لم تُفاجئ الانتفاضةُ الشعبيّةُ اللّبنانيّةُ الأخيرة (انتفاضة 17 تشرين الأوَّل) المُراقبين اللّبنانييِّن أو غير اللبنانييّن. فقد كان هؤلاء يتابعون بهلَعِ المسارَ التّصاعُدي الكارثيّ لظواهرَ عدّة مُقلقة في الوضع اللّبناني في السنوات الأخيرة، وأبرزُها:
- وصول رقم الدَّيْن العام المُتَرتِّب على الدّولة اللبنانيّة سنة 2019 إلى ٩٠ مليار دولار أمريكي، أي ضعافا إجمالي إجمالي الناتج الوطني في لبنان المُقَدّر بنحو 55 مليار دولار تقريباً، (زاد الدّين العام في السنوات الثلاث الأخيرة فقط 18 مليار دولار، 3 مليارات دولار كل سنة في إنفاق استهلاكي لا استثماري) ما يجعل نسبة الدَّيْن العام إلى الناتج المحلّي في لبنان الثانية أو الثالثة في العالم بأكمله.
- تراجع الإنتاج المَحَلِّي القابل للتّصدير إلى درجة لم يبلغها حتى في أثناء الحرب الأهلية، فبات الميزان التجاري مُخْتِلًّا حتى درجة الكارثة: نُصدّر بملياري دولار أمريكي ونستورد بعشرين مليار؛ ما يعني بين أشياء كثيرة: أنّه مقابل كل دولارين يدخلان البلاد يخرج منها عشرون، وفي حِسْبَة بسيطة دخل البلاد في عشر سنوات بين 20 و 30 مليار دولار بدل الصادرات، فيما خرج منها أضعاف أضعاف أضعاف ذلك ثمن الواردات ممّا يحتاجه ولا يحتاجُه اللبنانيّون.
- انهيار القطاعين الصّناعي والزّراعي على نحو لم يسبِق له مثيل. ففيما كان القطاعان يشكّلان قبل 20 سنة بين 30 و35 % من الناتج القومي، ويعيلان 50% من اللبنانييّن، أدّت سياسة الأسواق المفتوحة بالكامل وممرَّات التّهريب الكثيف إلى إغراق السوق المَحَلِّي بمنتوجات صناعيّة وزراعيّة أرخص بكثير من تلك التي تُنْتَج محلّيّاً، وأدّت من ثمّة إلى إقفال تدريجي للمصانع أو لنقلها إلى خارج لبنان، وإلى بوار الإنتاج الزراعي الذي بات عبئاً على المزارعين لكلفة خدمته العالية وانعدام الربحيّة فيه. ومع انهيار القطاعين انضمّ عشرات ألوف اللبنانييّن إلى طوابير العاطلين عن العمل، أو الباحثين عن فُرَص عمل في سوق مُتراجع ومُنْحَسر سنويّاً.
- انهيار مُتَسارع لما تبقَّى من شرائح الطبقة الوسطى نحو أحزمة الفَقر بنسبه المختلفة (والتي باتت تضمّ نحو 50 % من اللبنانييّن) مقابل التّمركز المُتزايد للثّروات في أيدي القلَّة القليلة وعلى نحو خطير ومُؤْذِن بالاضطراب الاجتماعي، فقد بات 1% من اللبنانييّن يملكون 50% من الثروة الوطنية. رافق هذا الانهيار، وأسهم فيه، تراجع المداخيل، وارتفاع أكلاف الحياة والمعيشة، ووصول أرقام البطالة وبخاصّة بين الشباب إلى أكثر من الثّلث، وانسداد فُرص العمل في الداخل أو الهجرة إلى الخارج، واتساع هجرة الأعمال المُنتجة إلى قطاعات طفيليّة مؤقَّتة، والتوظيف الطُّفيلي للأموال في المصارف لا في الإنتاج، واتساع الهجرة من الأرياف إلى مدن الشريط الساحلي ما خلق أزمة سكن حادّة، بالإضافة إلى الوجود الكثيف للأشقّاء اللاجئين بفعل الحرب من سورية ما شكّل ضغطاً على موارد البلاد القليلة في الأصل.
قادت هذه الأسباب وغيرها إلى ازدياد في حِدّة الأزمة الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة، الكبرى واليومية، وإلى درجة انتحار عدد من أولياء أمر العائلات الأكثر فَقراً، فتشكّل من ثمَّة مُستودَع اليأس والغضب الذي أَطلق انتفاضة اللبنانييِّن الأخيرة.
ومع ذلك، ولنعترف، فالأزمة ليست مَحَليَّة فقط. فإذا أمعنّا النظر في لوحة العالم الراهن بأسره، لوجدنا أنَّ القاسم المُشترك بين أطراف هذا الكوكب قاطبة، وداخل كلِّ مجتمع، كلمة واحدة: الأزْمة، ثمّ الأزمة، ثمّ الأزمة.
لقد أدّى الطّور الأخير المُتوحّش من الرأسماليّة المُهيمنة (والتي سُمِّيت رمزيّاً: العولمة)، وكذلك التقانة العالية التي بلغت حدّاً أعمى غير مسبوق، وسحب أنظمة الرّعاية الاجتماعية والصحيّة، والكُلفة العالية للحروب الإقليمية أو الأهليّة المُفتَعَلة، إلى إنهاك العالم وسكّانه إلى أقصى الدّرجات. وإذا كان ذلك صحيحاً في البلدان والمجتمعات ذات الاقتصادات القويّة، فما بالك بالبلدان والمجتمعات الهشّة في عالم الجنوب، وبخاصة في مجتمعات المَشرق العربي (مصر، فلسطين، الأردنّ، العراق، سورية، ولبنان). لقد ابتُليَت هذه البلدان والمجتمعات بالعدوان الإسرائيلي المُستمر والشّديد الكُلفة، أوّلاً، وبالسياسات الاقتصاديّة الفاشلة، ثانياً، ثم بأعباء التطوُّرات السياسية السلبيّة بل المُدَمِّرة التي عصفت بالمنطقة منذ سنة 2010.
وفاقم التراجع الاقتصادي والمالي في بلدان الخليج منذ بضع سنوات من حِدّة وقع التّطورات العاصفة أعلاه على المجتمع اللبناني الضعيف والهشّ. وعليه، كان لتراكم الأسباب السلبية تلك أن يبلغ ودونما إبطاء مستوى الأزْمة الحادَّة، ثم الانفجار. وهو ما حدث حقًّا.
ومع ذلك، وبالرَّغم من الأسباب الماديّة والتقنيَّة للأزمة الخانقة تلك، فإنَّ للأزمة الاجتماعيّة والاقتصادية والمالية الضاربة في مجتمعاتنا تحديداً أسباباً أُخرى، أكثر عمقاً، كما أعتقد، وهي باختصار، خروجنا، جماعاتٍ وأفراداً:
- عن الطّبيعي نحو المُصْطَنَع،
- عن العقل نحو الغرائز،
- عن الـ ‘نحنُ’ الجامعة نحو الـ ‘أنا’ الفرديّة، المُقَسِّمة، والقاتلة،
- عن التّضامُن والتّعاضُد والغيريّة نحو الانشطار الطّبقي والتّنافس الحادّ،
- عن المبادئ والقِيَم الأخلاقيَّة والإنسانيَّة نحو ما هو مادّي ونفعي بالمعنى الضيّق،
- وخروجنا، فوق ذلك كلّه، بل تمرُّدِنا على الله، وعلى كلّ شريعة سماويّة أو روحيّة، أو أخلاقيّة، كانت دائماً هي الضّامنة لحياتنا، وبخاصّة في مجتمعنا؛ حياة قائمة على الإيمان والفضيلة والرّضا والقناعة والتعاضد بين أفراد الأُسرة الواحدة والمجتمع الواحد.
تلك هي الثّروة الحقيقيّة لمجتمعنا وعائلاتنا والتي خسرناها يوم خسرنا إيمانَنا وفضائلَنا وإنسانيتنا ومَحبّتنا وتعاضُدنا، بعضنا مع بعضنا الآخر، والمُقتَدر فينا مع الأقل حُظْوةً وقدرة.
ونسأل على المستوى الميكروي الأصغر، بكثير من الصّراحة، هل مَنْ يوازن اليوم بين ما يُدْخِلُه، وما يُنْفِقُه؟ وهل الشبكة الاستهلاكيّة العنكبوتية الشيطانية التي انخرط فيها مُعظم مُجتمعنا، عائلاتٍ وأفراداً، هي حقّاً في باب الضّروري الذي لا يُستغنى عنه؟
وإلى أنْ نَجِدَ الجواب الصّحيح عن السّؤالين أعلاه، وإلى أنْ نستعيدَ ما فقدناه (في زمن العولمة الماديّة الاستهلاكيّة المُتَوحِّشَة) من إيمانٍ، ومحبّةٍ، وتعاضُدٍ، فلن نستعيدَ راحة البال، وطمأنينة الروح، التي كانت لنا، ولا الأمل بمُسْتقبل زاهرٍ نمنحُه لأبنائنا وجيراننا ولمجتمعنا بأسره…
الأزْمة الحقيقيّةُ، إذاً، هي أزْمة أخلاقيّة قبل أن تكون أزْمةً مادّيَّة: أزْمة الخَيارات السيّئة التي أخذتها مجتمعاتُنا في العقود الأخيرة، أو أُجبرت على أخذها، بعيداً عن العقل وعن الله والإيمان والمحبّة…