لأمير البيان شكيب أرسلان في ذاكرة جبل عامل مكانة خاصة؛ لا زالت محفوظة في وجدان الناس تترى، فوق الموجود والمحفوظ في التراث المكتوب١. باكراً توطّدت العلاقة بين الأمير شكيب أرسلان مع معظم علماء وأعلام جبل عامل، وأدبائه وسياسييّه، حتى الجماهير، لِما كانت لزيارات ولقاءات الأمير من شغف في اللقاء والتوادّ والحميميّة وأنس في الرأي، وتطابق في الموقف والتوجّه العربي الإسلامي نحو الحريّة والاستقلال، والنضال في كافة أنواعه وأشكاله الفكرية والأدبية، والمقاومة للمستعمر الأجنبي.
تظهر صداقاتُ أمير البيان مع أعلام عاملييّن – إذا عزّ اللّقاء – بالمراسلة فيما بينهم، وما حوته من عناوين في الوحدة واللّحمة الاجتماعية والسياسية، وإن بدا
بعض خلاف بالرأي، فهو التنوّع في الوحدة والغنى في التنوّع. فشكلت قِمّة في تراث الأدب العربي وتلاوينه من الشعر والسياسة والدين والتاريخ… وفي طليعة هؤلاء الشيخ أحمد عارف الزّين صاحب مجلة «العرفان» التي كانت إحدى منابر وصدى رأي وفكر الأمير شكيب أرسلان والتي كَتَبَ فيها وكُتِبَ فيها عنه وعن مآثره. وكوكبة ممن جمعتهم الزمالة في المجمع العلمي العربي في دمشق ومنهم الشيخ أحمد رضا أحد أعلام اللّغة العربية٢، والشيخ سليمان ظاهر الشاعر والأديب والصديق الحميم للأمير، والسيد محسن الأمين نزيل دمشق وكبير فقهاء سوريا ولبنان وصاحب موسوعة أعيان الشيعة٣. والمجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين والعلّامة السيد حسن يوسف مكي، وزعيم جبل عامل كامل بك الأسعد زميله في مجلس المبعوثين. والنائب الدكتور علي بدر الدين طبيب الفقراء، والشاعر محمّد علي الحوماني صاحب جريدة العروبة، والشاعر محمّد كامل شعيب، والمؤرخ محمّد جابر آل صفا مؤلّف تاريخ جبل عامل… وغيرهم كثر.
أُولى الوثائق التي أود طرحها ويظهر فيها سمو أدب وأخلاق وفكر ومواقف أمير البيان في المناظرة والحوار والبحث التاريخي، لمّا كتب الشيخ أحمد رضا عام 1910 في مجلة المقتطف المصرية٤؛ ومصر تشكل ملتقى أو واسطة العقد٥ بين أعلام بلاد الشام وغيرها من البلدان العربية والإسلامية وأرض الكنانة. والمقال بعنوان: المتاولة أو الشيعة في جبل عامل.
أُعجب الأمير بالمقال فعقّب عليه ببحث حمل نفس العنوان «المتاولة أو الشيعة في جبل عامل»٦، وبدأه بالقول: «اطّلعت في المقتطف على ما كتبه حضرة الفاضل الشيخ أحمد رضا من أدباء جبل عامل…»، وكان جل النقاش يدور حول تقدّم التشيّع في بلاد الشام عنه في بلاد العَجَم/إيران، وذلك على يد الصّحابي الجليل أبي ذر الغفاري منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام، واستتبابه فيها منذ ظهوره إلى الآن٧. ثم أردفه ببحث آخر حمل عنوان: التشيّع أيّهما أقدم الشام أم العجم؟٨، بدأه بالقول: « طالعت ما ورد في المقتطف من أحد فضلاء تبريز جوابا على ما سبق لي ولأحمد أفندي رضا من أدباء جبل عامل بأن التشيّع هو في الشام أقدم منه في كل قطر حاشا الحجاز»٩، حشد فيه الأمير أرسلان الكثير من حيثيّاته ودلالاته، وذلك بعد أن ناظرهما من تبريز في إيران «المجتهد الكبير ثقة الإسلام – علي بن موسى – التبريزي الذي استُشهد بيد الروس [شنقا يوم عاشوراء]١٠ عندما دخلوا أذربيجان بعد ذلك التاريخ بأشهر قلائل»١١.
ثم أعادت مجلة العرفان نشر المقالات١٢، وكذلك أدرجها الأمير شكيب أرسلان ضمن تعليقاته على كتاب حاضر العالم الإسلامي١٣. الذي أشار فيه إلى مقالة « الأستاذ الشيخ أحمد رضا في [موسوعة] خطط الشام بعنوان: «الشيعة»١٤ بلا توقيع١٥. ليدعم موقفه بالتأكيد القاطع على «رواية مسندة إلى [الصحابييّن الجليلين] عمّار بن ياسر وزيد بن أرقم تدلّ على أنه كان زمن خلافة علي عليه السلام قرية في الشام عند جبل الثلج [جبل الشيخ أو جبل حرمون] تسمى «أسعار»١٦ أهلها من الشيعة١٧. وأسعار هذه خرابة بين مجدل شمس وجبّاتا الزيت، وهناك نهر يعرف بنهر أسعار، وهي على طريق القادم من الشام إلى جبل عامل»١٨.
وتظهر رسالة مؤرخة في لوزان 5 نوفمبر/ت2 1929، وجّهها أمير البيان إلى صاحب مجلة المنار رشيد رضا مدى متانة أواصر الصداقة والاحترام الذي يكنّه للعاملييّن وعلى وجه التحديد للشيخ أحمد رضا الذي انتقد الأمير في مجلة «العرفان»، والتي يبدو فيها جدل لغوي فيقول: «[…] فأنا موافق للشيخ أحمد رضا تجويزه مناولة الطعام ومظاهرة الشعب، ومخالف للشيخ المنذر في منعها، لا بل متعجّب من قول فاضل مثله بعدم جوازهما، فقال أحمد رضا: والصواب حذف لا، لأن كليهما حرف عطف…»١٩.
والحقيقة هي أنّ الأمير ردّ من على صفحات مجلّة المجمع العلمي العربي بدمشق تحت عنوان «مطالعات لغوية»٢٠ على «كتاب المنذر» وملاحظات الأستاذ أحمد رضا٢١، مبتدئاً كلامه بالقول: «كل من الجهبذين المنذر ورضا من فرسان العربية المجلّين، وإني لَأوافق الأستاذ رضا على ما وفّره من حق الأستاذ المنذر وما نوّه به من فضله، وأضع ختمي في هذا التنويه بجانب ختمه»٢٢. هذه المطارحات والمطالعات التي تتدفق منها روح الأخلاق والنبالة هي من صفات رجالات كان أميرها شكيب أرسلان. خصوصا إذا ما لاحظنا رد الأمير على انتقادات الشيخ أحمد رضا له بالقبول حينا واستخدامه مصطلح «فأعترض»٢٣ حينا آخر، ولم يقل أرفض أو كلاما آخر. يبقى القول أن اجتماعاً في دارة الأمير خالد شهاب في بيروت، وبحضور الأمير عادل أرسلان، طلب من الشيخ أحمد رضا كتابة ترجمة مفصلة لفقيد الأمّة العربية، نظرا للصلة والصداقة والزمالة التي
كانت تجمعهما، لكنه اعتذر لأنّ الكتب التي دارت بينه وبين الأمير فقدت من أيام عاليه٢٤، وهي بيت القصيد بكل أسف٢٥.
ولما انتقل الأمير إلى لوزان كتب إلى الشيخ أحمد رضا طالباً منه نسخة عن مقالات المقتطف أو العرفان، فوصلته وأدرجها في الطبعة الجديدة من حاضر العالم الإسلامي. وحيث من الثابت أن أمير البيان كان همّه الوحدة العربية والإسلامية، ولمّا قرأ للشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء كتابه «أصل الشيعة وأصولها» أبدى إعجابه وكتب له رسالة بتاريخ 5 محرّم 1352هـ/1933م، يثني عليه بالقول: «ثم إنّكم باجتهادكم تقرّبون بين الفريقين (أهل السنة والشيعة) وتضيقون فرجة الخلاف». وأرفق بالرسالة المجلدات الأربعة من الطبعة الجديدة لحاضر العالم الإسلامي٢٦.والجدير ذكره هنا أن أمير البيان كان قد أثنى على الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء لحضوره المؤتمر الإسلامي في القدس عام 1931، وعبّر عن بالغ سروره «أن تكون أول صلاة أقيمت [في المسجد الأقصى] بجماعة المؤتمر قد كانت بإمامة الشيخ الأكبر محمّد الحسين آل كاشف الغطاء، كبير مجتهدي الشيعة، فإنّ هذا ما كنّا دائما نتمناه من الاتحاد…»٢٧. مثنياً على الشيخ ظاهر ورضا لحضورهما المؤتمر الذي كان الأمير ممّن أعدّ لانعقاده مع الحاج أمين الحسيني٢٨. وما كان تخلف الأمير عن حضور هذا المؤتمر «إلا لحيلولة السلطة البريطانية»٢٩.
وجاء في رسالة من الشيخ أحمد رضا للأمير بتاريخ 16 شعبان 1354هـ/ 13 ت2 1935م مطلعها:
سيدي المجاهد الكبير والعلَّامة النّحرير أمير البيان الأمير شكيب أرسلان حرس الله مهجته وأطال للأمة بقاءه. لقد طلع عليَّ كتاب الأمير من البدر في النصف من شعبان، فكان الكتاب أزهر، ونوره أكثر، ولا عجب فالأمير أعزه الله واحد الدّهر، ونادرة الفلك في غرّ صفاته، وزاكي أخلاقه وأعراقه. من غير منتقدة في سياسة حكيمة، إلى علم جمّ في أدب رائع… وقد قرّت عيني بما أسبغ الله على الأمير أعزّ الله به العرب والإسلام من نعمة الصحة، فلا يبالي معها بكيد الكَيَدة، ولا بحسد الحَسَدة…
أن يحدوني على أن لا نظير لهم وهل رأيت عظيماً غير محسودِ
وقد سمعنا ما لقي المرسلون وهم رسل الإصلاح، وما لقي سيدنا المصلح الإلهي الأعظم سيد العرب والعجم من قومه حتى في أمسّ الناس به رحماً… ورأيت أيّدك الله ما لقي نابغة العرب في السياسة والأخلاق الملك فيصل رحمه الله. وما كان يفضي به إليك، فصبراً صبراً يا سيّدي على كيد الكائدين، فالحقّ أحقّ بالإشراف والباطل أولى وأجدر بالإزهاق، والعاقبة للمتقين. وإنّ ما جاء به الأمير – حيّاه الله – من إيضاح سياسته الحكيمة المؤسسة على الغَيْرة الفاضلة، والحمية الباسلة في سبيل أمته ووطنه، في هذه الفتن الضاربة بأطنابها العالقة بأنيابها لم يزدني إلّا علما بأصالة رأيه، وسعة اختباره، وجَوْدة طريقته في جهاده…»٣٠.


ويبدو من طيّات الرسالة أن الأمير كلّف الشيخ بأمور ثقافية أو علمية لصديق مشترك هو نجيب الريّس صاحب «القبس» الدمشقي. ويشكره على إرساله له كتاب حاضر العالم الإسلامي بالقول: «فقد قبلته وقابلته بالشكر والدعاء»، ويختم بتحيات من الشيخ سليمان ظاهر «الذي ملأت محبّة الأمير قلبه، وأثني بسلام صهري أبي حسن كامل الصبّاح»٣١ وكلّ إخوانه وأصدقائه في جبل عامل.
ثم اشتدّت على الأمير المصائب التي مرّت بها الأمّة، فدعا للجهاد والمقاومة في سبيل عزتها واستقلالها ضد المحتل الأجنبي، ورأيه: «إن الذي نحن فيه هو جهاد، والجهاد هو الحرب…»، والجمعيات أو التشكيلات هي طريق الخلاص؛ سواء كانت سرية أو علنية قانونية في فلسطين وكل العالم الإسلامي «فالتشكيلات هي قوة كل أمة فقدت حكومتها وكيانها السياسي. وهي الزعيمة، مع الثبات والعزم وإتقان العمل وروح التضحية، بإعادة ذلك الكيان السياسي»٣٢. ويسجل الأمير عتبه لجهة «الواجب الذي تقتضيه الأصول الاجتماعية»، على أبناء بعض البيوتات العاملية التي كانت تربطه بهم علاقة محبّة وود وصداقة واحترام، متأسّفاً حيث لا يجد «منهم خلفاً يشبه سلفاً»٣٣.