الجمعة, أيار 10, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

الجمعة, أيار 10, 2024

اشترك معنا للاطلاع والحصول على أحدث المقالات والأعداد

بحث ..

  • الكاتب

  • الموضوع

  • العدد

الجنيد البغدادي

تاج العارفين أبو القاسم الجنيد

قدوة العبادة والزهد والمعلم لأجيال من الصوفيين
دعا لكتم التوحيد عن غير أهله وحارب الشطح والغلوّ

طلب الحلاج صحبته فقال: أنا لا أصاحب المجانين
وإنني أرى في كلامك يا ابن منصور فضولاً كثيراً

أفتى في مجلس أبي ثور وهو في العشرين
وجلس في الثلاثين معلماً في أكبر جوامع بغداد

إعتبره الشيخ إبن تيمية من أئمة الهدى
ولقّبه إبن القيّم بـ «قطب العارفين بالله»

من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل
بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات

من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات
من أقواله: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل
بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات

يحتل الجنيد البغدادي الذي لُقِّب بـ «تاج العارفين» مكانة خاصة في تاريخ التصوف بسبب ما اجتمع لديه من صفات الحكمة والبصيرة والوقار والزهد، وقد كان عارفاً بالله قطباً في التصوف عالماً مجاهداً من صغر سنه في طريق الترقي الروحي، وأهم ما تميّز به إعتداله ورجاحة عقله وحرصه الشديد على التوفيق بين التصوف وبين احترام عقائد العامة والتزام القرآن والسنة، وقد رفض الشطح وأهله وأدان كل أشكال الغلو بين الصوفية فحاز بذلك احترام الجميع واعترف له بالقطبية في عصره وامتد تأثيره من خلال أعلام التصوف الذين تخرجوا على يديه عدة قرون بعد وفاته.
قال عنه أبو عبد الرحمن السلمي:«هو من أئمة القوم وسادتهم، مقبول على جميع الألسنة» وقال السبكي: «سيد الطائفة ومقدم الجماعة وإمام أهل الخرقة وشيخ طريقة التصوف وعَلَم الأولياء في زمانه».
وقال أبو القاسم الكعبي المعتزلي عنه : «رأيت لكم شيخاً في بغداد يقال له الجنيد بن محمد، ما رأت عيناي مثله، كان الكتبة يحضرونه لألفاظه، والفلاسفة لدقة كلامه، والشعراء لفصاحته، والمتكلمون لمعانيه، وكلامه ناء عن فهمهم» . وقَالَ ابنُ المُنَادِي عنه: «سَمِعَ الكَثِيْرَ، وَشَاهَدَ الصَّالِحِيْنَ وَأَهْلَ المَعْرِفَةِ، وَرُزِقَ الذَّكَاءَ وَصَوَابَ الجَوَابِ. لَمْ يُرَ فِي زَمَانِهِ مِثْلُهُ فِي عِفَّةٍ وَعُزُوفٍ عَنِ الدُّنْيَا». وقال الحافظ الذهبي عنه: «كان شيخ العارفين وقُدْوة السّائرين وعَلَم الأولياء في زمانه رحمة الله عليه» وقال الشيخ إبن تيمية فيه «الْجُنَيْد مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» وقال أيضاً عنه «كَانَ الْجُنَيْد رحمه الله سَيِّدُ الطَّائِفَةِ ، إمَامَ هُدًى (..) وَكَانَ َمِنْ أَحْسَنِهِمْ تَعْلِيماً وَتَأْدِيباً وَتَقْوِيماً».(مجموع الفتاوى؛719/10).
وقال عنه الخطيب البغدادي في كتابه «تاريخ بغداد»: «لقي العلماء ودرس الفقه عَلَى أَبِي ثور، وصحب جماعة من الصالحين، منهم الحارث المحاسبي، والسريّ السقطي، ثم اشتغل في العبادة ولازمها حتى علت سنه، وصار شيخ وقته، وفريد عصره فِي علم الأحوال والكلام عَلَى لسان الصوفية، وطريقة الوعظ وله أخبار مشهورة».
وقال الخلدي: «لم نر في شيوخنا من اجتمع له علمٌ وحال غير الجنيد. كانت له حالٌ خطيرة، وعلمٌ غزير، إذا رأيت حاله رجَّحته على عِلمه، وإذا تكّلم رجَّحت عِلمه على حاله».

وطفولته
يعود أصل أبو القاسم الجنيد بن محمد الخزاز القواريري إلى نهاوند في همدان إلا أنه ولد في بغداد حوالي العام 215 هـ (830 م.) كما إنه ترعرع وعاش فيها طيلة حياته وتوفي فيها أيضاً في العام 297 هـ.
ولد في بغداد حوالي سنة 215هـ (830م) في زمن مضطرب تميز بمواجهات فكرية كثيرة بين الفرق وأهل الكلام والظاهرية والحركات الباطنية وأهل التصوف والمعتزلة، إلا أن أبرز ملامح تلك الفترة وبتأثير المذهب الظاهري كان بروز تيار قوي بين الفقهاء المعادين للتصوف الذين آل بعضهم على نفسه الحض على ملاحقتهم وإيقاع العقوبة بهم، وكان الحلاج إحدى ضحايا تلك الموجة التي كادت تطيح أيضاً بالشبلي بل هددت حياة الجنيد وآخرين ليس بسبب أفكارهم بل بسبب مكيدة ووشايات باطلة قدمت إلى القاضي وإلى الخليفة العباسي.

تقول المصادر إن والد الجنيد كان قواريريّاً، يمتهن بيع الزجاج، وأنه توفي والجنيد لايزال صغيراً، فتولى الاهتمام بالفتى الصغير خاله، المربي الصوفي الشهير السريّ السقطي، وقد لعب هذا الصوفي الكبير دوراً مهماً في تنشئة الجنيد الصغير على الزهد والتصوف وهو يعتبر ربما المرشد الأكثر تأثيراً في تطوره الروحي. وقد لمح السريّ كما يبدو علامات الولاية والنبوغ في ابن أخته الصغير فزاد من اهتمامه به والحرص عليه.
يلقي الجنيد ضوءاً على بدايات تلك العلاقة عندما يقول: «كنت بين يدي السريّ ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال لي: «يا غلام! ما الشكر» قلت: «الشكر ألا تعصي الله بنعمه». فقال لي: «أخشى أن يكون حظك من الله لسانك!» قال الجنيد: «فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها لي السريّ» وقد يكون السريّ تعمد إعطاء درس للغلام في التأني وامتحانه لكنه ولا شك لمح فيه علامات الرجال والتقوى فزاد اهتمامه به.

أساتذته
صحب الجنيد عدداً من أعلام التصوف في زمانه وكان أولهم خاله السريّ السقطي لكنه حضر أيضاً مجالس محمد بن إبراهيم البغدادي البزاز وبشر بن الحارث، ثم صحب بعد وفاة السريّ السقطي الحارث المحاسبي وتأثر به .

سلوكه على يد السريّ السقطي
سلك الجنيد على يد خاله السريّ ووجد فيه صورة المحب لله، وهو القائل إن المحبة لا تصلح بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر«يا أنا» وقد أثر تفاني السريّ السقطي في حب الله واستغراقه الدائم في التهجد والصلاة والذكر على بدنه، فيبس منه الجلد على العظم وأصابه النحول الشديد, وسأل أحدهم يوماً عن معنى المحبة فأجاب الجنيد : قال قوم هي الموافقة، وقال قوم هي الإيثار، وقال قوم كذا وكذا، فأخذ السريّ جلدة ذراعه ومدها فلم تمتد، ثم قال : وعزته لو قلت إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته لصدقت.
اشتهر عن السقطي مقاومته الشديدة لرغبات النفس وهوالقائل «ما زالت نفسي تطالبني منذ أكثر من ثلاثين سنة بجزرة مغموسة في دبس فما أطعتها» اجتهد السريّ ان لا يستعمل من آنية بيته إلا الطين، وكان يقول لا حساب عليه، وهو ذهب في الزهد حداً كان فيه خلو اليدين من أي متاع أو شيء. وكان يقول: «أعرف طريقاً مختصراً إلى الجنة، هو ألا تسأل أحداً شيئاً، ولا تأخذ من أحد شيئاً، ولا يكن معك شيء تعطي منه أحداً».

صحبته للحارث المحاسبي
سأل السريّ السقطي الجنيد مرة « إذا فارقتني من تُجالس؟ فقال الجنيد : الحارث المحاسبي « ويدل جواب الجنيد على المكانة التي كانت للمحاسبي لديه، وقد صحبه خاصة بعد وفاة خاله السريّ ، وكان المحاسبي حتى في أيام السريّ يأتي منزل الجنيد ويقول له: اخرج معنا نصحر، والأرجح أن الجنيد كان لايزال دون العشرين من العمر، فيقول له الجنيد: تُخرجني من عُزلتي وأمني على نفسي إلى الطرق والآفات ورؤية الشهوات! فيقول الحارث: اخرج معي ولا خوف عليك . يتابع الجنيد الرواية فيخبر أنه كان يخرج معه فكأن الطريق فارغاً من كل شيء لا يرى شيئاً يكرهه، فإذا حصلوا المكان الذي يجلس فيه الحارث يقول للجنيد اسألني.
تفقه الجنيد على أبي ثور الكلبي، ابراهيم بن خالد بن اليمان، أحد الأئمة المجتهدين وهو صاحب الإمام الشافعي وراوي مذهبه القديم وأبو ثور معاصر لأحمد ابن حنبل الذي شهد له بالعلم والصلاح . ويقول ابن الملقن في طبقات الأولياء إن الجنيد كان يُفتي في حلقة أبي ثور وفي حضرته وهو ابن العشرين سنة.

