تمكن في ظل مناخ التسامح العباسي من تأسيس نواة علميّة ووضع أركان مدرسته الكبرى التي خرّجت الآلاف من الطلّاب والعلماء
عالِمُ الأمّةِ وحُجَّة الدّين
الإمامُ جعفرٌ الصّادق
من أوضح كراماته اجتماع المسلمين سُنّة وشيعة على إجلاله
والاعتراف بمكانته العظيمة ودوره في بلورة أسس الفِقه الإسلاميّ
كرّس حياته كلها للعلم ونأى بنفسه عن خلافات زمانه
وتجنب أهل السلطان رغم سعيهم للتقرّب منه وكسب ودّه
كتب إليه المنصور : لِمَ لا تزورنا كما يزورنا الناس؟!” فأجابه :
ليس لنا في الدنيا ما نخافُك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له
من أوضح كرامات الإمام جعفر الصّادق رضي الله عنه اجتماع المسملين جميعاً سُنّة وشيعة على إجلاله والاعتراف بمكانته العظيمة ودوره الكبير في بلورة أسس الفِقه الإسلاميّ وصياغة قواعده وأحكامه، ويكفي القول إنّ اثنين من مؤسسي المذاهب الفقهيّة لأهل السّنة وهما الإمام أبي حنيفة النّعمان ومالك بن أنس حضرا مجلسه في المدينة المنوّرة وكانا من بين المتابعين لحلقته ودروسه، وبينما اعتبره الشّيعة الإماميّة أو الإثنا عشريّة سادس الأئمة المعصومين، فقد أفاض علماء السنّة والتفسير والسِّيَر في الإشادة بعلمه الوافر وبزهده وحكمته وحجّته البليغة، ولم يختلف حوله مسلمون طيلة العصور باستثناء ما كتبه بعض شيوخ المذهب الوهّابي المتزمّتين ممّا لا يبدّل في شيء من الإجماع الإسلاميّ حول هذا الإمام العَلَم الجليل من مشارق الأرض إلى مغاربها.
برز الإمام الصّادق ولمع اسمه في الآفاق في وقت عصيب كان قد شهد انتقال الملك من الدّولة الأمويّة إلى الدّولة العبّاسية التي استفادت من دعم الحركات الشّيعيّة للفوز بالملك وبمؤسّسة الخلافة قبل أن تبدّل مواقفها إلى محاربة تلك الحركات بعد أن وجدت فيها وفي انتسابها إلى آل البيت خطراً يهدّدها، لكنّ الإمام حرص مع ذلك على اجتناب الدخول في خلافات المسلمين والابتعاد في الوقت نفسه عن أهل السلطان وهذا رغم سعي الحكّام في العهدين الأمويّ والعبّاسي إلى التقرّب منه وكسب ودّه، وهو دعا في أجواء الاحتقان والخلاف للحفاظ على الوحدة ونبذ الفتن والاحتراب وأظهر حكمة بعيدة وصبراً وجلداً على ما ناله من ظلم الحكام اضطهاداً وسجناً دون سبب سوى الخَشية من مكانته وتهافت الناس من كافة الأقطار لأخذ العلم والسّلوك على يديه.


زمانه
يعتبر زمن الإمام جعفر الصادق عصراً مفصليًّا في تاريخ الإسلام والمسلمين، زمنٌ اتّسعت فيه رقعة الدّولة الإسلاميّة من المحيط الأطلسيّ حتى تخوم الصّين وتدفّقت بسبب ذلك الثّروات والأموال وبرزت معالم الثّروة والجاه في كلّ مكان، وبرغم استمرار الدّولة الإسلاميّة في “جهاد التّوسع” الجغرافيّ وصدّ التهديدات على الدّولة الفتيّة فإنّ السّمة العامّة كانت قد أصبحت منذ ظهور الانقسام حول الخلافة نزاعات سياسيّة وفتن لا تنتهي، لكن على صعيد آخر كان الإسلام يشهد توطيد أركانه كرسالة خاتمة عبر نشاط هائل في حفظ القرآن الكريم وتدوين السّيرة والأحاديث وإطلاق حركة التّدوين والنّقل والتّرجمة والاجتهاد في مختلف الأصول والفروع، وفي هذه البيئة الشديدة الحيويّة كان الإمام الصادق طيلة حياته بمثابة المحور الجامع لتلك الحركة المباركة وقطبها وقد كان أعلم علماء المدينة المنوّرة، لكنّه كان في الوقت نفسه أكثرهم تواضعاً وتراحماً وتلاحماً مع الناس. تجلّت فيه صفات بيت النّبوّة بشكل فطريّ، فكان يصدق إذا تحدّث، ويقدّم الناسَ على نفسه. وينقل الإمام الذّهبيّ في كتابه سير أعلام النبلاء عن عمرو بن أبي المقدام قوله “كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنه من سلالة النبييّن”.
إلى جانب علومه الدينيَّة، كان جعفر الصادق عالماً فذّاً في ميادين علوم وضعيّة عديدة، مثل: الرّياضيَّات، والفلسفة، وعلم الفلك، والخيمياء والكيمياء، وغيرها. وقد حضر مجالسه العديد من أبرز علماء عصره وتتلمذوا على يده، ومن هؤلاء أشهر كيميائيٍّ عند المسلمين هو أبو موسى جابر بن حيَّان المُلقّب بأبي الكيمياء. كما حضر مجالسه الإمامان أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس، وقد نقل الأخير 12 حديثاً عن جعفر الصّادق في مؤلفه الشّهير “المُوطّأ”، بالإضافة إلى واصل بن عطاء مؤسّس مذهب المعتزلة، وأخذ عنه أيضا ابن جريج وشُعبة والسفيانان ووهيب وحاتم بن إسماعيل ويحيى القطّان وخلق كثير غيرهم. وروى له مُسلم وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجة. وكان الصّادق حريصاً على أن تستفيد الأجيال من علمه الغزير، فكان يحثّ الناس على العلم والتعلّم والاستفادة من العلماء بقوله “سَلوني قبل أن تفقدوني، فإنّه لا يحدّثكم أحد بعدي بمثل حديثي”.
غزارة علمه وفقهه
سُئل الإمام أبو حنيفة عن أفْقَهِ من رأى فقال: ما رأيت أحدًا أفقهَ من جعفر بن محمد؛ وذكر الإمام أبو حنيفة في هذا السياق أنّ الخليفة أبو جعفر المنصور لما قدم الحيرة بعث إليه فقال: “يا أبا حنيفة، إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيِّئ له من مسائلك الصّعاب”، فهيأت له أربعين مسألة، ثم بعث إليَّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر، فسلَّمت وأُذِنَ لي فجلست ثم التفت إلى جعفر فقال: يا أبا عبد الله، تعرف هذا؟ قال: نعم هذا أبو حنيفة قد أتانا، فقال المنصور: يا أبا حنيفة هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله، وابتدأت أسأله وكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة وربما خالفنا جميعا حتى أتيت على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة، ثم قال أبو حنيفة أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس.”
من أقوله البليغة
يقول الإمام جعفر الصّادق (ر):
• إذا بلغك عن أخيك ما يسوؤك فلا تغتمّ فإنّه إن كان كما يقول كانت عقوبة عجّلت، وإن كان على غير ما يقول كانت حسنة لم تعملها.
• إيّاكم والخصومة في الدّين فإنّها تشغل القلب وتورث النّفاق.
• الصلاة قربان كلّ تقي، والحجّ جهاد كلّ ضعيف، وزكاة البدن الصّيام، والداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر، واستنزلوا الرّزق بالصّدَقة، وحصّنوا أموالكم بالزّكاة، وما عال من اقتصد، والتّقدير نِصف العيش وقلّة العيال من اليسارين.
• من أحزن والديه فقد عقّهما، ومن ضرب بيده على فخذه عند مُصيبة فقد حبط أجره، والصّنيعة لا تكون صنيعة لا عند ذي حسب أو دين.
• الله يُنزل الصبر على قدر المُصيبة، ويُنزل الرزق على قدر المُؤنة، ومن قدر معيشته رزقه الله، ومن بذّر معيشته حرمه الله.
• أول حدود الصّداقة أن تكون سريرة الصّديق وعلانيّته لك سواء. والثّانية أن يرى شينك شَينه وزينك زَينه، و الثالثة لا يغيره مال ولا ولاية، والرّابعة لا يمنعك شيئًا تناله يدُه والخامسة وهي تجمع هذه الخصال وهي أنْ لا يُسلمك عند النّكبات.
نسبه
هو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وقد سُمي باسم “جعفر” تيمّناً بجده جعفر الطيّار الذي كان من أوائل شهداء الإسلام1. كُني جعفر الصادق بعدة كِنى منها: أبو عبد الله (وهي أشهرها)، وأبو إسماعيل، وأبو موسى. ولُقّب بالصّادق، والفاضل، والطّاهر، والقائم، والكامل، والمُنجي.
والدة أبيه محمد الباقر هي أم عبد الله بنت الحسن بن علي بن أبي طالب.
والدته هي: أمّ فروة فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصِّدّيق. أمَّا والدة أمّه فهي: أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصِّدّيق.
وقد اجتمعت في نسبه خصائص ميَّزته عن غيره كما قال الأستاذ عبد الحليم الجندي: “فجعفر قد ولده النبي مرّتين. وعليّ مرتين، والصدّيق مرتين، ليدلّ بهذا المجد الذي ينفرد به في الدنيا على أنه نسيج وحده”
وُلد جعفر الصادق في المدينة المنورة بتاريخ 24 أبريل سنة702م، الموافق فيه 17 ربيع الأول سنة 80 هـ، وهي سنة سيل الجحاف الذي ذهب بالحجاج من مكة. وقد وُصف الصّادق بأنّه مربوع القامة، ليس بالطويل ولا بالقصير، أبيض الوجه، أزهر، له لمعان كأنه السّراج، أسود الشعر، جَعِده أشمّ الأنف قد انحسر الشعر عن جبينه فبدا مزهراً، وعلى خده خال أسود2 .
تبوِّئه للإمامة
والده الإمام محمد الباقر خامس الأئمّة عند الشّيعة الإماميّة، وقد اتّخذ من ولده جعفر وزيراً، واعتمده في مهمّات أموره، في المدينة وفي سفره إلى الحجّ، وإلى الشام عندما استدعاه الخليفة هشام بن عبد الملك، وذلك لأنّه كان أنْبَهَ إخوته ذِكراً، وأعظمهم قَدراً، وأجلّهم في العامّة والخاصّة3 فكان أبوه الباقر مُعجباً به، ونُقل عنه أنّه قال: “إنّ من سعادة الرجل أن يكون له الولد يعرف فيه شبه خَلْقِه وخُلُقه وشمائله، وإنّي لأعرف من ابني هذا شبه خَلْقي وخُلُقي وشمائلي”. وعند أهل السّنّة والجماعة أن جعفر الصادق كان يُدافع عن الخلفاء الراشدين السابقين لعليّ بن أبي طالب، ويمقت الذين يتعرّضون لأبي بكر (جدّه لأمِّه) ظاهراً وباطناً ويغضب منهم.
آلت الإمامة، وفق مذهب الشّيعة الإماميّة، إلى جعفر الصادق عندما بلغ ربيعه الرابع والثلاثين (34 سنة)، وذلك بعد أن توفّي والده مسموماً (وفق بعض المصادر مثل كتاب “الفصول المهمة “لابن الصباغ المالكي) وكان ذلك في ملك هشام بن عبد الملك، وتشير المصادر إلى أن الأخير كان وراء سمّ الباقر4. وتنصّ مصادر أخرى على أنَّ جعفر الصّادق قال: “قال لي أبي ذات يوم في مرضه: “يا بنيّ أدخل أناساً من قريش من أهل المدينة حتى أشهدهم”، فأدخلت عليه أناساً منهم فقال: “يا جعفر إذا أنا مِتُّ فاغسلني وكفنّي، وارفع قبري أربع أصابع، ورشّه بالماء”، فلما خرجوا قلت له: “يا أبتِ لو أمرتني بهذا صنعته ولم ترد أن أُدخل عليك قوماً تشهدهم”، فقال: “يا بنيّ أردت أن لا تُنازَع، وكرهت أن يُقال أنّه لم يوصِ إليه، فأردت أن تكون لك الحُجة” ووفق المعتقد الشّيعي فإنّ الإمام الباقر رغب من وراء هذا أن يُعلم الناس بإمامة الصادق من بعده. وفعلاً فقد قام الإمام الصّادق بغسل والده وتكفينه على ما أوصاه، ودفنه في جنَّة البقيع إلى جانب الصّحابة الذين تُوفّوا قبله5


زوجاته وأبناؤه
تزوَّج الصادق من نساءٍ عديدات، منهنّ: فاطمة بنت الحسين الأثرم بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان أبوها ابن عم زين العابدين، ومنهنّ حميدة البربريَّة والدة الإمام موسى الكاظم، واتّخذ إماء أخريات. وكان له عشرة أولاد، وقيل أحد عشر ولداً، سبعة من الذكور وأربع إناث، فأما الذكور فهم: اسماعيل (وإليه ينسب المذهب الإسماعيلي)، وعبد الله،وموسى الكاظم، وإسحق، ومحمد، وعلي (المعروف بالعريضي)، والعبَّاس. وأما الإناث فهنّ فاطمة وأسماء وفاطمة الصّغرى وأمّ فروة، وكانت زوجة الصّادق الأولى هي فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهي أمّ إسماعيل وعبد الله وأمّ فروة، وبعد وفاتها ابتاع الإمام أمَةً أندلسية، يرجع أصلها إلى بربر المغرب تُدعى (حميدة بنت صاعد)، فأعتقها وعلَّمها أصول الشّرع والدّين ثم تزوَّجها، فولدت له موسى ومحمد، وقد أجلّها الشّيعة وبالأخصّ نساؤهم، لورعها وتقواها وحكمتها6”.
وفاة ابنه البكر إسماعيل
كان الإمام شديد التعلّق بولده البِكْر اسماعيل وهو ما جعل قومٌ من أنصاره يظنّون أنه الإمام بعد أبيه، وهؤلاء قالوا بأنّ جعفر الصادق نصّ على إمامة اسماعيل، ثم وقع الخلاف بينهم: هل مات إسماعيل في حياة أبيه أم لا؟ والأشهر أنه مات في حياة أبيه سنة 145 هـ7 لكن على الرّغم من ذلك بقي فريق من الشيعة يعتقدون بإمامته وحياته حتى بعد وفاة والده الصّادق. وكان اسماعيل رجلاً تقياً عالماً، أمَّا أخوه عبد الله فقد اتُهم بمخالفة أبيه في الاعتقاد وأنّه عارض أخاه موسى الكاظم في الإمامة، وادّعى الإمامة بعد أبيه لنفسه، احتجاجاً بأنّه أكبر أخوته الباقين، واتّبعه حشدٌ من الناس قبل أن يرجعوا لإمامة موسى الكاظم8.
علاقة حذرة مع الأموييّن
كان موضوع الخلافة أساس النزاع بين المسلمين، وقد تفرّقت الأمة بسببه إلى فرق وطوائف كثيرة، كما عانت صراعات دمويّة لفترة طويلة. وقد رأى قسم من المسلمين -وهم أهل السّنّة- أنَّ الخلافة تكون بالشورى والاختيار كما قال الرسول محمد (ص)، فينتقي المسلمون أفضل الرجال وأكثرهم عدلاً وقسطاً وعلماً، وبناءً على هذا بايع المسلمون أبا بكر وباقي الخلفاء الراشدين من بعده. أمَّا القسم الثاني من المسلمين – أي الشّيعة – فإنّهم اعتبروا أن الرسول لم يعتمد الشّورى أساساً لاختيار الخليفة، بل إنّه أوصى بإمامة علي بن أبي طالب ثم ابنيه الحسن والحسين من بعده، وأنّ الخلافة تستمرّ بأن ينصّ كل إمام على الإمام الذي سيأتي خليفة من بعده. وبناء على ذلك عارض الإماميَّة خلافة بني أميَّة واعتبروها غير شرعية، وقامت عدَّة ثورات شيعيَّة على الحكم الأمويّ، عمد الخلفاء إلى إخمادها. ولمَّا كان جعفر الصّادق سادس الأئمة عند الشّيعة، فقد حرص الأمويّون على مراقبته تحسّباً لأيّة ثورة قد يعلنها على الحكم في دمشق9.
وزاد في حذر الأمويين أنّه وبعد وفاة الإمام محمد الباقر بفترةٍ قصيرة وتسلّم ابنه جعفر الصادق مقاليد الإمامة، خرج عمّه زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب على هشام بن عبد الملك بالكوفة يريد قتاله وإرجاع الخلافة إلى بني هاشم. لكنّ الأمويين أحبطوا المحاولة وتوفّي زيد (الذي تنسب إليه طائفة الزّيديّة) متأثراً بسهم أصابه خلال المواجهة.
لكن على الرّغم من مقتل عمَّه على يد الأمويين، فإنَّ الإمام جعفر بن محمد لم يثُر على الدولة، ورفض فكرة الانتفاضة المُسلّحة على الخلافة رغم حثّه على ذلك من قبل عدد من أتباعه، كما رفض الصادق التبرؤ من الخليفتين أبو بكر وعمر. في المُقابل تنصّ مصادر أخرى على أنَّ الصّادق رفض الثّورة على الحكومة الأمويَّة خوفاً على حياته، وكي لا يصيبه ما أصاب الحركات الشيعيَّة السابقة وقادتها ورجالها من قتل وهزائم وخسائر جسيمة 10. ويُقال أنّه أحرق الرّسائل التي وصلته من أتباعٍ يدعونه فيها إلى الثّورة ويعدونه بمنصب الخليفة11.
“كان أعلم علماء المدينة، وأكثرهم تواضعاً وتراحماً مع الناس. تجلّت فيه صفات بيت النّبوّة، فكان يصــــدق إذا تحدّث، ويقدّم الناسَ على نفسه”
رفض التقرّب من المنصور
كان الإمام الصّادق مدركا لخطورة الصّراعات السياسيّة التي كانت تضرب عالم الإسلام، وبينما رأى كثيرون في تلك النزاعات فرصة للثّورة واستعادة الخلافة لآل البيت فإنّ الإمام الصّادق تمسّك بالابتعاد عن السّياسة سواء معارضة الحكّام أو التقرّب منهم، وبينما كان العباسيّون يُحضِّرون لضرب الدّولة الأمويّة، حاول أبو مسلم الخراساني أن يزجّ الإمام في الثورة العبَّاسيَّة نظراً لكلمته المسموعة خصوصاً بين الشّيعة الذين يرونه معصوماً، وبين سائر المسلمين الثائرين، لكنّه رفض، وتملَّص من الدّعوة، وتفرَّغ لما اعتبره الهدف الأهمّ وهو تعزيز مناعة العقيدة الإسلاميّة في مواجهة الأفكار الدّخيلة والمذاهب الفكريَّة المنحرفة التي انتشرت في تلك الفترة. إلا أنّه وعلى الرّغم من انصراف الإمام جعفر إلى شؤون التّعليم والإرشاد وابتعاده عن السياسة، فإنّه بقي محطّ أنظار الخليفة العبَّاسيّ، لا سيَّما وأنّ عدداً من أتباع زيد بن علي انضمّوا إلى مجالسه واستمعوا لكلامه ومواعظه وإرشاداته بعد أن لاحقهم العبَّاسيّون بلا هوادة12، فأقدم العبَّاسيّون على اعتقال الصّادق غير مرَّة، وزُجَّ بالسّجن لفترة من الزّمن على أمل أن تنقطع الصّلة بينه وبين تلاميذه الذين يُحتمل أن يهددوا استقرار الدّولة وينفّذوا انقلاباً على الخلافة. وقد تحمَّل الصّادق ما تعرَّض له من مضايقات من قِبل الحكومة العبَّاسيَّة، وصبر على الألم والاضطهاد، واستمرّ يقيم مجالسه العلميَّة ومناظراته الدينيَّة مع كبار علماء عصره من المسلمين وغيرهم من معاصريه.
الأثر الفقهيّ الكبير للإمام الصادق
لكن رغم تخوّف العباسيين من أصناف المعارضة وخصوصا الحركات الشّيعية ومناصريّ آل البيت فإن عهدهم كان من أكثر عهود الإسلام انفتاحا وتقبّلا للتنوّع الفكريّ وتميّز بهامش من الحريّة الفكريّة جعل حتى الملاحدة يناقشون في حلقات العلم دون خوف.
وفي ظلّ هذا المُناخ تَمكَّن الإمام الصّادق من تأسيس نواة علميّة ووضع أركان مدرسته الكبرى التي خرّجت الآلاف من الطلّاب والعلماء، حتى قال الحسن الوشّاء عند مروره بمسجد الكوفة: “أدركت في هذا المسجد 900 شيخ كلهم يقول”حدثني جعفر بن محمد13” مع العلم أنّ بين الكوفة والمدينة (التي كانت معقل الإمام الصّادق) مسافة شاسعة وهذا يدل على مدى التأثير العلمي الذي أحدثه الإمام جعفر الصّادق في أرجاء العالم الإسلامي كافّة. بذلك، وبمجرّد أن ارتفع الضّغط الذي كان يمارسه الأمويّون على مدرسة الإمام بدأ الطلّاب يتوافدون على مدرسته من كل حدبٍ وصوبٍ، ينقل أسد حيدر فيقول: “كان يؤمّ مدرسته طلّاب العلم ورواة الحديث من الأقطار النائية، وذلك بسبب ارتفاع الرّقابة وتراجع الحذر فأرسلت الكوفة، والبصرة، وواسط، والحجاز إلى جعفر بن محمّد أولادها من كل قبيلة14” ويقول الشيخ محمّد أبي زهرة في كتابه “الإمام الصّادق”:
“إن للإمام الصّادق فضل السّبق، وله على الأكابر فضل خاصّ، فقد كان أبو حنيفة يروي عنه، ويراه أعلم الناس باختلاف النّاس، وأوسع الفقهاء إحاطة، وكان الإمام مالك يختلف إليه دارساً راوياً، وكان له فضل الأستاذيّة على أبي حنيفة فحسبه ذلك فضلاً. وهو فوق هذا حفيد عليّ زين العابدين الذي كان سيّد أهل المدينة في عصره فضلاً وشرفاً وديناً وعلماً، وقد تتلمذ له ابن شهاب الزّهري، وكثير من التّابعين، وهو ابن محمّد الباقر الذي بقر العلم ووصل إلى لبابه، فهو ممّن جعل الله له الشّرف الذّاتيّ والشّرف الإضافيّ بكريم النّسب، والقرابة الهاشميّة، والعترة المحمديّة15”


مناظراته الشّهيرة
ويدخل في مساهماته العلميّة والفقهيّة الوفيرة مناظراته العلميّة والدينيّة مع العلماء والفقهاء وغيرهم من أتباع الفرق والفلاسفة، وقد اتّبع الإمام الصّادق منهجاً منطقياًّ يُبرز رجاحته وإحاطته الواسعة وقدرته على استحضار كافة جوانب الموضوع وحضور البديهة في الردّ، ومن تلك المناظرات المدوّنة: مناظرة له مع الملحدين ومناظرة مع أبي حنيفة في القياس وفي حكم التوسل بالنبي، ومناظرة مع رؤساء المعتزلة، ومناظرة مع طبيب هندي. ومناظرة مع عبد الله بن الفضل الهاشميّ ومناظرة مع الزّنادقة ومناظرة في الحكمة من الغيبة. ولم تكن الأسئلة التي تُطرح على الإمام الصّادق مختصّة بالمسائل الفقهيّة أو مسائل الحديث، فقد كان عصره عصر ترجمةٍ وعلوم، وكان يأتيه علماء ومفكّرون متأثرين بتيّارات الفلسفة اليونانيّة التي كانت منتشرة في تلك الحقبة من الزّمن، ويُلاحظ هذا المعنى واضحاً في نقاشات الإمام الصّادق مع عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي كان يشكّك في الدين والعقيدة الإسلامية من منطلق فلسفي وكلامي.
مذهبه ومنهجه الاجتهادي
يتوافق منهج الإمام جعفر ومنهج علماء السنَّة في أمور أساسيَّة، فهو يعتمد كمصدر للتشريع بالتّدريج القرآن والسنَّة النبوية ثم الإجماع ثم الاجتهاد. لكنه -حسب المصادر الشيعية اللاحقة- أضاف إلى ذلك أمراً أساسيّاً هو الاعتقاد بالإمامة وما يترتّب عليه من تقييم للصّحابة وفتاواهم وأحاديثهم واجتهاداتهم بحسب مواقفهم من آل البيت. ويترتّب على المفهوم الشّيعي للإمامة القول بعصمة الإمام. فكانت اجتهادات الإمام غير قابلة للطعن، لأنّه معصوم عن الخطأ والنّسيان والمعصية؛ بل إنَّ أقواله واجتهاداته تدخل حكماً في إطار السنَّة16.
وفاته
توفي جعفر الصادق سنة148 هـ، الموافقة لسنة 765م كما نصّت على ذلك بعض المصادر التاريخيّة؛ قال ابن كثير( المتوفى سنة774 هـ): “ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة، وفيها توفي جعفرُ بنُ محمدٍ الصادق، وقال ابن الأثير (المتوفى سنة630 هـ) في تأريخه للأحداث التي وقعت في سنة 148 هـ : “وفيها مات جعفر بن محمد الصادق وقبره بالمدينة يُزار هو وأبوه وجده في قبر واحد مع الحسن بن علي بن أبي طالب”. وقد كان الإمام جعفر الصادق في آخر لقاءاته مع أبي جعفر المنصور يقول له: لا تعجل، فقد بلغت الرّابعة والستّين وفيها مات أبي وجدي فرأى بعض الباحثين أنّ هذه الكلمة توحي بأنّ الإمام جعفر الصادق كان يشعر باقتراب أجله17.
ورغم قول بعض المصادر بأنَّ الصادق قضى نحبه مسموماً على يد الخليفة العبَّاسيّ أبو جعفر المنصور فإنّ كتب السّير والمدوّنات المعتمدة لم تشر إلى ذلك، واستند أصحاب نظريّة اغتيال الإمام الصّادق أنّ الخليفة المنصور كان يغتاظ من إقبال الناس على الإمام والالتفاف حوله، حتّى قال فيه: “هذا الشّجن المُعتَرِضُ في حُلوقِ الخلفاءِ الّذي لا يجوزُ نفيُهُ، ولا يحلُّ قتلُهُ، ولولا ما تجمعني وإيّاه من شجرة طاب أصلُها وبَسَقَ فرعُها وعذُبَ ثمرُها وبورِكَت في الذرّيّة، وقُدِّست في الزُّبر، لكان منِّي ما لا يُحمدُ في العواقبِ، لِمَا بلغني من شدّة عيبِهِ لنا، وسوءِ القول فينا18” وتدّعي تلك المصادر أنّ المنصور حاول قتل الإمام الصادق أكثر من مرَّة، وأرسل إليه من يفعل ذلك، لكن كلّ من واجهه هابَه وتراجع عن قتله، لكنّ مصادر أخرى رفضت نظريّة موت الصّادق مسموماً بالتّشديد على أنَّ المنصور كان يخشى أن يتعرَّض للإمام، لأنّ ذلك سيؤدّي لمشاكل جمَّة ومضاعفات كبيرة19. وممّا قيل عن الفتور الذي كان بين الصّادق والمنصور، أنَّ الأخير كتب له يقول: “لِمَ لا تزورنا كما يزورنا الناس؟!”، فأجابه جعفر الصّادق: “ليس لنا في الدنيا ما نخافُك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنّئك بها وفي نقمة فنعزيك بها”. فكتب إليه مجدداً: “تصحبنا لتنصحنا”. فكتب الصادق إليه: “من يطلب الدّنيا لا ينصحُك، ومن يطلب الآخرة لا يصحبك20”بالمُقابل تنصّ مصادر أخرى على أنَّ المنصور لم يُقدِم على تسميم جعفر الصّادق؛ على الرّغم من تخوّفه من أيّ انقلاب مُحتمل بقيادته، فقد كان يجلّه ويحترمه، ويرعى فيه صلة الرّحم وحقوق العمومة، وحزن عليه أشد الحزن لمّا توفّي لأسباب طبيعيَّة، بعد أن تقدَّم به العمر وضعف جسمه. وفي رواية لليعقوبيّ أنّ اسماعيل بن عليّ قال: “دخلت على أبي جعفر المنصور وقد اخضلّت لحيته بالدّموع وكأنّه متأثّر من مصيبة وألمّ به أمر جلل” وقال لي: “أما علمت بما نزل بأهلنا؟” فقلت: “وما ذاك يا أمير المؤمنين؟!” قال: “فإنّ سيّدنا وعالمنا وبقيّة الأخيار منا توفّي!!” فقلت: “ومن هو يا أمير المؤمنين؟” قال: “ابن عمّنا جعفر بن محمد” قلت: “أعظم الله أجر أمير المؤمنين! وأطال بقاءه” فقال: “إن جعفراً ممن قال الله فيهم: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾، وكان هو من السابقين في الخيرات21 كما لم يذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه “مقاتل الطّالبييّن” أن الإمام الصادق قتل مسموماً.


“رفض فكرة الانتفاضة المُسلّحة على الخلافة أو التبرؤ من الخليفتين أبو بكر وعمر أحرق الرّسائل التي وصلته من أتباعٍ يدعونــه فيها إلى الثّورة ويعدونه بمنصـــب الخليفة”
أقوال علماء السنَّة فيه
يعتبر الإمام الصّادق أكثر الأئمة رواية في كتب الحديث عند طائفة الإثني عشريَّة، بل يُطلَق على الطائفة الشّيعية اسم الجعفريّة بسبب نسبة المذهب بمجمله إلى الإمام جعفر الصّادق، وبناءً على ذلك فإنّه لا توجد حاجة للاستشهاد بآراء العلماء الشّيعة لأنّهم مجمعون على عصمته وحُجيّة قوله، لكن الملفت وما يكتسي دلالة كبيرة على المكانة التي يحتلها الإمام جعفر الصّادق هو التبجيل الشامل الذي حظي به بين أعلام السنّة، ومن ذلك أنّه يعتبر شيخ الطريقة الخامس في سلسلة المشايخ الأربعين للطّريقة الصّوفيّة النقشبندية. وهنا بعض أهم شهادات كبار علماء السنّة في الإمام جعفر الصّادق:
قال الإمام النّووي عنه : “اتَّفقوا على إِمامته وجلالته وسيادته”
وقال عمرو بن أبي المقدام: “كنت إِذا نظرت إِلى جعفر بن محمّد علمت أنّه من سلالة النبيّين”.
وقال ابن خِلِّكان: كان من سادات أهل البيت، ولقّب بالصّادق لصدقه في مقالته، وفضله أشهر من أن يذكر”
وقال محمّد الصبّان: “وأمّا جعفر الصّادق فكان إِماماً نبيلاً. وكان مُجاب الدّعوة إِذا سأل اللّه شيئاً لا يتمّ قوله إِلا وهو بين يديه”22
وقال سبط ابن الجوزي: قال علماء السِّيَر: قد اشتغل بالعبادة عن طلب الرّئاسة
قال الشيخ محمَّد بن طلحة الشّافعي المُتَوفّى في سنة 652 هـ :”هو من عُظماء أهل البيت، ذو علوم جَمَّة، وعبادة موفورة، وأوراد متواصلة، وزهادة بيِّنة، وتلاوة كثيرة، يتتبع معاني القرآن الكريم، ويستخرج من بحره جواهره، ويستنتج عجائبه23”
وقال مالك بن أنس إمام المالكية: “وما رأتْ عَينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خَطَر على قلب بشرٍ، أفضل من جعفر بن محمّد الصّادق، علماً، وعِبادة، وَوَرَعاً ويقول في كلمة أخرى: ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمّد فضلاً وعلماً وورعاً، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إمّا صائماً، وإمّا قائماً، وإمّا ذاكراً، وكان من عظماء البلاد، وأكابر الزهّاد الذين يخشون ربّهم، وكان كثير الحديث، طيّب المجالسة، كثير الفوائد.
وقال ابن الصبّاغ المالكيّ: “كان جعفر الصادق – من بين أخوته – خليفةَ أبيه، ووصيَّه، والقائمَ بالإمامة بعده، برز على جماعته بالفضل؛ وكان أنبهَهُم ذِكراً، وأجلَّهُم قدراً”24
قال حسن بن زياد: “سمعت أبا حنيفة وقد سُئل من أفْقَه من رأيت؟ فقال: “ما رأيت أحداً أفقَهَ من جعفر بن محمّد”.
الهوامش
1. راجع: الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي، ص 130
2. منبر فاطمة: الإمام جعفر الصّادق
3. موقع الشّيخ علي الكوراني العاملي. الإمام جعفر الصّادق (عليه السلام): الفصل الخامس
4. A Brief History of The Fourteen Infallibles. Qum: Ansariyan Publications. 2004
5. مؤسّسة الرسول الأعظم قصّة الإمام محمد الباقر عليه السلام 2008
6. جمعيَّة الأشراف: فصل في ذكر ترجمة الإمام جعفر الصّادق رضي الله عنه.
7. تعريف بفرقة الإسماعيلية.
8. مؤسّسة الإمام الصّادق: المقالات العربيَّة، العقائد. لماذا حُرم السيد عبد الله بن جعفر الإمامة بعد شقيقه اسماعيل الذي مات في حياة والده؟
9. Campo, Juan E. (2009). Encyclopedia of Islam (Encyclopedia of World Religions). USA: Facts on File
10. 108 The Sources of Esotericism in Islam – Page
11. Armstrong, Karen (2000). Islam: A Short History
12. المصدر نفسه
13. رجال النّجاشي، ترجمة الحسن الوشّاء، برقم 79.
14. أسد حيدر، الإمام الصّادق
15. محمد أبو زهرة، الإمام الصّادق: 30.
16. الوافي في الفلسفة والحضارات. تأليف: عبده الحلو، محمد عبد الملك، د. كريستيان الحلو. دار الفكر اللبناني (1999). بيروت – لبنان. صفحة: 159
17. الإمام جعفر الصادق، عبد الحليم الجندي، ص 369.
18. شبكة النبأ المعلوماتيَّة: فاجعة استشهاد الإمام جعفر الصّادق.
19. Campo, Juan E. (2009). Encyclopedia of Islam (Encyclopedia of World Religions)
20. بوّابة صيدا: إسلاميَّات…مع الصّحابة والصّالحين. الإمام جعفر الصّادق والمنصور العبّاسي
21. الرّابطة العلميَّة العالميَّة للأنساب الهاشميَّة: الإمام جعفر الصادق
22. إِسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور الأبصار ص 208
23. مطالب السَّؤول في مناقب آل الرّسول: 436.
24. مناقب آل أبي طالب 3/396.