دير المُخَلّص
أمّا حكاية بناء دير المخلص فهي تجسّد الحالة الإيمانيّة لطائفة الروم الملكييّن الكاثوليك بأبهى صوَرها. وفي المعلومات التي جمعناها من القيّمين على هذا الدير الواقع بالقرب من بلدة جون في منطقة إقليم الخرّوب وعلى كتف مرج بسري ومجرى نهر الأوّلي، ويشرف على مدينة صيدا والقرى المحيطة بها وصولاً إلى جزّين. في زيارة عائلية لبلدة جون، من اعمال إقليم الخروب، التفت المطران إلى تلّة مشرفة مقابل جون عليها مزرعة قديمة. وسأل لمن تعود هذه المزرعة؟ فقيل له إنّها لصديقك الشّيخ قبلان القاضي كبير مشايخ الدروز، وتُدعى باسم مشموشة التَّحتا، وهي في الأصل مشموسة لأن الشمس تطل عليها طيلة النهار، لتمييزها عن مزرعة مشموشة الفوقا قرب جزِّين والتي بُنِيَ عليها لاحقاً دير سيدة مشموشة الشهير. وعندما فاتح المطران الصّيفي صديقه الشيخ قبلان القاضي برغبته في امتلاك الأرض فلم يتردد الشيخ قبلان ووافق فوراً على عادة المشايخ والأمراء بالترحيب بكل تنوع روحي في المنطقة، فاستأجرها المطران بداية لثلاث سنوات، ثم جرى لاحقاً بيع الأرض تلك من دون عقد مكتوب وانتقل المطران الصّيفي اليها مع رهبانه سنة 1701 بعد أن ضاقت بهم دار المطرانيّة في صيدا. ولأنّ الكلام بين صديقين أثبت من أي عقد مُدَوَّن، لم يكتب الشيخ قبلان صَكّاً بتأجير الأرض إلّا بعد سنوات، وبالتّحديد في 3 كانون الأول سنة 1709. وكان المطران قد استحصل من حاكم البلاد آنذاك الأمير حيد ر شهاب بترخيص يجيز له بناء دير يكون حسبما جاء في الصّك “موقع حصين لرهبانكم يمنع عنهم الحراميّة والتعدّي، ولا يصير تلف إلى مال الميري ويعمّروا المزرعة الذكورة”.


كان بناء الأديرة والكنائس مُحَرَّماً في السلطنة العثمانيّة، لكنّ المطران أفيثيموس سعى لشراء المزرعة والأرض المحيطة بها بحجّة أن تكون مأوى للرّهبان. وبناء عليه طلب من صديقه الشيخ قبلان أن يحرّر له صكّاً بتفريغ المزرعة وما حولها من أراضٍ للرّهبان ليكون حجّة ناطقة بوجه العثمانيين، فكان له ما أراد. فحرّر الشيخ الصك بتاريخ 9 شباط سنة 1712، وبعد وفاته عاد صهره ووريثه الوحيد الشيخ علي جنبلاط وثبّت الصكّ بختمه وتوقيعه “وقفنا على هذه الحجة بعد وفاة عمّنا ويُعْمل بموجبها”. وما أن أطلّت سنة 1711 حتى ارتفع أوّل بناء في الدير الجديد وهو الممشى المعروف بممشى المؤسّس.
ما أن سكن الرهبان الدير حتى شرعوا ببناء كنيسته الرائعة على أعلى نقطة من الأرض، وكان ذلك في العام 1717 وانتهَوْا منها سنة 1720 فكرّس المؤسّس هيكلها قبل وفاته بثلاث سنوات على اسم التجلّي وفي عيد التجلّي الذي يصادف في 6 آب 1720. وكانت في زمانها كُبرى كنائس الشرق بمساحة تبلغ 400 متراً مربّعاً، وبارتفاع أقصى يبلغ 11 متراً.
وأنَّى تّلفَتَّ في الكنيسة ترى التاريخ يلفُّك من كل جانب، ويبهرُك بداية الإيقونوستاز الواقف أمامك وهو من الرّخام الإيطالي المُطَعّم بالزخرفات على الطريقة العربيّة القديمة، وفوقه مَنجور من خشب الجَوز المطعّم بنواة خشب اللّيمون، وهو من صنع المعلم الدمشقي جرجي بيطار. وكان ذلك نحو سنة 1880. ويعلو المَنجور صلبان ثلاثة مع إيقونات التوسّل للعذراء والرّسول الحبيب، وهي من عمل الفنّان الإيطالي غبريالو. ومن يزُرِ المكان يجدْ نفسه أمام فنٍّ ملكيٍّ شرقيّ مصدره القدس الشريف. وتلك الأيقونات التي تتصدّر الإيقونوستاز تعود إلى ما بعد سنة 1860. عند مدخل الكنيسة الجنوبي تقع كابيلا القديس انطونيوس البدواني التي بنيت سنة 1752، وهي تحوي تحت هيكلها رفات بطاركة ومطارنة أوصَوْا أنْ تُدفن جثامينهم في ماء المُخَلّص.
“يا ألله! إنّه الفاتيكان!” هكذا وصفه المبعوث البابوي إلى بلدة جزّين المونسنيور سلستينو بوهيغاز لمّا رأى دير المخلّص لأوّل مرّة. إنّه باختصار بناء ضخم يضمُّ أقساماً عدّة تتفاوت في الكِبَر والقِدَم وكأنّه قرية صغيرة، ففيه الكنيسة وغرف المنامة للرهبان ومكاتب الآباء والموائد ومخازن القمح والدبس والزيت والفرن، ومعاصر الزيت والدبس والأقبية التاريخية مع خوابيها المعتّقة، والمكتبة والمطبعة وغُرفة البريد ودار الضّيوف ومساكن العمّال والأُجَراء، وبقربها زرائب البقر ومزارع الخنازير، ومكان لحياكة ثياب الرّهبانية والصايات، حتى الإسكافي كان له محلّ خاص. غيرَ أنَّ هذا البناء الضخم لم يُبْنَ دفعةً واحدة بل على مراحل، بقدر ما كان يتيسّر للرهبان المال والأمان.
باكورة الأقسام وأوّلها كما أشرنا، الممشى الذي تأسّس سنة 1711 وهو بُنِيَ فوق أقبية عتيقة تعود إلى زمن التنوخييّن. وفي سنة 1792 بُنِي الجناح الشرقي بالقرب من مدخل الدير الشمالي. أمّا الطابق الثاني وهو عبارة عن غرف منامة فقد بُنِي سنة 1835 وجُدّد سنة 1993 بقسميه إلى طابقين اثنين.
في دير المخلّص ما يقارب 15 ألف شجرة زيتون، وآلاف من أشجار الصنوبر، و500 شجرة خرّوب. في موسم الحمل يصل إنتاج الزّيت إلى 3000 تنكة سنويّاً، كما يوجد في الدّير 30 بقرة و100 طير دجاج. وينتج الدّير سنويّاً 1000 قنِّينة ماء الزّهر، و1000 قنّينة قصعين و250 كيلو عسل ونحو 150 سطل دبس و300 كيلو صابون بلدي.