حياؤه وتردده في الجلوس للتعليم
عندما بلغ الجنيد الثلاثين من العمر رأى السريّ السقطي أن الجنيد الشاب أصبح مؤهلاً للجلوس للتدريس وإدارة حلقة علم عامة، وقد كانت مجالس التدريس العامة حتى زمن الجنيد تُقام في المساجد، كما كان التدريس في المسجد وقفاً على الفقه والحديث وعلوم القرآن، أي لم تكن للصوفية مجالس في المساجد، بل كانت مجالسهم في حلقات خاصة أو يقصدهم طلابهم إلى منازلهم، لهذا فإن الجنيد قد يكون أول صوفي جلس للتدريس في حلقة عامة في مسجد يُعد من أهم مساجد بغداد وهو جامع المنصور .
قال السريّ السقطي للجنيد: «تكلم على الناس»، لكنه تردد في ذلك، بل تحشم ولم يجد في نفسه الأهلية. ثم يخبرنا أنه لم يتكلم على الناس حتى أشار إليه وعليه ثلاثون من البدلاء وأجمعوا أنه يصلح لأن يدعو إلى الله عز وجل، وعلى الرغم من حث الجميع له لأن يبدأ بالتعليم، إلا أنه ظل متحرجاً حتى رأى ليلة في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت جمعة، فقال له صلى الله عليه وسلم: «تكلم على الناس» انتبه من نومه وأتى باب السريّ السقطي قبل أن يُصبح دق الباب فقال له السريّ من الداخل: لم تُصدقنا حتى قيل لك! فقعد الجنيد في غد للناس بالجامع، وعندما انتشر في الناس أن الجنيد قعد للكلام، أمَّ مجلسه حشود غفيرة من أهل العلم وطلابه. وممن حضر مجالسه الفقيه الشافعي أبو العباس بن سريح الذي كان بعد ذلك يقول إن علمه يأتي من بركة الشيخ الجنيد.
أخبر الجنيد في ما بعد أنه «إنتشر في الناس إنني قعدت أتكلم، فوقف عليَّ غلام نصراني متنكر وقال: «أيها الشيخ! ما معنى قوله: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» فأطرقت، ثم رفعت رأسي فقلت: «أسلم! فقد حان وقت إسلامك!» فأسلم».واعتبر الناس تلك الحادثة التي حصلت أمام الملأ من كرامات الشيخ الجنيد مثل اطلاعه على عقيدة الغلام واطلاعه على أنه سيسلم في الحال بمجرد سؤاله من الشيخ.
كان للجنيد تأثير كبير على أجيال الصوفية التي توالت من بعده وقيل إن العديد من أهل التحقيق الذين جاءوا بعده إنما يعودون بالخرقة إليه أي أنهم تسلموا السر من مشيخ يعود في تسلسله إلى الجنيد ودرسوا عليه وأخذوا حقائق الطريق عنه.
ومن الصوفية الذين صحبوا الجنيد وسلكوا على يده: أبو بكر الشبلي، وأبو محمد الجريري، وإبن الأعرابي أبو العباس أحمد بن محمد بن زياد، وإسماعيل بن نجيد وعلي بن بندار أبو الحسن الصيرفي، وعبد الله بن محمد الشعراني وأبو الحسين علي بن هند القرشي الفارسي وهو من كبار مشايخ الفرس وعلمائهم وأبو بكر الواسطي وعمر بن عثمان المكي وغيرهم الكثير.

نبوغه
دخل الجنيد مرة على السريّ فوجد عنده رجلاً مغشياً عليه، سأل عن سبب غشيته، فأعلمه السريّ بأن الرجل سمع آية من كتاب الله تعالى، فقال الجنيد: تُقرأ عليه الآية مرة أخرى، وعندما قُرئت أفاق الرجل، عندها سأل السريّ الجنيد: من أين علمت هذا ؟ فقال الجنيد: «إن قميص يوسف -عليه السلام- ذهب بسببه بصر يعقوب -عليه السلام- ثم عاد بصره به» .
وفي حادثة ثانية دخل الجنيد يوماً على السريّ السقطي فرأى عليه هماً، فسأله عن سبب همّه، فقال: الساعة دقّ عليّ داقٌّ الباب، وسألني عن معنى التوبة وشروطها فأنبأته، فقال: هذا معنى التوبة وشروطها، فما حقيقتها ؟ فقلت: حقيقة التوبة ألا تنسى ما من أجله كانت التوبة (أي حقيقة التوبة ألا تنسى ذنبك)، فقال الرجل: حقيقة التوبة ألا تذكر ما من أجله كانت التوبة. وأنا أفكر في كلامه! فقال الجنيد: مؤيداً كلام السائل: ما أحسن ما قال . هنا سأل السريّ الجنيد: يا جنيد، وما عنى هذا الكلام؟ قال الجنيد: يا أستاذ، إذا كنتُ معك في حال الجفاء ونقلتني من حال الجفاء إلى حال الصفاء، فذكري للجفاء في حال الصفاء غفلة.

رسائله
وصل عدد رسائل الجنيد التي تمّ تحقيقها في السنوات الأخيرة إلى واحد وثلاثين رسالة منها كتاب «القصد إلى الله» و«كتاب الفناء» و«كتاب ادب المفتقر إلى الله» و«كتاب الميثاق»، و«كتاب السر في أنفاس الصوفية» ورسالة في المعرفة، ورسالة النظر الصحيح إلى الدنيا، ورسالة عن صفة الإيمان وأخرى عن صفة العاقل ورسالة في التوحيد ورسالة في الألوهية إضافة إلى عدد كبير من الرسائل التي كتبها إلى مريدين ومقربين.

قناطر متبقية من جامع المنصور الكبير في بغداد حيث جلس الجنيد للإرشاد
قناطر متبقية من جامع المنصور الكبير في بغداد حيث جلس الجنيد للإرشاد

أثر الجنيد في التصوف
كان الإمام الجنيد عارفاً حكيماً وكان حريصاً على الفصل بين تعليم الخاصة مبادئ التصوف والتحقق بالاختبار الروحي وبين علوم الشريعة وعقائد العامة وكان اعتقاده بعدم اجتماع الأمرين يجعله يحرص أشدّ الحرص على سترالتعليم الصوفي خوف أن يؤدي عدم فهمه من العامة إلى رميه بالإتهامات أو إلى زعزعة العقائد وبالتالي الفتنة. كان موقفه لذلك موقفاً عاقلاً مسؤولاً، بل نُقل في ما بعد أنه أمر مريديه أن يدفنوا الأوراق التي دوَّنوا فيها أقواله أو تعليمه، ولم ذلك لأنه كان يقول بأمور غير موافقة للشريعة أو للإيمان بل لأنه يعتقد أن حقائق التصوف لا تسعفها الكلمات والعبارات وأن اللغة مهما اتسمت بالبلاغة فإنها غير كافية لتوصيل الاختبارات اللدنية للعرفان الصوفي وتجربة التحقق الروحي.
ومما لا شك فيه أن العصر الذي عاش فيه أبو القاسم الجنيد أثر كثيراً على نهجه الحذر في كتم التعليم والحرص على أن يتم داخل الغرف المغلقة، إذ اتسمت تلك الفترة بانتشار المذهب الظاهري الذي كان يدين أي محاولة لتأوليل معاني التنزيل، وقوي نفوذ الفقهاء المعارضين للتصوف في بلاط الخلفاء، ونشأ عن ذلك جو من الحذر والتشكك في المتصوفة، وقد ساهمت الآراء الجريئة لبعض المتصوفة أو انحرافات بعض أدعياء التصوف في تعزيز المواقف السلبية من القوم، وكان الزمن أيضاً زمن الحلاج الذي أثار زوابع وعواصف لم تهدأ بسبب شطحاته ثم تصريحه بعقائد التصوف بل واستعراض كراماته في الأسواق وبين عامة الناس. كل ذلك أثار الكثير من النفوس تجاه المتصوفة، وكان ابو القاسم الجنيد ببصيرته الجليَّة مدركاً لتلك الظروف، وهو لجأ لذلك إلى أسلوب الكتم حتى اتهمه بعضهم بالتقية خصوصاً وأنه وقف بحزم ليدين أهل الشطح من المتصوفة، وليؤكد على أهمية التزام أهل الطريق لأحكام الدين ونواهيه مثل قوله:«الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول». وكذلك قوله «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدي به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة».
ودعا الجنيد إلى الفقر والجوع والسهر في الذكر وفطم النفس عن الاشتهاءات لكنه حرص في الوقت نفسه على نصح المريدين باجتناب التطرف ونقل عنه أبو محمد الجريري في هذا الشأن فقال: «سمعت الجنيد يقول: ما أخذنا التصوف عن القال والقيل، بل عن الجوع، وترك الدنيا وقطع المألوفات، ومراده تركُ فضول الدنيا وجوع بلا إفراط. أما من بالغ في الجوع ورفض سائر الدنيا، ومألوفات النفس، من الغذاء والنَّومِ والأهل، فقد عرّض نفسه لبلاء عريض، وربما خولط في عقله، وفاته بذلك كثير من الحنيفيّة السمحة، وقد جعل الله لكل شيء قدراً، والسعادة في متابعة السنن، فزن الأمور بالعدل، وصم وأفطر، ونم وقم، والزم الورع في القوت، وارض بما قسم الله لك، واصمت إلا من خير».
وبسبب اعتدال الجنيد في ما كان يدعو إليه وكذلك موقفه الحازم من أهل الشطح والبدع في التصوف فإنه استحق التقدير والاحترام الشديدين حتى من قبل شيخ الإسلام إبن تيمية الذي عرف عنه موقفه الحذر من المتصوفة الذين اعتبر أن بعضهم خرج على العقيدة وابتدع، لكن إبن تيمية وبسبب تقديره للجنيد وآخرين مثل السريّ السقطي وسهل التستري وعمر المكي قال بوجوب التمييز بين المتصوفة المقتصدين المراعين لأحكام القرآن والسنة وبين أهل الشطح والبدع وقال عن الفرقة الأولى «أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ فَفِيهِمْ السَّابِقُ الْمُقَرَّبُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَفِيهِمْ الْمُقْتَصِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ» ملاحظاً «إن أَكْثَرَ مَشَايِخِ الطَّرِيقِ مِثْلُ الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الطَّائِفَةِ وَغَيْرِهِ أنكروا الحلاج وَأَخْرَجُوهُ عَنْ الطَّرِيقِ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِي» (الفتاوى).
و قال إبن تيمية مادحاً الجنيد «وَكَثِيرٌ مِنْ الْحُلُولِيَّةِ وَالْإِبَاحِيَّةِ يُنْكِرُ عَلَى الْجُنَيْد وَأَمْثَالِهِ مِنْ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ الْمُتَّبِعِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَا قَالُوهُ مِنْ نَفْيِ الْحُلُولِ وَمَا قَالُوهُ فِي إثْبَاتِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ» (مجموع الفتاوى 5/126).
وقال إبن القيم عن الجنيد «وقال شيخ الطريقة وإِمام الطائفة الجنيد بن محمد قدّس الله روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الجنيد رحمه الله: الحياء رؤية الآلاء ورؤية التقصير فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق- (مدارج السالكين، الجزء الثاني، 259).
والواقع أن إبن تيمية يذكر الجنيد مراراً ويستشهد به ويعتبره من أئمة الهدى المتأخرين ويبجله ويرفق اسمه دوماً بعبارة «رضي الله عنه» بينما أطلق إبن القيم على الجنيد لقب «قطب العارفين بالله» وكان يستخدم عبارة «قدس الله روحه» في كل مرة كان يورد فيها اسمه.
هذا التكريم الشامل والإجماع على شخص الجنيد ومكانته ما هو في الحقيقة إلا ثمرة النهج السليم والعاقل الذي التزمه في التصوف والذي تعارض بقوة ليس فقط مع الحلاج، الذي اختلف معه وابتعد عنه، بل أيضاً مع تلميذه ومعاصره أبو بكر الشبلي الذي خاطبه الجنيد يوماً بالقول: «لا تُفش سرّ الله تعالى بين المحجوبين». ثم قال عنه في موضع آخر مؤاخذاً إياه على إشاعته علوم القوم بين عامة الناس:«نحن حَبَّرنا هذا العلم تحْبيراً، ثم خبّأناه في السّراديب، فجئتَ أنتَ فأظهرته على رؤوس الملأ». ووصف الجنيد شطح الشبلي أيضاً بالقول: «الشبلي سكران، ولو أفاق لجاء منه إمام ينتفع به».
وكان الكتم والستر عموماً نهجه في التعليم وكان يقول لمريديه: «لا ينبغي للفقير قراءة كتب التوحيد الخاص، إلا بين المُصدِّقين لأهل الطريق، أو المُسلِّمين لهم، وإلا يخاف حصول المقْت لمن كذّبهم».
وكان ينشد:
سأكتمُ من عِلمي به ما يصونـــــــــه وأبــــــــــــــــــــذلُ منه مــــــــــــــــا أَرى الحــــــــقَّ يُبـــــــذَلُ
وأُعطي عبادَ اللهِ منه حُقوقَهـم وأمنـــــــــــــــعُ منه ما أرى المـــــــــــــــــــــنـعَ أفضــــــــــــــلُ
أَلاَ إنَّ للرحـــــــــــــــــــــمـن ســـــــــــــــرّاً يَسُـــــــــــــــــــــــــرُّهُ إلى أهله في السِرِّ والسَــترُ أجمــــــــــــــلُ
وكان حسب ما جاء في الأثر لا يتكلم قط في علم التوحيد إلا في جوف بيته بعد أن يغلق أبواب داره ويأخذ مفاتيحها تحت وركه ويقول للمريدين: «أتحبون أن يكذب الناس أولياء الله تعالى وخاصته ويرمونهم بالزندقة والكفر؟»
بنفس المعنى يجب أن نورد انزعاج الجنيد من نهج الصخب والشطح الذي أخذه الحلاج مما أدى إلى ابعاد الجنيد له بل وتنبوئه بأنه سيقتل مصلوباً، وقد روى الهجويري في كشف المحجوب حادثة ذات دلالة حصلت بين الرجلين على الشكل التالي، قال: «قرأت في الحكايات أن الحسين بن منصور الحلاج في حال غلبته ترك صحبة عمرو بن عثمان المكي، وأتى إلى الجنيد، فسأله: ما الذي أتى بك إليّ؟ فقال الحسين: طمعاً في صحبة الشيخ، فقال له الجنيد: أنا لا أجتمع بالمجانين، والصحبة تتطلب كمال العقل، فإذا لم يتوفر ذلك تصرفت معي كما تصرفت مع سهل بن عبد الله التستري وعمرا، فقال له الحسين: يا شيخ، الصحو والسكر صفتان للعبد، وما دام العبد محجوباً عن ربه تفنى صفاته، فقال له الجنيد: يا ابن منصور، أخطأت في الصحو والسكر، لأن الصحو بلا خلاف عبارة عن صحة حال العبد في الحق، وذلك لا يدخل تحت صفة العبد واكتساب الخلق، وأنا أرى يا ابن منصور في كلامك فضولاً كثيراً، وعبارات لا طائل تحتها».
وذكر الشيخ إبن تيمية قصة عن الجنيد جاء فيها: «قِيلَ للجنيد إنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ إنَّهُمْ يُصَلُّونَ مِنْ طَرِيقِ الْبِرِّ إلَى أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُمْ الْفَرَائِضُ وَتُبَاحَ لَهُمْ الْمَحَارِمُ -أَوْ نَحْوُ هَذَا الْكَلَامِ- فَقَالَ:«الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَشُرْبُ الْخَمْرِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا».

وفاته
توفي الجنيد رضي الله عنه سنة 297 هـ . وقد أخبر تلميذه أبو محمد الجريري عن ذلك وقال: «كنت واقفاً على رأس الجنيد وقت وفاته -وكان يوم جمعة- وهو يقرأ، فقلت: «أرفق بنفسك!» فقال: «ما رأيت أحداً أحوج إليه مني في هذا الوقت، هوذا تطوى صحيفتي». وقال أبو بكر العطار: حضرت الجنيد عند الموت، في جماعة من أصحابنا، فكان قاعداً يصلي ويثني رجله، فثقل عليه حركتها، فمد رجليه وقد تورمتا، فرآه بعض أصحابه فقال: «ما هذا يا أبا القاسم!»، قال: «هذه نِعم!. الله أكبر». فلما فرغ من صلاته قال له أبو محمد الجريري: «لو اضطجعت!»، قال: «يا أبا محمد! هذا وقت يؤخذ منه. الله أكبر». فلم يزل ذلك حاله حتى مات».
وقال أبو بكر العطوي: «كنت عند الجنيد حين مات فختم القرآن ثم ابتدأ في ختمة أخرى فقرأ من البقرة سبعين آية ثم مات وقال محمد بن إبراهيم رأيت الجنيد في النوم فقلت ما فعل الله بك فقال طاحت تلك الإشارات وغابت تلك العبارات وفنيت تلك العلوم ونفدت تلك الرسوم وما نفعنا إلا ركعات كنا نركعها في الأسحار». وتذاكر بعض أهل المعرفة بين يديه وذكروا ما استهانوا به من الأوراد والعبادات، فقال لهم الجنيد: «العبادة على العارفين أحسن من التيجان على رؤوس الملوك».
وقال ابن عطاء: «دخلت عليه، وهو في النزع، فسلمت عليه، فلم يرد، ثم ردّ بعد ساعة، وقال: «اعذرني! فإني كنت في وِردي»، ثم حول وجهه إلى القبلة ومات».
وغسله أبو محمد الجريري، وصلى عليه ولده، وجرى دفنه في يوم السبت وكان ذلك اليوم على ما يذكر المؤرخون مشهوداً، فقد خرجت بغداد عن بكرة أبيها علماؤها وأمراؤها وعامتها في وداعه حتى قدر عدد المشيعين لجنازته بستين الف شخص، ودفن في مقبرة الشونيزيه، في تربة مقبرة الشيخ معروف الكرخي في بغداد، عند خاله السريّ السقطي.

ضريحه
يتكون ضريح الجنيد من بناء بسيط ويعلو قبره نسبياً القبور المحيطة به حيث يقوم في مقبرة تحمل إسمه وهي ملاصقة لمنطقة وقوف القطارات ضمن المحطة العالمية وهي حافلة بالأشجار وأشجار النخيل، وهناك مسجد أقيم في المكان بإسم «مسجد الجنيد» وهو قديم العهد وفيه مصلى لا يسع سوى عدد يسير من المصلين، وقد أصابه الوهن وتخلخلت أرجاؤه في وقت مضى فأعاد عمارته وأصلحه سنة 1269 هجرية محمد نامق باشا. ويتميز مرقد الجنيد في هذا المسجد بوجود قبة صغيرة فوقه، ويضم المسجد رفاة الكثير من الصلحاء والعلماء كما تضم المقبرة مرقد النبي يوشع.

ابوالقاسم الجنيد : صِفَةُ الأَوليَاء

قال الإمام أبي القاسم الجنيد (ر):

إن لله عباداً صحبوا الدنيا بأبدانهم، وفارقوها بعقود إيمانهم، أشرف بهم علم اليقين على ما هم إليه صائرون، وفيه مقيمون، وإليه راجعون، فهربوا من مطالبة نفوسهم الأمارة بالسوء، والداعية إلى المهالك، والمعينة للأعداء، والمتبعة للهوى، والمغموسة في البلاء، والمتمكنة بأكناف الأسواء، إلى قبول داعي التنزيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل؛ إذ سمعوه يقول: }يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ{ (الأنفال:24)، فقرع أسماع فهومهم حلاوة الدعوة لتصفح التمييز، وتنسموا بروح ما أدته إليهم الفهوم الطاهرة من أدناس خفايا محبة البقاء في دار الغرور، فأسرعوا إلى حذف العلائق المشغلة قلوب المراقبين معها، وهجموا بالنفوس على معانقة الأعمال، وتجرعوا مرارة المكابدة، وصدقوا الله في معاملته، وأحسنوا الأدب في ما توجهوا إليه، وهانت عليهم المصائب، وعرفوا قدر ما يطلبون، واغتنموا بالإجماع الأوقات وسلامة الجوارح، وأماتوا شهوات النفوس، وسجنوا همومهم عن التلفت إلى مذكور سوى وليهم، وحرسوا قلوبهم عن التطلع في مراقي الغفلة، وأقاموا عليها رقيباً من علم من لا يخفى عليه مثقال ذرة في بر ولا بحر، أرواح أنيسها الخلوة، وحديثها الفكرة، وشعارها الذكر، غذاؤها الجوع والظمأ، وراحتها التوكل، وكنزها الثقة بالله، ومعولها الإعتماد، ودواؤها الصبر، وقرينها الرضا.

من أقوال الجنيد البغدادي (ر)

أدب السر طهارة القلب من العيوب
وأدب العلانية حفظ الجوارح من الذنوب

ترك أهل التوحيد مالهم ووقفوا مع ما لله عز وجل عليهم، وسائر الناس وقفوا مع مالهم وتركوا ما لله عز وجل عليهم، فرد الله عز وجل كلاً إلى قيمتــــه

قال رحمه الله: «اطِّراح هذه الأمة من المروءة، والاستئناس بهم حجاب عن الله تعالى، والطمع فيهم فقر الدنيا والآخرة».

التوبة
سئل الجنيد عن التوبة فقال:
التوبة على ثلاثة معان : أولها ندم . والثاني العزم على ترك المعاودة إلى ما نهى الله عنه . والثالث السعي في أداء المظالم .

في المحبة
وصف الجنيد المحبة فقال: «المحبة إفراط الميل بلا نيل» .

قال الجنيد : الناس في محبة الله عز وجل عام وخاص . فالعوام أحبوه لكثرة نعمه ودوام إحسانه، إلا أن محبتهم تقل وتكثر، وأما الخواص فأحبوه لما عرفوا من صفاته وأسمائه الحسنى، واستحق المحبة عندهم، لأنه أهل لها ولو أزال عنهم جميع النعم.

قال أبو بكر الكتاني : جرت مسألة في المحبة بمكة أيام الموسم فتكلم الشيوخ فيها وكان الجنيد أصغرهم سناً، فقالوا له: هات ماعندك يا عراقي . فأطرق رأسه ودمعت عيناه ثم قال : عبدٌ ذاهب عن نفسه متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوار هويته، وصفا شربه من كأس وده، وانكشف له الجبار من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فمع الله، فهو بالله ولله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين .

علامة كمال الحب
سئل الجنيد عن علامة كمال الحب فأجاب: «دوام ذكره (أي ذكر المحبوب) في القلب بالفرح والسرور، والشوق إليه، والأنس به، وأثرة محبة نفسه، والرضا بكل ما يصنع، وعلامة أنسه بالله استلذاذ الخلوة، وحلاوة المناجاة، واستفراغ كله حتى لا يكاد يعقل الدنيا وما فيها».
سُئل الجنيد رحمه الله تعالى عن« الأنس بالله» فقال : «ارتفاع الحشمة مع وجود الهيبة».

في الأخوّة
قال رجلٌ للجنيد : قد عزّ في هذا الزمان أخ في الله تعالى. قال: فسكت عنه ثم أعاد ذلك، فقال له الجنيد : إذا أردت أخاً في الله عز وجل، يكفيك مؤنتك، ويتحمل أذاك، فهذا لعمري قليل . وإن أردت أخاً في الله، تتحمل أنت مؤنته، وتصبر على أذاه، فعندي جماعة أدلّك عليهم إن أحببت.

الأدب
قال الجنيد : الأدب أدبان : أدب السر، وأدب العلانية. فالأول طهارة القلب من العيوب، والعلانية حفظ الجوارح من الذنوب.

التسليم
يقول الجنيد : من أشار إلى غير الله تعالى وسكن إلى غيره ابتلاه بالمحن، وحجب ذكره عن قلبه وأجراه على لسانه، فإن انتبه وانقطع إلى الله وحده كشف الله عنه المحن، وإن دام على السكون إلى غيره نزع الله من قلوب الخلائق الرحمة عليه، وألبسه لباس الطمع فيهم، فتزداد مطالبته منهم مع فقدان الرحمة من قلوبهم، فتصير حياته عجزاً، وموته كمداً، وآخرته أسفاً ونحن نعوذ بالله من الركون إلى غير الله .

علامة الإيمان
سُئل الجنيد عن «علامة الإيمان» قال: الإيمان علامته طاعة من آمنت به، والعمل بما يحبه ويرضاه، وترك التشاغل عنه بشيء ينقضي عنده، حتى أكون عليه مقبلاً، ولموافقته مؤثراً، ولمرضاته متحرياً، لأن من صفة حقيقة علامة الإيمان ألا أوثر عليه شيئاً دونه، ولا أتشاغل عنه بسبب سواه، حتى يكون المالك لسرّي والحاثّ لجوارحي، بما أمرني من آمنت به وله عرفت، فعند ذلك تقع الطاعة لله على الاستواء، ومخالفة كل الأهواء، والمجانبة لما دعت إليه الأعداء، والمتاركة لما انتسب إلى الدنيا، والإقبال على من هو أولى، وهذه بعض الشواهد والعلامات في ما سألت عنه، وصفة الكل يطول شرحه .
أهل التوحيد
وصفهم الجنيد بأنهم «تركوا مالهم ووقفوا مع ما لله عز وجل عليهم، وسائر الناس وقفوا مع مالهم وتركوا ما لله عز وجل عليهم، فرد الله عز وجل كلاً إلى قيمته».

مقام الجنيد البغدادي إلى جانب مقام خاله ومرشده السري السقطي
مقام الجنيد البغدادي إلى جانب مقام خاله ومرشده السري السقطي

الإدعاء في العلم
فاحذر أيها الرجل الذي قد لبس من العلم ظاهر حليته، وأومأ المشيرون إليه بجميل لبسته وقَصَّر عن العلم بمحض حقيقته، ما وقعت به الإشارة إليك وانبسطت به الألسن بالثناء عليك، فإن ذلك حتفاً لمن هذه الصفة صفته وحجة من الله تعالى عليه في عاقبته».

فتوى الجنيد حول الذكر الخفي وفضل السر على العلانية
«الذكر الخفي هو الذكر الذي يستأثر الله بعلمه دون غيره: فهو ما اعتقدته القلوب، وطويت عليه الضمائر، مما لا تحرك به الألسنة والجوارح، وهو مثل الهيبة لله، والتعظيم لله، والإجلال لله، واعتقاد الخوف من الله؛ وذلك كله في ما بين العبد وربه، لا يعلمه إلا من يعلم الغيب. والدليل على ذلك: قوله عز وجل: }يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون {، وأشباه ذلك.
أما عن فضل عمل السر على عمل العلانية فلأن من عمل لله عملاً فأسره، فقد أحب أن ينفرد الله عز وجل بعلم ذلك العمل منه، ومعناه: أن يستغني بعلم الله في عمله عن علم غيره، وإذا استغنى القلب بعلم الله أخلص العمل فيه ولم يعرج على من دونه، فإذا علم جل ذكره بصدق قصد العبد إليه وحده وسقط عن ذكر من دونه، أثبت ذلك العمل في أعمال الخالصين الصالحين المؤثرين الله على من سواه، وجازاه الله بعلمه بصدقة من الثواب سبعين ضعفاً على ما عمل من لا يحل محله، والله أعلم.»

من مواعظه:
«اتق الله وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شيء، فلا تدخرن مالك ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك ولكن تزود لبعد الشقة، وأعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، صاحِب الدنيا بجسدك، وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما سلف بين يديك من العمر وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه، فإنه عن قليل فناؤه، ومخوف وباله، وليزِدك إعجابُ أهلها زهداً فيها وحذراً منها فإن الصالحين كانوا كذلك».

مشاركة المقال

التعليقات

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اترك تعليقاً

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقالات ذات صلة

السابق
التالي

اكتشاف المزيد من Dhoha Magazine

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading