

إدوارد سعيد
في كتابه «الاستشراق»
ثَبْتٌ علميٌّ بقاموس الاستشراق الاستعماريّ
لكنّ تعميم الإدانة أثار جدلاً بين الأكاديميين


“هل هو خيرٌ لهذه الأمم العظيمة-وأنا أعترفُ بعظمتها- أنْ نقومَ نحن بممارسة هذا النّمط من الحكم المُطلق عليها؟ في ظَنّي أنَّ ذلك خير”
(لورد بلفور)
نَشّرَ المفكّر الفلسطينيّ الرّاحل كتابه عن “الاستشراق” لأوّل مرّة باللّغة الإنكليزيّة في العام 1978 تحت عنوان (Orientalism) وأحدث الكتاب، الذي تضمّن إدانة غير مسبوقة لإرث الاستشراق وعلاقته بخطط الهيمنة الغربيّة على الشّرق، أصداءً واسعة في الأوساط الأكاديميّة في أوروبا والولايات المتّحدة كما أحدث جدالاً نشطا وحماسيا، إذ انبرى عدد من المفكّرين من بينهم ألبرت حوراني وماكسيم رودنسون وجاك برك وبرنارد لويس (الذي اعتبره سعيد نموذجاً للاستشراق المعاصر المنحاز للغرب وإسرائيل) وغيرهم لنقد ما اعتبروه تعميماً غير عادل في الحكم على حركة الاستشراق وعمل المستشرقين. وقد دفع النّقاش البروفسور إدوار سعيد للردّ على منتقديه في كتب أو مقالات لاحقة. لكن بِغَضِّ النّظر عن الجدل الذي أثاره الكتاب فإنّ أصدقاء سعيد وكذلك ناقديه يعترفون بأنّ كتابه عن الاستشراق أصبح أكثر المؤلّفات الفكريّة المعاصرة شهرةً وتأثيراً في عالم الدّراسات المشرقيّة في العالم، وأنّه ساعد في تسليط الضّوء على مسألة التحيّز الحضاريّ والثّقافيّ في كتابة التّاريخ من قبل المستشرقين الغربيّين، وخلق بالتّالي مناخاً جديداً أكثر توازناً في أروقة الجامعات ومعاهد الأبحاث الغربيّة الأوروبيّة والأميركيّة ونظرتها إلى “الآخر” وخصوصاً الشّعوب العربيّة-الإسلامية والأسيويّة والأفريقيّة.
أما إدوار سعيد نفسه فقد أصبح شخصيّة عالميّة يدعى باستمرار من قبل الجامعات والمؤسّسات الثّقافيّة والفكريّة لإلقاء المحاضرات حول مختلف المواضيع الفكريّة والسّياسيّة، وقد حاضر سعيد في أكثر من 200 جامعة في الشّرق الأوسط وكندا والولايات المتّحدة وأوروبا ونشر أكثر من 20 كتاباً أربعة منها حول الموسيقيّ (وقد كان عازفَ بيانو بارعاً) كما حاضر سعيد في أشهر الجامعات الأميركيّة (مثل هارفررد وجون هوبكنز ويايل وغيرها) إضافة إلى منصبه كرئيس لمركز دراسات الشّرق الأوسط في جامعة كولومبيا والتي رقَّتهُ في العام 1992 إلى رتبة بروفِسور، وهي من أعلى الرّتب الجامعيّة ونادراً ما يحصل عليها إلّا القلّة من المفكّرين المبدعين.
اعتَبر إدوارد سعيد أنّ جذور الاستشراق كما وصفه (أي كسلاح فكريٍّ لتبرير الهيمنة وسياسات إخضاع شّعوب العربية والإسلامية خصوصا مع بداية القرن التّاسِع عشر) تكمن في عدد من العوامل أهمّها:
التّاريخ الطّويل من تقليد كُره العرب والمسلمين في الغرب الذي بدأ مع الحملات الصّليبيّة وحروب الأندلس ثم الحروب مع الدّولة العثمانيّة والتي اعتُبرت في وقت من الأوقات تهديداً خطيراً لأوروبّا. لقد تمّ لأغراض سياسيّة تصوير العرب والمسلمين بأكثر الصّور سلبيّة وإثارة للخوف ولمشاعر الكراهية باعتبارهم شعوباً همجيّة تستهدف الحضارة المتقدّمة والأرفع للمجتمعات الغربيّة المسيحيّة.
قيام دولة إسرائيل وما تبعه من صراع وجوديّ بين الدّولة الغريبة وذات الأصول الثقافيّة الأوروبيّة وبين محيطها العربيّ والإسلاميّ. وقد أدّى تأسيس وجود صهيونيّ غاصب في “أرض الميعاد” إلى استنفار العالم اليهوديّ عموماً وخصوصاً المفكّرين اليهود أو المتعاطفين مع إسرائيل لإنتاج كمٍّ كبير من الأدبيّات التي استهدفت جميعها تطبيق النّهج الاستشراقيّ عبر تقديم إسرائيل كممثّلة للديمقراطيّة وللحضارة الغربيّة الرّائدة في جميع الميادين والمهدّدة من البيئة المتخلّفة والاستبداديّة للمجتمع المشرقيّ العربيّ والإسلاميّ.
الغياب شبه التّام لأيّ تجربة مضادّة أو موقع ثقافي أو مؤسّسة كبرى لها نفوذها في الغرب يمكنها أن توفّر عنصر توازن ولو جزئي مع الجوّ الشّامل من التّحيّز والتّصوير غير الموضوعي والمبرمج سياسيّاً للشّعوب المشرقيّة.
انتقال الكثير من المقولات التي تتردّد في كتابات المستشرقين إلى صعيد الثّقافة الشّعبيّة ولاحقاً وسائل الإعلام المرئيّ والمسموع والمقروء، الأمر الذي سمح بتوسيع نفوذ نظرة الاستشراق المنحازة إلى المصالح الغربيّة لتصبح أيضاً ثقافة شعبيّة من صور نمطيّة مشوّهة عن العرب والمسلمين يمكن البناء عليها في العمل السياسيّ أو الغزوات العسكريّة وتحريك الرّأي العام. (مثلاً اجتياح العراق سنة 2003 والتّدخل الغربيّ في ليبيا ثم التّدخّل الغربيّ الحاليّ في سوريا والعراق.)..
ومن دون الدّخول في المناظرة التي قامت حول كتاب “الاستشراق” للبروفِسور إدوارد سعيد سنقوم هنا باختيار نماذج من التّفكير الاستشراقيّ الذي تمحورت شكوى سعيد عليه في الكتاب، وهي نماذج كثيرة وتكاد لا تحصى، علماً أنّ المقولات المنحازة والعدوانيّة أحياناً ضدّ المشرق وضدّ العرب والإسلام لم يكن مصدرها أشخاص هامشيّون أو كُتّاب مغمورون بل مفكرون أو سياسيّون لعبوا أدوراً كبيرة في بلورة السّياسات الاستعماريّة لبلادهم تجاه البلدان المشرقيّة والأسيويّة.
يؤرّخ سعيد لبدء ظهور الاستشراق الرّسميّ بصدور قرار مجمع فينّا الكَنَسيّ عام 1312م بتأسيس عدد من الكراسي الأستاذيّة في العربيّة واليونانيّة والعبريّة والسّريانيّة في جامعات باريس وأوكسفورد وبولونيا وأفينيون وسلامانكا كانت الفترة يومها فترة ازدهار وقوة للدّولة العثمانيّة التي ستقوم بعد 141 عاما (1453) من ذلك التاريخ بإسقاط القسطنطينيّة وتهديد روما نفسها على يد السّلطان محمّد الفاتح. لقد أدّت حيويّة المجتمع العثمانيّ والخلافة الإسلاميّة في عصر بني عثمان إلى فترة من المهادنة كانت الكلمة العليا فيها للمسلمين، وقد حقّقت الخلافة العثمانيّة في أوجها وقبل بدء انحدارها في القرن الثّامن عشَرَ إنجازات مُبهرة في جميع الميادين وقدّمت نموذجاً عن دولة منفتحة ونظام تسامح ديني وعرقي جعل جميع الشّعوب التي تعيش في ظلّها تنعم بمراحل سلام طويلة، كما جعل اليهود الذين فرّوا من أسبانيا الكاثوليكيّة أو تم طردهم منها بالجملة في العام 1492 يتوجّهون إلى الدّولة العثمانيّة طلباً للأمان ولبناء حياة جديدة مزدهرة في المجتمعات الإسلاميّة إلى جانب الأقليّات الكثيرة التي استظلّت النّظام المنفتح والمتسامح للخلافة العثمانيّة لمئات السّنين.
يلاحظ إدوارد سعيد أنّ حركة الاستشراق شهدت نهضة كبيرة في بدايات القرن التاسع عشر، وذلك عندما بلغ عدد الحجّاج الأوروبيين إلى القدس مثلاً أعداداً هائلة لا تكاد تقارن أبداً بعدد الشّرقيّين الذين كانوا يتوافدون على أوروبا لأسباب مختلفة. وأصبح الشّرق الشّغل الشّاغل للكتّاب والمؤلّفين في أوروبا حيث بلغ عدد الكتب المؤلّفة منذ عام 1800 وحتى عام 1950 نحو 60,000 كتاب.! أي بمعدّل 400 كتاب في السّنة الواحدة أيّ أكثر من كتاب واحد في اليوم، وطبعاً لا مقارنة مطلقاً بعدد الكتب التي كُتبت في الشّرق عن الغرب.
كانت الدّولة العثمانيّة بدأت تكشف عن مظاهر شيخوخة وضَعف في تلك الفترة بالتّحديد، وقد شعرت الدّول الأوروبيّة بذلك من خلال تواجدها الكثيف الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثّقافيّ في أنحاء الدّولة، وبدأت بالتّالي ما يمكن اعتباره أكبر عمليّة استكشاف للدّولة الهَرِمة واستطلاع للسّبل التي يمكن اعتمادها لاحقاً وعندما تحين الفرصة للاستيلاء على ممتلكاتها الواسعة، وستبدأ الحركات اليهوديّة لاحقاً ومن جهتها بعمليّات استطلاع تتعلّق بمشروعها الصّهيوني لإقامة وطن لليهود في فلسطين العثمانيّة عندما تحين الفرصة لذلك.
يعتبر إدوار سعيد حملة نابليون على مصر في العام 1798-1801 أحد أهمّ الأحداث التي أثّرت على بلدان المنطقة وعلى حركة الاستشراق، وهو يعتبر أنّ لغة الاستشراق ذاتها شهدت تغيّراً جذريّاً بسبب الحملة وارتقت في واقعيّتها الوصفيّة وأهدافها لتصبح وسيلة لإعادة تشكيل المجتمعات (على النحو الذي تم في معاهدة سايكس-بيكو) وإعادة بنائها وتجميعها بالاستناد إلى جهود عدد من المستشرقين، وصار كِتاب “وصف مصر” نقطة تحوّل وحجر زاوية في الرّؤية الأوروبيّة للشّرق وطريقة تعاملهم مع المنطقة.


يتوقّف إدوار سعيد بصورة خاصّة أمام بعض المقالات والأقوال لـ آرثر جيمس بلفور، السّياسيّ البريطانيّ البارز (رئيس وزراء بريطانيا بين 1902 و1905) وصاحب وعد بلفور الشّهير والذي كان من أبرز سياسيّيّ الإمبراطوريّة البريطانيّة وأكثرهم تمرّساً في الحرب والدبلوماسيّة، ممّا جعل منه مرجعيّة كبيرة في صياغة علاقات الغرب مع الشّرق. يقول بلفور “ قبل كلّ شيء أنظُر إلى حقيقة المسألة وهي: إنّ الأمم الغربيّة فور انبثاقها في التّاريخ تُظهر تباشير القدرة على حكم الذّات، لأنها تمتلك مزايا خاصّة بها، ويمكنك أن تنظر إلى تاريخ الشّرقيّين بأكمله فيما يسمّى بشكل عام “المشرق”، دون أن تجد أثراً لحكم الذّات على الإطلاق. كلّ القرون العظيمة التي مرّت على الشّرقيّين -ولقد كانت عظيمة جداً- انقضت في ظلّ الطّغيان والحكم المطلق. وكلّ إسهاماتهم العظيمة في الحضارة الإنسانيّة -ولقد كانت عظيمة- أُنجِزت في ظلّ هذا النّمط من الحكم، فقد خلَّفَ كلُّ فاتحٌ فاتحاً آخر. غير أنك في دورات القدر والمصير كلّها لا ترى أمّة واحدة من هذه الأمم تؤسّس بدافع من حركتها الذّاتية ما نسمّيه نحن من وجهة نظر غربيّة “حكم الذّات” Sefl-rule ثم يطرح بلفور السُّؤال: هل هو خير لهذه الأمم العظيمة -وأنا أعترف بعظمتها- أن نقوم نحن بممارسة هذا النّمط من الحكم المطلق (عليها)؟ في ظَنّي أنّ ذلك خير. وفي ظَنّي أيضاً أنّ التّجربة تُظهر أنّهم في ظلّ هذا النّمط عرفوا حكماً أفضل بمراحل مما عرفوه خلال تاريخ عالمهم الطّويل كلّه. ونحن في مِصْرَ لسنا من أجل المصريّين وحسب، نحن هناك أيضاً من أجل أوروبا كلّها.
ويؤكّد بلفور في قول آخر ما قام به اللّورد كرومر من خدمات لمِصْرَ في قولة “وقد ارتقت خدمات لورد كرومر بمِصرَ، خلال ربع القرن الماضي، من أدنى درجات المهانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة إلى حيث تقف الآن بين الأمم الشّرقيّة فريدة في اعتقادي دون منازع في ثرائها ماليّاً وأخلاقيّا”.
يقول إدوارد سعيد إنّ الآراء المعاصرة للمستشرقين حول الشّرقيّين تطغى على الصّحافة والعقل الشّعبي، فالعرب مثلا يُصوَّرون على أنّهم راكبو جمال إرهابيّون معقوفو الأنوف شهوانيّون شَرِهون تمثّل ثروتهم غير المُستحقَّة إهانة للحضارة الحقيقيّة، وثمّة دائماً افتراض بأنّ المستهلك الغربيّ رغم كونه ينتمي إلى أقليّة عدديّة، هو ذو حق شرعيّ إمّا في امتلاك معظم الموارد الطّبيعيّة في العالم أو في استهلاكها أو في كلاهما معاً لماذا؟ لأنّه بخلاف الشّرقيّ “إنسانٌ حقيقيّ”
وهو يضيف القول: “إنّ غربيّاً من الطّبقة الوسطى يؤمن بأنّه لَحَقٌّ طبيعيٌّ له لا أنْ يدير شؤون العالم غير الأبيض فحسب، بل أنْ يمتلكه كذلك لمجرّد أنّ العالَمَ الأخير تحديداً ليس بالضّبط إنسانيّاً تماما بقدر ما “نحن” كذلك” .
في منظومة شاتوبريان (صفحة 186) يقول:” لم تـَـدُر الحرب الصّليبيّة حول إنقاذ كنيسة القيامة وحسب بل دارت حول معرفة من الذي سينتصر على هذه الأرض: مذهبٌ تعبُّدي هو عدوٌّ للحضارة، محبِّذ باطراد للجهل (يقصد الإسلام طبعاً) وللطّغيان وللعبوديّة، أو مذهب تعبُّدي تمكّن من أن يوقظ في البشر المعاصرين عبقرية الزّمن الغابر الحكيم وألغى العبوديّة الدّنيئة “
يكمل شاتوبريان طارحاً فكرة ملفّقة طالما ترددت في الكتابة الأوروبيّة وهي كيف علَّمَت أوروبّا الشّرق ولقّنته معنى الحرّيّة حين يقول: “عن الحرّيّة لا يعرفون شيئاً من آدابها، ليس لديهم شيء، القوّة هي ربُّهم؛ وحين تمرّ بهم فترات طويلة لا يرون فيها فاتحين يطبقون عدالة السّماء فإنّهم يبدون مثل جنود دون قائد، مثل مواطنين دون مُشَرِّعين، مثل عائلة دون أب.”
هنا يربط سعيد بين الفترة الزّمنيّة (1810) التي قيلت فيها تلك الكلمات وعاشها شاتوبريان وبين (1910) وما قاله كرومر محتجّاً بأنّ الشرقيين هم الذين يطلبون الفتح مظهراً بذلك عجزه عن أن يرى الغزو الغربيّ للشّرق ليس كغزو بل كـ “عمل خير” يعطي للشّعب المحتلّ “حرِّيته” التي طالما تمنّاها. أي أنّها ذات العقليّة بنفس الأدوات وطريقة التّفكير وحتى طريقة استعمال الألفاظ حتى بعد مرور مائة عام. ولو تمعَّنّا قليلاً فإنّنا في 2006 نجد أي بعد مرور مئة سنة أخرى تقريباً (رامسفيلد وديك تشينى وبوش وآخرين في الحزب الجمهوريّ الحاكم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وطونى بلير وبراون ) يتكلّمون بذات الطّريقة والأسلوب بل وبذات الكلمات تقريباً عن اجتياح العراق واحتلاله وضرورة “تحريره” وتحرير أبنائه وزرع مفهوم الديمقراطيّة والحريّة في أرجائه بعد الإطاحة بنظام صدّام حسين.
يؤكّد سعيد على أنّ القوى العظمى درَسَت بعناية جميع الأقليّات من يهود وروم أرثوذوكس وأرثوذوكس روس ودروز وشركس وأرمن وأكراد فضلا عن المذاهب والملل المسيحيّة الصّغيرة المختلفة، وتمّ في ضوء ما جُمع من معلومات وكُتب من تقارير التّخطيط لمصير كلّ مجموعة وكيف يمكن استخدامها، وكانت تلك القوى ترتجل وتصوغ وتبني سياستها في الشّرق على تلك الأسس، كما حدث في العام 1860 أثناء الصّدام بين الموارنة والدّروز في لبنان حيث ساندت فرنسا الموارنة في سياق الخطط التي تسارعت يومها لتمزيق أوصال الدّولة العثمانية.

