الخميس, أيار 9, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الخميس, أيار 9, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

احراق الفرنسيين مزرعة الشوف

صفحة من النضال ضد الإستعمار الفرنسي

إحراق الفرنسيين مزرعة الشوف
وتهجير أهاليها إلى جبل العرب

إن تاريخ المناطق والقرى والفئات والأعلام في أي بلد جزء من تاريخه العام، ومكمّل له لا متعارض معه. وبناءً على ذلك، فإن حادثة إحراق الفرنسيين لمزرعة الشوف وتهجيرهم لأهاليها في تشرين الأول 1919، هي محطة بارزة من تاريخ هذه البلدة وجزء من تاريخ المقاومة في سورية ولبنان للإنتداب الفرنسي.
وبما أن الحادثة المذكورة لم تكن معزولة عن الوضع السياسي والعسكري العام، الذي أعقب جلاء العثمانيين عن بلادنا في سنة 1918، وحلول البريطانيين والفرنسيين مكانهم، فلا بدَّ من التكلّم عن ذلك للإضاءة على الحادثة، ووضعها في السياق التاريخي الصحيح.

من الحكم العثماني إلى الحكم الفرنسي
إنتهت الحرب العالمية الأولى بهزيمة الدولة العثمانية، وإنسحاب جيوشها من بلاد العرب في أيلول 1918 بعد أكثر من 400 سنة على فتح العثمانيين لها في سنة 1516، وبعد تاريخ طويل حافل بالمآسي والنكبات والمظالم والقتل والتشريد، وأخذ الشبان بالقوة للخدمة العسكرية الإلزامية، ولخوض الحروب في الأماكن البعيدة.
وتنفّس العرب الصعداء لإنزياح كابوس ثقيل عنهم، وأملوا بأيام أفضل، وبإستقلال في تدبير شؤونهم، لطالما طمحوا إليه، وهنّأ بعضهم بعضاً بزوال حكم مستبد، لطالما تمنّوا زواله. لكن الكثيرين من الخبيرين في الشؤون السياسية، والمطّلعين على القضايا الدولية وما كان يخطّط للمناطق العربية والإسلامية، لم يجاروا المتفائلين بالمستقبل والفرحين بهزيمة الدولة العثمانية، وكان منهم أمين بك آل ناصر الدين الذي قال لمن زاروه فرحين، مهنّئين إياه بالتطوّر الحاصل: «لا تفرحوا. ستترحّمون على الدولة العثمانية. وستبكون دماً». كما كان الأمير شكيب أرسلان قد سبق الجميع في زمنه لهذا الرأي، ومن أشد مناصري الدولة العثمانية، لأنها، في رأيه، الدولة الإسلامية الوحيدة التي لا تزال مستقلة، وصامدة في وجه الغرب الإستعماري، ولأنه كان على علم بمخطّطات الحلفاء، ومطامعهم في الدول العربية والإسلامية.
صحّ ما توقّعه المترحّمون على الدولة العثمانية، والمتشائمون مما سيأتي، إذ فشل رهان العرب على الحلفاء، وندموا على الوثوق بهم، لأن الدولة العربية المنشودة التي وعدوهم بها مقابل مساعدتهم وثورتهم على الدولة العثمانية، التي ساهمت في هزيمتها، لم تتحقق، بل تحقق بدلاً منها تقسيم المشرق العربي بين بريطانيا وفرنسا تنفيذاً لإتفاقية «سايكس- بيكو» المعقودة بينهما، كما بدأ تنفيذ وعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وبناءً على ذلك باتت بعض الولايات العربية التي كانت مفصولة عن بعضها في العهد العثماني بحدود إدارية، دولاً مستعمَرة بإسم «الإنتداب»، مفصولة عن بعضها بحدود سياسية. وهذه الدول هي العراق وشرق الأردن وفلسطين الموضوعة تحت الإنتداب البريطاني، ولبنان وسورية الموضوعان تحت الإنتداب الفرنسي، حتى إن الفرنسيين، وإمعاناً منهم في سياسة التجزئة الإستعمارية، قسّموا سورية نفسها على أساس مذهبي، إلى أربع دويلات، هي دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة بلاد العلويين، ودولة جبل الدروز، إضافة إلى لواء الإسكندرونة، وقد فعلوا ذلك من أجل إضعاف السكان، ولكي يسهل عليهم حكمهم، ويُظهروا أنفسهم حماة للأقليات.
كان من الطبيعي أن يرفض السوريون واللبنانيون الوجود الفرنسي بصيغة الإحتلال أو بصيغة الإنتداب، وأن يقاوموه بالأساليب السياسية، وأن تتوالى مقاومتهم العسكرية له فصولاً من الثورات والإنتفاضات، ومنها ثورة الدنادشة في تل كلخ وحمص وشمال البقاع، والثورة في جبل عامل، وثورة الشيخ صالح العلي في بلاد العلويين، وثورة صبحي بركات في لواء الإسكندرونة، وثورة رمضان شلاش في دير الزور، وثورة إبراهيم هنانو في شمال سورية، وثورة سلطان باشا الأطرش الأولى في جبل العرب، والثورة السورية الكبرى التي أعلنها وقادها سلطان باشا، علاوة على ما لا يحصى من الحوادث والإضطرابات التي كان من الممكن أن تتحوّل إلى إنتفاضات وثورات لو قُدّر لها من يقودها ويرعاها ويدعمها من الزعماء السياسيين الفعّالين.

بداية حادثة مزرعة الشوف
بعد دخول جيوش الحلفاء البريطانيين والفرنسيين إلى بلاد الشام، قسّمها القائد العام لهذه الجيوش، الجنرال البريطاني اللنبي، إلى ثلاث مناطق، هي «المنطقة الشرقية» وتتبع للحكومة العربية التي أنشأها الشريف فيصل بن الحسين في دمشق، في تشرين الأول 1918، واستمرت حتى تموز 1920، و«المنطقة الجنوبية» وتتبع للبريطانيين، و«المنطقة الغربية» وتتبع للفرنسيين، وهي تشمل الأجزاء الغربية من لبنان وسورية، بحيث كانت الأقسام الداخلية من سورية، وأقضية بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا، التي ضّمت إلى جبل لبنان أو«لبنان الصغير» سنة 1920، تابعة للحكومة العربية.
وتبعاً لذلك، كان الوجود الفرنسي في «المنطقة الغربية» إحتلالاً بالمعنى الدقيق، لأنه لم تكن عصبة الأمم قد وافقت بعد على الإنتداب الفرنسي على سورية ولبنان، والذي هو في الحقيقة إحتلال أيضاً، وإستعمار تحت عنوان الإرشاد والتمدين.
تحوّلت «المنطقة الغربية» إلى مسرح صراع بين الحكومة العربية والفرنسيين، حيث كانت العصابات الوطنية تهاجم مراكز الفرنسيين وتهاجم أعوانهم، معبّرة بأصوات البنادق عن رفض الإحتلال الفرنسي، فيما كانت المعارضة السياسية تعبّر عنه بالمواقف والكلمات وأمام لجنة الإستفتاء الإميركية. وفي المقابل شكّل الفرنسيون عصابات من الموالين لهم، وخصوصاً من المسيحيين في لبنان، لتكون مع العناصر الأمنية المحلية، العاملة بإمرتهم، جيشاً رديفاً لجيشهم، يساعدهم في تثبيت وجودهم، وفي إشغال المعارضين لهم بمشاكل داخلية مع مواطنيهم، ما أدّى إلى نشوء حوادث طائفية ليست صنيعة الجهل والتعصّب، وسائر عوامل الإنقسام الداخلي، بقدر ما هي صنيعة الفرنسيين الذين أوجدوها لإضعاف السكان، وتفريق صفوفهم، وإظهار حاجتهم إلى الوصاية الأجنبية، وحاجة الأقليات إلى الحماية. لقد عمّدوا في القرن العشرين وجودهم في لبنان وسورية بدماء أهلهما، كما عمّدوا نفوذهم بهذه الدماء في منتصف القرن التاسع عشر من خلال المساهمة الكبيرة في خلق الفتن الطائفية، وفي هذا دليل على أن الحوادث الطائفية ما كانت لتحصل في بلادنا لولا التدخل الأجنبي.
قامت إحدى العصابات، التي أوجدها الفرنسيون، بقتل أحمد مصطفى أبو شقرا من عماطور، وأمين قاسم البعيني من مزرعة الشوف، فكان ذلك بداية حادثة مزرعة الشوف. كان هذان الرجلان وكيلين على أملاك فؤاد بك جنبلاط في مزرعتي «ماروس»
و«كفرفالوس»، الواقعتين في إقليم التفاح في قضاء جزّين، وكانا في أواخر أيلول 1919 قد أنهيا مهمة بيع محصول التبغ فيهما، فعادا منهما على طريق المشاة المعهودة، التي تمرّ في مرج بسري، وما أن إجتازا قرية بسري حتى إعترضهما كمين مسلّح معدٌّ لهما من العصابة المذكورة، وباغتهما رجالها بإطلاق النار، وقتلوهما، ثمّ سلبوا ما معهما من المال، ومقداره يقارب خمسمائة ليرة ذهبية هي ثمن التبغ المباع.
إنها جريمة قتل تحصل في وضح النهار، في حين كانت أكثرية الإعتداءات والجرائم العادية تحصل تحت جنح الظلام، وفي الأماكن المنعزلة، وإذا حصلت على الطرقات الرئيسية والمعابر، فإن القائمين بها كانوا يخفون أحياناً كثيرة أنفسهم، أو يقنّعون وجوههم، بحيث ظل الكثيرون من المجرمين مجهولين. والصحف الصادرة آنذاك حافلة بأخبار الحوادث والإعتداءات التي يكثر فيها المتهمون، وتقل معرفة الفاعلين الحقيقيين.
كان من الممكن إعتبار ما جرى كسائر جرائم القتل التي تحصل في الشوف آنذاك في ظل الإحتلال الفرنسي، لو أنه غير متعلّق بعائلتين قويتين، ولو أنه ليس ذا خلفيات وأهداف سياسية، لذا بدأ يتفاعل منذ اليوم الأول لحصوله، ثم تأتّى عنه نتائج خطيرة بالنسبة إلى آل البعيني.
أحدثت الجريمة النكراء صدى كبيراً في جميع الأوساط، لأن المغدورين قُتلا إعتداءً وتعمّداً، ودون ذنب أو سبب، وقُتلا علناً في منطقة عملاء الفرنسيين فيها معروفون، ويعملون بتوجيه منهم، ولأنهما من عائلتين معدودتين، بحسب التعابير الشعبية، «من جمرات العيال»، وهما عند حنانيّا المنيّر (1756 -1823)، وعند ناصيف اليازجي (1800- 1871)، «من الطوائف المشهورة التي هي دون المشايخ، لهم أحزاب تنتمي إليهم وتعادي معهم وتحمل الدماء كما يحملونها». ومما يُذكر في هذا المجال أن أمين قاسم البعيني منع منذ بضع سنوات قوة من الدرك، يرأسها ضابط، من أخذ نزيل من آل عويدات لجأ إليه، وقد تجّرأ على ذلك لإستقوائه بقوة عصبية عائلته.
وكما كان الفرنسيون وراء الجريمة المذكورة بهدف تسعير نيران الحوادث الأهلية التي أوجدوها، كانوا أيضاً وراء تجهيل القائمين بها وحماتهم، وما كانت تعنيهم نتائج التحقيق، ولا أحكام المجلس العسكري المنحاز الذي أنشأوه. وقد اقتصرت جهودهم على نقل القتيلين إلى قريتيهما، واتخاذ إجراءات شكلية، ما أكد ضلوعهم في الجريمة، وأوحى أنهم يريدون كسر شوكة العصبيات الدرزية القوية من أجل إجبار الدروز الرافضين لوجودهم على القبول بهم، ومنهم فؤاد بك جنبلاط الذي طلب في مؤتمر عيناب الإنتداب البريطاني، وذلك عندما قدمت لجنة الإستفتاء (لجنة كنغ-كرين الأميركية) في تموز 1919 لإستفتاء السكان حول تقرير مصيرهم.
جاء في مذكّرات الضابط نعمان أبو شقرا، المعاصر للحدث، أن رئيس مجلس إدارة جبل لبنان، حبيب باشا السعد « لفت المسؤولين الفرنسيين إلى ضرورة الإسراع في إتخاذ التدابير الفعّالة لكشف مرتكبي الجريمة، لأن الأمر يتعلّق بسمعة عائلتين قويتين، ويمسُّ وضع فؤاد بك جنبلاط، فقاموا بعزل قائد درك جزّين، وأرسلوا محقّقين إلى قرية بسري برئاسة الشيخ سليم علم الدين مستشار محكمة التمييز». لكن معوّقات التحقيق لمعرفة الحقيقة كانت كثيرة. وفيما تعمّد الفرنسيون الإبطاء في هذه القضية، سارعوا إلى إتهام أشخاص من آل أبو شقرا وآل البعيني بأنهم مرتكبو بعض الجرائم في منطقتي جزّين وإقليم الخرّوب، منها جرائم ضد أعوانهم وأرسلوا قوة من الدرك للقبض عليهم. ولم يكن من الصعب عليهم توجيه هذا الإتهام إذ كان من السهل الزعم من قبل الفرنسيين أو بعض الناس أن آل أبو شقرا وآل البعيني لم يكونوا ليناموا على ضيم، وأن تلك الجرائم لا بدّ وأن تكون من قبيل الثأر لقتيليهم.
وهناك إعتبار آخر عند الفرنسيين بالنسبة إلى آل البعيني، جعلهم يتشدّدون إزاءهم كما سنرى، وهو أن المتهمين منهم كانوا من ضمن المجموعة البعينية التي وقفت إلى جانب محمود بك تقي الدين، المعارض للإنتداب الفرنسي، عندما إتهم بأنه وراء محاولة إغتيال المفوّض السامي جورج بيكو في بعقلين، أثناء زيارته لها في 25 تموز 1919، مع قائد الأسطول الفرنسي في السواحل السورية واللبنانية وبعض الضباط، بناءً على دعوة شيخ العقل حسين حماده. فقد حمى البعينيون داره، إذ دخلوا إليها على الرغم من الحصار المفروض عليها عندما طوّق الفرنسيون بعقلين وهدّدوا بقصفها بالمدافع وسجنوا حسبما يقول سعيد تقي الدين إبن محمود بك «نصف رجال البلدة وبعض النساء».

ضباط فرنسيون يدربون عناصر من أنصار الوجود الفرنسي في جبل لبنان
ضباط فرنسيون يدربون عناصر من أنصار الوجود الفرنسي في جبل لبنان

فشل «كبسة» الدرك لمزرعة الشوف ليل 28- 29 تشرين الأول 1919
علم آل أبو شقرا وآل البعيني أن قوتين من الدرك ستتوجّهان إلى عماطور ومزرعة الشوف للقبض على المتهمين، فقرّروا عدم تسليم أحد منهم لأن قضية مقتل وجيهيهم لم يُعرف عنها شيء وتكاد تُطمس، ولأنه ليس عندهم ثقة بعدالة المجلس العسكري ليسلّموا أبناءهم إليه، إذ كثيراً ما كان ينظر في القضايا بعين الإنحياز، لا بعين العدل، ويقسو في الأحكام على غير أنصار الفرنسيين، ولأن الكثيرين كانوا يُسجنون كوسيلة ضغط لتسليم المطلوبين، لكنهم قرّروا أيضاً عدم الإصطدام بالدرك، وتنحّي المطلوبين وأقربائهم عند قدوم هؤلاء لتنفيذ مهمتهم.
قُدّر لآل أبو شقرا تجنّب الصدام مع الدرك، أما آل البعيني فلم يقدّر لهم ذلك. كان منهم خمسة مطلوبين هم حسن شاهين، ونصرالله يوسف، وحسين فارس، ومحمد حسين سلمان، ويوسف علم الدين. وقد مكث هؤلاء وكثيرون من رجال آل البعيني ليل 28 – 29 تشرين الأول 1919، في المرتفع المشرف على البلدة يراقبون تحركات الدرك المرسلين إلى البلدة. لكن حسن شاهين عجّل بالعودة إلى منزله عند إنبلاج الفجر، على اعتقاد منه أن عناصر الدرك غادروا البلدة، فإذا بإثنين منهم كانا كامنين في بيت مهجور قريب، يفاجآنه ويلقيان القبض عليه، ويسيران به ممسكين بذراعيه فيما هو يمانع ويحاور ويداور محدثاً ضجة إنتهت إلى مسمع قريبته ومطلّقته زهيّة يوسف البعيني، فأسرعت وتقدّمت من الدركيين، وأمسكت بهما، فأربكتهما وشلّت حركتهما بفضل ما تمتلك من شجاعة وقوة جسدية، وبهذا ساعدته على الإفلات منهما، حتى إذا حّرر يديه إنتزع بندقية أحدهما، وهدّد الآخر بالقتل إن لم يسلّم بندقيته فسلّمها وإنسحب مع رفيقه. وحين حضر سائر عناصر الدرك مع زميليهم لاستعادة السلاح المنتزع، وجدوا أنفسهم أمام مسلّحين من آل البعيني، يهدّدونهم بإطلاق النار عليهم إن لم يتراجعوا، فآثروا الإنكفاء وعدم خوض معركة خاسرة.
في معرض حديثه عن هذا المشهد، وعما فعلته المرأة المذكورة، يقول محمود خليل صعب تحت عنوان «الحرب بين فرنسا وآل البعيني» ما يلي: «ومن المعروف عن أخواتنا البعينيات أنهن لسن أقل سطوة وبطشاً من أخواننا البعينيين، ولهن تاريخ مجيد في هذا المضمار، ومنهن كثيرات لا تزال تُروى عنهن قصص وحكايات كأنها من نسج الخيال».

هزيمة القوة المرسلة إلى مزرعة الشوف يوم 30 تشرين الأول 1919
كان ما جرى في مزرعة الشوف صباح 29 تشرين الأول 1919 خطيراً بالنسبة إلى الفرنسيين، وبات الأمر عندهم ذا شقين: أولهما القبض على المتهمين، وثانيهما، وهو الأهم، إعادة الهيبة المفقودة إلى السلطة وإلى رجال الدرك، وإعادة السلاح المأخوذ منهم. فسيّروا إلى مزرعة الشوف نهار 30 تشرين الأول قوة أكبر من الأولى، واثقين من نجاحها، ومن أنها لن تصادف أية مقاومة قياساً إلى الحملات التي كانوا يرسلونها إلى القرى، مزوّدين حملتهم بصلاحيات أخذ النساء والشيوخ أسرى في حال لم يجرِ تسليم المطلوبين وإعادة السلاح.
وفي غياب المفاوضات، وإنعدام الوساطات، لم يجد آل البعيني أمامهم سوى المقاومة، وخصوصاً بعد نشوة الإنتصار الذي حققوه، وبعد تأكدهم من أن الفرنسيين سيتشدّدون في تدابيرهم، وقد لا يكتفون بطلباتهم السابقة إذ سيستدعون للتحقيق كل من شاهد ما جرى صباح 29 تشرين الأول وساهم فيه. لذا استعدوا للقتال وانتشروا في المرتفعات وعلى سطوح البيوت المواجهة للطريق الآتية من بيت الدين، والتي تمر بقرية الكحلونية المجاورة. وحين بلغت القوة المرسلة إليهم مدخل الكحلونية الشمالي أمطروها بوابل من رصاص بنادقهم وبدأوا هجومهم عليها، فذُعرت من هول الصدمة غير المتوقّعة، وتضعضع أفرادها، وانهزموا بشكل فوضوي عائدين إلى بيت الدين، مخلّفين في ساحة القتال حصانين وذخائر غنيمةً للمسلّحين.

إحراق الفرنسيين مزرعة الشوف في 31 تشرين الأول 1919
إهتزت هيبة السلطة الفرنسية مرتين، ولم يعد مقبولاً عندها أن تهتز لمرة ثالثة في نفس المكان ومع نفس الجماعة، بل إنها رأت من الضروري التعجيل في إعادة الهيبة المفقودة، وفي تأديب الفئة العاصية التي تتحدّاها، كي لا تتجرّأ أية فئة على الإقتداء بها. لذا استقدم الحاكم العسكري التعزيزات إلى بيت الدين، وأرسل على عجل حملة ثالثة من كافة الدركيين الذين كانوا بحالة الجهوز، مدعومين بسرية من فوج المشاة الفرنسي، ومزوّدين بالمدافع والرشاشات.
علم آل البعيني من أصدقاء لهم بالإستعدادات الفرنسية، وبالحملة الكبيرة المرسلة إليهم، فكانوا أمام خيارات ثلاثة: إما الإستسلام، وهذا لم يروه ملائماً بعد رفض تسليم المطلوبين منهم، وبعد البطولات التي أبدوها في مقاومة القوتين الأوليين، وإما خوض معركة غير متكافئة، وهذا الخيار إستبعدوه لأن فيه الكثير من الخسائر والقتل وخراب البيوت، وخصوصاً أنهم وحدهم في المعركة، دون دعم سياسي، ودون توسّط أية جهة، ودون مساعدة ميدانية، إذ إن حمّالي الدم معهم وشركاءهم في المصيبة آل أبو شقرا، وهم أيضاً أقرب الناس إليهم جغرافياً، لم يحرّكوا ساكناً، ولم يساعدوهم كما كان يجري بينهم في إطار التعاون المتبادل، ذلك أنه ليس من مصلحتهم لفت أنظار السلطة إليهم، وتأكيد الإتهامات الموجّهة ضدهم بعد نجاحهم في تجنّب الموضوع. وكما إن أهالي غريفة، وخصوصاً آل حرب حمّالي الدم مع آل البعيني والقريبين إليهم أيضاً جغرافياً، هُدِّدوا من قبل السلطة كما هُدِّد سواهم، فلم يأتوا بأية حركة. أما الخيار الثالث فهو الإنسحاب من البلدة، والنزوح عن المنطقة، مع تعويق زحف الحملة الفرنسية لإنجاز هذين الأمرين، وهذا مع مرارته وسيئاته وعذاباته أهون الخيارات وأفضلها، صوناً للكرامة، وحجباً للدماء، وكي لا تصيب الأضرار سائر أبناء مزرعة الشوف.
ومع أن الفرنسيين، علموا بواسطة مخبريهم بنزوح معظم أهالي الحي الدرزي من مزرعة الشوف، أخذوا بإطلاق المدافع على التلال المحيطة بها، لإسكات طلقات النيران التي كان المسلحون يشغلونهم بها، ولأجل إلقاء الرعب في نفوس اهاليها و أهالي الجوار ومن ثم دخلوا مزرعة الشوف، واستعانوا بأدلاّء ليعرفوا ما يريدون نهبه وإحراقه من بيوتها، فأحرقوا جميع بيوت آل البعيني، وبيوتاً أطلقت من على سطوحها النيران ولأصحابها علاقة نسب بآل البعيني، هي بيت يونس علي أبو كروم وبيت المختار شاهين محمد أبو كروم، و «دار الحارة» التي منها مجاهدون ضد الإنتداب الفرنسي على رأسهم الملازم حسيب ذبيان.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الجنود حاولوا عبثاً إحراق خلوة الوليّة الست فاخرة البعيني (1764 – 1849) إذ كانت نار الأخشاب والأغصان المبلّلة بالكاز والمشتعلة، تنطفئ حين تلامس الجدران والسقف ما جعلهم أخيراً يتوقفون عن إحراقها. لكنهم أحرقوا البيت الذي أقامت فيه، والملاصق لبيت حفيد شقيقتها يوسف علم الدين البعيني الذي كان أحد المطلوبين الخمسة، فأتت النيران على أخشابه، ولم يبقَ من محتوياته بعد نهبها إلا عمود خشبي كانت تتكئ عليه الست فاخرة، قائم وسط الغرفة وقد احتفظ به يوسف علم الدين، وتركه كذكرى في إحدى غرف بيته للتبرّك. فهذه الوليّة لم يأت مثلها، حسب أقوال الشيوخ التقاة والتقات، منذ مئات السنين.
ربط المؤرّخ أمين سعيد بين حادثة مزرعة الشوف ومحاولة إغتيال المفوض السامي جورج بيكو في بعقلين، فقال تحت عنوان «مزرعة الشوف» ما يلي: سيّر الفرنسيون قوات كبيرة للفتك بالقرى التي ظنوا أن لها صلة بمطلقي الرصاص [على المفوّض السامي]، فنكّلوا بسكانها تنكيلاً، ففرّ الشبان إلى رؤوس الجبال، وألّفوا عصابات قوية جعلت دأبها شن الغارات وإزعاج السكان والحكومة.
ولما ضاق الفرنسيون ذرعاً بأعمال عصابة الشوف عمدوا إلى الحرق والقتل. فسيّروا في أوائل شهر نوفمبر قوة عسكرية كبيرة أحاطت بالحي الدرزي من مزرعة الشوف، وضربت حوله نطاقاً، ثم بدأت المدافع بإطلاق نيرانها على البيوت. كما بدأ الجند بقذف القنابل الملتهبة فأحرقوا 25 منزلاً وقتلوا نحو 40 من النساء والرجال، فهام الدروز الباقون وعددهم لا يقل عن المائتين بين نساء ورجال وأطفال وشيوخ وعجزة على وجوههم فبلغوا دمشق مساء الخميس 6 نوفمبر فضجّت حزناً وأسى لما أصابهم».
لقد قلّل المؤرّخ أمين سعيد من عدد البيوت المحروقة، ومن عدد النازحين عن القرية، وزاد كثيراً من عدد القتلى، لأنه كتب عن بعد، لكنه قارب الحقيقة وصوّر بدقة الأثر الذي أحدثه وصول النازحين إلى دمشق، ومعرفة سكانها لمأساتهم.
وجاء في الصفحة 243 من التاريخ المدرسي في سورية لطلاب الصف الثالث ثانوي – الفرع الأدبي – الطبعة الرابعة سنة 1961، في معرض ذكر الثورات على الإحتلال الفرنسي، ما يلي:
«حادثة مزرعة الشوف في لبنان حيث هاجم الدروز المفوّض السامي الفرنسي وقائد الأسطول الفرنسي وأطلقوا عليهما النار فأحاط الجيش بالمزرعة وأحرق بيوتها وقتل سكانها عام 1919».

فلاحون موارنة يتطوعون لبناء كنيسة في الشوف في مطلع عشرينات القرن الماضي
فلاحون موارنة يتطوعون لبناء كنيسة في الشوف في مطلع عشرينات القرن الماضي

حادثة مزرعة الشوف في بلاغات الفرنسيين ورسائلهم
أصدر الحاكم العسكري الفرنسي بلاغاً بعد إحراق مزرعة الشوف، وتهجير أهلها، يذكر فيه «أن كل قرية يبدو فيها حركة عداء تجاه الحكومة يصيبها ما أصاب مزرعة الشوف». وهذا التهديد ساهم مع الإجراءات التي قام بها الفرنسيون في إسكات المعترضين والمستائين والناقمين على الفرنسيين، والمتعاطفين مع أبناء مزرعة الشوف منذ مقتل أحد أبنائها.
وصرّح أحد المسؤولين الفرنسيين حول أخذ الشيوخ والعجّز والنساء، الذين لم ينزحوا عن مزرعة الشوف مع غيرهم، وعن وضعهم في سجن بيت الدين، «بأن بيوت هؤلاء لم تعد صالحة للسكن».
وجاء في تقارير الفرنسيين أن ما جرى في مزرعة الشوف هو حركة عصيان قامت بإيعاز من الحكومة العربية في دمشق، فهو يقول ما يلي: «إن الفرنسيين هدموا منازل الثائرين، وأوقفوا العديد من المتهمين، وأنه تبيّن للحاكم العسكري وبصورة واضحة أن هذه الأعمال المخلّة بالأمن لم تكن سوى حركة عصيان نظّمها بعض زعماء الدروز في حوران بالايعاز من حكومة دمشق».
وهناك أربع رسائل من وكيل حاكم لبنان إلى شيخ العقل حسين طليع، تضيء على موقف الشيخ، وعلى موقف الفرنسيين منه ومما جرى في الشوف آنذاك، وتحديداً في مزرعة الشوف.
في رسالته الأولى إلى شيخ العقل حسين طليع، وهي بتاريخ 6 تشرين الأول 1919 يطلب منه وكيل حاكم لبنان حضور إجتماع أعيان ووجهاء الشوف في بيت الدين في 14 تشرين الأول، لبحث الحوادث التي حصلت في الأشهر الأخيرة.
وفي رسالته الثانية إليه، وهي بتاريخ 31 تشرين الأول، تاريخ إحراق الفرنسيين لمزرعة الشوف، يذكر فيها ما جرى في هذا اليوم، فيقول: إن أهالي القرية المذكورة قد أطلقوا عيارات نارية على المفرزة الفرنساوية المتوجّهة مع الأنفار الجاندرمة لإلقاء القبض على الأشقياء ويضيف قائلاً: «أكثر الأشقياء وعائلة البعيني خاصة خاضعة لنفوذكم. أتأمل منكم أن تبذلوا هذه [هذا] النفوذ لحفظ الأمن العام وإني أجعلكم مسؤولاً شخصياً لكل ما يحصل. وإذا سمع طلقات قواس صدرت من جهتهم فألتزم أن ألقي القبض حالاً عليكم وأحاكمكم أمام ديوان الحرب العرفي. لكن أتأمل من سطوتكم العالية أن تعاونوا الحكومة كما فعلتم الى حد الآن لحفظ الأمن».
ويقول في نهاية الرسالة: «أما بخصوص الأسراء [الأسرى] الذين أخذناهم فإننا مستعدّون أن نحكم عليهم بالإعدام إذا كانت أهالي المزرعة لم تعد إلى السكينة».
إن الرسالة الثانية، المرسلة من وكيل الحاكم الإداري إلى شيخ العقل حسين طليع، تتضّمن في ما تتضمّنه نقطتين بارزتين أولاهما تحميل الشيخ حسين المسؤولية واعتبار الأشقياء وعائلة البعيني خاضعين لنفوذه إعتماداً على أنه شيخ عقل الفريق الجنبلاطي إلى جانب شيخ العقل عن الفريق اليزبكي حسين حماده، وأن آل البعيني جنبلاطيون. أما كلمة «نفوذ» الشيخ حسين طليع التي وردت في الرسالة، فهي لا تعني سوى نفوذ معنوي لأنه رجل دين إتصف بالورع والتقوى. وثانيهما لغة التهديد والوعيد التي اعتمدها وكيل الحاكم الإداري في مخاطبة الشيخ حسين، وفي طلب مساعدة الفرنسيين في مسألة مزرعة الشوف، فهو يهدّد بإحالته إلى المجلس العسكري ومحاكمته، وبالحكم بالإعدام على الأسرى في المزرعة إذا لم يلتزم أهلها السكينة. وهذه اللغة الإستكبارية والإستقوائية إن دلّت على شيء، فهي تدلُّ على الأسلوب الذي إِعتمده الفرنسيون في التعاطي مع السوريين واللبنانيين، والذي كان أحد أسباب الثورات عليهم.
والرسالة الثالثة، المرسلة من وكيل حاكم لبنان إلى الشيخ حسين طليع، هي بتاريخ 3 تشرين الثاني 1919، وفيها ما يلي: «أن يتعهّد أهالي مزرعة الشوف أن لا يلفّوا الأشقياء ولا عساكر الشريف الذي ليس مصدّق على مأذونيتهم من حاكم لبنان» لكي يسمح للمهجّرين من مزرعة الشوف بالعودة إليها.
ما جاء في هذه الرسالة يعني أن مزرعة الشوف تستضيف وتحمي «الأشقياء» الذين هم أفراد العصابات الوطنية التي تقاتل الفرنسيين، ويعني أيضاً أن من مزرعة الشوف «عساكر» في جيش الشريف فيصل يعرف الفرنسيون أسماءهم، ويشترطون التصديق على مأذونياتهم ليتأكدوا من أن وجودهم في المزرعة هو لرؤية أهلهم، لا لأداء مهمات قتالية كانت حكومة فيصل تعهد بها أحياناً للفرق العسكرية التابعة لها. وبالفعل كان هناك خمسة من أبناء مزرعة الشوف في جيش الحكومة العربية، هم الملازم حسيب ذبيان، وأقرباؤه من عائلته: سلمان محمد وأخوه نجيب، ومصطفى حسن، وشاهين محمد، وكانوا جميعاً في مجموعة القائد فؤاد سليم الذي هو أحد أهم ضبّاط الحكومة العربية.

سجن نساء مزرعة الشوف
كان من جملة الأسرى الذين إحتجزهم الفرنسيون نساء بعينيات ووضعن في سجن بيت الدين. وسجن النساء وسيلة من وسائل الضغط التي إعتمدوها بشكل مكثّف ولم تكن معتمدة من قبل. فكثيراً ما عمدوا إلى سجن نساء المطلوبين، وأحياناً نساء غيرهم، لإجبارهم على التسليم. وكثيراً ما إنتقموا من السكان والمعارضين لهم، ومن الثائرين عليهم، بحجز نسائهم. لقد سجنوا، على سبيل المثال، في حادثة مماثلة تقريباً لحادثة مزرعة الشوف، ومتزامنة معها، زوجتي المطلوبين، علي يوسف طربيه وعلي حسين أبو إسماعيل من ديربابا، وأبقوهما مدة في سجن بيت الدين ثم نقلوهما إلى سجن عاليه، وذلك من أجل إجبار زوجيهما على التسليم. وهذا كان أهم سبب لمهاجمة فندي أبو ياغي زهر الدين ومجموعة من الرجال معه منزل حبيب باشا السعد في عين تراز ليل 6 تشرين الأول 1919، بقصد إغتياله لتعاونه مع الفرنسيين. ولما كان غائباً عن دارته وجّه فندي إنذاراً إليه عبر زوجته «بأن يطلق سراح النساء الدرزيات من السجون، وأن يكفَّ عن ممارسة الأعمال السيئة بتوجيه فرنسي وإذا لم يستجب لهذا الإنذار سيأخذون زوجته في المرة القادمة».
جاء في إحدى الصحف أن سيادة المطران أوغسطين البستاني وسيادة شيخ عقل الطائفة الدرزية حسين طليع توسّطا لدى الحكومة لمعاملة أهالي مزرعة الشوف بالرأفة وإطلاق سراح الموقوفين من النساء والأولاد وتكفّلا بإقناع الأهالي على ردّ ما سلبوه من أسلحة الجنود اللبنانية «فرأت الحكومة أن تستجيب لطلب الوسيطين وتعامل الأهالي بالرفق». إذاً كان اطلاق سراح النساء والأولاد مرتبطاً بإعادة آل البعيني أسلحة رجال الدرك، ولكن من يُطلب منهم إعادة هذه الأسلحة باتوا مهجّرين من بلدتهم، وباتوا متضرّرين يجب التعويض عليهم لبناء بيوتهم المهدّمة والمحترقة.
في الذاكرة الشعبية لأهالي مزرعة الشوف مأثرة المطران أوغسطين البستاني لإستضافته نسائهم، وهي من جملة مآثره المحفوظة في ذاكرة الدروز والنصارى الشوفيين. لقد طلب من الحاكم الفرنسي إستضافة النساء فنزل الحاكم عند طلبه «وظللن في ضيافته مدة أربعة أيام إلى أن نجح مسعاه في إخلاء سبيلهن».

بيوت المزرعة ولا سيما دور آل البعيني أحرقها الفرنسيون عن آخرها
بيوت المزرعة ولا سيما دور آل البعيني أحرقها الفرنسيون عن آخرها

النزوح الجماعي من مزرعة الشوف
قبل أن يصل الجنود الفرنسيون إلى مزرعة الشوف، ويبدأون بإحراق بيوتها. كان آل البعيني قد اتخذوا قرار النزوح الجماعي، فأخذوا ما خفَّ وزناً وغلا ثمناً وبعض الضروريات، وأخذوا معهم أولادهم بمن فيهم الصغار، أما عددهم، فهو الأكثرية الساحقة من آل البعيني الذين كانوا آنذاك حوالي أربعمائة نسمة، ما يعني حكماً أن النازحين حوالي الثلاثمائة والخمسين، إذا استثنينا النساء والشيوخ الذين سُجنوا في بيت الدين، والشيخ التقي أبا حسين محمود علي الذي نزل مع عائلته ضيفاً عند صديقه الشيخ أبي أمين أحمد عوده في باتر.
كانت وجهة النازحين جبل العرب، وقد ساروا في الطريق الرئيسة المعتادة، وهي طريق ثغره مرستي – وادي التيم- دمشق وتجنّبوا المرور في أية قرية شوفية ليوفّروا على أهاليها مضايقات الفرنسيين. وبعد أن اجتازوا الجبل وأصبحوا في البقاع باتوا في ما كان يسمى «المنطقة الشرقية» حسب تقسيمات الجنرال اللنبي، وهي كانت آنذاك لا تزال تابعة للحكومة العربية في دمشق. رحّب بهم وأكرمهم آل جمال في المحيدثة من وادي التيم، وحلّوا على الرحب والسعة في ضيافة نسيب بك الداود في حلوه. ومنها ساروا إلى دمشق حيث نزلوا في مجلس «حارة الدروز». وقابل وفد منهم رئيس الحكومة العربية رضا باشا الركابي، والشريف زيد، شقيق الشريف فيصل الذي كان آنذاك في أوروبا، فعّين لهم الشريف «لوكندات» للمنامة وللأكل على نفقة الحكومة.
إتخذ النازحون من دمشق محطة مؤقتة في طريقهم إلى جبل العرب، فغادروها إليه حيث لهم أقرباء فيه بدأوا بتوطّنه منذ سنة 1825 حين نُكبوا بعد هزيمة الشيخ بشير جنبلاط أمام الأمير بشير الشهابي الثاني، إذ كانوا من أنصار الشيخ. إلا أنه ظل منهم في دمشق بضعة شباب متحمّسين إلتحقوا بقوات الحكومة العربية، منهم نصرالله يوسف الذي كان من بين أفراد مجموعة فؤاد سليم حين حضرت ليل 25 كانون الثاني 1920 لنسف جسر الخردلي على نهر الليطاني.
ومما يذكر في هذا المجال أن فؤاد بك جنبلاط، الذي تضرّر كثيراً من مقتل وكيليه، ومن نزوح أنصاره آل البعيني إلى جبل العرب، والذي كان مستاءً من تصرفات الفرنسيين في منطقته، عزم على ترك جبل لبنان، والإلتحاق بالحكومة العربية في دمشق، لكنه عاد وإقتنع بنصيحة المخلصين من أن بقاءه يفيد منطقته أكثر بكثير من تركها. ومما يجدر ذكره هو أنه كان هناك إرتياح في بعض الأوساط لنزوح أهالي مزرعة الشوف، اشارت إليه جريدة «الصفاء» فقالت: «عندما وقعت حادثة مزرعة الشوف أخذ البعض يطبّل ويزمّر قائلاً: إن الدروز مقلقون يجب طردهم من لبنان».

 

جانب من عماطور اليوم_
جانب من عماطور اليوم_

 

صدى حادثة مزرعة الشوف عند أعيان جبل العرب وفي «المنطقة الشرقية»
عندما وصل النازحون إلى دمشق لم يكن فيها احد من كبار أعيان جبل العرب، فأُعلموا بقدومهم، فحضر شيخ مشايخ الجبل سليم باشا الأطرش وعبد الغفّار باشا الأطرش ونسيب بك الأطرش. ويذكر الشيخ وهبي طليع في مذكراته -وهو شاهد عيان- أن هؤلاء الأعيان الثلاثة قابلوا النازحين في مجلس الدروز في الشام، وطيّبوا خاطرهم، ثم انتقلوا إلى مقر الشريف زيد، ومنه إلى مقر المعتمد الإنكليزي المايجور كلايتون، ورئيس الإستخبارات المايجور دون، فاحتجوا لديهم بقوة على ما فعله الفرنسيون في مزرعة الشوف، ومن ثم إنتقلوا إلى مقر المعتمد الفرنسي الكولونيل كوس، واستنكروا بشدة ما قامت به السلطة الفرنسية في مزرعة الشوف. ويضيف الشيخ وهبي طليع أن نسيب بك قال للكولونيل ما معناه: أنتم تعدّوننا متخلّفين، ولكننا في الحرب الكونية وقفنا بوجه الأتراك، ومنعنا إحتكار الحنطة، وأطعمنا اللاجئين إلى الجبل الذي وفّر الأمان لكل من دخله، وخدمنا الإنسانية. وأنتم تقولون ويقال عنكم إنكم أم المدنية والحرية، لكنكم عملتم بعكس الإثنتين وتصرّفتم بوحشية فضربتم بالمدافع مزرعة الشوف، وأحرقتم البيوت، وشتتم النساء والأولاد».
هاج الرأي العام في «المنطقة الشرقية» حيث كان التأييد عارماً للحكومة العربية، والنقمة طاغية على الفرنسيين. فأبرق أهالي حاصبيا مستنكرين. وأبرق محمود الفاعور، وشيوخ القبائل والقرى وأعيان الدروز في الجولان إلى الحاكم العسكري الفرنسي في لبنان، محتجين «على الفظائع والجنايات التي تخالف مبادئ الحلفاء السامية، ولا تتفق مع المدنية الحاضرة بوجه من الوجوه». وأرسل سليم باشا الأطرش وعبد الغفّار باشا الأطرش بإسم زعماء دروز جبل العرب برقية إحتجاج إلى الشريف زيد المتسلم للشؤون العامة في غياب أخيه فيصل، وإلى الحاكم العسكري العام، وإلى معتمدي إنكلترا وفرنسا، هذا نصها:
«دروز حوران [جبل العرب] يحتجون بكل ما لديهم على المعاملة الجائرة بشأن إخوانهم دروز لبنان. تخريب مزرعة الشوف هاج الدروز هنا الذين تجمهروا لمعاونة إخوانهم. أوقفناهم مؤقتاً حقناً للدماء، ومنعاً لوقوع مجازر بشرية. إن كل نقطة دم تُهرق من درزي لبناني تهيج بها عواطف ثمانين ألف درزي حوراني، ودروز حوران لا يتخلّون عن أقاربهم دروز لبنان ولو أدّى ذلك إلى إفنائهم. نرجو إستعمال نفوذكم لمنع الظلم عن الدروز هناك، وإلا نكون غير مسؤولين عن أية نتيجة تحصل».

العفو عن أهالي مزرعة الشوف
منذ الأيام الأولى لنزوح أهالي مزرعة الشوف بدأت المساعي والوساطات للعفو عنهم، وقبول الفرنسيين بعودتهم. وفي البداية إشترط وكيل الحاكم الإداري شروطاً قاسية، منها تعهّدهم بإيجاد الراحة العمومية في بلدتهم، وضمان حياة عساكر الدولة عند قدومهم إليها، وإعادة الخرطوش والأسلحة التي كسبوها من أفراد الدرك مع خمسين بندقية حربية جديدة. ثم ألغى وكيل الحاكم هذه الشروط، وإعتبر ما أصاب أهالي مزرعة الشوف من هدم بيوتهم وخسارة محتوياتها، عقاباً لهم. وبعد ذلك تطوّر الأمر إلى العفو عنهم دون شروط.
كان من مصلحة الفرنسيين كسب السكان عموماً، والدروز تحديداً، في مرحلة بحث عصبة الأمم لمسألة الإنتداب، ومرحلة تطلّعهم إلى إحتلال «المنطقة الشرقية» وتثبيت أقدامهم في الشرق. وهذا كان الهدف الأول للجنرال غورو الذي عيّنته فرنسا لتطبيق الإنتداب في سورية ولبنان.
لذا تقرّب من دروز لبنان بإحتواء المعارضين منهم، وردّ الزيارات لكبار زعمائهم، والعفو عن مرتكبي الحوادث التي جرت في العامين 1918 و 1919، وتقرّب من دروز حوران (جبل العرب)، بوعدهم بإنشاء كيان خاص بهم في الجبل، وبجعل حرسه الخاص من شبابهم. وفي المقابل حصل تطوّر عند الفريقين الدرزيين أدّى إلى قبول معظم المعارضين بالإنتداب الفرنسي. وتزامن هذا مع مفاوضات أجراها الشريف فيصل في باريس مع رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو، أسفرت عن الإتفاق بينهما في كانون الأول 1919 على قبول فيصل بالمساعدات الفرنسية، وبإنتداب فرنسا على لبنان، وتسهيله تشكيل إدارة مستقلة لدروز حوران داخل الدولة السورية.
حضر وفد من أعيان دروز جبل لبنان للسلام على الجنرال غورو في 6 كانون الأول 1919، بعد قدومه إلى الشرق. وهذا الوفد مؤلف ممن أيّدوا الفرنسيين سابقاً مثل الأميرين الأخوين فؤاد وتوفيق أرسلان، ونجيب عبد الملك، وشيخ العقل حسين حماده وأخيه أمين، وشفيق بك الحلبي، وممن عارضوا الفرنسيين مثل الأمير عارف مصطفى أرسلان، وفؤاد بك جنبلاط، ورشيد بك جنبلاط، ومصطفى بك العماد، ومحمد بك تلحوق. وكان لقاؤهم معه فرصة لأن يطرح الكولونيل الفرنسي نيجر موضوع العفو عن جميع المحكومين الدروز في الحوادث، ومنهم الذين حكموا بحادثة مزرعة الشوف، فوافق الجنرال غورو على ذلك. ثم طلب شيخ العقل حسين حماده أن يشمل العفو جميع المحكومين المسيحيين في الحوادث نفسها، فوافق الجنرال.
وفي 7 نيسان 1920 زار الجنرال غورو، ومعه كبار المسؤولين الفرنسيين المدنيين والعسكريين، فؤاد بك جنبلاط في المختارة، فاستُقبل من أهالي المنطقة بالحداء وإطلاق العيارات النارية حسب عادات اللبنانيين، وكان في إستقباله من أعيان الدروز شيخ العقل حسين طليع والأميران: أمين مصطفى وفؤاد أرسلان، والبكوات علي ومحمود ورشيد جنبلاط، ومصطفى العماد، ونجيب عبد الملك، وأمين حماده، ومحمود تقي الدين، وشفيق الحلبي، وسعيد زين الدين، فرحّب فؤاد بك جنبلاط بالفرنسية بالجنرال غورو وأكمل محمود بك تقي الدين عنه بالعربية وطلب استقلال «لبنان الكبير» بحماية فرنسا فأيده الحاضرون بالهتاف.

مزرعة الشوف اليوم
مزرعة الشوف اليوم

التعويض عن أضرار مزرعة الشوف
إنعكس التحوّل في موقف دروز جبل لبنان نحو التأييد شبه الشامل للإنتداب الفرنسي على قضية مزرعة الشوف فتطوّر الأمر من العفو عن أهاليها إلى التعويض عن الأضرار التي لحقت بهم، وأظهر الفرنسيون إهتماماً بهم، من وجوهه رسالة المستشار الإداري «للمنطقة الغربية» إلى المستشار الإداري لجبل لبنان، بتاريخ 20 آذار 1920، يستوضح فيها عن وضع مزرعة الشوف.
كان الأمير أمين مصطفى أرسلان، الملقّب من الفرنسيين بالعدو الشريف، يهاجمهم في مواضيع عدة، منها إحراقهم لمزرعة الشوف وتهجير أهلها، وكان يطلب منهم تصحيح خطأهم إزاءها بالتعويض الكافي لإعادة بناء بيوتها وتأثيثها، والتعويض عن توقف أعمال النازحين منها. وتجاوب الفرنسيون معه في ذلك لإعطاء مثل عن تساهلهم ومعاملتهم الحسنة للسكان، ووافقوا على تعويض عادل قدره بالعملة المصرية التي إعتمدها الحلفاء في سورية ولبنان، ستون ألف ليرة ورقية، إلا أن بعض المزايدين من أعيان الدروز في ولائهم للفرنسيين، والمتزلّفين إليهم، أظهروا الغيرة على مصلحة الفرنسيين، حسبما صرّح به الأمير أمين لوجوه آل البعيني، إذ نصحوا الجنرال غورو بإنقاص التعويض، بحجة أن التعويض العالي، إضافة إلى العفو، قد يكون دافعاً للتجرؤ على مقاتلة الفرنسيين، فبات 12 ألف ليرة مصرية ورقية. واضطر أهالي مزرعة الشوف إلى القبول بالتعويض القليل، وعاد النازحون من آل البعيني من جبل العرب، ومعهم المتهمون الخمسة الذين ورد الحديث عنهم، وأعادوا بناء بيوتهم، فيما ظلت قلّة منهم مع أقربائهم في الجبل.
حصل إحراق مزرعة الشوف وتهجير أهلها في نهاية تشرين الأول 1919، وعاد النازحون في ربيع 1920، وغدا هذا التاريخ عندهم وعند سائر أبناء البلدة محطة يؤرّخون بها الوقائع، ويذكرونه بلفظة «حريقة» فيقولون: هذا خلق قبل الحريقة أو بعدها، وهذا الموضوع حصل قبل الحريقة أو بعدها. إنها صفحة مأسوية ماثلة في ذاكرة الأبناء والأحفاد، ولا يمرّ عليها الزمن، لكنها أيضاً صفحة مجيدة من تاريخ هذه البلدة، ومن تاريخ لبنان في عهد الإنتداب الفرنسي، لأنها الأكبر من بين أعمال المقاومة الوطنية ضد الفرنسيين في جبل لبنان حتى نشوب الثورة السورية الكبرى في سنة 1925.

المراجع

– حنانيّا المنيّر: الدر المرصوف في تاريخ الشوف، ص 130. وناصيف اليازجي: رسالة تاريخية في احوال لبنان في عهده الإقطاعي، ص 16.
– مذكرات الضابط نعمان أبو شقرا (مخطوطة) ص 182. نحتفظ بصورة عنها.
– سعيد تقي الدين: ملحق أنا والتنين، ص66.
– محمود خليل صعب: قصص ومشاهد من جبل لبنان، ص 83.
– أمين سعيد: الثورة العربية الكبرى، طبع مكتبة مدبولي بمصر الجزء الثاني، ص 116-117.
– لسان الحال، عدد 3 تشرين الثاني 1919.
– الحقيقة، عدد 11 تشرين الثاني 1919.
– جورج فغالي: تاريخ جيش المشرق في لبنان، ص 257.
– نحتفظ بصور عن الرسائل الاربع. والأصل محفوظ عند الشيخ زهير طليع.
– عزت زهر الدين: المجاهدون الدروز في عهد الإنتداب ص 189- 190.
– لسان الحال عدد 8 تشرين الثاني 1919.
– الحقيقة عدد 24 تشرين الثاني 1919.
– الصفاء، عدد 23 تموز 1920.
– مذكرات وهبي طليع (مخطوطة) ص 26، نحتفظ بصورة عنها.
– البرقيات منشورة في جريدة -العاصمة- عدد 24 تشرين الثاني، وعدد أول كانون الأول 1919.
– العاصمة، عدد 13 تشرين الثاني 1919.
– أنظر إلى اتفاق فيصل- كليمنصو: زين نور الدين زين: الصراع الدولي في الشرق الأوسط وولادة دولتي سورية ولبنان، ص 141- 142.
– لسان الحال، عدد 8 كانون الأول 1919.
– لسان الحال، عدد 8 وعدد 10 نيسان 1920.
– صورة عن الرسالة: نحتفظ بها في مكتبتنا.

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading