السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

السبت, شباط 22, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الأخلاق التوحيدية الإطار، المرتكزات، والقواعد التطبيقية

الأخلاق التوحيدية
الإطار، المرتكزات، والقواعد التطبيقية

في أهمية الأخلاق
لم يخطء أمير الشعراء، أحمد شوقي، حين قال:
إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

الأفراد، كما الجماعات والمجتمعات، إنما تُختصر في أخلاقها. هي أفضلُ الحلي ليتزيّن بها المرء، لا تشترى بمال وإنما بالأعمال الصالحات، وقبل ذلك بالنية الحسنة والقصد الموقوف على عمل الخير. لا يذهب بها فقر أو مرض، ولا يزيدها مال ولا غنى. فالأخلاقُ مع الفقر أو المرض حسنةٌ يُحسبُ لها حساب وأجر، وهي بعض الصبر الذي كان عليه المتقدّمون في الدين والتقوى والنضال الشريف بكل ألوانه. والأخلاق مع المال والغنى مكرمةٌ وخلقٌ وحليةٌ وبخاصة إذا رافقها ما يناسب من التواضع وأدب المعشر وعمل الخير والالتزام بما أمر به الإنسان من معروف وما نُهي عنه من مُنكر.
والحضارات نفسها عبر التاريخ الطويل إنما قويت واشتد عودها وزاد بأسها وعظم قدرها بما توفر لبنيها من أخلاق ولمجتمعاتها من إيمان ولأحكامها من عدالة ولحكّامها من شجاعة وحلم وحكمة، وكلها عناوين أخلاقية. وبالمقابل، فالحضارات التي ذوت واضمحلّت، أو في الطريق لذلك، هي تلك التي ساء حاكمها وفسُد حكمه وفقد رجال حكمه النزاهة والشجاعة والسمعة الحسنة، فتراجع مجتمعها، وتقاعس أفراده، وتنازعوا بدل أن يتراصّوا، فضعفت لذلك شوكتها وباتت ضعيفة أمام كلّ عارض وتحدٍ، وأزفت بالتالي ساعة غروب شمسها.
هوذا ديدنُ حضارات عظمى (وفي مقدّمها الحضارة العربية الإسلامية التي بسطت شمسها وفي فترة قصيرة جداً من أقاصي الشرق إلى أقاصي الغرب المعروف يومذاك) فهي إنما قامت وتوحّدت ونهضت وسادت بالتالي بما توفر في روحها وسلوكها من إيمان وشجاعة وإخلاص، ومن تراصّ بين أبنائها وطبقاتها، ومن تفانٍ واقتدار لدى قادتها وحكامها. وغياب أو فقدان الخصال الأخلاقية تلك هو ما يذهب بالحضارة نفسها أو بسواها، حيث لا يكفي مال أو عدد أو مدد وحده، وما من شيء في وسعه أن يعوّض غياب العنصر الأكثر قوة في بناء الحضارات: الأخلاق.
وحتى في الدين نفسه، فالأخلاق شرط الإيمان، بل هي الوجه الخارجي الملموس للإيمان الداخلي، ولا يعتدّ في زعم من يزعم أن لا صلة راسخة ضرورية بين الإيمان والأخلاق. الأخلاق في كلّ الأديان، وبخاصة في الأديان التوحيدية، ثمرة طيبة من ثمار الإيمان، والمؤمن يُعرفُ بأفعاله قبل أقواله، وبتقواه وسلوكه الحسن وسمعته العطرة كما يُعرفُ بما يعرِف، يحفظ ويذاكر. وقد كان الدين الاسلامي الحنيف حاسماً في ربطه الإيمان بالأخلاق، وأولُ ذلك حين خاطب الله رسوله قائلاً: ﴿…وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾، أو حين قال الرسول الأكرم في ما يشبه العنوان لبعثته النبوية المشرّفة: “إنما بُعثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق”، أو في قوله في مكان آخر: “أحبّكم إلي أحسَنكم أخلاقاً”. وحتى على مستوى الأخلاق “التطبيقية”، كان القرآن الكريم حاسماً في ربطه النيّات بالأفعال والإيمان بالأعمال، فلم ينِ يردد في عشرات الأمكنة، وعلى نحو لم يسبقه إليه دين: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ…﴾، أي هو جعل عمل الصالحات في مرتبة الإيمان أو تليها مباشرة. وفي ذلك ما يكفي للدلالة على أولوية الأخلاق، لدى الفرد، كما في التاريخ والحضارات، ومن باب أولى في الدين نفسه، وهو ما رفع الفعل الأخلاقي والأخلاق بعامة إلى مرتبة الصدارة فلم تعد فعل اختيار بل فعل ضرورة واضطرار لا يتقدّم عليها منطقياً إلا الإيمان بالله والرسّل، إذ لا نفع في أخلاق، بل لا تقوم أخلاق، إن لم يكن في إس تكوينها الإيمان بالخالق وبواسع حكمته ورحمته وسداد أحكام رسالاته السماوية، وبخاصة مبدأ الثواب والعقاب والحساب واليوم الآخِر.

في الأخلاق عموماً
نبدأ، كما نفعل غالباً، بالتعريف، تعريف الأخلاق. الأخلاق، كمبحث نظري أو ما نسميه بـ “الأخلاق النظرية”، هي العلم الذي نعيّن به الخير، ونميّزه بالتالي عمّا هو شر. أي هو بمعنى ما علم التمييز بين ما هو خير وما هو شر. أما الأخلاق كمجال عملي، أو ما نسميه بـ “الأخلاق التطبيقية” فهي الحثّ على طلب الخير والعمل به وتجنّب الشر ومهاويه.
لكن الأخلاق، وفي كلّ الأحوال، ليست بالأمر المثالي أو المجرد فقط، بل هي في صلب التكوين الفردي (الضمير والعقل)، والاجتماعي (القوانين والشرائع الوضعية) ومسرح تجلّي الحكمة الإلهية الكونية وعلى أحسن صورة متخيّلة. وعليه، فإذا انتبه المرء من غفلته لدقائق، لا أكثر، فسيكتشف أن الإنسان السويّ وحده قد اختصّه الله بمجال “الأخلاق” وأحكامها. وحده الإنسان، لا الملائكة ولا الحيوان، هو موضوع علم الأخلاق، ومحل أحكامه ونواهيه. الملائكة لا تحتاح علم الأخلاق، لأنها عقول/أرواح خالصة، وخير خالص بالتالي؛ والحيوان خارج حقل أحكام الأخلاق لأنه بدن أو جسد محض محكوم بالغريزة الحيوانية، الآلية، وخالٍ (عموماً) من العقل الذي له وحده أن يميّز بين الخير والشر. وكيما يكون إنسان سويٌ ما خارج الأخلاق يتوجب أن يكون: إما آلة ميكانيكية صمّاء، أو ملاكاً (بدون جسد) أو حيواناً (بدون عقل). لكن الإنسان السوي ليس كذلك على الإطلاق: هو ليس آلة ميكانيكية صمّاء، ليس ملاكاً، ولا حيواناً.
هوذا مبعث الإشكالية الكبرى في علم الأخلاق: لماذا الإنسان وحده موضوع علم الأخلاق؟ ويقود السؤال إلى حقيقة أخرى، وهي احتواء الإنسان (وحده) على جوهرين متصلين مترابطين: المادة (أي الجسد)، من جهة، والعقل/الروح (أي النفس) من جهة مقابلة. ما نعرفه عن كيفيات هذه الصلة أو العلاقة قليل جداً، ولكن ما نعرفه بالتأكيد هو أن الإنسان واقع تحت ضغط الجوهرين المتقابلين: حاجات الجسد من جهة ونواهي العقل/الروح من جهة مقابلة. كيف يحدث الاتصال بين الجوهرين؟ وأين؟ سؤالان ليس هناك إجماع على الإجابة عليهما، ولا فائدة من الدخول في نزاع حول من له اليد الطولى أو النفوذ الأعظم في الآخر: الجسد أو العقل. ما نعرفه حقيقة هو أن الجسد والعقل/الروح قائمان بحق، وأنهما يتبادلان التأثر والتأثير، وأن شخصية الإنسان ثم سلوكه هما مسرح الصراع (وأحياناً الوفاق) بين حاجات الجسد وأحكام العقل. يحدث النزاع والصراع بين الجسد والعقل حين تتحوّل حاجات الجسد الطبيعية والمقبولة إلى دوافع عمياء دائمة، فيعود الإنسان القهقرى نحو غريزته وحيوانيته، أو حين تتحوّل حدود العقل/الروح عن فضيلة الاعتدال نحو الغلو والتطرّف.
وعليه، فالتكليف الأخلاقي أعلاه الذي اختص به الإنسان ليس فعل مصادفة، أو بالأمر العارض؛ وإنما لحكمة سامية وكجزء حيوي من النظام الكوني، وليس الاجتماعي فحسب، الذي أراده الله لخلقه. فالمجتمع لا ينتظم، والنظم الكوني لا يستوي، إلا على قاعدة العدل: العدل في التكليف والعدل في الحساب. وفق الآية القرآنية الكريمة: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾، أو قوله في آية أخرى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7 وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8﴾. الله لا يمكن أن يكون ظالماً – ومن صفاته وأسمائه الرحمة والمغفرة والإحسان. لكن الله أيضاً عادل، والعدل مبدأ وأصل. فكيف تتحقق العدالة – وهي الترجمة العملية لمبدأ العدل – ومن دون أن ننزلق إلى الظل، والله ليس ظالماً ولا يحب الظالمين؟ الجواب هو ببساطة، ولحكمة إلهية ومنطقية فإن مبدأ التكليف الأخلاقي القائم (وكيما يكون عادلاً ولا يعتوره شبهة ظلم) فيجب أن يتوفر له مرتكز أساسي: مرتكز المسؤولية، مسؤولية الفرد الواعي والحرّ عن أفعاله الإرادية:﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ 7 وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ 8﴾. الوعي والحرية هما شرطا المسؤولية، والمسؤولية شرط التكليف الأخلاقي للفرد.
حين تتوفر المسؤولية الفردية القائمة بدورها على الوعي (لا الغريزة) والحرية (لا القسر) يتحقق شرط العدالة، ويتحقق جوهر التكليف الأخلاقي والغاية منه، ولكن بمضمون أعلى متسام ومختلف. فبتحقق العدالة القائمة على المسؤولية والحرية يتحوّل التكليف الأخلاقي من إلزام خارجي قسري (كما هو الحال في الشرائع الوضعية) إلى خيار داخلي طوعي، يجري التعبير عنه بالعقل أو بالضمير، وكلاهما واحد في المجال الأخلاقي (كما هو الحال بامتياز في العقائد الدينية وفي بعض الفلسفات، لا جميعها). في العقائد الدينية، الالتزام الأخلاقي الفردي الطوعي (أو الضمير في الفرد) هو نتاج الثقة بالحكمة الإلهية والطاعة لنواهيها بالتالي (مبدأ الرضى والتسليم). وهو في الفلسفات العقلانية والمثالية (وكلها بدأت بفيثاغوراس وأفلاطون) نتاج الثقة بالعقل وبمنطقه وأحكامه، حيث الخير (والفضيلة) نتاج المعرفة العقلانية الصحيحة، بينما الشر (والرذيلة) نتاج الجهل أو غياب المعرفة العقلانية الصحيحة ومضاددة العقل. في الفعل الإنساني الأخلاقي الطوعي يلتقي العقل بالضمير، والدين بالفلسفة، وتغدو الأحكام الأخلاقية موضع قبول، بل وإجماع تقريباً، بضمانة الوحي الإلهي والاعتبار العقلاني في آن. ويزول من ثمة التناقض المفتعل بين العقل والدين، كما يظن بعض ضيّقي التفكير، فإذا الحكمة الإلهية الكونية أفق مشرق لامع جاذب أنّى جئته، أكان من جانب الدين أو من جانب العقل. فهما مستويان في رؤية الحقيقة الواحدة نفسها، ولكن من زاويتين مختلفتين، أو من موقعين مختلفين.

يحدث النزاع والصراع بين الجسد والعقل حين تتحول حاجات الجسد الطبيعية والمقبولة إلى دوافع عمياء دائمة

مبادئ الأخلاق التوحيدية
تُشتقُ مبادئ الأخلاق التوحيدية من الإطار القرآني الواسع والحديث النبوي الشريف، ومن مرتكزات مسلك التوحيد، وأخيراً من أعمال السادة العلماء والمشايخ العارفين ومن السير العطرة للأنبياء والصحابة وكبار المتعبّدين والزهّاد والأتقياء الصالحين؛ وفي مقدّم هؤلاء عند الموحدين الدروز أعمال العالمَين العلَمَين التقيَين الأمير السيّد عبد الله التنوخي والشيخ الفاضل.
ترسي آيات القرآن الكريم، ومعها الحديث النبوي الشريف، المبادئ العامة للأخلاق الإسلامية بعامة، وللأخلاق التوحيدية على وجه الخصوص، موضوع هذه المقالة. فعلى قاعدة أركان الإسلام الخمسة المعروفة، يحضّ القرآن الكريم المؤمن (بين الأمر الصريح حيناً والحث حيناً آخر) على التمسُّك بالفرائض والعبادات والنواهي التي تضمنها الشرع والتي تبدأ مما هو مبدأي وأساسي ومفصلي ولتنتهي بما يتصل بكيفية سلوك المؤمن المتعبد في حياته الدنيا.
وفي الجانب الثاني (وهو موضوع الأخلاق التطبيقية) حضّ القرآن الكريم والحديث الشريف على: 1) ترك غواية الدنيا وإغراءاتها الملتبسة والزائلة، والتمسك بدلاً من ذلك بموجبات اليقين الذي لا يعتوره شك؛ و 2) ترك ما يزول ويموت ويفنى ويفسد من غايات وأغراض، والتمسك بدلاً من ذلك بما لا يفنى ولا يزول ولا يفسد، أي ترك ما هو شر وفساد أو ما هو أقرب إلى الشر والفساد وطلب ما هو خير خالص أو أقرب إلى الخير، في الأفعال كافة، وفي النيّات مع الأفعال أو ربما قبل ذلك. ومنطق هذه القاعدة بسيط ومتين: الدنيا “دار فناء”، فيما المبادئ والقِيم ومن ثمة الآخرة “دار بقاء”، وعليه فالعاقل هو من يسعى إلى دار البقاء، فدار الفناء متبدلة، لهذا السبب أو ذاك، بل وزائلة في النهاية، غداً أو بعد غد، أي في يوم ما. وبالمنطق نفسه، وفي باب الأخلاق التطبيقية، فما نفعله في هذه الدنيا يزول مع هذه الدنيا، إلا الرصيد الإيماني والأخلاقي الذي وفّرناه للحساب الأخير على أبواب دار البقاء. في الحياة الدنيا نحن مجرد آلة نحمل فيها ما هبّ ودبّ، ومعظمه ما لا حاجة لنا إليه، أما القليل الذي نفعله لدار البقاء فكله لنا، بل وأجره ليتضاعف ويزيد لأن الله جلّ جلاله مُحب ورحيم وغفور فيلاقي عبده المتجه إليه في منتصف الطريق، يمدّ له يد العون والرحمة، فيمنحه دفء الإيمان ورضى الواصلين، ما يملأ عقله باليقين التام وقلبه بالفرح الغامر. ولذلك فأنت لترى العارفين الأتقياء الواصلين، أو من اقتربوا من الوصول، أشدّ الناس سعادة وفرحاً وحبّاً، يغمرهم نور في وسع من امتلك بعضه أن يراه بوضوح فتكون له إشارات مشجعة ومطمئنة ودافعة له في طريق التقوى والخلاص.

مرتكزات الأخلاق التوحيدية يمكن تلخيصها بثلاثة:
1- التوحيد التام لله تعالى وترك سائر ما عداه، أي اليقين الثابت
لا يخالطه أو يعتوره شك،
2- الصدق،
3- الرضا والتسليم بما قدّره أو يقدّره الله تعالى.
على هذه المرتكزات تقوم محاور الأخلاق التوحيدية ومطالبها، في أوامرها كما في نواهيها.
مبدأ الأخلاق التوحيدية ومصدرها الأساس التوحيد لله تعالى لا يخالطه شك أو التباس أو شبهة، وتنزيهه عمّا عداه من صفات ولواحق وأسماء وتشبيه. حين يملأ التوحيد عقل المؤمن وقلبه، يتشكّل هذا المؤمن من جديد، ويتشكّل عالمه الخارجي، كما نواياه ومقاصده، من جديد أيضاً. حين نقرع الباب ويملكنا الخالق لا شيء أدنى منه يبقى معه أو يليق أن يسكن معه. حين تقيم مع الله، ويقيم الله معك، حين تملك الحق أو يملكك الحق، فلا مكان بعد ذلك لدنيا زائلة خادعة غير حقيقية. لا مكان ساعتذاك، لا في النوايا ولا في الأعمال، لشيء، لا للمادة وفسادها وطغيانها، ولا للنفس ونوازعها. لا مكان للدنيا الفانية وغرائزها – عدا ما هو ضروري وكاف للعيش واستمرار الحياة. ولا مكان، قبل ذلك كله، لـ “الأنا” وشيطنتها و”أبلستها” في تعبير المرحوم الدكتور سامي مكارم. فالمسافة دون الآخر، ودون الله، إنما تصطنعها “الأنا”. أما حين نتحرّر من الأنا، فالآخر هو أنا، الوجه الخارجي مني، تماماً كما “أنا” هي الوجه الخارجي منه. حين نتحرّر من “الأنا” نتحرر ربما من ثلاثة أرباع مفاسد الدنيا وسقطاتها، إن لم يكن كلها. فالشرور وفي طليعتها الجشع والطمع والغرور والكبر وغيرها كلّها من نتاج “الأنا” الفردية البشعة. وحين نتحرّر من “الأنا” الفردية تسقط الحُجُب التي حجبت الحقيقة عنا، وتنفتح فرصة السفر في الاتجاه الصحيح صوب الحقيقة والحق، الله تعالى. نقول فرصة، إذا لا تسقط الحجب تلقائيا بل يحتاج الوجه السالب الأولي ذاك إلى وجه موجب يستكمله وذلك بالعلم والسعي والبذل والمجاهدة وغيره مما يحتاجه المريد في طريق الخلاص.
والصدق ثاني مرتكزات الأخلاق التوحيدية. الصدق، كما قال العارفون، هو كمال التوحيد. وننقل عن الدكتور سامي مكارم قوله: “من هنا قول مسلك التوحيد: إن مثل الصدق من الدين كمثل الرأس من بقية الجسد، وأن الصدق هو كمال التوحيد، فالمقامات التوحيدية كلها تكون باطلة من دون صدق في السريرة واللسان، وتصديق بالجنان” (العرفان في مسلك التوحيد، 126). بالصدق نفتتح صفحة المعرفة الصحيحة والخير والأعمال الصالحات وكل ما يشتق منها أو يعود إليها. تماماً كما نفتتح بالكذب صفحة نقيضة تماماً، صفحة الشر والوهم والفساد والجهل. بالصدق نفتتح صفحة الحق، تماماً كما نفتتح بالكذب صفحة العدم. وشتّان ما بين الحق والباطل، الخير والشر، الحقيقة والعدم.
والرضى والتسليم ثالث مرتكزات أخلاق التوحيد. إذا كان التوحيد هو بلوغ الحقيقة، والصدق هو كمال العمل بموجبها، فالرضى والتسليم هما كمال ديمومتها، ديمومة التوحيد، أو الحقيقة، التماهي فيهما، وعيشهما في كلّ لحظة من لحظات حياتنا ومندرجاتها؛ في نهارها وليلها، حلوها ومرّها، يسرها وعسرها، بأسها وبؤسها، قوتها وضعفها، غناها وفقرها، إلى سائر ما يعرض لنا أو يصيبنا في حياتنا الدنيا. ومن بلغ التوحيد والحقيقة فماذا ينقصه؟ وإلامَ يحتاج بعد ذلك؟ هذا هو مبدأ الرضى والتسليم. حين نبلغ الحق، ويمتلكنا الحق، وحيث لا شيء فوق الحق، أو قبله، حق للنفس أن ترضى أي أن تطمئن. وهو ما يجعل المؤمن يشعر بطمأنينة عجيبة، راسخ التوحيد رسوخ الجبال، وثابت الجنان ثبات الجلمود، (تنأى الحوادثُ عنه وهو ملمومُ). والمؤمن في ذلك كله عارف ما يفعل، مدركُ مآل رضاه وتسليمه، وهو الرضوان التام الذي ينتظره وفق الآية الكريمة: ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾ (التوبة 21). أما التسليم فخطوة مكملة على طريق الحقيقة. فإذا كان الرضى هو القبول فالتسليم هو الفعل: لقد أسلمت نفسي وما لي وما أملك للحق والحقيقة، بعدما ارتضيت التوحيد مذهباً، والصدق مسلكاً. التسليم هو الغاية القصوى للمؤمن. بالتسليم يكتمل التوحيد. فنُسلٍم الدنيا إلى مالكها، والأنا إلى باريها، والدار إلى صاحبها، فلا يبقى إلا الحق والحقيقة، أو وفق ما قال كمال جنبلاط في واحدة من قصائده العرفانية “ليس في الدار إلاّ صاحبها”.
يمكن على قاعدة الأسس الأولى أعلاه التقدّم أخيراً لتعيين آداب السلوك والقواعد العملية التفصيلية، أو الأكثر وضوحاً بينها، والتي يحتاج المؤمن معرفتها أولاً والعمل بها ثانياً في مسلكه اليومي.
وفق العالم الجليل الشيخ الفاضل(ر)، فإنّ أهم الآداب والقواعد هي التالية (كما نقلها الصديق الدكتور أسعد البتديني في أطروحته للدكتوراه “فلسفة الأخلاق عند الموحدين الدروز، الشيخ الفاضل نموذجاً”، 2007):

العاقل هو من يسعى إلى دار البقاء، فدار الفناء متبدلة، بل وزائلة في النهاية

أولاً: تقوى الله سرّاً وعلانية. أي معرفة الله، والثقة به، والإخلاص له، في السر والعلانية. وهذه مقدمة أولى ضرورية، إذ لا تقوم أخلاق، من دون تقوى الله، أو خارج الله.

ثانياَ: الاجتهاد في العلم والعمل. المعرفة هي الخير، والمعرفة الصحيحة هي الخير كله. ولكن العلم من دون عمل يبقى ناقصاً، فالعمل الصالح هو كمال العلم الصحيح الخيّر الذي ينتفع به.

ثالثاً: القيام بالفرائض الإلهية والواجبات الدينية. فمن لا يقوم بالأصول، حسب الشيخ الفاضل، لا يعرف الفروع. والفرائض الإلهية هي أصل الدين. والموحّد هو من قام بالواجبات الدينية المعروفة وعلى قاعدة الفرائض الإلهية أعلاه.

رابعاً: حُسنُ المعاملة. حسن المعاملة في كل شيء (في الأخذ والعطاء، في البيع والشراء، في القرض والوفاء، وسواها) هي أيضاً تطبيق مباشر لأصل الدين وفروعه، وقد قال رسول الله: “الدين معاملة، وأحاديث أخرى كثيرة تدعو إلى الحديث اللطيف، والدعوة اللطيفة، وأخذ الناس باللين”.

خامساً: حُسن الأخلاق، وطيبُ الصحبة والمعشر، ونفي الطيش والغلاظة. كما تقول الآية الكريمة: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾(آل عمران 159). وإذا كان اللين مطلوباً في الدين نفسه، فكيف في الأسرة، والحياة الاجتماعية؟

سادساَ: ترك الدعاء بالسوء بالكلية، سواء على إنسان أو حيوان. فالدعاء بالسوء إشارة إلى خبث النوايا وسوء المقاصد، وهو ما لا يتوافق وسريرة المؤمن الموحّد الموقوفة للخير الخالص ولرب العالمين.

سابعاً: ترك المباهاة والزهو والخيلاء والريا والزينة لأنها كلها وسائل لطلب الجاه في هذه الدنيا، وكلها بقايا من “أنا” واهمة يجب أن لا يبالغ المؤمن في امتلاكها، أو إظهارها، لأنها منازعة لله تعالى في ملكه، ولله الأرض والسماء والكون وما فيه، فضلاً عن كونها حجاباً يحول بين المرء وبلوغ الحقيقة والخلاص.

ثامناً: ترك الكبر والعجَب. فالكبر وفق الشيخ الفاضل(ر) هو استعظام النفس برؤية قدرها فوق قدر الآخرين. أما العجب فهو أن يعجب المرء بنفسه وعلمه وعمله ورأيه، فلا يرى علم غيره وعمله ورأيه. أي أن يرى نفسه أفضل من غيره، وهو مرة أخرى من فعل “الأنا” النافية للآخر، والمنافية لجوهر التوحيد.

تاسعاً: ترك الحسد. فالحسد جحد للحق، وتعريض بالمحسود، وبعث للضغينة والكراهية، وإشارة إلى الجشع والطمع والعداوة، وقبل كل ذلك تعظيم ما في الدنيا الفانية؛ أو هو في كلمات الشيخ الفاضل(ر)، ظالم في صورة مظلوم.

عاشراً: صون النفس عن حب المجد والجاه وطلب الرئاسة. وحب المجد والجاه مذموم، بحسب الشيخ الفاضل، لأن المرء إذا شُغل بذلك فسيجانب الصدق لصالح الكذب والتودّد والرياء، وهو باب للنفاق والفساد. ومن جديد فذاك مرض من أمراض الأنا المتكبرة التي تنافق في الظاهر بغية تحقيق المآرب. وهو في كل الأحوال هوى في النفس يخرجها عن جادة الإيمان والإخلاص لله تعالى والاستغراق في عبادته.

حادي عشر: ترك الغِيبة، لأنّ الغِيبة كما يقول الشيخ الفاضل من علامات عدم الأمانة، وعدم الأمانة كذب وبهتان. وفي الغيبة، إلى ذلك، ظلم للغائب، والله لا يحب الظالمين.

ثاني عشر: ترك النميمة. في النميمة شيء من الغيبة؛ ولكن فيها إلى ذلك إيغار للصدور، وهي باب للعداوة والبغضاء. والنميمة تذهب بالود بين الناس، وتفرّق بينهم، فيما الآية الكريمة تحث على الوحدة والتعاون على البر والتقوى.
ثالث عشر: مداومة الصلاة. الصلاة فرض عين، لأنها الصلة بين القلوب، وبين المتعبّد والخالق. وهي فرصة لاستذكار الحقيقة، ودوام ذكر الله، والوعد بطاعته، والعمل بموجبات الطاعة تلك.

رابع عشر: الاحتشام في الملبس والمظهر. والاحتشام بحسب الشيخ الفاضل سترة عظيمة ودرع مانع وحصن حصين ووقاية للجسد وجمال ظاهر وكمال في المروءة وشدة في الحياء. والاحتشام باب آخر من أبواب الفضيلة. وهو استشعار وحياء أمام الخالق قبل المخلوق، واحترام أولاً وأخيراً لقدسية الإنسان وتعبير عن الورع والتسامي عن البدن ومتعلقاته. هو تعليق لحضور الجسد كيما تتمكن الروح/العقل من أن تتفرغ لصورها ومُثُلها الكلية والثابتة.

خامس عشر: الحرص على الطهارة. والطهارة نوعان، طهارة الظاهر وطهارة الباطن. والجانبان متلازمان، فبمقدار ما تحمي طهارة الظاهر صحة الجسد وكرامته وجماله، تحمي طهارة الباطن صحة النفس وكرامتها من طغيان “الأنا”. بالطهارة تتحقق الفضيلة، وتكتمل حلقات التوحيد في ترك ما يجب تركه كي تتفرغ النفس للعلم والمعرفة والصلاة والمجاهدة وما تقتضيه رحلة طلب الحقيقة والاستغراق فيها.

مزار الشيخ الفاضل (ر)
مزار الشيخ الفاضل (ر)

خلاصة:
يتضح من القواعد والشروط الخمس عشرة التي فصّلها الشيخ الفاضل (وفق الدكتور أسعد البتديني) أنها بدأت بما بالأصول وانتهت في الفروع، وبدأت بالنظر الذي لا بد منه وانتهت بالعمل التطبيقي في أدق تفاصيل السلوك الذي لا بد للمؤمن والمؤمنة من أن يأخذا به في تجنُّب الدنيا الفانية وإغراءاتها وأفخاخها، (وهو جانب السلب أو النفي)، ليتمكنا بعد ذلك من بناء أخلاق الموحّد العارف المتجّه بكليته ناحية الحقيقة والحق والسعي للتوحد بهما والتخلّق بما يتناسب والمقام ذاك.
أما إذا حللنا القواعد والوصايا أعلاه فسنجد أنها تبدأ بما تتطلّبه الحياة الاجتماعية السوية (ترك النميمة والحسد والغيبة وحُسن المعاملة والاحتشام وسواها)، إلى ما نص عليه الشرع (من مداومة الصلاة وترك المباهاة والجاه) وأخيراً إلى ما ألزم به أهل الزهد والعرفان أنفسهم من موجبات التوحيد الخالص والعبادة التامة وعدم إشراك ما عدا الله في عبادة الله ويتضح ذلك في التقوى والعلم والعمل بوجب الفرائض الإلهية.
وفي الحقيقة، فالقواعد والوصايا تلك هي في صلب الأخلاق الإسلامية كما بلغتنا من سيرة صحابة الرسول عليه السلام، و”أهل الصفاء” إلى جانبه، مروراً بأهل المعرفة والبرهان من حكماء وفلاسفة، (راجع مثلاً المدينة الفاضلة للفارابي)، وصولاً إلى أهل الحقيقة والعرفان، وجميعهم يعودون إلى منظومة القِيم والأخلاق التي جاء بها القرآن الكريم، وإلى سيرة الرسول (الفقير الأمين الزاهد) والأحاديث النبوية الشريفة. بل في وسعي القول بثقة أن وحدة تفكير المسلمين والفرق الإسلامية (على اختلاف اجتهاداتهم) لتتضح، في الغالب، أكثر ما تتضح في باب الأصول والفروع والقِيم والقواعد الأخلاقية والمسلكية التي يتوجب على المسلم المؤمن الأخذ بها، كما تلك التي يتوجب عليه تركها واجتنابها.
ونعود في الخاتمة فنكرّر أنّ الأخلاق ليست فرعاً، بل هي من الأصول، في الدين كما في الدنيا، وأنّ كلّ جسر موّدة نمدّه بالخير بيننا وبين الآخر، إنما هو أيضاً جسرٌ بيننا وبين الله الذي لا يريد بنا إلا يسراً، في داخل ذواتنا، في أسرتنا، مع جيراننا، كما مع الآخر، كلّ آخر، كلّ إنسان: وكل الناس إنسان واحد، فإن أسأت إلى إنسان أسأت إلى كلّ الناس. قال الله في كتابه العزيز:
﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ… فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة، 32).

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي