الأربعاء, آذار 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الأربعاء, آذار 27, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

العلاجات البديلة لمرض السكري

الغذاء قبل الدواء
لمعالجة داء السكّري!

تبني نمط حياة صحية يتعدى بفوائده معالجة السكّري
إلى معالجة ضغط الدم والكوليسترول وأمراض كثيرة

الإفراط في تناول النشويات والسكّريات وزيادة الوزن
وضعف النشاط الجسدي أهم مسببات داء السكّري

العقدة الصفراء وحبة البركة أكثر فعالية بأضعاف
في خفض سكر الدم وليست لهما أي مضاعفات جانبية

مستخلص أوراق الزيتون زاد إنتاجية
خلايا إفراز الأنسولين في البنكرياس بنسبة 28%

إن اتباع نظام غذائي صحي وممارسة النشاط الجسدي بانتظام واجتناب الوزن الزائد والتدخين يمكن أن تمنع أو تؤخر الإصابة بمرض السكّري المتأخر (Type II) .
(منظمة الصحة العالمية، نشرة إعلامية كانون الثاني 2015)

معظم أطباء الغدد الصماء الذين يهتمون بأعراض داء السكّري ينصحون مرضاهم غالباً، خصوصاً عندما تكون أعراض المرض في بداياتها بالاهتمام بوزنهم وبغذائهم وبإدخال الرياضة البدنية أو رياضات المشي والسباحة إلى نمط حياتهم، وكثيراً ما سمعنا طبيباً يقول لمريضه خفض وزنك 10كيلوغرامات ولن تحتاج بعد ذلك إلى دواء السكّري!!
هذه النصيحة المعتادة من الأطباء تضع اليد على نقطة أساسية في موضوع السكّري قلما تلقى الإهتمام اللازم، وهي أن السكّري مرض يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنمط الحياة التي نعيشها، وهو يعني بالتالي أن إجراء تعديلات إيجابية في نمط حياتنا سيرتد بنتائج إيجابية فورية على هذا المرض الذي بات من أكثر الأمراض انتشاراً في العالم وبات مصنفاً في المرتبة السابعة بين الامراض الخطرة التي تسبب الموت.
في ما يلي تعرض «الضحى» لبعض الخيارات التي بدأت تطرح كعلاجات رديفة لمرض السكّري، أي علاجات مساعدة كما تطرح وجهة نظر الطب لجهة أهمية تبني حياة نشطة وممارسة الرياضة وتبديل نظام الغذاء باتجاه خفض السكّريات واعتماد حمية حقيقية باعتبار ذلك جزءاً أساسياً من أي برنامج لاحتواء مرض السكّري. وتجدر الإشارة إلى أن المقالة تقتصر على التوجيه ولا تعطي رأياً طبياً قاطعاً لأنه حتى العلاجات الرديفة تختلف باختلاف حالة السكّري إذ هناك حالات يكفي فيها فعلاً الحمية لتراجع معدلات سكر الدم إلى مستويات طبيعية وهناك حالات أكثر استعصاء تكون ناجمة عن مضاعفات أو تفاقم أعراض السكّري وهذه الحالات قد لا يكفي فيها النظام الغذائي أو تناول مكملات غذائية، لذا يجب على مريض السكّري أن يعرض نفسه على الطبيب المختص وأن يحصل على تقييم دقيق لحالته وأن يدخل أي عناصر غذائية أو نظام علاج متكامل ضمن نصيحة الطبيب. ولكل حالة لبوسها كما يقال فلا يجوز التعميم. وقد يؤدي ترك العلاج الصيدلاني فجأة إلى مضاعفات تضرّ كثيراً ولا بدّ بالتالي من مقاربة متدرجة ودائماً مع فحص معدل السكّر ومراقبة نتائج أي علاج بإشراف الطبيب.في ما يلي خلاصة الدراسة.
«الضحى»

لقد تزايدت بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة الأبحاث العلمية التي تؤكد أن مرض السكّري يمكن شفاؤه أو على الأقل السيطرة عليه من دون أدوية السكّري الكثيرة، وأن هذا الأمر ممكن عبر مجموعة تدابير متكاملة تجمع بين التخلص من الوزن الزائد والحمية عن النشويات والسكّريات وإدخال الرياضة والجهد الجسدي وتبني نظام تغذية غني بالخضار والفواكه وأخيراً الاستعانة بعدد من المكملات الغذائية ولاسيما العقدة الصفراء أو مستخلصها والحبة السوداء والقرفة والزنجبيل وهذه العناصر الغذائية ثبتت فعالياتها في تعديل مستوى السكّر في الدم في تجارب مخبرية وطبية موثقة، وهذه المكملات يمكن تناولها في البدء إلى جانب دواء السكّري لكن يمكن التدرج في استعمالها مع النظام الغذائي والرياضي بهدف التخفيف التدريجي من الاعتماد على الأدوية حتى الوصول إلى التخلص منها بصورة كلية.
لماذا هذا التركيز على ضرورة السعي لمواجهة أعراض السكّري عبر تبديل نمط الحياة بدلاً من الاعتماد المفرط على الأدوية الرائجة؟
لأن الأبحاث العلمية أثبتت أيضاً أن جميع أدوية السكّري لها مضاعفات جانبية وأنها قد تتسبب على المدى الطويل بزيادة مخاطر الإصابة بأمراض القلب والشرايين، وهنا، فإن مريض السكّري هو عملياً بين خيارين : خيار السهولة وبالتالي الاعتماد على المتفورمين أو غيره من الأدوية لكن من دون السعي الى تبديل نمط تغذيته أو أسلوب حياته، أو خيار العلاج الذاتي عبر ترك الاعتماد على الأدوية والسعي لبذل كل ما هو مطلوب لمعالجة أعراض السكّري بصورة طبيعية، علماً أن العلاج عبر تبديل نمط الحياة لا تقتصر فوائده على كبح جماح السكّري بل تمتد إلى منح المريض صحة ممتازة وربما تحقيق تقدم مواز في معالجة ارتفاع ضغط الدم أو الكوليسترول أو غيره من أعراض اختلال التوازن في نظام الجسم وفي نطام المناعة.
تجدر الملاحظة أننا نتحدث هنا عن مرض السكّري المتأخر Type II diabetes الذي يصيب الأشخاص في مرحلة متقدمة من عمرهم وغالباً بعد بلوغهم الاربعين، (علماً أن المرض أصبح يصيب أشخاصاً في سن أصغر فأصغر) ونحن لن نشمل في هذا المقال أعراض السكّري المبكر TypeI الذي يصيب الأطفال وهو مرض خلقي يكون فيه جسد الطفل غير قادر على إفراز الأنسولين بصورة كافية مما قد يجعله مرتهناً بالعلاجات الصيدلانية ولاسيما حقن الأنسولين. وسبب التركيز على مرض السكّري المتأخر أنه يمثل أكثر من 95.8% من الحالات في الولايات المتحدة وكذلك في العالم، كما إنه بطبيعته يمكن بصورة أفضل السيطرة عليه بتبديل نظام الحياة بينما لا يمكن أن يتم الشيء نفسه في حال السكّري المبكر الناجم عن نقص الأنسولين الأمر الذي يفرض تدخلاً دوائياً ولاسيما حقن الأنسولين بصورة منتظمة.

” أدوية السكّري تدّر المليارات للشركات الصانعة وأكثر العلاجات الصيدلانية لها مضاعفات جانبية  “

الحمية عن السكريات والحلويات من أهم عناصر أي برنامج لمعالجة السكّري
الحمية عن السكريات والحلويات من أهم عناصر أي برنامج لمعالجة السكّري

ماذا نصاب بالسكّري؟
هناك مؤكداً ما يمكن اعتباره الاستعداد الوراثي للإصابة بمرض السكّري لدى فئة من الناس الذين قد يكون لبعضهم، تحسُّس تجاه بروتينات معينة في حبّة القمح على سبيل المثال أكثر من البعض الآخر وبدرجاتٍ متفاوتة، وهذا ما يُجيز القول إنّ هناك «مكوِّناً وراثياً جينياً» وراء الإصابة بـداء السكّري المبكر Type I أو أي مرض آخر. لكنّ الإقرار بوجود أسباب وراثية وراء الاستعداد الطبيعي» للإصابة (susceptibility) بأي مرض لا يعني أنّ الجينات هي التي «تُسبِّب» المرض.
إن الطب الحديث يحدّد مجموعة من العناصر أو المعطيات التي تساهم في الإصابة بمرض السكّري وكلها تقريباً عناصر يمكن اجتنابها وهي:
1. الاستهلاك المكثّف للُسعرات الحرارية Calories
2. ضعف النشاط البدني ونقص التمارين الرياضية
3. استهلاك «الحلويات «المخبّأة» وهي أطعمة غنية جداً بالسكّر من دون أن يكون مذاقها حلواً لكنّها تجعل الدم متشبعاً بالسكّر، ومن هذه الأطعمة المعجّنات والحبوب والبسكويتات، وكذلك السكّر الزائد، والأسوأ من ذلك شراب محلّى الذرّة العالي الفروكتوز High-fructose corn syrup HFCS أو الحلويات على أنواعها.
4. الزيوت والدهون المهدرجة
5. النقص في الأملاح المعدنية، ولاسيّما المغنيزيوم والكروميوم والزنك، وأحماض الأوميغا 3 الدُّهنيّة Omega 3 amino acids التي نجدها في أطعمة مثل بذر الكتّان والجوز وبعض أنواع الأسماك.
6. التعرُّض للمواد الكيميائية، بما في ذلك التلوُّث البيئي الناجم عن الاستخدام الكثيف للمبيدات الكيميائية والعقاقير وأنواع الأدوية المتوافرة في السوق..
7. الإفراط في الطعام ولا سيما النشويات والأطعمة الحلوة، إذ عندما نأكل ما يتجاوز حاجة الجسم منها تُخزَّن الطاقة الفائضة على شكل «الغليكوجين» (Glycogen) وكدهون مُشبَعة (Saturated fats). ومن خلال الاستهلاك المُفرِط للطعام لفترة طويلة لدرجة لا يعود للجسم معها أي حيّز لتخزين تلك السُعرات غير المُستخدَمة، تظهر حالة مقاومة الإنسولين ومن ثم البدانة وهي سبب أساسي للإصابة بالسكّري.
لذلك، فإن الحدّ من استهلاك السعرات الحرارية، ولاسيّما من مصادر النشويات أو الكربوهيدرات، يغدو عندئذ ذا أهمية حاسمة لمنع تطوُّر داء السكّري أيضاً التمارين الرياضية ضرورية جداً لمساعدة الجسم على استخدام السكّر المخزَّن عبر حرق السُعرات الحرارية المستهلكَة. فللتمارين الرياضية تأثير مضاد للأكل الزائد، حيث تزيد عدد مُستقبِلات الإنسولين في خلايا العضلات وتُضاعِف حساسية الجسم للإنسولين بما يُريح البنكرياس من عبء الإنتاج المتواصل للإنسولين، كما إنّ التمارين تساعد على إطلاق هرمونات كابحة للشهية وناقلات عصبية تُسهِم في منع الشراهة بتناول الطعام. وتؤثر النشويات عموماً على فرز الإنسولين لأنّها محتوية على معدّلات عالية من السكّر، مقارنة بالبروتينات والدهون. فالنشويات أو الكربوهيدرات تجعل الدم يغدو أكثر حلاوة مقارنة بما تفعله البروتينات أو الدهون التي تتفكّك ببطء في الجسم، بمعزل عن الإنسولين.
بإختصار، إنّ عملية التمثيل الغذائي Metabolism في الجسم البشري غير مصمّمة لدخول كميات كبيرة من النشويات، والسكّر، والمحلّيات sweeteners والدهون المنتجة صناعياً. فنحن بحاجة إلى الفواكه والخضار، والبذور والثمار والمكسّرات، وإلى مصادر غنية جداً بالبروتين. وثمة أدلّة علمية تُثبت أنّ «البروتينات السكّرية» (Glycoproteins) في الحبوب النشوية المعروفة
بالـ «لكتينات» (lectins) يمكن أن تؤثر في منطقة الدماغ المسؤولة عن تنظيم هرمونات الجسم ويمكنها خصوصاً أن تعطل عمل التأثيرات الكابحة للشهية، وهذا هو أحد الأسباب وراء توليد الخبز والمعجنات وحبوب الفطور التجارية (cereals) والبسكويتات الهشّة (crackers) وغيرها رغبة مُلِحّة متواصلة لتناولها، كما إنّ «لكتين» القمح له تأثير ضار أيضاً على «مُستقبِلات الإنسولين» في الجسم وهو ما قد ينتج منه زيادة الوزن المرتبطة بمقاومة الإنسولين، وهذا يُوضِح السبب وراء استخدام حبوب «اللكتينات» في إطعام الماشية التي يُراد تسمينها للذبح..!!
كما ثبُتَ أنّ «شراب الذرّة المحلّى» الغني بالفركتوز والسكّر المكرّر يُسبِّبان مقاومة للإنسولين في الفئران والبشر. وهناك أكثر من 70 تأثيراً صحياً معاكساً آخر مرتبطاً بإستهلاك السكّر المكرّر، كما إنّ الزيوت المهدرجة تُخفِّض بشدّة استجابة العضلات والدهون في الجسم للإنسولين، فيما تُضاعِف أحماض «أوميغا 3» الدُّهنيّة من تلك الاستجابة.

حقائق أساسية عن السكري

السكري مرض مزمن يحصل عندما يفشل البنكرياس في إفراز الأنسولين بكمية كافية أو عندما يصبح الجسم غير قادر على استخدام الأنسولين بصورة فعالة لتنظيم معدل السكر في الدم.
إن الفشل في معالجة أعراض السكري سواء بالعلاجات الدوائية أو الطبيعية أوبالإثنين معاً يمكن أن يتسبب بأمراض ومضاعفات خطيرة من أهمها أمراض القلب والشرايين والفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم والجلطات وتقهقر صحة العينين والأطراف ولاسيما القدمين.
وحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية فقد توفي 1.5 مليون شخص في العالم سنة 2014 نتيجة لمضاعفات مرض السكري، كما إن 9% من سكان العالم فوق الـ 18 عاماً مصابون بالسكري.
يبقى القول إن إحصاءات مرضى السكري تخفي الحجم الحقيقي للمشكلة والتي تبدو على حقيقتها عندما ندخل في إحصاءات الأشخاص الذين هم على شفير الإصابة بالمرض ويدعون Pre-diabetic وهؤلاء يبلغ عددهم عموماً أضعاف عدد المصابين في المرض. ففي الولايات المتحدة بلغ عدد المصابين بالسكري في العام 2012، 29.1 مليون شخص أي نحو 9.1% من السكان، لكن في السنة نفسها كان من لديهم الاستعداد للإصابة بالسكري المتأخر وصل عددهم إلى 86 مليون شخص (أي ما يعادل 27% من السكان أو أكثر من 50% من المواطنين البالغين).
هناك نوعان أساسيان من السكري هما:
أولاً: مرض السكري المبكر Diabetes Mellitus Type I وسبب هذا الداء عدم قيام البنكرياس بإفراز الأنسولين بكمية كافية، الأمر الذي يتطلب حسب الأطباء استخدام حقن الأنسولين للحفاظ على حياة المريض. أما أسباب هذا المرض غير معروفة بعد. ومن أبرز أعراضه التبول الزائد لدى الطفل، اضطراب النظر والتعب الشديد والعطش الدائم والجوع وخسارة الوزن، ويمكن لهذه الأعراض أن تحصل فجأة.
ثانياً: مرض السكري المتأخر Diabetes Mellitus Type II هذا المرض يصيب 95% من الناس الذين يعانون من مرض السكري في العالم. وفي هذه الحال فإن البنكرياس يفرز الأنسولين بصورة طبيعية لكن خلايا الجسم تبدو غير قادرة على الاستفادة منه لتعديل معدلات السكر في الدم. ومن أهم أسباب السكري المتأخر، زيادة الوزن عن المعدل الطبيعي وعدم القيام بنشاط جسدي بصورة منتظمة، وحتى تاريخ قريب فإن السكري المتأخر كان يحصل لدى الأشخاص البالغين بعد سن معينة لكنه أصبح يظهر الآن لدى أشخاص في سن الشباب بل في سن المراهقة أو أقل!!

ثمار التوتيات تساعد على خفض سكّر الدم
ثمار التوتيات تساعد على خفض سكّر الدم

حلقة مفرغة
تُظهِر البيانات المالية الشهرية للشركات الأميركية حجم الأرباح الهائلة التي تحققها الشركات المُصنِّعة لعقاقير داء السكّري وتلك المتّصلة به، فشركة «ميرك» (Merck)، على سبيل المثال، سجّلت أرباحاً صافية بنحو 11,7 مليار دولار بين كانون الثاني/يناير وآذار/مارس العام 2012، وذلك بفضل المبيعات العالية لمُنْتَجَيها الخاصَين بداء السكّري «جنوفيا» (Januvia) و«جانوميت» (Janumet). وكذلك شأن شركة «سانوفي» (Sanofi) مع «لانتوس» (Lantus)، وشركة «نوفارتيس» (Novartis)، وشركة «نوفا نورديسك» Nova Nordisk وهذه الأخيرة برزت في وجهها مجموعة لحماية المستهلك تناشد «إدارة الغذاء والدواء» (FDA) الفيدرالية الأميركية حظرَ دوائها الخاص بداء السكّري للإشتباه بتسبُّبه بسرطان الغدة الدرقية، والتهاب البنكرياس وتعقيدات صحية أخرى.
وكلّ من تلك الشركات الصيدلانية ومثيلاتها تُخصِّص ميزانيات للإعلان عن عقاقيرها بمليارات الدولارات وهي تفوق ميزانياتها المخصّصة للأبحاث بكثير. ويتبدّى للمشاهد اللبيب أمام شاشات الفضائيات أو شبكة الإنترنت أنّ معظم تلك الإعلانات تُروِّج لأطعمة مُعالَجة صناعياً وعقاقير صيدلانية في آن معاً! ولا عجب في ذلك إذ إنّ العديد من عمالقة الصناعة الصيدلانية يملكون حصصاً في شركات إنتاج الأطعمة المُصنِّعة المعالَجة صناعياً! وكأنّنا أمام معادلة تسويقية بسيطة: من جهة تتولى شركات كبرى الترويج للأطعمة المُعالَجة صناعياً والمسببة لأمراض منها السكّري ومن جهة ثانية شركات أدوية عملاقة تسارع إلى إنتاج أدوية للأمراض التي تسببها الأطعمة المصنعة وعلى رأسها السكّري وتجني الارباح الطائلة من ذلك!!
طبيب فنلندي يرسم الطريق
تعتبر مساهمة الدكتور الفنلندي آنتي هيكيلا (Antti Heikkilä) في مجال المعالجة الطبيعية للسكري مساهمة أساسية، إذ أصدر قبل سنوات كتاباً أثار ضجة كبيرة في الأوساط العلمية إذ تناول هذا المرض لأول مرة باعتباره مرضاً قابلاً للشفاء من خلال تطبيق برنامج متكامل يشمل تبديل نمط التغذية، كما تناول سُبل معالجة داء السكّري طبيعياً وغذائياً وتبنّي خطوات مكمّلة في مجال الصحة الجسدية والنفسية. وقد أبدى الدكتور هيكيلا شكوكاً أساسية في فعالية المقاربة الدوائية لمرض السكّري مثبتاً مدى الخطوة التي تمثلها المضاعفات الجانبية لتلك الأدوية والتي لا تعالج المرض بقدر ما تحاول الحدّ من أعراضه. أصدر هيكيلا كتابه تحت عنوان «العلاج الغذائي لمرض السكّري»: Nutrition Therapy Of Diabetes، وقد جوبه هذا العالم على الفور بتحرُّك سريع وعنيف من الجسم الطبي ومختلف المؤسّسات الطبية في فنلندا التي حاولت منع صدور الكتاب.
ففي هذا الكتاب المهم أثبت الدكتور هيكيلا أن في إمكان المصاب بمرض السكّري أو الذي يملك استعداداً للإصابة به أن يوقف تطور المرض أو أن يتعافى منه من خلال خطوات ثلاث أساسية:
1. تجنُّب الأطعمة المُصنَّعة والمعالَجة صناعياً المُضرّة بالصحة
2. انتهاج نمط حياة أكثر نشاطاً أي نظام حياة صحي
3. البحث عن بدائل علاجية طبيعية شفائية كبديل عن العقاقير الصيدلانية المستندة إلى معالجة الأعراض بدلاً من معالجة الأسباب..
في الوقت نفسه، أثبتت الأبحاث العلميّة «وجود مخاطر حقيقية للإعتماد كلّياً على العلاجات الصيدلانية في محاولة الحدّ من عوارض داء السكّري»، وهو ما يفرض البحث في البدائل الطبيعية التي أُجريت حولها أبحاث سريرية معمّقة وهذا على الرغم من أن نتائج تلك الأبحاث لم تعمم أو تنشر بشكلٍ واف، وهناك المئات من الدراسات حول 180 مادة طبيعية أُخضِعت للبحث العلمي الرصين لاستبيان قدرتها العلاجية لهذا المرض أو حتى قدرتها على منع حدوثه. وتوصلت جميع تلك الدراسات إلى تحديد قاعدة جوهرية للعلاج الطبيعي للسكري تنطلق من تغيير نمط الحياة مع اتّباع العلاجات الطبيعية التي أثبتت فعاليتها في علاج السكّري.
من أبرز تلك الدراسات، واحدة نُشرت في العام 2013 في النشرة الطبية (Diabetes Care) وهي نشرة متخصصة في مرض السكّري تصدرها «الجمعية الأميركية لداء السكّري» (ADA), وقد أكّدت تلك الدراسة أنّ مُستَخلص «العقدة الصفراء» أو «الكُركُم» Curcumin أثبت نجاحه بنسبة 100 في المئة في مساعدة من لديهم الاستعداد للإصابة بالسكّري Pre-diabetics على اجتناب الإصابة بالمرض، وذلك عبر فترة علاج تصل إلى تسعة أشهر، وربّما يُعتبر ذلك أحد الاكتشافات الطبية الأكثر أهمية في زماننا لكونه أثبتَ أنّ علاجاً طبيعياً مستنداً إلى نوع من التوابل التي عرفتها الحضارات منذ آلاف السنين بإمكانه منع تطوُّر مرض مهدِّدٍ للحياة يُصيب مئات الملايين عبر العالم.
وتظهر أهمية هذه النتائج عند مقارنتها بالحقائق العلمية التي أخذت أنّ الأدوية المخصّصة لعلاج داء السكّري تزيد خطر الإصابة بالأزمات القلبية بنسبة 43 في المئة وتزيد مخاطر أمراض القلب المُميتة بنسبة 64 في المئة. وتخلُص تلك الدارسات، بالإثبات العلمي في حدِّ ذاته، إلى أنّ العلاجات الصيدلانية غالباً ما تكون أسوأ من المرض الذي يُفترض بها أن تُعالجه!
ومع ازدياد الاهتمام بالعلاجات العشبية والنباتية، نكاد نقرأ كلّ أسبوع دراسة سريرية جديدة تُثبت فعالية الطب البديل في علاج أو منع أمراض مزمنة مثل داء السكّري. وبالطبع لن يتوقع أحد أن تقدم الصناعة الصيدلانية على استثمار ما بين 1 و 12 مليار دولار من رأس مالها للحصول على مصادقة «إدارة الغذاء والدواء» (FDA) على مُستخلص العقدة الصفراء أو الكُركُم لعلاج داء السكّري المتأخر كما تفعل مع عقاقيرها الكيميائية لأنّ المواد الطبيعية ليست بحاجة إلى براءة اختراع، وتركيبات الطبيعة هي ملك الجميع، وفي تصرُّف الجميع، ولا تخضع لتحكُّم شركة أو تكتُّل شركات ولا تأثيرات جانبية سلبية لها. وهذه الأبحاث التي نتحدث عنها متوافرة على الإنترنت تنتظر من يقرأها ويتمعن في نتائجها وتوصياتها. ومن أولى بقراءة تلك الأبحاث من المرضى والمهتمين بصحتهم واجتناب المضاعفات الجانبية الخطيرة للأدوية؟ إلى جانب العقدة الصفراء باتت هناك دراسات وأبحاث واسعة أظهرت كلها الفائدة الكبيرة في معالجة السكّري لعدد من الأعشاب والتوابل، وفي ما يلي تعريف موجز بسبعة من تلك العناصر الغذائية:

ضعف عمل البنكرياس هو السبب الأساسي لأعراض السكّري
ضعف عمل البنكرياس هو السبب الأساسي لأعراض السكّري

“الجمعية الأميركية للسكري أثبتت أن العقدة الصفراء فعّالة
100 % في مساعدة من لديهم استعداد للإصــــابة بالسكّري على اجتناب الإصابة بالمرض”

“أكثر من 450 دراسة على حبة البركة أثبتت فعاليتها في خفض مستوى سكر الدم بصورة لافتة”

الطبيب الفنلندي أنتي هيكلا أحدث ثورة بالتركيز على المقاربة الغذائية لمرض السكري
الطبيب الفنلندي أنتي هيكلا أحدث ثورة بالتركيز على المقاربة الغذائية لمرض السكري

البدائل الطبيعية السبعة
1.حبّة البركة
غرامان فحسب من «حبّة البركة» أو «الحبّة السوداء» تُخفِّض مقاومة الإنسولين! ففي دراسة أُجريت العام 2010 في كلّية الطب التابعة لـ «جامعة الملك فيصل» بمدينة الدمام، المملكة العربية السعودية، شملت 94 مريضاً بداء السكّري، أعطى الباحثون إمّا غراماً أو غرامين أو ثلاثة غرامات يومياً من حبّة البركة لهؤلاء المرضى لمدة ثلاثة أشهر، ليجدوا أنّه مع جرعة الغرامين يومياً خفّضت حبّة البركة بشكلٍ كبير معدّل سكر الدم على الريق ومقاومة الإنسولين. أمّا جرعة الثلاثة غرامات يومياً فلم تأتِ بفوائد إضافية.
وفي دراسة أخرى أُجريت العام 2011 في «مركز أبحاث السكّري» التابع لـ «جامعة مونتريال» الكندية، واستُخدِم فيها أيضاً غرامان من حبّة البركة أو الحبّة السوداء، تمّ التوصُّل إلى نتائج مشابهة، وتبيَّن أنّ التأثير المضاد للسكري للحبّة السوداء يعود إلى قدرتها على تحسين الحساسية للإنسولين. وكانت دراسة مماثلة أُجريت العام 2002 في «جامعة غيفو» (Gifo University) اليابانية، وقبلها في «جامعة الكويت» عام 1991، وفي العديد من الجامعات التركية، وخرجت بنتائج مشابهة. منذ 40 سنة وحتى اليوم، أجريت أكثر من 450 دراسة حول هذه الحبة المباركة لاستكشاف وإثبات خصائصها الشفائية.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّه يمكن استخدام زيت بذور حبّة البركة وهو أقوى مفعولاً ولاسيّما على الريق، ويمكن تناول نصف ملعقة شاي صغيرة ممزوجة بزيت الزيتون. ويمكن تناول حبّة البركة بالتزامن مع الدواء الصيدلاني الموصوف، ويُفضَّل أن يُرافق ذلك بنظام غذائي مناسبٍ لداء السكّري.
فلطالما حظيت حبّة البركة أو الحبّة السوداء لآلاف السنين بتقديرٍ كبير من ناحية فائدتها الطبية وخصائصها الشفائية ووُصِفَت لعلاج العديد من الأمراض من بينها «ألزهايمر»، و«الشقيقة» (ميغراين)، والربو والحساسية. وقد جاء في الحديث الشريف في تكريم هذه النبتة نقلاً عن أبي هريرة (ر) عن رسول الله (ص) أن الحبّة السوداء: «شفاءٌ من كلِّ داء إلَّا السام (أي الموت)» وهذا الحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.
2.العقدة الصفراء أو الكُركُم
وجدت دراسة متخصصة في العام 2009 أن «الكُركمين» (curcumin)، وهو العنصر الفعّال في تابل العقدة الصفراء أو الكُركُم (turmeric)، كان أكثر فعالية ما بين 500 إلى 100,000 مرّة من الدواء الموصوف «ميتفورمين» (metformin). وفي دراسة أخرى شملت 240 بالغاً في المرحلة التي تسبق داء السكّري (pre-diabetic state) أُعطي للمرضى إمّا 250 ملليغراماً من مادة «الكُركمين» أو حبّة العلاج الوهمي placebo كلّ يوم. وبعد تسعة أشهر، لم يُسجِّل أيٌّ من أولئك الذين تناولوا «الكُركمين» إصابة بداء السكّري مقابل 16.4% من المجموعة التي تناولت حبّة العلاج الوهمي وبعبارةٍ أخرى، كانت مادة «الكُركمين» أكثر فعالية بنسبة 100% في منع الإصابة بداء السكّري.
3.الزنجبيل
في دراسة مماثلة، قُسِّم 88 مصاباً بداء السكّري إلى مجموعتين، تلقى أعضاء واحدة منهما يومياً حبّة علاج وهمي Placebo ازدادت نسبة سكر الدم على الريق لديها بنسبة 21%. وفي دراسة أخرى، أثبت الباحثون أنّ 1,600 ملليغرام من الزنجبيل يومياً تُحسِّن ثمانية مؤشرات لداء السكّري من بينها الحساسية للإنسولين.
4.القِرفة
تُعتبر القِرفة (cinnamon) من أقدم التوابل وأكثرها شعبية. وقد استُخدِمت منذ آلاف السنين لنكهتها ومذاقها ولفائدتها الطبية. لكن للقرفة فائدة كبرى لم تكن معروفة من قبل وهي أنها تُعيد مستويات سكر الدم في داء السكّري من «النوع 2» إلى معدّله الطبيعي عبر تحسين القدرة على الاستجابة للإنسولين. فثمة تحاليل أوّلية لثماني دراسات سريرية تُظهر أنّ القرفة أو مستخلصاتها تُخفّض مستويات سكر الدم على الريق.
فالقرفة تعمل من ناحيةٍ أولى عبر إبطاء معدّل إفراغ المعدة بعد تناول الطعام. ففي إحدى الدراسات، تناول المشاركون كوباً من مهلّبية الأرز بالحليب مع ملعقة صغيرة من القرفة أو بدونها وتبيّن أنّ إضافة القرفة أبطأت معدّل إفراغ المعدة ما بين 37% و 34.5% كما أبطأت بشكل كبير ارتفاع مستويات سكر الدم. إنّ ما يقل عن نصف ملعقة شاي من القِرفة يومياً يُخفِّض مستويات سكر الدم لدى مرضى داء السكّري.
5. توت العليق والفراولة والعُنبيّات
أظهرت الدراسات مدى احتياج الجسم لكمية أقل من الإنسولين لتوازن معدّل «سكر ما بعد الوجبة» (After-meal glucose) في حال تمّ تناول ثمرات توت العليق أو الفراولة أو العُنبيّات (berries). ففي دراسة شملت نساء يتمتّعن بصحةٍ جيدة في فنلندا، طُلِبَ من المشاركات تناول الخبز الأبيض وخبز الجاودار (rye) مع، أو من دون، ثمرات توت العلّيق أو الفراولة المهروسة، وكان النشاء في الخبز كافياً لرفع مستويات «سكر ما بعد الوجبة» عالياً.
لكنّ الباحثين وجدوا أنّ إضافة مزيج من ثمرات الفراولة والعُنبيّات وتوت العليق والكرانبري cranberry والثمرات المشابهة إلى الخبز خفّضت بشكلٍ كبير ارتفاع الإنسولين ما بعد الوجبة لدى المشاركات.
6. مُستخلص أوراق الزيتون
أثبت باحثون في «جامعة أوكلاند» الأميركية أنّ مُستخلص أوراق الزيتون يُخفِّض مقاومة الإنسولين ويرفع إنتاج الإنسولين في البنكرياس، وذلك في دراسة شملت 46 رجلاً من ذوي الوزن الزائد تمّ تقسيمهم إلى مجموعتين. تلقّت الأولى كبسولات تحتوي على مُستخلص أوراق الزيتون فيما تلقّت الأخرى حبّات علاج وهمي Placebo وبعد 12 أسبوعاً، خفّض مُستخلص أوراق الزيتون مقاومة الإنسولين بنسبة وسطية بلغت 15%، كما زاد إنتاجية الخلايا المُنتِجة للإنسولين في البنكرياس بنسبة 28%. ولفتَ الباحثون إلى أنّ هذه النتائج تُقارن من ناحية تخفيض مقاومة الإنسولين بمفعول العلاجات الصيدلانية الشائعة.
7. مُستخلص بذور العنب
قارنت دراسة مخبرية غير سريرية جديدة نشرتها دورية مختصة بـ «التواصُل والإشارات بين خلايا الجسم» Cell communication and signaling بين التأثيرات العلاجية لمُستخلص بذر العنب (ويُدعَى كيميائياً proanthocyanidins ودواء «ميتفورمين»، وتفوُّق هذا المُستخلص في أدائه من ناحية تحفيز الحساسية للإنسولين.
فقد اكتشف باحثون هنود أنّ مُستخلص بذر العنب ودواء «ميتفورمين» عملا بآلياتٍ مختلفة لخفض سكر الدم ورفع الحساسية للإنسولين في فئران مخبرية تمّت تغذيتها بطعام عالي السُعرات الحرارية غني بالسكّر والدهون، وقد تفوَّق مُستخلص بذر العنب بتحسين معايير صحية أخرى.
ومُستخلص الـ Proanthocyanidins هو نوع من «الفلافونيدات Flavonoids الموجودة في العديد من النباتات، وبشكلٍ مكثّف جداً في الكاكاو والقِرفة وبذور العنب وقشرته، وتُعرَف بخصائصها المضادة للأكسدة Antioxidant والعديد من الفوائد الفيزيولوجية المساعِدة على مكافحة الأمراض. وخرج هؤلاء الباحثون بنتيجة مفادها أنّ هذه الأدلّة تظهر بأنّ مُستخلص بذر العنب واعدٌ جداً ويمكن أن يغدو بديلاً طبيعياً لدواء «ميتفورمين» وعاملاً مساعِداً على مكافحة داء السكّري.
هناك أيضاً مادتان كثُرَت في الآونة الأخيرة الدراسات التي تتحدّث عن فائدتهما في مكافحة داء السكّري، وهما طحالب «سبيرولينا» (spirulina) وملح «بربرين» (berberine) القَلَوي.

الأنسولين الصناعي ليس مماثلا للأنسولين الطبيعي
الأنسولين الصناعي ليس مماثلا للأنسولين الطبيعي

مخاطر الأنسولين الصناعي

الأنسولين الصناعي ليس مماثلا للأنسولين الطبيعي
الأنسولين الصناعي ليس مماثلا للأنسولين الطبيعي

حتى أواخر السبعينات من القرن الماضي كان الإنسولين المستخدم لعلاج الحالات المتقدمة من مرض السكّري Type II يستخرج من بنكرياس الخنزير وقد أثبت هذا الأنسولين أنه أقرب شيء يمكن الحصول عليه من الإنسولين البشري. لكن مع تطور علم الجينات وتعديل الخصائص الوراثية للنباتات بدأت شركات تصنيع الأدوية في العالم بتطوير انسولين صناعي Synthetic روجت في حملاتها الدعائية أنه شبيه Bioidentical بالأنسولين البشري وتمّ استخراج هذا الإنسولين من التعديل الوراثي للخميرة Yeast أو لجرثومة
الـ E-coli أو غيرهما من الخلايا الحيّة، وبسبب رواجه والأرباح الكبيرة التي يحققها عمدت شركات تصنيع الأدوية بمجرد تطوير الإنسولين الصناعي إلى سحب الإنسولين الطبيعي المستخرج من بنكرياس الخنزير (والذي هو أقرب شيء إلى الإنسولين البشري) من السوق بحيث بات من الصعب على مريض السكّري الحصول عليه في الولايات المتحدة وفي الكثير من اسواق العالم وبات مجبراً بالتالي على شراء الإنسولين الصناعي أو الكيميائي.
لكن مع الأسف فقد أثبتت الابحاث العلمية بما لا يقبل الشك أن الإنسولين الكيميائي المتداول اليوم تحت أسماء تجارية مختلفة لا يشبه الإنسولين البشري إلا بصورة جزئية وأنه تبين عدم مطابقته للتركيبة المعقدة للإنسولين البشري. بناء على تلك الحقيقة أجريت دراسات علمية معمقة أثبتت أن الإنسولين الكيميائي قد يعطي بعض النتائج في خفض مستوى السكّري لكنه يزيد من جهة ثانية خطر الإصابة بأمراض القلب وأمراض الشرايين وقد يحمل خطر التسبب بأنواع من السرطانات، بل إن الدراسات أظهرت أن الإنسولين الصناعي قد يقود إلى حالة معروفة بإسم السكّري المضاعف وهو من جهة تدمير خلايا البنكرياس المنتجة للإنسولين ومن جهة ثانية زيادة مقاومة الجسم للإنسولين مما يعني أن حقن الإنسولين الصناعي له مخاطر تفوق كثيراً الفائدة المحدودة في خفض مستوى سكر الدم.

خاتمة
كل الأبحاث العلمية الرصينة تُبيّن أن مخاطر العلاجات الدوائية لمرض السكّري تفوق مساوئ المرض الذي يُفترض بها أن تعالجه، وأن من الأفضل كثيراً في مواجهة هذا المرض اللجوء إلى صيدلية الطبيعة وأعشابها وثمارها وبذورها وأوراقها ومُستخلصاتها وذلك كبديل شاف وآمن ولا يحمل أي مضاعفات جانبية. لندع الطبيعة تُعيد توازن ما اختلَّ في نظامنا البديع، وتُصلِح ما أفسدته المقاربات الكيميائية الوحيدة الجانب في جسومنا.

تناول الفواكه غير مضر بمريض السكّري!

سلة فاكهة .. كل باعتدال ولا تخف
سلة فاكهة .. كل باعتدال ولا تخف

أثبتت أبحاث متزايدة جرت في السنوات الأخيرة مدى خطأ التوصية الطبية التقليدية بضرورة اجتناب مرضى داء السكّري لتناول الفواكه على اعتبار أنها تحتوي على سكريات الفاكهة. فقد أجرى باحثون من قسم التغذية في «مستشفى ويست جوتلند» (West Jutland) في الدانمارك اختباراً حول استهلاك الفواكه شمل 63 رجلاً وامرأة شُخِّصَت لديهم حديثاً الإصابة بداء السكّري، بعد توزيعهم عشوائياً على مجموعتين. إحدى المجموعتين سُمِحَ لها بتناول أكثر من حبّتَي فاكهة في اليوم، في حين أنّ الأخرى اتّبَعت النصيحة الطبية التقليدية الشائعة بعدم تناول أكثر من حبّتَي فاكهة يومياً.
وقد تمّ وضع سجل باستهلاك الفواكه لدى المشاركين يومياً على مدى ثلاثة أشهر، وكذلك جرى اختبار مخزون السكّري لدى المرضى قبل هذه التجربة وبعدها، وكذلك الوزن ومحيط الخصر، وجرى تحليل النتائج.
ووجدَ الباحثون أنّ لا فرقَ يُذكر في مخزون السكّري ومقدار فقدان الوزن وحجم الخصر لدى أولئك الذين تناولوا فواكه أكثر مقارنةً بأولئك الذين تناولوا فواكه أقل وخرجوا بهذه الخلاصة:
إن خفض تناول الفواكه كجزءٍ من علاجٍ طبي غذائي تقليدي لمرضى مرشحين بالاصابة بمرضً داء السكّري (Type II) لم يكن له تأثيرٌ على مخزون السكّري، وفقدان الوزن أو محيط الخصر، لذا يوصي الباحثون الآن بعدم تقييد المرضى المصابين بداء السكّري من النوع الشائع (أي Type II) بتناول الفواكه.
وفي الواقع، بعد تحليل تلك البيانات عن كثب، تبيّن أنّ أولئك الذين تناولوا كمية أكبر من الفواكه سجّلوا فقداناً للوزن وانحساراً لمحيط الخصر أكثر بقليل من أولئك الذين تناولوا كمية أقل.
والسبب وراء إثبات خطأ النصيحة بالتقليل من استهلاك الفواكه لدى مرضى السكّري هو أنّ الطب التقليدي أخفقَ في فهم أهمية استهلاك الألياف التي تشتمل عليها الفواكه. فقد أخذوا في الاعتبار مستويات السكّر في الفاكهة لكنهم لم يدخلوا في حسابهم الأثر الفعال للألياف الموجودة في الفاكهة في خفض مستوى السكّر في الدم. ومعلومٌ أيضاً أن الفواكه تحتوي على عددٍ من «السكّريات المتعدّدة» (polysaccharides) ذات السلسلة الطويلة، على غرار «البيكتن» (pectin)، التي أثبتت أنّها تُوازِن سكر الدم وتُخفّض مستوياته.
إن توصل الباحثين إلى تبرئة الفاكهة من تهمة زيادة معدل السكّر في الدم وأن الفواكه لا تُشكِّل أي تهديد لمرضى داء السكّري اعتبر كشفاً علمياً كبيراً قلب المفاهيم التي كانت سائدة لسنوات طويلة. واللافت أن أبحاثاً أجريت قبل ذلك بعقدين أو أكثر من الزمن كانت قد خرجت بالنتيجة نفسها. إذ نشر باحثون في مدينة مينيابوليس الأميركية في مطلع التسعينات من القرن الماضي بحثاً في الدورية المتخصّصة «مجلة الكلّية الأميركية للتغذية» شمل سبعة رجال مصابين بداء السكّري جرت تغذيتهم بثمرات موز ذات مستويات نضج مختلفة، أي متفاوتة الحلاوة، وأثبتت الدراسة أنّ لا تأثير لنِسَب الحلاوة على مستويات السكّر والإنسولين لدى هؤلاء المرضى، ليوصوا بالتخلّي عن المفهوم التقليدي القائل بالإبتعاد عن الفاكهة.
وفي الواقع، تحتوي كلّ ثمرة على ألياف ذائبة في الماء (soluble) وغير ذائبة (insoluble) بما يناسب القناة الهضمية. وتتراوح مستويات الألياف في الفواكه المعروفة بين ثلاثة غرامات لكلّ 100 وحدة حرارية وصولاً إلى سبعة أو ثمانية غرامات لكلّ 100 وحدة حرارية ولاسيّما في توت العلّيق (Raspberry) والتوت البرّي (Blackberry) (نحو كوب) والبرقوق أو الخوخ المجفّف والتين. أمّا التفاح أو الإجاص فتحتوي على ما يُقارب أربعة غرامات.
ويُوصي معظم خبراء التغذية بتناول ما بين 30 و40 غراماً من الألياف يومياً، فيما يكتفي البعض بـ 25 غراماً وهي ما تشتمل عليه الفواكه إلى جانب الحبوب والبذور. إنّ الألياف تُثبت مخبرياً وسريرياً يوماً بعد يوم مدى أهميتها في الحفاظ على توازن سكر الدم، وتخفيض الكوليسترول، والوقاية من الأمراض الخطرة.

زراعة الأكي دنيا

زراعة الاكي دنيا في لبنان

يعرف الأكي دنيا بأسماء عديدة حسب البلدان التي نشأ بها او يعتمد عليها إقتصادياً مثلاً في الهند تعرف بإسم المشمش الهندي…
ينتمي الأكي دنيا الى الأشجار المثمرة الدائمة الخضرة ويتبع الى الفصيلة الوردية ورتبةالورديات. تعطي الشجرة ثماراً صغيرةالحجم نوعاً ما بيضاوية الشكل لونها ليموني مصفرعند نضجها. وتعود تسمية الأكي دنيا في الأصل الى تركيا ويعني الدنيا الجديدة.
الأكي دنيا من الأشجار المثمرة المستديمة الخضرة ، تجود زراعتها في المناطق الدافئة نسبياً، وتزهر خلافاً لكافة أشجار الفاكهة في الخريف اذ تبدأ بالإزهار في المناطق المرتفعة نزولاً حتى المناطق الساحلية عند بدء البرودة في فصل الخريف،اما نضج الثمار فيبدأ من المناطق الساحلية صعوداً حتى المرتفعة في فصل الربيع. زراعة الأكي دنيا مربحة وعالية المردود الإقتصادي لقلة تكاليفها وسهولة خدمتها ومقاومتها للكثير من الآفات التي تعتريها. انها من أهم الزراعات التي تعطي إنتاجاً وفيراً إضافة الى أهميتها الاقتصادية لنضجها في فترة تكون الثمار الشتوية قد قاربت على الإنتهاء وقبل بدء الثمار الصيفية بالنضج. تزرع أشجار الأكي دنيا في لبنان على نطاق تجاري واسع بالمقارنة مع أنواع الفاكهة الحديثة مثل القشطة والمنغا وغيرهما. كما يتوفر منها أصناف مطعمة ذات نوعية تجارية مرغوبة لكن معظم الأشجار المزروعة في لبنان مطعمة من أصل بذري. وتمتاز زراعة هذه الشجرةبطرق علمية صحيحة تؤدي إلى إرتفاع المردود الإقتصادي. لذلك،من المهم الإهتمام بهذه الشجرة والتوسع في زراعتها بدلاً من قطعها وإستبدالها بزراعات اخرى غير مدروسة ولا تتلاءم مع طبيعة لبنان وتربته.

الموطن الأصلي والانتشار:
تؤكد معظم المصادر بأن موطن الاكي دنيا الأصلي هو الصين حيث زرعت هناك منذ عدة قرون ثم انتقلت إلى اليابان وانتشرت زراعتها بشكل واسع وأخذت تسميتها بالبشملة اليابانية ثم انتقلت إلى الهند وجبال الهمالايا وأدخلت إلى جنوب أوروبا وسواحل البحر الأبيض المتوسط عام 1784 كشجرة تزيينية التي مالبثت أن أخذت مكانها كشجرة مثمرة ولاسيما في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ولبنان ومالطا والعديد من دول أفريقيا. وانتشرت أيضاً في كاليفورنيا والعديد من بلدان العالم. ويمكن الاختصار، بأن زراعة الأكي دنيا تنتشر عموماً في المناطق المحصورة ما بين خطي العرض 20 و30 درجة شمالاً، وفي جنوب خط الاستواء في المناطق ذات الشتاء المعتدل.أما على صعيد أهم الدول العربية المنتجة للأكي دنيا، فهي: لبنان، فلسطين، مصر، تونس، والجزائر.

الأهمية الاقتصادية:
تعدّ شجرة الأكي دنيا من أهم الأشجار الاقتصادية بكونها تنضج في فترة تكون الأسواق الداخلية قليلة الفاكهة، إذ إن فترة النضج تكون في بداية فصل الربيع وحتى نهايته بدءاً من الساحل حتى المناطق الوسطى ويتزامن ذلك مع انتهاء موسم الحمضيات وقبل بدء موسم اللوزيات لذلك، فإن أسعارها تكون دائماً مرتفعة لقلة المنافسة من قبل الفواكه الأخرى.

الوصف النباتي والخصائص الحيوية:
شجرة مستديمة الخضرة، تتميز خلافاً لأشجار الفاكهة كافة بأنها تزهر في فصل الخريف، وتنضج ثمارها في الربيع، وهي شجرة متوسطة الحجم، جميلة الشكل، تصلح لأغراض الزينة، يبلغ ارتفاعها 5-8 م، تاجها أو قمة الشجرة كروي كثيف التفرع ذات جذع قصير، لون ساقها أحمر أو بني غامق.
الورقة بسيطة بيضوية الشكل كبيرة الحجم يتراوح طولها ما بين 10 و15سم وعرضها ما بين 7 و10سم، مسننة الحافة وحادة القمة. العروق الرئيسية والثانوية في أوراقها ظاهرة ولاسيما على سطحها السفلي، ويغطيها زغب خفيف. الأوراق متقاربة من بعضها بعضاً ويغطي زغب بني اللون أطراف الطرود الحديثة والبراعم. تظهر العناقيد الزهرية على قمة الطرود الثمرية. تبدأ الأشجار بالإزهار في بداية فصل الخريف وتستمر حتى نهايته والبراعم الزهرية مركبة بشكل عنقودي طوله من 10الى 15سم، وتنمو أزهار الأكي دنيابشكل عناقيد تحتوي وسطياً على نحو 40-60 زهرة. الزهرة خنثى تتكون من خمس بتلات بيضاء اللون ذات رائحة عطرية و20 من أقلام الأسدية حاملة أكياس حبوب اللقاح ومبيضاً مكوناً من خمسة جيوب متحدة في القاعدة وفي كل جيب بويضتان.
الثمرة متوسطة الحجم الى صغيرة، يختلف شكلها حسب الأصناف، منها متطاول إلى كروي أو إجاصي الشكل ذات لون برتقالي، ويغطي الثمار زغب خفيف جداً، اللب لونه أصفر أو برتقالي متماسك ذو طعم حلو الى حامض مقبول، وتوجد في الثمرة من 1 الى 5 بذور كبيرة الحجم نوعاً بالنسبة إلى حجم الثمرة، البذرة ذات لون بني غامق لامع، الأزهار ذاتية التلقيح بواسطة الحشرات خصوصاً النحل التي تجذبها الرائحة العطرية للأزهار.
كما ذكرنا سابقاً فإن شجرة الأكي دنيا تختلف عن بقية أنواع الأشجار التابعة للعائلة الوردية التي تنتمي إليها بأنها مستديمة الخضرة حيث تزهر في فصل الخريف وتنضج ثمارها في فصل الربيع اي في المرحلة التي تكون فيها بقية الأشجار إما في مرحلة الإزهار او العقد، ولا تدخل في طور السكون الحقيقي كما هو الحال عند الأشجار المتساقطة الأوراق .
إن فترة إزهار شجرة الأكي دنيا طويلة جداً بالمقارنة مع الأشجار المثمرة الأخرى، حيث تمتد فترة الإزهار بحسب الأصناف مابين شهرين وثلاثة أشهر وقد تطول تلك الفترة أو تقصر حسب الظروف الطبيعية. إن طول فترة الإزهار هذه تعود إلى اختلاف أوقات ظهور العناقيد الزهرية وبالتالي نموها وتطورها ووصولها إلى مرحلة الإزهار، وذلك بعكس أشجار الفاكهة الأخرى. إن إزهار أغلب الأشجار المثمرة لايدوم لأكثر من (10الى 15) يوماً حسب الظروف المناخية.

 

الانتاج (طن) المساحة المزروعة (هكتار) البلد
102،200 25،900 الصين
13،000 2،800 اليابان
7،000 500 بلدان اخرى (اسبانيا، تركيا)
4،0.00 500 بلدان اخرى (اسبانيا، تركيا)

 

تبلغ الفترة بين بداية الإزهار والنضج حوالي خمسة أشهر حيث تنضج الثمار بشكل متتال مما يجعل قيمته الإقتصادية مرتفعةبعكس بعض الثمار التي تنمو دفعة واحدة، وبالتالي فإن عمليات القطاف تتم على دفعات.

تمرّ الثمرة خلال مراحل نموها وحتى نضجها بأربع مراحل يمكن إيجازها بما يلي:
1. تبدأ الثمار في النمو والإنتفاخ بعد إكتمال مرحلة عقد الأزهار وتمركز حبوب اللقاح في مبيضها في بداية شهر كانون الثاني وحتى نهاية شهر شباط وتسقط الأزهار غير الملقحة والتي لم يكتمل عقدها.
2. تبدأ البذور بالتشكل خلال شهر آذار مما يؤدي الى تباطؤ نمو الثمار.
3. تعود الثمار الى النمو السريع في نهاية شهر آذار حتى بداية تغيير لونها أي بداية مرحلة النضج في بداية شهر نيسان.
4. تبدأ ثمار الأكي دنيا بالنضج والتلون الكامل بعد نهاية المرحلة الثالثةحسب الصنف ودرجات الحرارة، ثم يبدأ المزارعون في القطاف التدريجي للثمار المكتملة اللون وقبل ان تصبح طرية (رخوة) لأن الثمار التي تقطف في هذه المرحلة تتأثر من أصابع اليد وغير مرغوبة في الأسواق وتصبح سريعة التلف.
أما نمو الفروع او الطرود فيتميز بشكل عام بمرحلتين رئيسيتين يفصل بينهما تأخر في النمو خلال فترة القطاف. تبدأ المرحلة الأولى في النمو نهاية تشرين الأول وبداية تشرين الثاني أما المرحلة الثانية فتكون ربيعية خلال شهر نيسان وتستمر خلال فصل الصيف.

أصناف الأكي دنيا:
تنتشر زراعة أفضل الأصناف الإقتصادية من حيث الإنتاج والجودة في اليابان وإيطاليا وكاليفورنيا، وتتميز بكبر حجمها وبمذاقها الحلو وقلّة بذورها ومن أهمها:
1. Advance : الثمار إجاصية الشكل كبيرة الحجم (30-50) غراماً لونها أصفر غامق، عصيرية حلوة المذاق ، عدد البذور 4-5 والنضج في خلال نيسان.
2. Champagne : الثمار إجاصية متطاولة إلى مستطيلة كبيرة الحجم أبعادها (6×5) سم ذات لون أصفر فاتح اللب أبيض، عصيرية حلوة المذاق تميل نحو الحموضة. النضج خلال شهري نيسان وأيار، عدد البذور بذرة واحدة ونادراً ما نجد بذرتين، ويعتبر هذا الصنف من الأصناف المرغوبة جداً في الأسواق وعند المستهلكين.
3. Premiere : الثمار كبيرة الحجم (30-50) غراماً مستديرة أو بيضوية متطاولة لونها أصفر برتقالي اللب أبيض شفاف، عصيرية حلوة المذاق، البذور صغيرة وقليلة العدد والنضج في أيار.
4. Largeround : ثمار هذا الصنف كبيرة الحجم مستديرة لونها أصفر غامق نمو الشجرة جيد ومحصولها وافر وطعم الثمار مقبول.
5. Late Victoria: ثمارها مستطيلة إجاصية الشكل ولونها أصفر فاتح، نموها متوسط. تتأخر في النضج عن الأصناف الأخرى حيث تبدأ ثمارها في النضج أوائل أيار.
6. Early-Red : الثمار كبيرة الحجم، بيضوية متطاولة أو إجاصية لونها أصفر برتقالي مائل للحمرة، اللب برتقالي شفاف، عصيرية جداً وحلوة المذاق، البذور صغيرة وقليلة العدد (2-3) النضج مبكرة جداً في بداية آذار، ووزن الثمرة (25-40) غراماًً الشجرة منتجة صغيرة الحجم.
7. Thales : ثمار مستديرة أو متطاولة كبيرة الحجم نسبياً ، ذات لون برتقالي غامق، اللب برتقالي قاس عصيري، حلو وله طعم يميل نحو طعم المشمش، النضج متأخر في أيار وحزيران.
8. Victor : ثماره كبيرة متطاولة ، صفراء اللب أبيض، حلوة المذاق، تنضج متأخرة خلال شهري أيار وحزيران الشجرة غزيرة الإنتاج الصنف تجاري.
9. Browning Holl : ثماره كبيرة الحجم، متطاولة صفراء باهتة اللب أبيض عصيرية وعطرية الطعم والرائحة، النضج خلال شهري نيسان وأيار، تتحمل الثمار التصدير والنقل.

10. Eulalia : ثماره كبيرة الحجم، بيضوية إلى إجاصية الشكل، لونها برتقالي، اللب أصفر برتقالي ، عصيرية تميل نحو الحموضة، لذيذة المذاق، النضج في نيسان وأيار.
11. Missarchiw Right : ثماره كبيرة الحجم (5×6,5) سم ذات لون أصفر برتقالي، عصيرية ، حلوة المذاق مع حموضة خفيفة، بذورها كثيرة (5-6)، النضج في شهري نيسان وأيار، الثمار تتحمل التصدير والنقل.
12. Limornerello : ثماره كبيرة الحجم تشبه ثمرة الليمون، لونها أصفر ليموني واللب أبيض، عصيرية مع حموضة قليلة، البذور قليلة متطاولة، إزهار هذا الصنف متأخر تزهر في كانون الأول والنضج في نيسان وأيار.
13. Vanille : الثمار متوسطة الحجم، مستديرة الشكل، ذات لون أصفر غامق، لذيذة الطعم والبذور صغيرة.
14. Palermo : الثمار كبيرة الحجم متطاولة ملساء ، ذات لون أصفر ذهبي ، اللب أصفر شاحب والنضج في نيسان.
15. Tanaica : ثماره كبيرة الحجم (6×7) سم، برتقالية اللون، اللب أصفر شاحب اللحم قاس، عصيرية لذيذة المذاق والبذور قليلة العدد، الشجرة قوية النمو، غزيرة الإنتاج، تتحمل الجفاف والنضج متأخر في شهر حزيران.
16. Oliveier : الثمار كبيرة الحجم ، متطاولة ، ذات لون أصفر شاحب، واللب أبيض، الطعم حلو مع حموضة قليلة ، عصيرية معطرة ، النضج مبكر.
17. Saint Michel : الثمار كبيرة الحجم (5×6) سم إجاصية الشكل ملساء، لونها أصفر شاحب، اللب أصفر مبيض صلب وذات نكهة لذيذة، قليلة البذور والنضج في نيسان وأيار.

أما الأصناف المحلية البذرية المنشأ، فتتصف بصغر حجم ثمارها وقلّة سماكة لحمها وكثرة بذورها ولا تتحمل النقل والتداول وأهم الأصناف البلدية:
1. الأكي دنيا الصيداوية: الشجرة متوسطة النمو أوراقها عريضة، متوسطة الحمل ، الثمار كروية أو بيضوية حلوة المذاق، لونها ذهبي عصارية، البذور قليلة 2-3 بذور في الثمرة، وهي مرغوبة تجارياً.
2. السكري : ثماره مستديرة الشكل نوعاً ما، مبكرة في النضج، حلوة المذاق، نوعيتها جيدة.

مربى الأكي دنيا
مربى الأكي دنيا

لمتطلبات البيئية:
يرتبط نبات الأكي دنيا بشكل وثيق مع الوسط الذي يعيش فيه، اي المناطق والأراضي التي ينمو فيها من حيث الإرتفاع عن سطح البحر والتربة. وإنشاء اي مشروع زراعي يتطلب كخطوة أولى دراسة كل من الوسط الزراعي الذي سيعيش فيه النبات من ناحية، ثم دراسة أو معرفة متطلبات النبات البيئية من ناحية أخرى وبالتالي محاولة إجراء تطابق في ما بينهما عن طريق اختيار الأنواع النباتية التي تتوافق متطلباتها البيئية مع معطيات الوسط الزراعي السائد في المنطقة. اما المتطلبات البيئية للأكي دنيا هي:
الحرارة: تتطلب شجرة الأكي دنيا لتنمو بشكل طبيعي ولتعطي إنتاجاً جيداً شتاءً دافئاً نسبياً حيث تتأثر بشدة برودة الشتاء الأمر الذي جعل زراعتها محدودة الانتشار. وتؤدي درجات الحرارة المنخفضة إلى موت البراعم الزهرية قبل تفتّحها وإلى موت الأزهار المتفتحة وقد تؤدي إلى تساقط الثمار الصغيرة، كما تتطلب أشجارها صيفاً معتدل الحرارة إذ إن ارتفاع درجة الحرارة وشدة السطوع الشمس صيفاً يؤديان إلى إصابة الثمار بضربة الشمس، حيث يؤدي الى إسوداد الجلد ويتعفن اللب.
تسقط الأزهار والثمار العاقدة حديثاً إذا انخفضت الحرارة إلى (-5) درجة مئوية، بينما يتحمل المجموع الخضري للشجرة دون إحداث أضرار انخفاض الحرارة حتى (-15) درجة مئوية. بشكل عام تنجح زراعة الأكي دنيا وتعطي محصولاً سنوياً منتظماً في المناطق التي لا تنخفض فيها درجة الحرارة في الشتاء عن (-2) درجة مئوية.تنتشر زراعتها عموماً في المناطق الساحلية التي يتراوح ارتفاعها فوق سطح البحر ما بين 100 و500م.
الأمطار: إن أشجار اللأكي دنيا تنمو بشكل جيد في المناطق التي يكون معدل امطارها متوسطاً، وتعتبر المناطق الساحلية وشبه الساحلية في لبنان من أهم وأفضل المناطق التي ينمو فيها نبات الأكي دنيا ويعطي إنتاجاً وفيراً. لكن فإن اشجار الأكي دنيا تحتاج الى الري خصوصاً خلال فترة الصيف وهي الفترة التي تنمو فيها البراعم الزهرية ثم تنمو وتتطور الأجزاء الزهرية (العناقيد). تحتاج الأكي دنيا كمية غير قليلة من المياه، لذلك فإنه يفضل أن لا تزرع بعلياً في المناطق التي يقل فيها معدل هطول الأمطار سنوياً عن (600) ملم وحتى في تلك المناطق فالزراعات المروية لهذه الشجرة تعطي دائماً مردوداً أفضل ونوعية ثمار أجود.
وتحتاج شجرة الأكيدنيا الى كمية كبيرة إلى المياه خصوصاً خلال أشهر الربيع والصيف وهذا ما يستدعي ريّها اعتباراً من قطاف الثمار خلال شهر أيار ثم بعد إجراء عملية التقليم خلال شهر حزيران.
الرياح: تؤثر الرياح سلباً على أشجار الأكي دنيا ولاسيما تلك الرياح الباردة شتاءً، لذلك من الضروري إنشاء مصدات رياح مناسبة.
التربة: لا تتطلب أشجار الأكي دنيا تربة خاصة فهي تعيش وتنمو في جميع أنواع الأتربة، ما عدا التربة المالحة ولكن تفضل التربة العميقة،الخصبة وجيدة الصرف،كما يتطلب نموها الأمثل تربة صفراء خصبة جيدة الصرف والتهوئة.

الإكثار:
يتم إكثار شجرة الأكي دنيا بالبذور والتطعيم.
الإكثار بالبذور:تنتمي بذور الأكي دنيا إلى مجموعة البذور ذات الحيوية القصيرة والتي لايمكن تخزينها لفترة طويلة، لذلك يجب زراعتها خلال أقرب وقت ممكن بعد استخراجها من الثمار الناضجة وقبل جفافها خلال شهري آذار ونيسان. تستخدم هذه الطريقة لإنتاج غراس بذرية يتم تطعيمها بأصناف مرغوبة تجارياً أما إنتاج الغراس البذرية، فيتم على الشكل التالي:
يفضل زراعة بذور الأكي دنيا في اوان خاصة أو في أكياس بلاستيكية بعد تعبئتها بخلطة تربية مؤلفة من تربة حمراء وسماد عضوي مخمر ورمل من كل نوع ثلث،خلال شهري آذار ونسان، ثم تزرع البذور وتغطىبسماكة 6-8 سم بالتراب ثم تروى حتى الإشباع وبعدها تروى مرة أو اثنين في الأسبوع حسب الظروف المناخية، وتبدأ البذور في الإنبات خلال شهر اذار.
تترك الغراس في الأواني لمدة سنتين وتنقل بعدها إلى المكان المستدام خلال شهري آذار ونيسان بعد تطعيمها بالأصناف الإقتصادية.
الإكثار بالتطعيم:إن افضل طرق التطعيم عند الأكي دنيا وأنجحها هي الرقعة او البرعم (العين) وتتم في فصل الربيع خلال شهري آذار ونيسان، ويطعم ايضاً خلال شهري آب وإيلول، لكن في هذا التطعيم المتأخر تبقىالعيون نائمةاو ساكنة حتى الربيع التالي. يتم هذا التطعيم في المشتل على الشتول التي تكون قد نمت جيداً خلال السنة الأولى أي بعمر سنة، وبعد نجاح الطعم تبقى الغراس سنة ثانية في المشتل للتأكد من نمو الطعم ونجاحه بشكل جيد ثم بعد ذلك تنقل الغراس وتزرع في المكان المستدام.
ملاحظة:يمكن تطعيم الأكي دنيا على أصول من السفرجل أو الزعرور أو الإجاص.

الأكي دنيا اللذيذة ضيافة مميزة
الأكي دنيا اللذيذة ضيافة مميزة

إنشاء البساتين والخدمات الحقلية فيها
بعدتكاثر الأكي دنيا بالبذور في الأكياس أو العبوات الخاصة (الأصص)، يجب زراعتها مباشرة في الأرض الدائمة بعد نجاح تطعيمها ونموها في السنة الأولى لأن هذه الأواني المزروعة فيها محدودة الحجم ولا تسمح للجذور بالتمدد والإنتشار الذي يؤدي الى زيادة حجم الغراس. لذا، يستحسن نقل هذه النصوب الى الأرض المستدامة في العام التالي بعد التطعيم.
يعتمد إنشاء البستان على عدة نقاط هامة بعد إختيار موقع الأرض الملائم لزراعة الأكي دنيا:
1. نقب الأرض: تنقب الأرض على عمق حوالى 80سم خلال شهر آب اي عندما تكون التربة قد جفت نوعاً ما وقبل إحتمال هطول الأمراض، هذا التوقيت يكون عائقاً في إستمرار النباتات وجذورها بالنمو ويصبح نزع الصخور والحجارة الكبيرة اسهل من الارض الرطبة إن وجدت.
2. حراثة الأرض: تحرث الأرض حراثة عميقة حوالي 40 سم بواسطة السكة وينظف ما تبقى من أجزاء النبات والحجارة إضافة الى تسوية سطح التربة، وتحرث الأرض حراثة ثانية سطحية بواسطة الفرامة على عمق 15 سم تقريباً لتنعيم سطحها.
3. تخطيط الأرض: بعد رسم مخطط لمساحة الأرض ومعرفة سعتها لعدد الشتول، يجب تقسيمها الى خطوط متوازية تبعد عن بعضها 5 امتار وتحديد اماكن الشتول والتي تكون المسافة بين الغرسة والأخرى ايضاً 5 امتار.
4. حفر الجور: تحفر الجور خلال شهري تشرين الأول والثاني في الأماكن المحددة على عمق 70 سم وقطر 50 سم ثم تضاف الأسمدة العضوية المتخمرة و100 غرام من السماد الكيميائي

رسم علمي لأجزاء شجرة الأكي دنيا
رسم علمي لأجزاء شجرة الأكي دنيا

سوبر فوسفات الذي يساعد على تكوين مجموع جذري جيد وخلطها مع تراب قاع الحفر.

5. غرس الشتول: تزرع النصوب في الجور المهيأة خلال شهري كانون الثاني وشباط كما باقي الأشجار المثمرة الدائمة الخضرة مع الانتباه الى أن تكون منطقة الطعم على مستوى سطح التربة تجنباً من إنبات فروع من الأصل المطعم عليه إذا ما كان فوق سطح التربة، ثم تُرص التربة حول الشتول بواسطة الأقدام تجنباً من الفراغات الهوائية التي تؤدي الى جفاف الجذور وموتها او تروى الأشجار في حال كانت التربة جافة.
اما الخدمات الحقلية بعد الزرع،فتتلخص بالنقاط التالية:
1. تقليم الأشجار: تُربى شجرة الأكي دنيا بطريقة التربية الكأسية، كما يُفضل أن تُربى على ساق مرتفعة نسبياً بطول حوالي 50سم، ويتم اختيار ثلاثة أفرع هيكلية موزعة على محيط الساق للشجرة وتترك من دون تقليم لتكوّن هيكلاً قوياً قادراً على حمل المحصول، ويقتصر التقليم في ما بعد على إزالة الأفرع والأغصان من داخل الشجرة لتعريضها للضوء مما يؤدي الى زيادة المحصول وجودته. بعد دخول الشجرة في طور الإثمار الاقتصادي، ينحصر دور التقليم في إزالة الأفرع المصابة والجافة والمتشابكة والمكسورة وإزالة الطرود الشحمية اي النموات التي تظهر على منطقة تفرع الأغصان.
2. الري: إن شجرة الأكي دنيا تزهر أثناء الخريف وتكون في أهم مراحل حياتها الحيوية لذا فمن الضروري تقديم مياه الري والتسميد خلال هذه الفترة لضمان النمو والإثمار الجيدهذا في حال إنقطاع الأمطار لفترة تزيد على 15 يوماً بعكس الأشجار المتساقطة الأوراق التي لا تروى أثناء الخريف والشتاء لكونها تدخل في طور السكون والراحة خلال هذه الفترة، بينما تروىاشجار الأكي دنيا حسب نوع التربة والظروف المناخية السائدة في البستان. ففي فصل الصيف،تروى الأشجار مرة كل 15 يوماً وخلال فصل الخريف، تروى كل 20 يوماً. بشكل عام، يجب أن تكون الريات خلال السنة الأولى متقاربة نسبياً مرة كل أسبوع على الأقل لإعطاء الأشجار الحجم الجيد وتجنباً من جفافها لأنها تكون صغيرة الحجم وجذورها سطحية نوعاً ما، ثم تزداد الكمية والمدة كلما تقدمت الأشجار بالعمر؛تروى كل عشرة أيام في السنة الثانية ثم 15 يوماً في السنوات التي تليها.
3. التسميد :يستحسن تسميد أشجار الأكي دنيا خلال شهري آب وأيلول بخلاف الموعد المحدد في تسميد الأشجار المثمرة الأخرى. تضاف الأسمدة العضوية بمعدل 20-25 كلغ للشجرة الواحدة بعمر 5-8 سنوات توزع في خندق حول الشجرة تحت تفرع اغصانها الخضرية وتطمر جيداً ثم تروى الأرض مباشرة. تزداد هذه الكمية مع زيادة حجم الأشجار لتصل إلى 80 كلغ. أما الأسمدة الكيميائية فيضاف كل عنصر على حدة،الأسمدة الآزوتية تضاف بمعدل 2,5 كلغ، سلفات الأمونياك 21% للشجرة الواحدة المتوسطة الحجم وتقسم على ثلاث دفعات متساوية (الأولى في منتصف ايلول والثانية خلال شهر كانون الأول والأخيرة تضاف خلال شهر شباط). أما الفوسفور والبوتاس فيضافان دفعة واحدة خلال شهري كانون الأول والثاني حسب الإرتفاع عن سطح البحر،إن شجرة الأكي دنيا تحتاج إلى حوالي 2كلغ سوبر فوسفات و كلغ واحد من سلفات البوتاسيوم.

من فوائد الأكي دنيا
تعالج اضطرابات الكبد والكلية والمرارة تحتوي على مضادات التسمم تعالج الزكام والانفلونزا
تعالج التهاب الحلق تقوي عضلات المعدة تمنع تصلب الشرايين
تعالج التهاب البروستات تعالج امراض الرحم تعالج امراض المسالك البولية
تعالج الامراض الجلدية تعالج داء النقرس تخفف من اعراض البواسير
تساعد بالتخفيف من السعال تنظم عملية الجهاز التنفسي تقوي مينا الاسنان وتطهر الفم واللثة
تساعد بالتخلص من الوزن الزائد تساعد بالتخفيف من ألم وجرثومة الامعاء تعالج فقر الدم الحاد وتقوي الدورة الدموية
تعالج الغازات ونفخة البطن تريح الاعصاب تقوي الذاكرة

زهر الأكي دنيا
زهر الأكي دنيا

أهم الحشرات: لا تشكل اشجار الأكي دنيا مصدر غذاء للعديد من الحشرات التي تؤثر عليها إقتصادياً ولكن سنقتصر على شرح الحشرة التي تؤثر على كمية الإنتاج وهي:
المن: وينتشر على النموات الحديثة قبيل فترة الإزهار فيؤدي إلى إفراز مادة سكرية ينمو عليها فطر أسود مسبباً مايسمى بالشحبيرة. يكافح المن باستعمال مبيدات متخصصة حيث يرش على النموات الحديثة فقط وينصح بإضافة أحد الأسمدة الورقية حسب حاجة النبات.

جني الأكي دنيا:
تبدأ أشجار الأكي دنيا بإنتاج الثمار اعتباراً من السنة الرابعة أو الخامسة من الزراعة في الأرض الدائمة وتبدأ بإعطاء محصول غزير اقتصادي في السنة العاشرة بحدود 20-30 كلغ من الثمار وذلك حسب الصنف والخدمة الحقلية المقدمة للأشجار، ويمكن أن يصل إنتاج الشجرة في بعض الأصناف مع العناية الجيدة إلى 170 كلغ وما فوق.
نضج الثمار يبدأ خلال شهر آذار للأصناف المبكرة وفي نيسان وأيار للأصناف المتأخرة تجمع الثمار وهي تامة النضج ويستدل على ذلك من تحول لونها من الأخضر إلى الأصفر أو البرتقالي إضافة إلى سهولة انفصال الثمار عن الأفرع واكتسابها الطعم السكري وانخفاض نسبة الحموضة فيها. ويتحول لون غلاف البذرة إلى اللون البني. كما يراعى عند القطاف عدم جرح الثمار أو خدشهاوالضغط عليها حتى لا تتلون القشرة باللون البني الذي يخفض من قيمتها التسويقية.
تقطف الثمار يدوياً وتعبأ في عبوات صغيرة مناسبة من الخشب. لايمكن تخزين الثمار في البرادات لسرعة تلفها ويجب استهلاكها مباشرة بعد القطف.

الاهمية الغذائية:
تتميز ثمار الاكي دنيا كما ثمار التفاح باحتوائها على حوالي 87% ماء، 37% الياف، 36% رماد، 32% بروتين، 12% سكر، و 7% احماض. فتحتوي ثمار الاكي دنيا على احماض الماليك والسيتريك ومواد مضادة للأكسدة وكما إنها غنية بفيتامين أ، فيتامين ب، فيتامين سي، الالياف، الحديد، البوتاسيوم، المنغنيز، المغنيزيوم، الزنك، الفوسفور، النحاس، الكالسيوم والبروتينات. وبما ان ثمار الاكي دنيا من الفاكهة القليلة الصوديوم والكوليسترول والدهون المشبعة، فهذا يعني انه يحافظ على الصحة وعلى وزن خفيف من دون حمية أو رجيم، أي إن الأكي دنيا ممتازة للتنحيف وخسارة بعض الشحوم.

السماد العضوي

السماد العضوي

الدجاج البيتي سماده أفضل بكثير لعدم تلوثه بالهرمونات والمضادات الحيوية كما هي الحال في سماد دجاج المزارع

الماعز مصدر أساسي للأسمدة الحيوانيةالغنية بالعناصر المغذية

تأثير السماد العضوي في نمو ثمار التفاح

تجهيز الخنادق التي سيتم وضع السماد العضوي فيها تمهيدا لطمره

مراحل إنتاج السماد العضوي

هذا النوع من عرف الخمير المرتفعة مناسب في حال تولّد كميات كبيرة من السماد بسبب حجم قطعان الماشية

دليل المزارع البيئي

السماد العضوي واستخداماته
في 20 سؤالاً وجواباً

في خطة التسميد لا تنس نقيع السماد…ودود الأرض

سماد الدجاج البيتي من أفضل أنواع السماد
لاحتوائه على الفوسفور وعلى العديد من المغذيات

السماد الكيميائي مفيد في المدى القصير
لكنه يفقر التربة ويضعف مناعة الأشجار

هناك تبسيط ومعرفة قليلة لدى معظم المزارعين بأسلوب تحضير السماد الطبيعي أو العضوي واستخدامه في الزراعات المختلفة مثل الخضار والأشجار المثمرة. والتسميد العضوي علم قائم بذاته ولا يكفي أن نلقي بروث الماعز أو الدجاج حول شجرة أو في ثلم الخضار، إذ يقتضي أن نعرف كيفية تخمير السماد العضوي وطريقة استخدامه وتوقيت ذلك والكميات المطلوبة لكل نوع من الأشجار وأن ندرك الفوارق الأساسية بين التسميد العضوي وبين التسميد الكيميائي الذي لا يزال مغرياً للكثيرين بسبب اعتقادهم أنه يعطي نتائج سريعة ومحصولاً أفضل.
في هذا المقال تعرض «الضحى» لدليل تفصيلي حول التسميد العضوي في الزراعة نأمل أن يكون فيه الجواب الشافي للمزارعين الملتزمين بالتسميد العضوي وبالزراعة الصديقة للبيئة عموماً.

1. لماذا تسميد الأرض ضروري؟
أو لنطرح السؤال بطريقة ثانية وهي: ماذا سيحصل في حال ترك التربة من دون تسميد لسنوات متوالية؟
إن السماد العضوي ضروري جداً للحقول والبساتين المزروعة أو المنوي زرعها وخصوصاً الأراضي المزروعة بالأشجار المثمرة، لأن الزراعات الدائمة تستهلك نفس المواد المعدنية والغذائية الموجودة في الأرض، كما إن النباتات بشكل عام تحتاج الى ما يساعدها على تفكيك وتحليل وتحويل العناصر الغذائية الضرورية لنموها وهذه المواد المساعدة هي الكائنات الحية الدقيقة الموجودة في التربة التي تحتاج الى مواد عضوية لتعيش وتتكاثر عليها مثل السماد العضوي الذي ايضاً يقدم الكثير من العناصر الغذائية التي تحتاجها النبتة. أما اذا تركت التربة من دون تسميد لأكثر من ثلاث سنوات متتالية، فإن النباتات ستبدأ بالتراجع في نموها وانتاجها وتستمر في الضعف والتراجع حتى موتها وتصبح عرضة للإصابة بالأمراض والحشرات التي تسرع في موتها بالإضافة الى ان هذه النباتات تصبح المأوى والملاذ الآمن للأمراض والحشرات الضارة من كل نوع.

2. ما هي المراحل التي يمرّ بها السماد العضوي قبل أن يصبح صالحاً للإستعمال؟
يمرّ السماد العضوي بمراحل عديدة قبل أن يصبح صالحاً لتغذية النباتات، وأهمها:
1. في المزرعة بعد خروج الروث من الحيوان يتعرض إلى التكسير من قبل الحيوانات الموجودة في المزرعة بواسطة أقدامها، هذه العملية تساعد على تخمر السماد بشكل أسرع.
2. بول الحيوان مهم جداً لتخمير الروث لأنه يساعد على تفكيكه وتحرير العناصر الغذائية التي تحتوي عليها، وبخاصة الآزوت بحيث يمكن للنباتات امتصاصها، ويساعد الآزوت النبات على النمو الخضري أي نمو الأغصان والأوراق والبراعم.
3. يتم عادة جمع الروث او السماد في أقبية الحظائر بشكل أكوام لترتفع حرارتها وتبدأ بالتخمر والتفكك والإحتفاظ بالرطوبة التي يحتوي عليها من البول.

3. كيف يتم تخمير السماد وماذا يحدث له في عملية التخمّر وعند اكتمالها؟
يتخمر السماد بوضعه في أماكن مشمسة بشكل كومة وترطيبها بالماء ثم تغطيتها بالنيلون السميك وذات لون داكن لإمتصاص حرارة الشمس والإحتفاظ بها وقت طويل خلال الليل، ويجب تحريكها ( قلبها وخلطها) كل أسبوع تقريباً لمدة شهر مشمس، بهذه الطريقة ترتفع حرارة كومة السماد لحوالي 70 درجة مئوية وتؤدي الى تكاثر الكائنات الحية الدقيقة وموت بذور النباتات الضارة إضافة الى تفكك السماد وتحلله وتحويله ليصبح قابلاً للإمتصاص من قبل جذور النبات.

4. ما هي خصائص السماد المختمر والناضح للإستعمال؟
• سريع في تقديم الغذاء للنبات.
• لا يحتوي على بذور النباتات المزاحمة على الغذاء.
• خال من الأمراض والحشرات وبيوضها.
• يصبح الفرشة والمأوى الطبيعي لتكاثر الكائنات الحية الدقيقة في التربة التي تفكك وتحلل وتحول السماد لتصبح جذور النباتات قادرة على إمتصاصها.

5. لماذا لا يجب استخدام السماد الحيواني وهو أخضر أي غير مختمر؟
يمكن إستخدامه ولكن بنسب قليلة ويستحسن ان يكون جافاً نوعاً ما، لأن السماد الحيواني غير المتخمر يحتوي على عناصر كيميائية مركّزة مثل البول الذي يؤدي الى قتل الحشرات المفيدة في التربة وموت جذور النباتات وبخاصة الماصة منها، كما إن السماد الحيواني الأخضر يصبح جاذباً للكثير من الحشرات الضارة بالمزروعات وخصوصاً ذبابة البحر الأبيض المتوسط التي تعتبر من أخطر الآفات الزراعية للأشجار المثمرة.

6. كيف يمكن الاحتفاظ بالسماد من دون التسبب بتوالد الذباب أو الديدان أو البراغيت؟
من المستحسن وضع السماد العضوي للنباتات مباشرة بعد تخميره تجنباً لفقدان عناصره الغذائية كلما طال الوقت بين نهاية التخمير ووضعه على النباتات، اما اذا أراد المزارع تخزين السماد العضوي بعد تخميره اي بعد القضاء على الحشرات وبيوضها من الحرارة المرتفعة اثناء عملية التخمير، يجب تخفيض رطوبته ووضعه في اكياس نايلون سوداء وتخزينه في غرف نظيفة ومظلمة، لكن بشكل مؤقت.
تنبيه هام: يجب عدم رش السماد الحيواني بالمازوت (بغرض قتل الحشرات ويرقاتها) لأنه يؤدي عند استخدامه في التربة إلى يباس الخضار والمحاصيل الحقلية وضعف الأشجار، لأن المازوت يغلف ويحرق الجذور وبخاصة الطرية منها، أما رش السماد بالمبيدات فيؤدي في الكثير من الأحيان الى موت الكائنات الحية الدقيقة والطفيليات والحشرات المفيدة وبالتالي يصبح هذا السماد غير صالح لإستخدامه في الزراعات العضوية.

7. ما فائدة سماد الدجاج البيتي وبماذا يتميز؟
إن سماد الدجاج البلدي الذي يعتمد في غذائه على فضلات الطعام المنزلي والقمح والشعير والنخالة والأعشاب البرية المتعددة الأنواع هو من افضل الأسمدة العضوية التي تستخدم في الزراعة لأنه يمتاز عن باقي الأسمدة لإحتوائه على نسبة جيدة من العنصر الغذائي الرئيسي الفوسفور النادر وجوده في باقي الأسمدة العضوية، إضافة الى الكثير من المغذيات التي يحتاجها النبات.

8. ما هي أوجه التشابه والإختلاف بين سماد الدجاج البيتي وبين سماد دجاج المزارع؟
من الخطأ مقارنة السماد الطبيعي بسماد المزارع لأنهما لا يلتقيان في شيء، فسماد المزارع وبخاصة الفروج منها الذي يعتمد في تغذيته على الأعلاف المركبة والمركزة، اذ يصبح الفروج خلال 43 يوماً اكثر من 2 كلغ بينما الدجاج المربى على الغذاء المذكور اعلاه يحتاج إلى أكثر من سبعة أشهر ليصبح في هذا الوزن، والأخطر من ذلك كله، هو ان بعض مربي دجاج الفروج يستخدمون مواداً كيميائية اخرى من البترول خطيرة جداً وممنوع استعمالها عالمياً. ان هذه المواد والأدوية التي تضاف الى العلف والماء التي تعطى للدجاج لعلاج الأمراض معظمها مواد كيميائية غير قابلة للتفكك في دم الإنسان وتتسبب في الكثير من الحالات المرضية وبعض التشوهات الجسدية، وهذه المواد لا شك تتسرب في معظمها إلى روث الدجاج فإن وضعت في التربة فإنها ولا شك ستترك فيها آثاراً سلبية إلى جانب ما تقدمه من عناصر غذائية وربما تسربت تلك العناصر ولا سيما الهرمونية إلى الإنتاج الخضري والغذائي الذي نتناوله.

9. السماد العضوي المختمر جيداً هل يُغني عن استخدام السماد الكيميائي؟
يغني في حال خلط السماد الحيواني وأهمها سماد الماعز الذي يعتمد على الرعي مع سماد الدجاج البلدي والنباتات البرية التي تنمو في الحقول بعد جزها، إضافة الى ان التربة تحتوي على الكثير من العناصر الغذائية خصوصاً في المنطقة السطحية منها والتي تخترقها اشعة الشمس وحرارتها.

مقارنة بين السماد العضوي والسماد الكيميائي
السماد الكيميائي السماد العضوي وجه المقارنة
مرتفعة بسبب تكلفة المواد الأولية والتصنيع والنقل منخفضة خصوصاً في حال تربية الماشية والطيور التكلفة
عناصر كيمائية مصنعة قابلة للذوبان في المياه يحتوي على كائنات حية دقيقة تتولى تفكيك السماد وتحوّله ليصبح صالحاً لإمتصاصه من قبل الجذور التركيب
يزيد العناصر الغذائية في المدى القصير لكنه بسبب تأثيره على البيئة الحية للتربة يساهم في حرمانها من البكتيريات العضوية ويفقرها بالتالي مع الوقت، وقد يؤدي الاستخدام الكثيف للمياه إلى تملحها وتراجع صلاحيتها للزراعة يغني التربة على المدى الطويل ويعزز خصوبتها من خلال تفكيك حبيبات التربة الكبيرة وتصغيرها وتكبير حبيبات التربة الصغيرة لتصبح التربة متجانسة التركيب جيدة الصرف وغنية بالمواد الغذائية الأثر الطويل الأمد
يساهم في تخفيض رطوبة التربة مما يؤدي الى زيادة عدد الريات المطلوبة وزيادة استهلاك المياه يحافظ على رطوبة التربة ويؤدي الى توفير كمية الري والمياه تأثيره على أسلوب الري
الأسمدة الكيميائية تمنع التربة من الإحتفاظ بالمياه وتضعف قوام التربة وتؤدي الى تشققها الأسمدة العضوية تزيد تفكك التربة وقابليتها لامتصاص المياه مما يحفظ رطوبة التربة لمدة طويلة تأثيره على معدل الرطوبة
تزيد الأسمدة الكيميائية من تلوث التربة والمياه الجوفية، كما إنها تضعف مناعة الأشجار وتعرّضها للآفات وتزيد بالتالي الحاجة لاستخدام المبيدات السماد العضوي مفيد جداً للبيئة لأنه يعزّز خصوبة التربة ويوفّر البيئة المثلى لنمو النباتات ومناعتها ضد الآفات تأثيره على البيئة
الأسمدة الكيميائية تخفض من المواد السكرية والفيتامينات التي تحتويها كل من ثمار الأشجار والخضار الورقية والمحاصيل الحقلية مما يعطي ثماراً قليلة الحلاوة نسبياً ونكهة مخففة. تساعد الأسمدة العضوية جذور النباتات على التكاثر والتشعب والتمدّد بين حبيبات التربة مما يؤدي الى كبر حجم النباتات وبالتالي زيادة إنتاجها وطيب مذاقها تأثيره على نوعية الثمار
المصدر: مجلة «الضحى» بالاستناد إلى المصادر العلمية

10. ما هي المغذيات الدقيقة Trace Elements وما هي فائدتها في تخصيب التربة؟
إن المعادن النادرة او الدقيقة التي يحتاجها النبات هي بصورة أساسية: الكالسيوم والحديد والبور والزنك والمغنيزيوم والمنغانيز.
وتحتاج التربة الى المواد الغذائية خصوصاً التربة التي تزرع سنوياً من نفس المحصول أو المزروعة بالأشجار المثمرة التي تأخذ نفس المواد الغذائية، فهذا يؤدي الى إجهاد الأرض وإفقارها إلى كمية لا يستهان بها من العناصر الغذائية التي تحتاجها النباتات مع مرور السنين، لذا من الضروري إضافة السماد للتعويض عن العناصر التي فقدت أو قلت في التربة. أما هذه العناصر موجودة في الأسمدة العضوية المخمرة والتي تضم عدة مجموعات منها، الأسمدة الحيوانية والطيور، الأسمدة النباتية وجذورها، بقايا المناشر والمصانع الخشبية والرماد.

الماعز مصدر أساسي للأسمدة الحيوانيةالغنية بالعناصر المغذية
الماعز مصدر أساسي للأسمدة الحيوانيةالغنية بالعناصر المغذية

11. إستخدام السماد الطبيعي على الأشجار المثمرة: التعليمات الأساسية
بعد تخمير السماد العضوي وإنضاجه ينقل الى البساتين بواسطة أوان خاصة مثل الأكياس لا يزيد وزنها على 40 كلغ لسهولة نقلها داخل البستان، اما كيفية وضعه للأشجار فيكون على طريقتين:
الأولى: ينثر او يفلش السماد حول جذع الأشجار ويعزق او يفرم بواسطة الفرامة كي يخلط مع تراب سطح الارض فإن هذه الطريقة تتطلب زيادة كمية السماد لأنه لا يفيد القسم المتبقي على سطح التربة من السماد، اذا طمر في التربة يفقد رطوبته التي تحتوي على المواد الغذائية والبكتيريا.
الثانية: هذه الطريقة المثلى والأفضل في وضع جميع انواع الأسمدة عضوية كانت او كيميائية. بعد نقل السماد العضوي المخمر الى البستان، يجب حفر خندق حول جذع الشجرة متواز مع تفرع أغصانها اي عامودياً على مستوى الفروع أو الطرود الحديثة التي نمت خلال الموسم الفائت بعمق حوالي 15 سم وعرض 30 سم تقريباً ثم يوضع السماد ويطمر مباشرة.
اما الأوقات التي يوضع فيها السماد فهي خلال فصل الخريف بعد أن تروى الأرض من مياه الأمطار وحسب الإرتفاع عن سطح البحر اي يوضع السماد في المناطق الساحلية اولاً ويستمر وضعه صعوداً الى المناطق المرتفعة.

12. ما هي حاجة التفاح، والزيتون، والجوز، واللوز، والزعرور، والكرز، والمشمش، والخوخ، والإجاص للتسميد؟
تحتاج هذه الأشجار الى التسميد العضوي المخمر سنوياً لكن بنسب مختلفة، لذا من الضروري وضع تلك الأشجار المثمرة ضمن مجموعتين:
الأولى: تضم الزيتون، الجوز، الكرز والمشمش. تحتاج هذه الأشجار الى التسميد العضوي المخمر كل سنة، من 50 الى 70 كلغ للأشجار المتوسطة الحجم والتي تتصف بنموها الجيد خلال فصل الخريف ويوضع السماد في خندق حول جذع الشجرة على مسافة تبعد عن الجذع تتناسب مع مستوى تفرع أغصانها ثم يطمر السماد بتراب الخندق.
الثانية: تضم التفاح، اللوز، الزعرور، الخوخ والإجاص. ان جميع هذه الأشجار تتصف بحجم متوسط تقريباً لذا فإن حاجتها إلى التسميد العضوي المخمر تكون من 40 الى 50 كلغ للشجرة الواحدة وتوضع في فصل الخريف بنفس طريقة المجموعة الأولى.

3. هل يمكن تسميد التين بالسماد العضوي؟ وما هي مضار استخدام السماد الكيميائي على التين؟
من الضروري تسميد اشجار التين بالسماد العضوي لأنه كما جميع الأشجار المثمرة تستجيب للتسميد العضوي، ولكن بالنسبة الى التين من المفضل وضع السماد الطبيعي بعد تخميره خوفاً من إحتواء السماد على حشرات او بيوضها التي تؤدي الى قضم الجذور السطحية الماصة خصوصاً ان التين يحمل جذوراً فاتحة اللون التي تجذب الحشرات.

14. هل تحتاج الكرمة إلى تسميد عضوي وبأي أسلوب؟
إن شجيرات الكرمة بحاجة الى التسميد العضوي كما إنها تستجيب له بشكل جيد ما يساعده على نمو افضل وإعطاء العناقيد حجماً كبيراً ذات مذاق حلو وثمار صلبة ولون مميز.
يوضع السماد العضوي للكرمة بنفس طرق وضعه للأشجار المثمرة ولكن لا يؤخذ بالإعتبار تفرع اغصانها بل يوضع في خندق حول جذع الشجرة التي تبعد عن الجذع حسب عمرها وحجمها هذا إذا ما زرعت في وسط الكروم او الجلول، اما للكرمة المغروسة على شكل كروم ( على الشوار) يحفر خندق يبعد عن كعب النباتات من 50 الى 80 سم وايضاً حسب عمر وحجم الشجيرات على طول الجل والأهم بعد وضع السماد طمره مباشرة قبل جفافه.

15. استخدام السماد العضوي على الخضار الصيفية والشتوية
ان استخدام السماد العضوي المخمر ضروري جداً للخضار خصوصاً التي تزرع للإنتاج العضوي، فإن السماد يمد الخضار بالكثير من العناصر الغذائية الضرورية له وخاصة عنصر الآزوت الذي يساعد النبات على النمو الخضري. من الضروري ان لا يوضع السماد قبل تخميره تجنباً لإنتشار الأمراض وإنبات بذور النباتات الضارة التي تزاحم الخضار على الغذاء وتصبح الملجأ للحشرات والأمراض التي تنتقل الى المزروعات، اما استخدام السماد المخمر للخضار يكون في المساكب او الأثلام المهيأة قبل الزرع ويجب خلطها مع تراب قاعها.

16. استخدام السماد العضوي في زراعة القمح والشعير والحبوب والمواسم الربيعية
إن جميع المحاصيل الحقلية بحاجة الى السماد العضوي لأنها تستجيب بشكل كامل للتسميد العضوي وبخاصة القمح والشعير اللذين يزرعان في الأوقات التي توضع فيها الأسمدة العضوية في فصل الخريف. اما الفوائد التي يقدمها السماد العضوي الى نباتات المحاصيل الحقلية (الحبوب) هي:
– تحسين خواص التربة التي تصبح المرقد الجيد للحبوب قبل إنباتها خصوصاً للنباتات التي تبقى بذورها وقتاً غير قليل في التربة قبل الإنبات.
– يسهل عملية الإنبات لأنه يساعد على تفكيك التربة وتحسنها.
– يصبح السماد العضوي الحاضنة الوحيدة والمساعدة على تكاثر الكائنات الحية الدقيقة التي تفكك المواد العضوية وتحللها وتحولها لتصبح جاهزة لإمتصاصها من قبل جذور النبات.
– يزيد من حرارة التربة مما يشجع النبات على النمو الجيد.
– يمد النبات بجميع المواد الغذائية الضرورية التي يحتاجها.
– يساعد النبات على النمو الجيد الذي ينعكس إيجاباً على كمية الإنتاج وحجم الحبوب وجودتها.
– كلما ازداد نمو النبات كلما امتص كمية كبيرة من الآزوت الجوي ضمن درنات تنمو على جذوره مما يساعد على زيادة نسبة الآزوت في التربة التي تساعد النباتات على النمو الخضري.

17. نقيع السماد العضوي، كيفية تحضيره والإفادة منه في تغذية التربة وتنمية المحصول
محلول السماد العضوي هو نقيع السماد في الماء في خزان او برميل، المهم ان لا تزيد كمية السماد في الخليط على 20% ثم يغطى الخزان بقطعة من النايلون لإرتفاع حرارة محتواه مما يؤدي الى سرعة تخمير السماد في الماء، ويصبح صالحاً لإستخدامه في ري المزروعات بعد مرور ثلاثة اسابيع يكون نهارها دافئاً مع تحريك هذا المحلول مرة واحدة على الأقل يومياً. لكن قبل استخدام المحلول المخمر، يجب كشف الخزان من النايلون مساءً لتبريد الخليط ليلاً قبل تقديمه للنباتات كغذاء مطبوخ جاهز وخال من بذور النباتات البرية وبيوض الحشرات والأمراض.
ملاحظة: لا يمكن ري المزروعات من خلال شبكة الري التي تعمل بالتنقيط لأنه يؤدي الى تسكير النقاطات.

18. الفوارق بين الكمبوست والسماد العضوي ولماذا يمكن القول إنهما متكاملان في وظائفهما
الكمبوست سماد ناتج عن اجزاء نباتية عديدة متخمرة مثل الحبوب والخضار والفواكه، إضافة الى بعض المتممات الغذائية عضوية كانت او كيميائية، فإن أجزاء هذه النباتات تحتوي على العناصر الغذائية التي أخذتها من التربة اثناء نموها ولكن بنسب مختلفة.
السماد العضوي ناتج عن مصادر عديدة أهمها: السماد العضوي الناتج عن روث الحيوانات والدواجن، النباتات الخضراء خصوصاً التابعة الى الفصيلة البقولية مثل الفول، الحمص، الباقي… وخلطها مع التربة بواسطة الفرامة اثناء مرحلة الإزهار لأنها تكون بأقصى إحتوائها على العناصر الغذائية.
الفوائد التي تنتج عن المزج بين الكمبوست والسماد العضوي هو انهما يصبحان بعد خلطهما وتخميرهما كاملين في العناصر الغذائية.

19. التسميد بدودة الأرض: ما هي وظائف دودة الأرض وكيف يمكن التشجيع على تكاثرها؟
إن دودة الأرض (أبو مغيط) هامة جداً للأرض، فإن الأتربة التي تحتوي او ينمو بداخلها (ابو مغيط) هي أراض خصبة وجيدة زراعياً.
الوظائف التي تقوم بها دودة الأرض عديدة جداً أهمها:
-تؤمن للنبات جزءاً جيداً من الغذاء بعد ان تأكل التربة وتبرزها، فهذا البراز يحتوي على الكثير من المواد الغذائية، وتنمو هذه الديدان على مستوى الجذور.
– تؤمِّن التهوئة اللازمة التي تحتاج إليها التربة والجذور لتتنفس.
– تساعد التربة كي تصبح جيدة الصرف للمياه الزائدة تجنباً لإختناق الجذور.
الطرق الفضلى للمحافظة على ديدان الأرض والتشجيع على تكاثرها هو عدم استعمال الأسمدة والمبيدات الكيميائية لأنها تقضي عليها، أما استعمال الأسمدة العضوية فيشجع على تكاثرها لأنه يؤمن للديدان الحرارة والغذاء وسهولة الحركة داخل التربة وكذلك الرطوبة المعتدلة خلال فصل الربيع.

لا محاذير صحية
للأسمدة العضوية

يعتقد بعض الناس أن الأسمدة العضوية بسبب مصدرها الحيواني قد تحمل بكتيريا أو فيروسات قد تنتقل إلى الخضار المنزلية بسبب قربها من مستوى التربة. لكن حقيقة الأمر أن الأسمدة العضوية هي مواد عضوية مكتملة وغير ملوثة بالبكتيريا الضارة . لكن من أجل الاطمئنان إلى استخدامها يمكن اتباع الإرشادات التالية:
يجب وضع السماد بعد تخميره خاصة لنبات الخضار والتقيد بالكمية المناسبة.
عدم إستخدام الأسمدة المستخرجة من المزارع التي تعتمد في غذائها على الأعلاف المركبة والتي تعامل حيواناتها ضمن برنامج وقائي بأدوية صلبة غير قابلة للتفكك.
خلط السماد مع التربة قبل الزرع تجنباً من تبخر الآزوت منه الذي يكون النبات بحاجة له لنموه الخضري وتجنباً أيضاً من التلوث البيئي الذي يحدثه الآزوت المتبخر في الجو وبالتالي تأثيره على الإنسان.
من الأفضل ان لا تلامس الأجزاء النباتية التي تؤكل طازجة السماد العضوي خصوصاً غير المتخمر.

التسميد بين الماضي والحاضر
الأدلة على أن التسميد تراث بشري قديم جداً أكثر من أن تحصى، وقد أظهرت الآثار القديمة والكتابات والرسوم على جدران المعابد أو غيرها على أن المزارعين بدأوا باستخدام روث الحيوانات منذ الإنتقال من أسلوب الصيد وجمع الفاكهة البرية إلى نمط من الزراعة المستقرة، وقد ترافق ذلك بالانتقال من نمط البداوة والترحال الدائم بحثاً عن المرعى والملجأ . لكن يعود استخدام الأسمدة العضوية المدروس الى بداية القرن التاسع عشر، عندما بدأ المزارعون الاستقرار في حواضر زراعية وبناء البيوت والعيش من الاستغلال الزراعي للأراضي المحيطة. ومما لا شك فيه أن الإنسان اكتشف في ماض سحيق أهمية السماد الذي كان ينجم عن تربية الحيوانات الداجنة مثل الأبقار والأغنام والزراعة بشكل ملحوظ إذ وجد بالصدفة ربما أن الأعشاب أو الزراعات التي كانت تنمو على أكوام الروث الحيواني كانت كبيرة وغزيرة الإنتاج بالمقارنة مع ما كان يزرع في أماكن بعيدة لا يطالها الروث الحيواني. وربما قويت فكرة التسميد بعد أن لاحظ الأقدمون تراجع إنتاجية المزروعات أو الأشجار مع السنين نتيجة استنزاف العناصر الغذائية من التربة فخطر لبعض الأذكياء منهم الذين وجدوا الأثر اللافت للروث الحيواني في نمو زراعات حول المنزل أن ينقلوا الروث إلى الحقول ويضعوه حول الأشجار ويدفنوه في التربة التي تغذيها وبات الروث الحيواني يخلط مع التربة من خلال طرق الحراثة القديمة باستخدام حيوانات الجر مثل الثيران والبغال واستقرت بذلك تقاليد التسميد بالروث الحيواني وساعد في ذلك الحجم الهائل للثروة الحيوانية من خيول وأبقار وأغنام وطيور وغيرها.
لقد تعلم الأقدمون فوائد التسميد الطبيعي بالتجربة والملاحظة لكن لم تكن لديهم بالضرورة معرفة علمية بالكيفية التي يساهم بها التسميد في تخصيب الأرض، وقد مضت قرون طويلة قبل أن يبدأ الإنسان من خلال تطور التقنية ووسائل البحث والاختبار بدرس خصائص التربة وخصائص السماد الحيواني لمحاولة فهم طريقة عمله وتأثيره الكبير الإيجابي في التربة وفي حجم ونوعية المحاصيل وهو ما قاد في النهاية إلى معرفة متكاملة بطبيعة السماد العضوي ومكوناته وأساليب إعداده واستخدامه مع الأخذ في الاعتبار وقت الاستخدام واختلاف المواسم والأشجار والنباتات وحاجة كل منها.

بداية المرحلة العلمية
كان الباحث الألماني جوستوس فون ليبج أول من اكتشف بين عامي (1803-1873) أن المكونات الكيميائية الرئيسية الثلاثة في الأنسجة النباتية هي النيتروجين والفوسفور والبوتاسيوم. اصبحت الزراعة المتكاملة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مورد عيش ونمط حياة ملايين المزارعين الذين أتقنوا وأحبوا هذا العمل النظيف قبل أن تتفتح أعين الاجيال اللاحقة منهم مع الأسف على المكونات الكيميائية المركبة التي بدأت تحل محل السماد العضوي في كافة أنحاء الأرض وتهدد وجود الإنسان والحيوان والبيئة الطبيعية.

سهل عيحا

سهل الخيرات في عيحا

مهدّد بضعف الموارد وزحف الإسمنت

سهل عيحا التاريخي يفيض بالخيرات ويوفّر مصادر العيش لمئات العائلات من المزارعين، لكنه يكافح الآن للبقاء في مواجهة أكثر من خطر وأكثر من تحدٍ. هناك بالطبع تحدي الطبيعة التي تغرق السهل من حين إلى آخر فتأتي على المحاصيل وعلى جهد المزارعين، لكن ما يقلق السهل وأهله اليوم هو ضعف الموارد وتأجير الأرض بأسعار زهيدة، وأخيراً زحف الإسمنت على الرقعة الزراعية. فما الذي يجري في سهل عيحا وما هي آفاق تطوره كمنطقة زراعية رائدة ومن أخصب الأراضي في لبنان؟

الموقع
ينبسط سهل عيحا عند تخوم السفوح الغربية لجبل الشيخ، بين بلدتيّ عيحا وكفرقوق، حيث تبلغ مساحته الكلية 11 ألف دونم، تستغل منها مساحة تصل إلى 8 آلاف دونم في زراعة الحبوب خلال فصل الشتاء، كما يتم استغلال أراضيه صيفاً في زراعة الخضار والفواكهه. وتشكل إنتاجية السهل من المواسم الزراعية، مردوداً يعيل حوالي مئتي عائلة من أبناء قرى عيحا وراشيا وكفرقوق، إلى جانب عشرات العائلات التي تعمل في القطاع الزراعي، فضلاً عن أصحاب المشاريع الزراعية الذين يتولون ضمان الأراضي من مالكيها.

«المغراق» ظاهرة فريدة
يتسم سهل عيحا بظاهرة قلّ نظيرها في أي منبسط زراعي في مكان آخر وتتمثل بالفياضانات التي يتعرض لها خلال فصل الشتاء، إذ تغمر المياه هذا السهل فيتحول من منبسط زراعي الى بحيرة موسمية، وهذه الظاهرة تصيب السهل في معظم السنوات ولكن عمق مياه الفيضان واتساع رقعته يتوقفان على كمية المتساقطات ولاسيما الثلوج التي تغطي الجبال المجاورة به، وهذه الثلوج تعتبر مصدراً مباشراً لتفجرعشرات الينابيع المحيطة بالسهل والتي تصبّ فيه كما إنها مصدر أساسي للسيول الشتوية التي تنجم عن ذوبان الثلوج أو عن الأمطار التي تتدفق من المرتفعات المحيطة لتشكل بحيرة موسمية تغرق السهل لعدة أشهر ولاسيما شهري آذار ونيسان فتصيب المحاصيل الزراعية الشتوية بالهلاك حيث تتلف أطناناً من القمح والشعير، كما يمتد تأثير «المغراق» حتى فصل الصيف فتتأخر زراعة المواسم الصيفية أيضاً.
ويروي بعض المعمرين في البلدة أن المغراق كان يستمر من عام الى آخر وأن السمك ظهر في السهل عند جفاف البحيرة ربما بعد أن تسرب من بعض الأنهر المجاورة التي فاضت وأرسلت أسماكها في فترة الذروة، وقد شكّل استمرار المنسوب المرتفع للمياه في السهل لأكثر من سنة متوالية تأمين الظروف الملائمة لتكاثر تلك الأسماك إلى أن ظهرت بأعدادها عند انحسار المياه.
تجدر الإشارة إلى كميات المياه الهائلة التي تتجمع في السهل وتغرقه لأشهر تعود فتتسرب أو «تغور» في الأرض عندما يشارف فصل الربيع على نهايته في هوة عند طرفه الغربي حيث يروي الأهالي ان هذه المياه تصل الى نهر الحاصباني وربما تغذي الخزانات الجوفية الطبيعية التي تعود بدورها ينابيع المنخفضات الواقعة خارج نطاق القرى المحيطة بالسهل.

خصائص سهل عيحا
تشير الإحصاءات المتداولة في بلديات المنطقة الى أن ما يقارب المئتي عائلة تعتمد في عيشها على هذا السهل بشكل مباشر أو غير مباشر وهي تتوزع في معظمها على القرى والبلدات المتاخمة للسهل مثل قرى عيحا وكفرقوق وراشيا اضافة الى مزارعين من المنطقة يدخلون في عقود ضمان أو «استثمار» بعض هذه الاراضي من أصحابها. وتتوزّع ملكيات السهل بشكل متفاوت بين مزارعين صغار تتراوح حيازتهم بين دونمين أو ثلاثة للمزارع الواحد وبين مزارعين كبار قد تصل حيازة الواحد منهم إلى مئتي دونم (أي ما يعادل 200,000م2). ويحتوي السهل على ما يزيد على 15 بئراً ارتوازية، لكن عدداً من تلك الآبار قد يتعرض للجفاف خلال فصل الصيف بينما يستمر الباقي منها في ري المزروعات خلال فصل الجفاف ، لكن السهل رغم ذلك وبسبب موقعه يتميز بوفرة المياه، إذ ينتشر على تخومه وفي محيطه الجغرافي نحو 300 نبع للمياه منها ما هو موسمي (يجف في الصيف) ومنها ما يستمر على مدار العام، وهذه الينابيع تساهم بدورها في ري المزروعات مؤمنة بالتالي مورداً هاماً لاستمرار الدورة الزراعية في أشهر الصيف وبالتالي تعويض ما قد يكون وقع من أضرار بسبب فيضانات الشتاء.
وأبرز ما يميّز المزروعات في هذا السهل انها تروى بمياه نقية لا تقل شأناً عن مياه الشرب وهذا يعود الى غياب الصرف الصحي العشوائي في الجوار.

أنواع المزروعات في السهل
سهل عيحا شأنه شأن معظم السهول اللبنانية حيث يحاول المزارعون الإستفادة منه على مدار السنة من خلال اعتماد الروزنامة الزراعية حيث تتم زراعة السهل مرات عدة خلال العام الواحد ومن هذه المزروعات :
زراعة الحبوب المختلفة كالقمح والشعير والحمص والعدس والعديد من المزروعات الأخرى.
وكذلك هناك المزروعات الصيفية المتمثلة بالخضار على انواعها وبعض الفواكه التي يتم انتاجها بكميات محدودة لكنها تساهم الى حد ٍما في تلبية حاجات السوق المحلية، واللافت ان هذا الإنتاج يتفوق على غيره من خلال الجودة التي يتمتع بها حيث تعتبر المزروعات نصف بعلية والمياه التي يتم ريها هي مياه نقية وغير ملوثة.

هجوم الإسمنت
نتيجة غياب التخطيط المُدني الذي ينظم البناء ويمنع العشوائية من العبث في البيئة الطبيعية والأراضي الزراعية فقد كان لسهل عيحا نصيبه من هذه الظاهرة، إذ زحفت العديد من الأبنية على الرقعة المزروعة وبدأ ذلك يؤثر بصورة سلبية على اقتصاد السهل بسبب التشويه البيئي وتقطيع الملكيات الزراعية وتفتيتها، الأمر الذي يضعف إمكانية قيام زراعات اقتصادية وحديثة أو استثمارات تابعة في عمليات المعالجة وغيرها. على العكس من ذلك، فإن زحف الإسمنت سيؤدي إلى تقلص المساحات الزراعية وتزايد الكثافة السكانية وبالتالي إلى تلوث قد يذهب بسمعة السهل وطبيعته. المفارقة مع ذلك أن المنازل التي بنيت عشوائياً مهددة خلال الأشهر التي تغمر المياه السهل لأن غرق أسفلها أو أساساتها بالمياه لأشهر طويلة قد يؤثر على سلامة البنيان وقد ينتهي إلى زعزعته في نهاية المطاف، علماً أن العديد من الأشخاص قضوا غرقاً في السهل بسبب صعوبة التحرك في مواجهة الوحل من الإنزلاقات والسيول المختلطة بالأتربة والتي تشكل «بحيرات من الوحول» تغرق من يقع فيها.

من أجل المزيد من المعلومات عن تاريخ السهل وما يتعرّض له في زمننا الحاضر إلتقت «الضحى» الشيخ الثمانيني سليم ابو لطيف الذي عاصر اقتصاد السهل وشهد نعمه ونقمه منذ شبابه فكان هذا الحوار:

ما هي أبرز المحطات التي في ذاكرتكم حول سهل عيحا ؟
كان ارتباط الناس بالسهل قديماً ارتباطاً عضوياً، إذ كنا نمضي معظم ايام السنة في ربوعه بدءاً بموسم الحرث ثم الزرع وكان يمتد اشهراً وانتهاء بمتابعة المزروعات خلال فصل الشتاء إلى أن يحين موعد الحصاد. وكانت الأجواء الدائمة في السهل أشبه بأجواء عرس حتى شهر ايلول، عندما يتم حصاد المزروعات من دون مساعدة آلية أو تقنية، إذ كنا نقوم بذلك بأيدينا مستخدمين منجل الحصاد والشاعوب وكانت النخوة ركيزة العمل حيث كان جميع ابناء البلدة يجتمعون في السهل لمساعدة بعضهم بعضاً وكان الجميع يعملون مثل عائلة واحدة في جمع القمح و«رجيدته » والرجيدة هي تحميل القمح على ظهر الحيوانات بواسطة الشبك الخاص بنقل الغلال ليتم نقلها وتكديسها في مكان ٍ واحد يعرف بالبيدر ليصار الى درسها.

أبنية-الاسمنت-تزحف-على-السهل
أبنية-الاسمنت-تزحف-على-السهل

كيف كانت تتم عملية درس الحبوب في القديم ؟

بإبتسامة بسيطة يتابع الشيخ حديثه، عملية دراسة الحبوب كانت متقنة ومسلية في ذات الوقت حيث كان تتم بوضع «المورج « على جانب عرمة القمح ويتم ربط المورج بعنق احد الحيوانات الذي يبدأ بالدوران حول العرمة ويقف عليه أحد الرجال الذي يقود الحيوان ويوجهه وكان الأولاد يركبون على المورج بهدف التسلية ، كما كان هناك شخص يقف على عرمة القمح ويضع السبل تحت المورج بواسطة الشاعوب .
ويضيف: «كان الناس يمضون جل وقتهم في السهل حيث يتم الإحتفاظ بالمياه في «الكرزونة» ويتم سلق القمح وأكله أو طهي مشتقاته بأشكال مختلفة يقتات بها العمال في السهل .

كيف كانت الأراضي مقسمة قبل حصول المساحة ؟
كانت الأراضي مقسمة بطريقة عشائرية والملكيات موزّعة على الأفراد لكن الحصص الكبيرة يحظى بها النافذون في البلد والأراضي كانت توزع على الأرباع وكل ربع مقسم الى ست عشرة (16) مجرة والمجرة تساوي تقريباً الخمسة دونومات، اما الأماكن القصيرة والضيقة فكانت تقاس بالخرزة والتي تساوي ما يقارب الـ 1000 متر (أي دونم واحد) أو بالتراويس والتي تعتبر إحدى وحدات القياس القديمة للأراضي الزراعية أيضاً .

ما هي أبرز الذكريات التي ما زالت حية في وجدانكم؟
عندما تنحبس الأمطار فترة طويلة كان الناس يخشون على الموسم وعلى نتيجة تعبهم، وبالتالي عيشهم، في تلك الظروف كان الناس يجتمعون ويجوبون أرجاء البلدة والمناطق القريبة من السهل مرددين الإبتهالات متضرعين إلى الله ان يمنّ عليهم بالمياه ومن هذه العبارات التي كانوا يرددونها :
يـــــــــــــــــــــــــــــــــــــا أم الــــــــــــــــــــــــــــــــغيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــث غــــــــــــــــــــــــــــــــيثيـنــــــــــــــــــــــــــــــــــــا تــــــــــــــــــــــــــــــــلــــــــــــــــــــــــــــــــِّــــي الســـــــــــــــــــــــــهــــــــــــــــــــــــــــــــل وروينــــــــــــــــــــــــــــــــا
واسقــــــــــــــــــــــــــــــــي زرعنــــــــــــــــــــــــــــــــا العــــــــــــطشــــــــــــــــــــــــــــــــان ومــــــــــــــــــــــــــــــــن فيــــــــــــــــــــــض نعمـــــــــــــــــــــــــــــــــه تحيينــــــــــــــــــــــــــــــــا
المهندس الزراعي عماد محمود أمضى زمناً طويلاً في إرشاد المزارعين وتوجيههم وهو يختزن بالتالي خبرة واسعة في شؤون سهل عيحا وشؤون الزراعة في منطقة راشيا والبقاع، يقول:
دخول الأسمدة والأدوية الزراعية كان لها التأثير السلبي من خلال تفكيك المواد العضوية والحدّ من خصوبة التربة، والجدير بالذكر هنا أن سهل عيحا بسبب خصوبته وما يترسب به سنوياً من الطمي الغني بالعناصر الغذائية يتميز بالزراعة «المحيّرة» وبالمحاصيل الجيدة والتي كانت تفيض بالخيرات بعيداً عن استعمال الأدوية الزراعية .

ما هي الزراعة «المحيرة»؟
هي الزراعة التي كانت تزرع ما بين المرحلة المبكرة لزراعة الحبوب وتدعى «العفير» وهي قبل أن تروى الأرض جيداً بالمياه والزراعة المتأخرة والتي تدعى «اللقيس» وهذه الزراعة كانت تعطي مواسم جيدة وكانت تشكل عامل جذب لكبار المزارعين نظراً إلى المردود الوفير الذي تعطيه، لكن دخول المزارعين عالم التجارة والركض وراء محاولة زيادة الإنتاج بوسائل كيميائية وبصورة غير مدروسة غالباً قضى على هذه الزراعة .

كيف تتم عملية استثمار السهل حالياً ؟
تقلص الموارد المالية المتاحة للمزارعين في السهل حال دون استثمار الأرض مما حدا بهم الى تضمين أملاكهم لمزارعين من خارج المنطقة، لكن المفارقة هي أن الأرض يتم تضمينها بأسعار زهيدة حيث لا تتجاوز الـ 25 دولاراً للدونم بينما في سهل البقاع يصل تضمين الدونم الواحد الى ما يقارب الـ 180 دولاراً والغلال في سهل عيحا تفوق الغلال في سهل البقاع في الدونم الواحد كماً ونوعاً.
ومن الأسباب التي دفعت بالمزارعين الى تضمين الأرض، ارتفاع فاتورة الري في الفترة الأخيرة، حيث إن الآبار الإرتوازية هي مشاريع خاصة يملكها أشخاص أخذوا يتحكمون بأسعار المياه والمزارع غير قادر أحياناً على تأمين البديل.

سهل-عيحا-يمتد-حتى-أقدام-جبل-الشيخ-ويحمل-الخيرات-لمزارعي-المنطقة
سهل-عيحا-يمتد-حتى-أقدام-جبل-الشيخ-ويحمل-الخيرات-لمزارعي-المنطقة

ما هي الأماكن الأكثر خصوبة في السهل ؟
التربة في السهل متقاربة بالإجمال ولا توجد منطقة تفوق الأخرى لكن الأماكن التي تكون أكثر تأثراً بالمغراق تتجدّد التربة فيها بإستمرار بسبب ما يترسب فيها من طمي وتعتبر لذلك من المناطق الأكثر خصوبة، لذلك يتسابق المستثمرون في السهل للحصول عليها .

ما هو مستقبل الزراعة في السهل ؟
في الفترة الأخيرة أخذ الناس بالإبتعاد عن الزراعات التقليدية في السهل وعدم الإعتماد على الروزنامة الزراعية أو ما شابه ذلك وتحولوا الى زراعة الكرمة وهذا ما بدأ يظهر على اطراف السهل حيث اخذت بساتين التفاح بالإتساع، أضف الى ذلك أن بعض المزارعين بدأ يزرع مساحات واسعة بأشجار الحور التي تنمو بسرعة ويتم الإستفادة منها في الحطب حيث تحضى ولهذه التجارة سوق مربحة والحور سريع النموّ ويمكن ان يستفاد منه على فترات طويلة .

سد القرعون

ماذا تعرف عن سدّ القرعون

أكبر مشاريع لبنان المائية والكهرمائية؟

«لبنان هبة الليطاني» هذا ما قاله المهندس ابراهيم عبد العال في مقدمة دراسته لنهر الليطاني التي أجراها في العام 1948 متمثلاً بمقولة المؤرخ اليوناني هيرودوتس « مصر هبة النيل» .
عبّرت هذه الكلمات عن أهمية الموارد المائية لمستقبل الاقتصاد والتنمية في لبنان وعن الأهمية الكبرى لنهر الليطاني باعتباره النهر الأطول والأغزر بين الأنهر اللبنانية الداخلية والليطاني نهر «داخلي» بمعنى أن منبعه ومصبَّه يقعان في الأراضي اللبنانية وأن كل مياهه تعود إلى لبنان ولا يتشارك فيها مع أي بلد آخر.
مع ذلك، فإن لدى لبنان هواجس دائمة إزاء مطامع إسرائيل في مياهه ولا سيما الليطاني خصوصاً وأن إسرائيل اجتاحت أراضيه عدة مرات وكانت غالباً ما تصل إلى الليطاني أو تتجاوزه، وقد ترافقت حرب تموز 2006 مثلاً بإشاعات كثيرة عن خطط إسرائيلية لسرقة مياه النهر لكن الاحتلال يومها لم يدم طويلاً وتنفس اللبنانيون الصعداء تجاه سلامة مياه النهر وأمنهم المائي.
بالنظر إلى أهمية الليطاني فقد كان منذ الثلاثينات، وفي ظل الانتداب الفرنسي، مركز اهتمام الدولة اللبنانية التي اعتبرت أن من أولى واجباتها أن تحقق الاستغلال الكامل لهذه الثروة المائية االفريدة بحيث لا تذهب هدراً إلى البحر خصوصاً في فصل الشتاء عندما تؤدي متساقطات الأمطار والثلوج على السلسلتين الشرقية والغربية إلى زيادة كبيرة في تدفقات الأنهر وكميات المياه التي تحملها .
لكن الفكرة بدأت بالتحول إلى مشاريع جدية في خمسينات القرن العشرين، إذ لعبت قيادات فنية واقتصادية بارزة مثل المهندس ابراهيم عبد العال وألبير نقاش وسليم لحود دوراً أساسياً في بلورة المخططات والخيارات بشأن نهر الليطاني وأثمرت تلك الجهود بقيام المصلحة الوطنية لنهر الليطاني في العام 1954 والتي عهد إليها الإشراف على بناء سد الليطاني الذي سمي في ما بعد «سد القرعون» وتمكّنت المصلحة في عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب من إنجاز الأعمال في السدّ وتشغيله بالكامل في العام 1962.
فما هي قصة هذا السدّ المهم جداً لاقتصاد لبنان الزراعي وقطاعه الكهربائي؟ وما هي الفوائد التي يجنيها لبنان من استثمار مياهه على الوجه الصحيح؟ وما هي مشاريع مصلحة مياه الليطاني للمستقبل المنظور؟

نهر الليطاني
ينبع نهر الليطاني من نبع العليق الواقع غرب بعلبك ويخترق سهل البقاع من الشمال الى الجنوب حيث يبقى مستعلى ارتفاع عن سطح البحر يتراوح ما بين 800 – 1,000 متر ويزداد حجم تدفقاته المائية تدريجياً نتيجة الروافد التي تغذيه. ومن هذه الروافد نهر البردوني ونهر شتورا ونهر قب الياس ونبع الخريزات ونبع مشغرة اضافة الى نهر يحفوفا ونهر الغزيل الذي يعتبر أهم روافده على الإطلاق لأنه يضم نبع رأس العين ونبع الفاعور ونبع شمسين ونبع عنجر اضافة الى عين البيضا، وجميع هذه الروافد تصب في الليطاني ضمن مسافة لا تتعدى العشرة كيلومترات، وفي اقصى الجنوب يتلقى الليطاني مياه عين الزرقاء ومياه نبع الغلة .
وعندما يخرج الليطاني من البقاع ويدخل في القسم المنخفض من مجراه فإنه يهبط من علو 800 متر الى مصبِّه عند سطح البحر بعد اجتياز مسافة 100 كلم تقريباً، وفي القسم المنخفض يتلقى النهر مياه نهر زريقون ونهر وادي السلوقي .
وينحرف مجرى النهر باتجاه الغرب عند جسر الخردلي بالقرب من قلعة الشقيف تجاه دير ميماس حيث يتحول إسمه إلى «نهر القاسمية» ويتدفق إلى البحر المتوسط على بعد ثمانية كيلومترات شمال مدينة صور .
تبلغ مساحة حوض النهر (أي الأراضي الواقعة على ضفتيه ويمكن أن تستفيد من مياهه) 2,168 كيلومتر مربع (أو ما يعادل 21% من مساحة لبنان الإجمالية البالغة 10,452 كلم2) وتقع 80% من أراضي حوض الليطاني في سهل البقاع والباقي في المناطق الجنوبية من لبنان، فهو يبلغ 170 كلم وتصريفه السنوي يزيد على سبعمائة وسبعين مليون متر مكعب.

سد القرعون
تعود تسمية بحيرة القرعون أو سدّ القرعون إلى المكان الذي تمّ اختياره من قبل المهندس ابراهيم عبد العال مع الجيولوجي دوبرتريه بين بلدة القرعون وبلدة سحمر عند مستوى او منسوب 800 م والذي يعتبر من افضل المواقع الجغرافية لبناء السد وهذا الأمر كان بإجماع الخبراء الذين تعاقبوا على دراسة المشروع، لذلك تم اعتماد الموقع لبناء السد.

مواصفات السدّ
أجريت عدة دراسات لتحديد نوعية السدّ قبل الوصول الى القرار النهائي الذي سوف يعتمد في بنائه. البعثة الأميركية أو ما عُرف بالنقطة الرابعة قدّمت دراسة لبناء سدّ من الركام الصخري مع نواة من المواد الصلصالية المتوفرة في المكان، كما قدمت البعثة الفرنسية المعروفة بمجموعة الليطاني نموذجين للسدّ مراعية عدداً من العوامل التي يمكن أن تؤثر سلباً على السدّ كالهزات الأرضية ، الفيضانات وغيرها فتم اختيار السد الخرساني وتلزيمه لإحدى الشركات اليوغوسلافية التي باشرت العمل في 30\9\ 1958 .
يبلغ ارتفاع السد 60 متراً وطوله حوالي 1090 متراً بعرض اقصى 162 متراً، ويبلغ حجم السدّ الاجمالي مليوني متر مكعب تقريباً، وهو من أنواع السدّ الركامي المبني من الردميات الصخرية مع طبقة امامية من الصخور المرصوفة .
بلاطات منع التسرب: هي من الخرسانة المسلحة على الواجهة الأمامية للسد تتراوح سماكتها ما بين 50 سنتمتراً في القسم الأسفل للسد و30 سنتمتراً في القسم الأعلى منه ، تبلغ مساحتها 47,000 متر مربع، ترتبط هذه البلاطات في ما بينها بفاصل مطاطي وتتم تعبئة الفراغات بمواد من الزفت العازل تسمى (water stop).

المنشآت التابعة للسدّ
1. منشأة تصريف الفيضان او المفيض Evacuateur des crues
يعتبر المفيض أهم المنشآت التابعة للسدّ، إذ إنه يحميه في حال الفيضانات ويؤمن مرور المياه بشكل سليم دون الإضرار بجسم السد، أما خصائص هذه المنشأة فهي :
– نوعية المفيض: برج من الخرسانة المسلحة في البحيرة متصل بنفق يمر تحت جسم السد حتى النهر .
– منسوب اعلى المفيض 858 م فوق سطح البحر .
– قطر اعلى المفيض 26 متراً
– قطر بئر التهوئة 3 أمتار ويصل الى منسوب 861.5 متر
– قطر نفق التصريف تحت السد 6.8 أمتار
2. منشأة تفريغ البحيرة
يتم تفريغ البحيرة في بعض الأحيان لأعمال الصيانة عندما تكون المياه في ادنى مستوياتها في فصل الخريف .
صممت منشأت التفريغ لتؤمن تصريف حوالي 100 متر مكعب في الثانية بواسطة برجين بالقرب من الضفة اليسرى للنهر متصلين بنفقين يمران تحت جسم السد وينتهيان عند غرفة السكورة المجهزة بمنشآت التحكم في فتح او قطع تفريغ المياه .
استعمال مياه السد
تستعمل المياه التي يختزنها في توليد الطاقة الكهربائية في المعامل الكهربائية الثلاثة (معمل مركبا، معمل الأولي، ومعمل جون ) التابعة للمصلحة الوطنية لنهر الليطاني وفي ري ما يزيد على 1400 هكتار من اراضي سهل البقاع الزراعية وحوالي 36 الف هكتار من الأراضي الزراعية في الجنوب اللبناني .

معامل الطاقة الكهربائية
1. معمل إبراهيم عبد العال أو ما يُعرف بمعمل مركبا
يقع هذا المعمل على بعد 6,400 متر من سدّ القرعون وهو يأخذ المياه من بحيرة القرعون عبر نفق تحت الأرض على الضفة اليمنى من المجرى ، يتصل بالمجرى بواسطة انبوب فولاذي مضغوط يبلغ تصريفه الاقصى 22 متراً مكعباً بالثانية ، ويبلغ علو مسقطه 200 متر تتكون منظومة الانتاج في معمل عبد العال من وحدتين بقدرة تجهيزية إفرادية تساوي 17 ميغاواط مزودة بعنفة مائية ، حيث يبلغ مجموع الانتاج في المعمل 34 ميغاواط .
تمّ انجاز هذا المعمل بكامله ووضعه قيد الإستثمار في العام 1962 عندما كان سدّ القرعون في المرحلة الاولى من بنائه لكنه في حالة تسمح بتأمين المياه اللازمة لتشغيله .
2. معمل بولس ارقش أو ما يعرف بمعمل الأولي
يقع هذا المعمل في حوض نهر بسري على الضفة اليسرى للنهر، حيث يبلغ علو مسقطه 400 متر ويستمد المعمل المياه اللازمة لتوليد الطاقة من بحيرة القرعون بعد خروجها معنفة من معمل عبد العال لتتحد مع مياه نبع عين الزرقاء ومياه الأمطار وعدد من الينابيع الأخرى لتصل الى المعمل عبر نفق يخترق جبل نيحا بطول 17 كلم لتصل الى بركة انان فوق المعمل مباشرة حيث يتزود المعمل بالمياه مباشرة عبر انبوب فولاذي مضغوط يبلغ تصريفه 33 متراً مكعباً بالثانية .
تتكون منظومة إنتاج المعمل من ثلاث وحدات بقدرة تجهيزية تصل الى 36 ميغاواط مزودة كل منها بعنفة مائية حيث تبلغ القدرة الإجمالية للمعمل 108 ميغاواط .
تمّ انجاز بناء المعمل ووضعه قيد الإنتاج في تموز من العام 1965 بمجموعتين فقط قبل ان تتم اضافة مجموعة ثالثة في العام 1977 لزيادة قدرته الإنتاجية خلال ساعات الذروة ولم تدخل حيز العمل إلا في العام 1981 نتيجة الاوضاع الأمنية المتردية .
يعتبر معمل بولس أرقش اهم معمل لإنتاج الطاقة الكهربائية من مصدر مائي في لبنان من حيث القدرة الإفرادية لكل مجموعة من مجموعاته الثلاث، كما يعتبر هذا المعمل محطة مركزية لتجميع الطاقة المنتجة من المعامل الثلاثة .

قاطع السد المستند إلى البنية الخراسانية
قاطع السد المستند إلى البنية الخراسانية

3. معمل شارل حلو أو معمل جون
يقع هذا المعمل على الضفة اليسرى من مجرى نهر الأولي حيث يبلغ علو مسقطه 194 م وهو يعتمد القسم الأكبر من المياه اللازمة لتوليد الطاقة من تصريف معمل بولس ارقش ، والقسم الآخر من مياه نهر بسري عن طريق تحويلها الى بركة التجميع فوق المعمل حيث تتدفق عبر نفق طوله 6800 م ليتم نقلها الى المعمل بواسطة انبوب فولاذي مضغوط قدرة تصريفه 33 متراً مكعباً بالثانية .
تتكون منظومة الإنتاج في معمل جون من وحدتين بقدرة تجهيز افرادية تبلغ 24 ميغاواط مزودة كل منها بعنفة مائية لتصل القدرة الإجمالية للإنتاج الى 48 ميغاواط . واللافت في هذا المعمل انه مجهز بمحركات عكسية بإمكانها ضخ المياه المعنفة الى بركة التجمع في حال تمّ انشاء برك تجميع للمياه بعد خروجها من المعمل، وقد تم انجاز هذا المعمل في العام 1968 .

خطوط نقل الطاقة
تحتاج معامل الليطاني الى وجود خطوط توتر عال من اجل تصريف الطاقة المنتجة ووضعها على الشبكة العامة العائدة لمؤسسة كهرباء لبنان، ولأجل ذلك قامت المصلحة بتمويل انشاء شبكة توتر (66 كيلوفولت ) لحسابها تربط معاملها الثلاثة ببعضها بعضاً من جهة كما تربط هذه المعامل بالشبكة العامة من جهة اخرى .
وكانت هذه الشبكة تتعرض للأضرار بشكل مستمر طيلة الحرب الأهلية ونتيجة الإعتداءات الإسرائيلية وفي كل مرة يتم اصلاح هذه الأعطال وإعادة التيار الى طبيعته .

مشاريع الري التي تستفيد من مياه السد
1. مشروع ري القاسمية ورأس العين (الجنوب)
يعتبر هذا المشروع من اهم المشاريع في لبنان تمّ تنفيذه في العام 1974 ، يتكون هذا المشروع من قسمين أساسيين:
القسم الأول : قناة القاسمية : تمتد من السد التحويلي في الزرارية حتى الموزع العام بطول 9 كلم حيث تتفرع الى فرعين : الفرع الشمالي أو فرع صيدا والفرع الجنوبي أو فرع صور .
يمتد الفرع الشمالي او فرع صيدا من الموزع العام حتى مجرى نهر سينيق جنوب صيدا بطول 25 كلم وتبلغ طاقة تصريفه نحو 3.5 م مكعب بالثانية .
أما الفرع الجنوبي أو فرع صور فيمتد من مخرج نفق القاسمية حتى مفرق المعشوق بطول 9 كلم وتبلغ طاقة تصريفه نحو 1.5 م مكعب بالثانية.
القسم الثاني : قناة رأس العين :
تتألف من فرعين أساسيين :
فرع رأس العين الشمالية ويمتد من برك رأس العين جنوباً حتى مفرق المعشوق شمالاً بطول 5 كلم .
فرع رأس العين الجنوبي ويمتد من برك رأس العين حتى بلدة المنصوري جنوباً بطول 7 كلم ويروي هذا القسم 3,200 هكتار بالطرق التالية : الجاذبية ، والضخ مع الري الحديث الذي يعتمد على التنقيط . وما بين العام 1996 والعام 1998 نفذت المصلحة اشغال التحديث وتأهيل المنشآت الرئيسية للمشروع .
2. مشروع ري البقاع الجنوبي
تم تنفيذ المرحلة الأولى بما فيه البنية التحتية الهيدروليكية خلال الفترة ما بين 1998 و2001 وفق أحدث تقنيات الري .
يروي حالياً 2,000 هكتار من بحيرة القرعون جنوباً الى جب جنين وكامد اللوز شمالاً، وسوف يروي مستقبلاً عند الإنتهاء من تنفيذه حوالي 21 الف هكتار من الأراضي الزراعية .

منشآت المشروع
يتكون المشروع من :
– قناة جر رئيسية (900) بطول 18.40 كلم
– محطات ضخ رئيسية في اسفل سدّ القرعون
– محطات ضخ ثانوية على شبكات الآبار
– خزانات التوزيع وشبكات الري المضغوطة
تأتي معظم كميات المياه التي تستعمل في الري في الضخ من بحيرة القرعون مع دعم من آبار كامد اللوز لقطاع جب جنين .

مشروع الري النموذجي
تبلغ مساحة مشروع الري النموذجي 1200 هكتار تقع بين مجرى نهر سينيق ونهر الاولي ومساحة المنطقة المستثمرة من هذا المشروع تبلغ 350 هكتاراً تروى بالمياه المتوفرة في بركة أنان، ويتألف المشروع من شبكة ري رئيسية وشبكات فرعية يبلغ طولها 42 كلم .

وحدة البيئة والمهام التي تلقى على عاتقها في مراقبة المياه وحماية حوض الليطاني من التلوث
نظراً إلى إرتفاع نسبة التلوث التي تطال الأنهر اللبنانية بشكل عام وغياب الرقابة والمحاسبة كان لا بدّ من خطوة ذاتية في هذا المجال لمتابعة واقع المياه في حوض الليطاني مما دفع بالمصلحة الوطنية لنهر الليطاني بإستحداث وحدة البيئة في العام 2005 التي تلقى على عاتقها مهمة المراقبة الدائمة لنوعية المياه السطحية .

نهر الليطاني
نهر الليطاني

تلوث مياه الليطاني
الثمن البيئي …والعلاج

تعتبر مصادر التلوث في الليطاني كثيرة ولعلّ أبرز مصدر لتلوث مياه الحوض الأعلى لليطاني قبل وصوله الى بحيرة القرعون نتيجة لتحويل مياه الصرف الصحي والمياه المبتذلة إلى النهر من المجمعات السكانية القريبة من المجرى من القرى والبلدات الواقعة على طول مجرى النهر وهذا ما يظهر بشكل واضح خلال فصل الصيف بعد توقف مياه الأمطار.
أضف الى ذلك النفايات الصناعية التي ترمى على مجرى النهر والنفايات المنزلية فضلاً عن مخلفات المستشفيات ومزارع الدواجن في ما تتمثل الملوثات الأخرى ببقايا الأسمدة والمبيدات الزراعية وما ينتج عن المقالع والكسارات اضافة الى مراكز غسل السيارات ومحلات تغيير الزيت وغيرها وغير ذلك من مصادر التلوث التي تشوه النهر الى حد بعيد وهذا ما ينعكس بصورة خطيرة على نوعية مياه الري وإمكانية الإفادة من مياه النهر لأغراض الاستهلاك المنزلي.
لا يبدو في الأفق أي أمل في إمكان معالجة ظاهرة التلوث اذا لم تواكب بخطوات جدية من قبل الدولة منها على سبيل المثال لا الحصر :
– إصدار قانون خاص بإجراءات حماية المياه في لبنان ومعاقبة جرائم تلويث المياه وإصدار غرامات كبيرة على جرائم تلويث أو إفساد المياه.
– إيجاد إدارة خاصة حكومية لمراقبة السلامة في حوض الليطاني وغيره من الأنهر، وتعطى صلاحيات واسعة وتدعم بجهاز رقابة مدعم بالقوى الأمنية بما يعطي للقانون هيبته وقوة التنفيذ اللازمة لردع المخالفين.
– معالجة مياه الصرف الصحي بإقامة محطات تكرير جماعية لمعالجة المياه المبتذلة عند مخارج المدن والتجمعات السكانية والمصانع.
– إنشاء محطات لمعالجة النفايات الصلبة.
– إلزام مصانع تحويل الإنتاج الزراعي ومعامل إنتاج الألبان والأجبان والمسالخ بتجهيز منشآتهم بمحطات تكرير للسوائل والفضلات الناتجة عن عملية التصنيع .
– فرض غرامات مالية قاسية على رمي شتى أنواع النفايات في مجرى النهر .
– متابعة المزارعين وإرشادهم إلى سبل التخلص من مخلفات الأسمدة والمبيدات الزراعية .

وحدة البيئة والمهام الأساسية وكيفية عملها
– تقوم هذه الوحدة بدراسة نوعية المياه وذلك من خلال جمع العينات وتحليلها في الحوض الأعلى والأسفل من نهر الليطاني ( يقصد بالحوض الأسفل المسافة الممتدة من أسفل بحيرة القرعون وصولاً الى البحر شمال مدينة صور ) لتحديد العناصر والمكونات الملوِّثة .
– يتوزع العمل بين فريقين ، الأول في الحوض الأعلى وهو متواجد بشكل دائم في مركز الأبحاث التابع لمصلحة مياه الليطاني في خربة قنفار، والثاني يتبع مكتب المصلحة الوطنية لنهر الليطاني في مدينة صيدا .
– قامت الوحدة بدراسة الخصائص الجغرافية للنهر واستطاعت من خلالها تحديد مصادر التلوث المتمثلة بالنفايات الصلبة ونفايات المستشفيات ونفايات المصانع .

أهداف وحدة المراقبة (وحدة البيئة )
تتضمن الأهداف الرئيسية لبرنامج مراقبة نوعية المياه :
1. تأسيس قاعدة بيانات طويلة الأمد متعلقة بنوعية المياه من أجل الحفاظ على المعلومات ورصد التغيرات الحاصلة في حوض الليطاني وللتأكد من سلامة المياه التي تستخدمها البلدات والوحدات الزراعية والصناعية .
2. إنشاء قاعدة جامعة للبيانات والتحليل لإدارة وترجمة المواضيع المتعلقة بنوعية المياه .
3. تبادل المعلومات مع المؤسسات المعنية من أجل تحسين نوعية المياه وتطوير إدارة هذا القطاع .
4. تطوير الإمكانيات من أجل الإكتشاف المبكر للملوثات ومصادرها من خلال إيجاد إطار قانوني لمراقبة نشاط المصانع والنشاط الزراعي ومراقبة النفايات الصلبة والسائلة .
5. الإعداد لدراسة جيو تقنية تُعنى بالإهتمام بمجمع القرعون المائي من خلال دراسة تغذيته الإصطناعية للمياه الجوفية عبر المشاركة في مشروع آراسيا عبر الهيئة اللبنانية للطاقة الذرية .
6. مراقبة المياه الجوفية عبر الآبار المخصصة لذلك والتي تمّ حفرها بدعم من الـ USAID.
7. استخدام نفس التقنية المذكورة في البند الخامس لدراسة امكانية تسرب المياه من تحت جسم السد .

آثار المشروع الإقتصادية والإجتماعية
كان لمشروع الليطاني الأثر الأكبر في تغيير حياة الناس في القرى والبلدات المجاورة له حيث حول آلاف الهكتارات الزراعية من أرض بعلية الى أرض مروية يمكن الاستفادة منها على مدار السنة على الرغم من توزيع المياه بشكل غير متساو على المناطق المحيطة، وهذا ما أطلعنا عليه المزارع اسعد جابر رئيس تعاونية خربة قنفار الزراعية .
يقول المزارع جابر لقد أحدث المشروع ثورة هائلة في عالم الزراعة في البقاع الغربي من خلال تنوع المزروعات وتوزعها على مدار السنة فتحوّلت الزراعة من بعلية الى مروية مما ضاعف المردود وشجّع على الاستثمار في القطاع الزراعي لكن المشكلة تكمن في مشاريع الري المنفذة في البقاع حيث نرى أن المزارعين الذين يمتلكون حيازات زراعية على مجرى قناة الري الممتدة من منطقة السد وصولا الى بلدة كامد اللوز يعمدون الى ري مزروعاتهم بكلفة زهيدة على مدار العام لا تتجاوز السبعين الف ليرة لبنانية .
وفي المقابل، القرى والبلدات الواقعة في سفوح السلسلة الغربية لا تستفيد من هذا المشروع فهي تعتمد على مياه الينابيع المنسابة من الجبل وهذا ما يسبب في تراجع الزراعة وفي اهمال بعض المزارعين لأراضيهم ولاسيما في سنوات الجفاف .

بحيرة القرعون كما تبدو من الأقمار الصناعية
بحيرة القرعون كما تبدو من الأقمار الصناعية

توزّع الملكيات الزراعية
هناك تفاوت كبير في توزيع الاراضي الزراعية لكن أغلبية هذه الملكيات هي ملكيات فردية تتوزع على معظم سكان القرى المحاذية لمشروع الليطاني، لكن هناك نسبة قليلة من المزارعين اصحاب الحيازات الكبيرة التي تستثمر في الزراعة بشكل كبير ويعتبر المردود الزراعي الركيزة الأساسية في عيشهم في حين ان الشريحة الكبرى ممن يمتهنون الزراعة لا يعتمدون عليها بشكل كلي .
اللافت في بعض المزارعين الذين يمتلكون اراضي زراعية في القرى غير المشمولة بري المشروع يهملون اراضيهم ويذهبون لاستثمار الأراضي في المنطقة التي يشملها الري نظراً إلى الكلفة الزهيدة التي يدفعها المزارع .
ما هي المعوقات التي تعيق العمل الزراعي ؟
جابر: المشكلة الاساسية التي تعيق عمل المزارعين هي مشكلة التصريف والمنافسة من الخارج التي تدخل الاسواق المحلية بشكل عشوائي مما يدفع المزارعين الى بيع منتجاتهم الزراعية بسعر الكلفة في معظم الأحيان .
والمشكلة المستجدة اليوم هي مشكلة التصدير الى الدول العربية واغلاق المعابر مما يسبب في تلف بعض المحاصيل التي تأتي دفعة واحدة في زمنٍ قياسي ، كما رفعت من كلفة التبريد في البرادات الزراعية، اضافة الى ذلك هناك، ظاهرة التلوث التي أصبحت واقعاً لا مفرّ منه نتيجة العديد من مصادر التلوث التي تدخل مياه البحيرة وغياب اي رقابة من الدولة على ذلك مما يسبب في تلف المزروعات نتيجة الادوية والمبيدات السامة التي ترمى في مجرى النهر .
هل تستعمل هذه المياه في الاستعمال المنزلي او في الشفة ؟
جابر: إطلاقاً لا يمكن ان تستخدم هذه المياه للأغراض المنزلية وهي غير صالحة للشرب نظراً إلى ارتفاع نسبة التلوث وهذه الملوثات تسبب امراضاً خطيرة تؤدي الى الوفاة.
وفي النهاية لا يسعني القول إلا أن من يرنو الى البحيرة من بعيد يذهله منظرها الجذاب ومن يقترب منها ويطلع على المشاكل الصحية التي تعتريها يصبه الذهول .

مركز الخدمة والارشاد الزراعي في خربة قنفار
تمّ بناء هذا المشروع ضمن اطار مشروع IRWA الممول من الاتحاد الأوروبي ما بين العام 2003 والعام 2006 وهو يهدف الى توفير الإرشاد والدعم الفني للمزارعين في مشروع ري القاع الجنوبي .
يتضمن المشروع :
– حقل تجارب بمساحة 160 هكتاراً للقيام بتجارب الزراعة والري .
مختبر للتربة والمياه كامل التجهيز .
– محطة ارصاد جوية .
– حقل تجارب دون مستوى السد بمساحة 37 دونماً تتضمن 25 دونماً لزراعة الزيتون و12 دونماً لعنب المائدة الذي يتضمن 12 صنفاً.

الأهداف التي يتوخى المركز تحقيقها
أولاً: ترشيد المزارعين على استعمال التقنيات الحديثة في الزراعة والري عبر ندوات دورية وإنشاء حقول تجارب زراعية .
ثانياً: استقبال الباحثين والطلاب لإجراء الأبحاث العلمية.
ثالثاً: إجراء تجارب لإدخال زراعات جديدة .
يشهد المركز تعاوناً مثمراً مع المؤسسات والبرامج التابعة للقطاعين العام والخاص والأهلي بينها برنامج دعم إدارة حوض الليطاني وزارة الزراعة ، مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية والمعهد الزراعي العالي لدول حوض المتوسط ، كليات الزراعة في الجامعتين اللبنانية والعربية .

المزارع اسعد جابر
المزارع اسعد جابر

الواقع السياحي
على الرغم من جمال البحيرة ومن المنظر الأخاذ الذي تتمتع به إلا ان واقع التلوث الذي اصاب مياهها حرم أهل المنطقة من مورد مهم وهو مورد السياحة وإن وجد فهو بسيط وموسمي يقتصر على بعض الزوار الذين يأتون الى البحيرة لمشاهدتها فقط وهذا الدور تقوم به بعض المراكز السياحية الصغيرة التي تؤمن نقل من يرغب للقيام بجولة داخل البحيرة، اما المشاريع السياحية القريبة والمباشرة للبحيرة فهي شبه معدومة وهذه الظاهرة لا تقتصر على محيط بحيرة القرعون فقط لكنها تنعدم على طول مجرى الليطاني ولاسيما في منطقة المجرى الأعلى حيث تنتشر روائح النفايات الكريهة وتؤثر على الوضع الصحي لسكان المناطق المجاورة .

حكايات الامثال

قصص الأمثال

حكايات الفشارين والفاشلين

قسم كبير من الحكايات والأمثلة الشعبية يتناول المبالغات، فهؤلاء «الفشارين» أو «الفنّاصين» هم غالباً من البسطاء المهمشين الذين يسعون إلى شدّ انتباه الناس إليهم عبر رواية حكايات مفبركة تقوم على مبالغات مكشوفة فيظن هؤلاء أن الناس يصدقونها. وأكثر من يستمع الى هذه القصص يلعب اللعبة كما يقال فيتابع القصة وهو  يبدي دهشته من فصولها ويهزّ برأسه تصديقاً لكي يشجع الفناص على المزيد من دون أن يدري الأخير  أن الناس اجتمعت حوله لتستمتع بقصصه الخيالية وليست لأنها تصدق خبرياته المثيرة.
في جانب آخر تتناول حكايات الأمثال قصص التجار الفاشلين وهم غالباً يأتون إلى مهنة البيع والشراء دون خبرة ومنهم من تنقصه الفطنة فتنتهي تجارتهم إلى خباء وخسائر. وقصص التجارة الفاشلة مسلية ومفيدة لأنها جزء من الخبرة الجماعية وفيها حث على الفطنة وسخرية من الغباء في الأعمال.
في ما يلي بعض الحكايا التي تتناول حالتي المبالغة في الرواية والتجار الفاشلين:

(الضحى)

بدي إدحلها دحل

أصل هذه العبارة أن رجلاً معروفاً بالمبالغة أثناء حديثه عن مغامراته ومعاركه الوهمية أخذ ذات يوم يسرد ما جرى له في إحدى المعارك والغزوات فقال إنه أثناء هجومه في إحدى المعارك أصابت رصاصة إحدى قوائم فرسه، لكن الفرس لم تخذله، وتابعت الإغارة، لكن رصاصة ثانية أصابت قائمة أخرى من قوائم الفرس، واستمرت الفرس بالهجوم، ولم تخطء الرصاصة الثالثة قائمة الفرس الثالثة، لكن الفرس ظلت تقتحم المعركة كأن شيئاً لم يكن . وهنا تدخل أحد الحاضرين مستنكراً أن تستطيع الفرس بعد إصابة قوائمها الثلاث الاستمرار في السير، فكيف بها تعدو؟! . . وهنا قال الرجل لمحدثه : «أنا حر ! بدي إدحلها دحل» أي أنني سأجعلها تستمر في المعركة ولو زحفاً على بطنها.
وهناك حكاية مشابهة عن الفشارين رواها لي أحد الصيادين، والصيادون معروفون بتزويدهم في الأخبار . قال الصياد :
إن أحد الصيادين حدّث جلساءه عن نشاطه في الصيد، إذ عرض له في إحدى المرات رف من الحجل، ومعه بارودة خلع (بخرطوشتين) فصوب نحو ديك حجل فرماه . فما لبث أن عرض له ديك آخر، فبادر إلى رميه، فعرض له ثالث، وهكذا حتى اصطاد أربع أو خمس طرائد متتابعة . فصاح به أحد الجلساء :
ـ «دِكّها يا رجال دِكّها» أي حط بالبارودة خرطوش فهي بارودة خلع ومَنْها رشاش.

الله يضيّق على يلّلي بيضيق

ولدت هذه العبارة في معرض التهكم على حالات المبالغة الفجة، والعبارة معروفة ومنتشرة في أنحاء الجبل، وأصلها كما هو متداول أن رجلاً كان معروفاً بمبالغته الشديدة أثناء حديثه، وأراد ولده أن يحدّ من هذه المبالغة التي تجلب لوالده السخرية في المجالس واقتنع الوالد بأن هناك مشكلة فعلاً واقترح على ولده أن يتابع حديثه في المجالس حتى إذا شعر بأن والده بدأ يبالغ فتح أصابع كفه ثم ضمها.
وحدث أن جلس هذا الرجل يحدّث جلساءه عن مضافة بناها حديثاً، فقال :
ـ « يا غانمين ! طولها خمسين ذراع» .
ونظر بطرف عينه إلى ولده الجالس قبالته، فإذ به يفتح كفه ويضمها، إشارة إلى المبالغة في طول المضافة . فأردف الرجل بالقول (في محاولة لتصويب المبالغة في طول المضافة):
«وعرضها ذراعين» .
فتح الحاضرون أعينهم تعجباً واستغربوا كيف يمكن لأحد أن يبني مضافة بطول خمسين ذراعاً وبعرض ذراعين فقط!!!
بالطبع الولد أراد من والده أن يصحح طول الخلوة بحيث يبدو مقنعاً ولم يكن يقصد اختصار عرضها بهذا الشكل، أما الوالد الذي بوغت ارتبك ووقع في خطأ أشنع فقد شعر بالخجل لكنه أراد وسط ارتباكه أن يضع اللوم على ابنه الذي قطع حكايته وأوقعه في هذا التناقض الواضح فنظر إليه منزعجاً وقال:
«الله يضيِّق على يلّلي بيضيِّق «!!!

أم علي تقلع وبو علي يزلع

يضرب المرء بالذين لا يصبرون على تحضير الطعام بسبب جوعهم أو حبهم لطعام معين فيمضون يأكلون منه وهو قيد التحضير حتى لا يبقى منه شيء قبل أن يوضع الطعام على المائدة، وهذه علامة الطمع وعدم إظهار أي اهتمام بالآخرين. ويحدث ذلك في كل أصناف الطعام الذي يعدّ مباشرة مثل الشوي أو القلي أو الخبز أو غيره.
وتجمع الروايات المتداولة لهذا المثال على أصله وهو أنه في إحدى سنوات الجفاف والقحط استدان أبو علي، وهو رب إحدى الأسر، صاعاً من الطحين ليسدّ رمق عياله الذين أصابهم الجوع، وقامت زوجته بعجن الدقيق، ثم أخذت تخبزه ليلاً لتتحف الصغار به عند الصباح .
وكان زوجها أبو علي إلى جانبها بهدف «المساعدة» كان يساعدها في أثناء الخبز، فكانت كلما قلعت رغيفاً عن الصاج تناوله أبو علي، فليس لإشعال النار تحت الصاج، لكن كان هناك على ما يبدو لهدف آخر. وهو أنه ما أن يكون رغيف الخبز قد نضج وقلعته الزوجة من على الصاج حتى يكون قد تناوله وازدرده من دون أي عناء.فإذا نضج الرغيف التالي يكون مصيره كمصير الرغيف الذي سبقه. كان الرجل قد تمادى ونسي نفسه وهو يلتهم الرغيف بعد الرغيف وحانت من الزوجة التفاتة إلى معجن الخبز وهالها أنه كان ما زال فارغاً. نظرت إليه زوجته التي كانت تمني نفسها بتقديم الخبز لأطفالها، وقالت ساخرة :
ـ شو بو علي ؟! . أم علي تِقلع وبو علي يزلع ! وين حصة الاولاد؟!.
ففطن الرجل إلى أولاده وكف عن التهام الخبز، وذهبت عبارة المرأة مثلاً في الإشارة إلى من ينسى نفسه بسبب شراهته لأكل معين فلا يفكر بالآخرين. وهناك في لبنان صيغة طريفة مماثلة لهذا المثل ظهرت ربما بسبب حب الأولاد أو أهل البيت المفرط للبطاطا المقلية أو غيرها من المأكولات التي يتم تحضيرها وسط اجتماع الأسرة أوالعائلة مثل كعك العيد وصيغة المثل هي «أمّي طش طش وبيي لش لش» والتعبير الأول (طش طش) يسترجع صوت البطاطا عندما تلقى بالزيت الحار أما الشق الثاني (لِش لِش) فالمقصود به التهام الطعام المحضَّر لأن كلمة لَش تستخدم في العامية بمعنى التناول السريع للأكل أو إلتهامه.

باع بالقرد ومقرعته

عبارة تطلق في حالة بيع حاجة غير مرغوب فيها، يبيعها صاحبها بما تيسر، وبأردأ الأثمان . وإذا سئل بكم بعتها ؟ قال : « بعتها بالقرد ومقرعته» .
وحكاية هذه العبارة كما يرويها سلام الراسي عن فندي أبو سيف من لبنان : أن رجلاً من جبل لبنان هاجر إلى جبل حوران، حيث اشتغل عدة سنوات، عاد بعدها إلى قريته بجمل . ولم يكن اقتناء الجمل شائعاً في المناطق الجبلية في لبنان ذلك الزمان، فاجتمع أهل القرية حول الجمل يتفرجون، وأخذ الرجل يطري مزايا جمله :
ـ إنه يحمل ثلاثة أضعاف ما يحمله الحمار .
ـ يأكل الشوك، ويشرب مرة واحدة في الأسبوع .
ـ لا يحرن، ولا يرفس . ولا يقيقب ولا يعنفص .
ـ يستطيع الولد أن يجره إلى حيث أراد .
وأقبل من جملة المتفرجين زعيم كبير، يركب جواداً كريماً، ورأى وسمع، فترجل وتقدم، وعرض على صاحب الجمل مبادلته بفرسه الأصيل ، فرفض .
لكن صاحبنا هذا ـ صاحب الجمل ـ ما لبث أن فطن إلى أن باب بيته أوطى من ظهر الجمل، والذي سيعمل جمالاً عليه، أن يعلي باب داره . فالوقت شتاء، ويجب تأمين مبيت للجمل، ولا مناص من هدم أحد جدران البيت، وفتح باب عال، وفي ذلك الكثير من المشقات والتكاليف، فأرسل ابنه إلى صاحب الفرس يقول :
« الوالد راجع أفكاره، وقبل مداكشة الجمل بالفرس ».
فقال صاحب الفرس :
ـ وأنا راجعت أفكاري، وأريد أن أحتفظ بالفرس . لكن عندي هذا الكديش، لعل والدك يقبل مداكشته بالجمل .
فرفض صاحب الجمل، ثم ثبت عنده أن جمله لا يصلح للعمل في تلك المناطق الجبلية، لأن أقدامه لا تساعده على السير في المسالك الوعرة والطرق المتعرجة، وبالتالي لا خير فيه يرتجى، فأرسل ابنه مجدداً إلى صاحب الكديش يقول :
ـ الوالد راجع أفكاره وقبل مداكشة الجمل بالكديش .
فقال صاحب الكديش :
ـ وأنا راجعت أفكاري كذلك، ووجدت أنني ما زلت بحاجة إلى الكديش، لكن عندي هذا الجحش الكر، لعل والدك يقبل مداكشته بالجمل . فرفض صاحب الجمل هذا العرض .
ولم تمضِ فترة حتى شعر بأعباء مسؤولية الجمل، إذ عليه أن يرعاه في النهار، ويؤمن له عليقاً في المساء، فجرّ الرجل رجله، وذهب إلى صاحب الجحش قائلاً :
ـ أنا محسوبك، الجمل مقدم، باركلنا بالجحش .
فقال صاحب الجحش :
ـ لكني تذكرت المثل : « إذا جار عليك الزمان داكش فرسك بحمار» فتشاءمت، وخفت من جور الزمان، فدعني وشأني، وخذ جملك عني .
وهكذا لصق الجمل بذقن صاحبه، وبدأ أهل القرية يشمتون :
ـ يا بو مسعود ! عندي جدي أعرج . بتداكش ؟ .
ـ يا بو مسعود! عندي قرقة وشرشوحة . بتداكش ؟.
ـ يا بو مسعود ! عندي كلب جعاري ختيار، لا بيهش ولا بينش . بتداك؟.
ويا ويل من استوطي حائطه إذ أخذوا يقولون :
ـ أبو مسعود غاب وجاب .
ـ يا عمي بو مسعود ترقى، استكبر ونقّى .
ـ عليم الله ابو مسعود صار شيخ، بدو يعلي باب داره .
أخيراً قرر أبو مسعود أن يتخلص من الجمل بأية وسيلة ممكنة .
وحدث أن قدم إلى القرية رجل غريب « قراد» معه قردة يؤدي بعض الرقصات، ويقلد بعض الحركات . فيجمع الرجل بواسطته بعض المتاليك والبارات . فاستفرده صاحبنا، وعرض عليه مداكشة الجمل بالقرد ومقرعته التي يهوي بها عليه لإخافته كي يؤدي الحركة المطلوبة.
وهكذا باع صاحب الجمل جمله « بالقرد ومقرعته» . وغدت هذه البيعة مثلاً في البيعة الخسيسة.

تجارة المجدلاني

هذا المثل معروف في بلدة عرمان وما حولها . ويضرب في الرجل إذا أتجر فخسرت تجارته . وحكاية المثل ما زلت أتتردد على الألسنة عند كل خسارة تلحق أحد الناس جراء غفلة أو خطأ في الحساب.
والمجدلاني رجل فقير الحال، وفد إلى الجبل وكان يتعاطى تجارة العنب على حماره مقايضة، فحدث أن اشترى حمل العنب بمدِ من القمح (مد القمح يساوي بمعايير اليوم 20 كلغ)، وبعد بيع العنب بالمفرق تجّمع لديه ثلاث أرباعِ المد من القمح،.فاحتار لكنه لم يدرك خسارته وظن أن في طريقة حسابه خطأ ما إذ لا بد أنه وقد باع العنب كله أن يكون لديه فائض ربح. لكن لماذا القمح الذي حصله لا يزيد على ثلاثة أرباع المد؟ ذهب يستعين بمن هو أكثر خبرة منه قائلاً : ـ « احسب لي هالحسبة ؛ إذا قلنا: اشترينا حمل العنب بمد قمح، وبعناه بثلاث أرباع؛ قديش بنكون ربحنا؟

ان خوثوا ربعك عقلك ما بيكفيك

حكاية الرجل يتبع قومه على ضلال، لا قناعة منه بصحة ما يرون، وإنما لأنه أصبح وحيداً في موقفه .
وعلى ذمة سلام الراسي فإن حكاية هذا المثل تقول :
إن وجيهاً قروياٌ أرسل ابنه ليتعلم في المدينة، فانخرط الولد في إحدى الفرق الموسيقية، وأهمل دروسه، ولم يتعلم سوى التزمير بالمزمار .
وعاد الولد إلى قريته مع مزماره، فاقبل عليه الفتيان معجبين، ثم ما لبث أن كثر عدد الزائرين، فقال أبوه::
ـ تسوكر مستقبل الصبي يا أم حنا، الجايين لعنا أكثر من الرايحين، هيك تكون الوجاهة».
وأخذت حفلات المزمار تتكرر كل مساء، وتزايد عدد القادمين، فقلق بعض وجهاء القرية وبات لسان حالهم يقول: ـ «بو حنا بدّو يعمل وجيه على صوت المزمار، لازم نلحق حالنا ونجيب دربكة!! بكرة ما منعود نمون على ولادنا، إذا أخذوا كسرة على بيت بو حنا» .
وهبط في اليوم التالي أحدهم إلى المدينة واشترى دربكة . وبدأ في الحال تصريف الأعمال؛ فإذا هب هؤلاء إلى التزمير رد عليهم أولئك بالضرب على الدربكة .
ولم يمض سوى القليل من الوقت حتى انضم نصف أهل القرية إلى حزب الدربكة، والتحق النصف الآخر بفريق المزمار. ووأصبح شباب القرية الذين تقع عليهم مسؤوليات العمل والرزق مشغولين بالدربكة والتزمير وتعطلت مصالح القرية وتوقفت الأعمال.
رجل واحد احتفظ بعقله، وأبى الانخراط في أيٍ من الحزبين، وكان يسخر من قلة عقلهما وينعي توقف الأعمال وانقسام البلدة بين مدربك ومزمر. لكن بدل الاستماع إلى نصيحته فقد استحق الرجل غضب الفريقين ونبذه الناس وأعتبروه منحرف العقل وأصبحوا يتهجمون عليه: يا معنا، يا علينا .
واعتصم الرجل بحياده، لكنه عاش وحيداً منبوذاً، حتى خشي أن يموت مكسور الخاطر . وذات صباح شوهد الرجل يشد طبلاً على تارة غربال عتيق، فسالوه :
ـ «شو عدا ما بدا حتى قررت أن تصير طبالاً في آخر الزمان؟! ».
فقال لهم :
ـ « إن خوثوا ربعك عقلك ما بينفعك »
فجرى جوابه مثلاً

وصية الشاعر رشيد نخلة ويوم وطني حافل في الباروك

الشاعر والأديب رشيد نخلة
الشاعر والأديب رشيد نخلة

زارني رجل دين مثقف تغزر ذاكرته بالمآثر الشعبية من بلدة الباروك وقال لي:«لقد أعجبني كتابك «مآثر وعبر» فوددت أن أقدم مساهمة متواضعة في تدوين تراثنا المجيد وحفظ القيم التي تميّز قومنا، وأنا أتحدث عن واقعة كنت شاهداً عليها وهي حرية بأن تحفظ في خزانة الذاكرة وأوراق الزمن، قال:

« كنت أواخر طفولتي، عندما توفي ابن بلدتنا الشاعر الكبير رشيد بك نخلة، ذلك الشاعر الخالد بشعره ووطنيته. والواقع إذا استعرضنا تاريخ نشاطه الأدبي الشعري، نرى أنه كان يجمع الإثنين معاً، الشعر الفصيح والشعر الزجلي، وإن يكن بحق قد تربّع على عرش إمارة الشعر الزجلي الشعبي لأمد طويل..

ومما يذكره الشاعر رشيد نخلة في مذكّراته عن الشعر الزجلي، يقول إنه زار لبنان وسوريا سنة 1914 الشاعر الفرنسي الشهير (موريس بارس)، والتقاه في بلدته الباروك، فقال: « الآن عرفت ما كنت أجهله. أنتم جماعة الشعراء الشعبيين تعيشون في بيوت الناس وذاكرتهم اليومية، أما نحن فنعيش في كتبهم ومكتباتهم الأنيقة، فلا عجب أننا نرى أنكم أشدّ حرارة وأكثر شعبية منّا».

 وعند وفاة الرئيس حبيب باشا السعد، ثاني رئيس للجمهورية اللبنانية، أقيم له مأتمٌ حاشدٌ في بلدته عين تراز، أمّته وفود غفيرة من جميع المناطق اللبنانية، وكان من جملة تلك الوفود، وفد العرقوب (القرى المحيطة ببلدة الباروك)، تتقدمها بيارق القرى المتداولة آنذاك، وخلفها الشاعر الكبير رشيد نخلة، يحوطه رتل كبير من الشباب، يرددون الندب. وعند مثول الوفد أمام النعش، توقف الشاعر وقال:

لبنــــــــــــان لــويـــــــــــــــن مـــــــــــــــفارقــــــــهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا ولـميــن مدشّــــــر فيالقهـــــــا

ولأجلــك العرقــــــوب صــــارت تنكّـــــــس اليــــوم بيارقـهـــــــا

فنُكّسـت البيارق، وساد الصمت التزاماً بقول الشاعر.

أمّا عن حياته في بلدته الباروك ومنطقة الشوف، فيقول الشيخ المذكور أنّ الشاعر كان على أوثق الروابط مع جميع العائلات على اختلاف انتماءاتها ومعتقدها، ولا سيّما مع زعيمة دار المختارة آنذاك السيدة نظيرة جنبلاط كذلك مع مشايخ آل عماد وآل أبو علوان وسواهما، حتى أنه أوصى في وصيته الشهيرة قائلاً: «أرجو من رجال الكنيسة المحترمين أن لا يقيموا الصّلاة عن راحة نفسي إلاّ في الباحة العامة لبلدة الباروك» وقصده من ذلك أن يتمكّن الجميع من الحضور والمشاركة وأن يكون مأتمه احتفالاً وطنياً خصوصاً لأهل الباروك.

ويكمل الشيخ فيقول: «لم يزل أمام مخيلتي مشهد لا يبرح ذاكرتي وهو عندما وقف المطران أوغسطين بستاني أمام سطوح آل أبو علوان ونادى على الجميع قائلاً:

«بناء على وصية الفقيد الكبير، تحذير، تحذير!! يمنع منعاً باتاً حمل النعش إلاّ من قبل دروز الباروك فقط».

وهكذا تمكّن دروز الباروك من حمل نعش من حمل معهم.

شيخ النخوة والتواضع

إذا أردت شــــريـــــــــــــــــــف النــــــاس كلهـــــــــــــــــــم فانظر إلى عظيم في زي مسكين
ذاك الذي عظمت فـــــــــــــــــي الله نعمته وذاك يصــــلــــــــــــح للدنيـــــــــــــــــــــا وللـــديـــــــــــــــــــن
الشيخ حسين قيس، ذاك القاضي الشريف الذي امتدت ولايته القضائية المذهبية من عام 1911 إلى العام 1933 على المسلمين الموحدين من بلاد الجليل والكرمل جنوباً، إلى وادي التيم والجولان وغوطة الشام وإقليم البلان وحتى جبل السماق قرب حلب شمالاً .
كان الشيخ حسين قدوة في التواضع والمحبة والشفقة والرحمة وخصوصاً تجاه الفلاحين قاطني بلدته الماري، رغم علّو مكانته، والأدلة والأمثلة على ذلك عديدة. وإحدى الروايات عنه التي تبين سماحته وغيرته وتواضعه هي ما حصل عندما قرر أهل قريته الماري القيام بزيارة إلى مقام «السلطان إبراهيم» في الجولان، وكان قيام أهل القرية بهذا النوع من الزيارات الدينية مألوفاً في أواخر الصيف، بعد جني الغلال والمواسم، وكانت تتم عادة تلبية لدعوة من أحد أبناء القرية وذلك وفاءً لنذر، سواء كان عن مولود جديد، أم شفاء مريضٍ، أم وفرة محصول، وما أكثر المناسبات والأسباب التي كان الناس يتخذونها سبيلاً لشكر الله على نعمه التي لا تحصى. وكانت القرية تهب بكامل أبنائها إلى واجب الزيارة ولا يبقى فيها إلا من لا تسمح لهم ظروفهم بمجاراة الركب مثل الشيوخ العجز والمرضى والأطفال الصغار.
كان موكب الزيارة يمرّ في محلة «السبّان» يتقدمه الشباب والصبايا بالزغاريد والحداء والأغاني الحماسية، في تلك اللحظة تحمس بعض رعاة الماشية (وكانوا يسمون: «رعيان العجّال») للمشهد وكانوا مجتمعين في الحظائر المطلة على الموكب، وخطر في بالهم أن ينضموا إلى الموكب الاحتفالي، لذلك عمدوا عند غروب الشمس إلى إدخال الطروش (الماشية) إلى الزريبة، وإغلاق منافذها، ثم لحقوا بهم على وجه السرعة كي لا يفوتهم شيءٌ من بهجة الزيارة وروعتها (كالطرب والغناء، والدبكة، والطعام الشهي، وسوى ذلك).

كان من عادة الشيخ حسين قيس تفقّد قريته ليلاً، وقد بلغه من أحدهم أنّ «رعيان العجّال» قد تركوا الزريبة دون حراسة، ولحقوا بالزائرين.
إستهجن الشيخ تصرف الرعيان غير المسؤول لأن الماشية التي يهتمون بها كثيرة وتساوي مبالغ طائلة، والزرائب تقع في منطقة بعيدة ومعرضة للإعتداءات وعمليات السرقة، لذلك قرر أن يذهب بنفسه إلى موقع الزرائب وأن يتولى الحراسة الليلية بنفسه متأبطاً سلاحه، وقد خشي أن يؤدي ترك الماشية دون حراسة إلى تسلل اللصوص وأخذها كلها غنيمة سهلة.
بالطبع كان وقع المفاجأة صادماً على الرعيان عندما عادوا مع ساعات الفجر ليجدوا الشيح حسين ساهراً على سلاحه حماية للزرائب التي أهملوا حمايتها سعياً وراء بعض التسلية، وأدرك هؤلاء سوء تصرفهم وخجلوا كثيراً، إذ وجدوا أنهم حرموا الشيخ من الموكب ومن نوم الليل بسبب قرارهم الطائش وكان خجلهم لدرجة أنهم حاولوا أن يتواروا عن نظر الشيخ وهم في حيرة كيف سيشرحون له ويعتذرون منه. لكن الشيخ ناداهم وطيّب خاطرهم بكل حبور وسرور بالقول: «هل انبسطتم وسررتم يا أبنائي في سهرتكم، سامحكم الله، والشباب لا تُلام، وإن كان من واجبكم، على الأقل، إعلامنا بذلك».
عندما توفي الشيخ حسين قيس عام 1933، أقيم له أسبوع الأربعين في بلدته حاصبيا، وفي الباحة المعروفة بإسم آل قيس قرب منزله.
وقد حضرت الوفود الغفيرة من شتى المناطق، وخصوصاً من الشوف وجبل العرب والجولان والجليل ووادي التيم بأكمله. وكان في مقدم الحضور وزير الدفاع السوري آنذاك عبد الغفار باشا الأطرش، والمستشار الفرنسي في الجنوب يرافقه قائمقام مرجعيون وضباط الدرك.
أثناء الإحتفال قُلّد نجله الشيخ نجيب قيس عباءة القضاء المذهبي، إذ كانت العادة آنذاك توارث المناصب في العائلة .
وبناءً على طلب الشيخ توفيق غبار، رثاه الأديب والشاعر سلام الراسي بقصيدة عصماء أشاد بها بالمتوفي وبنضال بني معروف في الدفاع عن الحرية والكرامة ضد المستعمر، مما أغضب المستشار الفرنسي فأوعز إلى ضابط الدرك باعتقال الخطيب. ويبدو أن أحد المشايخ تناهى إلى سمعه كلام المستشار فسارع إلى مغادرة المكان مصطحباً سلام الراسي إلى منزله وأخفاه عن عيون السلطة.

ومما قاله الشاعر في قصيدته يومذاك:
أحاصبيــا والخطــب الأليـــــم مصــــــــــــــــــــــــــدعٌ أصـــــــــــــاب التقــى عمــداً فـــــــــــــــــــهـــو عمـــــوده
إذا جرحـــت بــــــــــــــــالحزن صـدرك طعنـــةُ فقـد مزّقـــــت في المرج حـــــــــــــــــــزنــاً كبــــــــــــــــــــــده
بكـيتم بنــي معـــــــــــــــــــروف رشــدكمُ كمـــــــــــــــــــــا بكــى التّيــــم بـــــــــــــــــــالدّمــع السّخـــي عمــــيده
بكيـتم وأحــرى أن تصونــوا دموعكــم فمـــــا مـــــــــــــــــــــات فـي ذلّ يســرُّ حســــــــــــــــــــــــــوده
فـــــــــــــــــــللســيف فـي كــــــــــــــــــــفّ الحســين تعهــــــد علـى الفتــك حاشـــا أن يخـــون عـهوده
وللــوطــــــــــــــــــــن المفـــــــــــــــــــــــدّى حــــــبّ بـــــــــــــــــــقلبـــــــــــــــه تمـــــــــــــــــــلّــكــه حــتــــــــــــــــــــــــــــــــــى استــــــفـــــــــــــــــــزّ قــــــــــــــــــــعــــــــــــوده
خــذيــــــــــــــــــه رثـــــــــــــــــــــاءً من فــــــــــــــــــــــؤادٍ مســــــــــعَّـــــــــــــــــــرٍ بنـــار الأســـى تُذكـــي الـــــــــــــــــــدمـوع وقـــوده

بئس الجد ونِعـمَ الأب

نعم الأب بئس الجد
نعم الأب بئس الجد

وأول مــــــــــــــــا ســــاق المودة بيننــــــــــــــــــــــا بــــــــــــــــــــــــــــــــوادي بغيـض يــــــــــــــــــا بثينـــة ســـبـــــــــــــــــــــــــــــــــــاب
وقالـت لـنا قولاً أجبنا بمثلـــــــــــــــــــــــــه لكـــــــــــــــــل مقــــــــــــــــــال يــــــــــــــــا بثينـــة جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــواب

كان من عادة الخليفة أبو جعفر المنصور ووزيره البرمكي تفقد أحوال عاصمته بغداد من وقت إلى آخر. وأثناء إحدى تلك الجولات دخلا مطحنة في المدينة، فوجدا صاحبها البراك منهمكاً بعمله. رحّب بهما وأجلّ قدومهما عليه وكأنها نعمة سماوية قد حلّت به.
حان وقت الصلاة أثناء وجودهم هنالك فنهضوا جميعاً لتأديتها، وبعد الفراغ منها سأل الخليفة البرّاك :
هل أنت حافظٌ للقرآن الكريم؟
أجابه : لا يا سيدي ..!
حتى ولا قسماً منه؟
أيضاً لا، فأنا أميّ ولا أحسن القراءة..
غضب الخليفة لما اعتبره تقصيراً لا يغتفر فأمر باعتقال البرّاك وإيداعه السجن.
تابع جولته مع وزيره نحو المدينة، فمرّا بمدرسة صغيرة فوجدا أحد تلامذتها منزوياً إلى جانب الملعب وهو يقرأ القرآن بصوتٍ عالٍ وغير مبالٍ بلهو أترابه.
ناداه الخليفة وسأله: في أي سورة تقرأ يا بني؟
أجاب الولد بعد أن علم أن سائله هو الخليفة بذاته: أقرأً في سورة مولاي الأصغر.
قال الملك: لكن هذه السورة غير موجودة!
قال الولد: صحيح لكن النظر إلى صورتك الكريمة يا مولاي الأصغر يساعدنا على قراءة وفهم آية مولانا الأكبر ( الله تعالى). سُرّ الخليفة أيّما سرور لهذه الإجابة الذكية فأمر أن يُعطيه قسماً من المال الذي بحوزته وخاطب الصبي قائلاً: أعطِ هذا المال لوالديك..
تفحّص الولد المال فوجده قليلاً، رفع نظره نحو الخليفة وقال: مولاي، إن والدتي ستقول: هذا ليس عطاء الخلفاء فشكراً لك.
إندهش الخليفة لجسارة الولد فأمر الوزير بإعطائه كل ما يحمل من دراهم. آنذاك تبسّم الصبي لهذا العطاء وقال: حقاً هكذا تكون عطاءات الخلفاء، أدام الله عزكم وأطال عمركم..
إغتاظ الوزير مما اعتبره تساهلاً من الخليفة وإكراماً لا مبرر له للصبي، وضمر في ذاته استرجاع كل المال الذي انتهى إليه بسبب كرم الخليفة المنصور وإعجابه بكلامه. ثم أسرّ في أذن سيده الخليفة قائلاً : مولاي هذا الولد محتالٌ ويأخذ أموالنا وعمره لا يتجاوز الخمس عشرة سنة فهذا لا يجوز مطلقاً..
أجاب الخليفة : إنه ولد خارق الذكاء ويستحق هذا الإكرام.
قال الوزير: لا تغضب مولاي، سأحاول إسترجاعها كما احتال علينا. ثم نظر نحو الصبي وقال: هل صدّقت أن الخليفة قد أعطاك كل هذا المال؟
أجاب الولد: نعم قد صدّقت، ومتى كان الخلفاء يستردّون نعمة أنعموا بها؟؟ ثم ألا تعلم أن الصدقة لا يجوز لمن تلقاها أن يردّها أو يرفضها؟ ورغم ذلك إذا وجدتها كثيرة علينا فنحن على استعداد لإعادتها شرط أن تستجيب لطلب واحد منا لا غير.
هلّل الوزير في ذاته وقال : أطلب ما تريد أيها الولد.
قال الولد: أريد منك فقط أن تقلّد صوت الحمار ثلاث مرات حتى يسمعك رفاقي في الملعب، وكان في ظن الولد أن طلبه سيحرج الوزير فيرفض تنفيذه، لكن الوزير كان قد أحس بقدر كبير من الحسد للولد بحيث لم يمانع في تنفيذ طلبه طمعاً في استرداد المال الذي أنعم به الخليفة المنصور عليه. لذلك استجمع الوزير قواه ونفخ صدره ثم انطلق بصوت منكر يقلّد الحمار وكرر ذلك ثلاث مرات على مسمع من الخليفة ومن الجمهور الذي كان قد اجتمع لمتابعة المشهد.
ضحك الصبي ضحكاً حمل الكثير من الهزء بالوزير الأحمق ثم ناوله المال بعد أن حوّل بنظره نحو الخليفة وقال: نعم الخليفة من كان وزيره يتقن صوت الحمير!!
إستشاط الخليفة غضباً من تصرف وزيره ثم أمره بردّ المال قائلاً: تستحق هذه الإهانة من ولد بهذا العمر بسبب حسدك وطيشك.
أخذ الولد المال من جديد إلى بيته ثم ناوله لأمه، ولكنها رفضت أن تأخذ المال قائلة: عُد إلى الخليفة وقل له: نحن لسنا في حاجة إلى دراهمك بل في حاجة لإخراج والدنا من السجن وهو الذي يعيلنا ويجني لنا قوتنا وأنت سجنته من دون ذنب اقترفه..
ولما عاد الولد بالمال إلى الخليفة إستغرب الأخير، لكن الولد أخبره بقصة والده السجين في زنزانات المنصور دون ذنب اقترفه. سأل المنصور الولد: هل برّاك المطحنة حقاً والدك؟ أجاب الصبي: نعم إنه والدي وليس لنا من معيل سواه.
قال الخليفة : نعم الإبن وبئس الأب..
أجاب الصبي: نعم الأب وبئس الجد..
قال الخليفة : كيف هذا؟
قال الصبي : لأن جدّي لم يعلّم أبي، أما أبي فقد علّمني.
فرح الخليفة لهذه الإجابة الذكيّة مجدداً من قبل الصبي وأمر جنده بإخراج الوالد من السجن في الحال ثم عاد الولد مع والده ومع الدراهم إلى البيت.

آمن بالحجر تبرأ

كان الأقدمون يعظون دوماً بأن على المرء أن يسلّم أمره لله وحده. فهو الباري من كل زلّة، والشافي من كل علّة. وكانوا في الوقت نفسه يجيزون التقرب من المولى بشفاعات الأنبياء والأولياء ثم انتشرت عادة النذور يقطع المرء على نفسه القيام بعمل لوجه الله تعالى في ما لو أنعم عليه بمال أو رزق أو شفاء مريض أو إنجاب ولد بعد طول انقطاع الخ.. وأخيراً دخل في اعتقاد اناس أنه من الممكن الحصول على شيء أو دفع بلاء معين من خلال تعليق «حجاب» يكتبه أحد الشيوخ أو الروحانيون. وكلمة حجاب مستقاة من «حجب» أي «أخفى» فهي تحجب حامله عن الشر الذي ربما ألحق به من دون تلك التعويذة. وعادة كانت الحجابات تكتب في المزارات تبركاً بالمقيم في الحجرة، لكن توسّع العمل بها إلى أناس يعتبرون أن للكلمات المعينة التي قد تستقى من الآيات القرآنية أو الأدعية أحياناً قوة الشفاء والله أعلم. وفي الكثير من الحالات يبرأ الإنسان من المرض بفضل الله تعالى فيردّ الشفاء إلى حجاب من هنا أو هناك لكن في الكثير من الحالات يكون إيمان طالب الشفاعة وصدق نيته سبباً في الشفاء لأن الله يريد أن يقدم العبرة لعباده بأنه لا يخيب رجاء سائليه وأنه هو المبتلي بالمرض وهو من ينعم بالشفاء وكل ما على الإنسان هو أن يؤمن حقاً بذلك وأن يلجأ إلى الله بصفاء النية والقصد.
المعّاز علي حسين من بلدة قليا، إحدى قرى البقاع الغربي، أصاب قطيعه مرض الحمى القلاعية، فلم يبق إلا على القليل من ماعزه. وقد احتار هذا الرجل البسيط في الأمر لكنه قرر أن ينذر لبعض المقامات الدينية القريبة من بلدته، بالإضافة إلى مداواة القطيع أو ما تبقى منه بالأدوية النافعة لذلك. لكن رغم كل تلك الجهود بقيَ هذا المرض يفتك بقطيعه رأساً خلف رأس.
وفي يوم ناداه راعٍ آخر من القاطع المقابل له قائلاً : « يا أخي أبو حسين إذا لم يزل المرض يهاجم قطيعك، فما لك إلا أن تقصد الشيخ سلمان في بلدة السريرة كي يكتب لك حجاباً تعلّقه في رقبة الكرّاز، وقد شفى العديد من الحالات المشابهة لمرض عنزاتك».
حقيقة الأمر أن مقصد الراعي لم يكن بريئاً بل كان على سبيل الهزء والغش للراعي لأن «الشيخ» المقصود لم يكن شيخاً ولا كاتب حجابات بل رجلاً من العامة يدعى السيد سلمان الذي قضى القسم الأكبر من حياته في المهجر ولم يكن لتاريخه قد التزم بفروض الدين، لكنه كان في الحقيقة يتميز بالصفات الحميدة، أخلاقاً وكرماً، وقدوة في المعاملة بين أبناء قريته. وفوق هذا، حباه الله بروح النكتة، ودماثة الخلق. لذا طاب معشره، وكثر أصحابه.
لم يكن في علم المعّاز علي حسين أن «الشيخ سلمان» يكتب الحجابات لكنه قال في نفسه: ما الضرر في اللجوء إليه لعل الله يأتي بالشفاء على يده. بالفعل جاء إليه طالباً منه أن يكتب له حجاباً كي يعلّقه في رأس الكراز لعل ذلك يحمل الشفاء بإذن الله إلى القطيع.
تفرّس السيد سلمان بزائره، ثم سأله عن مرسله، وبعد أن تيقّن من هوية الرجل نهض إلى غرفة جانبية وكتب حجاباً، ثم طوى الورقة بشكل مثلث بعد أن صمّغ أطرافها بالشمع كي لا تفتح ثم ناولها للمعّاز قائلاً : « هذا طلبك، والله تعالى الشافي والمعافي من كل علّة».
تتعاقب الفصول حتى قدوم عيد الصليب، أواخر الصيف. فهذا الموعد هو الثابت والدائم عند القرويين لسداد الديون، ووفاء النذور، ونحر المعاليف وإلى ما هنالك من الأمور التي تتمم دورة الحياة الإجتماعية. وإذا بالمعّاز علي حسين يطرق باب «الشيخ سلمان» وهو يجرّ كرّاز ماعز كبيراً يقدمه له على سبيل الهدية موضحاً أنه وبفضل الحجاب الذي كتبه له قد شفي قطيعه بأكمله، وعوّض الله علينا بالعديد من تعداده».
ذُهل «الشيخ سلمان» من كلام المعّاز، وأفتر ثغره عن ابتسامة ماكرة. ولكن، وهو المشهود له بالصراحة والصدق، تجرأ وقال: «يا صاحبي، سأصارحك القول»:
هل تعلم ماذا كتبت في الحجاب الذي أعطيتك إياه؟
أجابه المعاز : لا، ولكن لي نيتي واتكالي على الله ولي أيضاً نيتك وليس أكثر.
قال السيد سلمان : لقد غلبتني وغلبت الذي أرسلك. والله تعالى استجاب لنيتك وإخلاصك في الطلب منه وليس لطهارتنا أو بركاتنا، كما قد تظن، لقد كتبت في الحجاب «ما زال باقي من عنزات علي في السيري فعزرائيل يقضي على الكبيري والزغيري».
ولكن كما قلت يا صاحبي، نيّتك الصافية وصدقك مع خالقك هو الذي جعل الله تعالى يمنّ بالشفاء على عنزاتك لأن الله أراد أن يجعل من المستهزئ بك ومني عبرة وأن يؤكد صحة القول الكريم: « إنما الأعمال بالنيّات».
أجاب المعّاز بالبساطة التي تميّز شخصيته: ما أعلمه أن الله من عليّ بشفاء ماعزي وكانت نيتي أن أوفيك نذري إذا حصل الشفاء وها أنذا أقدم لك هذا الكرّاز فهو حلال لك ولعائلتك.
«الشيخ سلمان» الذي راق له هذا اللقب في ذاته، وقف محتاراً شارد الفكر بعبرة المعاز علي حسين الذي «غلبه» بصفاء نيته لأن «الشيخ سلمان» غير مقتنع بالحجابات ولم يتخذها صنعة بل هو يهزأ ممنّ يعتقد بها وأراد لذلك أن يثبت اعتقاده بمزحة لم تكن لبقة بقدر ما كان فيها سماجة وقلة احترام. لكن الله تعالى سخر من هزء «الشيخ سلمان» وتقبـَّل نية المعاز الصادقة وأثابه عليها. وهذا مغزى القول المعروف: «آمن بالحجر تبرأ».

المؤرخ حسن البعيني

غلاف الكتاب

غلاف كتاب الدكتور البعيني

ندوة تناقش كتاب المؤرخ حسن البعيني
حول مشيخة عقل الموحدين الدروز

د. رياض غنام: هل يمكن الإستغناء عن تسمية «الدروز»؟
د. محمد شيا: عالم مؤرخ مدقق وقد نجح في مهمته
رامي الريس: عمل بحثي شامل أول من نوعه

كتاب الدكتور المؤرخ حسن أمين البعيني «مشيخة عقل الموحّدين (الدروز) في لبنان وسوريا وفلسطين» يدخل المكتبة العربية كأول بحث موضوعي شامل موسّع عن الرئاسة الروحية للموحّدين (الدروز) منذ نشوئها وحتى اليوم. وقد بذل الدكتور البعيني في وضع كتابه الجديد جهوداً بحثية ومستفيداً من اطلاعه الواسع على المراجع التاريخية ومن خبرته المباشرة في تاريخ الموحدين الدروز ليضع توثيقاً كاملاً لتطور فكرة الرئاسة الروحية والأدوار المهمة التي لعبها كبار مشاريخ الموحدين الدروز عبر الزمن. وقد عالج الدكتور البعيني موضوعه بتفصيل شمل تطور المشيخة في كل من لبنان وسوريا وفلسطين والحقبات التاريخية المختلفة التي مرت بها وتطور تسمياتها وأدوارها وعلاقاتها وتأثرها بالتطورات السياسية وأحياناً بالإنقسامات داخل مجتمع الموحدين الدروز.
من أجل تسليط الضوء على الكتاب وتثمين الإضافة التي يقدمها في توثيق تاريخ الموحدين الدروز أقيمت في المكتبة الوطنية – بعقلين بتاريخ 20 حزيران 2015، ندوة حوارية شارك فيها إلى جانب المؤلف كل من الدكتور رياض حسين غنّام، والدكتور محمد شيّا، والأستاذ رامي الريّس، وقدمها الأستاذ غازي صعب، وغصّت القاعة العامة في المكتبة الوطنية بحضور غفير من الدارسين والمهتمين.
بعد تقديم مدير المكتبة الوطنية الأستاذ غازي صعب للمؤلف والمتحدثين بدأ الدكتور رياض حسن غنّام الحديث بالقول إن:«كتاب الدكتور حسن البعيني جاء ليلقي الضوء على موضوع تجنّب الغوص فيه الكثير من الباحثين في العقيدة وأسس المذهب، وهو لم يقدم على ولوج هذا المسلك العسر لولا تمكّنه المعمّق وقدرته على التحليل والإستنتاج، فتطرّق ولو إقتضاباً لناحية نشوء المذهب، والخصوصية التي يتسم بها». وأضاف الدكتور غنام القول: «إن كتاب الدكتور حسن البعيني لا شك يسد ثلمة في تاريخ مشيخة عقل الطائفة الدرزية، خصوصاً وأنه جاء نتيجة جهد مؤرخ تمرّس في كتابة تاريخ تلك الطائفة فدوّن بطولاتها وأيامها وملاحمها ومواقفها الوطنية، من الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش، مروراً بدروز جبل العرب في خلال فترة الإنتداب الفرنسي كما دوّن عادات الدروز وتقاليدهم في أكثر من كتاب.
لكن الدكتور غنام توقّف عند موضوع تسمية الموحدين الدروز واقتراح البعض التخلص من تسمية الدروز فقال:«لست أدري إن كان التخلي عن إسم الدروز سيتم بتلك البساطة، وإن تاريخ أمة وتراث شعب سنغير إسمه بتلك السهولة والبساطة، فالدروز عبر تاريخهم ليسوا مصطلحاً يمكن تبديله أو مواقف يمكن تسطيحها، وما الفائدة من الحاضر والمستقبل إذا غيّرنا الماضي وقطعنا كل صلة به، فماذا نعمل بتراث الدروز والمؤلفات التي دونوها والشهادات التي قيلت فيهم شعراً ونثراً، والبطولات التي سطّروها واقترنت بتاريخهم وتراثهم المجيد».
وختم بالقول: إن كتاب الدكتور حسن البعيني هو بمثابة الحجر الأساس في تاريخ مشيخة العقل وتطورها، وهو إنجاز فريد تناوله المؤلف جامعاً شاملاً، لم أجد في قراءته ثغرة تتعلق بالكاتب، وإن وجدت إشكالات تتعلق بالمسؤولين عن الطائفة، كونهم عمادها وأصحاب الحل والربط فيها. وسيبقى كتاب الدكتور حسن البعيني مرجعاً متميزاً بدقته وحرفية بنائه وصياغة افكاره التي قرن بها سلوكية إجتماعية وصدقية إنسانية، آملاً أن أناديه في القريب العاجل الشيخ الدكتور حسن البعيني، وهو لا ينقصه من كل ذلك إلا الجبة والعمة.
الدكتور محمد شيّا
الدكتور محمد شيّا بدأ مداخلته بالثناء على الكاتب وتأكيد أهمية الكتاب فقال: «بصراحة، ومن دون إطراء مبالغ فيه، قبل كتاب الدكتور حسن البعيني لم تكن عندي فكرة شاملة كافية وافية عن تاريخ مشيخة العقل في لبنان، فكيف بسوريا وفلسطين! هذا يكفي للدلالة على الجهد الإستثنائي الذي بذله المؤلف في تقميش مادة هذا الكتاب الغني. وأضاف:« سهل الكلام منا عن هذا الكتاب، لكن الصعوبة هي في إعداد مادة هذا الكتاب والتدقيق فيها ومقارنتها وتحمّل مسؤوليتها، وهو مطلب قصر عنه الكثيرون، في حدود علمي على الأقل».
وأضاف الدكتور شيّا القول: «يلفتك في الكتاب إتساع الحقبة الزمنية، شمول المادة، التفاصيل، التصنيف، الوضوح، التدقيق، ثم الجذور التي حاول المؤلف الوصول اليها: الجذور المؤسسة لمقام مشيخة العقل، بل وبحثه في الأزمات التي انتابت المشيخة في أحيان عدة».
ولفت إلى أن «هذا كتاب يغلب عليه التّاريخ، وليس التحليل، بل لا يتسع للتحليل. لذا كان جل إهتمام المؤلف القيام بوظيفة المؤرخ العالم المدقق، وقد نجح في مهمته تلك أيما نجاح».
وختم الدكتور شيّا بالقول: «لا حاجة لأن أختم بالقول إن الدكتور حسن البعيني في كتابه الجديد «مشيخة عقل الموحدين» كما في كتبه العلمية السابقة، كما في مقالاته في غير دورية ومكان، كان يقدّم دائماً المطلوب تقديمه، الذي لا يستغنى عنه، في أفضل صيغة علميّة موضوعيّة وبأعلى حس من الإلتزام الوطني والعروبي والإسلامي. مبروك مبروك للدكتور حسن البعيني كتابه الذي سيملأ بالتأكيد فراغاً في مكتباتنا. أمدّه الله بالصحة والقوة ليستمر معيناً لا ينضب في المعرفة والعلم والبحث والتنقيب على حس وإلتزام أخلاقيين من مستوى رفيع».
رامي الريس
ثم تحدّث الأستاذ رامي الريِّس مفوض الإعلام في الحزب التقدمي الاشتراكي فقال: «تشاء الصدف أن نناقش اليوم هذا الكتاب القيم حول مشيخة العقل للموحدين الدروز في لحظة يعيش فيها أبناء هذه الطائفة المعروفية العربية منعطفات هامة تتصل بالأرض والوجود والهوية وتتطلب أكثر من أي وقتٍ مضى ما يتطلب التحلي بروح المسؤولية العالية درءاً للفتنة».
وأشار الريِّس إلى ارتباط موقع مشيخة العقل لدى الموحدين الدروز بأهمية العقل نفسه مستعيناً بتعريف المعلم الشهيد كمال جنبلاط للتوحيد باعتباره «نهج العقل والقلب» لأن الشعور (أي القلب) يطلب التوحيد والوحدة، والعقل يطلب أيضاً التوحيد والوحدة: وحدة التفسير، ووحدة عقل جميع مظاهر الكون».
ونوّه الريِّس بحجم الجهد الذي بذله المؤلف بالقول:« كرّس الدكتور حسن البعيني الكثير من وقته وجهده لإتمام هذا العمل البحثي الأول من نوعه في ما يتعلق بمشيخة العقل وتاريخها وتطورها ودورها في كل من لبنان وسوريا وفلسطين، وهو يتنقّل، أي الكاتب، بالقارىء في عددٍ واسع من المواضيع مستهلاً كتابه بالمراحل الأولى للدعوة ثم أفرد فصلاً كاملاً للمشيخة في لبنان حتى أواسط القرن الثامن عشر معدداً حقبات الشيوخ الذين تولوا زمام الأمر ومن ثم انتقل إلى المراحل التي كانت فيها مشيخة العقل ثنائية وثلاثية وصوﻻً إلى المشيخة في سوريا وفلسطين».
وختم الريِّس بالقول: «إذا كان من عبرة نستخلصها من هذا الكتاب، فهي أنه آن الأوان لتتوحد الكلمة وترصّ الصفوف مع الحفاظ على التنوع والتعددية، فهذا لا يتناقض مع ذاك. إن تغليب الفكر المؤسساتي هو أكثر ما تحتاجه هذه الطائفة التي قد يرى البعض أنها تملك فائضاً من العنفوان، وهذا صحيح، ولكنها تملك أيضاً فائضاً من العقلانية والفلسفة التوحيدية وتكرّس إهتماماً كبيراً بالعقل».
الدكتور حسن البعيني شكر المساهمين في الندوة مؤكداً أنه لم يكتب عن الموحِّدين من منطلقٍ فئوي، بل من منطلق أكاديمي، لأن تاريخهم جزء من التاريخ العام ومكمّل له، ولأنه جزءٌ من التاريخ العربي والإسلامي في بلاد الشام ، ولأن هناك ما لا يُحصى من المواضيع عنهم، تستأهل البحث، ومنها مشيخة العقل أو رئاستهم الدينية وهي لم تُبحث من قبل إلا على نطاق جزئي ومحدود لحساسية بعض نواحيها، ولقلة مراجعها، ولضبابية الأزمنة القديمة، لذا عمدت إلى الكتابة عنها في بحثٍ شامل ومستفيض.

محطات في ذاكرة وطن1

العميد عصام أبو زكي ينشر مذكرات حساسة وأسراراً

تسجيل على شيء من التفصيل للمحنة اللبنانية ومراحــلها من منظار ضابط أمن واســـع الإطلاع

كتب كثيرون عن الحرب اللبنانية التي امتدت بين جولات وهدنات ما بين العامين 1975 و1989، وقد تخلل ذلك عدوان إسرائيلي غاشم وموجات اغتيال لقيادات البلد وشخصياته السياسية والدينية والإعلامية، لكن رغم ما تعرّض له البلد من أهوال فقد اتسمت الكتابات التي حاولت التأريخ لتلك المرحلة السوداء غالباً بالهوى السياسي وبغلبة الكلام السياسي ولغة الإتهام للآخر، لذلك، فإن القليل من تلك المؤلفات يساعد على تكوين فكرة حقيقية عما حدث وعن خفايا اللعبة وأهداف وأساليب اللاعبين.
على العكس من ذلك، فإن العميد عصام أبو زكي يقدّم في كتابه «محطات في ذاكرة وطن» رواية مختلفة لأنها رواية رجل أمن لما كان يشهده يومياً أو يحقق فيه من حوادث وتمردات وأعمال إجرامية، وهذه الوقائع كما يرويها هي أحداث ناطقة لا تحتاج إلى الكثير من التحليل ويكفي الإطلاع عليها كما هي لفهم الكثير مما كان يجري. لهذا السبب، فإن كتاب «محطات في ذاكرة وطن» يمكن اعتباره أول تسجيل على شيء من التفصيل للمحنة اللبنانية أو على الأقل بداياتها وإرهاصاتها من منظار ضابط أمن واسع الاطلاع واتيح له بسبب موقعه وحصافته أن يربط الكثير من الخيوط وأن يتأكد بنفسه من أن الكثير من الأحداث التي ظهرت معزولة أو عفوية إنما كانت في الحقيقة فصولاً متلاحقة في سيناريو محكم.
الكتاب يعرض بأسلوب مشوق لمشاهدات وأحداث مصيرية رافقت خدمة العميد أبو زكي الطويلة في السلك الأمني في مرحلة زمنية تمتد من مطلع الستينات حتى نهاية التسعينات من القرن المنصرم، لكن العميد أبو زكي كما يقرّ لم ينشر كل ما يعرفه وهو ربما من أكثر الناس إطلاعاً لكنه آثر أن يبقي الكثير من الأمور والوقائع في خزانة معتمة مبرراً ذلك بالحرص على عدم نكء الجراح والإعتراف بأن الكثير مما مضى قد مضى، وهو يقول إن همّه في الكتاب ليست الروايات المثيرة بل مساعدة الأجيال التي لم تعش تلك الفترة المصيرية على فهم خلفيات ما حصل، ولأنه عندما يفهم اللبنانيون ما حصل سيجدون الأعذار لبعضهم بعضاً ويدركون أن الجميع كانوا دون علم منهم لاعبين صغاراً في «لعبة أمم» أكبر من الجميع.
شاء القدر أن تتزامن خدمة العميد أبو زكي ومسؤولياته الأمنية مع جميع مراحل الحرب الأهلية حتى ما بعد انتهائها وحلول السلم الأهلي وقيام حكومة مركزية بموجب وثيقة الوفاق الوطني – «اتفاق الطائف»، وقد وضعته تلك الأحداث في مواقع أتاحت له الإطلاع على خفايا ما يجري كما تسببت بتكليفه بأدوار أمنية وسياسية سواء خلال عمله مع المعلم كمال جنبلاط أم في مرحلة العمل مع وليد بك جنبلاط أم في قيادته للشرطة القضائية. ومن أهم علامات نجاح العميد أبو زكي الثقة الكبيرة التي تمتع بها لدى أوساط الإنتربول والقيادات الأمنية الدولية وأدت إلى تزويده بمعلومات ثمينة عزّزت فعالية القوى الأمنية اللبنانية في مجال مكافحة الجريمة المنظمة وكانت وراء تحقيق الأجهزة الأمنية لنجاحات غير مسبوقة في هذا المجال، وكما نعلم فإن القوى الأمنية الدولية قليلاً ما تضع ثقتها في أجهزة حفظ الأمن في بعض الدول النامية بسبب ما يعرف عن فساد تلك الأجهزة وبالتالي احتمال تسريب المعلومات أو تفاصيل العمليات الحساسة التي قد تكون قيد التحضير من قبل الإنتربول إلى المجرمين أنفسهم. وكان عصام أبو زكي أحد الضباط القلائل الذين طلب منهم المشاركة في اجتماعات دولية في قبرص أو في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية هدفها تبادل المعلومات السرية والتعاون في مكافحة الجريمة على أنواعها.
شكّل نجاحه الشهير في القضاء على «دولة المطلوبين» في طرابلس، ثم اقتياده لأحد زعماء ميليشيات المدينة مكبلاً عنواناً لجسارة تصل غالباً إلى حد المخاطرة ودهاء أمنياً تميّز به على الدوام، وقد كان عصام أبو زكي بسبب حدسه الأمني أحد أنجح المحققين الأمنيين وتمكن من كشف قضايا وخفايا كثيرة يصعب حصرها منها قضية الجاسوس الإسرائيلي في طرابلس وقضايا الفساد في مرفأ بيروت كما تمكّن في أقل من أسبوعين من جمع كل خيوط اغتيال الزعيم كمال جنبلاط وقدم ملفاً كاملاً عنها بما في ذلك تسمية المرتكبين والمخططين، كما كان لنباهته دور كبير في كشف مدبري محاولة اغتيال وليد جنبلاط بسيارة مفخخة في العام 1983.
اشتهر العميد أبو زكي كقائد لسرية الطوارئ (الفرقة 16) التي تمكّنت من فرض الأمن في أنحاء بيروت، كما اشتهر بصورة خاصة بتصديه الشجاع وإحباطه لمحاولة الدبابات الإسرائيلية إبان اجتياح العام 1982 اقتحام مقر السرية في ثكنة الحلو، فكانت ثكنة الحلو هي الثكنة الوحيدة التي لم يدخلها المحتل الإسرائيلي. بعد ذلك وفي قيادة الشرطة القضائية لعب عصام أبو زكي دوراً في كشف عملية تفجير ملهى لابيل في ألمانيا، ومن المفارقات أنه تعاون يومها مع المحقق الألماني ديتليف مليس ونشأت بين الرجلين صداقة واحترام متبادلان. وشاءت الأقدار بعد سنوات أن يعيّن مليس قاضي تحقيق في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ويأتي بنفسه إلى لبنان. وكان العميد أبو زكي قد أحيل يومها على التقاعد المبكر بسبب توتر العلاقة بينه وبين أحد كبار المسؤولين في موضوع يتعلق بملاحقة بعض الشخصيات السياسية.
كتاب العميد عصام أبو زكي عن تجربته الامنية وبعض ما اكتنفها من أسرار مرجع لا غنى عنه لكل مهتم بالإطلاع على جوانب خفية كثيرة لمرحلة مصيرية من تاريخ لبنان الحديث.

تقديم وليد بك جنبلاط

قدّم الزعيم وليد بك جنبلاط لكتاب العميد عصام أبو زكي بالكلمات التالية:
عرفت العميد عصام أبو زكي منذ سنوات طويلة وهو الذي تولى المهام الأمنية الصعبة في حقبة قاسية من تاريخ لبنان الحديث، وقد خدم الدولة بشرف ووفاء رغم ما شكّله ذلك من مخاطر ومصاعب في لحظات الإنقسام الوطني العميق وفي مراحل الإقتتال الداخلي بين اللبنانيين.
في مسيرة العميد أبو زكي محطات ومفاصل في غاية الأهمية عكست حرفيته ومهنيته في العمل العسكري والأمني، وحقق في المئات من الملفات الكبيرة والحساسة، قد يكون أهمها وأبرزها ملف اغتيال كمال جنبلاط الذي استطاع من خلال إصراره وعناده، رسم صورة الجريمة كاملة بالأسماء والتفاصيل كاشفاً جميع المخططين والمنفذين والمتورطين.
لقد دفع العميد أبو زكي في الكثير من المراحل ثمناً لمواقفه ولعمله المهني في وقت كانت تتحلل فيه الدولة بكل مؤسساتها ويتلاشى حضورها ويضمحل دورها. حرص ألا يتراجع عندما كانت هيبة الدولة في أدنى مستوياتها، بل بذل كل الجهد، ضمن نطاق عمله لترميم هذه الصورة المبعثرة وتطبيق القانون بحزم وقوة.
كل التحية للعميد أبو زكي على كل ما قام به، وكل الشكر له لبذله الجهد لتوثيق ملفات وحقبات مهمة من تاريخ لبنان المعاصر.

ابو الذر الغفاري

“بكت امرأة أبي ذر لأنه لم يكن لديه ثوب يصلح كفناً له أو لهـــــا ولم يكن في الجوار مارة أو راحلة يعينونها على غســـله ودفنه”

أبو ذرّ الغفاري

صاحــــب الرســــول أميــــر الفقــــراء

عاش وحيداً ومات وحيداً على قارعة الطريق

بعث إليه أمير الشام بثلاثمئة دينار،فردّها إليه
وقال: «أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني؟»

شكا معاوية إلى الخليفة «إفساد أبو ذرّ للناس»
فأًمره بترك الشام ونُفيَ إلى قرية قرب المدينة

بكت زوجته إذ لم تجد في البيت ما تكفنه به
فبشّرها أن رهطاً في الطريق إليه سيقوم بذلك

«ما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكَر حتى ما ترك لي الحقّ صديقاً».
أبو ذرّ الغفاري

إذا كان عمر بن الخطاب نموذجاً للعدل في الإسلام فإن الصحابي الجليل أبا ذرّ الغفاري هو نموذج النقاء والطهر الإيماني وقد قيض الله تعالى أن يكون أبو ذرّ العلامة الفارقة في صدرالإسلام لأنه بين جمهور الصحابة الذين قامت على عاتقهم الدعوة ثم الفتوحات وبناء الدولة، كان من الذين أدركوا ما خشيه الرسول وهو أن انتصار الإسلام وتحوّله إلى دولة ذات مال وثراء قد يحمل معه خسارة الكثير من جوهر الدعوة ومبادئها الأصلية وينعكس بالتالي بالنكوص عن الكثير من مبادئ الإسلام ولاسيما في العدل بين الرعية والتقوى والتزام الأوامر والنواهي. وكان نقاء سريرة أبي ذرّ الغفاري أمراً مشهوراً وكانت شدته في الحق وصدقه في المنافحة عن الدين وإدانة المهادنة والتساهل في قبول مظاهر الفساد أو الظلم التي تولدت عن فتح الأمصار والإنتقال إلى مجتمع الرخاء والثروة. وقد كان الرسول (ص) مدركاً تماماً لهذه المفارقة وهي أن انتصار الإسلام وتحوّله إلى ملك عظيم في الأرض سيحمل تحديات هائلة تقوم بصورة خاصة على كيفية التوفيق بين الإيمان والزهد بالدنيا الذي يدعو إليه الدين وبين الرخاء الاقتصادي وإغراءات الملك والإسراف في حب الدنيا. وقد جاء في الحديث قول النبي (ص) لجماعة من الناس جاءوا يرتقبون الحصول على مغانم بعد فتح أحد البلدان: «وَاللَّهِ لاَ الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».
وكان أبو ذرّ على تواصل مستمر مع الرسول (ص) ومن الذين أدركوا أهمية التحذير الذي وجّهه النبي لأهل زمانه، وقد أخذه أبو ذرّ فعلاً على محمل الجد، الأمر الذي حوّله إلى صوت مرتفع في انتقاد الانحراف والظلم والفساد لا يخشى في الله أو في الحق لومة لائم. وهذه الخاصية التي تميّز بها أبو ذرّ جعلته من أقرب المقربين للرسول (ص) الذي قدر فيه نقاء سريرته وصدقه وشجاعته في الحق، فقال فيه في حديث نقله أبي هريرة: «ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبو ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ».
كان أبو ذرّ من بين وزراء النبي (ص) ومن المقريبن إليه لكنه بعد انتقال الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى أصبح صوت الحق الذي ارتفع مندداً بتحول كثير من المسلمين من الجهاد في الدين إلى طلب الدنيا والتنازع عليها. وقد نال أبو ذرّ من انتصاره لمبادئ الإسلام ومعارضته للفساد ما ناله من جفاء أهل الحكم والعديد من أهل زمانه، لكنه ثبت في مواقفه والتزم سلوك التقوى والفقر حتى مات فقيراً وليس في بيته شيء من متاع الدنيا.
فمن هو أبو ذرّ وكيف دخل في الإسلام وما هي مكانته بين الصحابة ولماذا تميّز بحياة الزهد والفقر واحتقار الدنيا وكيف جعلته جرأته في الحق وصدقه من أقرب المقربين إلى الرسول (ص) وما هي الصفات التي تميّز بها وما هي أهم مواقفه في الإيمان والزهد في الدنيا والثبات في الحق وما هو أثره الخالد في الإسلام كمجاهد ثوري في سبيل الحق والإيمان الصحيح؟

من هو أبو ذرّ الغفاري
أبو ذرّ، وكان يدعى أبو الذرّ جندب بن جنادة الغفاري، وقد اختلف في إسمه لكن اتفق جميع النسابين على أن نسبه ينتهي إلى بني غفار من بني ضمرة من قبيلة كنانة. عرف منذ شبابه بالقوة وشدة البأس والشجاعة في الحرب لكن مع ميل إلى الخلوة والتأمل في أحوال الدنيا كما عرف بالصدق والمروءة، لكن أهم ما كان يميّزه أنه لم يعبد الأصنام في الجاهلية بل كان موحداً يقول «لا إله إلا الله» ويسخر من آلهة العرب ومن صغر عقول من يسجد للأصنام ويترك الخالق الديان. وقد جعلت تلك الصفات من أبي ذرّ من أول المصدقين بالرسول (ص) وقد سارع إلى سلوك طريق مكة بمجرد أن أخبره أحدهم أنه قد ظهر فيها نبي«يقول مثل قوله« أي لا إله إلا الله » وقد وصل أبو ذرّ إلى مكان الرسول وطلب منه أن يعرض عليه الإسلام وأسلم لتوه، وكان بعد ذلك من أشدّ المسلمين تمسكاً بأهداب الدين وقيمه مقتدياً بمثال النبي مخلصاً له حتى آخر يوم في حياته، وهذا يعني أن أبا ذرّ الغفاري كان من الذين جاءوا إلى الإسلام قبل أن يدعوا وهو فعل ذلك والإسلام ما زال سرياً ومضطهداً وقد كان حسب رواة الأثر رابع من أسلم أو خامس من أسلم للدين الجديد بعد السيدة خديجة بنت وهب زوجة الرسول (ص) وأبي بكر الصديق (ر) وعلي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وقد اشتهر بعد ذلك بالفقه ورواية الحديث وقال جمهرة المحدثين أنه كان يوازي عبد الله بن مسعود في العلم.
وكان أبو ذرّ أول من حيا الرسول (ص) بتحية الإسلام بقوله عندما لقيه لأول مرة: «السلام عليك يا رسول الله» وكان أول من جهر بإسلامه وسط قريش غير مبالِ بالضرب المبرح الذي تعرض له وقد نزل عند رغبة رسول الله (ص) بمغادرة مكة إلى قومه ودعوتهم إلى الإسلام فعاد إلى غفار وأمضى فيها سنوات يدعوهم حتى أسلم معظمهم كما أسلمت قبائل حليفة لهم ولم يشارك أبو ذرّ لهذا السبب في غزوتي بدر وأحد ولا في غزوة الخندق لكنه شارك بعد ذلك في جميع غزوات الرسول وفي حروب المسلمين التي كانت إحداها «غزوة العسرة» في تبوك.

عاش أبو ذر حياة تقشف قاسية في الصحراء وصدمه الانتقال السريع إلى الثروات وحب الدنيا
عاش أبو ذر حياة تقشف قاسية في الصحراء وصدمه الانتقال السريع إلى الثروات وحب الدنيا

توحيده قبل الإسلام
كان أبو ذرّ حسب وصف معاصريه طويلًاً أسمر اللون نحيفاً وقال بعضهم إنه كان أبيض الرأس واللحية مما يدل على أنه كان قد تجاوز سن الشباب عندما لقي النبي (ص) وأسلم على يده. وكان أبو ذرّ شجاعاً يتفرّد وحيداً بالغزو فيُغير على ظهر فرسه أو على قدميه كأنه السبع، لكن كان من أبرز فضائله أنه كان موحداً قبل الإسلام، وأنه بسبب ما تنامى إليه من ظهور الرسول في مكة سارع إلى استقصاء الخبر قبل أن يتوجه إليه بنفسه يسلم على يديه، وقد كانت قبيلة غفار التي ينتمي إليها أبو ذرّ تسكن البادية بين مكة والمدينة وكانت قبيلة فقيرة تعيش على قطع الطريق والغزو أو ما تحصل عليه من القوافل، ولهذا فقد كان إسلام أبي ذرّ ظاهرة ملفتة وقد تعجب الرسول (ص) لمرأى هذا الرجل الأسمر الأشعث القادم من الصحراء يعلن إسلامه وعدد المصدقين يومذاك لم يكد يبلغ عدد أصابع اليد الواحدة.
ويبيّن حديث جرى بينه وبين أبي بكر الصديق (ر) كيف أنه كان موحداً قبل الإسلام، إذ أخذ أبو بكر يوماً بيد أبي ذرّ وقال: يا أبا ذرّ، هل كنت تُألِّه (أي تقول «لا إله إلا الله») في جاهليتك؟ أجاب أبو ذرّ: نعم، صليت ثلاث سنوات قبل الإسلام وكنت أصلّي عشاءً حتى إذا كان من آخر السّحَرِ وكنت أقوم عند الشمس (أي عند شروقها)، فلا أزال مصلياً حتى يؤذيني حرّها، فأخرّ كأني خفاء. فسأله أبو بكر الصديق (ر): فأين كنت توجَّه؟ فقال: لا أدري إلى حيث وجّهني الله، حتى أدخل الله عليَّ الإسلام».
وكما أن سلمان الفارسي (ر) قطع البراري والقفار من أعماق فارس إلى المدينة المنورة بهدف الاجتماع إلى الرسول (ص) وكان يعلم عن قرب ظهوره، كذلك فإن أبا ذرّ الغفاري لم يدع إلى الإسلام بل قدِم إلى الإسلام بنفسه قدوم المؤمن.

الوصايا السبع

قال أبو ذرّ: أوصاني خليلي بسبعٍ:
أمرني بحبّ المساكين والدّنُوّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي، وأمرني أن لا أسأل أحداً شيئًا، وأمرني أن أصِلَ الرّحِم وإن أَدْبَرَتْ، وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مُرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لَوْمَةَ لائم، وأمرني أن أكْثرَ من لا حول ولا قوّة إلاّ بالله فإنّهنّ من كنز تحت العرش».

مسارعته للجهر بإسلامه
قال أبو ذر، بعد وصوله الى مكة واسلامه: «أقمت مع رسول الله (ص) بمكة، فعلمني الإسلام، وأقرأني شيئاً من القرآن، ثم قال لي: لا تخبر بإسلامك أحداً في مكة، فإني أخاف عليك أن يقتلوك، فقلت: والذي نفسي بيده لا أبرح مكة حتى آتي المسجد، وأصرخ بدعوة الحق بين ظهراني قريش، فسكت رسول الله (ص).
قال: فجئت المسجد، وقريش جلوساً يتحدثون، فتوسطتهم، وناديت بأعلى صوتي: «يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله». فما كادت كلماتي تلامس آذان القوم حتى ذعروا جميعاً، وهبوا من مجالسهم، وقالوا: عليكم بهذا الصابئ، وقاموا إليَّ، وجعلوا يضربونني لأموت، فأدركني العباس بن عبد المطلب عمُّ النبي (ص) وأكب عليَّ ليحميني منهم، ثم أقبل عليهم، وقال: «ويلكم، ويلكم، أتقتلون رجلاً من غفار، وممر قوافلكم عليهم؟ انتبهوا».
قال: ولما أفقت من غيبوبتي بعد أن ضُربت ضرباً مبرحاً، جئت النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رأى ما بي قال: يا أبا ذرّ، ألم أنهك عن إعلان إسلامك؟ فقلت: يا رسول الله، كانت حاجة في نفسي فقضيتها، فقال: إلحقْ بقومك، وأخبرهم بما رأيت وما سمعت، وادعُهم إلى الله، لعلّ الله ينفعهم بك، ويأجرك فيهم، قال: فإذا بلغك أني ظهرت فتعالَ إلي».

جهاد المشركين ..على طريقته
لكن أبا ذرّ لم ينتظر الأمر بقتال المشركين، وقد كان في المسلمين آنذاك ضعف ولم يكونوا بعد قد هاجروا إلى المدينة وقويت شوكتهم هناك. لذلك ومن فرط حميته وحماسه للدين الجديد وبسبب قوته ودربته في القتال وفنون الغزو التي اشتهر بها الغفاريون فقد قرر أبو ذرّ أن يفتح حرباً على المشركين ضمن إمكاناته الخاصة، فكان يكمن لقوافل قريش وغيرها فيعترضها ويحجزها ويقول: « لا أردّ إليكم منها شيئاً حتى تشهدوا أن لا إلهَ إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله»، فإن فعلوا ردّ عليهم ما أخذ منهم وإن أبوا لم يَرُدّ عليهم شيئاً. وبقي أبو ذرّ على تلك الحال حتى هاجر رسول الله (ص) ومضت غزوة بدر وغزوة أحد، ثمّ قدِم فأقام بالمدينة مع النبيّ (ص).

جانب آخر من بلدة الربذة
جانب آخر من بلدة الربذة

إسلام قومه بني غفار
أخبر أبو ذرّ عن إسلام قومه بني غفار فقال: لقيتُ رسول الله (ص) فقال: «إنّه قد وُجّهْتُ إلى أرضٍ ذاتِ نخل ولا أحْسِبُها إلاّ يثرب، فهل أنت مبْلِغٌ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟» فانطلقتُ حتى لقيتُ أخي أنيسا فقال: «ما صنعتَ؟» قلتُ: «صنعتُ أني قد أسلمتُ وصدّقتُ». قال أُنيس: «ما بي رغبةٌ عن دينك فإني قد أَسلمتُ وصدّقتُ». قال فأتينا أمّنا فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكما فإنّي قد أسلمتُ وصدّقتُ. قال فاحتملنا فأتينا قومَنا فأسلم نِصْفُهم قبل أن يقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة. وكان يؤمّهم إيماءُ بن رَحَضَةَ، وكان سيّدهم، وقال بقيّتهم: إذا قدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، المدينةَ أسلمنا. فقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم بقيّتهم وجاءت أسْلَمُ وكانوا حلفاء غفار فقالوا: يا رسول الله، أخوتنا، نُسْلِمُ على الذي أسلم أخوتنا. فأسلموا فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: «غِفارٌ غَفَرَ الله لها وأسْلَمُ سالَمها الله».
ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى لم يُطِق أبو ذرّ صبراً على الإقامة في المدينة، بعد أن خلت من سيدها، وأقفرت من هدي مجلسه، فرحل إلى بادية الشام، وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق رضي الله عنهم جميعاً.
لكن إقامته في الشام جعلت منه شاهداً على التغيرات السريعة التي كانت تطرأ على عالم الإسلام بعد فتح الأمصار واتساع رقعة الدولة وتدفق الثروات وإقبال الناس نتيجة لذلك على الدنيا ومباهجها، وقد استمر أبو ذرّ على اعتقاده بإسلام التآخي والمساواة والزهد في الدنيا وقد ساءه في تلك المرحلة تزايد الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الناس فحاول، وهو الصحابي المعتبر وصاحب الرسول (ص) وأحد وزرائه الذين كان يحبهم، أن يتابع الشهادة للحق ويحاول الإصلاح ويدعو لنهج أكثر مساواة بين الناس، إلا أنه وبسبب شخصيته غير المهادنة وثباته في الحق فقد وجد أبو ذرّ نفسه يواجه جفاء الحكام والعديد من الناس الذين انجرفوا وراء الثروة والحياة الرغدة الجديدة، لذلك فقد آثر في نهاية المطاف الابتعاد عن الشأن العام أو جرى كذلك إبعاده عندما استدعاه الخليفة عثمان بن عفان (ر) وطلب منه أن يغادر الشام وأن يقيم في بلدة نائية بين مكة والمدينة تدعى الربذة وهو ما فعله به قانعاً بعيش الإعتكاف في كوخ صغير وعيش الفقر حتى وافته المنية في سنة 32 هجرية.

“بكت امرأة أبي ذر لأنه لم يكن لديه ثوب يصلح كفناً له أو لهـــــا ولم يكن في الجوار مارة أو راحلة يعينونها على غســـله ودفنه”

تصوير بليغ للزهد

دخل على أبي ذر رجلٌ ذات مرة، فجعل يقلب الطرف في بيته، فلم يجد فيه متاعاً، فقال:
«يا أبا ذرّ، أين متاعكم؟ فقال: لنا بيت هناك، نرسل إليه صالح متاعنا.
فهم الرجل مراده، وهو أنّه يعني الدار الآخرة، وقال: ولكن لا بدّ لك من متاع ما دمت في هذه الدار، فأجاب: ولكن صاحب المنزل لا يدعنا فيه»

شهادة الرسول (ص) به
من أشهر ما قاله فيه رسول الله (ص) ما أورده أبو هريرة إذ نقل عن النبي قوله: «ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ».
وهذا الوصف من النبي (ص) يغني عن كل وصف لأبي ذرّ وسيظهر صدق ابي ذرّ في سيرته وجهاده ليس فقط في عصر النبي (ص) بل إنه سيظهر بأجلى معانيه بعد انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى وانطلاقة الدولة الإسلامية واتساع رقعة ملكها. ولا بدّ من الإشارة إلى أن الرسول (ص) وقد كان أخبر الناس بأبي ذرّ ونقائه وجرأته في الحق كان يخشى عليه من مكائد السياسة ورياح الفتن التي تحدث عنها قبل وفاته، وقد حرص على أن يوصيه بالحيطة وطاعة الأمير حتى وإن حصل ما قد يرى فيه افتئاتاً على الشريعة أو ظلماً. وهناك حادثتان مهمتان تظهران مدى اهتمام الرسول (ص) بأبي ذرّ وحرصه عليه. الحادثة الأولى كانت عندما سأل الرسول (ص) أبا ذرّ: «يا أبا ذرّ كيف أنت إذا كان عليك أمراء يستأثرون بالفيء؟» (أي يغصبون حقوق المسلمين في المال والغنائم) فقال أبو ذرّ: «إذا والذي بعثك بالحقّ أضرب بسيفي حتى ألحق به». فقال النبيّ: «أفلا أدُلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصْبِرْ حتى تلقاني».
من منطلق الحرص نفسه نصح الرسول (ص) أبا ذرّ بعدم السعي للإمارة وقد سأل الصحابي الجليل الرسول يوماً: «يا رسول الله ألا تستعملني؟» أي الا تولني إمارة أو عملاً أخدم فيه الإسلام؟ وكان اقتراح أبي ذرّ من منطلق العمل للمجتمع الإسلامي وإحقاق الحق ولم يكن إطلاقاً طلباً لجاه أو مال، لكن الرسول (ص) كما جاء في الحديث الذي نقله الحارث بن يزيد الحضرميّ ردّ بأن وضع يده على كتف أبي ذرّ ثم قال له: «إنّك ضعيف وإنّها أمانةٌ وإنّها يومَ القيامة خَزْيٌ وندامة إلاّ مَن أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها».
رافق أبو ذرّ عهد أبي بكر الصديق وعمر وعايش مرحلة الخليفة عثمان وكان له رأي صريح في أحقية الإمام علي (كرم الله وجهه) بالخلافة لكنه حاذر مع ذلك الإنجرار إلى الفتن التي اندلعت بعد مقتل الخليفة عثمان، وقد كانت له قبل ذلك مواقف ناقدة لمعاوية بن أبي سفيان عندما كان والياً على الشام، وقد أقام أبو ذرّ هناك لبعض الوقت وشهد التحولات الكبرى وصدم لما رآه من استئثار فئة بالثروات من دون الناس فذهب إلى معاوية يناقشه في الأمر. وقد روى زيد بن وهب تلك الواقعة وما حصل بعدها على الشكل التالي قال: مررتُ بالرّبَذةِ (وهي قرية صغيرة من قرى المدينة) فإذا أنا بأبي ذرّ فقلتُ: «ما أنزلك منزلك هذا؟» قال: «كنتُ بالشأم فاختلفتُ أنا ومعاوية في هذه الآية: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{ قال معاوية: نَزَلَتْ في أهل الكتاب»، قال: فقلتُ «نَزَلَتْ فينا وفيهم». قال فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب يشكوني إلى عثمان، قال فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتُ المدينةَ وكَثُر الناسُ علي كأنّهم لم يَرَوْني قبل ذلك» وبالرغم من تفهم عثمان لموقف أبي ذرّ وشكواه من تبدل المجتمع الإسلامي بعد الرسول، فإنه لم يكن يرى ما رآه الصحابي الزاهد واعتبر أن الإسلام دخل عصراً جديداً قيضه الله بسبب الفتوحات وامتلاك الأمصار وأنه لا يمكن لهذه الإمبراطورية أن تدار كما كان يدار مجتمع المدينة البسيط أو كما كان المجتمع الإسلامي في أول عهده. لذلك أيدّ عثمان وجهة نظر معاوية وأمر أبا ذرّ أن يُهدِّئ من حملته، واستأذن أبا ذرّ الخليفة الإقامة في قرية الربذة وهي قرية في نواحي المدينة فأذن له.
نأتي هنا إلى حديث نبوي مهم تنبأ فيه الرسول بما سيعترض أبو ذرّ من صعوبات جراء التصادم الذي توقع أن يحصل بينه وبين المجتمع الإسلامي الصاعد، فقد حدّث محمّد بن سيرين أنّ رسول الله (ص)، قال لأبي ذرّ: «إذا بلغ البِنَاءُ سَلْعاً فاخرج منها -ونحا بيده نحو الشام- ولا أرى أمراءك يَدَعونَك!» قال: «يا رسول الله أفلا أقاتل مَن يحول بيني وبين أمرك؟» قال: «لا»، قال: «فما تأمرني؟» قال: «اسْمَعْ واطِعْ ولو لعبدٍ حَبَشي».
يذكرأنه لما توجه أبو ذرّ إلى الربذة بعد أن أمره الخليفة عثمان (ر) بذلك وصلها وقد أقيمت الصلاةُ وعبدٌ حبشي لعثمان يؤم المصلين. ولما رأى الحبشي أبا ذرّ تأخّر ودعا الصحابي لأن يؤم المصلين مكانه، فقال أبو ذرّ له: تَقَدّمْ فصلّ فقد أُمِرْتُ أن أسْمَعَ وأطيعَ ولو لعبدٍ حَبشيّ فأنت عبد حبشيّ».
وقال عبد الله بن سيدان السّلَميّ: «تَناجى أبو ذرّ وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذرّ متبسّماً فقال له الناس: «ما لك ولأمير المؤمنين؟» قال: «سامعٌ مُطيعٌ ولو أمرني أن آتيَ صنعاء أو عدن ثمّ استطعتُ أن أفعل لفعلتُ»، وقد أمره عثمان أن يخرج إلى الرّبَذَة.
يشير الحديث المنقول عن النبي (ص) مجدداً إلى أنه وقد كان يكنّ الحب لأبي ذرّ أراد أن ينصحه بالإبتعاد عن الشأن العام لأنه كان يتنبأ بحصول الخلافات وربما الفتن من بعده وكان يعتقد بأن الأفضل لأبي ذرّ الزاهد العابد أن لا يقترب من فتنة الدنيا سواء من طريق طلب الإمارة أو من طريق أخذ جانب أي من الفرقاء المتخاصمين، أو محاولة تبديل ما لم يعد ممكناً تبديله لأن مجتمع الإسلام تغيّر ولأن لله حكمته في كل شيء.

ما تبقى من بلدة الربذة في السعودية حيث قضى أبو ذر آخر أيامه
ما تبقى من بلدة الربذة في السعودية حيث قضى أبو ذر آخر أيامه

صدَّق أبو ذرّ رسول الله (ص) وقرر أن ينأى بنفسه عن الحياة العامة، لكن وبسبب شهرته بين صحابة رسول الله ومكانته الكبيرة في الإسلام وبسبب ما عرف عنه من صدق وتمسك بمبادئ الرسالة وتعاليم النبي (ص) فقد أيّده كثيرون بل جاءه يوماً نفر كبير من أهل العراق (قيل من أهل الكوفة) فقالوا: «يا أبا ذرّ فعل بك هذا الرجل (يقصدون عثمان) وفعل فهل أنت ناصبٌ لنا رايةً فَنُكْمِلُكَ برجال ما شئتَ؟» وكان واضحاً أنهم يحرضونه على التمرد، فقال أبو ذرّ لهم: «يا أهل الإسلام لا تَعْرِضوا عليّ ذاكم ولا تُذِلّوا السلطان فإنّه مَن أذلّ السلطان فلا توبة له» وأضاف أبو ذرّ «والله لو أنّ عثمان صلبني على أطول خشبةٍ أو أطول جبل لَسمعتُ وأطعتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي» وكان يستذكر بذلك تنبيه الرسول له لأن يبتعد عن الشام عندما تبدأ فيها المدنية وحركة العمران والإقبال على الدنيا. وكان هذا في الحقيقة موقف صحابي جليل آخر هو سلمان الفارسي عندما اشتد الخلاف بين المسلمين إذ آثر أن يبتعد وأن يقضي آخر أيامه في المدائن يعيش كعامة الناس بل كفقرائهم وهو الأمير عليها.
حدث أبو ذرّ عن رسول الله (ص) بأنه قال له: «يا أبا ذرّ إني أراك ضعيفاً وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمُرَنّ على اثنين ولا تَوَلَيَّنَ مالَ يَتيمٍ» وعندما يقول الرسول عن أبي ذرّ بأنه ضعيف فإنه لا يقصد به ضعف الشخصية أو حتى البنية وهو الذي كان يعرف مدى صلابته في نصرة الدين ومشاركته في أكثر غزوات المسلمين بعد الخندق، بل كان يقصد أنه كان من الطهر وسلامة القلب بحيث لا يطيق مكائد السياسة والتنازع عليها بين أهل الدنيا وكان الرسول (ص) يريد أن لا يستدرج أبا ذرّ إلى ما لا طاقة له به. وهناك شبه ملفت بين نصح الرسول لأبي ذرّ باجتناب الدنيا والإمارة وبين قول لسلمان الفارسي (ر) جاء فيه: «إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميراً على اثنين فافعل».

حب الرسول (ص) له
كان أبو ذرّ من القلة المقربين إلى رسول الله (ص) بل كانت له مكانة خاصة لديه وقد ذكر أبو الدرداء أن الرسول (ص) «كان يبتدئ أبا ذرّ الكلام إذا حضر، ويتفقده إذا غاب».
وجاء في الأثر أن أبا ذرّ أقام في باديته يدعو قبيلته غفار إلى الإسلام حتى مضت بدرٌ وأحدٌ والخندقُ، ثم قدم إلى المدينة وقد أسلم أهل غفار وأقوام غيرهم وانقطع إلى رسول الله (ص)، واستأذنه أن يقوم في خدمته، فأذن له، ونَعِمَ بصحبته، وسَعِدَ بخدمته، وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثره ويكرمه، فما لقيه مرةً إلا صافحه، وهشَّ في وجهه وبشَّ .
ومن علامات حب الرسول لأبي ذرّ حديث لشريك عن أبي ربيعة عن ابن بريدة عن أبيه قال: فقال رسول الله (ص) إن الله أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم. قيل يا رسول الله سمِّهم لنا. قال عليٌّ منهم يقول ذلك ثلاثاً، وأبو ذرّ والمقداد وسلمان الفارسي، أمرني بحبِّهم وأخبرني أنه يحبهم».
وجاء ذكر أبي ذرّ كأحد وزراء النبي أو حوارييه المقربين في حديث أثبته أحمد إبن حنبل في مسنده جاء فيه: إن رسول الله (ص) قال: «إنه لم يكن قبلي نبي إلا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة، وجعفر، وعلي، وحسن، وحسين، وأبو بكر، وعمر، والمقداد، وعبد الله بن مسعود، وأبو ذرّ، وحذيفة، وسلمان، وعمار، وبلال»
وقال مالك بن دينار أنّ النبيّ (ص) جلس يوماً مع أصحابه ثم قال: «أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟» فقال أبو ذرّ: «أنا»، فقال له النبيّ (ص) «صدقتَ» .وكان النبي يشير إلى علمه بأن الكثيرين من الصحابة الذين جاهدوا معهم ستتبدل أحوالهم مع دخول الرخاء والثراء إلى عالم الإسلام، وقد وُلِّي كثيرون منهم الأمصار أو النواحي وصار لأكثرهم شأن وحال من اليسر والاستقرار في الدور والحواضر والمدن. وكان أبو ذرّ يحب أن يذكر هذا الحديث لأصحاب رسول الله قائلاً لهم: «إني لأقْرَبَكُم مجلساً من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم القيامة، وذلك أني سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: «أَقْرَبُكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ مَنْ خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ تَرَكْتُهُ فِيهَا».

نبوءة الرسول (ص)
حول أبي ذرّ

عن عبد الله بن مسعود (ر) قال: لما سار رسول الله إلى تبوك1 جعل لا يزال يتخلف الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان. فيقول :»دعوه، إن يكُ فيه خير فسيُلحقه الله بكم، وإن يكُ غير ذلك فقد أراحكم الله منه»
حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذرّ، وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله: «دعوه، إن يكً فيه خير فسيلحِقه الله بكم، وإن يكً غير ذلك فقد أراحكم الله منه».
فتلوَّم أبو ذرّ (ر) على بعيره فأبطأ عليه، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره فخرج يتبع رسول الله ماشياً، ونزل رسول الله في بعض منازله ونظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق. فقال رسول الله: «كن أبا ذرّ» فلما تأمله القوم، قالوا: يا رسول الله، هو -والله- أبو ذرّ. فقال رسول الله: «رحم الله أبا ذرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».
1-هي غزوة تبوك وسميت بـ «غزوة العسرة» بسبب ما اعترض المسلمين فيها من صعاب وخصم قوي عدة وعدداً

قبر أبي ذر اليوم
قبر أبي ذر اليوم

ورعه وشدته في الحق
كان أبو ذرّ ورعاً للغاية يحاسب نفسه أشد الحساب وكان بنفس المعنى يحاسب الآخرين ولاسيما صحابة النبي (ص) على ما يبدر منهم مما يعتبره ضعفاً في الإيمان أو العزيمة أو محاباة للقوي. لذلك ولما قدم أبو موسى الأشعري لقي أبا ذرّ فجعل أبو موسى يلزمه (يضمه إليه) مخاطباً إياه بالقول: «أنت أخي» فيجيبه أبو ذرّ مبتعداً: «إليك عني»، ويقول الأشعريّ مجدداً، «مَرْحَبًا بأخي»، ويدفعه أبو ذرّ ويقول: «لستُ بأخيك إنّما كنتُ أخاك قبل أن تُسْتَعْمَلَ» (أي قبل أن تصبح في خدمة سلطان) ثمّ لقي أبا هريرة فالتزمه (أي اراد أن يضمه إليه) وقال: «مرحبًا بأخي»، فقال أبو ذرّ: «إليك عني، هل كنتَ عَمِلْتَ لهؤلاء؟» قال: «نعم»، قال: «هل تطاولتّ في البِناء أو اتْخَذتَ زَرْعًا أو ماشيةً؟» قال: لا»، قال: «أنت أخي أنت أخي».
وحدث سعيد بن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن أبي ذرّ أنّه رآه في نَمِرَة مُؤتَزِراً بها قائماً يصلّي فقال له: « يا أبا ذرّ أما لك ثوب غير هذه النمرة؟» قال:» لو كان لي لرأيتَه عليّ»، قال: «فإنّي رأيتُ عليك منذ أيّام ثوبين»، فقال: «يا ابن أخي أعطيتَهما مَن هو أحوج إليهما مني»، قال: «والله إنّك لمحتاج إليهما»، قال أبو ذرّ: «اللهمّ غفراً، إنّك لمعظّم للدنيا، أليس ترى عليّ هذه البُرْدة ولي أُخْرى للمسجد ولي أعْنُزٌ نحلبها ولي أحْمِرَةٌ نحتمل عليها ميرتَنا وعندنا مَن يخدمنا ويكفينا مهْنَةَ طعامِنا فأيّ نعمةٍ أفضل ممّا نحن فيه؟».
بعث إليه أمير الشام بثلاثمئة دينار، وقال له:»استعن بها على قضاء حاجتك». فردها إليه، وقال: أما وجد أمير الشام عبداً لله أهون عليه مني».
وقال عيسى بن عُميلة الفَزاريّ: أخبرني من رأى أبا ذرّ يحلب غُنيمة له فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، ولقد رأيتُه ليلةً حلب حتى ما بقي في ضُروع غنمه شيء إلاّ عَصَرَه، وقرّب إليهم تمراً وهو يسير، ثمّ تعذرّ إليهم وقال: «لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به». قال وما رأيتُه ذاق تلك الليلةَ شيئاً.
وقال خالد بن حيان: «كان أبو ذرّ وأبو الدَّرداء في مِظَلَّتَيْنِ من شَعْر بدمشق».
قيل لأبي ذرّ: ألا تتخذ أرضاً كما اتخذ طلحة والزبير؟ فقال: «وما أصنع بأن أكون أميراً، وإنما يكفيني كل يوم شربة من ماء أو نبيذ (منقوع الزبيب) أو لبن، وفي الجمعة قَفِيزٌ من قمح».
وعن أبي ذرّ قال: «كان قوتي على عهد رسول الله صاعاً من التمر، فلست بزائدٍ عليه حتى ألقى الله تعالى».
وقال سعيد بن أبي الحسن أنّ أبا ذرّ كان عطاؤه أربعة آلاف فكان إذا أخذ عطاءه دعا خادمه فسأله عمّا يكفيه لسنةٍ فاشتراه له، ثمّ اشترى فلوساً بما بقي وقال: «إنّه ليس من وعى ذهباً أو فضّة يُوكي عليه إلا وهو يتلظّى على صاحبه».

روايته للحديث
روى أبو ذرّ عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم وكان أحد أهم مراجع النقل عن رسول الله (ص). وقد روى عن أبي ذرّ الخليفة عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وابن عباس، وأبو إدريس الخولاني، وزيد بن وهب الجهني، والأحنف بن قيس التميمي، وجُبير بن نُفير الحضرمي، وعبد الرحمن بن تميم، وسعيد بن المسيب، وعبد الله بن الصامت الغفاري ابن أخ أبي ذرّ، وخرشة بن الحر الفزاري، وزيد بن ظبيان، وأبو أسماء الرَّحَبي، وأبو عثمان النهدي، وأبو الأسود الدؤلي، والمعرور بن سُوَيد الأسدي، ويزيد بن شريك التيمي، وأبو مُرَاوح الغِفَاري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن حجيرة، وعبد الرحمن بن
أبو ذرّ الغفاري عن الرسول (ص).
في صحيح مسلم عن أبي ذرّ قال: سألت رسول الله: هل رأيت ربك؟ قال : «نور أنَّى أراه». قال النووي: أي حجابه نور، فكيف أراه؟!
روى البخاري بسنده عن أبي ذرّ (ر) قال: سألت النبي، أي العمل أفضل؟ قال :»إيمان بالله وجهاد في سبيله» قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: «أعلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها» قلت: فإن لم أفعل. قال: «تعين ضَايِعاً أو تصنع لأخرق» قلت: فإن لم أفعل. قال: «تدع الناس من الشر؛ فإنها صدقة تصدق بها على نفسك».

مسضريح ومسجد الصحابي الجليل أبي الدرجاء في دمشق، صاحب أبو ذر في الجهاد والفقر
مسضريح ومسجد الصحابي الجليل أبي الدرجاء في دمشق، صاحب أبو ذر في الجهاد والفقر

من أقواله البليغة

ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أوضع في قبري؟

لا تَغشَ أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب
من دنياهم إلا أصابوا من دينك أفضل منه

إذا سافر الفقر إلى مكانٍ قال الكفر خذني معك.

• حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوماً شديد الحر لطول يوم النشور، وصلوا ركعتين في سوداء الليل لوحشة القبور».
• انظروا إلى الدنيا نظرة الزاهدين فيها، فإنها عن قليل تزيل الساكن، وتفجع المترف فلا تغرنَّكم.
• عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه.
• والله لو تعلمون ما أعلم، ما انبسطتم إلى نسائكم، ولا تقاررتم على فرشكم، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني، يوم خلقني، شجرة تعضد، ويؤكل ثمرها.
• إني لأعرف بالناس من البيطار بالدواب، أما خيارهم فالزاهدون، وأما شرارهم فمن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه.
• ألا أخبركم بيوم فقري؟ يوم أوضع في قبري؟
• أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه بمال إلى أبي ذرّ رضي الله عنه مع عبدٍ له، وقال له: إن قبله منك فأنت حر. فلما ذهب العبد بالمال، لم يقبله، فقال له العبد: يا سيدي إن قبولك له فيه عَتقي. فقال له أبو ذرّ: إن كان فيه عَتقُك فإن فيه رُقِّي.
• كان الناس ورقاً لا شوك فيه، فصاروا شوكاً لا ورق فيه.
• هل ترى الناس ما أكثرهم؟ ما فيهم خير، إلا تقي أو تائب.
• رأى رجل أبا ذرّ وهو يتبوأ مكاناً، فقال له: ما تريد يا أبا ذرّ؟ قال: أطلب موضعاً أنام فيه، نفسي هذه مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني.
• ذو الدرهمين أشد حساباً من ذي الدرهم.
• لا تغش أبواب السلاطين، فإنك لا تصيب من دنياهم، إلا أصابوا من دينك أفضل منه.
• يولدون للموت، ويعمرون للخراب، ويحرصون على ما يفنى، ويتركون ما يبقى، ألا حبذا المكروهان: الموت والفقر.
• الوحدة خير من الجليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة.

.

كيف يموت العبد الزاهد

أوصى بأن يُغسل جثمانه ويكفن ويوضع في الطريق
وأن يطلب من أول القادمين أن يعينوا أهله على دفنه

كان موت ابي ذر الغفاري خاتمة مناسبة لحياة الزهد والتقشف والفقر التي عاشها كما إنه كان عنواناً لاحتقاره الدنيا الفانية وتطلعه إلى الباقية بشغف المؤمن الثابت العقيدة والواثق من وعد الله، بل إن أبا ذر أراد ربما أن يعطي بموته درساً من أبلغ الدروس لأهل الدنيا حتى يعلموا أين سينتهي بهم المطاف فلا يتعلقون بمباهجها الخادعة ولا يكون لهم طول الأمل بها بل التفكر الدائم بأنهم ميتون وملاقو ربهم فيتقون ويعتبرون.
لقد كان موت أبي ذر عنواناً لنبوءتين قالهما الرسول (ص) الأولى عندما قال: رحم الله أبا ذر يعيش وحيداً ويموت وحيداً ويبعث وحيداً. والثانية تنبأ فيها بظروف دفن أبي ذر إذ قال في جمع من أصحابه كان بينهم أبو ذر:» «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، تَشْهِدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وبالفعل فقد مات أبو ذر وليس لدى زوجته أو أهل بيته كفن يلفونه به وكانوا يعيشون في ناحية من الربذة الشبه مقفرة ، فلم يجدوا بالتالي من يهب إلى غسله ودفنه. وكان أبو ذر يعيش لحظاته الأخيرة وامرأته قلقة جداً كيف ستتصرف عندما تفارق الروح الجسد. وكانت لذلك تبكي بحرقة. قال لها أبو ذر: «ما يبْكيك؟» فقالت: «ومَا لِي لا أَبْكي وأنت تموت بِفلَاةٍ من الأرض، وليس عندي ثوبٌ يَسَعك كفنًا لي ولا لك؟ ولا يَدَ لي للقيام بجهازك». لكن أبا ذر المؤمن كان على يقين بأن ما أنبأ به الرسول (ص) لا بد حاصل فقال لها: «أبْشِري وَلَا تَبْكِي، فإني سَمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقولُ: «لَا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَيَصْبِرَانِ وَيَحْتَسِبَانِ فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا» ، وقد مات لنا ثلاثة من الولد، وإني سمعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنفَر أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وأردف أبو ذر قائلاً لزوجته: ليس من أولئك النفَر أحدُ إلّا وَقد مات في قَرْيَة وجماعة، فأنا ذلك الرّجل، والله ما كذَبت ولا كُذِّبت فأبْصِري الطريقَ». قالت زوجته: «وأنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطَّعَتِ الطّريق؟ وكانت تقصد أن الحجيج كانوا قد عادوا إلى بلدانهم ولم يعد أمل بمرور قوافل أو راجلين يساعدونهم»، قال: « اذهبي فتبصَّري». قالت: «فكنْتُ أشتدُّ إلى الكثيب فأنظر ثم أرجع إليه فأمرضُه. أي أعتني به وهو في نزاعه الأخير. وأخبرت زوجة أبي ذر بعدها فقالت: بينما هو وأنا كذلك، إذ أنا برجال على رِحَالهم كأنهم الرّخم تحثّ بهم رواحلهم، فأسرعوا إليّ حتى وقفُوا عليّ»، فقالوا: «يا أمَةَ الله، ما لك؟»، قلت: «امرؤ من المسلمين يموتُ، تُكَفّنونه؟» قالوا: «ومَنْ هو؟» قلت لهم: «أبو ذرّ». قالوا: «صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ « قلت: «نعم». قالت: «فَفَدوْه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا السيّاط في نحورها (أي ألقوا اللجام على أعناق النوق) يتسابقون إليه حتى جاءوه»، فقال لهم: «أَبْشِروا، فإنِّي سمعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: «لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» وليس من أولئك النّفر أحدٌ إلّا وقد هلك في قرية وجماعة، واللهِ ما كَذَبْت، ولا كذبت، ولو كان عندي ثوبٌ يسعُني كفنًا لي أو لامرأتي لم أكفَّنْ إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم لله ألا يكفنني رجل منكم كان أميراً أو عريفاً أو بريداً أو نقيباً» وكان أبو ذر يقصد بذلك أنه لا يريد لأي كان في منصب إمارة أو وجاهة أو على علاقة بالدولة أن يكفنه أو أن يشترك في تكفينه. وكان معظم الذين وقفوا حوله للمساعدة ممن تنطبق عليهم تلك الصفات إلّا فتًى من الأنصار، فقال: «أنا أَكفّنك يا عم في ردائي هذا، وفي ثوبين في عَيْبتي من غزْل أمّي». قال: «أنت تكفنني يا بني». قال: فكفّنه الأنصاريُّ وغسَّله في النّفر الذين حضَرُوه، منهم حُجْر بن الأدبر ومالك الأشتر. وقيل في رواية ثانية أو هي تكمل الرواية الأولى أنه لما نفى عثمان أبا ذرّ إلى الرّبَذَةِ وحضره الموت ولم يكن معه أحد إلاّ امرأتهُ وغلامه فإنه أوصاهما أن اغسلاني وكفّناني وضعاني على قارعة الطريق فأوّل رَكْبٍ يمرّ بكم فقولوا هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دَفْنِه. فلمّا مات فعلاً ذلك، ثمّ وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبد الله بن مسعود في رَهْط من أهل العراق عُمّارًا فلم يَرُعْهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطأها، فقام إليه الغلام قال: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه. فاستهلّ عبد الله يبكي ويقول: صدق رسول الله، «تمشي وحدك وتموت وحدك وتُبْعَثُ وحدك». .
توفي أبو ذر في الربذة سنة 32 هـ وقيل في آخر شهر ذي الحجة سنة 31 هـ بعد انصراف الحجيج، وصلى عليه عبد الله بن مسعود في النفر الذين شهدوا موته، ثم حملوا عياله إلى عثمان بن عفان (ر) بالمدينة، فضم ابنة أبي ذر إلى عياله، وقال: «يرحم الله أبا ذر». وتقع الربذة اليوم 100 كم جنوب شرقي محافظة الحناكية و200 كم شرق المدينة المنورة.

عمر بن الخطاب

“كان عمر (ر) قبل إسلامه رجلاً حكيماً، بليغاً، حصيفاً، قوياً، حليماً، شريفاً، قوي الحجة، مما أهله لأن يكون سفيراً لقريش ومفاخراً ومنافراً لها مع القبــــائل”

” توسعت الشورى في خلافة عمر لكثرة المستجدات ولامتداد رقعة الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظم مختلفة  “

[su_accordion]

[su_spoiler title=”تاريخنا الذي أضعناه” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

عندما فتح الإسلام الأمصار وكسب قلوب الشعوب
بدعوة التوحيد والعدل ومخافة الله في الحق

الخليفة عمر بن الخطاب نموذجاً

في زمن راجت فيه حركات التطرف والعنف الأعمى وماتت الرحمة في قلوب الكثيرين وساد ظلم الإنسان لأخيه الإنسان وتفشى التعصب وتزاحمت الرايات وتناحرت وتفرقت الأمة جماعات يقاتل بعضها بعضاً واستوى الأعداء في مقاعدهم يتفرجون مغتبطين لمشهد هذه الفتن المرعبة التي تدمر يميناً وشمالاً وتحصد قيمنا وحضارتنا كما تأتي النار على اليباس الهشيم. في هذا الزمن البائس، زمن محنة الأمة في وجودها وقيمها وإنسانيتها نبحث جميعاً عن سبب لكل ما يجري فلا نجد في الحقيقة إلا جواباً واحداً وهو أننا ابتعدنا عن الإسلام الحق الذي بهر العالم بسماحته وشرف خصاله وعظمة رسالته إلى جاهلية جديدة بل إلى حالة من الإنحطاط والتوحش لو قيض لأهل الجاهلية أن يعودوا بيننا لكانوا أول من تبرأوا منها ورفضوا أي صلة بها، وقد كانت لعرب الجاهلية -يجب أن لا ننسى- خصال عظيمة وشيم وشرف، ولولا أنهم كانوا حتى قبل إسلامهم مجتمعين على قدر كبير من الرفعة والخصال الحميدة، ولولا أن كانت لهم قيم وأعراف يلتزمونها لما كانوا تقبلوا الإسلام وتحمل الأولون منهم ما تحملوه من أجل نصرته والجهاد في سبيله.
قد لا يكون في مقدورنا أو مقدور أي جماعة صغيرة أن تقف في وجه هذا الإعصار من الغضب النفسي والأحقاد والكراهية وشهوة القتل لكننا نمتلك مع ذلك في وجه هجمة الظلام سلاحاً ماضياً وجباراً هو أنوار عقيدتنا الإسلامية وتاريخنا وسير الأولين والسلف الصالح، نمتلك قيم الإسلام التي لا يمكن لأي قوة أن تبدّل فيها لأنها مصانة في كتاب الله العزيز وفي السنة النبوية الشريفة وفي سير الصالحين والإرث المجيد للأمة وهو أشبه ببحر عظيم لا حدود له ولا يمكن أن تنفد مكنوناته وجواهره. وإن العودة إلى تلك الأسس المتينة لصرح الإسلام هي في الواقع أفضل جواب على ما يجري من تلفيق وتآمر وهي أمضى سلاح يمكن أن نشرعه من أجل حماية عقيدتنا وقيمنا ومجتمعاتنا.
في هذا العدد نسلط الضوء على بعض الجوانب المضيئة لرسالة الإسلام في انطلاقتها المظفرة ونتخذ مثالاً على أهميتها حياة وجهاد وتعليم رجلين من كبار الصحابة هما الخليفة عمر بن الخطاب والصحابي الجليل المجاهد الذي مدحه الرسول كأصدق من وجد على وجه البسيطة أبو ذر الغفاري، وقد اخترنا من تلك الفترة نماذج حقيقية لأن هذا الأسلوب يترك التعميم والوصف التاريخي لينطلق من علم السيرة وما يحمله من فوائد لأنه ليس أقوى من أن تجد رسالة الإسلام الحق كما أنزلها الله تعالى وقد تمثلت في أشخاص حقيقيين يحيون مبادئها ويحكمون بشريعتها ويقدمون المثال على حجم التغيير الذي أمكن للإسلام الحق ومبادئه السمحاء أن يحدثه في العالم. وقد كان أشهر ما وصف به الله تعالى الرسول الهادي في القرآن الكريم الآية الكريمة }وإنك لعلى خلق عظيم{ (ن:4) وكذلك قوله تعالى: }فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ{ (آل عمران: 159) فالله تعالى ينبئ رسوله أنه نصره باللين والخلق العظيم، وفي هذا القول من الحق ما يغني عن أي مزيد لأن الله يصف دينه بأنه دين الرحمة والأدب واللين والتخلق بأخلاق الله وليس دين الغلظة والشراسة. وسنرى في هذا الفصل الذي اخترنا فيه الخليفة عمر بن الخطاب كنموذج كيف كان فهم الصحابة الكرام -وهم أقرب الناس إلى الرسول (ص) وإلى فهم القرآن والسنة-الإسلام الحق، وكيف طبقوه وكيف نشروه في العالم بقوة المحبة والسماحة وخصال الإسلام الشريفة التي بهرت الشعوب فأقبلوا على هذا الدين بمحض الإعجاب بالرسالة والإعجاب والتقدير لممثليها كما كانوا يرونهم في حياتهم اليومية وتعاملاتهم، وصفاتهم. وسنتابع الموضوع إن شاء الله مع حلقات تالية نسلط فيها الضوء على جوانب مضيئة من تاريخ الإسلام ومسيرته الحضارية والإنسانية.
نشير هنا إلى أننا استفدنا في هذا المقال من النصوص والمراجع والمصنفات الإسلامية ولاسيما المؤلف النفيس للدكتور محمد الصلابي :«فصل الخطاب في سيرة ابن الخطاب» 1261.

تمكّن المسلمون في أقل من ثلاثة عقود من فتح معظم أمصارالمشرق والمغرب بما في ذلك بلاد الشام والعراق وفلسطين ومصر وليبيا وفارس لكن الأهم من فتح الأمصار أن المسلمين تمكنوا رغم حداثة عهدهم بحكم الممالك والإمبراطوريات من وضع الأسس لحكم إسلامي يقوم على أحد أنجح الأنظمة السياسية في التاريخ وأكثرها تقدماً في مجال التسامح واحترام الحريات والعقائد وإشاعة العدل الاجتماعي وبناء نظام الخلافة قبل أن ينتقل المسلمون إلى مرحلة الملكية الوراثية مع قيام الدولة الأموية ثم الدولة العباسية وما تلاها من ممالك في تاريخ الإسلام الطويل حتى نهاية مرحلة الدولة العثمانية.
لقد نجح الرسول (ص) والخلفاء من بعده في اجتراح الحلول لكافة القضايا والمشكلات التي استجدت بسبب خروج المسلمين إلى العالم وتولي قادتهم ورجالاتهم لحكم بلدان بعيدة وأحياناً غير عربية، وجاهد الخلفاء الراشدون أيما جهاد لكي لا يؤدي الثراء المفاجئ إلى شيوع الرخاء وتراجع القيم الإسلامية التي أينعت وازدهرت في زمن الدعوة وشظف العيش وخبز الشعير واضطهاد المسلمين. وقد اعتنى الخليفة عمر بصورة خاصة بتطوير نظام الحسبة، والأسواق والتجارة واهتم بالعلم وتتبع الرعية بالتوجيه والتعليم جاعلاً من المدينةَ المنورة داراً للفتوى والفقه ومدرسة لتخريج العلماء والدعاة والولاة والقضاة. ومع توسع حركة الفتوحات تمّ إرشاد القادة والأمراء إلى إقامة المساجد في الأقاليم المفتوحة، لتكون مراكز للدعوة والتعليم والتربية ونشر الحضارة الجديدة، وقد وصل عدد المساجد التي تقام فيها صلاة الجمعة في دولة عمر (ر) إلى اثني عشر ألف مسجد وتميّز عصر الفاروق (وقد أعطي هذا اللقب باعتبار أن إسلامه فَرّق بين الإسلام والكفر) بالتطور العمراني وبناء شبكات الطرق ووسائل النقل البري والبحري وإنشاء الثغور والأمصار كقواعد عسكرية ومراكز إشعاع حضاري، وفي عهده نشأت المدن الكبرى كالبصرة والكوفة والفسطاط، وأشرف الفاروق على تطوير المؤسسة المالية والقضائية وقام بتأمين مصادر دخل الدولة من الزكاة والجزية والخراج والعشور والفيء والغنائم وتعزيز بيت مال المسلمين وتدوين الدواوين، ووضع السجلات بأراضي الخراج وأصدر النقود الإسلامية وقام بتطوير النظام القضائي فعيّن القضاة وحدد مرتباتهم وصفاتهم وما يجب عليهم، ومصادر الأحكام القضائية، والأدلّة التي يعتمد عليها القاضي، وبيّن القواعد في تعيين الولاة والصفات الواجبة فيهم والشروط التي تفرض عليهم، ثم تابعهم في حكمهم وتعامل مع شكاوى الرعية فيهم، وحاسبهم وأنزل أقسى أنواع العقوبات بالمتحاورين منهم.
رغم ما يشير إليه كل ما سبق من الأهمية الكبيرة لمرحلة ولادة المجتمع الإسلامي فإن الصحابة والخلفاء الراشدين كتبوا بأعمالهم سيرة حافلة بنصرة الحق والاستقامة والورع والتواضع والتزام حياة البساطة حتى بعد أن دانت لهم الأمصار وتدفقت أموال الخراج والمغانم إلى بيت مال المسلمين. وجسّدت تلك الحياة البسيطة الورعة صورة عن تربية الرسول (ص) لأصحابه وعن مدرسة التقوى والزهد بل الفقر التي أسس لها في حياته هو وفي كفاحه وسيرته كنبي وكفاتح، وهو الذي دخل مكة مطأطئ الرأس بروح الخضوع وكان أول فعل له كسلطان للدولة الإسلامية المنتصرة هو العفو عن مشركي مكة الذين ساموه وساموا المؤمنين أشد العذاب في مرحلة ما قبل الهجرة وحتى الفتح وإنهاء دولة الشرك. وكان لملازمة الخلفاء الأربع للرسول (ص) وصحبتهم الطويلة له ومجالستهم أو مرافقتهم إياه أثر عظيم في تماهيهم بصورة شبه تامة مع أخلاق الرسول واستيعابهم بقوة الحب والإتباع لسيرة النبي ولتعليمه ولنهجه.
وبسبب حكمه الذي امتد لعشر سنوات وتزامن مع أهم مرحلة تأسيسية في تاريخ الإسلام، وبسبب أن معظم الأوضاع التي واجهها المسلمون كانت جديدة عليهم ولم يسبق أن تناولها حكم أو اجتهاد، فقد كان على عمر بن الخطاب أن يسنّ السنن وأن يجتهد في كل ما يتعلق بالدولة الجديدة ومجتمع المسلمين مسنداً اجتهاده دوماً إلى القرآن وإلى السنة النبوية، وعند الحاجة إلى حس العدل والحق الذي كان بمثابة البوصلة التي تهديه دوماً إلى جادة الصواب، إضافة إلى ما سبق تحوّلت حياة عمر بن الخطاب منذ إسلامه وحتى استشهاده إلى سيرة زاخرة بالتعليم والمواقف المشهودة التي كانت وما زالت خير ما يمكن أن يقدّم للعالم من أمثلة على عظمة الإسلام وعظمة الحضارة الإسلامية.

عمر في الجاهلية
ولد عمر بن الخطاب، ويكنى أبا حفص، في مكّة بعد عام الفيل بثلاث عشرة سنة ونشأ كأمثاله من أبناء قريش، إلا أنه امتاز عليهم بأنه كان ممن تعلموا القراءة وحمل المسؤولية صغيراً واتصف لذلك بقوة التحمل والجلد وشدّة البأس، وقد تعلم أيضاً ألواناً من رياضة البدن، فبرع في المصارعة وركوب الخيل والفروسية وتذوق الشعر ورواه، وكان يهتم بتاريخ قومه وشؤونهم، واحتل مكانةً بارزة في المجتمع المكي الجاهلي، وأسهم بشكل فعَّال في أحداثه. يقول ابن سعد «إن عمر كان يقضي بين العرب في خصوماتهم قبل الإسلام» .

إسلامه
كان عمر (ر) رجلاً حكيماً، بليغاً، حصيفاً، قوياً، حليماً، شريفاً، قوي الحجة، واضح البيان، مما أهله لأن يكون سفيراً لقريش، ومفاخراً ومنافراً لها مع القبائل، وكان بسبب إخلاصه وتفانيه في الدفاع عن ما يعتقده يدافع عن ما ألفته قريش من عادات وعبادات وقد وقف لذلك في وجه الدين الجديد قبل أن تسوقه الأقدار في أحد الأيام إلى بيت شقيقته فاطمة التي كانت قد أسلمت سرّاً مع زوجها وقد فاجأ عمر شقيقته وهي تقرأ القرآن الكريم مع زوجها فعنّفها وحاول ضرب زوجها قبل أن يهدأ ويطلب منها أن تقرأ عليه ما كانت تقرأ (وكانت سورة }طه{) فلما استمع إلى مطلعها رقّ قلبه كثيراً وقال: «ما ينبغي لمن يقول هذا الكلام أن يعبد إلهاً غيره» وطلب من اخته وصهره أن «دلّوني على محمد».

آثار المدائن اليوم بعد أن كانت عاصمة الإمبراطورية الفارسية
آثار المدائن اليوم بعد أن كانت عاصمة الإمبراطورية الفارسية

عمر بن الخطاب
الشاعر .. والناقد

كان عمر (ر) أكثر الخلفاء الراشدين ميلاً لسماع الشعر وتقييمه كما كان أكثرهم تمثلاً به حتى قيل: كان عمر بن الخطاب لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيتاً من الشعر وقد برع الفاروق في النقد الأدبي وكانت له مقاييس يحتكم إليها في تفضيله أو إيثاره نصاً على نص أو تقديمه شاعراً على غيره، ومن هذه المقاييس سلامة العربية وأنس الألفاظ والبعد عن المعاضلة والتعقيد والوضوح والإبانة وأن تكون الألفاظ بقدر المعاني وجمال اللفظة في موقعها وحسن التقسيم وكان (ر) يمنع الشعراء من قول الهجاء أو ما يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية واستخدم أساليب متعددة في تأديبهم منها أنه أشترى أعراض المسلمين من الحطيئة بثلاثة آلاف درهم.

إسلام عمر يبدّل الموازين
أسلم عمر وهو ابن سبعة وعشرين عاماً، وتحول فور إسلامه إلى أبرز منافح عنيد عن الدين الجديد، الأمر الذي بدّل الموازين ورفع معنويات المسلمين وكان عددهم يومها 37. وفي هذا قال عبد الله بن مسعود (ر) : «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نطوف بالبيت ونصلي، حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا، فصلينا وطفنا».

هجرته
لما أراد عمر الهجرة إلى المدينة أبى إلا أن تكون علانية إذ إنه تحدى المشركين عند الكعبة أن يتبعوه فلم يفعل أي منهم ومضى في سبيله.
أدت ملازمة عمر بن الخطاب للرسول (ص) وكثرة تحدثه معه، إلى طبعه على البلاغة والبيان وطلاقة اللسان، وكان رضي الله عنه إذا جلس إلى رسول الله (ص) لم يترك المجلس حتى ينفضّ وكان يجلس في حلقات ودروس ومواعظ رسول الله (ص) نشطاً يستوضح، ويستفهم، ويلقي الأسئلة في الشؤون الخاصة والعامة.
ولذلك فقد روى عن النبي (ص) خمسمائة حديث وتسعة وثلاثين حديثاً تناولت شتى أوجه العبادات والمعاملات، وقد اتفق الشيخان في صحيحيهما على ستة وعشرين منها، وانفرد البخاري بأربعة وثلاثين ومسلم بواحد وعشرين(1)، والبقية في كتب الأحاديث الأخرى.
هيبة عمر
كان عمر بن الخطاب حاسماً وشديداً في الأمر والنهي وكان صاحب فراسة ومنطق وقوة بيان وكان لذلك مهاباً من الجميع بل كان الكثيرون يخشون غضبته في الحق، وكان الرسول معجباً بجرأة عمر مقدراً نصرته للدين حتى خاطبه يوماً بالقول: «يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً (أي طريقاً) قط إلا سلك فجاً آخر(2) هذا الحديث فيه بيان فضل عمر رضي الله عنه وأنه من كثرة التزامه الحق وخصومته للباطل لم يجد الشيطان عليه مدخلاً ينفذ إليه.

بعض أهم إنجازته
1. الحثّ على جمع القرآن الكريم: كان عمر بن الخطاب أول من أشار على الخليفة الصِدّيق بجمع القرآن الكريم وبخاصة بعد أن أدت الحروب ولاسيما حرب اليمامة إلى مقتل الكثير من حفظة القرآن.
2. التأريخ بالهجرة: كان الخليفة عمر أول من كتب التاريخ بالهجرة.
3. رد سبايا العرب: كان أول قرار اتخذه عمر في دولته ردّ سبايا أهل الردة إلى عشائرهم حيث قال: كرهت أن يكون السبي سنة في العرب، وهذه الخطوة الجريئة ساهمت في شعور العرب جميعاً أنهم أمام شريعة الله سواء.
4. لقب أمير المؤمنين: كان عمر بن الخطاب أول من كتب بإسم «أمير المؤمنين» وقيل إن رجلين قدما من العراق يطلبانه وقد دخلا الجامع فسألا عمر ابن العاص أن يستأذن لهما لدى «أمير المؤمنين» وقد استحسن ابن العاص الإسم وألح على عمر أنه اللقب المناسب «لأننا نحن المؤمنون وانت أميرنا». فجرى استخدام اللقب من ذلك اليوم.
5. ضرب النقود الإسلامية : يقول المقريزي: «وأول من ضرب النقود في الإسلام عمر بن الخطاب سنة ثماني عشرة من الهجرة على نقش الكسروية وزاد فيها: «الحمد لله». وفي بعضها: «لا إله إلا الله» وعلى جزء منها إسم «الخليفة عمر».
6. الشورى: اعتمد عمر رضي الله عنه مبدأ الشورى في دولته، فكان لا يستأثر بالأمر دون المسلمين ولا يستبد عليهم في شأن من الشؤون العامة، فإذا نزل به أمر لا يبرمه حتى يجمع المسلمين ويناقش الرأي معهم فيه ويستشيرهم.
ومن مأثور قول الخليفة عمر: «لا خير في أمر أبرم من غير شورى»، وقوله: «شاور في أمرك من يخاف الله عزّ وجل» ، وكان يحث قادة حربه على الشورى، ثم توسع نطاق الشورى في خلافة عمر (ر) لكثرة المستجدات والأحداث وامتداد رقعة الإسلام إلى بلاد ذات حضارات وتقاليد ونظم متباينة فولدت مشكلات جديدة احتاجت إلى الاجتهاد الواسع.

العدل والمساواة
فتح عمر بن الخطاب الأبواب على مصاريعها لوصول الرعية إلى حقوقها، وتفقد بنفسه أحوالها، فمنع عنها أي ظلم قد يقع عليها كما تدل عليه الأمثلة التالية:
1- اختصم إليه مسلم ويهودي، فرأى أن الحق لليهودي فقضى له، فقال له اليهودي: «والله لقد قضيت بالحق» قدم عمر بن الخطاب حاجاً، فصُنِع له طعام جاء به خدام وضعوه أمام القوم وانصرفوا. سأل عمر ضيفه: أترغبونه عنهم؟ (أي ألا تطعمونهم من هذا الطعام) فقال الضيف: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكننا نستأثر عليهم (أي نأكل قبل أن يأكلوا) فغضب عمر غضباً شديداً، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم؟ ثم قال للخدام: اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين(3).
2- لم يكن عمر رضي الله عنه ليأكل من طعام غير متيسر لجميع المسلمين، وكان يصوم الدهر، وكان طعامه في زمن الرمادة خبزاً بالزيت.
3- من الأمثلة على عدم الهوادة في تطبيق المساواة، ما صنعه عمر مع جبلة بن الأيهم الذي وفي أثناء طوافه بالبيت الحرام وطئ إزاره رجل من بني فزارة فحلَّه، فغضب الأمير الغساني لذلك فلطم الرجل لطمة قاسية هشمت أنفه، وأسرع الفزاري إلى أمير المؤمنين يشكو إليه ما حلّ به وأرسل الفاروق إلى جبلة يدعوه إليه.
قال له عمر: إما أن ترضي الرجل وإما أن اقتص له منك.
اعترت جبلة بن الأيهم الدهشة لكلام عمر وقال له: وكيف ذلك وهو سوقة وأنا ملك؟
فقال عمر: إن الإسلام قد سوّى بينكما.

صورة من العام 1900 للمدينة المنورة التي بقيت لمدة مركزا للدولة الإسلامية بعد الفتح -2
صورة من العام 1900 للمدينة المنورة التي بقيت لمدة مركزا للدولة الإسلامية بعد الفتح -2

حق الأمن والحريات الشخصية
تكفل الإسلام اولاً للأفراد بحق الأمن وحق الحياة وسهر الأمراء والولاة على تأمينهما وصيانتهما من أي عبث أو تطاول وقد كانت حرمة المسكن وحقوق الملكية مكفولة ومصانة في عهد الفاروق وعصر الخلفاء الراشدين، كما إن الإسلام كفل حرية الرأي كفالة تامة فكانوا يتركون الناس يبدون آراءهم، وكان عمر (ر) يقول: أحب الناس إليّ من رفع إليّ عيوبي(4)، وقال أيضاً: إني أخاف أن أخطئ فلا يردّني أحد منكم تهيباً مني(5)، وجاءه يوماً رجل فقال له على رؤوس الأشهاد: إتق الله يا عمر: فغضب بعض الحاضرين من قوله وأرادوا أن يسكتوه عن الكلام، فقال لهم عمر: لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نسمعها(6)،

ورعه
كان عمر رضي الله عنه شديد الورع، وقد بلغ به الورع في ما يحق له ولا يحق، فإنه مرض يوماً، فوصفوا له العسل دواء، وكان في بيت المال عسل جاء من بعض البلاد المفتوحة، فلم يتداوَ عمر بالعسل كما نصحه الأطباء، حتى جمع الناس، وصعد المنبر واستأذن بالقول: إن أذنتم لي، وإلا فهو عليّ حرام، فبكى الناس إشفاقاً عليه وأذنوا له جميعاً، ومضى بعضهم يقول لبعض، لله درك يا عمر! لقد أتعبت الخلفاء بعدك.

تواضعه الشديد
عن عروة بن الزبير رضي الله عنه قال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك هذا، فقال: «لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة (أي أعجاب بالنفس) فأردت أن أكسرها» .

نزاهته
قال عمر (ر): إن الناس ليؤدون إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، وإن الإمام إذا رتع رتعت الرعية ، ولذلك كان شديداً في محاسبة نفسه وأهله، فكان إذا نهى الناس عن شيء تقدم إلى أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم فإن وقعتهم وقعوا، وإن هبتم هابوا، وإني والله لا أؤتي برجل وقع في ما نهيت الناس عنه إلا أضعفت له العذاب، لمكانه مني، فمن شاء منكم أن يتقدم، ومن شاء منكم أن يتأخر. وكان شديد المراقبة والمتابعة لتصرفات أولاده وأزواجه وأقاربه خوف أن يحصلوا على منافع أو حظوة بسبب أواصر القربى التي تربطهم بخليفة المسلمين.

عمر يأمر بجلد ابنه علناً

يروي ابن الجوزي أن عمرو بن العاص، أقام حد الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في الساحة العامة للمدينة، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور، غير أن عمرو بن العاص أقام الحد على ابن الخليفة في البيت، فلما بلغ الخبر عمر غضب وكتب إلى بن العاص يعنفه بشدة لهذه المحاباة مؤكداً له أن « لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه» و«إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين. وبناء على طلب عمر جيء بإبنه عبد الرحمن إلى المدينة فأقيم عليه حد الخمر جلداً وشهد ذلك جمهور العامة».

الخليفة عمر أعطى الأمان لمسيحيي فلسطين ورفض الصلاة في كنيسة القيامة
الخليفة عمر أعطى الأمان لمسيحيي فلسطين ورفض الصلاة في كنيسة القيامة

خاتمة
هذا غيض بسيط من فيض الخليفة العادل عمر بن الخطاب، وكان نموذجاً على عصر بكامله وصحابياً عظيماً من أولئك الذين زخر الإسلام بهم في عصره الذهبي الأول، عصر الطهرالحقيقي والجهاد والزهد بالدنيا وما فيها؛ عصر التسامح وحرية الرأي والاعتقاد واحترام جميع من عاش في دار الإسلام من مذاهب وديانات سماوية. ولنتأمل كم أصبحت سحيقة هذه الهوة المستعرة التي تفصلنا اليوم كمسلمين عن الإسلام الذي عاشه عمر بن الخطاب والخلفاء الراشدون والصحابة الكرام. كم نحن في حاجة لاستذكار ذلك الجانب المضيء من تاريخنا وإرثنا الروحي والأخلاقي والسلوكي لعل ذلك يسهم في إيقاظ الضمائر وشفاء البصيرة واستفاقة العقول وصلاح الناس والمجتمع.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”الحرية الدينية في الإسلام” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

الإسلام ترك أهل الكتاب يمارسون شعائرهم بسلام
بل أعلن أن الدولة ستقاتل لحمايتهم من أي عدوان
الشيخ محمد الغزالي
لم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء، مثل ما صنع الإسلام

تشهد حركة الفتوحات الكبرى في مطلع الإسلام على احترام الرسالة الخاتمة للأديان الأخرى، وحرص أولي الأمر في تلك الفترة الذهبية على عدم إكراه أحد على الدخول في الإسلام. وقد جاءت عمر بن الخطاب ذات يوم امرأة نصرانية عجوز كانت لها حاجة عنده فقال لها: «أسلمي تسلمي، إن الله بعث محمداً بالحق» فقالت: «أنا عجوز كبيرة، والموت إليَّ أقرب»، فقضى حاجتها، ولكنه وبعد أن انصرفت راودته خشية من أن يكون بدعوتها للإسلام كان كمن يستغل حاجتها لمحاولة إكراهها على ذلك، فاستغفر الله مما فعل وقال: اللهم إني أرشدت ولم أكرِه.
لكن رغم أن عمر كان خليفة المسلمين ورغم أنه يعتبر الدعوة إلى سبيل الله أمراً واجباً فإنه شعر بالذنب إذ انتبه إلى أنه يدعو إلى إلإسلام صاحب حاجة الأمر الذي قد يشكل إكراهاً والله تعالى يقول في كتابه العزيز }لا إكراه في الدين{ (البقرة:256).
وكان لعمر رضي الله عنه عبد نصراني اسمه «أشق» حدّث فقال: كنت عبداً نصرانياً لعمر، فقال: «أسلم حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين، لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورهم بمن ليس منهم»، فأبيت فقال: }لا إكراه في الدين{. فلما حضرته الوفاة أعتقني وقال: «اذهب حيث شئت»، وقد كان أهل الكتاب يمارسون شعائر دينهم وطقوس عبادتهم في معابدهم وبيوتهم، ولم يمنعهم أحد من ذلك لأن الشريعة الإسلامية حفظت لهم الحرية في الاعتقاد، وقد أورد الطبري في العهد الذي كتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيليا (القدس) ونصّ فيه على إعطاء الأمان لأهل إيلياء على أنفسهم وأموالهم وصلبانهم وكنائسهم(7)، وكتب والي عمر بمصر عمرو بن العاص لأهل مصر عهداً جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم وصلبهم وبرهم وبحرهم» وأكد ذلك العهد بقوله: «على ماضي هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين»، وقد اتفق الفقهاء على أن لأهل الذمة ممارسة شعائرهم الدينية وأنهم لا يمنعون من ذلك ما لم يظهروا، فإن أرادوا ممارسة شعائرهم إعلاناً وجهراً كإخراجهم الصلبان يرون منعهم من ذلك في أمصار المسلمين، وعدم منعهم في بلدانهم وقراهم.
يقول الشيخ الغزالي عن كفالة الإسلام لحرية المعتقد «إن الحرية الدينية التي كفلها الإسلام لأهل الأرض، لم يعرف لها نظير في القارات الخمس، ولم يحدث أن انفرد دين بالسلطة، ومنح مخالفيه في الاعتقاد كل أسباب البقاء والازدهار، مثل ما صنع الإسلام».
لقد حرص الفاروق على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع ولخص سياسته حيال النصارى واليهود بقوله: «وإنما أعطيناهم العهد على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم يقولون فيها ما بدا لهم، وأن لا نحملهم ما لا يطيقون، وإن أرادهم عدوهم بسوء قاتلنا دونهم، وعلى أن نخلي بينهم وبين أحكامهم، إلا أن يأتوا راضين بأحكامنا فنحكم بينهم وإن غيبوا عنا لم نتعرض لهم».
وقد ثبت عن عمر أنه كان شديد التسامح مع أهل الذمة، حيث كان يعفيهم من الجزية عندما يعجزون عن تسديدها، فقد ذكر أبو عبيد في كتاب الأموال: أن عمر – رضي الله عنه – مرّ بباب قوم وعليه سائل يسأل – شيخ كبير ضرير البصر – فضرب عضده من خلفه وقال من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال يهودي، قال فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: الجزية والحاجة والسن، قال: فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل(8)، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: «انظر هذا وضرباءه (أمثاله) فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم»، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه. وقد كتب إلى عماله معمّماً عليهم هذا الأمر، وهذه الأفعال تدل على عدالة الإسلام وحرص الفاروق أن تقوم دولته على العدالة والرفق برعاياها ولو كانوا من غير المسلمين، وقد بقيت الحرية الدينية معلماً بارزاً في عصر الخلافة الراشدة، مكفولة من قبل الدولة، ومصانة بأحكام التشريع الرباني.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”قصص وعبــر
من سيرة الخليفة عُمَر” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

مهمة في جوف الليل
خرج عمر بن الخطاب مرة في سواد الليل فرآه طلحة رضي الله عنه، فراقبه، فذهب عمر فدخل بيتاً، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت وإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى، نعم ينظف بيتها، فقال لطلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، أعثرات عمر تتبع هذا وعمر خليفة المسلمين.

عمر يطلي بعيراً
قدم الأحنف بن قيس رضي الله عنه مع وفد العراق في يوم صائف شديد الحر على عمر رضي الله عنه، وكان عمر يطلي بعيراً بالقطران من إبل الصدقة فقال: يا أحنف ضع ثيابك وهلم، فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير، فإنه من إبل الصدقة، فيه حق اليتيم والأرملة والمسكين، فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين، فهلا تأمر عبداً من عبيد الصدقة فيكفيك؟ فقال عمر: وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف؟ إنه من ولي أمر المسلمين يجب عليه لهم، ما يجب على العبد لسيده في النصيحة وأداء الأمانة.

أخبار من القادسية
ذكر ابن كثير أن عمر بن الخطاب كان يستخبر عن أمر القادسية كل من لقيه من الركبان، ويخرج من المدينة إلى ناحية العراق استطلاعاً للأخبار، وبينما هو ذات يوم من الأيام، إذا هو براكب يلوح من بعيد، فاستقبله عمر فسأله عن أخبار جيش المسلمين، فقال له الرجل: فتح الله على المسلمين بالقادسية، وغنموا غنائم كثيرة، وجعل الرجل يحدثه وهو لا يعرف عمر وعمر ماشٍ تحت راحلته، فلما اقتربا من المدينة جعل الناس يحيون عمر بالإمارة، فعرف الرجل عمر فقال: يرحمك الله يا أمير المؤمنين هلا أعلمتني أنك الخليفة؟ فقال لا حرج عليك يا أخي. ما ضرّ الناس أن لا يعرفوا عمر؟.

الخليفة تحت شجرة
جاء الهرمزان وزير كسرى يطلب الخليفة عمر وكان في أبهى حلل الملوك معتمراً تاجاً من ذهب وزبرجد، ومرتدياً ألبسة فاخرة من الحرير. دخل المدينة وسأل: أين قصر الخليفة؟ أجاب الناس: ليس له قصر. قال أين بيته؟ فذهبوا، فأروه بيتاً من طين وقالوا له: هذا بيت الخليفة، قال أين حرسه؟ قالوا ليس له حرس. طرق الهرمزان الباب، فخرج ولد الخليفة، قال له: أين الخليفة؟ فقال: التمسوه في المسجد أو في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهبوا إلى المسجد فلم يجدوه، بحثوا عنه، فوجدوه نائماً تحت شجرة، وقد وضع درّته بجانبه، وعليه ثوبه المرقع وقد توسد ذراعه، في إغفاءة هانئة. دهش الهرمزان وهو يرى الرجل الذي قهر الممالك وفتح الأمصار ينام بهذه الهيئة، تحت شجرة، وقال كلمته المشهورة: حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر.

إمام العدل
جاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه على مصر قائلاً:
يا أمير المؤمنين: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين، فكتب عمر إلى عمرو رضي الله عنهما يأمره بالقدوم ويقدم بإبنه معه: فقدم عمر فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين؟ قال أنس: فضرب، فوالله، لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما رفع عنه حتى تمنينا أن يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: اصنع على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد اشتفيت منه، فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟

مسجد عمر بن الخطاب بدوحة الجندل
مسجد عمر بن الخطاب بدوحة الجندل

عمر وأم كلثوم في مهمة ليلية
كان عمر يخرج ليلاً يتفقد أحوال المسلمين، ويلتمس حاجات رعيته التي

استودعه الله أمانتها، وله في ذلك قصص عجيبة وأخبار طريفة، من ذلك أنه بينما كان يتجول ليلاً بالمدينة إذا بخيمة يصدر منها أنين امرأة، فلما اقترب رأى رجلاً قاعداً فاقترب منه وسلم عليه، وسأله عن خبره، فعلم أنه جاء من البادية، وأن امرأته جاءها المخاض وليس عندها أحد، فانطلق عمر إلى بيته فقال لامرأته أم كلثوم وهي ابنة علي» هل لك في أجر ساقه الله إليك؟ فقالت: وما هو؟ قال: امرأة غريبة تمخض وليس عندها أحد. قالت نعم إن شئت فانطلقت معه، وحملت إليها ما تحتاجه من سمن وحبوب وطعام، فدخلت على المرأة، وراح عمر يوقد النار حتى انبعث الدخان من لحيته، والرجل ينظر إليه متعجباً وهو لا يعرفه، فلما ولدت المرأة نادت أم كلثوم يا أمير المؤمنين، بشر صاحبك بغلام، فلما سمع الرجل أخذ يتراجع وقد أخذته الهيبة والدهشة، فسكن عمر من روعه وحمل الطعام إلى زوجته لتطعم امرأة الرجل، ثم قام ووضع شيئاً من الطعام بين يدي الرجل وهو يقول له: كل ويحك فإنك قد سهرت الليل.

في معركة القادسية اعتمد القائد رستم بقوة على فرق الأفيال لكن جيش المسلمين تمكن من قهرها
في معركة القادسية اعتمد القائد رستم بقوة على فرق الأفيال لكن جيش المسلمين تمكن من قهرها

تأديب النفس
يروي محمد بن عمر المخزومي عن أبيه أنه قال: نادى عمر بن الخطاب بالصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس وكبروا صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه (ص).
ثم قال: أيها الناس. لقد رأيتني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي قبضة من التمر، أو الزبيب، فأظل يومي، وأي يوم؟!
ثم نزل عن المنبر، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، ما زدت على أن سفّهت نفسك فقال: ويحك يا ابن عوف!! إني خلوت فحدثتني نفسي، قالت: أنت أمير المؤمنين، فمن ذا أفضل منك؟ فأردت أن أعرفها نفسها.

يؤنب نفسه سراً
وروى أنس بن مالك فقال: سمعت عمر بن الخطاب يوماً، وخرجت معه، حتى دخل حائطاً، فسمعته يقول، وبيني وبينه حائط، وهو في جوف الحائط: «عمر بن الخطاب.. أمير المؤمنين.. بخ بخ، والله لتتقين الله يا ابن الخطاب، أو ليعذبنك».

أصابت امرأة وأخطأ عمر
قال عبد الله بن مصعب خطب عمر (ر) فقال: لا تزيدوا مهور النساء على أربعين أوقية، وإن كانت بنت ذي فضة، يعني يزيد بن الحصين الحارثي، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال.
فقامت امرأة من صف النساء طويلة في أنفها فطس فقالت: ما ذاك لك؟ قال: ولم؟ قالت: لأن الله يقول: }وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا{ (النساء: 20)
فقال عمر « أصابت امرأة وأخطأ عمر». دالاً بذلك على مقدار تواضعه.

[/su_spoiler]

[su_spoiler title=”من أقواله البليغة” open=”no” style=”default” icon=”plus” anchor=”” class=””]

قال عمر رضي الله عنه لرجل همّ بطلاق امرأته: «لِمَ تطلقها؟» قال الرجل :«لا أحبها». فقال عمر: «أو كلّ البيوت بنيت على الحب؟ فأين الرعاية والتذمّم؟» (أي حفظ الذمة).

مشهد-تصويري-لفتوحات-عمر-بن-الخطاب-كما-جاء-في-الفيلم-الذي-روى-قصته
مشهد-تصويري-لفتوحات-عمر-بن-الخطاب-كما-جاء-في-الفيلم-الذي-روى-قصته

كان عمر رضي الله عنه إذا رأى أحداً يطأطئ عنقه في الصلاة يضربه بالدرة (الدرّة عصا غليظة كان يحملها دائماً)، ويقول له «ويحك، إن الخشوع في القلب».
سئل عمر: لم لا تكسو الكعبة بالحرير؟ فرد قائلاً: بطون المسلمين أولى.
لا تنظروا إلى صيام أحد، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا من إذا حدّث صدق، وإذا ائتُمِن أدى، وإذا أشفى -أى هم بالمعصية- تورع.
قال عمر: كونوا دعاة لله وأنتم صامتون. قيل: وكيف ذلك؟ قال : بأخلاقكم.
الدين ليس بالطنطنة من آخر الليل ولكن الدين الورع.
اخشوشنوا، وإياكم وزي العجم: كسرى وقيصر
لا أبالي أصبحت غنياً أو فقيراً، فإني لا أدري أيهما خير لي
إن الحكمة ليست من كبر السن، ولكنها عطاء الله يعطيه لمن يشاء
من قال أنا عالم فهو جاهل
عليك بالصدق وإن قتلك
ترك الخطيئة خير من معالجة التوبة
من كثر ضحكه قلت هيبته
لا تعتمد على خلق رجل حتى تجربه عند الغضب.
اعرف عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين.
ذكر الله عند أمره ونهيه خير من ذكر باللسان
لكل صارم نبوة، ولكل جواد كبوة، ولكل عالم هفوة.
أفضل الزهد إخفاء الزهد
إذا أراد الله بقوم سوءاً منحهم الجدل ومنعهم العمل
أميتوا الباطل بعدم ذكره
متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟

[/su_spoiler]

[/su_accordion]

محاورات افلاطون

كريتو

سقراط يرفض عرض أصحابه تسهيل فراره ويعطي كريتو قبل ساعات من تجرِّع السمّ درساً في احتقار الموت والتزام الفضيلة

الموت أفضل من الحيــــاة من دون شرف
والمهم نوعية الحياة وليس عدد سنواتها

كريتو: لم يعـــد لدي شــــيء أقولــــــــــــه!
سقراط: إذاً دعني اتبع ما يوحي إليَّ بأنه
أمر الله

أهمية محاورة كريتو
على خلاف محاورات أفلاطون تقوم محاورة كريتو على نقاش مركّز بين شخصين فقط هما الحكيم سقراط وكريتو أحد مريديه، وهي من الأعمال المبكرة لأفلاطون والتي تضم دفاع سقراط ، لكنها رغم إيجازها تعتبر من الأعمال المهمة لأنها تتضمن درساً أخلاقياً وروحياً مهماً في أهمية احترام القانون والدولة وعدم بذل أي مجهود لإجتناب الموت كما لو كان مصيبة. بين سطورها تظهر بوضوح شخصية سقراط العظيمة وثباته وثقته بإيمانه الذي بقي محتواه سراً في داخله بسبب خشيته من التدخل في عقيدة أهل أثينا الوثنية أو إنكارها أو التشكيك بها.
تبدأ محاورة كريتو بمشهد فريد يلخّص بدوره جوهر شخصية سقراط. فكريتو الذي يتسلل لمقابلة سقراط وصل الزنزانة مع ساعات الفجر وهو يتحرق شوقاً لأن يعرض على المعلم خطة لإنقاذه من السجن ومن تنفيذ حكم الموت دبرها مريدوه وأمنوا لها المال والنفوذ.
كريتو يفاجأ بسقراط يغطّ في نوم عميق ويتحرج من إيقاظه، لكنه يتعجب كيف يمكن لرجل ينتظر تنفيذ حكم بالإعدام به بعد ساعات أن يكون في هذه الحالة من السكينة وعدم الإكتراث، فالراهن حسب معرفته بالنفس البشرية أن انتظار الموت أمر رهيب، وهو كان يتوقع ربما أن يرى سقراط مكتئباً أو هلعاً، وعلى الأقل لم يكن ليدور في فكره أبداً أن يجد الحكيم مستسلماً إلى لذة النوم العميق غير عابئ بمصيره الذي اقترب!!
من شدّة دهشته وشعور الرهبة أمام مشهد الحكيم النائم يمتنع كريتو أولاً عن إيقاظ سقراط معتقداً أنه بذلك يتركه في حال لا يشعر فيها بما سيصيبه بعد ساعات عندما يأتي الجلاد لتنفيذ حكم الموت. لكن سقراط يستيقظ ليجد كريتو جالساً قبالته ويبدأ بذلك هذا الحوار المثير بأبعاده الأخلاقية والروحية: كريتو يعرض على سقراط فكرة الهرب من السجن وحكم الإعدام، وسقراط يشرح له بأسلوبه الجدلي المتدرج لماذا لا يمكن لهذا السلوك أن ينسجم مع مبادئ الأخلاق والفضيلة أو مع قناعاته الشخصية.

كريتو: لم أشأ أن أوقظك، وقد كنت أسأل نفسي عن هذا النوم الهانئ الذي كنت تغطّ فيه، لأنني أردت أن تكون في تلك اللحظات بعيداً عن الألم، لقد عرفتك في الماضي دوماً على هذه الحال من السعادة والهدوء، لكنني لم أر في حياتي رجلاً يواجه مصيبة الموت ويقابلها بهذا القدر من البشاشة والسهولة.
سقراط: لم لا يا كريتو، إذ عندما يبلغ رجل سن الكهولة فإن عليه أن لا يكون خائفاً من احتمال مواجهة الموت.
أما لماذا جاء كريتو في ساعات الفجر الأولى لزيارة سقراط فلأنه كان يحمل ما اعتبره خبراً حزيناً هو أن الباخرة ستصل إلى ميناء ديلوس في ذاك اليوم والذي سيكون لذلك آخر أيام سقراط لأن المحكمة قررت تنفيذ حكم الإعدام عند وصول تلك الباخرة إلى الميناء المذكور.
هنا يعرض سقراط لما يبدو كأنه معرفته بغيب الأمور وما سيجري في المستقبل، إذ صحح الحكيم لكريتو معلوماته قائلاً له إن الباخرة لن تصل اليوم ولن يكون اليوم بالتالي موعد تنفيذ حكم الإعدام، لكن الباخرة ستصل بعد يومين. كيف عرف سقراط ذلك يسأل كريتو. يجيب الحكيم بأنه نتيجة لرؤية صادقة حصلت له قبل أن يوقظه كريتو من نومه.
وبالنظر إلى أن كريتو وبقية أصدقاء سقراط بدأوا يشعرون بقرب حلول المصيبة بفقد معلمهم فقد كان لزيارة كريتو السرية غرض آخر هو الإلحاح مجدداً على سقراط بقبول فكرة الفرار من السجن، وقد قدم كريتو مرافعة طويلة توسّل فيها لسقراط أن يقبل الفكرة لأن «من واجبه أن يحمي حياته» لأنها «ليست ملكه ولكنها ملك لأفراد أسرته وأصدقائه ومريديه» فلا يجب بالتالي أن يتساهل في تقديمها لجلاديه، أضف إلى ذلك أن موت سقراط لن يفهمه الناس باعتباره قبولاً من الحكيم بمصيره ورضا به بل سيعتبرون موته نتيجة لتخلي أصدقاء سقراط عنه وتخاذلاً منهم في نجدته في محنته.
يقف سقراط فوراً عند النقطة الأخيرة ليعطي كريتو درساً كما كانت عادته مع مريديه.
سقراط: لكن لِمَ ينبغي علينا يا عزيزي كريتو أن نبالي برأي الكثرة من الناس؟ إذ إن الناس الأخيار- وهم الوحيدون الذين ينبغي أن يلقى إليهم بال- سيحكمون على ذلك الأمر كما هو في حقيقته.

يردّ كريتو بالتحذير من أن الكثرة من الناس يمكنهم أن يتسببوا بالأذى الكثير كما أثبتت محاكمة سقراط عندما انساقت هيئة المحكمة المؤلفة من نحو 500 شخص وراء الحجج الباطلة للإدعاء.
يردّ سقراط على ذلك بالتأكيد على أن الأمر ليس أكثرية أو أقلية. يقول:
سقراط: حبذا لو أن رأي الأكثرية يمكنه أن يقدم خدمة للبشر لكن في حقيقة الأمر أن الكثرة من البشر لا يمكنها أن تضر أو أن تنفع ، لا يمكنها أن تجعل من إنسان حكيماً أو أن تجعل منه أحمق، وأي شيء يفعلونه فإنما هو نتيجة عوامل مقدرة لا سلطة لهم عليها.
يتجه ظن كريتو هنا، وهو العارف بشخصية ومناقب سقراط، إلى أن الحكيم ربما يرفض الفرار من السجن لأنه لو فعل ذلك سيسبب مشكلة كبيرة لمريديه وأصدقائه الذين سيتبين أنهم ساعدوه في ذلك وقد تُصادر أملاكهم أو يُزج بهم في السجون، أي إن نبل سقراط هو المانع الأهم لرفضه الإنصياع لخطة الهرب، لذلك يحاول كريتو شدّ عزيمة الحكيم بالتأكيد على أن هناك كثيرين مستعدون لبذل كل شيء من أجل تغطية مسألة خروجه، بما في ذلك تقديم الهدايا أو المال مما قد لا يرتّب بالتالي آثاراً سلبية.
يقرّ سقراط لكريتو بأنه حقاً يعتريه قلق لجهة ما قد ينجم لرفاقه نتيجة عملية الفرار لكن هذا الخوف ليس العامل الوحيد وراء رفضه الفرار.
سقراط: ياعزيزي كريتو إن حماسك لإنقاذي أمر يستحق التقدير لو كان في المحل الصحيح، لكن إن كان النوع الخاطئ من الحماس فالأمر مختلف، إذ في حال الحماس لأمر باطل فإنه كلما زاد الحماس كلما زاد حجم الشر الناجم عن العمل، ولهذا، فإن علينا أولاً أن ننظر إذا كان العمل جائزاً ويجب القيام به أم لا. إنني كما تعلم من أولئك الناس الذين يصرون على الإهتداء بالعقل، وبغض النظر عن الأسباب فإنني سأتبع دوماً ما يبدو لي عند التمحيص الموقف الأفضل. وإذا كان هذا القدر قد وقع عليّ فإنه لا يمكنني أن أضع جانباً بسبب ذلك سواء الأسباب التي عرضتها قبل قليل أم المبادئ التي التزمتها حتى الآن وما زلت، لذلك إن لم نجد معاً مبادئ أو مبررات أفضل من التي عرضتها فإنا متأكد أنني لن أوافق على ما تعرضه عليّ، لا بل إنني لن أقبل به حتى لو كان علي أن أتحمل أكثر من سجن أو مصادرة أو موت وأكثر من عقاب من النوع الذي قد يخيفونني به كما يخوفون الأطفال بالغول الأسطوري.
هذا موقف حازم جازم من الحكيم أراد به أن يقدّم لتلميذه كريتو درساً في الفضيلة وهو لا يبدو عابئاً بالموت الذي ينتظره بقدر اهتمامه أن لا يرتكب إثماً بفعل هوى النفس أو الخوف، بل إن سقراط يتصرف مع كريتو بصورة طبيعية تماماً مثل عادته في محاورة تلامذته وأصدقائه وكل من أراد التعلّم منه ما يعتقد أنه الحق.
سيتابع سقراط حواره مع كريتو بأسلوبه اللطيف والمحب لكنه سيبدّل اتجاه الحوار ليتناول الموضوع من زاوية جديدة.
سقراط: ما هو الطريق الأقرب إلى الحق في النظر إلى المسألة (أي اقتراح كريتو على سقراط أن يقبل بالفرار من السجن). هل أعود إلى حجتك السابقة حول أهمية رأي الناس، ومنهم من يجب أن يؤخذ برأيه ومنهم من يجب إهمال ما يقوله؟ والسؤال هل كان موقفي هذا صائباً قبل أن يحكم عليّ؟ وهل الحجة التي كانت صائبة قبل الآن أصبحت الآن كلاماً لمجرد الكلام، أو ربما للتسلية فقط؟ هذا ما أريد الآن التباحث معك فيه، وما أريدك الآن أن تساعدني في حلّه.
سقراط: أخبرني يا كريتو إذا ما كنت أنا على حق في القول من أن آراء بعض الناس يمكن أخذها في الاعتبار بينما البعض الآخر لا ينبغي لآرائهم أن تؤخذ في الاعتبار .
كريتو: هذا مؤكد
سقراط: أي إن الآراء الصالحة يجب أخذها في الاعتبار وليس الآراء الباطلة؟
كريتو: صحيح
سقراط: وأن آراء حكماء الناس صالحة وآراء الحمقى منهم تجلب الشرور.
كريتو: بالتأكيد
سقراط: … هل ينبغي على التلميذ في معهد الرياضة واللياقة الجسدية أن يستمع في تدريبه لآراء الناس الآخرين أو أنه يسمع من شخص واحد فقط هو مدربه أو معلمه بغض النظر عمن يكون هذا المدرب؟
كريتو: يجب عليه الإستماع إلى مدربه فقط
سقراط: أي إنه يجب أن يخاف فقط من عقاب ذلك الأستاذ وأن يتطلع للحصول على إعجابه هو وليس إعجاب الناس؟؟
كريتو: هذا واضح
ينتقل الحكيم الآن إلى عرض مسألة مكملة وهو يمهد للدخول في صلب الموضوع وتقديم إجابات واضحة على مشروع تهريبه من السجن.
وهو يبدأ بطرح السؤال حول عاقبة عدم إطاعة المعلم الذي يعرف واتباع عامة الناس ممن لا يمتلكون معرفة أو فهماً للأمور، وبالطبع فإن واجب التلميذ هو اتباع المعلم الذي يمتلك الحكمة، فإن قرر بدلاً من ذلك اتباع رأي الأكثرية من الناس الذين لا يمتلكون الحكمة، ألن يصيبه من جراء ذلك بلاء كبير؟
يوافق كريتو على ذلك، لكن المعلم يكمل عرض حجته بالتركيز على أن البلاء الذي يصيب العاصي إنما يصيبه في حياته وربما في بدنه وأن الموت أفضل من الحياة من دون شرف لأن المهم هو نوعية الحياة وليس الحياة نفسها أي عدد السنين التي نعيشها. ويشرح المعلم هذه النقطة عبر استكمال الحوار مع كريتو على النحو التالي:
سقراط: هل يمكننا العيش مع ذات شريرة فاسدة؟

الحكيم-سقراط
الحكيم-سقراط

“علينا أن لا نبالي بما تقوله الكثرة من الناس بل ما يقوله لنا من يمتلك معرفة الحق والباطل”

كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: وهل تكون الحياة جديرة بأن نعيشها لو أن هذا الجزء الأسمى من الإنسان إضمحل وفسد؟ هذا الجزء الذي يتقدم ويتطور باتباع العدل ويتردى بالظلم وترك الحق؟
كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: إذاً يا صديقي فإن علينا أن لا نبالي بما تقوله الكثرة من الناس لنا بل أن نتبع فقط ما يقوله لنا الرجل الذي يملك معرفة ما هو عدل وما هو باطل وما تقوله الحقيقة، لذلك فإنك بدأت حجتك بخطأ جوهري عندما قلت إن علينا إنه تتبع أكثرية الناس في تحديد ما هو حق وما هو باطل ما هو خير وما هو شر وما هو شرف للإنسان وما هو عار عليه.
يستدرك سقراط المطّلع على فكر كريتو بالقول: بالطبع هناك من قد يردّ بالقول: لكن الأكثرية قد تتسبب بالقتل (ملمحاً إلى محاكمة سقراط وما أدت إليه من حكم جائر عليه بالموت).
كريتو: حقاً يا سقراط ، هذا ما سيكون جوابي
سقراط: هذا صحيح، لكنني أجد لدهشتي أن حجتي السابقة ما زالت في مكانها بل هي أقوى من أي وقت، وأودّ أن أعلم هنا منك إن كانت تلك الحجة تنطبق أيضاً على فرضية أخرى وهي: أنه ليست الحياة في ذاتها ما يجب طلبه بل الحياة الطيبة.
كريتو: صحيح؟ يبدو لي أن ذلك هو الصواب.
سقراط: والحياة الطيبة هي حياة عدل وشرف، أليس كذلك؟
كريتو: حقاً
سقراط: بناءً على كل ما سبق سآتي الآن إلى مسألة ما إذا كان ينبغي لي أم لا، أن أحاول النجاة بنفسي من دون رضا أهل أثينا، وإذا ما كنت محقاً فعلاً لو أنني قمت بذلك فإن تبيّن لي أن ذلك حق فإنني سأعمل للنجاة بنفسي، وإن تبيّن أنه عمل غير محق فإنني سأمتنع عن ذلك، أما عن الاعتبارات الأخرى التي ذكرتها مثل المال (الذي عرض أصدقاء سقراط توفيره بهدف إنقاذه) وخسارة السمعة (أي اتهام الناس لهم بالتخلي عن معلمهم) وواجب تعليم أطفالنا فكلها حسب نظري تدخل في اهتمامات عامة الناس (ولا علاقة لها بالمسألة الأخلاقية في موضوع محاولة الفرار من السجن). والعامة كما تعرف مستعدون دوماً لأن يدعوا الناس للحياة، إن كان ذلك في مقدورهم، أو أن يدفعوا بهم إلى الموت ومن دون حاجة لسبب وجيه. لذلك، فإن المسألة الأهم التي يجب النظر فيها هي هل يجوز لنا أن نفرّ من السجن أو أن نحمّل الآخرين عبء مساعدتنا في ذلك عبر توفير الأموال أو تقديم الشكر للمعنيين أم أن ذلك يعتبر عملاً خاطئاً وآثماً؟ وفي حال كان ذلك العمل خاطئاً فإن ما يمكن أن ينجم عن بقائي هنا من مصيبة أو موت لا ينبغي أن يدخل في الاعتبار أو يؤثر على صحة حكمنا على الأمور.
يضطر كريتو هنا للموافقة على الفرضيات التي وضعها سقراط، لكنه ما زال يحمل الأمل -وإن كان أمله يتضاءل مع تطور المحاورة- بإمكان إقناع الحكيم بالقبول بخطة تهريبه من السجن.
يسأل كريتو: أعتقد أنك على حق لكن ما العمل في هذه الحال؟
سقراط: لنتابع تقييم المسألة معاً، فإما أن تُظهر خطأ موقفي إن استطعت، وعندها فإنني سأقتنع بدعوتك لي أن أفرّ من السجن رغم إرادة الأثينيين. والحقيقة هي أنني راغب وبإخلاص في أن تنجح في إقناعي، لكن على أن لا يتعارض موقفك وحجتك مع ما أعتقد أنه الموقف الصواب.
هنا يطلب سقراط من كريتو أن يجيب على بعض الأسئلة التي سيطرحها عليه، وسنرى أن الحكيم يدخل هنا إلى صعيد جديد يتعلق بالفضيلة وبواجب الفرد في أن لا يتصرف خطأ أو أن يؤذي أحداً.
سقراط: يمكننا القول بأنه علينا أن لا نقوم مطلقاً بارتكاب عمل خاطئ وأن السيئات دوماً تجلب الشرّ والعار لفاعلها؟ هذه المبادئ التي اتفقنا عليها من قبل هل علينا أن نلقي بها جانباً الآن؟ وهل أجرينا كل تلك الحوارات عبر سنوات حياتنا بجدية تامة لنكتشف ونحن في هذا العمر أننا لم نكن في حقيقة الأمر أفضل من أطفال يلهون أم نبقى على قناعتنا الثابتة، وعلى الرغم من النتائج التي قد نتعرض لها، بصحة كل ما كنا نقوله وبأن الظلم دائماً ما يجلب الشرور والعار لكل من يرتكبه. هل نتفق على ذلك؟
كريتو: نعم بالتأكيد
سقراط: إذن يتحتم علينا أن لا نرتكب الخطأ
كريتو: بالتأكيد لا
سقراط: ويجب علينا أن أوذينا أن لا نسبب الأذى في المقابل كما يعتقد الكثيرون، لأن الواجب أن لا نؤذي أحداً على الإطلاق.
كريتو: بالتأكيد
سقراط: وماذا عن الردّ على الشرّ بالشرّ كما هو اعتقاد أكثرية الناس ، هل هذا حق ؟
كريتو: كلا
عند هذه النقطة يسعى سقراط لامتحان صدق كريتو في إجاباته لأنه سيواجهه بعد قليل بنتيجة موافقاته للحكيم. سأله ما إذا كان على ثقة بأنه موافق على أنه لا يمكن الردّ على الشرّ بالشرّ مهما كان حجم الأذى الذي نتعرض له وينبهه إلى أن هذا الرأي لا يشاركه فيه إلا قليلون بينما الأكثرية هم مع فكرة الردّ على الأذى بالأذى. لهذا يسأل سقراط كريتو سؤالاً محدداً:

”  هل من الممكن لدولة أن تقوم إذا كانت قوانينها لا تتمتع بأي قوة تنفيذ ويمكن لأي فرد أن يعطل تنفيذها؟ “

سقراط: هل أنت موافق فعلاً على المبدأ الذي عرضته لك وهل أنت مستعد لأن تعتبره العامل الفصل في مناقشتنا أم أنك ستختلف معي بشأنه؟ فإن كنت مع الرأي الآخر دعني استمع إلى ما ستقوله وإن كنت ستبقى على موافقتك لي فإنني سأتابع عرض حجتي.
وإذ يؤكد كريتو أنه لم يبدّل رأيه ينتقل سقراط إلى سؤال آخر هو: هل ينبغي للمرء أن يتمسك بما يعتقد أنه الحق أم يمكنه أن يتنصل منه ويخون مبدأه؟ يجيب كريتو بأن الصحيح هو العمل بما يعتقد المرء أنه الحق.
هنا يأتي سقراط إلى بيت القصيد مخاطباً كريتو:
سقراط: لكن إذا كان ذلك المبدأ صحيحاً، كيف نطبقه؟ إذا غادرت السجن رغم إرادة أهل أثينا هل أكون على حق أم على باطل؟ أو هل أكون بذلك قد سببت الأذى إلى أولئك الذين يجب أن يكونوا آخر من أفكر بإيقاع الأذى بهم؟ الا أكون بذلك قد خنت المبادئ التي توافقنا معاً على أنها يجب أن تتبع؟ ماذا تقول؟
يتفاجأ كريتو بهذا الانعطاف في حديث الحكيم ولا يقوى رغم ما قاله من موافقته لسقراط أن يجيب بالإيجاب على سؤاله وهو يختار بدلاً من ذلك موقفاً متردداً فيجيب: لا يمكنني الإجابة على ما تقول لأنني لا أعلم .
هنا ينتقل سقراط إلى أسلوب قوي في مواجهة كريتو بالحقائق وخطاب الضمير.
سقراط: لنفترض إذاً يا كريتو أنني قررت الهرب من السجن وقبل أن يحصل ذلك جاءتني قوانين أثينا وحكومتها للتحقيق معي في الأمر وهم سيبدأون حديثهم معي على هذا النحو: قل لنا يا سقراط – سيقولون- ما الذي أنت في صدده؟ هل حقاً عزمت على أن تعطل بقرار فردي منك قوانين البلاد ؟ هل تعتقد حقاً أنه من الممكن لدولة أن تقوم إذا كانت قوانينها لا تتمتع بأي قوة تنفيذ ويمكن لأي فرد أن يعطل تنفيذها؟
هنا يوجه سقراط كلامه إلى كريتو ويسأله: ألا تعتقد أن اي خطيب مفوّه يمكنه أن يقدم مطالعة طويلة حول الشر الذي ينجم للدولة عن تجاهل قوانينها والتي تتطلب أن أي حكم تصدره يجب أن يتبعه التنفيذ؟ ربما وددت لو أنني أردّ على ذلك الاتهام بالقول: لكن الدولة هي التي سببت لنا الأذى بإصدارها لحكم ظالم!
كريتو: أحسنت يا سقراط!
سقراط: لكن القانون سيجيبني: هل هذا هو ما اتفقنا عليه؟ أم أن عليك أن تقبل بتنفيذ حكم الدولة ضدك؟ سيتابع القانون القول: قل لنا يا سقراط أي جرم ارتكبناه ضدك يبرر لك أن تقوم بتدميرنا وتدمير الدولة؟ بادئ الأمر لسنا نحن الذين سهلنا لك فرصة وجودك ؟ لقد تزوج والدك والدتك بمساعدتنا، وبما أنك اتيت إلى الحياة بمساعدتنا ونحن الذين اهتممنا بمعيشتك وبتعليمك، أليست قوانين الدولة التي جعلت من واجب والدك أن يقدم لك أفضل تعليم وأن يعلمك الرياضة والموسيقى؟ سأجيبهم: نعم . وعندها سيتابعون الحديث بما أننا وفّرنا لك الوجود والتربية وكل شيء هل يمكنك أن تنكر أنك لهذه الناحية ابننا وعبدنا كما كان أبوك وأجدادك من قبلك؟ وإذا كان صحيحاً أنك تتمتع بحقوق تزيد على ما نتمتع به أو أن من حقك أن ترد على الأذى الذي أوقعناه بك بأذى أكبر هل يمكنك أن تطبق ذلك المبدأ على والدك أو سيدك (لو كان لك سيد)، وإذا كنا نعتقد أنه من حقنا أن نميتك هل تعتقد أن لك الحق أن تدمرنا في المقابل؟ هل يغيب عن فيلسوف كبير مثلك أن للوطن قيمة أكبر وأقدس وأعلى من أي والد أو والدة أو أسلاف، وأن على المواطن حتى وإن لم يكن مقتنعاً بعمل الدولة أن يظهر الطاعة لها؟ وعندما توقع الدولة بك قصاصاً فإن عليك أن تتحمله بصمت، كذلك في المعركة، فإنه من العار على أي جندي أن يتمرد وأن يترك مكانه في القتال رغم ما قد يواجهه من خطر الجراح أو الموت. إن عليه أن يعمل ما يأمره به وطنه وكما إنه من غير المقبول أن يعتدي المرء على والده فإنه من غيرالمقبول أن يعتدي على بلده.
قدّم سقراط هنا مطالعة بليغة وموجزة في احترام الدولة والقانون وفي أسبقية الوطن على الفرد وأسبقية قوانين الدولة على مصلحة أو رغبات الأفراد، ومما لا شك فيه أنه في هذه الأفكار تطورت فكرة الديمقراطية الأثينية إلى درجة لا تقل نضجاً وتطوراً عن مفهوم الدولة في عصرنا الحاضر.

منطقة أغورا الشهيرة في أثينا حيث جرت محاكمة سقراط كما تبدو اليوم
منطقة أغورا الشهيرة في أثينا حيث جرت محاكمة سقراط كما تبدو اليوم

وجد كريتو نفسه هنا في موقف صعب للغاية، لقد استدرجه سقراط أولاً للتوافق معه على جملة من المبادئ التي وجدها منطقية مثل عدم الرد على الشر بالشر والتزام ما يعتقد الإنسان أنه الحق، لكنه يجد نفسه وقد باغته سقراط بالإنتقال إلى أهمية تطبيق تلك المبادئ بغض النظر عن النتائج التي قد تصيبنا من جراء ذلك. وها هو كريتو يجد نفسه أمام نتائج لتلك المبادئ لم يكن يتوقعها! بل إن سقراط بدا في مطالعته وكأنه يدافع فعلاً عن الدولة التي أذته وحكمت عليه بالموت، مقدماً بنفسه المثال على أن الموقف من الدولة والقوانين (وأي من شؤون الحياة) لا يمكن أن يكون استنسابياً ومرتبطاً بمصلحة أو تقدير الفرد. وبالطبع يرتقي سقراط في هذه المطالعة إلى ذروة التجرد إذ يرفض بصورة قاطعة عرض كريتو وبقية أصدقاء سقراط له مساعدته على الهرب من السجن، وهو لا يبدو مبالياً بالمرة بمصيره الشخصي وبحقيقة أن مؤدى ما يقوله يعني أنه يؤيد بنفسه تنفيذ حكم الإعدام الجائر. أليس هو من قال أمام المحكمة أن على المرء أن يلتزم الصدق والحق حتى ولو ترتب على ذلك أن يدفع حياته ثمناً لذلك؟ ثم ينتقل سقراط الآن إلى حسم الموضوع فيسأل كريتو: هل ما تقوله القوانين صحيح أم لا؟
كريتو: أعتقد أن ما تقوله صحيح
يردّ سقراط بتقديم المزيد من الشرح لنظريته في احترام الدولة – ومن زاويته هو عدم التمسك بالحياة لأي سبب كان- وهو يعطي لكلامه قوة خاصة بدعوة كريتو لتخيل ما سيقوله القانون في الامر مشروع تهريبه من السجن قبل يوم من تنفيذ حكم الإعدام.

تمثال لسقراط في إحدى الحدائق العامة في أثينا
تمثال لسقراط في إحدى الحدائق العامة في أثينا

سقراط: سيقول القانون بعد ذلك: فكر يا سقراط معنا بأن محاولتك الهرب من تنفيذ القانون تسبب لنا أشدّ الضرر، لأنه وبعد أن سببنا قدومك إلى هذه الدنيا ورعينا طفولتك ووفرنا لك التربية والتعليم وأعطيناك مثل أي مواطن حصة من خيرات البلد ، فإننا كنا نعلن دوماً بأن أي مواطن أثيني يبلغ الرشد ويكون قد تعرف على طريقة حياة المدينة ونظمها ومع ذلك لا يجد نفسه موافقاً على كل ذلك يمكنه السفر إلى أي مستعمرة أو مدينة أخرى يفضلها وأن يأخذ معه متاعه ولن يمنعه من ذلك أحد. لكن عندما يتعرف الرجل على المدينة ونظمها وقيمها ومع ذلك يختار أن يبقى فيها فإنه يكون قد دخل ضمناً في عقد يلتزم بموجبه تنفيذ كل ما تأمره به الدولة، ومن يتمرد على هذا الالتزام فإنه سيكون آثماً من ثلاثة وجوه. أولها أنه بتمرده علينا يكون كمن تمرد على والديه وثانيها لأننا نحن من وفّرنا له التعليم وثالثها لأنه دخل في تعاقد معنا يلتزم بموجبه تنفيذ ما يطلب منه لكنه لم يفعل.
يأتي سقراط إلى وجه آخر من الحجة عندما يجعل القانون يتابع حديثه الإفتراضي له فيقول: هناك أكثر من شاهد ودليل يا سقراط على أن القوانين والمدينة لم تكن تضايقك بأي حال، فأنت من بين الأثينيين جميعاً كنت أكثر من يقيم في المدينة بصورة دائمة، وأي مكان تمكث فيه فلا بدّ أنك تحبه ، وأنت لم تغادر أبداً المدينة سواء لمشاهدة الألعاب أو لأي سبب باستثناء مغادرتك المدينة لتأدية الخدمة العسكرية على الجبهات. أضف إلى ذلك، أنه كانت لديك الفرصة لاختيار عقوبة النفي بدل الإعدام لكنك أعلنت أنك تفضل الموت على النفي وانك لست قلقاً إزاء احتمال الموت لكنك تبدو وقد نسيت الآن تلك المشاعر البليغة وقررت ان تظهر الإحتقار لنا (الدولة) او لقوانيننا والتي تريد تدميرها. وها أنت تقوم بما يمكن فقط لعبد بائس أن يقوم به وهو الفرار والتمرد على الإتفاقات والعهود التي التزمت بها.
هنا يعود سقراط ليضع كريتو أمام الحقيقة متوقعاً منه أن لا يستمر في حالة الخوق والشعور بالخسارة الذي يعتريه مع بقية أصدفاء سقراط إزاء التنفيذ الوشيك لحكم الإعدام. ومن أجل شرح موقفه الرافض بصورة أقوى ينتقل سقراط إلى أسلوب جديد أكثر وضوحاً في عرض حجته .
سقراط: سيقول قانون أثينا : لتفكر جيداً يا سقراط، لو قررت أن تخرق القانون وتهرب بهذه الطريقة فأي منفعة ستأتيك أو ستأتي أصدقاءك من جراء ذلك. إن أصدقاءك سيحكم عليهم بالنفي وسيحرمون من المواطنية الأثينية، أو ستنزع ملكياتهم، هذا مؤكد تقريباً، أما أنت فإنك إن هربت إلى مدينة يونانية ثانية مثل طيبة أو ميغارا وكلاهما يطبقان أنظمة حكم جيدة فإنك ستأتي إليهم كعدوّ لأنهم سينظرون إليك كشخص مخرب للقوانين وستثبت للقضاة الذين حكموا عليك أن حكمهم كان صائباً، لأن من يفسد القوانين يمكن بسهولة أن يكون مفسداً للشبيبة وعقولهم. وفي نهاية المطاف هل نيل بضع سنوات من العمر يستحق كل هذا العناء؟ ثم لو فكرت من دون خجل بالهرب إلى مدينة أخرى أقل نظاماً مثل ثيسالي حيث توجد درجة كبيرة من الفوضى فإنهم سينظرون بعين الإعجاب إلى قصة هروبك من السجن مرفقة طبعاً بتفاصيل مضحكة مثل كيف تمّ تهريبك ملفوفاً بجلد ماعز أو غيره من سبل التخفي. وقد لا يكون هناك من سيذكرك بأنك وأنت في سن الشيخوخة هذه فعلت ما فعلت من أجل بضع سنوات من العمر، وقد يأتي بعض الرجال الغلاظ ليقولوا لك أشياء كثيرة مهينة. صحيح أنك ستعيش لكن كيف؟ ستعيش كمتزلف لجميع الناس وكخادم لهم، ومن أجل ماذا؟ من أجل أن تأكل وتشرب في ثيسالي!وهل قطعت كل تلك المسافات من أجل وجبة عشاء؟ وأين ستكون مشاعرك النبيلة حول العدالة والفضيلة آنذاك؟
يختم سقراط مرافعته بإسم قانون أثينا ودولتها فيتابع بالقول على لسان القانون: إسمع يا سقراط.لا تفكر بالحياة أو بالأسرة أولاً بل فكر بالعدل أولاً إن لم تفعل ما يطلبه منك كريتو (أي الهرب من السجن) فإنك بقبولك الحكم تغادر هذه الحياة بكل براءة، كشخص مظلوم وليس كمرتكب للشرور، ليس كضحية للقانون بل كضحية للناس، لكن إن قررت أن تبادل الشر بالشر والاذى بالأذى مخالفاً كل العهود والعقود التي عقدتها معنا فإننا سنكون على عداء معك ما دمت حياً، كذلك، فإن أشقاءنا وهم قوانين العالم الآخر سيستقبلونك (عند موتك) كعدو لأنهم سيعلمون أنك فعلت كل ما في وسعك لتدميرنا، لذلك نقول لك استمع إلى ما نقوله ولا تستمع إلى كريتو.

من آثار أثينا القديمة
من آثار أثينا القديمة

رفضه الهرب من السجن وهي مطالعة بارعة لأن سقراط لم يعرض الحجج على لسانه بل جعل القانون نفسه يتكلم ليعطي للحجة قوة أكبر وليضع كريتو في موقف يفقد فيه الأمل بإمكان تحقيق مشروعه. حقيقة الأمر أن سقراط لم يكن مقتنعاً من البدء لكن الحكيم يمتلك من الصبر ومن أسلوب الحوار المتدرج الذي اشتهر به بحيث يجعل محاوره يصل إلى النتيجة التي يكون هو على قناعة تامة بها.
لذلك تنتهي محاورة كريتو بكلام صريح من سقراط لمريده:
سقراط: هذا الصوت (أي الحجة التي ساقها ضد فكرة الهرب) هو الذي يطن في أذني وهو يمنعني من سماع أي صوت آخر وأنا على يقين بأن أي شيء إضافي قد تدلي به سيكون مما لا طائل تحته، لكن تكلم إن شئت إن كان بقي لديك أي شيء تقوله.
كريتو: لم يعد لدي شيء أقوله.
سقراط: إذاً دعني اتبع ما يوحي إليَّ بأنه أمر الله.

العدد 13