دير مار جرجس
يُرجّح أن يكون اسم بلدة الناعمة الشّوفية من أصل آرامي معناه الحسن والجمال، وكانت مركزاً صناعيّاً في عهد الفينيقيين وقد راجت فيها صناعة الزّجاج. تحمل طبيعتها المميّزة في كل شهر موسماً جديداً، وهذا يضفي عليها حسناً وجمالاً. وحفاظاً على هذا الكنز الطبيعي الفريد حرص الشيخ كنعان النّكدي على الاستفادة من الخيرات الزّراعية الحديثة، ومن مآثره انه وهب للرّهبانية اللبنانية المارونية قطعة أرض بخراج مزرعة الناعمة. لبناء دير بموجب صكّ مؤرّخ في جمادى الأوّل سنة 1170 هجرية الموافق 1756 ميلادية حدّد فيه الأملاك التي وهبها للدّير مُشتَرِطاً ألّا يكون الدّير على اسم قدّيس خِتْيار أو امرأة، بل على اسم قدّيس صاحب مراجل، فَسُمِّي باسم دير مار جرجس. وفي الصّك أيضاً رَفَع السُّخرة عن شركاء الرّهبان وأُجَرائهم وعن بَقرهم ودوابهم، ورفع قلم الميري عن خدمهم ورعيانهم. وجميع الرّهبان يكونون في حماية الشيخ، وكلّ من يدخل الدّير ويكون مظلوماً فإنّه لا يُسمح باعتقاله في الدّير. وكان ذلك في عهد الأب العام جرجس قشّوع (1753 – 1757) باشرت الرهبانية بناء الدير، فسلّمها الشيخ كنعان الأراضي الباقية “بمشاركة الثلث” واستمرّت حتى سنة1801، وحين جرت المُقاسمة نهائيّاً بينه وبين الرهبانية نالت الرّهبانية نصف الأملاك واشترت النصف الآخر من الشّيخ كنعان.


ومن الأخبار التي يتناقلها الرّهبان إلى اليوم، أنّ الشيخ كنعان لمّا بلغه خبر بناء الطابق الأوّل من الدّير أراد أن يستطلع الأمر بنفسه فامتطى حصانه وتوجّه إلى الناعمة حيث يتم البناء فوجده صغيراً ولا يليق بالهِبَة التي قدّمها لهم ورغبته أن يكون “كبير البناء لكي يليق بصاحب المقام”. فأمرهم بهدمه وإعادة بنائه بشكل أفضل.
أكمل الرهبان سنة 1786 بناء الكنيسة والأقبية مع بعض القلالي من الجهتين الغربية والجنوبية. وهو ما دفعهم لترك الدير القديم المعروف بـ “قبو يوسفية” وهو على مسافة مئة متر تحت الدّير الحالي والذي انشأته الرهبانية بعد تسلمها الأرض من الشيخ كنعان على اسم القديس جرجس الشهيد والسكن في الدير الجديد. وعلاوة على العمل الزّراعي الذي كان رهبان الدير روّاده في المنطقة، كان للدّير أيضاً عمل اجتماعي وإنساني ورعوي يؤدّيه للمؤمنين الموجودين في جواره. وقد عيّنه مجلس المدبّرين العامِّين سنة 1881 ديراً للابتداء فنُقِل إليه من دير سيدة طاميش خمسةٌ وأربعون مبتدئاً مع معلّمهم.
يستقبل الدير اليوم في رحابه المتقدّمين في السنِّ من الرّهبان، ويؤمِّن لهم الراحة والعناية بعد ما قدموه من تضحيات وخدمات في حياتهم الرهبانية.
أمّا الشيخ كنعان فتُفيد المراجع أنّه كان رجلاً شجاعاً خَيِّراً مُحسناً، تمثّلت في مسلكه السياسة النّكدية بل الدّرزية البعيدة عن أي تعصّب طائفي. ويُذكَر في هذا الشأن أنّ البطريرك أغناطيوس جَوهر عندما سافر إلى روما سنة 1760 ملتمساً درع التّثبيت بعد انتخابه، حمل كتاب توصية من الشيخ كنعان إلى البابا، فبعث إليه بكتاب يشكر فيه للشيخ لفتَتَه على المسيحيين وحمايته لهم. وفي سنة 1762 كان آل نكد من جملة الذين عملوا على التوفيق بين البطريرك والرهبان البلدييِّن اللبنانيين (انظر كتاب الرّهبنة المارونيّة – لويس بليبل)
وفيما يلي الرسالة التي بعث بها البابا كليمنت الثالث عشر إلى الشّيخ كنعان واصفاً إيّاه بالأمير اللّامع الفائق الاقتدار، الأب أمير النكدييّن (وقد أُعطيت في روما في مركز القديسة ماريّا. في الخامس عشر من تشرين الثاني 1760 في السنة الثالثة من حِبْريَّتِنا):
” إنّنا نثني كثيراً على إنسانية سعادتكم، والتي لمسناها في رسالتكم الأخيرة إلينا. ولمّا كان مُعْتَقَدُنا يعلّمنا أنّ على جميع المسيحييّن المنتشرين في أنحاء العالم أن يكونوا متّحدين في المسيح كأطراف الإنسان. ونحن مُقِرِّين بجميلكم لاستقبالكم الخيّر وحمايتكم لهم، وإنّ حُسْن صنيعِكم للمسيحيين أبنائنا، كما لو أنّه بالنسبة لنا قد امتدّ إلينا، مُمَثَّلاً بالشّفقة كما لو كان السيد المسيح بنفسه على الأرض. وإنَّنا نتوسَّل إليكم بأن تواصلوا هدفكم هذا، وأن تضيفوا أشياء أكثر لمصلحتنا. وفي الحقيقة لو أنَّ مساعدتكم مترابطة مع رغبتنا والقرارات التي اتخذناها لو التُزِمَ بها بإخلاص، لاستطعنا في مدّة قصيرة بمساعدة العناية الإلهية أن نتجنّب كلَّ النِّزاعات التي بانت حديثاً.
بناء عليه نجعل معاليكم تطّلعون على التدابير التي تبنيناها في ذلك الخصوص، بُعَيد وصول سفراء الأمّة الملكية اليونانية إلى روما. وإنَّنا سوف نتضرّع باستمرار إلى العَليّ الأعلى لكي يديم عليكم ثوب الصّحة والسّعادة الحقيقيّة ومأثرة شهرتكم.”