الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الإثنين, كانون الثاني 6, 2025

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الأمير نديم آل ناصر الدين

عَلَمٌ من أَعلامِ الفِكْرِ والأدبِ واللّغة والنّقد والصّحافة، ظلَّ خفّاقاً نابضاً إلى أن انتقل إلى رحمة ربِّه ورضوانه يوم 15 كانون الأول سنة 2003. الأمير نديم آل ناصر الدّين، إمام اللّغة والحُجَّة والمُدَقِّق والمُتَبحِّر الذي عمل في مجال الأدب والنّقد والصّحافة والثّقافة قرابة سبعين عاماً وأكثر عاكفاً على البحث والتّنقيب والمطالعة والدّرس والتّمحيص.

[ihc-hide-content ihc_mb_type=”show” ihc_mb_who=”5,6,7,1″ ihc_mb_template=”1″ ]

بدأ سيرتَه الأدبيّة في جريدة “الصّفاء” التي كانت مِنْبراً للمثقّفين والمتنوّرين وأصحاب المواهب الأدبيّة والأقلام الواعدة، إلى جانب العلاّمة الكبير الأمير أمين بك آل ناصر الدّين إمام اللّغة والبلاغة والبيان والشّعر والفّصاحة في زمانه، وما كتابُه “ديوان الفلك” إلاّ شاهدٌ على شاعريّته الفذَّة وخُلقه الطيّب وقدرته على نظم الشّعر المقفّى الأخّاذ والقافية القويّة الموزونة.
كان صديقاً ودوداً أنيساً في مجالسه ونُدواته، محبّاً للخدمة العامّة، مُضَحّياً بالغالي والنّفيس في سبيل أصدقائه ومحبّيه وإخوانه، ذا أخلاقٍ عاليةٍ، وصفات حميدة، ومناقبَ مميّزةٍ، جعلته قريباً من القلب، وموجِّهاً ناصحاً، ومرشداً حكيماً، مُختبراً شؤون الحياة وشجونها مُنصرفاً إلى الجدِّ والعمل، عارفاً بأسرار الحياة، عالماً مُتَبَصِّراً، ذا حكمة ودراية.

وكانت جَمَعتني بالرّاحل الكريم صداقةٌ حميمة، فكنت أقصده في بلدته “كفرمتى” مسقط رأسه وأجداده لنتبادل الأحاديث الوديّة، والنّوادر المُستَملحة، والفُكاهات الطّريفة، وكانت أحاديثنا تتناول أيضاً الشّعراء العرب والمُحَدِّثين، ويأتي في مُقدَّمة الشعراء المعاصرين أميرُ دولة الأدب وأمير دولة الشّعر أمين آل ناصر الدين (1876 – 1953) وجريدة “الصّفاء” والعَقَبات التي وقفت في وجهها فترة من الزّمن، واللَّيالي الماضيات وما مرَّ فيها من أحداث في القرن الماضي، وعن “المدرسة الداوُديّة” في “عبَيْه” و”المدرسة الحميديّة” في “كفرمتّى” وغيرها من المواضيع الشائقة. وقد تعلّمت في المدرسة الداوديّة في “عبَيه” إحدى عشْرةَ سَنةً متواصلة، وسكنت أنا والوالدة الحنون وشقيقي وِلْيَم في “الوقف الدّرزيّ” التابع للأوقاف الدّرزيّة في عْبَيه.
شَبَّ الأمير نديم في بيت وجاهة وعلم وأدب، وكانت له صداقة وُدِّية مع كبار الأدباء والشّعراء، كما كانت له علاقاتُ وُدٍّ ورسائلُ مكتوبة بخطّ يد الأمير شكيب أرسلان والأمير المجاهد عادل أرسلان وسلطان باشا الأطرش وفارس الخوري ومحمّد علي الطّاهر ومحمّد كُرْد علي، والرّئيس الخالد جمال عبد الناصر.

  • ولادتُه وعلومُه

وُلِدَ الأمير نديم آل ناصر الدّين في عام 1908 في بلدة “كفرمتّى”. والده النِّطاسي البارع سعيد آل ناصر الدّين، خِرِّيج الجامعة السّلطانيّة في استانبول.
يقول الأمير نديم عن نفسه: “نشأ هذا العاجز في بيت تَنوخي لَخمي، كان أقطابُه في كلِّ عصرٍ وزمان أُمراءَ شِعرٍ، وأَئِمة لُغَة وبيان وشعر، وفحول فصاحة وبلاغة ووجاهة وفروسية وعلم”.
حين بلغ الخامسة من عمره أدخله والده مدرسة المعلم مهنّا خَدّاج، فتعلَّم على يديه القراءة والكتابة، في كُتب المعلّم خليل رامز سركيس مؤسّس جريدة “لسان الحال”. ثمَّ انتقل إلى “مدرسة المعارف الحميديّة” في كفرمتّى، حيث تَتَلمذ على يديَّ الشّيخ العلّامة هاني أبو مصلح، فَدرَس عليه مبادئ اللُّغة الإنكليزيّة بالإضافة إلى مواد اللُّغة العربيّة.
توفِّي والده في عام 1916، فأخذ أعمامُه على عاتقهم تربيتَه وتعليمَه، وبعد أن توقفت “مدرسة المعارف الحميديّة” بسبب نشوب الحرب العالميّة الأولى، أخذ الأمير أمين على عاتقه أمرَ تعليمِه وتثقيفِه، فجعله يحفظ مئات الأبيات الشّعريَّة مع إعرابها من كتاب “نفح الأزهار” الذي جمعه شاكر البَتْلوني وحقَّقه اللُّغَويّ الضّليع الشيخ إبراهيم اليازجي.
انتقل إلى مهنة التّربية والتّعليم في عدّة مدارسَ مَحَلِّيَّة، وتسلَّم تحرير جريدة “الصّفاء” في العام 1934، وبعد وفاة الأمير أمين تسلّم “الصّفاء” رسميّاً وظلَّ يشرف عليها إلى سنة 1962 حين توقَّفت عن الصّدور، وكانت “الصّفاء” في عهده في أَوج ازدهارها وانتشارها، بحيث وصل عدد المشتركين في بلاد الاغتراب وفي لبنانَ وسوريا في ذلك الوقت إلى خمسة آلاف مشترك ومعظمهم من المُغتربين ومن أبناء الوطن في لبنانَ.

  • وِقْفاتُه وآراؤه

كانت له وِقفاتٌ وطنيّة بارزة، وعربيّة تدُلُّ على أصالة عروبته وقوميته وألمعيّته في الحقل العام، إذ ناهض الفرنسييِّن والانتداب الفرنسيّ بشكل خاصّ والغرب بشكل عام، ما دفع الفرنسييِّن إلى منع صدور “الصّفاء” لمدّة ثلاثة أشهر مُتواصلة، بعدَ أن تعرَّض لهم الأمير نديم على صفحاتها بالتجريح واتَّهمهم بحبِّ السَّيطرة والاستقواء على الشّعب الأعزل، لتعسُّفهم وظلمهم ومراقبتهم للصُّحف بمنع الحريّة في الكتابة عن المساوئ التي تبدر منهم.
لذلك، قام الأمير يطالب الفرنسييِّن بالعدالة والإنصاف وبإطلاق الحريّات الصّحافيّة كما يجب أن تكون.
رفض الأمير نديم في ذلك الوقت أن يُغيِّر سياسته، أو أن يحيد عن خطّته ونهجه الوطنيّ والعربيّ، رغم الضّغوطات التي مورست عليه لدفعه إلى تغيير سياسته.
وكان الأمير نديم قد وقف في الثّورة السوريّة الكُبرى (1925-1927) داعماً ومؤيِّداً القائد العام للثّورة سلطان باشا الأطرش وقادة الثّورة الأحرار، فأصدر المندوب السّامي الفرنسيّ حُكماً قضى بنفيِهِ من لبنانَ، فلجأ إلى سوريةَ هروباً من الاضطهاد وخوفَ الاعتقال.
أمّا رأيُه في لبنانَ، فكان يريده حُرّاً عربيّاً مُسْتقلّاً لأبنائِه البَرَرَة الأحرار المتعلّقين بالعروبة والإسلام.

  • كتاباتُه

له مئاتُ المقالاتِ التي نشرها في جريدة “الصّفاء” وهي عبارةٌ عن “افتتاحيّات” تتناول مواضيعَ مُخْتلفةً، ومسائلَ سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ووطنيّة، شتّى، كما كتب عدداً من المقالات في الصّحف والمجلّات اللّبنانيّة تناولت اللّغة والتّاريخ والأدب والسّياسة والفنّ والاجتماع والأمور الاجتماعيّة. إلاَّ أنَّ العروبة كانت شغلَه الشاغلَ وهمَّه الأكبرَ ومحورَ كتاباتِه وأبحاثِه، وله مقالات أو “مقدّمات” كتبها لعدد من الأدباء والشّعراء، وكتب سلسلة أحاديث ومقالات في جريدة “الزّمان” في فترة من الزّمن، وفي “الإذاعة اللّبنانيّة”، وعدَّة محاضرات في بيروتَ وفي عددٍ من المناطق اللّبنانيّة.


ليس للأمير نديم مؤلّفات أو كتب مطبوعة، وإنّما مؤلّفاتُه ما زالت محفوظةً مُعَدّةً للطّبع وهي: “العَقائلُ” و”الدّراريّ” و”الرّسائل” و”القاموس الكبير” و”أدباء عصر النّهضة”. كتب لي شخصيّاً مقدَّمة لكتابي: “رجالٌ من بلادي “الجزء الثّاني، الصادر عن دار الرّيحانيّ للطّباعة والنّشر في بيروتَ، الطّبعة الأولى، سنة 1986، فماذا قال؟:
“… بين يديّ الجزء الأوّل والثّاني للصّديق الوفيّ المؤرّخ البحّاثة الجوّالة الأستاذ نجيب البعَيني، طواه على سِيَرِ أرهاط عدد من مشاهير بني معروف في العصور الأخيرة ممَّن كانت لهم دون غيرهم حَلَبات المجد على تنوّعها إذْ كان لكلٍّ منهم حَلَبَتُه الخاصّة يصول فيها ويجول غيرَ مُنازَع”.
“… أخذ البعيني على نفسه أنْ يطوفَ بقلمه في لبنانَ ويمَّم شَطر معاقل إرهاطٍ من مشاهيرِ بني معروفَ، يَسْتقرِئُ فيها الخَلَفُ أخبارَ السّلفِ، ويستزيد في تمحيصه وتنقيبه التفتيشَ في الخزائن والصّناديق عن شواهدَ خَطّية لا تدحضُها أباطيلُ مزوِّري التّاريخ اللُّبنانيّ ومُفْتَرَيات الذين أعمى بصائرَهم الحقدُ الدّفين فراحوا يمسّون التاريخ بالإفك والبُهتان والدّجَل ويتجنَّوْن على بني معروف في مشاهيرِهم الذين لا يكاد يحصيهم عدٌّ، تجنِّياً قبيحاً أباه عليهم الأحرار المُخلصون من أبناء قومهم بمواقف صادقة يقابلها بنو معروف بالإعجاب والإكبار”.
ثمَّ يستطرد قائلاً عن المؤلف وما عاناه من مشاقَّ ومتاعبَ: “… نعود إلى ما عاناه المؤرّخ الأستاذ نجيب البعيني في إعداد تاريخه القَيِّم لأنَّ من يجمع معلومات جمهرة من المشاهير مرَّ على انتقالهم إلى دار البقاء أمدٌ طويل ولم يترك بعضهم آثاراً مطبوعة ولا آثاراً مخطوطة ولم يكن بعدهم من خلف يُلمُّ بِسِيَرِهِم، ليصعب جدّاً على الباحث المُنَقِّب أن يوفَّق بسهولة إلى الفوز بمطلبِه، ولكنّ الأستاذ البعيني يعتمد في البحث والتّنقيب أسلوباً قلَّما يعتمده غيره من الباحثين المنقّبين لأنَّه يغشى كلَّ بيت تربطه بمترجَمِه (بفتح الجيم) صداقة وثيقة فاستجلى من كبيرِه أخباراً يجعلُها سيرةً للمترجَمِ له.
ويختم الأمير نديم قائلاً: “إنَّ مِن حقِّ الصّديق المؤرخ الأستاذ البعيني على بني قومه أن يمنحوا كتابه (رجال من بلادي) جائزة السّنة، فهو جدير بمثل هذا التّقدير. إنَّ الوفاء رأس المفاخر”.
بين يديَّ الآن كتاب: “دقائق العربية” جامعٌ أسرارَ اللُّغة وخصائصَها، لمؤلِّفه الأمير أمين آل ناصر الدّين، صادر عن مكتبة لبنان، بيروت. وَقَفَ على طبعِه وعُنيَ بمراقبة أُصوله تلميذُه العَلّامة الأمير نديم آل ناصر الدّين، الطّبعة الثّانية، سنة 1968.
وعندما تُوفِّي الأمير شكيب أرسلان (1868-1946) رثاه الأمير نديم بكلمة مؤثّرة تحت عنوان: “مَصرَعُ الشّمس”، جاءت في كتاب المجاهد محمّد علي الطّاهر تحت عنوان: “ذكرى الأمير شكيب أرسلان”، الدّار التَّقدُّميّة، المُختارة، الطّبعة الثّانية، سنة 1988.
قال الشاعر الكبير بشارة الخوري في شكيب أرسلان، تحت بيتين من الشّعر:

هذا الّذي رَفَعَ اليَراعَ مَنَارَةً              غَمَرَتْ سَماءَ الشَّرقِ بالأنوارِ

لو دانَ أحرارُ البِلادِ لِسَيِّدٍ                 نادَيْتُهُ  يا  سَيِّدَ  الأحرار

وماذا قال الأمير نديم في رثاء الأمير شكيب أرسلان الذي كان صديقه الصّدوق وشقيقه الودود:
“… نبأٌ عظيمٌ صُعِقَتْ لِهَولِه النّفوس، وهلعت له القلوب، وتطايرت الألباب، نبأٌ عظيم زُلْزِلَتْ من وَقعه أركانُ البسيطة، ومارت الأرض بالقاطنين فيها.

أعَلِمْتَ مَنْ حُمِلوا على الأعْوادِ           أرأيْتَ كيفَ خَبا ضِياءُ النّادي

 جَبَلٌ هَوى لوْخَرَّ بالبَحرِ اغْتَدى          مِنْ وقْعِهِ مُتَتابِعَ الإزْبادِ

ما كُنْتُ أعْلمُ قَبلَ وَضْعِكَ في الثَّرى      أنَّ الثَّرى يَعْلو عَلى الأَطْوادِ

وكتب الأمير نديم آل ناصر الدّين مقالةً تحت عنوان: “مخطوطة نفيسة عن التَّنوخييِّن في لبنان”. في مجلّة “أوراق لبنانيّة” لصاحبها المؤرّخ يوسف ابراهيم يزبك، في الجزء السّابع، تموز سنة 1956، قال فيها:
“… كان المغفور له عمُّنا حُسَين آل ناصر الدّين قد جمع كثيراً من أخبار العشيرة التَّنُوخيّة، في أوراق مُتفرِّقة، ورسم شجرة نسبها رسماً دقيقاً، وحُسَين هذا هو ابن محمَّد بن ناصر الدّين (الثاني) بن يوسف بن ناصر الدّين (الأوّل) الذي انتسبت إليه الأسرة التَّنُوخيّة. ثمَّ جاء عمُّنا ومعلّمُنا الأمين العظيم (أمين آل ناصر الدين) فَمَحَّص هذه الموادَّ المتفرّقة، ونسّقها تنسيقاً جميلاً، وأخرجها تاريخاً تامّاً (الأمراء آل تنوخ) مُرْفَقاً بأوثق المصادر والأسانيد الخطّيّة والنّقليّة. والأمين هو ابن عليّ بن يوسف بن ناصر الدّين (الثاني) بن يوسف بن ناصر الدّين (الأول) الذي انتسبت إليه الأسرة.
وهذا التاريخ مع سائر ما خلّفه الأمين العظيم من الآثار القلميّة الباقية على وجه الدّهر، في حيازة هذا العاجز، المُقيم عليها، الضّنين بها، ونزولاً عند رغبة صديقي العزيز صاحب “أوراق لبنانيّة” أَبَحنا له أن ينقل مجلّته الرّاقية خدمةً للحقيقة التّاريخيّة التي يتوخّاها هذا الأديبُ الوطنيُّ المخلصُ”.

  • مأتمُ التَّشييعِ

فقدت “كفرمتّى”، مسقط رأسه يوم 15/12/2003، بل فقد لبنان من أقصاه إلى أقصاه، رجلاً وطنيّاً غيوراً، صاحب أخلاقٍ عالية، ومزايا نبيلة رفيعة، الجندي الأمين، والحِصْن الحصين الأمير نديم آل ناصر الدّين، وقد أُقيم له مأتمٌ حافلٌ أُلقيت فيه قصائدُ وخطابات أشادت بمآثره وفضائله ومزاياه، ونوَّهت به الصَّحافة اللُّبنانيّة كافّةً، تقدّمهم مُمَثّل رئيس الجمهورية اللُّبنانيّة إميل لَحُّود، وقد مثّله مدير عام وزارة الثّقافة السابق د. عمر حَلَبْلب، ومُمَثل رئيس مجلس النّواب اللبنانيّ الأستاذ نبيه برّي، وقد مثّله الدكتور رياض غنّام مدير جلسات مجلس النّواب اللُّبنانيِّ، ومُمَثِّل رئيس الحكومة وقد مثّله الأُستاذ عثمان دلّول، ورئيس المؤتمر الشّعبيّ اللّبنانيّ السيّد كمال شاتيلا على رأس وفد كبير، ونقيب الصّحافة اللُّبنانيّة المرحوم محمَّد البعلبكي، ونقيب المحرِّرين اللُّبنانييِّن المرحوم مُلْحِم كَرم.

وقد ألقى النّقيب المرحوم محمَّد البعلبكي، كلمةً جاء فيها:
“… نلتقي في مناسبة وداع حبيب لنا جميعاً هو الرّاحل الكبير الأمير نديم آل ناصر الدين، الذي نفتقده نحن خصوصاً أهل الصّحافة في مثل هذه الأيّام.
آمن نديم آل ناصر الدّين بثلاثة أمور: آمن بالله قبل كلّ شيء، وآمن بلبنانَ، وآمن بالعروبة، ومن هنا، مَنْ منّا يُنْكِرُ فضل هذا الرّجل على العروبة بما كان له من فضل على اللُّغَة العربيّة وعلى الصّحافة. رائد من رُوّاد الصّحافة اللّبنانيّة في لبنانَ، نذر لها نفسه منذ اتّخذ الصّحافة رسالة لا مُجَرَّدَ مِهْنة. اتّخذها رسالة للدّفاع عن الحقّ لتكون صدىً لِما طُبِعت عليه نفسه من صِدق في جميع المجالات.
نديم آل ناصر الدّين من ذلك الرّعيل الذي لم يطلب لنفسه شيئاً سوى مجد أُمّته ورُقِيِّ وطنه، ولم يطلب في حياته سوى استقلال بلده وازدهار لُغته القوميّة العربيّة”.
ثمَّ جاء النَّقيب مُلْحِم كَرَم نقيب المحرِّرين اللُّبنانييِّن وألقى كلمة في الفقيد الكريم، جاء فيها:
“الذين يؤدّون قِسْطَهم للعُلى لا ينامون، إنّهم في يقظة النّاس وفي يقظة التاريخ. وأنت أيُّها الرّاحل الكريم الكبير لن تغيبَ عنّا لحظةً، ستظلُّ الواعظَ والهاديَ، نجدك بيننا في الخِدمة العامّة، في النّهضة، في السّعي،في العمل والسّعي الدّائم للجميع.
دخل الأمير نديم آل ناصر الدّين المهنة دخول الفاتحين من أهل التَّفوّق والطّليعة. لم أرَ في الموت كما زعموا يَداً تمشي في الفَناء، بل رأيت إمام الموهبة مُغيَّباً، ومَهْمَا عَظُمت شُهرتُه تظلُّ حقيقتُه أعظم.

عرفته مُناقِشاً ومُجادِلاً، فالحُجة منه والبيّنات نواهض. إنّه المُعلِّم، كما دعوناه إمام الأدب، إنَّه فقيدنا الكبير الرّاحل الزّكي،.فالوقد على الأحرف شُعَلٌ والطُّرْفَة بين الأسطرِ مدى، وإنني أسمعه في خلوده وعليائه، يقول لنا جميعاً:

مَنْ كانَ في دُنياهُ ينفُضُ راحَهُ             فأَنا عَلى دُنيايَ أقْبِضُ راحي

إنِّي أُفَدِّي كلَّ شَمْسِ أصيلةٍ                 حَضَرَ المغيب بأَلفِ شمسِ صباحِ

ولَربَّما راعَتْكَ صَفحةُ هادِئٍ                مِنِّي وفي الأَحشاءِ عَصْفُ رِياحِ

إِني إذا جُنَّتْ رِياحُ سَفينَتي                  ذَهَبَ الجنونُ بِحكْمَةِ المَلاَّحِ

ثمّ أُلقيت في هذه المناسبة كلماتٌ لرئيس بلديّة “كفرمتّى” فؤاد خدّاج والقاضي الشّيخ كمال القاضي باسم العائلة، ورئيس جمعيّة إنماء “كفرمتّى” خَلَف الغريب وناصيف الغريب، وأَجْوَد خدّاج، والشّاعر عادل خدّاج ونجيب البعيني ومُصلح مُصلح ورياض اللَّحام، عن مُتَخرّجي المدرسة الداوُديّة في عبَيْه، ونزيه خدّاج. ثم وضع ممثّل رئيس الجمهوريّة اللّبنانيّة الدكتور عمر حَلَبلب على نعش الفقيد وسام الاستحقاق الفِضّي، وقال:
“أيُّها الفقيد الغالي تقديراً لعطاءاتك من أجل لبنانَ، قرَّر فخامة رئيس الجمهوريّة اللّبنانيّة العماد إميل لحّود منحك وسام الاستحقاق اللُّبنانيّ الفضّيّ. وكلّفني وشرّفني أن أضعه على نعشك في يوم وداعك وأن أتقدَّم من عائلتك بأحرِّ التّعازي”.
أمّا ولده الشّاعر الأمير طارق ناصر الدّين، فقد ألقى قصيدة مُمَيّزة نقتطف منها هذه الأبيات.

جَـلالُ المـوتِ أكْبـرُ مِنْ رِثائـي                        فَعُذراً يا أَبي وَأبَ (الصَّفاءِ) 

أُحِسُّ بِمُقْلَتيَّ شَلاّلَ دَمْعٍ                               كأنِّي كُنتُ مُدَّخِراً بُكائِي

ولكنِّي سَأَذْرِفُهُ وَحِيداً                                  وأُطفِئُ حُرقَتي بالكِبْرياءِ

فأنتَ كما أردتَ وكنتَ دَوْماً                           عَزيزَ الدَّمعِ أيامَ الشَّقاءِ

تَنُوخِيٌّ عُروبِيٌّ حكيمٌ                                   فَجَدُّك عنْ أبيكَ أبُ العَلاءِ

ومُلْهِمُكَ العظيمُ رَسولُ حَقٍّ                         شَفيعُكَ في الحَياةِ وَفي السَّماءِ

ويختم القصيدة الرّائعة بهذه الأبيات مُودِّعاً أباه:

رَفَعْـتَ الرَّأسَ يَومَ الـرّاسُ أَضْحى            بِقَوْمِكَ سُلَّماً نحوَ الرِّياءِ

ولم تُعْطِ الوَلاءَ لغيرِ أرْزٍ                           يعيشُ بجانحَيْه بلا انْحِناءِ

وغيرَ الضّادِ لمْ تألفْ أَنيساً                         فَسِرْتَ على دُروبِ الأنبياءِ

وكنتَ الأصدقَ الأَوفى بِعَصْرٍ                      عَقوقٍ ما تَعِبْتَ منَ الوفاءِ

تَعِبْتَ مِنَ الحياةِ كأيِّ حُرٍّ                           وغادَرْتَ الحياةَ بِلا عَناءِ

ملائِكةُ السَّما اخْتارتْكَ فَوْراً                        لها جارَ الرِّضى فإلى اللِّقاءِ

ثم وُوْرِيَ الفقيدُ الكبير الثّرى في قريته الخالده.بين حَسرات المُوَدِّعين. طَوَته الأيّام بين جناحيها ولكنّ الحروف والكلمات بقيت خالدةً لم تُطْوَ. ظلّت باقيةً خالدةً بين أوراقها وصفحاتها.
إنَّ طَلّتَهُ اللَّطيفة وبسمته الوديعة ونُكاته الظّريفة الهادئة لا تغيب من الذاكرة. مات كبيراً بين قومه وعاش كبيراً بين أبنائه وأهله وأقربائه ومُخَلِّدي اسمه،
دُفن في مقبرة الشّاعر الخالد أمين آل ناصر الدّين وإلى جانبه في بلدته “كفرمتّى”.
هذا الإنسان المُمْتَشِق القامة، كان هادئ الطّبع، رصين المبادئ والأخلاق، نتذكّره ولا ننساه، نُقَلِّب صفحاتِ تاريخِه فلا نرى إلّا الخُلودَ والحياةَ الأبدِيَّةَ. إنَّه رجلٌ من رجال بلادي الخالدين.


المراجع

– مجلّة “الميثاق” الجزء الثّاني عشر، كانون الأوّل، سنة 2003.
– وثائق لدى المؤلّف.

[/ihc-hide-content]

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي