الجمعة, شباط 21, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, شباط 21, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

ابو حسين يوسف

سيرة الشيخ العابد الذاكر الزاهد

أبـــو حسيـــن يوســـف
عبــــــد الوهــــــــــــــاب

رحلة تعب وورع ومجاهدة من الشوف إلى جبل العرب

كان يتابع ليلة الجمعة واقفاً ذاكراً حتى الصباح
ويكره مظاهر التنعّم في الطعام أو في الملبوس

تعفف عن الزواج لكي يصرف أيامه في الذكر
وكان يقوم الليل ويعيش على القليل من القوت

لم يكن يُشهِر صيامه ومجاهداته رفقاً بالآخرين
وكان متواضعاً بشوشاً حسن الإستماع والنصيحة

تقدم سيرة حياة الشيخ العارف أبو حسين يوسف عبد الوهاب رحمه الله تعالى مثالاً ساطعاً على جيل من النساك الزاهدين العارفين الذين كرسوا حياتهم للتقرب من الله والغوص في بحر أسرار الدين واستكشاف سبل القربى من الخالق ونيل المأرب في العلوم النورانية والحياة السعيدة في مرضاة الله تعالى.
ومثل أقرانه من أكابر أهل الحق فقد اتسمت حياة هذا الشيخ العارف بنصيب وافر من العناء والفقر وضنك العيش وقد شاء القدر له أن يبدأ شبابه في خضم الحرب العالمية الأولى وما رافقها من جوع وسنوات عجاف وجراد، الأمر الذي جعله يوجه شطره شطر جبل الدروز في سوريا ليستقر في الغارية وليبني لنفسه مع الوقت سيرة حافلة نعرض لبعض أهم محطاتها وسماتها في هذا المقال ونحن نأمل أن تضيف هذه السيرة العطرة إلى ما سبقها من سير الصالحين الذين تهتم مجلة “الضحى” بعرض أمثولاتهم وإرثهم وتعليمهم من قبيل الذكر”فذكر لعلّ الذكرى تنفع المؤمنين” وكم نحن في حاجة في أيامنا هذه لأن نتعرف على سير هؤلاء الصالحين وأن نتأمل فيها وأن نقتبس منها.

ولد الشيخ (أبو حسين) يوسف عبد الوهاب في عام 1895 في قرية «عين قني» الواقعة في الشوف الحيطي، وكان والده الشيخ حمود عبد الوهاب في الأصل من قرية بريح الشوفية ولكن زواجه بالسيدة الفاضلة فضة قاسم جمال، التي تنتمي لآل ماهر جعله يتخذ من عين قني موطناً له.
وفي تلك القرية، وفي ظل والديه الموحّدَين، ترعرع الطفل يوسف، أكبر أبناء الشيخ حمود، وعندما بلغ سن التعلّم، وحيث لم تكن من مدرسة في قريته، كان يمضي إلى مدرسة المختارة، ويذكر مؤلف سيرته، ابن أخيه الشيخ علم الدين عبد الوهاب، أن الفتى كان يتلقى تعليمه في كنيسة المختارة على يد« أساتذة نصارى، كما تعلّم في عماطور أيضاً”، ولما كانت صِلات الوالد الشيخ حمود لم تنقطع بالأسرة الأصل في بريح فقد كان الصغير يوسف يمضي برفقة والدته إلى بيت جدّه هناك لمساعدة أسرة الجد في موسم الحرير وتربية دود القز الذي كان يشكل مورداً يرفد اقتصاد الأسرة…
منذ سنوات يفاعه أظهر يوسف في شخصيته صفات جليلة من الميل الروحاني وحسن التقبل وقوة الهمة في السيطرة على نوازع النفس، وحسن المعشر والصدق، وكان لا يزال في صباه عندما برز ميله الواضح لسبيل التقوى التي تميّز الموحّدين، وكان يذكر أنه في توجهّه ذاك أخذ عن الشيخ أبو يوسف اسماعيل عبد الصمد من عماطور المجاورة لعين قني، ويذكر أن صديقاً له من مثل عمره من عين قني كان يرغّبه بالذهاب إلى الشيخ عبد الصمد، وأن ذلك الصديق كان يعتذر عن الذهاب إلى الشيخ عبد الصمد لكونه «لابس لبّادة والشيخ لا يحلم على اللبادة”، أي لا يتحدث في التوحيد وعلم الباطن لمن يعتمر اللبادة، لكنه قبل في نهاية الأمر، وذهبا معاً، وعند وصولهما استقبلهما الشيخ عبد الصمد بما يستحقان من التشجيع والتكريم، وأخذا بعد ذلك يترددان عليه وهو يرعاهما بصدق التوحيد، «حتى استقام لهما الأمر وقوي فهمهما لاستيعاب الذكر»، وكان الشيخ يوسف يقول إن ذلك الشاب، صديقه، «سبقني في الدين”، ويرجح الشيخ أبو سلمان محمود الشمعة أن ذلك الشاب صديق الشيخ يوسف قد يكون الشيخ أبو محمود أسعد الشعار رحمه الله، ذلك لأن مؤلف سيرة الشيخ يوسف نسي أن يسأله عن اسم ذلك الصديق.

مجاهدة حتى الصباح
وكان المرحوم الشيخ يوسف متأثراً بورع معلمه الشيخ أبو يوسف اسماعيل وتقواه، ومن ذلك أنه في ليالي الجمعة وبعد الوعظ وعند بدء الذكر كان يتابع ليله واقفاً وقد ضم قدميه ووضع يديه في زناره ويبقى في وقوف الذكر والمناجاة حتى الصباح. ويذكر عنه أنه عند ورود بعض الآيات التي تتحدث عن العقاب كان يتغير حاله من خوفه الباري تعالى، ويظهر ذلك على وجهه واضحاً… وعلى العموم فإنه يستدل من كثرة أحاديث الشيخ يوسف عن أستاذه الشيخ الصمدي عمق تأثيره الروحي في شخصه، وكان في تلك الفترة شاباً في أول طريق مسلكه التوحيدي…
لم تترك أحداث الحياة العامة للأيام أن تمرّ رخاء في حياة الشيخ الشاب يوسف، فالأب، الشيخ حمود أقعده المرض عن العمل، ولا بدّ للأسرة من معيل، وهكذا وقعت المسؤولية على عاتق الشيخ الشاب في سن مبكرة، وكان الأب المريض يدرك ذلك ويعبر عنه بمرارة، ومن ذلك أن يوسف ذهب لجلب حملة حطب فتأخر، فقال الأب متألّماً:« تأخّر ها الصبي، بدّو يلحقه الهم وهو صغير».
وفي آخر مرّة، عندما كان الوالد على فراش الموت، وكان يوسف قد رجع متعباً من ثقل حمل كان يحمله من مسافة بعيدة، عبر طريق جبلية عسراء، ناداه الأب، فاقترب منه، وعندها مسح على جبينه بيده قائلاً “ يابني، لحقك الهمّ وأنت صغير».
كان الشيخ الشاب هو الأكبر بين الأبناء الأربعة، وكانت الأسرة المؤلفة من سبعة أنفس في أمس الحاجة لمعيل قادر على تأمين ضرورات العيش، والأسرة في حالة من الفقر وضيق الحال، والأيام أيام الحرب العالمية الأولى، أيام سفر برلك، حيث المجاعة تحدق بالبلاد من جراء الحصار البحري الذي ضرب على لبنان في ذلك الحين. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصاب البلاد جدب واجتاح الجراد المعمورة فلم يبق لا زرع ولا نبات، وبسبب هذه المصائب المتضافرة وقعت مجاعات مات فيها كثيرون، ونزح آخرون إلى جبل الدروز في سوريا. ومما يرويه ابن أخ الشيخ يوسف عن لسانه في سيرته أن بنتاً لا تتجاوز عدة سنوات رآها تحبو على الأرض تلتقط حبات شعير ساقطة وتأكلها من شدة الجوع. وفي أحد الأمكنة رجل وابنه يعملان في صنعة الأحذية، فحصل الرجل على رغيف من خبز الشعير وأخذ يأكله أمام ولده، ولما طلب الولد من أبيه أن يطعمه قال له:«أنت البارحة أكلت» .

صورة للشيخ الورع أبو حسين يوسف في بلدته الغارية
صورة للشيخ الورع أبو حسين يوسف في بلدته الغارية

الخير في جبل الدروز
في تلك الفترة اشتغل الشيخ يوسف بدار محمد زين الدين باشا، ولكن الأخير لم يعد يشغّل أحداً عنده حتى «بالمونة»، لأن عمل الشغيل طيلة نهار عمله لا يفي بقيمة طعامه بسبب شدة الغلاء في تلك الأيام الصعبة، وهكذا اضطر الشيخ يوسف إلى الهجرة منفرداً إلى جبل الدروز، بقصد العمل وإرسال ما يعيل الأسرة، وفي ذلك الزمان كان الجبل ينعم بفضل الله بسنوات غلال ووفرة، وقد ضعفت هيمنة العثمانيين عليه بخلاف لبنان وسائر بلاد الشام، حيث قاموا بمصادرة الحبوب والمواسم لصالح الجيش العثماني آنذاك، ذلك لأن العثمانيين كانوا منشغلين بجبهات قتالهم في الحرب إلى جانب ألمانيا وحلفائها، وبخاصة جبهة قناة السويس، ولم يكونوا راغبين باستفزاز بني معروف الموحّدين بعد أن كانوا في الماضي جردوا عليهم حملات عسكرية عديدة، وقد نزل الشيخ يوسف في قرية الغارية وهي من قرى الجبل الجنوبية، ويقول مؤلف سيرته أن الأقدار شاءت أن تسوق هذا الشاب الجليل الطاهر إليها حيث تعرّف على بعض الأخوان، وحصد حصدية، وحينما انتهى من عمل موسم الحصاد عاد إلى الشوف وهو يحمل على ظهره ثلاث رباعي ( نحو خمسة عشر كيلوغراماً)، من طحين جبل الدروز. ولما وصل عين قني قال الجيران «يوسف عبد الوهاب جلب لأهله لَكَنْ (وعاء كبير من النحاس) مليان طحين من جبل الدروز”.

هجرة الأسرة
كانت ظروف لبنان في تلك الأيام بالغة الصعوبة، فالجوع سيد الموقف، والحلفاء الغربيون شددوا الحصار على موانئ بلاد الشام بما فيها لبنان، وكان جبل الدروز بسبب من حرص الإدارة العسكرية العثمانية على تجنب الاصطدام ببني معروف هو الناجي الوحيد من المجاعة وويلات الحرب، ومن هنا فقد ناقش الشيخ وضع الأسرة مع السيدة والدته، وقررا الهجرة بالأسرة إلى ذلك الجبل، وقد وُجد تاريخ خروج الأسرة مكتوباَ بخط المرحوم الشيخ يوسف يذكر فيه التالي«طلعنا من البلاد ثاني يوم وفاة محمد زين باشا، وهو يوم خمسة شباط سنة سبعة عشر وتسعماية وألف، يكون مجيئنا يوم ستة شباط».
كانت الأسرة قد حملت ما يمكن نقله من متاع، وعندما صعدت في طريقها الى القمم الجبلية إلتفت الشيخ يوسف إلى أمه قائلاً : تودّعي من رؤية البلاد فلعلّك لن تريها بعد اليوم أبداً.
كانت الشيخة الوالدة تحس بما ستولّده الغربة من معاناة البعد عن الأهل والوطن، وهمّ العيال ومسؤولية مستقبلهم المجهول، ولكنها كانت مطمئنة لقضاء الله وقدره، والى أن الشيخ يوسف يشاطرها هذا العبء الثقيل على الأسرة النازحة عن الديار.
يقول كاتب السيرة إن المرتحلين”في أعلى الجبل أكلوا آخر ما معهم من الزاد، وساروا على التوكّل، وفي مسارهم التقوا بالشيخ أبي محمود سلمان الشمعة المقيم في خلوات القطالب فتبادلوا التحية والسلام وأعطاهم من زوادته، وبعد حديث قصير ودّعوه وودعهم وتابعوا سيرهم، وقبل وصولهم إلى قرية المحيدثة تعب أخواه الصغيران حسن ووهبي فحملهما الشيخ يوسف على ظهره فوق اللحاف الذي كان من نصيبه أن يحمله…

الشيخ في نحو الثلاثين من عمره
الشيخ في نحو الثلاثين من عمرهالشيخ في نحو الثلاثين من عمره

رحلة العذاب والأمل
وعند وصولهم المحيدثة قضوا فيها ليلة، ومنها انتقلوا إلى صحنايا، فالأشرفية، وهناك أقامت الأسرة ثمانية عشر يوماً، إذ وجد الشيخ سليمان وهو الأخ الذي يلي الشيخ يوسف عملاً في حراثة الأرض، لكنّ عين الشيخ يوسف ظلّت تصوّب باتجاه الغارية، فترك الأسرة مؤقّتاً واتجه قاصداً جبل الدروز كما كان يدعى حينذاك، وفي الغارية مهّد لوصول العائلة، فرجع إلى الأشرفية لتتابع الأسرة ارتحالها من جديد نحو محطتها الأخيرة، الغارية، وعلى الطريق، بعيداً عن الأشرفية، عند نقطة التقاء طريق الشام الجبل بالطريق الطالعة من الأشرفية توقفت الأسرة هناك، كانت الطرق في تلك الأيام مخيفة، خصوصاً لانقطاع العمران على الطريق، وكثرة قطاع الطرق، وبعد انتظار، أقبلت قافلة جمال بأحمالها ورجالها قادمين من الشام باتجاه موقع انتظارهم، فتفاءل الشيخ بقدومهم، وقال “إن كان هذا القَفل قاصداً الجبل فيكون قد وجدنا رفاقاً، ويتيسّر الحال”.
وصحّ ما توقعه الشيخ يوسف، فقد أناخ أحد الجمّالة جمله بقربهم، ودعاهم للركوب قبل أن يتعرّف عليهم، وقد نُقل عنه في ما بعد أنه قال: “حين وقع نظري على هذه الأسرة وهم جالسون حول بعضهم بعضاً قلت لا شك أن هؤلاء من أهل الخير”، وكان ذلك الرجل الديّان هو حمزة السبع من قرية صحنايا، وكان الشيخ يوسف يذكر فضله وغيرته المعروفية على أسرته.
كانت الطريق طويلة، وقد قطعوها مع رفاق القافلة على مراحل كما كانت عليه حالة الأسفار في ذلك العصر، وقد عانى المرتحلون الكثير من التعب والمشقة، وكان الشيخ يوسف يقول لمن يتذمّر أو يقصر من أخوته الصغار«اللي تعبان يجي يركب على ظهري».

” كانت حياته مليئة بالتعب وضيق العيش إلى أن كبر أخوته وصاروا يعملون في التعليم وفي حياكة المخدات والبســــــط على النول  “

نموذج-من-عمل-الاسرة-على-النول
نموذج-من-عمل-الاسرة-على-النول
النول الذي اشتغل عليه افراد الاسرة لم يزل يعمل
النول الذي اشتغل عليه افراد الاسرة لم يزل يعمل

إقامته في الغارية
ما إن وصلت الأسرة إلى الغارية بعد كل ذلك العناء، حتى أخذ الشيخ يوسف يتعرّف على الأخوان ويتعامل معهم بما يتطلّبه واقع الحال، وكان في سياق أعماله اليومية يمارس مهنة التعليم، ومن الذين تعلّموا على يديه، أشقاؤه وأخوانه في المذهب من أهالي القرية، وبالإضافة إلى عمل الشيخ يوسف بالتعليم، كان يقوم بأعمال الفلاحة والحصاد، وقد أخذ عدة حصديات في الغارية وخارجها في قرى مثل المغيّر وسهوة الخضر. وبصورة عامة كانت حياة الشيخ الورع مليئة بالتعب وضيق العيش إلى أن كبر أخوته وصاروا شباناً منتجين يعملون في التعليم وفي حياكة المخدات والبسط على النول، وتلك حرفة مهمة كانت تتطلّبها حياة القرى في ذلك الزمن. وبالإضافة إلى أعمال زراعية أخرى، وبسبب اشتهارهم في مجال التعليم فقد صار أهل الغارية يلقبونهم بـ «الخطبان».
يذكر السيد اسماعيل فرج وهو من معمري الغارية وقد جاوز التسعين عاماً، أن الشيخ يوسف وأشقاءه كانوا علماء في الدين، علّموا وأرشدوا، وعملوا على نسخ الكثير من الكتاب الكريم. أما العقيد المتقاعد زيد النجم وهو من المهتمين بالتراث الاجتماعي للجبل، فيشير إلى أن آل عبد الوهاب في الغارية تميزوا بطبع روحاني.
يروي كاتب سيرة الشيخ يوسف أنه كان يفتش وينقب عن القابلين لمادته وتعاليمه حتى نشأ جمهور من شباب الغارية إلتفوا حوله وأحبوه وساندوه واستقوا من معينه الدافق الفياض وتمسّكوا بخواطره الشريفة الطاهرة وعملوا بما أمرهم به من الطاعات، وشيدوا مواضع العبادات، وهو بينهم كالأب الشفيق، والمربي الرفيق، يقوي ضعيفهم وينير طريقهم ويسهر على مصالحهم حتى غرس في نفوسهم آداب التوحيد في الحديث والمعاملات والأخذ والعطاء والبيع والشراء، ومعرفة الحلال والحرام، وآداب الجلوس والطعام، وكان إذا لاحظ شيئاً من المخالفات يطالب به، وكان مجلسهم يخلو من المخالفين حتى ولو كانوا بزي الدين. وقد استطاع بمساعدة أخوانه وتعاونهم إيجاد مفاهيم محددة وخط واضح مستقيم بعيداً عن السياسة الجسمانية حتى أثّروا في المجتمع من دون أن يتأثّروا به.
ولما كان همّ الأم التي جاءت بأولادها اليتامى إلى جبل الدروز هرباً من جوع لبنان أن ترى ابنها البكر، الشيخ يوسف، رب أسرة، فقد رغبت في تزويجه، خصوصاً وأنه غدا شيخاً دياناً ومرشداً للشباب ويحتل منزلة اجتماعية محترمة بين مشايخ القرية، وها هم أشقّاؤه يترعرعون في محيط اجتماعي موافق، وقد وجدوا أعمالاً تنسجم مع أعمارهم في بيئة الغارية ومحيطها المجاور.
لكن الشيخ الشاب الذي حمل هم الأسرة في سنّ مبكرة من حياته، اختط لنفسه نهجاً روحانياً متعففاً عن الزواج، ولم يفلح توسّط الأصدقاء المقرّبين في تبديل ما استقر عليه من رأي ونهج في الحياة والدين. لقد كان فكره مستغرقاً بواجبات عبادة الباري تعالى، وهمه ووقته منصرفاً إلى تلاوة الكتاب العزيز والمحافظة على أخوانه، كما كان الشيخ الذي أصبح رجلاً مكتمل الرجولة يكتفي بالقليل مما يقيم بأوده فكان بذلك ملتزماً نهج النسك والخلوة والتأمل والذكر في نهاره وليله.
وعلى الرغم من ترفّعه عن المشاركة في مظاهر العلاقات الاجتماعية، فإن راوي سيرته يذكر أنه شارك في بعض معارك الثورة السورية الكبرى عام 1925 ضد الاحتلال الفرنسي لسوريا ولبنان، وجرح في معركة «عِرى».
كان الأشقاء قد كبروا، وشغلتهم هموم العيش في مجالات أعمالهم، وكانوا يمارسون مهنة التعليم في بعض القرى خارج الغارية، تلك المهنة النبيلة التي علّمهم إياها، شقيقهم الشيخ يوسف، فأفادهم بها، وهم بدورهم أفادوا مجتمعهم الذي احتضنهم، وبعد نحو أحد عشر عاماً من وصولهم الغارية تمكّن الأخوة من تملك بيت مناسب لم يزل ماثلاً بطراز بنائه التقليدي القديم الذي يستحق أن يحظى بعناية مديرية الآثار …
أما شيخنا فقد كبرت نفسه عن المجريات الدنيوية، وانفصل عن أخوته ليعيش مع والدته في بيت واحد، لكنه ظلّ بالإضافة إلى دوره التعليمي في محيطه الاجتماعي، ملتزماً المشاركة في الأعمال الإنتاجية التي تفيد حياة الأسرة كالفلاحة والحصاد وتقليم دوالي العنب والأشجار، وغيرها، إذ كانت مسؤولية الأسرة من همّه الشخصي.

راعي الأسرة الشفوق
كان الشيخ يوسف يحسّ بمسؤولية الراعي الصالح لأشقّائه، يروي أخوه الشيخ حسن أنه كان ذات سنة يعلّم التلامذة في قرية الهويّا التي تبعد عن الغارية نحو ثلاثين كيلومتراً، والطرق في تلك الأيام جبلية وعرة، والسيرعبرها مشياً على الأقدام، وقد شاء الشيخ حسن أن يحضر بين مشايخ الغارية ليلة العيد، ويكون مع الوالدة والأشقاء بعدها، والفصل شتاء.
انقضت أيام العيد، ولا بدّ للشيخ حسن من العودة إلى الهويّا. ودّع الشيخ حسن الأسرة ومشى متجهاً نحو صلخد، والثلج يغطي وجه الأرض، وما إن اقترب من موقع خربة الرشيدة على مسافة بضعة كيلومترات إلى الشمال من الغارية والتفت خلفه، حتى أبصر شقيقه الشيخ يوسف يتبعه ماشياً على أثره، وقف وانتظر حتى اقترب منه وحيّاه قائلاً: “ليش متكلّف يا خيي؟» وطلب منه أن يعود، فأبى، وتابع مشيه معه إلى أن وصلا إلى مرتفع على الطريق، فتوقف هناك وظل يراقب أخاه الذاهب عبر طريق صلخد نحو الهويا إلى أن وارته شعاب الطريق.
وفي مناسبة ثانية، تطلّبت الظروف من أخيه الشيخ حسن وضيفهما الشيخ أبي سلمان هاني الصالح من قرية الهويا المضي إلى قرية المنيذرة التي تبعد عن الغارية مسيرة نحو ثلاث ساعات على الأقدام، وصادف أن كان الطقس مثلجاً، وأيام برد شديد، وفي الطريق التقيا برجل مسن من أهالي قرية سهوة الخضر كان ضيفاً لغرض ما في الغارية وهو عائد إلى قريته الأبعد شمال شرقي المنيذرة، طلب الرجل مرافقتهما وأبلغهما أنه يحمل أمانة كانت معه ورجاهما أن يوصلاها لصاحبها إذا حدث له شيء من أمر الله في الطريق، ويبدو أن الرجل كان يشعر بحال من الضعف والمرض. في منتصف الطريق اعترضهم ذئب، ولم يكن مع أحدهم سلاح، وهذه سنّة يسير عليها مشايخ الموحّدين، والثلج الكثيف يغطي سطح الأرض، فما العمل؟ شعر المشايخ بحرج، ولا بدّ أن الذئب جائع، وإلا فمن النادر أن يهاجم الإنسان. مرّت لحظات صعبة، وإذا بالشيخ يوسف مقبل نحوهم ماشياً، وفي الحال، ابتعد الذئب عنهم، فأقبلوا على الشيخ يسألونه سبب قدومه في أثرهم، فقال لهم :«انشغل بالي عليكم وأردت أن أطمئن عنكم. وبعد تلاوة ذكر من الكتاب الشريف شكروه، ورجوه العودة إلى القرية، فمضى عائداً إلى الغارية عبر طريق ثانية إلى أم الرمان لكونها صارت أقرب إليه من الغارية في ذلك الجو القاسي، أما هم فقد تابعوا مسيرهم باتجاه المنيذرة، وقبيل وصولهم المنيذرة بنحو بضعة كيلومترات زلقت رِجل الرجل المسن فسقط في بقعة ماء ضحلة، فساعدوه حتى خرج منها، كانت ملابسه المبللة بالماء قد تجمّدت من شدّة البرد، فعجز عن المسير، وكان حمله متعذراً عليهما، وما هي إلا لحظات حتى قدمت نجدة من الرجال من قرية المنيذرة، ساعدوا الثلاثة الذين كانوا عالقين في ورطة الطبيعة القاسية، من دون أن يكون بينهم وبين القرية من وسيلة اتصال لطلب النجدة، ولعل في هذا سر من أسرار الشيخ يوسف عبد الوهاب…

من هم أقارب الشيخ أبوحسين؟
يقول راوي سيرته: «كنا نتعرّض لسؤال بعض الناس إلينا: مَن أقاربكم؟ فنسأل الشيخ يوسف، فيقول لنا «نحن قرايبنا أهل الدين، والمؤمن أخو المؤمن من أمه وأبيه». كان يعتز بهذه القرابة، و«يشمئز من العائلية والعصبية».
كانت البساطة في كافة شؤون الحياة أهم مميزات الشيخ يوسف، فلم يكن ليهتم بتنويع طعامه، يقول راوي سيرته إنه كان إذا أراد أن يأكل فلا يهتم، وكنا نراه يحضر خبزاً وزيتوناً أو ما تيسّر بحيث يكون صنفاً واحداً ويجلس فيأكل ويرجع إلى فرضه، وإذا لاءم وأكلنا معاً نلاحظ منه التمهل في الأكل وصغر اللقمة وكان يمرر بحبة الزيتون حتى تنظف نواتها، وكان إذا لاحظ من أحدنا مخالفة يطالب بالتصويب، ولا يرضى إلا بما يرضي خالقه. وكان ينزعج من أي حالة فيها تنعّم أو مظهر جسماني سواء في الطعام أو في الملبوس أو الكلام. وفي سائر أمور الحياة كان يطلب التواضع والتأدّب بآداب أهل التوحيد، وكان رحمه الله لطيفاً في حركاته وكلامه دقيقاً في ملاحظاته وانتباهه، حريصاً على حقوق أخوانه ويسأل عن أحوالهم ولا يرضى منهم بالتقصير.
وكان يستحسن أقوالأ وحكماً مختارة يتوجه بها لمن يقصده، منها: أحبّ للناس ما تحب لنفسك. و «ما من نجوى ثلاثة إلا والباري تعالى رابعهم، ولا خمسة إلا وهو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم أينما كانوا» أو «ما أنعم الله تعالى على عبد بنعمة وعلم أنها من عند الله إلا كتب له حمدها من قبل أن يحمُدَه عليها. ولا أذنب ذنباً وعلم أن الله تعالى مطّلع عليه إلا غفر له من قبل أن يستغفره عليه».
وكان يردد كلمات بسيطة ذات معنى عميق تدل على تعلّقه بخالقه ومراقبته لنفسه، فيقول : نحن مطالَبون وغير متروكين. نحن موثوقون ولا مماطلة ولا تأجيل ، الله يجيرنا ويقينا…
وكان شديد الاهتمام بالمرحومة والدته، كثير الاحترام والتقدير لها، وكان يذكر الكثير من حسن تربيتها ورجاحة عقلها ويعترف لها بالفضل، وعندما كانت تمرض كان يسهر على خدمتها وراحتها، ويا لها من لحظات حميمة حينما كانا يجلسان معاً يتذاكران ويتحدثان بذكرى الأيام الماضية وقصة مجيئهما من لبنان.
وكان يحب اجتماع الأسرة من الأخوة وأبنائهم، وكانوا يتحلّقون حوله لحديث ما، وكان رحمه الله إذا أراد إنهاء ذلك الحديث يبتسم دلالة على رضاه، وإن كان الحديث لا يعجبه يظهر من جانبه الانكماش، فيعلم الحاضرون قصده، فيتجنبوا متابعة الخوض فيه، أو هم يذهبون عنه، أو هو يتركهم إذا كان خارج غرفته التي كانت بمثابة خلوته التي يتعبّد فيها لله تعالى. وكان سلوكه هذا دليلاً على تهذيبه وشفافية حضوره، كانت العبادة وتلاوة الكتاب الشريف تشغلانه معظم ليله وسائر نهاره، عدا فترات الراحة، وكان يُسمع له عند التلاوة نغمات شجية فيها الكثير من الحنان والحنين.

مدخل الدار القديمة_resized
مدخل الدار القديمة

“شارك في الثورة السورية الكبرى عام 1925 ضد الاحتلال الفرنســــي لســــوريا ولبنــان وجرح في معــركة «عِرى»”

شهرته على الرغم منه
لم تخفَ على الناس المحيطين بالشيخ يوسف مكانته الروحية العالية، وسلامة منهجه، وصارت تقصده وفود الموحّدين من مختلف الأنحاء يطلبون النصح والإرشاد، من حيث النية والاعتقاد، وكان يستقبل وفود القادمين لزيارته بالبشاشة والترحيب ويقوم بواجبه نحو الضيف بنفسه إن لم يكن أحد من الأسرة يساعد في خدمته، وكان زواره يغادرونه وهم منشرحو الصدور مجبورو الخواطر، يدعون له بالخير رجالاً كانوا أم نساء، صغاراً أم كباراً، وكان بعض زائريه على غير ملّته يؤمونه للتبرك إعجاباً منهم بمسلكه وبساطة حياته وطيب نيّته.
كان الشيخ يبتعد بنفسه عن الدنيا ومتعها، وذلك بفضل ما آتاه الله تعالى من همة عليّة وعزيمة وإرادة وإخلاص. لكن برغم تعففه وزهده في الدنيا الفانية، فإنه كان حريصاً أشد الحرص على ألاّ يُشعِر أحداً بذلك لأنه كان يتقصد توجيه عمله لله تعالى مستعيناً ومستشفعاً بوليّه الهادي الأمين على بساطة مسلكه الروحاني، كان يُخيّل لكلّ امرئ أنه بمسلكه المتواضع البسيط يستطيع أن يفعل فعله، وكان يجيب سؤال من يقصده بزيارة أو مجابرة أو محادثة أو مجالسة، ولم يكن مترفّعاً ولا متأفّفاً، بل كان دائم الابتسام دلالة على الرضا والتسليم، واسع الصدر كبير القلب بعيداً كل البعد عن الكبر أو الاعتقاد بقيمة نفسه.

تعففه عن الزواج
لقد كان الشيخ أبو حسين يوسف عبد الوهاب نسيج حالة روحانية فريدة، فقد ترفّع منذ شبابه الباكر عن سائر ما يشغل أمثاله من الشبان، وتعفف عن الزواج وقد كانت المرحومة والدته تشعر بغصة عندما ترى ابنها الحبيب الذي أجهد نفسه من أجل تربية أخوته وتعليمهم حتى غدوا رجالاً وأصحاب بيوت وأرباب أسر فهم قد اندمجوا بيسر وسهولة في مجتمع الجبل، وكيف لا؟، فبنو معروف ساكنو الجبل يعودون بأصولهم وجذورهم إلى أسر وعائلات لم تزل تقطن في جبل لبنان، ولكن شيخنا من جانبه حرم نفسه الزوجة والولد، وكل ما يرى فيه لذائذ الدنيا. كانت الأم بعد يأسها من إقناعه بما تراه أي أم مؤمنة خيراً لولدها في أن يكون رب أسرة موحّدة على نموذج أسرتها، فتكلّف له الأصدقاء من أخوانه المشايخ، فيزداد تمسكاً بما ارتضاه لنفسه، ومما زاد في غيرتها على صحته أنه كان لا يأكل اللحم ولا الحليب، وكذلك العنب، مع أنه كان لدى الأسرة كرم من العنب، وقد جعله المرحوم من بين أفضل الكروم في الغارية، وكان ينام فيه ولم يكن يخطر ببال ذويه أنه لا يأكل العنب إلا بعد أن باحت السيدة والدته بالسر، وعندما شعر الشيخ أن الأمر انكشف عمل على إزالة الشك فصار إذا دعي يأكل شيئاً ما من تلك الأكلات التي شاع أنه لا يأكلها على أعين الناس لينفي عن نفسه ما أشيع عنه من عنت أو مبالغة في قهر النفس وحرمانها.

وفاة السيدة والدته
كانت المرحومة الوالدة تتمنى على الله تعالى إذا قضى عليها بالوفاة أن يكون ذلك وأولادها مجتمعون حولها، وبتقدير من الباري تعالى، وكأن منادياً جمع أبناءها من لبنان والسويداء في الغارية على غير موعد متفق عليه، كان ذلك في الرابع من كانون الثاني عام 1964 وقد توفاها الله وهي بكامل وعيها ولم يقعدها المرض.

خلوة-الشيخ-ابوحسين-يوسف-عبد-الوهاب
خلوة-الشيخ-ابوحسين-يوسف-عبد-الوهاب

“كان إذا لاحظ مخالفة يطالب بالتصويب ولا يرضى إلا بما يرضي خالقه وكان يكره التنعّم في الطعام أو في الملبوس”

مرحلة الخلوة والاعتكاف
كبر حجم الأسرة، وتزوّج الأبناء، كان لا بدّ من بناء دار جديدة. عند التأسيس وقف على الموقع، وأشار بيده إلى موقع حدّده ليكون خلوة متواضعة له ( تلك هي الغرفة التي يوجد فيها مقامه الآن)، وهي ملاصقة لبناء الدار. وكان المرحوم بكل تواضع يساعد في كثير من الأعمال بسعيه، ورأيه وحسن دعائه. وبما أنه كان يستشعر تقدمه في السن وصار يلاقي في السعي إلى المجلس صعوبة، صار يقضي الوقت في خلوته، ومن فضل الباري تعالى عليه أنه كان يقرأ دون الاحتياج إلى نظارات، ولم يتأثر سمعه، وظل متمتّعاً بكامل وعيه وسلامة تفكيره وإدراكه العقلي، وكان يقدم المشورة الصائبة للأسرة ولمن يقصده بوضوح وبساطة وصوابية رأي.
كان أخوان التوحيد يزورونه من البلاد السورية وخارجها، وقليلاً ما كان البيت يخلو من المريدين والمحبين. وكان يلاقي الناس ويودعهم ببشاشة ورحابة صدر، ويلبي طلبات زواره على حسب قدرته وإمكانيته.
أما أخوان التوحيد في الغارية التي تميّزت بروحانيته وتقواه، فقد قرروا قراءة ما يتيسر من الكتاب الكريم عصر يوم الجمعة في خلوته، كما عيّنوا عنده أيضاً السهرة ليلة الاثنين، وكانت الأيام به وبهم أنيسة ومنوّرة، وكان كثير من الناس يقصدونه طالبين منه حسن الدعاء لقضاء حاجاتهم المتعددة، وكانت حوائجهم تقضى ببركته، ومنها أنه كان بعضهم يأتي إليه بالحيوان العاصي على العمل، فيمسح بيده الكريمة عليه ويدعو لهم، وعندما يذهب صاحب ذلك الحيوان يصلح شأنه بإرادة الله تعالى، وكأن حيوانه بُدّل بسواه.

كرامات الشيخ
يذكر أحد سائقي نقل الحجاج إلى بيت الله الحرام أنه حدث له أثناء عودته من رحلة الحج أن تعطلت حافلته ولما يئس من إصلاحها نادى الباري تعالى ببركة الشيخ أبو حسين يوسف عبد الوهاب وأدار محرّكها، فانطلقت بمن معه من الركاب إلى أن وصل دمشق متعجباً مندهشاً لما حصل معه من قدرة وكرم الباري…
ويحدّث أحد الثقاة من قرية مياماس أن شخصاً من قريتهم كان مغترباً في ليبيا وكان له مبلغ كبير من المال عند مشغّله الليبي الذي رفض أن يدفع له الحق، ومضى زمن كاد الرجل أن ييأس من أخذ حقه من الليبي، فأشار عليه أحد الأصحاب أن يوجّه بنيّته نذراً إلى شيخ الغارية، فنوى صاحب الحق ذلك، وفي اليوم التالي أعطاه الرجل حقّه وديناراً زيادة واعتذر عن التأخير.
ويحدّث أحد المغتربين إلى فنزويلا وهو من بلدة الغارية وكان يملك محطة بنزين هناك، وأنه حصل عنده حريق في المحطة، عندها أيقن أن جنى عمره سيذهب طعماً للحريق، ولكنه فطن أن لديه شيئاً ما من بركة الشيخ، فأتى به ورماه في النار، فانطفأت بقدرة الباري تعالى…
ويذكر أحد المغتربين من بلدة عرى في فنزويلا، أنه كان يسوق سيارة بضاعة في أحد الأماكن الخطرة فطلع عليه أربعة لصوص بقصد سلبه، فما كان منه إلا أن لوّح بمحرمة كانت معه من بركة المرحوم الشيخ، قائلاً «إن كان بصاحبك سرّ فليظهر الآن»! فما كان من السلاّبين إلا أن تفرّقوا كل اثنين إلى جهة، وأخلوا له الطريق، وتحقق له بالدليل القاطع ما كان يسمع من كرامات تخص الشيخ المرحوم، وأرسل كتاباً للأهل في الجبل يخبر بهذه الحادثة العجيبة.
وفي بلدته الغارية كانت البلدية قد أقرّت مخططاً تنظيمياً يقضي بشق طريق غرب دار الشيخ الحالية، وكان المخطط يقضي بجرف بعض أشجار الزيتون حيث يمر بجانب خلوته، وجيء بالبلدوزر لشق الطريق، وقبل أن يصل به السائق إلى موقع الزيتونات تعطلت الآلية، فما كان من السائق المصرّ على تنفيذ مهمته إلا أن أخذ دراجة نارية ومضى إلى مدينة صلخد على بعد بضعة عشرة كيلومترات من الغارية بقصد إحضار ورشة لإصلاح آليته ، ولما وصل إلى قرية عنز على طريقة نحو صلخد، اعترض دراجته كلب شرس ولم يتركه حتى هوى من على الدراجه، ولولا رحمة الله به لقضي عليه. وهذه الحادثة يعرفها أهالي بلدة الغارية ويتحدثون بها. وهنا تركت البلدية الزيتونات ولم تعد تحرك ساكناً بشأنها، ولم تزل تلك الأشجار ماثلة أمام خلوة الشيخ المرحوم التي يؤمها الزوار يومياً من الغارية وخارجها.
ويروي صاحب سيرته أنه كان مدعوّاً معه في إحدى المناسبات إلى صلخد، وهناك في بيت صاحب الدعوة كان من بين الحضور ضيف وزوجته من قرية سهوة الخضر، ومعهما طفل عمره واحد وعشرون يوماً،قد رفض الرضاعة من ثديي أمه، والأسرة في هم وغم لهذه الحال. أتوا بالطفل ووضعوه أمام المرحوم وطلبوا منه أن يمسح بيده عليه وأن يدعو له، فاستجاب لطلبهم بكل رضا، وتلا ما تيسّر من الكتاب، وهكذا حصل، فإن الطفل وبإرادة من الباري تعالى رضع من ثديي أمه وكأنه لم يسبق له أن رفضه من قبل.
وهذه الحوادث هي بعض مما كان يحصل مع الشيخ المرحوم وبكرامته عند باريه وخالقه نسوقها عبرة للمعتبرين بحسن سيرته.

بيت-الاسرة-عام-1928_resized
بيت-الاسرة-عام-1928

وفاته، رحمة الله عليه
عاش المرحوم الشيخ أبو حسين يوسف عبد الوهاب حياة كريمة قاربت التسعين عاماً، قضاها بالتقوى عابداً زاهداً عازفاً عن متع الدنيا ومتاعها إلا ما يفي بالحاجة الشخصية الضرورية للحياة، وكان مقتصداً في مأكله، ولا يميل إلى التخليط في طعامه، ولكن العمر المحتوم له نهاية مهما طالت به السنون، وهكذا ففي الرابع من حزيران نقل الشيخ إلى مشفى السويداء على أثر شلل نصفي في الجانب الأيسر من جسمه، وبقي هناك لثلاثة أيام حيث فارقت روحه الأنيسة جسده، تاركاً في نفوس مريديه أثراً صالحاً ووصايا توجه للمسلك التوحيدي القويم، وشيّع جثمانه في محفل مهيب يوم الجمعة في الثامن من حزيران عام 1984، وقد حضرته ألوف كثيرة من الجبل والغوطة والإقليم ولبنان وديار حلب، ولما وصلت الجنازة من خلال الزحام إلى مكان المحفل وسط سيل المشايخ والرجال القادمين للتعزية صُلّي على الجثمان الطاهر وانتهى المحفل نحو الساعة السادسة مساء، حيث دفن في الخلوة التي اعتاد الإقامة فيها.
وبهذا انتهت مرحلة من حياة شيخ تقي نقي طاهر كانت مليئة بالفضائل والعبر والكرامات والطاعات والأعمال الجليلة والمثل الصالح للأجيال وللسالكين في طريق المولى أهل الحق والطهر والعرفان.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي