاذيب، وفي مقدمها الروايات التي تحدثت عن مجازر ارتُكبت بحق الإسرائيليين، وعن «قطع رؤوس الأطفال»، وحرق جثث، واغتصابات وغيرها من دون تقديم أدلة. ومن الأمور التي ساهمت في انتشار هذه الروايات مسارعة الرئيس الأميركي جو بايدن ومسؤولين في إدارته إلى تبنّي الرواية وترديدها أمام الرأي العام العالمي قبل التأكد منها.

لكنّ المفاجأة كانت أنّه عندما سُئل مسؤولون في البيت الأبيض عمّا إذا كانوا يملكون ما يؤكد صحة هذه الأنباء، اضطرّوا إلى التراجع عن التصريحات، فنقلت شبكة «CNN» الإخبارية الأميركية عن مسؤول في الإدارة الأميركية قوله إنّ التصريحات كانت مبنية على «مزاعم» مسؤولين إسرائيليين، ولم يرَ بايدن والمسؤولون الأميركيون الصور التي تثبت الرواية الإسرائيلية، ولم يتحققوا من صحتها.(1)

وهذا الموقف قاد مذيعة الـ«CNN» سارة سيندر إلى الإعتذار بسبب تبنّيها المقولات الإسرائيلية قبل التأكد من صحتها، لكنّ موقفها لم يجرِ على آخرين واصلوا ترديد هذه الأكاذيب حتى رسخت في أذهان كثير من الجمهور في الغرب.

السردية الثانية: «شيطنة» حركة «حماس»

عمد قادة العدو الإسرائيلي، منذ اللحظة الأولى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، إلى «شيطنة» حركة «حماس» وتشبيهها بتنظيم «داعش»، مستخدمين عبارة الأعمال «الإرهابية»، و»البربرية» في تصريحاتهم. وتلقف أغلب المسؤولين الأميركيين والغربيين هذه المقولات التي باتوا يردّدونها كمرادف لحركة «حماس».

هذه «الشيطنة» انتقلت بدورها إلى الإعلام الغربي، الذي استخدم المصطحات نفسها في نشرات الأخبار وفي الصحافة المكتوبة. أمّا بالنسبة إلى المقابلات على الهواء، والتي نشطت بصورة غير مسبوقة منذ بداية الحرب على غزة، فحدِّث ولا حرج، إذ أصبح السؤال بشأن «إدانة حماس» لازماً كمقدمة لأي حوار يتناول الحدث، وباتت الإدانة بمثابة جواز مرور يرضي وسيلة الإعلام والمذيعين.

وبرزت المشكلة عندما حاول بعض وسائل الإعلام الغربي لاحقاً استضافة شخصيات فلسطينية، أو مؤيدة لفلسطين، فعمد المحاورون إلى أسلوب منافٍ للمعايير المهنية، يُقصد منه إحراج الضيف وإملاء الإجابات، وهذا ما أدّى إلى نقاشات ومشادات شابت هذه المقابلات، فحنان عشراوي، على سبيل المثال، انتقدت بشدة السؤال الذي وجهته مذيعة في إحدى محطات التفلزة السويدية، معتبرة أنّه «سؤال في غاية العنصرية والتعالي»،(2) رافضة الإجابة عنه. كما كان لسفير فلسطين في بريطانيا، حسام زملط، جولات مع وسائل الإعلام الغربي، رد فيها على كثير من الأسئلة الملتوية بمنطق متماسك.

المقولة الثالثة: أكذوبة «الدفاع عن النفس»

تحت هذا الشعار، أعطى الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية إسرائيل الحق في ارتكاب ما تشاء من مجازر في قطاع غزة. وإذا كان معظم زعماء الغرب قد تحدث صراحة أمام وسائل الإعلام عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فما بالك بردة فعل وسائل الإعلام؟

لقد شرّع الإعلام الغربي، عبر تبنّي مقولة «الدفاع عن النفس»، قتل أكثر من 15.000 مواطن غزي، بينهم أكثر من 6000 طفل، وتدمير المستشفيات ومقرات الأمم المتحدة والمدارس والجامعات ودور العبادة والأبنية والتجمعات السكانية، وهو ما أحدث دماراً أشبه بزلزال ضرب المنطقة، ناهيك بالحصار الكامل الذي فُرض على القطاع بمنع سبل الحياة كافة، من مياه وكهرباء وأدوية ومواد غذائية.

وتجاهل هذا الإعلام، بصورة منافية لأخلاقيات المهنة، جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل خلال هذه الحرب، بل أيضاً برّر كل هذه الجرائم تحت حجة «الدفاع عن النفس».
فأي معيار أخلاقي مهني يجيز تبرير هذا الحجم من الجرائم التي تفوق الوصف؟

تداعيات التجييش الإعلامي

إنّ مجرد متابعة ما بثته وسائل الإعلام الغربي خلال هذه الحرب كفيل بأن يخدع المتلقين، وخصوصاً المؤيدين أصلاً لإسرائيل. وقد أدّى هذه التجييش الإعلامي إلى ردات فعل عنيفة جداً دفع ثمنها أبرياء لمجرد أنهم من العرب أو الفلسطينيين أو المؤيدين للقضية الفلسطينية. وشكلت ظاهرة المساواة بين «معاداة الصهيونية» و«معاداة السامية» تهديداً لكل من يعادي إسرائيل، إذ بات حكماً، نتيجة هذا الكم من التجييش والتسييس الإعلامي، معادياً للسامية ولليهودية. وهذه الظاهرة تنطوي على خلط في المفاهيم يتنافى مع الواقع، وينشئ التباساً لدى الرأي العام، ويشيطن كل من لا يؤيد إسرائيل. والأخطر من ذلك، أنّ هذه التهمة تؤدي بدورها إلى حرف الأنظار عن الجرائم المتواصلة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين على مدى 75 عاماً.
أمّا الاعتداءات التي تعرّض لها مواطنون في الغرب نتيجة هذا البث الإعلامي غير المهني، فلائحتها تطول، ونسوق في هذا المجال مثلين؛ فبعد نحو أسبوع على الحرب، أقدم عجوز أميركي على تسديد 26 طعنة أصابت طفلاً فلسطينياً في السادسة من العمر أدت إلى وفاته، بينما أصاب والدته بعدة طعنات أُخرى، وأُدرجت الجريمة تحت خانة «جرائم الكراهية»، بسبب الصراع الدائر بين إسرائيل و«حماس».(3)

وقبل أيام، أُصيب ثلاثة طلبة فلسطينيين في ولاية فيرمونت الأميركية بجروح بليغة، عندما أطلق مسلح النار على الشبان الثلاثة الذين كانوا يرتدون الكوفية ويتحدثون العربية. وقد طالب حسام زملط، سفير فلسطين في بريطانيا، تعليقاً على ما حدث بـ «وقف جرائم الكراهية ضد الفلسطينيين.(4)

ويضاف إلى جرائم الكراهية التي تسبب الإعلام بها انتهاكات أُخرى لا تقل خطورة طالت عاملين في وسائل إعلام غربية بحجة تأييد الفلسطينيين، أو معارضة إسرائيل؛ ومنها ما جرى مع الصحافية المخضرمة ندى عبد الصمد في محطة «BBC»، وما جرى مع المذيع الفرنسي ذي الأصل الجزائري محمد القاسي، والذي تعرّض لتوبيخ حاد من القائمين على محطة «TV5» الفرنسية بحجة توجيه سؤال إلى متحدث باسم الجيش الإسرائيلي ينطوي على مساءلة عن العمليات العسكرية الإسرائيلية في مستشفى الشفاء في غزة.

هذا غيض من فيض لما يتعرض له العرب والمؤيدون لفلسطين والفلسطينيّون في الغرب، وهي ممارسات يتحمل الإعلام المتحيز الجزء الأكبر من المسؤولية عنها، فوجود سياسة إعلامية تقوم على إثارة المشاعر عبر نشر أخبار مضللة وتشويه للحقائق، وعبر تجاهل قضية احتلال بدأت قبل 75 عاماً، ستؤدي حتماً إلى مزيد من جرائم الكراهية والمعاداة، وهذا ما كشفته حرب إسرائيل على غزة، هذه الحرب الجهنمية، والتي عرّت ما تدّعيه مؤسسات الإعلام الغربي من مهنية عالية، وشفافية لا تقارن. وبرهن هذا الإعلام، بما لا يدع مجالاً للشك، أنّه إعلام متحيّز ومروج للرواية الإسرائيلية، وشكّل إلى حد كبير جبهة حرب إعلامية موازية للحرب العسكرية.

إعلام الحرب والسلام؛ المسؤولية الاحترافية
التزوير والإنحياز والتقصير

أكثر ما يضغط على الإعلام في زمن الأزمات والنزاعات والحروب الميدانية، في فنون النقل والتغطية والتحليل والتصوير وأكثر الأمور دقة وتطلباً للإحترافية المهنية وتضلعاً من فنون الرصد والمتابعة والمقارنة والتدقيق، هو الإلتزام بالناموس وبأخلاقيات الإعلام وإتباع سلوكات الرصانة، ومراعاة مقومات الإتزان الخبري والتوازن التصويري، الأمر الذي يفرض على الإعلامي والوسيلة إتباع إستراتيجية عمل ظرفية متحركة تتناسب مع تطور وموقف كل حالة.

إن خاصية التكيّف اللحظوي مع متطلبات ومستلزمات البث المباشر والنقل الميداني في مسؤولية تحريك الكاميرا وكيفية تركيزها على زوايا دون أخرى من المشهد، تتطلب تخصصًا ودراية وحسًا إستباقيًا يتناسب مع الواقع، ويقاس مع مدى إنشغال المصور الإعلامي بأخلاقيات الكاميرا في زمن حرِجٍ دقيق، وكيفية الحفاظ على قيمة الصورة الخبرية ووجوب إتصافها بالحس المجتمعي من دون المس بكرامة الإنسان، فرداً أو جماعة، مع الحرص على حق المستعلم بالحصول على كامل زوايا المشهد من دون أي حذف أو تعديل أو تركيب أجزاء، بقصد التضليل والتشويه والكذب والإختلاق والتجاهل والتعمية والتضبيب (الضباب). من مثل ما يقترفه بعض الإعلام المسيس وغير المنتمي، من ممارسات قصدية أو عفوية تسيء إلى الإعلامي والمعلومة والمستعلم. وهذا ما يدخل في التصنيفات اللَّونية للإعلام، من الأسود والأبيض والأصفر والأحمر، وصولاً الى إعلام اللَّالَوْن الحائر تصنيفًا بين عدة معايير إعلامية متداخلة كالإنحياز والحياد والإلتزام واحترام الواقع.

إنّ القضية المهنية الأكثر إلحاحاً وحضورًا في زمن الأزمات، هي ناموس إدارة المعلومة وتقنية السيطرة على أجزائها وفنية تقديمها بصدقية وواقعية، مع تركيز على قيمتها الخبرية والدلالية، وتجاهل للخبر الضاغط والملتبس، والبقاء على حذر من نقل أو التعامل مع الشائعة الإختبارية التي تكون بمثابة فخ للإيقاع بالإعلامي والنيل من صدقية الوسيلة، والتي غالبًا ما تشيع في ظروف القلق والإضطرابات.

إن ضواغط الحالة الحربية تفرض على الصحافي التقيد بأخلاقيات المهنة وناموس العمل الإعلامي الميداني وغالبًا ما تؤثر على مهنية الإعلامي المبتدئ وغير ذي الخبرة، وبالتالي تتحول النقيصة المهنية إلى ضرر يلحق بالجمهور وينال من رصيد الوسيلة، ويصبح الخطأ خطيئة.

كما أن حق الإعلامي بالملكية الفكرية والفنية للصورة، يضعه بمواجهة الحقيقة وحمايتها وكيفية تحصينها وتقديم الإقناعات المرافقة لعناصرها، مع ما تتطلبه الفنية التحريرية من إتقان لصناعة العنوان الموضوعي والإختزالي، والعنوان الرقمي والعددي وأصول إستخدام النِسَبِ في الإخبار.

ويترافق مع ذلك، وجوب حرص الإعلامي الميداني على التأكُّد من مرجعية الخبر المنقول والتفريق بين المعلومات الأولية والمعلومات النهائية، مع مراعاة تأثيرات الوضع الأمني على مشاعر وأعصاب الإعلامي الميداني في أثناء النقل المباشر والذي يكون أمام الموازنة بين مردود الخبر على المؤسسة ومعنويات الناس، التي لا تقاس بحسب مردود الصورة الخبرية ولا بنتائج الفرصة التي أتاحتها له ظروف الميدان ارتكازاً على ثلاثية واقعية الميدان وأزمة الضمير العالمي ومأزومية القانون الدولي، تتكاثف التحديات التي تعترض مهام الإعلام الميداني في ساحات القتال وجبهات المواجهة، لتشكل مجموعة من الطروحات والأفكار التقويمية المساعدة على تظهير مشهديات الحرب بدقة تفاصيلها وكل أبعادها، ما يوفر للناقد المستعلم تكوين قدرة معرفية تمكنه من رسم أطر التقويم وتقديم الأفكار التي تسهم بإعداد مراسلين متخصصين بمواكبة الأحداث الحربية وتغطية مراحلها وتقديم قراءة هادئة لها بحرفية موصوفة ومسؤولية عالية.

إن مقاربة عقيدة الإعلام اللبناني في أزمنة الحروب هو موضوع شديد الإلتزام وعميق الإنتماء ويستجيب لمتطلبات المرحلة الميدانية المواكبة للتضحيات المُحْرَقَة، حيث البسالةُ تحكي، والدم يُؤرِّخُ الإستشهاد، والبطولةُ تفرضُ وضعيتها بعناد، لنقولَ: إنَّ إعلام ما قبل حرب لن يكون كما بعدها، على صعيد التعامل الإعلامي مع القضايا الوطنية في زمن النزاعات، حيث لا مكان للحياد في منطق الالتزام. وهذا ما يفرض تناول إعلام الحرب بكل فنونه، المباشرة والمدونة والمحللة والمصورة والموثقة، من مناظير مختلفة المستويات، ووِفقَ تحديداتٍ على مقاساتِ عقيدة الفكر الجهادي والنضال الإيماني والمقاومة الوطنية، وكرامة المقدسات وإلإفتداءات البطوليةِ المنسوجةِ راياتها بدفء الإيمان، والمتقويِّة رماحها بالقيم الروحية وسلوكات المواطنة الحقة.

في تقويم عملية النقل الميداني المباشر لإعلام الحرب تبرز إشكالات عدة على المستوى الإعلامي والأكاديمي والمهني، وأبرز توصيفات مُحْدَثة لمفاصل الحروب الإعلامية وفنونها، من نقليات الصورة الفيلمية المباشرة، إلى رصانة نشر الخبر وأصول التغطية المُحكمة الضبط على إيقاعات الميدان وبراعة التعليق، وصولاً إلى فن التحليل، الذي هو أبغض الحلال في إعصاراتِ القتل والذبح والقصف وتدمير البيوت على الرؤوس. إذاك يكون الكلام للصورة، ولها وحدها حقُ إصدارِ الحكمِ بإسم الإنسانية من على قوس محكمة القيم، مهما ضعفتِ العدالة وخفَّ منسوبُ العدلِ وإختفتْ نسبيةُ الإعتدال.


غالبًا ما تتحدد رزم ضحايا المجازر والإبادات، بأن الضحية الأولى، هو القانون الدولي ومعيارية تطبيقه، إذ يكون في بعض الأحيان أخرس من الصخر؛
والضحية الثانية، هي الضمير العالمي الرسمي، لا الشعبي، الميتُ من زمان، والساكتُ عن الحق ولمّا يزَلْ واقفاً على رأسه غرابٌ أدمسُ من قهر الظلم الأكبر وأعتمُ من ليلِ الجُرْم الأفجَر؛
وثالث الضحايا، هو الصمتُ الدولي الرسمي عن إجراماتِ القتل والقصف والسحل والتدمير والإبادة المجزرية بحق الإنسانية، وكأن المدن متروكةٌ للغُزاةِ، أو كأنها ساحاتٌ لإختبارات الأسلحة الإبادية.

مشهدياتُ دمٍ، وفصولُ حروبٍ تتوالى ولَيسَ من رادعٍ عن الشرّ، ولا من قائل بهدنة، ولا من نيَّةٍ لإسدال الستارة، للإعلان عن انتهاء فيلم الرعب الطويل، حيث الميدانُ واقعي، والضحايا حقيقيون، والركاماتُ تنطقُ، والاستشهاداتُ تُسجَّلُ في ديوان الذكرى للذكرى.

وأثبتت لغةُ الصورة وسلاحُ المشهد المباشر، إنهما الأبلغُ والأجرأُ والأفعلُ، في تكوين حالة التضامن الشعبي وصناعة الالتفاف المجتمعي العالمي حول إدانة بشاعات الحرب وتأكيد حق الشعوب بالحياة والسلام.
وسؤال المرحلة الذي يُطرح بإلحاح يتركز حول: أيُّ تفاضلية لإعلامٍ حرب الأقوى على الأضعفِ، سلاحاً ومقومات؟
تنسلُّ من هذا السؤال قضيةٌ محورية، هي في صلب تكوين إعلام القضايا والأزمات والنزاعات، ركيزتُها، هَلْ للإعلام اللبناني الرسمي، على إمكاناته الضئيلة، والإعلام الخاص رغم قدراته الواسعة، هل لهذا الإعلام عقيدة؟ وتجوُّزاً أقول؛ هل كان له عقيدة؟ الوضعُ الحالي يُظهرُ أن للإعلام اللبناني، بكل مؤسساته موقف معتبر نأمل أن يتطور إلى عقيدة إنسانية وقومية ووطنية تلتقي عفواً وبإرادةٍ طيبة على نصرة الحق جهراً وإدانة المعتدي صراحة، بلا تجميلات ولا محسناتٍ لفظية، مستخدمين مصطلحات تناسب المرحلة وتتوافق مع قاموس إعلام الحرب والإلتزام.

فالإعلام اللبناني منذ نشأته صحافياً وتأسسه إذاعيًا وتألقه تلفزيونيًا، أثبت أنه إعلامُ قيم ومواقف، وأنه قبل أي شيء هو إعلام لصيقٌ بالحرية، تظهيرًا لها تبشيراً بها ودفاعاً عنها.

وهذا موقفٌ مُقدَّرٌ وجهدٌ مُعتبَرٌ للمؤسسات الإعلامية وللإعلاميين اللبنانيين الذين يناضلون على خط النار ويستشهدون دفاعاً عن الحقيقة ويؤسسون لنهجٍ واضح من فنون «إعلام اللحظة الساخنة» بأعصاب هادئة وإندفاعية موصوفة مرتكزة على جرأة المشاركة الميدانية، وإحترام أساسيات «الموضوعية الواقعية»، ورصانة النقل الشارح، ودقة الملاحظة والابتعاد عن التنبوء القاتل للمعنى والمسيء لشرف المهنة.

وتقويمًا للاعلام الكلاسيكي المطبوع والإذاعي والتلفزيوني، فإن مَنْ يراقب للحالة ويتابع التطورات لا بد أن يحتكمَ إلى اصول صياغات الإعلام ووضوح خطه، والتعامل معه كمنظومة قيم خبرية ملتزمة ومتزنة، يُحكمُ لها تقديراً، ولا يُحكَمُ عليها جوراً. من دون إسقاط دور المواقع الإعلامية الالكترونية الجادة وذات الشخصية الحرة التي لها طبيعة مؤسساتية نظامية، فضلاً عن منصات التواصل والإعلام الإكتروني الشخصي، حيث كل فردٍ أصبح مُعلِماُ ومُعلّقاً وناشرَ رأي. وكلها قدرات إعلامية، تكاملت مهنيا ومادياً والتزامًا وطنيًا لتصوغَ إعلامًا لبنانيًا ذا «عقيدة إنسانية» ووطنية قاعدتها السيادة والحرية والكرامة. ما يثبت أن كرامة الإعلام من كرامة القضية التي يدافع عنها، وقيمته من قيمة العقيدة التي ينطق باسمها ويرفع بيرقها.

وإعلام الحرب اللبناني، وتحديدًا إعلام الجبهات ودور المراسلين، هي مهمة مهنية تنطبق عليها شروط ومواصفات المهمة العسكرية، من حيث دقة فنيّة التراسل وإتقان فنِّ التقاط اللحظة وتوظيف الكاميرا وإستصراح الشهود العيان الذين غالبًا ما يتحولون إلى شهداء عيان ينطقون ويلفظون ويوقعون محضر استشهادهم مباشرة على المحطات التلفزيونية والفضائيات، كأبلغ دليل على السَكْت الدولي وأدمَغِ إثبات لوقوع الجرم المُنّظَّم.

الإعلاميات والإعلاميون الشباب على الجبهات، كلهم مشروع شهداء، والخوف الدائم عليهم ينطلق مما عرفته في خلال عملي الصحفي كمراسل تجريبي لمرة يتيمة، من وجوب توفير التأهيل المهني والخبرات اللازمة والثقافة القتالية التي تمكن المراسل، على الجبهات وخطوط النار من معرفة أنواع الأسلحة المستخدمة ومفاعيلها وقدراتها تقريبياً، وبما يمكنه من تقديم معارف شارحة تساعد الجمهور على تبيُّنِ حقائق الأمور ومعرفة ما يجري من أحداث. إنها مواصفات المراسل الحربي، المتخصص والخبير والمتابع والمطلع، والذي تجتمع فيه قدراتُ فريق عملٍ كامل يوازن في المعرفة بين الثقافة التخصصية والخبرة المعرفية التي يكون اكتسبها في خلال خدمته ووظيفته.
فهل إعلاميونا المراسلون محميون أمنياً ومحصنون مهنياً ومزودون معرفياً بالمعاهدات والقوانين الدولية وبنود اتفاقات الهدنة وقراءة الخرائط الميدانية؟ وهل يعرفون حقوق المراسل الحربي وواجباته ومضامين المواثيق الناظمة لرسالتهم والمحددة لدورهم، بما يمكنهم من نجاح مهمتهم الميدانية والوقاية من الخطر، أم أنهم مغامرون اختباريون ومبادرون ومشاريع ضحايا؟

في التقويم التخصصي والمقارنة المهنية، فإن بعض المؤسسات الإعلامية الدولية تعتمد مراسلين حربيين من ذوي الخبرة والخدمة العسكرية، لأنهم الاقدر على توصيف حركة الميدان وتقديم معلومات حول مجريات المعارك وأنواع الأسلحة وتصنيفاتها، ما يضفي على العمل خبرة تخصصية وثقة موضوعية، هي اكثر ما يحتاجها المستعلم المتابع. وهذا واضح بين طواقم المحطات الدولية والمحلية. فالمحطات والفضائيات ووكالات الأنباء العالمية، يعتمدون الاحتراف الميداني العسكري لتشكيل فريق عمل التغطية مع لحظ كبير للقدرات المادية اللازمة، في حين أن إعلاميينا يعملون جاهدين، مكلِّفين انفسهم بإندفاعية مقدّرة للقيام بالمهمة بعزيمة وتضامن وطني صحيح، مسجلين خطوات مشكورة في صناعة السبق الإعلامي وتحقيق إنجازات في إعلام الجبهات.

إنّ الاحتكام إلى منطق الامور يحرضنا على تقدير الإعلاميين اللبنانيين على الجبهات، وشكر المؤسسات الاعلامية والصحافية، التي اثبتت بصراحة مشهودة أنه في زمن الشدة والأزمات، يكون صوتها واحدًا، وصورتها واحدة وشاشاتها واحدة وحبرها واحدًا.

إنه لبنان. إنه تراثنا الصحافي وناموسنا الوطني ومسارُ إعلامنا مع الحرية والموقف الجريء، ومسيرة الدفاع عن الحق، بإندفاعية رسولية مُثبتة، بالعلم والخبر والصورة، وبإتباع المعايير الخلقية لإستخدامات الصورة، مع تركيز على إنسانية الصورة ومحتوياتها، وإحترام كرامة الموت، وعدم انتهاك حرمات جثث الضحايا لتوظيفات لخدمات اللحظة الساخنة التي تفرض تقنيات استثمارها بعيداً عن الإساءة إلى ضحايا الحروب ومشهديات الميدان .!

إن إعلام الحرب يجب أن يتوافق بتقنيّاته وأهدافه مع التحضيرات الموازية لإعلام السلام. مع التأكيد أن إعلام السلام الذي يصنع (على البارد) يستوجب وضع مخططات استراتيجية، هي أصعب وأكثر دقة من إعدادات إعلام الحرب الذي يصنع (على الساخن) ويكون وليد اللحظة وأسير ضواغط الميدان ومحكومًا بظروف المعارك.

لعلَّ أصعب أنواع الإعلام دقةً وتطلباً للإحترافية وثقافة الحوار والبعد القيمي والإنساني، هو (إعلام السلام) الذي لم يتم وضع خارطة هندسية لبنائه وفق معايير محددة تتوافق وظروف النزاعات وحدة الأزمات وإشكالياتها المعلنة وتلك المسكوت عنها، بقصد تضليلي أو عن جهل مقصود، وعن قلة معرفة، أو لأن (إعلام السلام) زيائنه قليلون، ورعاته نادرون !

العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزّة، في أبعاده الميدانية، والقانونية، والإعلامية
التزوير والإنحياز والتقصير

حين أخرج الطفل، إبن الأعوام الستة أو السبعة، من تحت أنقاض منزل أسرته – وكم كان محظوظاً على عكس آلاف الأطفال الذين قضوا تحت ركام المنازل والمستشفيات والمدارس – تطلّع حوله ذاهلاً، قال: هذه عن جدّ أو لعبة!

نعم (يا حبيبي)، هذه «عن جد» للآلة العسكرية الإسرائيلية، لكنّها كما يبدو «لعبة» لدول الكوكب قاطبة: كلّ الحكومات، معظم وسائل الإعلام المعولم، وبخاصة الشبكات الكبرى (وفي طليعتها الـ CNN والـ BBC) التي تنقل عنها غالب الشبكات الإخبارية في العالم، فيما الرأي العام مغلوبٌ على أمره، وليس في يده أكثر من التظاهر ورفع الشعارات المندّدة بالتوحّش والتغوّل والحقد والرغبة الجارفة بالإنتقام من المدنيين في غزة التي أظهرها ردّ الفعل الاسرائيلي على عملية 7 أكتوبر 2023 العسكرية.

لكنّ ملاحظة بسيطة لطبيعة الرّد الإسرائيلي الوحشي على عملية 7 أكتوبر تظهر أن التغوّل الإسرائيلي هذه المرة تجاوز مستويات اعتداءاتها السابقة على القطاع والضفة الغربية وجنوب لبنان.

لقد بدا بوضوح أنّ الهجوم الحالي المستمر منذ أكثر من شهرين ونصف على القطاع لم يستهدف المقاتلين، إلّا بالنزر اليسير؛ فاستهدف ودمّر دون هوادة كلّ ما هو حيّ أو يخدم الأحياء في القطاع: إمدادات مياه الشرب، شبكات الصرف الصحي، البنى التحتية، المنازل (أكثر من خمسين ألف منزل حتى الآن)، عشرات المستشفيات، مئات المدارس، الأسواق التجارية، وسائر مظاهر الحياة في القطاع.

لكنّه أكثر من ذلك استهدف مباشرة هذه المرة وعلى نحو ممنهجٍ لم يتوقف، أطفال غزة !
بدا الأمر وكأنّه طقسٌ وحشي – خرافي ينفذّه مجانين مسكونين بأحقاد وأساطير بائدة ضد الشعب الفلسطيني، بهدف الإبادة المباشرة، الهدف القريب؛ «وقطع نسل» هذا الشعب في المستقبل، ما أمكن، فأطفال اليوم هم رجال الغد. ولطالما حذّر المتعصبّون في اليمين الإسرائيلي من الفارق الديمغرافي الذي يتعاظم بين أعداد المستوطنين اليهود من جهة والفلسطينيين من الجهة المقابلة.

بدا الأمر وكأنّ الطغمة الفاشية الحاكمة في إسرائيل الآن ، والمسكونة بعقل أسطوري خرافي، تستعيد حرفياً الإبادات التي جرت غير مرّة لليهود منذ ثلاثة آلاف سنة، وصولاً إلى المحرقة النّازية في أواخر الحرب العالمية الثانية، والتي لا يد للفلسطينيين فيها، بل هم كانوا مثل اليهود ضحايا الإحتلالات والإبادات بهدف التهجير، بل أكثر منهم.
تنفذ الطغمة الفاشية الحاكمة في إسرائيل الآن على أطفال قطاع غزّة نموذج أفران الغاز التي نفّذها النازيون بحق اليهود في ألمانيا – والتي أحسن العقل الصهيوني الإستثمار فيها لإجبار الحكومات الغربية، والألمان خصوصاً، على التصرف دائماً من موقع عقدة الذنب حيال إسرائيل، فكانت التعويضات المالية الخيالية وإمدادات السلاح الأحدث في العالم، وتأييد إسرائيل في كل مناسبة كما حدث، بعد عملية 7 أكتوبر.

تناسى هؤلاء أنّ الفلسطينيين ضحايا، بل ضحية الضحية، وفق تعبير المفكر الفلسطيني إدوار سعيد؛ فإذا الضحية الأولى (اليهود) تنفّذ في ضحيتها الآن (الفلسطينيين) من صنوف العنف ما لم تستطعه مع الجلاّد! المحرقة التي حدثت لليهود في أوروبا الغربية،على بعد 5000 كيلومتر من فلسطين، لا تُمحى بالمحرقة الجارية الآن بحق الفلسطينيين!

وفيما لا نستطيع تبرير أي اعتداء على المدنيين، وبخاصة الأطفال والنساء، تناسى العقل الغربي أنّ التوغّل الفلسطيني في غلاف غزة كان صرخة في وجه التجاهل الطويل لمطالب مليوني مواطن سجنوا في قطاع من الأرض لا تزيد مساحته عن 360 كيلومتراً مربعاً مطالبين بالعيش الكريم وفي رفع الحصار الظالم والأوضاع المعيشية المستحيلة التي لا تتحمله جماعة أخرى على وجه الأرض!

تجاهل العالم الغربي، وليس إسرائيل فقط، معاناة شعب بأكمله، فغدا كما قال مواطن من غزّة، بكل أسى، «عالم أعمى، أصم، أخرس»!

تلك هي معاني «محرقة غزة».
لا يملك الفلسطينيون، بالتأكيد، التفوق العسكري الإسرائيلي الساحق؛ لكنّهم يملكون شرعية التمسك بأرضهم، وشرعية المقاومة، التي كفلتها القوانين الدولية، الوضعية والأخلاقية.
المحرقة الجارية لم تمنح إسرائيل أي حق إضافي، بل عرّتها أخلاقياً وسياسياً!

هذه محرقة ظالمة، بكل المعايير، ولا يجب أن يقبل بها أي ضمير أو صانع قرار.
وهي فوق ذلك استهتارٌ بالقوانين الدولية (ومتى احترمت إسرائيل، وهي دولة مارقة، القوانين تلك؟). مع ذلك يبقى واجبنا التذكير بها.

هذا هو الإطار العام لملف العدد المتمحور حول العدوان الوحشي الجاري بحق مواطني قطاع غزة في فلسطين.

أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه

نسبه وإسلامه

عمر ابن الخطاب كنيّ بأبي حفص ولقّب بالفاروق قرشيّ النسب طويل القامة في وجهه حمرة.
كان والده الخطّاب بن نفيل حكما في قريش تتحاكم القبائل اليه.
لما عرف عمر (ر) باسلام اخته وزوجها داهم بيتها وبطش بهما وكان في يد اخته صحيفة رفضت تسليمها لعمر قبل ان يغتسل أولا فذهب واغتسل ثم عاد اليها فأخذ الصحيفة وقرأ ما فيها من القراّن الكريم حتى وصل الى قول الله تعالى في سورة طه: «انني انا الله لا اله الا انا فاعبدني واقم الصلاة لذكري ان الساعة اّتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنّك عنها من لا يؤمن بها واتّبع هواه فتردى». (الاّية 16).
عند انتهائه قال: ينبغي لمن يقول هذا الّا يعبد معه غيره دلوني على محمد. وذهب الى الرسول محمد (ص) وكان عند الصفا وأعلن إسلامه فكبّر رسول الله لاسلام عمر.

صفاته وموافقاتها للقراّن (الوحي)

كان عمر (ر) مهتما بالشعر والأدب وعمل في أول حياته برعاية الابل والغنم لوالده واشتغل بعد ذلك بالتجارة. واشتهر بشجاعته وفقهه وحسن معاملته للرعية لما تولّى الخلافة ورد المظالم والانصاف والعدل دون اي تمييز بين مسلم وغير مسلم. كان عمر (ر) صاحب ارادة قوية وشخصية مميزة وادارة حكيمة وفراسة ملفتة.

اشتهر عمر (ر) بكثرة السؤال لقربه من رسول الله (ص) واجتهاده الصائب وابداء الرأي بجرأة ودونما تردد وإطلاع عميق على مقاصد الشريعة وقد وافق رأيه التنزيل في مواطن كثيرة نذكر منها:
من موافقات الوحي انه أشار يوما على رسول الله (ص) قائلا» له يا رسول الله لو اتخذت من مقام ابراهيم مصلّى. فأنزل الله قراّنا: وإتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى. (سورة البقرة الاّية 125)
وكذلك في أمر الحجاب لأمهات المؤمنين نزلت اّية الحجاب موافقة لمشورة عمر (ر) وموافقة رأيه في معاتبة أزواج النبي (ص):
«عسى ربه ان طلقكن ان يبدله أزواجا خيرا منكن..» (سورة التحريم الاّية 5)
ونذكر اخيرا موافقة رأي عمر (ر) يوم بدر بشأن الاسرى فنزلت الاّية الكريمة مؤيدة لمشورته: «ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الأرض.» (سورة الأنفال الاّية 68)
وغير ذلك من موافقات رأيه للوحي الكريم ويذكر انها بلغت إثنا عشر موضعا».

العهدة العمرية وأهم إنجازاته

قبل اسلام عمر (ر) كان المسلمون يتخفون ولا يعلنون دخولهم في الدين الجديد خوفا» من اضطهاد المشركين لهم في مكة المكرمة عند بدء البعثة النبوية المباركة.

لما اسلم عمر بن الخطاب أسد قريش الذي يجيد كل فنون المصارعة والقتال وركوب الخيل ومتمرس في فن الخطابة والصلح ويملك من الشجاعة والجرأة والقوة ما يجعل الناس يحسبون له الف حساب ويهابون منازلته او اعتراضه.

جاء عمر (ر) الحريص على اعلان اسلامه وتحمل كل الصعاب في سبيل ذلك لاعلاء كلمة الله في مكة المكرمة الى رسول الله (ص) وقال له: «يا رسول الله ألسنا على الحق؟ ففيم الاختفاء؟
وكان قد اّن الاوان لاعلان الدعوة ونزلت الاّية الكريمة: «فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين.» (سورة الحجر الاّية 94)
وبات الجهر بالدعوة للاسلام بعد اخفائه أمرا» منزّلا» سمح الرسول (ص) بإظهاره ونشر الدين في أرجاء مكة فما كان من حمزة وعمر (ر) الا ان ذهبا للكعبة واشهرا اسلامهما وصلّيا بعد ان أذّنا متحدّين كفار مكة لما يتمتعان به من هيبة وقوة وشجاعة واحترام.

تربى عمر (ر) على مصدر وحيد للتلقي لملازمته رسول الله (ص) الا وهو الوحي (القراّن الكريم) فكان صفيّ النفس مستقيم الفطرة يعرف ان الكمال لله وحده وان الانسان في صراع دائم مع الشيطان.

عرف عمر (ر) ان الله مصدر كل نعمة وان علم الله يحيط بكل شيء وان الحياة دار ابتلاء وان لا ملجأ من الله الا اليه وانه ولي الصالحين ولذلك رشّحه أبو بكر (ر) لخلافته وقبل ان يأخذ الترشيح قوته الشرعية بالتكليف من أعيان الصحابة أهل الحل والعقد باشر عمر (ر) مهامه كخليفة للمسلمين وكان ذلك أقرب الى التعيين إنصافا للتاريخ ونزولا عند رغبة الصدّيق (ر).
عندما تولّى عمر (ر) الخلافة ختم خطبته قائلا»:
وإني انزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم ان استغنيت عففت وان إفتقرت أكلت بالمعروف.
أكّد عمر (ر) في قولته نهج الزهد وعدم الفتنة بالمال والسلطة وحرصه الشديد على موارد الأمة والدولة وحفظ ثرواتها من قبل الحكام.

اشتهرت خلافة عمر (ر) بالعدل بين الرعية ومحاسبة الولاة دونما اي محاباة او تمييز واهتم بتوزيع الثروة على الناس بحسب حاجاتهم لها وفقا للامكانيات المتوفرة لديه.

حرص عمر (ر) على قاعدة التشاور وقد أثر عنه (ر): لا خير في أمر أبرم من غير شورى. وكان علي بن ابي طالب عليه السلام اهم المستشارين لديه وقد نصحه بعدم الذهاب لقيادة جيش المسلمين في معركة القادسية بنفسه وتكليف غيره من الصحابة وأشار عليه بالذهاب الى القدس لاعطاء الأمان للنصارى فيها فيما إشتهر تاريخيا «بالعهدة العمرية».

لما فتحت فلسطين ودخل المسلمون القدس اشترط أسقفها ان لا يسلم مفتاح المدينة الّا الى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (ر).

حضر عمر (ر) الى القدس ووقع العهدة العمرية مع أسقفها في ايله ومما جاء فيها عن إعطاء الامان للنصارى:
لهم كنائسهم وصلبانهم لا ينتقص منها ولا يكرهون على دين. ومن اراد ان يقيم منهم في القدس له ذمة الله وذمة رسوله وعهد امير المؤمنين عمر ومن جاء من بعده لا يعتدى عليه وله الامان في ماله وعرضه وإن اراد ان يلحق بقومه من الروم فله الامان حتى يبلغ مأمنه.

وطلب الاسقف ان يضيف عمر بندا: أن لا يسكن معهم في القدس يهوديا قط فانه لا امان مع اليهود. ابتسم عمر (ر) ووافق قائلا نعم الرأي نضيفها إذا». وأمهل عمر (ر) اليهود أربعة أشهر للخروج من المدينة (القدس).

كفل عمر أثناء خلافته الحريات العامة من الاعتقاد والتنقل والملكية الفردية والتجارة والأمن للناس كافة ضمن حدود الشريعة دون تمييز بين مسلم وغير مسلم.

حافظ عمر (ر) على حقوق الأقليّات في دولة الاسلام ولم يسمح بالتعرض لهم او الضغط عليهم او الكبت والظلم والاضطهاد واشتهر عمر (ر) بانصاف اهل الكتاب من اليهود والنصارى فأعطاهم العهد ولا يحملهم ما لا يطيقون وان ارادهم عدوهم بسوء قاتلنا دونهم وثبت عن عمر (ر) انه كان شديد التسامح معهم حيث كان يعفيهم من الجزية (الضرائب) عندما يعجزون عن تسديدها في حين كان يتشدد في دفع الزكاة والصدقات ومصاريف الجنود على المسلمين.

وعرف عن عمر (ر) أنه أمر لأهل الكتاب عند عجزهم بنصيب من بيت مال المسلمين قائلا»: ما انصفناهم ان اكلنا شيبتهم ثم نخذلهم عند هرمهم فأعفى الكتابي (النصراني واليهودي) المسنّ الهرم من الجزية بل وخصص له معاشا» من بيت مال المسلمين وأمر بمعاملتهم برفق وإنسانية وكفالتهم من دولة الإسلام.
كان عمر أول من اعتمد التاريخ الهجري واول من خصص نفقات للعاملين في الدولة واشتهرت خلافته بالفتوحات في العراق ومصر وليبيا والشام وبلاد فارس (معركة القادسية) وشرق الأناضول وجنوب أرمينية وفلسطين وظهر في عهده التطوير العمراني.
ومما يذكر لعمر (ر) انه رفض ان يصلي داخل الكنيسة في القدس لكي لا يحولها المسلمون الى مسجد من بعده بحجة صلاته فيها وصلّى بقربها فكان المسجد العمري اقرب المساجد لها في القدس.

كان من فطنة عمر (ر) انشاء بيت مال المسلمين ودار القضاء وبناء المدارس في كل الامصار التي فتحها والمساجد لنشر الدين والعلم واللغة العربية واهتم برعاية النساء وبنى السجون للمجرمين ووضع نظام البريد والقوانين للخراج والفيء والغنائم إنه الفاروق عمر الذي فرّق الله به بين الحق والباطل او عمر الفاروق وما ادراك ما عمر! عدل في الرعيّة وفتوحات سجيّة.

مصرع أمير المؤمنين عمر وجمع من الصحابة

كان عمر (ر) حصنا» منيعا» للأمّة فهو القائد والفقيه والقاضي والجريء والسلطان. من قرارات عمر (ر) بعد ان حرر العبيد وترك السبايا قال قولته المشهورة: «متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا». لعمرو بن العاص وهو والي مصر.

كره عمر (ر) ان يدخل العبيد والسبايا الى المدينة المنورة عاصمة دولة الإسلام وأغلبهم من نصارى الشام ومصر ومجوس العراق وفارس وحذّر من تاّمرهم وكيدهم وحقدهم على أهل الإسلام وبغضهم للخلافة وكان ان قرر منعهم من دخول المدينة والسكن فيها الّا بإذن خاصّ وقد سمح لبعضهم بدخول المدينة على كره منه وحذر شديد.

وعند صلاة الفجر وبحضور عبدالله بن عباس وبعد الإنتهاء من القراءة في الركعة الأولى هجم أبو لؤلؤة وكان عبدا» مجوسيا» للمغيرة وطعن عمر (ر) بسكين مسموم وما مرّ على أحد يمينا» وشمالا «الّا طعنه وبلغ عدد ضحاياه ثلاثة عشر رجلا» مات منهم سبعة ولما تمكن منه الصحابة وأمسكوا به طعن نفسه فقتل.

توجه عمر (ر) بعد طعنه الى إبنه عبدالله قائلا» له: أنظر ما عليّ من دين فوفّه عني من أموال ال عمر لا من بيت مال المسلمين.

طلب من إبنه ان يؤد عنه دينه من ماله حرصا» على أموال الأمّة واستأذن عائشة ان يدفن مع صاحبيه الرسول (ص) و«ابو بكر» فأذنت له.

مات عمر (ر) بعد حكم دام لقرابة عشر سنوات وضاع عدل عمر وإنسانية عمر ونهج الأحرار واشتراكية عمر في الماء والكلأ والنار (الطاقة).

سيرة الجليل الطاهر سيدنا وشيخنا الشيخ أبي محمد صالح العنداري
‏(جزء 1)

كم نحن اليوم بأمسّ الحاجة إلى ذكر فضائل المشايخ الأسياد رضي الله تعالى عنهم ونفعنا ببركاتهم، علّنا نستلهم بركتهم ونقتدي ببعض مآثرهم لتبقى ذكرًا وقدوة لمن يأتي بعدهم بخاصة في هذا الزمن الذي كسدت فيه الفضائل وقلّ الإخلاص ووهنت فيه القوى.

فالهدف الحقيقي والقصد الأول هو خلاص النفوس من أدرانها وإعزاز دين الإسلام وتوطيد دعائم الإيمان وإيضاح الطريق لأهل التوحيد والإيقان.. ‏ومهما بذلنا من الجهد وقدمنا من العزم وشحذنا ذاكرتنا وذاكرة المعاصرين والمعاشرين، فلن نتوصل إلّا إلى القليل النادر من درر ذلك البحر الزاخر لأنّ هذا الوميض الظاهر الحسيس يعجز عن تعبير سر الباطن النفيس، فهل يمكن للعين أن تتذوق كل ما تراه مهما بالغت في النظر والتدقيق.

وهكذا مزايا ومناقب الأولياء الأطهار وحركاتهم وسكناتهم وألفاظهم وأفعالهم تبقى أنوارًا سواطع تخاطب النفوس وتناجي العقول بلغات نورانية ومعانٍ شعشعانية يعجز القلم عن ترجمتها إلى حروف وتسطيرها في أوراق وطروس. ‏ونحن وإنْ كنّا رافقنا سيدنا وشيخنا الشيخ أبا محمد صالح في الربع الأخير من حياته نبقى عاجزين عن تدوين مزاياه ومناقبه إذ كيف ندوّن ما كان يكنّه قلبه من الخضوع والخشوع لمولاه وانشراحه المشعّ لقبول أوامره وما تجنّه روحه الطاهرة من الحب والشوق للقياه. ‏وكيف نسطّر تعابير حزنه لرؤيته الإنجراف في الملاهي والمآثم ومن أين لنا أن ندرك ما ينطوي عليه حلمه الواسع الرحيب وما يكنّه في صدره من صبر واحتمال؟. ‏ومَن يسجل حرارة شوقه وتوقه وهيامه وما هو مفعم به من العطف والمحبة والرفق ولين الجانب، غير إنّه لعظم صدقه وإخلاصه وتوافق باطنه مع ظاهره ترى تعابير وجهه وحركاته وإشاراته كأنّها تنطق بما يريد فيفهمها الناظر إليه قبل أن يتكلم.

حياته

ولد سيدنا الشيخ أبو محمد صالح في بلدة العبادية سنة ١٩١٣م أي قبل الحرب العالمية الأولى بما يقارب السنة وكان والده المرحوم الشيخ أبو علي بشير حسين العنداري من الشباب المجاهدين في طاعة الله تعالى المثابرين على واجباتهم الدينية. ‏ووالدته التقية الفاضلة أم علي زين كريمة الجليل المرحوم الشيخ أبي فارس منصور العنداري. توفي والده وعمره حوالي ثلاث سنوات ثم توفي شقيقاه علي الذي يكبره بما يقارب التسع سنوات ومحمود الذي يكبره بحوالي أربع سنوات. ‏فتربي في كنف والدته الفاضلة وقاسى ووالدته الفقر الشديد وتحمّل من شظف العيش الشيء الكثير على أثر الحرب والمجاعة والمصائب التي ألمّت بالبلاد في ذلك الوقت، فسلك طريق الدين والتقوى محافظًا على الواجبات والفرائض رغم فقره الشديد ومعاناته المعيشية التي أجبرته على القيام بالعمل القاسي لكسب القوت. ‏فتارة يحمل الوقيد إلى الأتون لصنع الكلس وتارة يحمل أعدال القمح في المطحنة وطورًا يتفرغ للحراثة والزراعة ومتطلبات الأرض وهو إلى ذلك لا ينفك محافظًا على واجباته الدينية وطالبًا مجاهدًا في اكتساب العلم الحقيقي مغترفًا من معينه الصافي قائما بحقوقه متنقلًا بين منزل جدي المرحوم الشيخ أبي فارس منصور والمزرعة التي كانت مدرسة دينية في ذلك الوقت.

وعندما بلغ سن الشباب ‏وقع الإختيار على الفاضلة المصونة نجيبة جابر العنداري حفيدة الورع الزاهد المرحوم الشيخ أبي حسين نجم العنداري، فأنجبت له ولدين لبيبة سنة ١٩٣٢م ومحمد سنة ١٩٣٦م. ‏وكانت رحمها الله تعالى زوجة موافقة فاضلة حنونة تربي أولادها على ما يوافق تعاليم الدين وسنّة الرسول، وأمّا هو فكان يواظب على تأدية واجباته الدينية وعمله الذي يكسبه ما يقوم بأود بيته وعائلته ويقيهما غائلة الجوع.

‏وعلى أثر قيام الحرب العالمية الثانية وانقطاع المصادر الخارجية خيّم شبح المجاعة على البلاد وأصبحت الأعمال قليلة والمكسب صعبًا فكان رحمه الله رغم ضائقته ‏المالية الشديدة لا يقبل من أحد صدقة أو زَكاة، بل كان يحمل ما تيسّر من متاع البيت قاصدًا المدينة ليبيعه ويسدّ بثمنه غائلة الجوع، ولم تكد تلوح تباشير السلام والهدوء حتى فجع بوفاة زوجته سنة ١٩٤٨م ‏وكان لوفاتها فراغ كبير في بيته فحمل هَم تربية أولاده إضافة إلى أعماله الدنيوية وواجباته الدينية، وهكذا وزّع وقته بين العمل والعبادة والتربية والقيام بحقوق إخوانه فكان عاملًا مواظبًا على عمله الشاق وعابدًا ملازمًا للصلاة في أوقاتها قائمًا بمفترضاتها وواجباتها ومربيًا صالحًا قائمًا بحقوق التربية ومتطلباتها.

‏عاش بقية حياته عيشة بتوليّة رغم ترمّله الباكر ورغم حاجة بيته الذي كان مَوئلًا للضيوف ‏والقصّاد ومنهلًا للعلم والأدب ومرجعًا دينيًا واجتماعيًا إلى سيدة تقوم بشؤونه وتدبيره.
‏ونشأت ابنته الفاضلة على الديانة والتقوى طائعة راضية مرضية مساعدة لوالدها في تدبير أمور البيت، ولم تتمّ العشرين من عمرها حتى مرضت بمرض السل فصرف جهده لمعالجتها ومعاملتها إلى أن توفاها رحمها الله تعالى سنة ١٩٥٤م مأسوفًا على أخلاقها وديانتها ‏وكان لفقدها صدى أليم في ‏النفوس.

‏‏التعاون والتآلف المبارك

‏وفي العقد الرابع من هذا القرن وما يليه كثر تردد الشاب الفطن النبيه ابن أخ زوجته المرحوم الشيخ أبو يوسف سليم العنداري عليه ليستفيد منه العلوم الدينية ويعاونه على متطلباته الدنيوية فتحالفا وتآلفا وتعاونا على الواجبات الدينية وأعباء الحياة فكانا يعالجان الأمور معًا ويتعاونان على كل مهّم ومعضل، ويصرفان الأمور مهما عظمت بدراية ورويّة فذاع صيتهما وانتشر خبرهما وقوي عزهما فقصدهما الزوار والضيوف وحطت عندهما الركبان. ‏وقلّما يمر يوم يخلو بيت أحدهما من القصاد والضيوف فكانت أوقاتا مشرقة وأيامًا زاهرة وتجارة رابحة وديارًا عامرة ولمحات صفا بها الزمان وفاح من عبير ريحان الجنان جاد بها الحليم الرحيم الكريم المنان.

‏انتقاله إلى بلدة بعلشميه المجاورة لبلدته

‏في أواخر الخمسينات نقل المرحوم الشيخ أبو يوسف سليم سكنه المؤقت إلى بلدة بعلشميه المجاورة لبلدة العبادية ليمارس العبادة بوحدة وتقشّف بعيدًا عن ضوضاء الحياة من جهة ، وليمارس الكتابة التي كانت صنعته المفضلة من جهة أخرى، كقول بشر الحافي رضي الله عنه: «غنيمة المؤمن غفلة الناس عنه وخفاء مكانه عنهم»، ‏وفي السنة ذاتها قايض سيدنا الشيخ أبو محمد صالح أملاكه الموجودة في ظهور العبادية في المكان المعروف بالزهّار بعقار في بعلشميه بجوار الشيخ أبي يوسف سليم رغبة منه في البعد عن الضوضاء، ‏وطلبًا للوحدة التي فيها الأسرار الإلهية والإنصراف بكليته إلى العالم العلوي في عالم البهاء والنور. وبدأ بإنشاء مسكن متواضع يكنّه ويَقيه حرّ الشمس وبرد الليل بعيدًا عن كل فضول.

‏وفي أواخر سنة ١٩٦٠م ‏فجعت البلاد بوفاة الشاب التقي العالم الزاهد المجاهد نفسه حق الجهاد السالك طريق الرشاد والسداد المرحوم الشيخ أبي يوسف سليم تاركًا له الوصاية على أولاده الثلاثة وقد ترك بفقده رحمه الله فراغًا عظيمًا عند إخوان الدين وألمًا ووحشة في قلوب الموحدين وبخاصة عند الشيخ أبي محمد صالح، وكأنّما لسان حاله يقول:

يا سادة في سويدا القلب مسكنهم

وفي منامي أرى أنّي أحادثهم

أوحشتمونا وعزّ الصبر بعدكم

يا من يعزّ علينا أن نفارقهم

حياته في خلوته

‏تحول منزله الجديد إلى خلوة للعبادة وتنمية الإرتباطات الدينية فكان مقصدًا للمريدين لتلاوة ما تيسر من الكتاب العزيز واستماع الشرح والتفسير والمواعظ والإرشاد والحكم، والتداول بذكر مناقب السلف الصالح الذين كان الشيخ يحث على الإقتداء بمآثرهم الحميدة وآرائهم السديدة، ‏ويتحسر التحسر الشديد على التقصير والإهمال والعجز والكلال عن همم مثل هؤلاء الرجال والرضى بالقعود عن إدراك درجات الكمال. ‏وكان نجله الكريم الشيخ محمد نِعْمَ رفيق وخير مساعد فقد حفظ كتاب الله العزيز عن ظهر قلب وغاص في بحار علومه الواسعة مستخرجًا الدرر الثمينة وشواهد الآيات الكريمة، وزهد في الدنيا وملذاتها وترك شواغلها وارتباطاتها ملازمًا البيت والخلوة والعمل في أرضه المتواضعة التي كانت غلتها القليلة الزهيدة تكفي متطلبات البيت مع كثرة الضيوف. وبارك الله تعالى القليل فجعله كثيرا فنما وزاد وفاض كثير منه في الهدايا والهبات.

‏توسعت متطلبات الناس من هذا البيت المبارك بكل اتجاهاتها فكان مجلسا لحلقات الذكر والإجتهاد الديني ومقصدًا للقضاء بين الناس وصندوقًا خيريًا للمرضى والمحتاجين بإدارة شيخه الحكيمة. ‏فكان رحمه الله الطبيب المداوي لعلل النفوس وأهوائها، والحكيم المعالج لأسقام القلوب وتشنجاتها، يصف الترياق الواقي من داء الشيطان الخبيث ويعطي الإكسير العجيب المحيي للنفوس المستمد من عين الحياة. كما قال بلوهر الزاهد الحكيم، لا طاقة للبشر أن يبلغوا نهاية معرفة الحكمة إلّا بما تحيا به قلوبهم وعقولهم. فكما ينالون من شعاع الشمس ما تحيا به أبصارهم كذلك ينالون من شعاع الحكمة ويستدلون على ملكوت السموات والأرضين وهو مفتاح الخزائن النفيسة ومراقي الدرجات الرفيعة التي هي عين الحياة، من ‏شرب منها لم يمت أبدًا وهي النور الذي يجلي العمى ولا ظلمة معها.

ضريح المرحوم الشيخ أبو محمد صالح العنداري

مسيرته رحمه الله مع الأحداث

‏كان رحمه الله له الدور الأول في إنهاء الخصومات الجماعية والشخصية وعقد راية الصلح، فقد صرف وقتًا كبيرًا من حياته في إصلاح ذات البين، وكثير من المشاكل المستعصية ما كانت لتحلّ لولا تدخله فكان همّه الأول الوفاق والرضى والمحبة والصفاء في مجتمعه بكل فئاته وتصريف الأمور باللين والتفاهم لا بالعنف والقتال ‏والحث على التغاضي والصفح ورد الأمور إلى الله تعالى لأنّ ما عنده تعالى خير وأبقى. وكان يقول «ما أفضل من الحق إلا ترك الحق في جنب الله تعالى والله سبحانه حاشاه أن يخيّب من ترك حقه لوجهه الكريم»، ‏وكم صرف من ماله الخاص لحل كثير من المشاكل.

‏أمّا دوره في الأحداث الأخيرة فكان دور دفاع وصمود ومحافظة وعدم التعدي، وقطع الطريق على كل من يحاول التضليل ومن ثم الحفاظ على كرامة المدافعين.

‏كان رحمه الله يتألم كثيرا من الأحداث الداخلية التي اجتاحت البلاد في السنوات الأخيرة ابتداء من سنة ١٩٧٥م وسار معها مسيرة سلام ووفاق، وكان ينادي بالتعايش المشترك ورمي الأحقاد وكان يتوجع من ذلك التعدي الذي لا مبرر له مما فرض علينا حمل السلاح الذي لا غاية لنا من ورائه غير الحفاظ على وجودنا والدفاع عن أرضنا التي دافع عنها أسلافنا في جميع الأدوار التي مرت على لبنان، ‏وبنوا فيها مقدساتهم وصانوها بضريبة الدم، فكانوا للفضل والعمران دعاة، وللنجدة أهلا. كان بيته ملجأ للمنقطعين واللاجئين والمصابين وهو بناء متواضع غير محصّن وفي موقع مكشوف مستهدف بقصف العدوان، وكان كل من يدخله يشعر بالأمن والطمأنينة.

وكان رحمه الله يبتهل إلى الله تعالى ويتوسل إليه برسوله الصفي المختار صلوات ربي عليه، وبخاصة في الأيام الشديدة طالبًا منه النصر والتوفيق، وكان يردد دعاء سيدنا المرحوم الشيخ أبي حسين شبلي أبي المنى بقوله:

يا قدرة الحق حلي عقد ما ربطوا وشتتي جمع أعدانا بما ارتبطوا

يا قدرة الحق سيف الحق قاطعهم وكلما علوا في جبرهم هبطوا

هذه بعض المبادئ التي سار عليها في تلك الأحداث الأليمة، وله رحم الله في تفاصيلها مواقف شريفة وآثار حميدة يطول شرحها، ولفطنة القارئ أن يتخيل مواقفه وشعوره الدقيق في كل هذه الأمور.

«ليس لعلم التوحيد إلاّ لسان التوحيد»

من إمارات التأييد حفظ التوحيد

ومن آدابه رحمه الله أنّه كان الموحّد المخلص الذي تخلّصت نفسه من درن الشهوات والمآثم فراقت وصفت واستبصرت وفاضت عليها الأنوار الإلهية، وازدادت نفسه نوراً بالإشراق على نورها الذي فطرت عليه.

كان رحمه الله يرى أنّ التوكل على الله سبحانه وتعالى ركن من أركان التوحيد، فالمتوكّل عبارة عن موحد قوي القلب مطمئن النفس إلى فضل الله سبحانه وتعالى واثق بتدبيره، فيقول: التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين لا يقوى عليه إلا الذين اكتحلوا من فضل الله تعالى بأنوار الحقائق فأبصروا وتحققوا وصحّ لهم ما يتوافق فيه مقتضى التوحيد. فمن أيقن ذلك انطوى ضميره على الرضى بكل ما يجري من الله عز وجلّ. وكذلك كان يرى أنّ اليقين من ثمرة التوحيد فمن أيقن أنّ الأشياء كلها من مسبّب الأسباب فلا يلتفت إلى الوسائط وكان يقول: «لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل فتضيّع أمر آخرتك ولا تنال من الدنيا إلاّ ما قد كتب الله لك».

فالعارف بالله هو الموحّد له، وكان رحمه الله يقول: ليس لعلم التوحيد إلاّ لسان التوحيد. وفي تفسير قوله تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» كان يقول: أي ما عظّموه حق عظمته ولا عرفوه حق معرفته ليوحدوه حقّ توحيده ويعبدوه حقّ عبادته. ويضيف: «حقّ عبادته أنّه يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر به». وكان يقول: الصالحون يقفون على الحدود ولا يعرفون أسرارها، أمّا العارفون على قدر معرفتهم فيزيدهم الله سبحانه من لدنه علماً فيفيض ذلك العلم من القلب على اللسان وتتأدّب به سائر الجوارح. وكثيراً ما كان يردد هذا القول: «الخلق السمح للعارفين الأوحاد».

العدد 40