السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, نيسان 20, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

أفلاطون

الحلقة الثانية

محـــاورة مينــــون

الفضيلـــــــــة هِبـــَة إلهيـــــــــة
فهــــــل يمكـــــــــن تعليمــــــــــها؟

محاورة مينون تكشف عن عمق الفوضى الفكرية
والفســـــاد القيمي للفكر السوفسطائي في أثينــــا

مينون يحاول إنكار المعرفة وإمكان تعلمها
فيرد سقراط بمثل العبد والمربع الهندسي

تدور محاورة مينون حول مفهوم الفضيلة، وإذا ما كانت قابلة للتعليم والتعلُّم، أو ما إذا أمكنَ تحصيلها بالتجربة أو أنّها ماثلة بالطبيعة في الإنسان. ويسعى أفلاطون إلى استجلاء حلٍّ لتلك المعضلات المنطقية التي تفرضها هذه الأسئلة بتسليطه الضوء، من خلال الفرضية والتحليل الهندسي، على نظرية أن «المعرفة تذكُّر» وتأصّل الحقائق والكلّيات في النفس، بما يعكس أبعاد التعاليم الفيثاغورية والأورفية، ويُمهِّد من خلال سياقها الفلسفي لمحاورة فيدون حول خلود النفس. وفيما تخلُص المحاورةُ إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، فإنّ طرحَها لنظرية «المعرفة تذكُّر» يبقى السِمة الأبرز للطرح الحكمي اليوناني منذ فيثاغوراس وحتى أفلاطون.

إن إحدى الفوائد التي تقدمها محاورة مينون هي أنها تلقي من طرف غير مباشر الضوء على الفوضى الفكرية وأزمة القيم التي خلقها انتشار الفكر التشككي السوفسطائي في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي سيسهم إلى حد كبيير في انهيار مكانة أثينا وتدمير قيم مجتمعها.
وفي حنين إلى ماضي أثينا المجيد اختصر الكاتبُ الإغريقي التراجيدي يروبيديس (Euripides) في صرخته المريرة الحاضرَ المؤلمَ الذي عاشَه في تلك الفترة المضطربة:
الحيــــــــــاةُ تغيـــــــــَّرت، وقوانينُهـــــــــا أُهمِلَـــــــــت
الإنســــــــــــــــــانُ قــــــــــــــــــد نَســــــــــــــــــِيَ الإلـــــــــــه
كان تأثير السوفسطائيين المفسد وراء تقهقر المعايير الأخلاقية والدينية، والتشكيك بالفضائل الأساسية كالعدالة والأخلاق والمعرفة، واحترام القانون. كان علمُهم فناً ومهارة بلاغية وجدالية فحسب، كما يؤكد أفلاطون، وليس ثقافة حقيقية ولا تنويراً.
وبتأثير السوفسطائيين، أخذ التعليم في ساحات أثينا ينأى عن التشديد على الفضائل الأخلاقية والحكمية وقيم الفروسية السامية كالشرف والشجاعة والمروءة والولاء والشهامة والاعتدال لينصَبّ على مواهب بلاغية تفيد المرء في تحصيل أعراض الدنيا أو في الحصول على موقع سياسي أو وجاهة اجتماعية وفقاً للقِيَم الوضيعة الجديدة التي سوّقوا لها، والتي قادت في نهاية المطاف إلى محاكمة شبه صورية لسقراط الحكيم انتهت بالحكم عليه بالموت.
مع نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، كانت جميع نواحي الثقافة الأثينية، الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية، قد تقهقرت بفعل نشر عقيدة التشكُّكِ السوفسطائي إزاء احتمال الحصول على المعرفة والحقيقة، وهو ما قاد إلى ازدراء الفلسفة الحقّة والحط من قدر الحكمة الأصيلة، وعززت تلك النزعة الميول الفردية الأنانية بذرائع واقعية تكاد تشبه كثيراً البرغماتية التي اتسع نفوذها في عالم اليوم! وقاد هذا التفكك الاجتماعي والتشكيك بالقيم إلى خسارة الحضارة الإغريقية لروحها الأصيلة فعلاً، والتي مكنت أثينا، من أن تهزم امبراطورية عظيمة كفارس قبل أقل من قرن.
عارض بروتاغوراس (Protagoras)، أحد السوفسطائيين الأوائل، الإدراك العقلي الحقيقي بالإدراك الحسّي المادي، ملقياً ظلال الشك الثقيلة على كل حقيقة مُدرَكة بالعقل، وبالتالي على إمكانية المعرفة. فكل شيء نسبي وفقاً للإنسان الذي يتناوله بإدراك عقلي كان أو حسّي. فالإنسان برأيه هو «مقياس جميع الأشياء»، رافضاً بذلك جميع الحقائق الفلسفية والعلمية العامة، وهو ما تصدّى له أفلاطون وفنّده في أكثر من محاورة، مُبيّناً أنّ النفسَ مفطورةٌ على الحكمةِ والمعرفةِ التي تكتسبها بالتأمّل العقلي الفلسفي لا بالإدراك الحسّي، والمعرفةَ الحقّةَ هي معرفةُ الماهيات الكُلِّية أو المُثُل العليا لا الجزّئيات المتمثّلة في الأعراض المتغيّرة للوجود الظاهر.

المحـــــــــاورة

مينون يعلن موقفه المتشكك
المشهد: مينون محاطاً بحاشيته ومسحة من صلف السوفسطائيين تتبدّى على مُحيّاه. يبدأ الحوار سائلاً سقراط: «هلّا أخبرتني يا سقراط ما إذا كانت الفضيلة شيئاً ممكن تعليمُه؟ وفي حال لم تكن قابلة للتعليم، هل هي مما يُكْتَسَب بالممارسة؟ أو أنّها لا تُكْتَسَب بالممارسة ولا تُحصَّل بالتعلُّم بل تكون قائمة في الكائنات البشرية بالطبيعة أو بطريقة أخرى؟».
رغم الخيارات المتعددة التي طرحها مينون من أجل إرباك الحوار، فإن النقاش في المحاورة سيتركز على الاحتمال الأول، أي هل الفضيلة يمكن تعليمُها، ذلك السؤال الذي طغى على ما سواه، وتبدّت أبعاده مع تطوُّر المحاورة وقيام أفلاطون بتفنيد المفارقة التشكُّكية التي طرحها مينون وصولاً إلى طرح نظرية المعرفة تذكُّر وإثباتها بالتحليل الهندسي وصولاً إلى الجزم بأن الفضيلة «هِبَة إلهية».
وسنرى كيف سيسعى سقراط خلال الحوار إلى دحض تصوُّرات محاوره منذ البداية وإثبات فشل رؤيته المتأثرة بغورجياس حول الفضيلة. وهو سيقود مينون إلى الوقوع في قبضة الحيرة والإرباك مظهراً إفلاس مقولته.
بدل أن يقدم سقراط جواباً على فرضيات مينون معطياً إياه فرصة المضي في المماحكة، فإنه اتبع أسلوبه الخاص بالإجابة على السؤال بسؤال آخر يستهدف تصويب منهجية الحوار. قال موجهاً كلامه إلى مينون إنّه «لا يعرف ما هي الفضيلة». ردّ مينون بأنّه وفقاً لِمَا سمعه من معلّمه غورجياس فإنّ الفضيلة «تختلف بحسب اختلاف الأشخاص والجنس والعمر»، إلا أنّ سقراط يرفض ذلك قائلاً لا بُدّ أن تكون ثمة فضيلة مشتركة لدى الجميع مهما كانوا، وأيّاً يكن جنسهم أو عمرهم، فحُسن الخُلق والعدالة على سبيل المثال هما فضيلتان موجودتان لدى الصغار كشأن الكبار.

سقراط: يبدو يا مينون أنّني حظيتُ بقسط وافرٍ من الحظ، إذ إنّني عندما بحثتُ عن فضيلةٍ واحدة اكتشفتُ أن لديكَ حشداً من الفضائل. وإذا ما سألتُكَ، تماشياً مع هذه الصورة، عن ماهية النحل وقلت إنّ هناك أنواعاً مختلفة منها، فكيف تُجيبني إذا ما سألتُك: هل تعني، من هذه الناحية، أنّ ثمة أجناساً مختلفة منها يختلف أحدها كلياً عن الآخر، أو أنّها لا تختلف اختلافاً اصلياً، بل في نواحٍ غير أصلية مثل الجمال أو الحجم أو أي شيء آخر من هذا القبيل؟ أخبرني كيف ستُجيب إذا ما سُئلتَ على هذا النحو؟
مينون: أقول في ذلك إنّها لا تختلف، من حيث كونها جماعات نحلٍ، الواحدة عن الأخرى.
سقراط: وإذا ما قلتَ بعد ذلك: أخبرني الآن يا مينون بأيِّ شيء لا تختلف بل تتشابه جميعاً، فما قولك في ذلك؟ أفترضُ أنّ لديك ما تقوله لي؟
مينون: نعم، هو كذلك.
سقراط: الأمر ذاته ينطبق على الفضائل أيضاً. فإذا كانت ثمة أنواعٌ مختلفة منها، فإنّها تتماثل جميعاً في هيئة واحدة، تُعرِّفها كفضيلة.
مينون: أظنّني أفهمك، ولو أنّني لم أستشفّ المقصدَ من سؤالك كما أودّ.
سقراط: هل يبدو لك على هذا النحو يا مينون، في ما يختص بالفضيلة فحسب، بأنّ ثمة فضيلة للرجل، وأخرى للمرأة، ونحو ذلك، أو أنّها الفضيلة ذاتها بالنسبة إلى الصحة والحجم والقوة أيضاً. فهل تظنّ أنّ هناك صحة للرجل وأخرى للمرأة؟ أو أنّها بالهيئة ذاتها في كِلتا الحالتين.
مينون: أظنُّ كذلك بالنسبة إلى الصحة على الأقل، فهي ذاتها لدى الرجل والمرأة على السواء.

أدى أخذ سقراط للحوار في هذا المنحى إلى ارتباك مينون وفكره التشككي، لذا نراه مستاء بعض الشيء ويشبّه سقراط بالسمكة اللاسعة التي تصعق ضحيتها وتشلّها، (أي بأسئلته التي حيّرت عقل مينون وكشفت كم هو بعيد عن الحقيقة). انتقل مينون إلى محاولة تعريف الفضيلة باعتبارها «القدرة على إحراز الأشياء القيِّمة مثل الذهب والفضة والمقتنيات الأخرى. إلا أنّ سقراط يُجبره على الإقرار بأنّ حيازة مثل هذه المقتنيات لا بُدّ من أن تتم وفق مبدأ العدل أو الفضائل أو التقوى إذا كان العمل لأجلها سيعتبر «فضيلة». كما أن عدم إحراز تلك الأشياء سيكون هو الفضيلة بعينها إذا كان السبيل إلى إحرازها يحتوي على معارضة العدل أو الحق.
يبدي مينون في الثلث الأول من المحاورة طبعاً جدالياً وخصامياً، فبعد إخفاقه بداية في تعريف الفضيلة اقترح عليه سقراط أن يُعرِّف أولاً، من باب «التمرين» الشكل واللون، إلا أنّه بحُكم تعوِّده على الثقة المفرطة بالإجابة عن كل سؤال، كما عوَّده معلّمه غورجياس، رفض محاولة الإجابة وقال لسقراط «إفعَلْ أنت».
هنا يدعو سقراط مينون مجدداً إلى الانضمام إليه في بحث مشترك عن ماهية الفضيلة، إلا أنّ مينون يعود تهرّباً إلى طرح تساؤلاته الثلاثة الأولى، أي هل الفضيلة ممكن تعليمها، أم هي تُكْتَسَب بالممارسة، أم هي قائمة في الإنسان بالطبيعة؟

التعليم السقراطي
ما لم يفطن إليه مينون هو أنّ سقراط ببثه الحيرة لدى محاوره إنّما يُجديه نفعاً بإعمال التفكير واستجلاء أبعاد التساؤلات، وبالتالي يمنحه الفرصة لكي يصبح أكثر قابلية لاكتساب الفضيلة. وهنا يخضع مينون للتأديب السقراطي، لكن أنّى له أن يستفيد منه كما نشَدَ سقراط؟ فهو مشوب بالمثالب كما ألمح أفلاطون بين سطور بدايات الحوار، ومنها أنّه مفرط الثقة في النفس، وراغب في أن يُخْبَر لا أن يُخْبِر، وجدلي ومتعجرف ومتباهٍ ومتطلّب وغير آبه وغافل، هذا مع العلم أنّ نهاية الحوار تُنبئ بأنّ مينون لان في موقفه بعد بسط حجج سقراط ولو قليلاً، وهذا يعكس قوة التعليم الذي دأب عليه سقراط، بحيث يخرج محاورِه بدرس معرفي، وذلك بعد إثبات المعلم سقراط لإخفاق طروحاته.

مفارقة مينون
يحاول مينون السوفسطائي إرباك سقراط بقوله بأنّه لا يمكن معرفة شيء لا تعرفه بالفعل، أي أنّه يرفض مبدأ المعرفة من أساسه. ويمكن اختصار مفارقة أو مغالطة مينون(Meno Paradox)المنطقية في الظاهر لكن الخاطئة في الجوهر كما يلي:
إذا كنتَ تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي غير ضروري.
إذا كنتَ لا تعرف ما تبحث عنه، فإنّ البحث المعرفي مستحيل.
إذاً، البحث المعرفي هو إمّا غير ضروري أو مستحيل.

مينون: أنّى لكَ يا سقراط أن تتقصّى شيئاً لا تعلمه؟ وأي شيء سيكون موضوع هذا التقصِّي؟ وإذا ما تسنّى لك أن تجد ما تنشده، كيف لك أن تعلم أنّه ذلك الشيء الذي لا تحيط به علماً؟
سقراط: أعلمُ يا مينون ما هو قصدك، لكن أي جدلٍ ذاك الذي تُوقِعني فيه. فأنتَ ترى أنّ المرء لا يمكنه أن يتقصّى ما يعرفه، أو ما لا يعرفه. فإذا كان يعرفه، فما الحاجة إلى تقصّيه وهو يعرفه، وإذا كان يجهله، فأنّى له أن يتقصّى ما لا معرفة له فيه.

المعرفة تذكُّر
يحتوي سقراط هذه المفارقة السوفسطائية، التي بدا أنّ مينون قد تدرّب جيداً على يدي غورجياس في طرح أسئلتها والإيحاء بإجاباتها، وذلك باللجوء إلى نظرية التذكُّر، بأن ذكّر بداية بقصة شاعرية تتحدّث عن كون النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها، وقد تعلّمت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنسان، فبعد أن كانت مطلّعة على الأشياء الحقيقية قبل الولادة ليس عليها سوى أن تسترجعها أو تستذكرها في هذه الحياة. وربّما لا يتطلّب هذا التذكُّر سوى طريقة سقراط في طرح الأسئلة والاستجواب، وهي ليست بنظره تعليماً بل مساعدة على تحريك ملكة التذكر.
هنا تتبدّى تدريجياً الحبكة الحوارية التي انتهجها أفلاطون في إخراج مينون من ضبابية حيرته، بعد فشله في تعريف الفضيلة ثلاثاً. ومن ثم يحثّ سقراط مينون للعودة إلى منطق الحوار سعياً لأن يُثبت له أنّ التعلُّم هو تذكُّر وليس تلقيناً، فيطلب من مينون أن يختار واحداً من عبيده المرافقين له ويأخذ بطرح أسئلة عليه بشأن ما عرف في ما بعد بـ «مربّع سقراط».

الأكروبوليس-وآثار-أغورا-اليوم
الأكروبوليس-وآثار-أغورا-اليوم

سقراط: النفوس خالدة مدرِكة لجميع الحقائق المتأصِّلة فيها وقد تعلّمـــت كل شيء قبل حلولها في جسد الإنســـان

اختبار العبد
أجرى سقراط عندئذ حواراً ربما يُعتبر من بين الأكثر تأثيراً في مسار الفلسفة، سعياً إلى إثبات المعرفة المتأصِّلة في النفس، قَبْليّاً أو بَدْهيّاً a priori من غير تعلُّم ولا تعليم ولا استدلال تجريبي aposteriori فبعد أن رسم سقراط على الارض مربعاً هندسياً طول ضلعه قدمان، سأل العبد أن يُحدِّد مربعاً تكون مساحته ضعف مساحة ذاك الذي خطه. اندفع العبد ليضاعف طول كل من ضلعي المربع الأول، لكنه استدرك خطأه بسرعة عندما أثبت له سقراط أنّ المربع الناتج عن مضاعفة ضلع المربع الاول لا يساوي ضعف ذلك المربع، بل هو أكبر منه بأربع مرّات.
مينون الذي كان يشهد الاختبار زعم أن سقراط قام بـ»تخدير» عقل العبد بهذا الإرباك. لكن سقراط أجابه بالقول إن إرباك العبد لم يُسبِّب له أذى بل أفاده. يعترف العبد بأنّه عاجز عن حل المسألة ولو أنّه ظنّ العكس بداية. ويسأل سقراط مينون عن رأيه في ما قد شاهده، وما إذا كان يُستحسن أن يترك العبد المحاولة بسبب حيرته، فتمنّى مينون عليه المتابعة بالطبع.
ومن ثم عمَدَ سقراط إلى رسم 4 خطوط قطرية(Diagonals)داخل كل من المربعات الأربعة، وأصبح المربع المرتسم من أربعة من أصل المثلثات الثمانية الداخلية طول ضلعه أربعة أقدام، أي ضعف طول ضلع المربع الأصلي، وهذا هو ما كان مطلوباً. وأقرّ العبد بأنّ المربّع الحاصل هو فعلاً ضعف حجم المربع الأصلي، وقال إنّه قد استعاد تلقائياً معرفة «اكتسبها في حياة سابقة» من دون أي تعليم. وأبدى سقراط رضاه عن أنّ ثمة «معارف جديدة» برزت حديثاً لدى العبد.
وهكذا أُظهِرَ للعبد السبيل لتذكُّر ما هو ماثل فيه بَدْهيّاً من حقائق هندسية، وهو لم يتعلّم الهندسة قط، أي أنّه يمكن أن يتعلّم بالتذكّر من دون تعليم. ويُنهي سقراط استجوابه هذا بالتأكيد على أنّ الحيرة تنفع الإنسان ليس فقط فكرياً بل أخلاقياً أيضاً، من حيث السعي إلى معرفة ما لا يعلمه وبعزيمة أكبر.
وهنا، بعد أن رأى مينون بأم عينه كيف تذكّر عبدُه معرفة متأصّلة فيه، أخبر سقراط أنّه يظنّه على حق في نظرية «المعرفة تذكُّر»، فأجابه سقراط أنّه ليس واثقاً كامل الثقة من قصته لكنّ ثمة شيئاً وحيداً متأكداً منه هو استعداده للنضال بقدر استطاعته، قولاً وفعلاً، للإثبات بأننا نكون أفضل وأكثر شجاعة وفعالية إذا ما أقدمنا على البحث في ما لا نعلمه. وأثبت سقراط لمينون أنّ العبد قادر على تعلُّم حقيقة هندسية لأنّه يملك معرفة عنها بالفعل في نفسه، وبالتالي يكون التعلُّمُ ممكناً من خلال التذكُّر، وأنّ مفارقة التعلّم (Learning Paradox) خاطئة لقولها باستحالة التعلّم، إذ إنّ اختبار العبد أثبت عكس ذلك. وأظهر الاختبار الهندسي الأفلاطوني أنّ الفضيلة، إلى جانب المعارف الأخرى، يمكن استكشافها حقاً من خلال استجلاء المعرفة المتأصِّلة في النفس، وليس السبيل إلى ذلك سوى «تذكُّرها» بالمنهج المناسب.

سقراط: يُقال إنّ النفسَ البشرية خالدة. وهي في وقتٍ ما ستصل إلى نهايتها وهو ما يدعوه الناسُ موتاً وفي وقتٍ آخر ستُولد من جديد، إلا أنّها لا تتلاشى أبداً، وبالتالي على المرء أن يحيا تقيّاً ما استطاع.
وإذا ما كانت النفسُ خالدة وقد وُلِدَت مرّات عديدة، وشاهدت الأشياءَ هنا وكذلك في «هادس» أي كلَّ شيء، في الواقع فما من شيء لم تتعلّمه. لذا، لا عجبَ أنّها قادرة على تذكُّر الفضيلة وأشياء أخرى عَرَفَتها من قبل. وبما أنّ كلَّ ما في الطبيعة هو من نوعٍ واحد والنفس قد تعلّمت كلَّ شيء، فما من شيء يمنع النفس التي قد تذكّرت شيئاً واحداً وهو ما يدعونه تعلُّماً من إعادة اكتشاف كلّ شيء، شرط أن تتحلّى بالشجاعة وعدم التواني في البحث. إذ إنّ البحثَ والتعلُّمَ هما جزء من عملية التذكُّر.
لذا، وجبَ ألا نقتنع بالكلام السوفسطائي، بما أنّه يجعلنا خاملين ويسرّ سماعه ضعفاء القلوب، في حين أنّ ما سبق من كلامٍ يجعلنا توّاقين للبحث. وإيماناً بصحة ذلك، أودُّ أن أبحث معك في ماهية الفضيلة.
مينون: نعم يا سقراط، لكن ماذا تعني بقولك بأنّ لا سبيل لنا للتعلُّم، وأنّ ما يُسمّى تعلُّماً إنّما هو عملية تذكُّر؟ فهلّا علّمتني حقيقة ذلك؟
سقراط: لقد أخبرتُكَ يا مينون للتو أنّك تُبدي مكراً، فأنتَ تسألني الآن ما إذا كان بوسعي أن أُعلّمك في حين أنّني أقول بأنّ لا سبيل للتعلُّم، بل للتذكُّر فحسب، وبذلك تتصوّر أنّك تُوقِعني في التناقض.
مينون: لا وحَقّ الإله، لم أقل ذلك لهذا السبب، بل بحُكم العادة.

هل تتعرض النفس إلى البلى والتآكل بعد حلولها في أجساد عدة؟

المعتقد الحقيقي والمعرفة
بعد مناقشة عابرة مع السياسي أنيتوس(Anytus)، الذي ظهر فجأة في سياق المحاورة، حول ما إذا كان الآباء الأفاضل يُورٍّثون فضيلتهم إلى أبنائهم، وهو ما طُرِحَ الشك حياله، سأل سقراط مينون إذا كان يعتبر السوفسطائيين معلِّمين للفضيلة، وهو سؤال أوقعه مجدداً في الحيرة. أما سقراط فسيُثبت له بأنّه مخطئ بقوله إنّ المعرفة مطلوبة لأجل الفضائل العملية، مظهراً له الفرق بين»المعتقد الحقيقي»True Belief وبين الرأي الصحيح والمعرفة، ويرى سقراط أنّ المعتقد الحقيقي ذو فائدة لنا كشأن المعرفة لكن لا بُدّ من تثبيته بالتبرير العقلي مُعتبراً أيضاً ذلك تذكُّراً.

سقراط: المعتقدات الحقيقية، أيضاً، طالما لازمتك، هي ممتلكات حَسَنة وتُثمر نتائج حَسَنة تماماً.ً إلا أنّها غير راغبة في الملازمة لوقتٍ طويل، وتنسلُّ من النفس، وليست بذلك ذات شأن، حتى يُرسِّخها المرء بالعقل.
وبالمقارنة يا مينون، ذلك هو التذكّر، كما اتّفقنا للتو. ما أن تترسَّخ (المعتقدات الحقيقية)، أولاً، حتى تصبح معرفةً، ومن ثم راسخة وطيدة. ولهذا السبب تُكرَّمُ المعرفةُ أكثر من المعتقد الحقيقي، لأن المعرفة تختلف عن المعتقد الحقيقي بكونها ترسَّخت بالعقل.
مينون: نعم بحَقّ الإله يا سقراط، إنّها كذلك.

المعرفة حكمة وهِبَة إلهية
وفي الأسطر الختامية للمحاورة يخلُص سقراط، بعد أنّ بدّد جميع خيارات مينون، إلى أنّ الفضيلة هي «هِبَة إلهية»، وإلى أنّ أولئك الذين تحلّوا بالأمس، أو يتحلّون اليوم بالفضيلة إنّما الفضيلة لديهم هي نتيجة لإلهامٍ مقدّسٍ، أشبه ما يكون بإلهام الشعراء، في حين أنّ المعرفة بها تتطلّب تقصّي ماهيتها بحد ذاتها.

سقراط: إذن، هل هؤلاء الرجال يستحقّون أن يُطلَق عليهم مُلهَمون مِن علٍّ، أولئك الذين يقومون بأشياء عظيمةٍ، فعلاً وقولاً، من دون أي تفكير؟
مينون: بالتأكيد.
سقراط: يمكننا على هذا النحو أن ندعو السياسيين مُلهَمينَ، ومُلقَى في سرِّهم، حينما يتحدّثون بنجاحٍ في العديدِ من المسائل الكبيرة من دون أنْ يُدركوا حقاً ما يتحدّثون عنه.
مينون: حتماً.
سقراط: إذا ما تقصينا وتحدّثنا على نحو صائبٍ في هذا الخصوص، نخلُص إلى أنّ الفضيلة لا تُكتَسب بالطبيعة ولا بالتعليم، بل تكون ماثلةً فيمَنْ يتحلَّى بها هِبَةً، طالما أنه لا يوجد بين رجال السياسة مَنْ يمكنه أن يجعل الآخرين كذلك.
مينون: أظنُكَ يا سقراط قد أجَدتَ في ذلك.
سقراط: إذن، تبيَّن منطقياً يا مينون أنّ الفضيلة إنّما هي «هِبَةٌ إلهيةٌ»، لكن لا يسعنا أن نتيقّن من ذلك إلا عندما نبدأ بتقصّي ماهية الفضيلة نفسها، وقبل أن نستبين كيف يمكن للمرء أن يتحلّى بها.
والآن إنّي مُفَارقٌ إلى مكانٍ آخر. فعليكَ يا مينون أن تُقنِع ضيفَكَ ها هنا أنيتوس بتلك الأشياء التي اهتديتَ إليها، فعساهُ أن يغدو أكثرَ رِفقاً واعتدالاً. فإذا ما أقنعتَهُ بذلك، لتَفِيدَنَّ أيضاً جميعَ الأثينيين.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading